التفسير الوسيط للواحدي

الواحدي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ الْحَمْدُ للَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، الْفَاطِرِ الْحَكِيمِ، الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الرَّبِّ الرَّحِيمِ مُنَزِّلِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى الْمَبْعُوثِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، خَاتَمِ الرِّسَالَةِ، وَالْهَادِي عَنِ الضَّلالَةِ، الْمُرْسَلِ بِأَشْرَفِ الْكُتُبِ إِلَى الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينَ، وَأَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ الْمُنْتَخَبِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَبَعْدَ هَذَا: فَالْعِلْمُ أَشْرَفُ مَنْقَبَةٍ، وَأَجَلُّ مَرْتَبَةٍ، وَأَبْهَى مَفْخَرٍ وَأَرْبَحُ مَتْجَرٍ، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَصْدِيقِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْعُلَمَاءُ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمْ، وَإِلَى مَعَالِمِ دِينِهِ هَدَاهُمْ، وَبِمِزْيَةِ الْفَضْلِ آثَرَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاؤُهُمْ، وَسَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُرَفَاؤُهُمْ، وَالدُّعَاةُ إِلَى الْمَحَجَّةِ الْمُثْلَى، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرِيعَةِ وَالتَّقْوَى. 1 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزمجَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ،

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَكَّائِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» 2 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَلَطِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُنَبِّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إِلا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْهُ فِيكُمْ لأُعَذِّبَكُمْ، انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَإِنَّ أُمَّ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَجْمَعَ الأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، كِتَابُ اللَّهِ الْمُودِعُ نُصُوصَ الأَحْكَامِ وَبَيَانَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَوَاعِظَ النَّافِعَةَ، وَالْعِبَرَ الشَّافِيَةَ، وَالْحُجَجَ الْبَالِغَةَ، وَالْعِلْمُ بِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعَزُّهَا، وَأَجَلُّهَا وَأَمَزُّهَا، لأَنَّ شَرَفَ الْعُلُومِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ. وَلَمَّا كَانَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ، كَانَ الْعِلْمُ بِتَفْسِيرِهِ وَأَسْبَابِ تَنْزِيلِهِ وَمَعَانِيهِ وَتَأْوِيلِهِ، أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَمِنْ شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ وَعِزَّتِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالرَّأْيِ وَالتَّفَكُّرِ، دُونَ السَّمَاعِ وَالأَخْذِ عَمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ بِالرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ شَدَّدُوا فِي هَذَا حَتَّى جَعَلُوا الْمُصِيبَ فِيهِ بِرَأْيِهِ مُخْطِئًا.

3 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبِشْرِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ» 4 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ صَدَقَةَ

الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَكُلُّ عِلْمٍ سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِمَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَنْ تَحَلَّى مِنَ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ عَاطِلٌ عَنِ الآيَاتِ الْوَاضِحَةِ الْبَاهِرَةِ وَالسُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ الزَّاهِرَةِ، عَلَى هَذَا دَرَجَ الأَوَّلُونَ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ. 5 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى،

عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، وَعَمِلْتُمْ بِمَا فِيهِمَا، كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» وَقَدْ سَبَقَ لِي قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ، بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَيْسِيرِهِ، مَجْمُوعَاتٌ ثَلاثٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ: مَعَانِي التَّفْسِيرِ، وَمُسْنَدِ التَّفْسِيرِ، وَمُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ. وَقَدِيمًا كُنْتُ أُطَالِبُ بِإِمْلاءِ كِتَابٍ فِي تَفْسِيرٍ (وَسِيطٍ) يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ (الْبَسِيطِ) الَّذِي تُجَرُّ فِيهِ أَذْيَالُ الأَقْوَالِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ مَرْتَبَةِ (الْوَجِيزِ) الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَى الإِقْلالِ. وَالأَيَّامُ تَدْفَعُ فِي صَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِصُرُوفِهَا، عَلَى اخْتِلافِ صُنُوفِهَا، وَسَآخُذُ نَفْسِي عَلَى فُتُورِهَا، وَقَرِيحَتِي عَلَى قُصُورِهَا، لِمَا أَرَى مِنْ جَفَاءِ الزَّمَانِ، وَخُمُولِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَعُلُوِّ أَمْرِ الْجَاهِلِ عَلَى جَهْلِهِ، بِتَصْنِيفِ تَفْسِيرٍ أَعْفِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ وَالإِكْثَارِ، وَأُسَلِّمُهُ مِنْ خَلَلِ الْوَجَازَةِ وَالاخْتِصَارِ، وَآتِي بِهِ عَلَى النَّمَطِ الأَوْسَطِ وَالْقَصْدِ الأَقْوَمِ حَسَنَةً بَيْنَ السِّيَّئَتَيْنِ، وَمَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، لا إِقْلالَ وَلا إِمْلالَ. نِعْمَ الْمُعِينُ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى، لإِتْمَامِ مَا نَوَيْتُ، وَتَيْسِيرِهِ لإِحْكَامِ مَا لَهُ تَصَدَّيْتُ.

سورة الفاتحة

الْقَوْلُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ فَضَائِلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ 6 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَانِي فَلَمْ آتِهِ، حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ صَلاتِي، فَقَالَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ، أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ "،

قَالَ: فَذَهَبَ يَخْرُجُ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ 7 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعُ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْن عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا

قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 6-7] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ لَكَ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ 8 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنِي جَدِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ سِمْعَانَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لَهُ وَنِصْفُهَا لِي، يَقُولُ عَبْدِي، إِذَا افْتَتَحَ صَلاتَهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] ، فَأَقُولُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، فَأَقُولُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي: ثُمَّ يَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "

وما أسنى هذه الفضيلة، إذ لم يرد فِي شيء من القرآن هذه المقاسمة التي رويت فِي الفاتحة بين الله تعالى وبين العبد. 9 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ، أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ

10 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلا، فَجَاءَتْنَا جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: أَنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، وَأَنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ فَهَلْ فِي الْقَوْمِ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَما كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ وَلا نَرَاهُ يُحْسِنُهَا، فَذَهَبَ فَرَقَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَأَحْسَبُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَسَقَانَا لَبَنًا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ قُلْنَا لَهُ، مَا كُنَّا نَرَاكَ تُحْسِنُ رُقْيَةً، قَالَ: وَلا أُحْسِنُهَا، إِنَّمَا رَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: لا تُحْدِثُوا فِيهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «مَا كَانَ يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْتَسِمُوهَا وَاضْرِبُوا بِسَهْمِي مَعُكْم» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ،

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، كِلاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ

فصل في بيان نزول الفاتحة

فصل فِي بيان نزول الفاتحة 11 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنِي جَدِّي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مُنَادِيًا يُنَادِيهِ: يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ

وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَزَ سَمِعَ النِّدَاءَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «لَبَّيْكَ» ، قَالَ: قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} } [الفاتحة: 2-5] حَتَّى فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

القول في آية التسمية

القول فِي آية التسمية 12 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] : هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ أَبِي: وَقَرَأَها عَلَيَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: وَقَرَأَهَا عَلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتُهَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَخَرَهَا لَكُمْ فَمَا أَخْرَجَهَا لأَحَدٍ قَبْلَكُمْ

13 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} } [الفاتحة: 1-2] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ سَبْعُ آيَاتٍ، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إِحْدَاهُنَّ. وَعَدَّهُنَّ عُمَرُ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ أَبُو سَعِيدٍ فِي يَدِهِ عَدَدَ الأَعْرَابِ 14 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا

عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلالٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] سَبْعُ آيَاتٍ، أُولاهُنَّ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ " هذه الأخبار ناطقةٌ بأن التسمية آية من الفاتحة، وكذلك هي فِي غيرها من السور آية. 15 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

وأما التفسير

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] 16 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] 17 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْعَبْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لا نَعْلَمُ فَصْلَ مَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ حَتَّى تَنْزِلَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وأما التفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 1-7] فإن المتعلق به «الباء» فِي قوله: بسم الله محذوف، ويستغنى عن إظهاره لدلالة الحال عليه، وهو معنى الابتداء، كأنه قال: بدأت بسم الله، أو أبدأ بسم الله. والحال تبين أنه مُبْتَدِئٌ فاستغنيت عن ذكره.

وهي أداة تجر ما بعدها من الأسماء نحو «من» و «عن» و «فِي» ، وحذفت الألف من بسم الله، لأنها وقعت فِي موضع معروف لا يجهل القارئ معناه، فاستُخِفَّ طرحُها، وأثبتت فِي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] ، لأن هذا لا يكثر كثرة بسم الله، ألا ترى أنك تقول: بسم الله عند ابتداء كل شيء. ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله، ولا مع غير «الباء» من الحروف، فتقول: لاسم الله حلاوة فِي القلوب، وليس اسم كاسم الله. فتثبت الألف مع اللام والكاف، هذا فِي سقوطها فِي الكتابة. وأما سقوطها فِي اللفظ: فلأنها للوصل، وقد استغني عنها بالباء. وعند البصريين أن «الاسم» مشتق من السمو، لأنه يعلو المسمى، فالاسم ما علا وظهر، فصار علما للدلالة على ما تحته من المعنى. وعند الكوفيين: «الاسم» : مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة، ومن هذا قال أبو العباس ثعلب: الاسم سمة توضع على الشيء يعرف به. والصحيح ما قال أهل البصرة، لأنه لو كان مشتقا من الوسم لقيل فِي تصغيره: وُسَيْمٌ. كما قالوا: وُعَيدة، ووُصَيلة. فِي تصغير عدة وصلة، فلما قالوا: «سُميّ» . ظهر أنه من السمو لا من السمة. وأما الله فإن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى أن هذا الاسم ليس بمشتق، وأنه اسم تفرد به الباري سبحانه، يجري فِي وصفه مجرى أسماء الأعلام، لا يشركه فِيهِ أحد، قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، أي: هل تعلم أحدا يُسَمَّى اللهَ غيره؟

وهذا القول يحكى عن الخليل بن أحمد، وابن كيسان، وهو اختيار أبي بكر القفال الشاشي. والأكثرون ذهبوا إلى أنه مشتق من قولهم: «أَلَهَ إلاهةً» . أي: عبد عبادة، وكان ابن عباس يقرأ ويذرك وإلاهتك، قال: معناه: عبادتك. ويقال: تأله الرجل. إذا نسك، قال رؤبة: سبحن واسترجعن من تألهي ومعناه: المستحق للعبادة، وذو العبادة: الذي إليه تُوجَّهُ العبادةُ وبها يُقْصَدُ، وقال أبو الهيثم الرازي: الله أصله «إلاه» ، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] ، ولا يكون إلها حتى يكون لعابده خالقا ورازقا ومدبرا وعليه مقتدرا، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن عُبد عُبد ظلما، بل هو مخلوق ومتعبد. قال: وأصل إله: «ولاه» ، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوشاح: إشاح. وللوجاج: أجاج. ومعنى «ولاه» : أن الخلق

يولهون إليه فِي حوائجهم، ويضرعون إليه فيما ينوبهم، ويفزعون إليه فِي كل ما يصيبهم، كما يوله كل طفل إلى أمه. قوله: الرحمن الرحيم قال الليث: هما اسمان اشتقاقهما من الرحمة. وقال أبو عبيدة: هما صفتان لله معناهما: ذو الرحمة. ورحمة الله: إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى من يرحمه. والرحمن عند قوم أشد مبالغة من الرحيم، كالعلام من العليم، ولهذا قيل: «رحمن الدنيا ورحيم الآخرة» . لأن رحمته فِي الدنيا عمت المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ورحمته فِي الآخرة اختصت بالمؤمنين. وقال آخرون: إنهما بمعنى واحد، كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجمع بينهما للتأكيد، كقولهم: فلان جاد مجد. قوله: الحمد لله قال ابن عباس: يعني الشكر لله، وهو أنه صنع إلى خلقه فحمدوه، يعني أنه أحسن إليهم فشكروه وأثنوا عليه. والحمد قد يكون شكرا للصنيعة وقد يكون ابتداء للثناء على الرجل، يقال: حمدته على معروفه. كما يقال: شكرته. ويقال: حمدته على علمه وعلى شجاعته. إذا أثنيت عليه بذلك، ولا يقال فِي هذا المعنى: شكرته. فحمد الله: الثناء عليه والشكر لنعمه. قال ابن الأنباري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] يحتمل أن يكون هذا إخبارا أخبر الله تعالى به، والفائدة فِيهِ: أنه بين أن حقيقة

الحمد له، وتحصيل كل الحمد له لا لغيره، ويحتمل أن يكون هذا ثناء أثنى به على نفسه، علم عباده فِي أول كتابه ثناء عليه وشكرا له، يكتسون بقوله وتلاوته أعظم الثواب، ويكون المعنى: قولوا: الحمد لله. فيضمر «القول» ههنا، كما يضمر فِي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر: 3] ، معناه: يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله. وقوله: لله هذه «اللام» تسمى لام الإضافة، ولها معنيان، أحدهما: الملك، نحو المال لزيد، والآخر: الاستحقاق، نحو الحبل للدابة، أي: استحقته، وكذلك الباب للدار. وقوله: رب العالمين الرب فِي اللغة له معنيان، أحدهما: أن يكون من الرب بمعنى التربية، يقال: رب فلان الضيعة يربها ربا. إذا أتمها وأصلحها، فهو رب، مثل بر وطب، قال الشاعر: يرب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا فعل المعروف زاد وتمما والمعنى على هذا: أنه يربى الخلق ويغذيهم بما ينعم عليهم. والثاني: أن يكون الرب بمعنى المالك، يقال: رب الشيء. إذا ملكه، وكل من ملك شيئا فهو ربه، يقال: هو رب الدار ورب الضيعة. والله تعالى رب كل شيء، أي: مالكه. وقوله: العالمين هو جمع عالم، على وزن فاعل، نحو خاتم وطابع ووافق وقالب، وهو اسم عام لجميع

المخلوقات، يقال: العالم محدث. وهذا قول الحسن، ومجاهد وقتادة فِي تفسير «العالم» أنه جميع المخلوقات. قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] المالك: الفاعل من الملك، يقال: ملك الشيء يملكه ملكا وملكا ومملكة. ويقرأ هذا الحرف بوجهين: مالك وملك، فمن قرأ ملك قال: الملك أشمل وأتم، لأنه يكون مالك ولا ملك له، ولا يكون ملك إلا وله ملك، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا. ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه: 114] وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ، ولم يقل: المالك. ومن قرأ مالك فلأنه أجمع وأوسع، لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء. إنما يقال: ملك الناس. ولا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: ملك العرب والعجم. والدين: الجزاء، ويوم الدين: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. تقول العرب: دنته بما فعل. أي: جازيته، ومنه قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي: مجزيون، وتقول العرب: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تجازى، ومعنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] : أنه ينفرد فِي ذلك اليوم بالحكم، بخلاف الدنيا فإنه يحكم فِيها الولاة والقضاة، ولا يملك أحد الحكم فِي ذلك اليوم إلا الله. وتقدير الآية: مالك يوم الدين الأحكام، وحذف المفعول من الكلام للدلالة عليه، ومن قرأ ملك يوم الدين فمعناه: أنه يتفرد بالملك فِي ذلك اليوم، لزوال ملك الملوك، وانقطاع أمرهم ونهيهم، وهذا كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] .

قوله: إياك نعبد «إيا» ضمير المنصوب المنفصل، ويدخل عليه المكاني من الياء، والنون، والكاف، والهاء نحو: إياي، وإيانا، وإياك، وإياه، ويستعمل مقدما على الفعل نحو: إياك أعني، إياك نعبد، ولا يستعمل مؤخرا، لا يقال: قصدت إياك. فإذا فصلت بينه وبين الفعل «بإلا» جاز التأخير، نحو: ما عنيت إلا إياك. ونعبد من العبادة، وهي الطاعة مع الخضوع، ولا يستحقها إلا الله عز وجل، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه، «وطريق معبد» : إذا كان مذللا بالأقدام. وإياك نستعين: أصله: نستعون من المعونة، سكن ما قبل الواو فاستثقلت فنقلت إلى العين، فصار نستعين، ومعناه: نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها. قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] معنى الهداية فِي اللغة: الدلالة، يقال: هداه فِي الدين يهديه هدى. وهداه يهديه هداية. إذا دله على الطريق. والصراط أصله بالسين، لأنه من الاستراط، بمعنى الابتلاع، فالسراط يسترط السابلة. فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد فلأنها أخف على اللسان، لأن الصاد حرف مطبق كالطاء، فيتقاربان ويحسنان فِي السمع. ومن قرأ بالزاي أبدلَ من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء فِي الجهر، ويحتج بقول العرب: «زقر» فِي «صقر» . ومن قرأ بإشمام الزاي فإنه لم يجعلها زايا خالصةً ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما، وكلها لغات. ومعنى سؤال المسلمين الهدى وهم مهتدون: التثبيت على الهدى وهذا كما نقول للقائم: قم حتى أعود إليك. أي: اثبت على قيامك.

والصراط المستقيم: كتاب الله عز وجل وهو القرآن. روي ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الله بن مسعود، وأبي العالية. وروى السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: هو الإسلام. وكذلك روي عن جابر قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أي: بالثبات على الإيمان والاستقامة والهداية إلى الصراط، وهم: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. وهذا قول أبي العالية. وقال السدي وقتادة: يعني طريق الأنبياء. وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا دين الله تعالى.

قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] : غير: منخفض على ضربين: على البدل من الذين، وعلى صفة الذين، لأن {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هم الذين أنعم عليهم، لأن من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، ومعنى الغضب من الله: إرادة العقوبة. قوله: ولا الضالين أصل الضلال فِي اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل الماء فِي اللبن إذا غاب فِيهِ. وضل الكافر إذا غاب عن المحجة. ومن هذا قوله تعالى: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] ، أي: غبنا فِيها بالموت وصرنا ترابا. والمغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى، والله تعالى حكم على اليهود بالغضب فِي قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ، وعلى النصارى بالضلال فِي قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} [المائدة: 77] . ومعنى الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام، ولم تغضب عليهم كما غضبت على اليهود، ولم يضلوا عن الحق كما ضلت النصارى. ويستحب للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين. مع سكتة على نون ولا الضالين، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. وفيه لغتان: آمين بالمد، وآمين بالقصر، ومعناهما: اللهم استجب، وهي موضوعة لطلب الإجابة. 18 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ

الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي إِذَا بَرَزْتُ أَسْمَعُ مَنْ يُنَادِينِي وَلا أَرَى شَيْئًا» ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قُلْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَقَالَهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ: آمِينَ 19 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَقُولُ:

آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي الصَّحِيحِ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ

سورة البقرة

القول فِي فضائل سورة البقرة مدنية، وآياتها ست وثمانون ومائتان. 20 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّوْسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأبِيوَرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» 21 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ

الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» 22 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ

عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجَرَشِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْبَقَرَةُ» ، قِيلَ: أَيُّ الْبَقَرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ» التفسير {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {3} وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } [البقرة: 1-5] قوله عز وجل: الم: كثر اختلاف المفسرين فِي الحروف المقطعة فِي القرآن، فذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها، وأنها مما استأثر الله تعالى بعلمها، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل علمها إلى الله تعالى. قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما سوى ذلك.

وفسرها الآخرون، فقال ابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير وأبي الضحى: الم أنا الله أعلم. وقال الضحاك: كل الم فِي القرآن: أنا الله أعلم. وهذا اختيار الزجاج، قال: المختار ما روي عن ابن عباس هو أن معنى الم: أنا الله أعلم، وأن كل حرف منها له تفسير. قال: والدليل على ذلك أن العرب قد تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها. وأنشد: قلت لها قفي لنا قالت قاف فنطق بقاف فقط يريد: قالت قف. ويروى عن الحسن، أنه قال: الم وسائر حروف التهجي فِي القرآن: أسماء للسور. وعلى هذا القول إذا قال القائل: قرأت المص. عرف السامع أنه قرأ ال { [التي افتتحت ب المص. قوله عز وجل: ذلك الكتاب: ذلك يجوز أن يكون بمعنى: هذا، عند كثير من أهل التفسير. قال الفراء: ومثاله فِي الكلام أنك تقول: قد قدم فلان. فيقول السامع: قد بلغنا ذلك. أو يقول: قد بلغنا

الخبر. فصلحت: هذا، لأنه قرب من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت: ذلك لانقضاء كلامه، والمنقضي كالغائب. وذكر ابن الأنباري لهذا شرحا شافيا فقال: إنما قال عز ذكره: ذلك الكتاب، فأشار إلى غائب، لأنه أراد: هذه الكلمات يا محمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه عليه السلام:] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [سورة المزمل: 5] كان واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل الله تعالى عليه: {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2] دله على الوعد المتقدم. وقال الزجاج: القرآن: ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى، وعيسى. فجعل الم بمعنى القرآن، لأنه من القرآن. والكتاب مصدر كتبتُ، ويسمى المكتوب كتابا، كما يسمى المخلوق خلقا، والمفعول يسمى بالمصدر، يقال: هذا درهم ضرب الأمير. أي: مضروبه، وهذا الثوب نسج اليمن. أي: منسوجه. وأصل الكتب فِي اللغة: الجمع والضم، يقال: كتبت البغلة. إذا ضممتَ بين شفريها بحلقة، وكتبت السقاء. إذا خرزته، والكتب: الخروز، واحدتها: كتبة، والكتابة: جمع حرف إلى حرف. والمراد ب الكتاب ههنا: القرآن، فِي قول جميع المفسرين. قوله: لا ريب فِيهِ: الريب: الشك، قال أبو زيد: يقال: رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا. إذا كنت مستيقنا منه الريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فِيهِ. إذا ظننته من غير أن تستيقنه. قال سيبويه: «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب «إنَّ» ، إلا أنها تنصب بغير تنوين، وإنما شبه «لا» ب «إنَّ» ، لأن «إن» للتحقيق فِي الإثبات و «لا» فِي النفي، فلما كان لا تقتضي تحقيق النفي كما تقتضي «إن» تحقيق الإثبات أجري مجراه، وهي مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد.

وموضع لا ريب رفع بالابتداء عند سيبويه، لأنه بمنزلة: «خمسة عشر» إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع فِي قول الشاعر: لا أم لي أن كان ذاك ولا أب وموضع فِيهِ رفع لأنه خبر بالابتداء الذي هو لا ريب. فإن قيل: كيف قال لا ريب فِيهِ وقد ارتاب به المبطلون؟ قيل: معناه: أنه حق فِي نفسه، وصدق وإن ارتاب به المبطلون، كما قال الشاعر: ليس فِي الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر فِي العلم يرتاب. ويجوز أن يكون خبرا فِي معنى النهي، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. قوله: هدى للمتقين معنى الهدى: البيان، لأنه قوبل به الضلالة فِي قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] ، أي: من قبل هداه. ومعنى الاتقاء فِي اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه. أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، ومنه التقية فِي الدين: يجعل ما يظهر حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه، ومنه الحديث: «كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أقربنا إلى العدو» .

فالمتقي: هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهي عنه، وفعله ما أمر به حاجزا بينه وبين العقوبة التي توعد بها العصاة. والمراد ب المتقين فِي هذه الآية: المؤمنون الذين اتقوا الشرك، وجعلوا إيمانهم حاجزا بينهم وبين الشرك، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك وهم المؤمنون. وخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار، الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب، لانتفاعهم به دونهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وكان عليه السلام منذرا لمن خشي ولمن لم يخش. قال ابن الأنباري: معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما. وأما إعراب هدى فقال الزجاج: يجوز أن يكون موضعه نصبا على الحال كأنه قال: هاديا للمتقين، ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار هو، كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى. ويجوز أن يكون الوقف على قولك لا ريب، أي: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا. لأن لا شك بمعنى: حقا، ثم قيل بعد فِيهِ هدى. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قال الزجاج: موضع الذين خفض نعتا للمتقين. ومعنى يؤمنون: يصدقون، قال الأزهري: اتفق العلماء أن الإيمان معناه التصديق، كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدق.

ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق المخبر فيما يخبر، فمن صدَّق الله تعالى فيما أخبر به فِي كتابه وصدَّق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر معتقدا بالقلب تصديقَهما فهو مؤمنٌ. وأنشد ابن الأنباري، على أن آمن معناه: صدق، قولَ الشاعر: ومن قبل آمنا وقد كان قومنا ... يصلون للأوثان قبل محمدا معناه: من قبل آمنا محمدا، أي: صدقنا محمدا. والغيب: ما غاب، وهو مصدر غاب يغيب غيبا، وكل ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] والعرب تسمي المكان المنخفض من الأرض: الغيب، لأنه غائب عن الأبصار. والمراد ب الغيب المذكور ههنا: ما غاب علمه عن الحس والضرورة مما يدرك بالدليل. قال قتادة: آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، كل هذا غيب. وقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وجنته وناره، ولقائه، وبالبعث بعد الموت. قال الزجاج: وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو غيب. 23 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سَبَقُوا بِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1-3] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وقوله: ويقيمون الصلاة أي: يديمونها، ويحافظون عليها، ويقال: قام الشيء. إذا دام وثبت. وأقامه. إذا أدامه، والصلاة معناها فِي اللغة: الدعاء، ومنه الحديث: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل» . قال أبو عبيدة: قوله: «فليصل» أي: فليدع له بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل. هذا معنى الصلاة فِي اللغة، ثم ضمت إليها هيئات وأركان سميت مجموعها صلاة، قال قتادة فِي قوله: ويقيمون

الصلاة: إقامتها: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقوله: ومما رزقناهم يقال: رزق الله الخلق رزقا ورزقا، فالرَّزق، بالفتح، هو المصدر الحقيقي، والرِّزق: الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، وكل ما انتفع به العبد فهو رزقه من مال وولد وعبد وغيره. وقوله: ينفقون معنى الإنفاق فِي اللغة: إخراج المال من اليد، ومن هذا يقال: نفق المبيع. إذا كثر مشتروه فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة. إذا خرجت روحها، قال قتادة: ينفقون فِي طاعة الله وسبيله. قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] الآيةَ، قال مجاهد: الآيات الأربع من أول هذه ال { [نزلت فِي جميع المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من أهل الكتاب، وقال ابن عباس، وابن مسعود: إن آيتين من أول السورة نزلتا فِي مؤمني العرب، والآيتان بعدهما نزلتا فِي مؤمني أهل الكتاب، لأنه لم يكن للعرب كتاب كانوا مؤمنين به قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمراد بقوله:] بما أنزل إليك} : القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة البقرة: 4] يعني: الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل. وقوله: وبالآخرة أي: وبالدار الآخرة، هم يوقنون يقال: يقن ييقن يقنا فهو يقين، وأيقن بالأمر واستيقن وتيقن كله واحد. واليقين: هو العلم الذي يحصل بعد استدلال ونظر، ولا يجوز أن يسمى علمُ الله تعالى يقينا، لأن علمه لم يحصل عن استدلال ونظر، والمعنى: أنهم يؤمنون بالآخرة ويعلمونها علما باستدلال. قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] «أولاء» : كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو «هم» ، والكاف فِيهِ للمخاطبة، نحو كاف «ذلك» .

والمعنى: هم على بيان وبصيرة من عند ربهم، لأن الله تعالى هداهم لدينه. {وأولئك هم المفلحون} قال الزجاج: يقال لكل من أصاب خيرا: مفلح. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] . والمعنى: هم الذين أدركوا البغية ووجدوا النعيم المقيم. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {6} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {7} } [البقرة: 6-7] قوله: إن الذين كفروا الآية، قال الضحاك: نزلت فِي أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود. يقال: كفر كفرا وكفورا. كما يقال: شكر شكرا وشكورا. ومعنى الكفر فِي اللغة: الستر، قال ابن السكيت: كل ما ستر شيئا فقد كفره، ومنه قيل: الليل كافر. لأنه يستر بظلمته الأشياءَ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه ستر إنعام الله تعالى بالهدى والآيات التي بانت لذوي التمييز: أن الله تعالى واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها. والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، فمن لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له.

أما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وكفر الجحود: أن يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر أمية بن أبي الصلت، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني: كفر الجحود. وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يقبل ولا يدين به، ككفر أبي طالب حيث يقول: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه، ويكفر بقلبه. وقوله تعالى: سواء عليهم أي: معتدل ومتساو عندهم، أأنذرتهم: أأعلمتهم وخوفتهم. والإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، يقال: أنذرته فنذر. أي: علم بموضع الخوف. قال الوالبي، عن ابن عباس فِي هذه الآية: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة فِي الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى الشقاء فِي الذكر الأول. ثم ذكر السبب فِي تركهم الإيمان فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] قال الزجاج: معنى «ختم» ، «وطبع» فِي اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء

والاستيثاق منه بأن لا يدخله شيء، والختم على الوعاء يمنع الدخول فِيهِ والخروج منه، كذلك الختم على قلوب الكفار، يمنع دخول الإيمان فِيها وخروج الكفر منها، وإنما يكون ذلك بأن يخلق الله الكفر فِيها، ويصدهم عن الهدى فلا يدخل الإيمان فِي قلوبهم كما قال الله عز وجل: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] وقوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وحَّد السمع لأنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقال سيبويه: اكتفى من الجمع بالواحد لأنه توسط جمعين فصار كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] ، وقوله {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] . وتم الكلام، ههنا، ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] الأبصار: جمع البصر وهو العين، يقال: تبصرت الشيء إذا رأيته. والغشاوة: الغطاء، ويقال للجلدة التي على الولد: غشاوة. ومثل هذه الآية فِي المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108] ، وطبع فِي المعنى ك ختم. قال الزجاج فِي هذه الآية: إنهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكن لم يستعملوا هذه الحواسَّ استعمالا ينفعهم، فصاروا كما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر. وقوله: {ولهم عذاب عظيم} العذاب: كل ما يُعَنِّي الإنسان ويشق عليه، والعظيم: فعيل من العظم، وهو كثرة المقدار فِي الجثة، ثم قيل: كلام عظيم، وأمر عظيم. أي: عظيم القدر، يريدون به: المبالغة فِي وصفه. ومعنى وصف العذاب العظيم: هو المواصلة بين أجزاء الآلام، بحيث لا يتخللها فرجة.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10} } [البقرة: 8-10] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] : الناس: لفظ وضع للجمع كالنوم والرهط والجيش وواحده: إنسان، لا من لفظه. وقوله: وباليوم الآخر يعني: يوم القيامة، وسمي آخرًا لأنه بعد أيام الدنيا. وقوله: {وما هم بمؤمنين} : جمع بعد التوحيد فِي من يقول لأن لفظ من يصلح للواحد وللجميع، فقوله: من يقول يجوز أن يراد به الجمع وإن كان اللفظ على واحد. قال المفسرون: نزلت هذه الآية فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسروا الكفر، فأخبر الله سبحانه أنهم يقولون: إنا مؤمنون. ويظهرون كلمة الإيمان، ثم نفى الله عنهم الإيمان فقال: {وما هم بمؤمنين} ، فدل على أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط. قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] : يخادعون: يفاعلون، من الخدع، يقال: خدعته خدْعًا وخدَعًا وخديعةً، إذا أظهر له غير ما يضمر. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يظهرون غير ما فِي نفوسهم ليدرءوا عنهم أحكام الكفر فِي ظاهر الشريعة من القتل والجزية وغيرهما. فإن قيل: المفاعلة تكون بين اثنين، والله تعالى يَجِلُّ أن يشاركهم فِي الخداع، فما وجه قوله: يخادعون الله؟ قيل: يخادعون ههنا بمعنى: يخدعون. قال أبو عبيدة: خادعت الرجل بمعنى: خدعته. والمفاعلة كثيرًا ما يقع من الواحد، كالمعافاة والمعاقبة وطارقت النعل، على هذا.

وقال الحسن: يخادعون الله: أي نبيه، لأن الله بعث نبيه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] ، وإذا خادعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد خادعوا الله. وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] قرئ بوجهين: فمن قرأ بالألف قال: هو من المفاعلة التي تقع من الواحد كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] ، فلما وقع الاتفاق على الألف فِي قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] أجري الثاني على الأول طلبًا للتشاكل. ومن قرأ: يخدعون قال: إن فَعَلَ أُوِّلَ بفعل الواحد، من فاعل الذي فِي أكثر الأمر يكون لفاعلين. ومعنى قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] : هو أنهم طلبوا الخداع فلم يخدعوا الله ولا المؤمنين وما خدعوا إلا أنفسهم، لأن وبال خداعهم عاد عليهم، لا أن الله تعالى يطلع نبيه على أسرارهم ونفاقهم فيفتضحون فِي الدنيا، ويستوجبون العقاب فِي العقبى. وقوله وما يشعرون أي: وما يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم، وأن وبال خداعهم يعود عليهم. قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] : قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وجميع المفسرين: أي: شك ونفاق. وقال الزجاج: المرض فِي القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة فِي الدين. وقوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] أي: بما أنزل من القرآن، فشكوا فِيهِ كما شكوا فِي الذي قبله.

قوله: {ولهم عذاب أليم} : الأليم بمعنى: المؤلم، كالسميع بمعنى المسمع، وهو العذاب الذي يصل وجعه إلى قلوبهم. قوله: {بما كانوا يكذبون} : «ما» : فِي تأويل المصدر، أي: بتكذيبهم وبكونهم مكذبين. وقرأ أهل الكوفة يكذبون بالتخفيف، من الكذب، وهو أشبه بما قبله وما بعده لأن ما قبله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] ، وهذا كذب منهم، وبعده قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] ، وهذا يدل على كذبهم فِي دعوى الإيمان. وقال ابن عباس: {بِمَا كَانُوا يكذّبُونَ} [البقرة: 10] يعني: تكذيب الأنبياء. قال: ومن خففها فالمراد أنهم يتكلمون بما يعلم الله خلافه فِي قلوبهم، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ {14} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {16} } [البقرة: 11-16] قوله: {وإذا قيل لهم} : موضع «إذا» من الإعراب نصب، لأنه اسم للوقت، كأنك قلت: وحين قيل لهم، أو يوم قيل لهم. وقيل: كان فِي الأصل: قُوِل، فنقلت كسرة الواو إلى القاف، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فصارت ياءً. والكسائي يُشِمُّ قيل وأخواتِه الضمَّ، ليدل بذلك على أنه كان فِي الأصل «فعل» . ومعنى الآية {وإذا قيل لهم} يعني: لهؤلاء المنافقين، {لا تفسدوا فِي الأرض} بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] يظهرون هذا القول كذبا ونفاقا، كما أنهم قالوا: آمنا وهم كاذبون.

فرد الله عليهم قولَهم: {نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] ، قال الزجاج: ألا: كلمة يُبتدأ بها، يُنبَّه بها المخاطب ليُدَلَّ على صحة ما بعدها، وهم لتأكيد الكلام. والمعنى: هم المفسدون أنفسَهم بالكفر، والناسَ بالتعويق عن الإيمان، ولكن لا يشعرون لا يعلمون أنهم مفسدون، لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاحٌ. ولكنْ: معناها استدراك بإيجاب بعد نفي، أو نفي بعد إيجاب كالتي فِي هذه الآية، لأنه إذا قيل: هم المفسدون سبق إلى الوهم أنهم يفعلون ذلك من حيث يشعرون، فقال: ولكن لا يشعرون فاستدرك بالنفي بعد الإيجاب. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] الآية، قال جميع المفسرين: المراد بالناس فِي هذه الآية أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا به. والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما آمن أصحابه. قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] الألف فِي أنؤمن استفهام معناه: الجحد والإنكار، أي: لا نفعل كما فعلوا، والسفهاء: الجهال الذين قلت عقولهم، جمع السفيه، ومصدره: السَّفَهُ، والسَّفاهة والسفاه. قال أهل اللغة: معنى السفه: الخفة، والسفيه: الخفيف العقل، ولهذا سمى الله تعالى الصبيان والنساء سفهاء فِي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، لجهلهم وخفة عقلهم. وعنوا ب السفهاء: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس: قالوا: أولئك سفهاؤنا. فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] ؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم، لا عند المؤمنين، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.

قال ابن عباس: فرد الله عليهم جواب كفرهم فقال: ألا إنهم هم السفهاء لا المؤمنون الذين صدقوا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يعلمون ولكنهم لا يعلمون ما يقولون. قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا الآية، قال المفسرون: أراد ب الذين آمنوا: أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصحابَه، وذلك أن المنافقين كانوا إذا لقوهم واجتمعوا معهم قالوا: إيماننا كإيمانكم ونحن معكم. يقال: لقيته لقاء ولقيانا ولقيا، وكل شيء استقبل شيئا فقد لقيه. وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] يقال: خلوت بفلان، أخلو به خلوة وخلاء. وخلوت معه وخلوت إليه بمعنًى واحدٍ. والشيطان: كل متمرد عات من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] ، واشتقاقه من شطن، أي: بعد، فمعنى الشيطان: البعيد من الجنة. قال الزجاج: ومعنى الشيطان: الغالي فِي الكفر، المتعبد فِيهِ من الجن والإنس. قال ابن عباس: أراد ب شياطينهم: كبراءهم ورؤساءهم. وقوله: إنا معكم أي: على دينكم، إنما نحن مستهزءون بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث نقول لهم: آمنا. يقال: هزئ به يهزأ وتهزأ به، واستهزأ به. وهو أن يظهر غير ما يضمر، استصغارا وعبثا. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] أي: يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمى الجزاء باسم المجازى عليه كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، فسمى الثاني سيئة باسم الأول، وقال أيضًا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] .

قال ابن عباس، فِي رواية عطاء، فِي قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] : هو أن الله تعالى إذا قسم النور يوم القيامة للجواز على الصراط أعطى المنافقين مع المؤمنين نورًا، حتى إذا ساروا على الصراط طُفِئَ نورُهم. قال: فذلك قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ، حيث يعطيهم ما لا يتم ولا ينتفعون به. وروي عنه، أيضًا، أنه قال: هو أن الله تعالى يطلع المؤمنين وهم فِي الجنة على المنافقين وهم فِي النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم بابٌ من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا. فيسيرون وينقلبون فِي النار، فإن انتهوا إلى الباب سُدَّ عنهم ورُدوا إلى النار، ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} } [المطففين: 34-36] . 24 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَادكَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ الْكِلابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جُنَادَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا، نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، قَالَ: فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ بِمِثْلِهَا الأَوَّلُونَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا، قَالَ: ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بِي بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلافِ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ الثَّوَابِ " قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] أي: يمهلهم ويطول أعمارهم ومدتهم. والطغيان: مصدر كالرجحان والكفران، ومعناه: مجاوزة القدر، وكل شيء جاوز القدر فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] ، وقيل لفرعون: {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] ، أي: أسرف حيث ادعى الربوبية. ومعنى يعمهون: يترددون متحيرين، يقال: عمه الرجل يعمه فهو عامهٌ وعَمِهٌ إذا حار عن الحق. قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] حقيقة الاشتراء: الاستبدال، والعرب تجعل من آثر شيئًا على شيء مشتريًا له وبائعًا للآخر، وإن لم يكن ثَمَّ شراءٌ ولا بيعٌ ظاهرٌ. قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.

وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] الربح: الزيادة على أصل المال، والتجارة: تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر. والمعنى: ما ربحوا فِي تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فِيها، والعرب تقول: ربح بيعك، وخسر بيعك، وخاب سعيك. على معنى: ربحت فِي بيعك، فيسندون الربح إلى البيع، وما كانوا مهتدين أي: مصيبين فِي تجارتهم. ثم ضرب الله مثلًا للمنافين فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ {18} } [البقرة: 17-18] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] : والمثل من الكلام: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فِيهِ: التشبيه، وحقيقته: ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، مثال ذلك قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لنا مثلًا ... وما مواعيده إلا الأباطيل فمواعيد عرقوب: علم فِي كل ما لا يصح من المواعيد. واستوقد بمعنى: أوقد. وأضاء: يكون لازمًا ومتعديًا، يقال: أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره، وأضاءت النار، وأضاءها غيرها، والذي فِي هذه الآية متعد. وما فِي قوله: ما حوله: منصوب بوقوع الإضاءة عليه، وحوله نصب على الظرف، يقال: هم حوله وحوليه وحواله وحواليه. قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والسدي: يقول: مَثَلُ هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا فِي

ليلة مظلمة فِي مغارة، فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله، فاتقى ما يحذر ويخاف، وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون، لما أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها، واعتزوا بعزها وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا فِي العذاب، وذلك معنى قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] . وكان يجب فِي حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره، ليشاكل جواب لما معنى هذه القصة، ولكن كان إطفاء النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء، وجعل جواب لما اختصارا وإيجازا. ومعنى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وهو أن الله تعالى يسلب المنافقين ما أعطوا من النور مع المؤمنين فِي الآخرة، وذلك قوله تعالى، فيما أخبر عنهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] . قوله: صم أي: هم صم، جمع أصم، وهو المُنْسَدُّ الأذن، يقال: رمح أصم إذا لم يكن أجوفَ. وصخرة صماء: إذا كانت صلبة. وإنما وصفوا بالصم لتركهم قبول ما يسمعون، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل على ما يسمعه: أصم. بكم أي: عن الخير فلا يقولونه، عمي لتركهم ما يبصرون من الهدى والقرآن. وقوله: فهم لا يرجعون أي: عن الجهل والعمى إلى الإيمان. {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} } [البقرة: 19-20] قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] الآية، الصيب من المطر: الشديد، من قولهم: صاب يصوب، إذا نزل من علو إلى سفل. والسماء: كل ما ارتفع وعلا، يقال لسقف البيت: سماء. ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، والسماء: السحاب، من سما يسمو. وقوله: فِيهِ: أي فِي ذلك الصيب، ظلمات: جمع ظلمة، والمطر لا يخلو من ظلمة، لأنه يأتي من السحاب، والسحاب يغشي الشمس بالنهار، والنجوم بالليل فيظلم الجو.

قوله: ورعد وبرق: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن أشياء، فإن أجبتنا عنها اتبعناك، أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث ما أمر الله» . فقالوا: فما هو الصوت الذي نسمعه؟ قال: «زجرة السحاب، إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» . فقالوا: صدقت. وقال أصحاب ابن عباس: مجاهد وطاوس وعكرمة: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته، ويسوقه، والرعد الذي هو الصوت سمي به. وسئل وهب بن منبه عن الرعد، فقال: الله أعلم. 25 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَلاءِ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لا يُصِيبُ ذَاكِرًا»

والبرق: مصع ملك يسوق السحاب، وقال علي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البرق: مخاريق بأيدي الملائكة. وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى البرق وسمع الصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بعذابك، ولا تقتلنا بغضبك، وعافنا قبل ذلك» . وأما معنى الآية، فقال المفسرون: إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلا آخر وشبههم بأصحاب مطر. ومعنى أو كصيب: أو كأصحاب صيب، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وأراد بالمطر: القرآن، وشبهه بالمطر لما فِيهِ من حياة القلوب، وبالظلمات: لما فِي الكفر من ذكر الكفر والشرك، وبيان الفتن والأهوال، وبالرعد: لما خوفوا به من الوعيد وذكر النار، وبالبرق: حجج القرآن وما فِيهِ من البيان والنور والشفاء والهدى، وشبه جعل المنافقين أصابعهم فِي آذانهم لكيلا يسمعوا ما ينزل من القرآن ما فِيهِ افتضاحهم بجعل الذي فِي هذا المطر أصابعه فِي أذنه كيلا يسمع صوت الرعد. والصواعق: وهي جمع صاعقة، والصاعقة والصعقة: الصيحة، يغشى منها على من يسمعها أو يموت، قال الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] . ويقال للرعد والبرق إذا قتل إنسانًا: أصابته صاعقة. وقيل: الصاعقة: الصوت الشديد من الرعد يسقط معها قطعة نار. وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] : قال الزجاج: إنما نصب حذر لأنه فِي تأويل المصدر، كأنه قيل: يحذرون حذرا، لأن جعل الأصابع فِي الآذان يدل على الحذر. وقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] : قال مجاهد: جامعهم يوم القيامة، يقال: أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء،

كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، أي: لم يشذ عن علمه شيء. وجاء فِي التفسير: والله مهلكهم، يقال: أحاط بفلان، إذا دنا هلاكه فهو محاط به. قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه وأفسده، وقوله تعالى: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي: تهلكوا جميعا. وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] : كاد: موضوع عند العرب لمقاربة الفعل، وكدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. والخطف: أخذ باستلاب، يقال: خطف يخطف خطفا، ومنه الخطاف. وهذه الآية من تمام التمثيل، والمعنى: يكاد ما فِي القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر فِي أمر دينهم، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20] البرق، {مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق، كذلك المنافقون كلما قرئ عليهم شيء من القرآن مما يحبون صدقوا، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 20] الطريق، قاموا أي: وقفوا، كذلك المنافقون كلما سمعوا شيئا مما يكرهون وينكرون وقفوا عن تصديقه، وتم التمثيل ههنا ثم أوعدهم فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] أي: لو شاء الله لأصمهم وأعماهم فذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة حتى يصيروا صما عميا، كما ذهب بأسماعهم وبأبصارهم الباطنة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] أي أنه ذو قدرة على إيقاع ما أوعدهم به، فليحذروا عاجل عقوبة الله وآجله. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {22} } [البقرة: 21-22] قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] : يأيها الناس: عموم فِي كل مكلف من مؤمن وكافر، ويروى عن الحسن وعلقمة أن يأيها الناس خطاب لأهل مكة، ويأيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة. ومعنى اعبدوا ربكم: اخضعوا له بالطاعة، ولا يجوز ذلك إلا لمالك الأعيان.

قوله: الذي خلقكم: الخلق: إبداع شيء لم يسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه أولا على غير مثال سبق إليه. ومعنى الآية: أن الله تعالى احتج على العرب بأنه خلقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، فقيل لهم: إذ كنتم معترفين بأن الله خالقكم فاعبدوه، فإن عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوقين من الأصنام. وقوله: لعلكم تتقون: قال ابن الأنباري: لعل: يكون ترجيا ويكون بمعنى كي. وقال سيبويه: لعل: كلمة ترجية وتطميع، أي: كونوا على رجاء وطمع أن تتقوا بعبادتكم عقوبة الله أن تحل بكم، كما قال فِي قصة فرعون: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، والله تعالى من وراء ذلك وعالم بما يئول إليه أمره. قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] : الأرض التي عليها الناس هي فراش الأنام، على معنى أنها فرشت لهم، أي: بسطت لهم، وهذا كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] ، والمعنى: أنه لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22] يعني المطر، والمعنى: من نحو السماء، فحذف المضاف وإن جعلت السماء بمعنى السحاب لم يحتج إلى تقدير المضاف. وقوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] : الثمرات: جمع ثمرة وهي حمل الشجرة فِي الأصل، ثم صارت اسما لكل ما ينتفع به مما هو زيادة على أصل المال، يقال: ثمر الله ماله، وعقل مثمر إذا كان يهدي صاحبه إلى رشد. والثمرة: تستعمل فيما ينتفع به ويستمتع مما هو فرع الأصل. قال المفسرون: أراد بالثمرات: جميع ما ينتفع به مما يخرج من الأرض. وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] : يقال: فلان ند فلان. أي: شبهه ومثاله، قال حسان:

أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء وقال جرير: أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد قال ابن عباس والسدي: لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم فِي معصية الله. وقال ابن زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه. وقال الزجاج: هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأن الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالا وأنتم تسلمون أنهم لا يخلقون، والله الخالق. وقال ابن الأنباري: وأنتم تعلمون أن الأنداد التي تعبدونها لم ترفع لكم السماء، ولم تمهد لكم الأرض، ولم ترزقكم رزقا، وإنما وصفهم الله تعالى بهذا العلم لتتأكد الحجة عليهم إذا اشتغلوا بشيء يعلمون أن الحق فيما سواه. 26 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا وَالِدِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ

إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {23} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {24} وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} } [البقرة: 23-25] قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] : إن: دخلت ههنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب فِي خطابهم كقولك: إن كنت إنسانا فافعل كذا. وأنت تعلم أنه إنسان، وإن كنت ابني فأطعني. فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم فيما بينهم. وقيل: إن ههنا بمعنى: إذا. قال أبو زيد: وتجيء إن بمعنى إذا، نحو قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ

الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وقال الأعشى: وسمعت حلفتها التي حلفت ... إن كان سمعك غير ذي وقر وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] : ال { [: عرق من عروق الحائط، وتجمع: سور وسور، وكل منزلة رفيعة فهي سورة، مأخوذة من سور البناء، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب وهذا قول أبي عبيدة وابن الأعرابي فِي تفسير السورة، فكل سورة من سور القرآن بمنزلة درجة عالية رفيعة ومنزل عال، يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن. وقال أبو الهيثم: السورة من سور القرآن عندنا: قطعة من القرآن، وخص ذلك القدر بتسميته سورة، لأنه أقل قطعة وقع به التحدي. وعلى هذا القول: هي مأخوذة من سؤر الشراب، وهي بقيته وقطعة منه، إلا أنها لما كثرت فِي الكلام ترك الهمز.

فإن قيل: ما الفائدة فِي تفصيل القرآن على السور؟ قيل: فِيهِ فوائد كثيرة منها: أن القارئ إذا خرج من سورة إلى سورة أخرى كان أنشط لقراءته وأحلى فِي نفسه. ومنها: أن تختص كل سورة بقدر مخصوص كاختصاص القصائد. ومنها: أن الإنسان قد يضعف عن حفظ الجميع، فيحفظ سورة تامة، فربما كان ذلك سببا يدعوه إلى حفظ غيرها. قال المفسرون: ومعنى ال:: أن الله تعالى لما احتج عليهم فِي إثبات توحيده، احتج عليهم، أيضا، فِي إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قطع عذرهم فقال:] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} [البقرة: 23] أي: فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد، وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا؟ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أي: من مثل القرآن، كقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] ، وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] ، وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] كل ذلك يريد به مثل القرآن. فالمعنى: فأتوا ب { [مثل ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإعجاز وحسن النظم والإخبار عما كان وعما يكون دون تعلم الكتاب ودراسة الأخبار. ويجوز أن تعود الكناية فِي مثله إلى قوله: على عبدنا وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى: فأتوا بسورة من رجل أمي لا يحسن الخط والكتابة، ولم يدرس الكتب. وقوله: وادعوا شهدائكم: قال ابن عباس: يعني أنصاركم وأعوانكم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم، وسمى أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة، والشهيد يكون بمعنى الشاهد كالجليس والشريب.

وقوله: من دون الله: أي: من غير الله، يقال: ما دون الله مخلوق. يريد: وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله. إن كنتم صادقين فِي أن هذا الكتاب تقوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه. وقوله: فإن لم تفعلوا إن: حرف الشرط والجزاء، كقولك: إن تضرب أضرب، ولم: حرف يجزم الفعل المضارع ويقع ما بعدها بمعنى الماضي، كما يقع الماضي بعد حروف الجزاء بمعنى الاستقبال. وقوله: ولن تفعلوا: لن: حرف قائم بنفسه وضع لنفي الفعل المستقبل ونصبه للفعل كنصب إن. ومعنى ال:: فإن لم تفعلوا معارضته بمثل القرآن فيما مضى من الزمان، ولن تفعلوا أيضا فيما يستقبل، فاتقوا النار أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم. وإنما قيل لهم هذا بعد أن ثبتت عليهم الحجة فِي التوحيد وصدق محمد عليه السلام بالآيات السابقة. ثم وصف النار فقال:] الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] قال ابن السكيت: الوقود بالضم: المصدر، يقال: وقدت النار وقدا ووقودا. والوقود بالفتح: اسم لما توقد به النار، يقال: ما أجود هذا الوقود للحطب. والحجارة: جمع حجر، وليس بقياس، ولكنهم قالوه كما قالوا: جمل وجمالة، وذكر وذكارة. والقياس: أحجار. وجاء فِي التفسير عن ابن عباس وغيره: أن الحجارة ههنا: حجارة الكبريت، وهي أشد لإيقاد النار. وقيل: ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار، لأنها لا تأكل الحجارة إلا إذا كانت فظيعة. أعدت خلقت وهيئت، للكافرين لأنهم يخلدون فِيها. ولما ذكر جزاء الكافرين بتكذيبهم ذكر جزاء المؤمنين بتصديقهم، فقال: وبشر الذين آمنوا التبشير: إيراد الخبر السار الذي يظهر أثر السرور فِي بشرة المخبر، هذا هو الأصل، ثم كثر استعماله حتى صار بمنزلة الإخبار فاستعمل فِي نقيضه، كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، إلا أنه فيما يسر أكثر استعمالا. وقوله: وعملوا الصالحات: قال ابن عباس: وعملوا الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.

وقوله: أن لهم موضع أن نصب، معناه: بشرهم بأن لهم، فلما سقطت الباء وصل الفعل إلى أن فنصب. وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25] : جنات: جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر، سميت جنة لكثرة شجرها ونباتها، يقال: جنت الرياض جنونا، إذا أعتم نبتها حتى ستر الأرض. ويقال لكل ما ستر: قد جن وأجن. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25] أي: من تحت أشجارها ومساكنها. والنهر لا يجري وإنما يجري الماء فِيهِ، ويستعمل الجري فِيهِ توسعا لأنه موضع الجري. وقوله: كلما: كل: حرف جملة ضم إلى ما فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة على الظرف. رزقوا: أطعموا، من ثمرة: من صلة، أي: ثمرة، ويجوز أن تكون للتبعيض لأنهم إنما يرزقون بعض ثمار الجنة، {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] لتشابه ما يؤتون به، ولم يريدوا بقولهم: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] نفس ما يأكلون، ولكن أرادوا: هذا من نوع ما رزقنا من قبل، كما يقول الرجل لغيره: فلان قد أعد لك الطبيخ والشواء. فيقول: هذا طعامي فِي منزلي كل يوم. يريد هذا الجنس. قال الزجاج: وضم قبل لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الفتح والكسر، فلما عدلت عن بابها بنيت على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب، وعدلها: أن أصلها الإضافة، فجعلت مفردة تنبئ عن الإضافة. هذا كلامه، ومعناه: أن قبل لا يستعمل إلا مضافا، وله إعرابان عند الإضافة: الفتح والكسر، نحو قبلك، من قبلك، فلما استعمل منفردا من غير إضافة والمعنى إرادة الإضافة بني على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب وهو الضم، ومن هذا قوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] تأويله: من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء. ومعنى {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] : أي: من قبل هذا الزمان ومن قبل هذا الوقت. وقوله: وأتوا به: أي: أُتِيَ المؤمنون بذلك الرزق، متشابها: يشبه بعضه بعضا فِي اللون والصورة، مختلفا

فِي الطعم، نحو رمان يؤدي طعم الكمثرى والتفاح والسفرجل، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك، قالوا: إذا طعموه وجدوا له طعما سوى الطعم الأول، فإذا رأوه قالوا: هذا الأول. وقال الحسن، وقتادة، وابن جريج: متشابها فِي الفضل، خيارا كله لا رذال فِيهِ كما يكون فِي ثمار الدنيا. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] : الأزواج: جمع زوج وزوجة، وشكل كل شيء: زوجه، ومطهرة: قال مجاهد: لا يتغوطن ولا يبلن ولا يمنين ولا يحضن، فهن مطهرة من الحيض والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقيل: مطهرة من مساوئ الأخلاق، لما فيهن من حسن التبعل، ودل على هذا قوله: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] . وهم فِيها خالدون لأن تمام النعمة بالخلود والبقاء هناك، كما أن التغيض بالزوال والفناء. 27 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو رِفَاعَةَ عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ

أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَزْوَاجَ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ مَا سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانْ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامْ، يَنْظُرُونَ بِقُرَّةِ أَعْيَانْ، وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلا نَمُوتُ، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا نَخَافُ، نَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلا نَظْعَنُ " 28 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا كُرَيْبٌ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ يَوْمًا، فَقَالَ: «أَلا مُشَمِّرٌ لَهَا؟ هِيَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَنُورٌ يَتَلأْلأُ، وَنَهْرٌ

مُطَّرِدٌ، وَزَوْجَةٌ لا تَمُوتُ فِي حُبُورٍ وَنَعِيمٍ، وَمَقَامٍ أَبَدًا» {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {27} كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {29} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ {30} } [البقرة: 26-30] قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا} [البقرة: 26] الآية: قال الحسن، وقتادة، وعطاء، عن ابن عباس: لما ذكر الله عز وجل الذباب والعنكبوت فِي كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله. فأنزل الله هذه الآية. قال أهل المعاني: قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26] خرج على لفظهم حيث قالوا: إن الله يستحي أن يضرب المثل بالذباب والعنكبوت. فرد الله عليهم وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} [البقرة: 26] ، كما أنهم لما قالوا للقرآن: هذا سحر مفترى. قال الله تعالى {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . وقال بعضهم: معنى قوله: لا يستحيي: هو أن الذي يستحيا منه ما يكون قبيحا فِي نفسه ويكون لفاعله عيب فِي فعله، فأخبر الله سبحانه أن ضرب المثل منه ببعوضة فما فوقها ليس بقبيح ولا نقص ولا عيب، حتى يستحيا منه.

وقيل: معنى قوله: لا يستحيي: لا يترك، لأن أحدنا إذا استحى من شيء تركه، ومعناه: إن الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها إذا علم أن فِيهِ عبرة لمن اعتبر وحجة على من جحد. وقوله: ما بعوضة: ما: زائدة مؤكدة كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ، ولا إعراب لها، والناصب والخافض يتعداها إلى ما بعدها، ونصبت بعوضة على أنها المفعول الثاني ل يضرب، لأن يضرب ههنا معناه: يجعل. هذا الذي ذكرنا هو قول البصريين. والبعوض: صغار البق، الواحدة: بعوضة. وقوله: فما فوقها: قال ابن عباس: يعني الذباب والعنكبوت. وهما فوق البعوض، وقد استشهد على استحسان ضرب المثل الحقير فِي كلام العرب بقول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل ويقول أيضا: وهل شيء يكون أذل بيتا ... من اليربوع يحتفر الترابا وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26] : مدحهم الله بعلمهم أن المثل وقع فِي حقه، وذم الكافرين بإعراضهم عن طريق الاستدلال وإنكارهم ما هو صواب وحكمة، يقولون: أي شيء أراد الله بهذه الأمثال؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، كأنهم قالوا: أي فائدة فِي ضرب المثل بهذا؟ وفي نصب قوله: مثلا وجوه: أحدها: الحال، لأنه جاء بعد تمام الكلام، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا مبينا؟ والثاني: التمييز والتفسير للمبهم، وهو هذا، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا من الأمثال؟ والثالث: القطع، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ إلا أنه لما جاء نكرة نصب على القطع من اتباع المعرفة. وهذا قول الفراء.

وأجاب الله تعالى الكفار عن قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [البقرة: 26] فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] أي: أراد الله بهذا المثل أن يضل به كثيرا من الكافرين، وذلك أنهم ينكرونه ويكذبونه، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] من المؤمنين، لأنهم يعرفونه ويصدقون به. قال الأزهري: الإضلال فِي كلام العرب: ضد الهداية والإرشاد، يقال: أضللت فلانا، إذا وجهته للضلال عن الطريق. وإياه أراد لبيد بقوله: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل ولا يجوز أن يكون معنى الإضلال الحكم والتسمية، لأن أحدنا إذا حكم بإضلال إنسان لا يقال: أضله. وهذا شيء لا يعرفه أهل اللغة. قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] قال الليث: والفسوق: الترك لأمر الله. وقال الفراء: الفسق: الخروج عن الطاعة. والعرب تقول: فسقت الرطبة عن قشرها، إذا خرجت. وقال أبو الهيثم: وقد يكون الفسوق شركا، ويكون إثما، والذي أريد به ههنا: الكفر. ثم وصف هؤلاء الفاسقين فقال: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] ومعنى النقض: الهدم وإفساد ما أبرمته من حبل أو بناء، ونقيض الشيء: ما ينقضه، أي: ما يهدمه ويرفع حكمه. وعهد الله: وصيته وأمره، يقال: عهد الخليفة إلى فلان كذا وكذا. أي: أمره وأوصاه به، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] . وذكر المفسرون فِي العهد المذكور فِي هذه الآية قولين: أحدهما: ما أخذوه على النبيين ومن اتبعهم، أن لا يكفروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] الآية.

والثاني: أن يكون عهد الله الذي أخذه من بني آدم يوم الميثاق حين قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ثم مجدوا ونقضوا ذلك العهد فِي حال كمال عقولهم. وهذا قول ابن عباس فِي رواية عطاء. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] : الميثاق: ما وقع من التوثيق، والكتاب أو الكلام الذي يستوثق به: ميثاق. والكتابة فِي الميثاق يجوز أن تكون عائدة على اسم الله، أي: من ميثاق الله ذلك العهد بما أكد من إيجابه عليهم، ويجوز أن تعود على العهد، أي: من بعد ميثاق العهد وتوكيده. وقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27] يعني الأرحام، وذلك أن قريشا قطعوا رحم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعاداة معه. وقيل: هو الإيمان بجميع الكتب والرسل، وهو نوع من الصلة، وهو قول ابن عباس، قال: يريد الإيمان بجميع الأنبياء، من لدن آدم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بخلاف قول الكفار: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] ، فالمؤمنون وصلوا بينهم بالإيمان بجميعهم فقالوا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] . وقوله: ويفسدون فِي الأرض: قال ابن عباس: يحكمون بغير الحق. وقال غيره: يفسدون فِي الأرض بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أولئك هم الخاسرون بفوت المثوبة، والمصير إلى العقوبة. وأصل الخسران فِي التجارة، وهو نقصان رأس المال، ويقال فِيهِ: الخسارة والخسر هذا هو الأصل، ثم قيل لكل صائر إلى مكروه: خاسر. لنقصان حظه من الخير. وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] : كيف فِي الأصل: سؤال عن حال، لأن جوابه يكون بالحال كما تقول: كيف زيد؟ فيقال: صالح، أو سقيم. قال الزجاج: تأويل كيف ههنا: استفهام فِي معنى التعجب، والتعجب إنما هو للخلق والمؤمنين، أي: أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وقد ثبتت حجة الله عليهم!!

ونحو هذا قال الفراء: هذا على وجه التعجب والتوبيخ، لا على الاستفهام المحض. أي: وَيْحَكُمْ كيف تكفرون؟ ! وهذا كما يقال: كيف تكفر نعمة فلان وقد أحسن إليك؟ ومعنى الآية: على أي حال يقع منكم الكفر وحالكم أنكم كنتم أمواتا؟ قال ابن عباس، فِي رواية الضحاك، أراد: كنتم ترابا. ردهم إلى أبيهم آدم، وفي رواية عطاء، والكلبي: وكنتم نطفا. وكل ما فارق الجسد من نطفة أو شعر فهو موات، وقوله فأحياكم: فِي الأرحام بأن جعل فيكم الحياة، ثم يميتكم فِي الدنيا، ثم يحييكم للبعث، ثم إليه ترجعون فيفعل بكم ما يشاء. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] : قال المفسرون: لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله خلق السموات والأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة، فقوله: لكم أي: لأجلكم، فما فِي الأرض كله مخلوق للآدميين، بعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار كالسباع والعقارب والحيات، فإن فِيها عبرة وتخويفا، لأنه إذا رؤي طرف من المتوعد به كان ذلك أبلغ فِي الزجر عن المعصية. وقوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] : قال الفراء: الاستواء فِي كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي من اعوجاج. ووجه ثالث: أن نقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يكلمني. على معنى: أقبل علي وإلي، فهذا معنى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ، وسئل أحمد بن يحيى ثعلب عن الاستواء فِي صفة الله تعالى فقال: الاستواء: الإقبال على الشيء. قال

الزجاج: قال قوم فِي قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء: أي: عمد وقصد إلى السماء. كما تقول: فرغ الأمير من بلد كذا، ثم استوى إلى بلد كذا. معناه: قصد بالاستواء إليه، قال: وقول ابن عباس: استوى إلى السماء. أي: صعد، معناه: صعد أمره إلى السماء. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: كان الأمير يدبر أهل الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز. أي: تحول فعله. وقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة: 29] : التسوية: جعل الشيئين أو الأشياء على استواء، يقال: سويت الشيئين فاستويا. وجمع الكناية فِي فسواهن: لأنه أراد بالسماء: جمع سماءة، أو سماوة على ما ذكرنا. وجائز أن تعود الكناية إلى أجزاء السماء ونواحيها، فالمعنى: جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور ولا أمت. وهو بكل شيء عليم إذ بالعلم يصح الفعل المحكم، فأفعاله تدل على علمه. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة: 30] الآية، قال أبو عبيدة: إذ ههنا زائدة، معناه: وقال ربك للملائكة. وأنكر الزجاج وغيره هذا القول وقالوا: إن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه. قالوا: وفي الآية محذوف، معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة. وأكثر المفسرين على أن كل ما ورد فِي القرآن من هذا النحو فالذكر فِيهِ مضمر. وأما الملائكة فقال سيبويه: واحدها: ملك، وأصلها: ملاك، مهموز، حذف همزه لكثرة الاستعمال، وأنشد: فلست لإنس ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب

وأصله من المألكة والألوك وهي الرسالة. قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] : الخليفة: الذي يخلف الذاهب، أي: يجيء بعده، يقال: خلف فلان مكان فلان، وأصل الخليفة: خليف، بغير هاء، لأنه فعيل بمعنى فاعل كالعليم والسميع، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف، وكما قالوا: راوية وعلامة. ألا ترى أنهم جمعوه خلفاء كما يجمع فعيل، ومن أنث لتأنيث اللفظ قال فِي الجمع: خلائف. وقد ورد التنزيل بها، قال الله تعالى: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ، وقال: {خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 14] . وأراد بالخليفة: آدم، فِي قول جميع المفسرين، جعله خليفة عن الملائكة الذين كانوا سكان الأرض بعد الجن، وذلك أن الله خلق السماء والأرض، وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجن الأرض، فعبدوا دهرا طويلا فِي الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن. رأسهم إبليس، وهم خزان الجنان، اشتق لهم اسم من الجنة، فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن عن وجوهها إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض. وكانوا أخف من الملائكة عبادة، لأن أهل السماء الدنيا أخف عبادة أخف من الذين فوقهم، وكذلك أهل كل سماء، وهؤلاء الملائكة لما صاروا سكان الأرض خفف الله عليهم العبادة، فأحبوا البقاء فِي الأرض، وكان الله قد أعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنان، وكان يعبد الله تارة فِي الأرض وتارة فِي السماء وتارة فِي الجنة، فأعجب بنفسه وتداخله الكبر، فاطلع الله عز وجل على ما انطوى عليه من الكبر، فقال له ولجنده: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .

29 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُعَاوِيَةَ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرِ بْنِ رَاشِدٍ الأَسَدِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ جَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ أَجْوَفَ، قَالَ: ظَفِرْتُ بِهِ خَلْقًا لا يَتَمَاسَكُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادٍ 30 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَطِيبِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّبِيبِيُّ، حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ قَالُوا:

أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» وقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] : قال السدي: قال ابن عباس: قال الله تعالى لهم: إني خالق بشرا. وإنهم يتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، فلذلك {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ؟ ! وقال أكثر المفسرين: إنهم قاسوا على الغائب، فقالوا: أتجعل فِيها من يفسد فِيها كما فعل بنو الجان. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] : معنى التسبيح: تنزيه الله من كل سوء، وكل من أثنى على الله وبعده عن السوء فقد سبح الله. قال الحسن: معناه: نقول: سبحان الله وبحمده. وقال غيره: معنى قوله: نسبح بحمدك: نتكلم بالحمد لك، والنطق بالحمد لله تسبيح له كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5] ، وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ

رَبِّكَ} [الحجر: 98] أي: احمده، ويكون حمد الحامد له تسبيحا له، لأن معنى الحمد: الثناء عليه والشكر له، وهذا تنزيه له واعتراف أنه أهل لأن ينزه ويعظم ويثنى عليه، قوله تعالى: ونقدس لك أي: نطهرك وننزهك عما لا يليق بك من النقص، واللام فِيهِ صلة، والتقديس: التطهير، والقدس: الطهارة، والبيت المقدس: المطهر. وقوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] : قال ابن عباس: يعني إضمار إبليس العزم على المعصية وما اطلع عليه من كبره. وقال قتادة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] : أنه يكون فِي أولاد آدم من هو من أهل الطاعة. وقيل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] من تفضيل آدم عليكم وما أتعبدكم به من السجود له، وأفضله به عليكم من تعليم الأسماء، وذلك أنهم قالوا، فيما بينهم: ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق أفضل ولا أكرم عليه منا، وإن كان خيرا منا فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله، ورأينا ما لم يره. فلما أعجبوا بعلمهم فضل الله آدم عليهم بالعلم، فعلمه الأسماء كلها، وذلك قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ {33} } [البقرة: 31-33] {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] : ووجه تعليمه آدم أن خلق فِي قلبه علما بالأسماء على سبيل الابتداء، وألهمه العلم بها. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: علمه اسم كل شيء، حتى القصعة والمغرفة. وقال أهل التأويل: إن الله تعالى علم آدم جميع اللغات، ثم إن أولاده تكلم كل واحد منهم بلغة أخرى، فلما تفرقوا فِي البلاد اختص كل فرقة منهم بلغة، فاللغات كلها إنها سمعت من آدم وأخذت عنه.

وقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] : معنى العرض فِي اللغة: الإظهار، ومنه عرض الجارية، وعرض الجند، يقال: عرضت المتاع على البيع، إذا أظهرته للمشتري. قال الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] قال الفراء: أي: أبرزها حتى رأوها. قال مقاتل: إن الله تعالى خلق كل شيء، الحيوان والجماد، ثم علم آدم أسماءها، ثم عرض تلك الشخوص الموجودات على الملائكة، ولذلك قال: ثم عرضهم، لأنه كنى عن المسمين والمسميات، وكان فيهم من يعقل من الجن والإنس والملائكة. وقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: 31] أي: أخبروني، والنبأ: الخبر، وهذا أمر تعجيز، أراد الله تعالى أن يبين عجزهم عن علم ما يرون ويشاهدون، فلا يظنون أنهم أعلم من الخليفة الذي يجعله الله فِي الأرض. وقوله تعالى: إن كنتم صادقين: قال قتادة، والحسن: إن كنتم صادقين أنني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه وأفضل منه. فقالت الملائكة إقرارا بالعجز واعتذارا: سبحانك قال ابن عباس: تنزيها لك، وتعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وقيل: تنزيها لك عن الاعتراض عليك فِي حكمك. وهو منصوب على المصدر عند الخليل والفراء إذا قلت: سبحان الله. فكأنك قلت سبحت الله تسبيحا وسبحانا. فجعل السبحان فِي موضع التسبيح، كما تقول: كفرت عن يميني تكفيرا وكفرانا، وكلمته كلاما، وسلمت سلاما. قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا} [الأحزاب: 49] . قال سيبويه: يقال: سبحت الله تسبيحا، وسبحانا. فالمصدر: تسبيح، وسبحان: اسم يقوم مقام المصدر.

وقوله: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] : قال المفسرون: هذا اعتراف عن الملائكة بالعجز عن علم ما لم يعلموه، فكأنهم قالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وليس هذا مما علمتنا. فجاء الكلام مختصرا. وقوله: إنك أنت العليم أي: العالم، الحكيم: الحاكم، تحكم بالعدل وتقضي به، والحكم: القضاء بالعدل، قال النابغة: وأحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى: المحكم للأشياء، كالأليم بمعنى المؤلم، والسميع بمعنى المسمع فِي قول عمرو بن معديكرب: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع وقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] : قال المفسرون: لما ظهر عجز الملائكة عن علم أسماء الموجودات قال الله عز وجل: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فسمى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنة، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] أخبرهم بتسمياتهم، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [البقرة: 33] لم: حرف نفي وصل بألف الاستفهام، فصار بمعنى الإيجاب والتقرير كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 33] أي: ما غاب فِيهمَا عنكم، وهذا كقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود: 123] أي: له ما غاب فِيهمَا ملكا وخلقا. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] من قولكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] من إضمار إبليس

الكفر. وقال الحسن وقتادة: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] يعني قولهم: لن يخلق الله خلقا أفضل ولا أعلم منا. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {39} } [البقرة: 34-39] قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] موضع إذ نصب نسقا على إذ التي قبلها، وقوله: قلنا هو خطاب الأكابر والعظماء، يقول الواحد منهم: فعلنا. لعلمه بأن أتباعه يفعلون كفعله، فأخبر الله تعالى عن نفسه على الجمع لأنه ملك الملوك. واختلفوا فِي الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، من هم؟ فقال بعضهم: هم الذين كانوا مع إبليس فِي الأرض. وقال آخرون: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، لأنه قال: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ، وفي هذا تأكيد للعموم. وأصل السجود فِي اللغة: الخضوع والتذلل، وكل من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد. وسجود كل موات فِي القرآن: طاعته لما سخر له. وقال أبو عبيدة: عين ساجدة، إذا كانت فاترة. ونخلة ساجدة، إذا مالت لكثرة حملها. وكان سجود الملائكة لآدم على جهة التكريم، فكان ذلك تكريمًا لآدم وطاعة لله , ولم تكن عبادة لآدم،

وحكى ابن الأنباري، عن الفراء، وجماعة من الأئمة: أن سجود الملائكة لآدم كان تحية ولم يكن عبادة، وكان ذلك سجود تعظيم وتسليم وتحية، لا سجود صلاة وعبادة، وكان ذلك تحية الناس وتعظيم بعضهم بعضًا ولم يكن وضع الوجه على الأرض، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام. وآدم سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وقيل: إنه كان أدأم بالعبرانية، وهو التراب، فعربته العرب فقالوا: آدم. وقوله: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] قال أكثر أهل اللغة والتفسير: سمي إبليس بهذا الاسم لأنه أبلس من رحمة الله، أي: أيس، والمبلس: المكتئب الآيس الحزين، وفي القرآن {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يكون مشتقًّا من أبلس، لأنه لو كان كذلك لانصرف ونون كما ينون إكليل وإحليل وبابه، وترك التنوين فِي القرآن يدل على أنه أعجمي معرب معرفة، والأعجمي لا يعرف له اشتقاق. قال مجاهد، وطاوس، عن ابن عباس: كان إبليس قبل أن يركب المعصية ملكًا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن، ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادًا، ولا أكثر علما منه، فلما تكبر على الله وأبى السجود لآدم وعصاه، طرده الله ولعنه، وجعله شيطانا وسماه إبليس. وهذا قول ابن مسعود، وابن جريج، وقتادة، وأكثر المفسرين. وقوله: أبى أي: أبى السجود ولم يسجد، وقوله: واستكبر ومعنى الاستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه. وقوله: وكان من الكافرين أي: صار، كقوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] ، وقال الأكثرون: وكان فِي سابق علم الله من الكافرين.

وقوله: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] أي: اتخذاها مأوى ومنزلًا، وليس معناه: استقر فِي مكانك ولا تتحرك، وهذا اللفظ مشترك، يقال: أسكنه. أي: أزال حركته، وأسكنه مكان كذا: أي جعله مأوى ومنزلًا له. وقوله: وزوجك لفظ مذكر، ومعناه مؤنث، وكان الأصمعي يؤثر ترك الهاء فِي الزوجة، والقرآن كله عليه. وقوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة: 35] الرغد أو الرغد: سمعة المعيشة، قال امرؤ القيس: بينما المرء تراه ناعما ... يأمن الأحداث فِي عيش رغد قال الليث: الرغد أن يأكل ما شاء إذا شاء حيث شاء. وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] معناه: لا تقرباها بالأكل، لأن آدم عصى بالأكل منها، لا بأن قربها، وهو نهي بأبلغ لفظ يكون، يقال: ما قربت هذا الأمر قربانا. أي: ما دنوت منه. والشجرة فِي اللغة: ما لها ساق يبقى فِي الشتاء، والنجم: ما ليس له ساق، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] واختلفوا فِي الشجرة التي نهي آدم عنها، فقال ابن عباس، وعطية، ووهب، وقتادة: إنها السنبلة، وقال ابن

مسعود، والسدي: هي الكرم، وقال ابن جريج: إنها التين. وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] أي: من العاصين الذين وضعوا أمر الله فِي غير موضعه، وأصل الظلم: وضع الشيء فِي غير موضعه. ومن أمثال العرب: ومن شابه أباه فما ظلم. قال الأصمعي: أي: ما وضع الشبه غير موضعه. قوله: فأزلهما الشيطان أي: نحاهما وبعدهما، يقال: زلت قدمه زللا وزليلا، إذا لم تثبت. وأزلها صاحبها، إذا حملها على الزلل. وقرأ حمزة فأزالهما، يقال: زال عن مكانه، وأزاله غيره. ونسب الفعل إلى الشيطان لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه وتسويله، فلما كان ذلك منه بسبب أسند الفعل إليه. وقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] أي: من الريثة والمنزلة ولين العيش، قال المفسرون: إن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] فأبى أن يقبل منه، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين. فاغترا، وما كانا يظنان أن أحدًا يحلف بالله كذبا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم حتى أكلها. وقال الحسن: إنما رآهما على باب الجنة، لأنهما كانا يخرجان من الجنة. وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] الهبوط: النزول من علو إلى أسفل، والخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس.

والعدو: اسم يقع على الواحد والجميع والذكر والأنثى، وأراد بهذا: العداوة التي بين آدم وحواء والحية وبين ذرية آدم من المؤمنين وإبليس. 31 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: يَا آدَمُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَاعْتَلَّ آدَمُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لا تَحْمِلَ إِلا كَرْهًا، وَلا تَضَعَ إِلا كَرْهًا، وَدَمَّيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، فَرَنَّتْ حَوَّاءُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ، وَعَلَى بَنَاتِكَ " 32 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَطَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُعَالِجُ حَيَّةً صَغِيرَةً يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهَا، فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ عَادَيْنَنَا فَاقْتُلُوهُنَّ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُنَّ»

قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] : موضع قرار، أحياء وأمواتًا، ومتاع هو ما تمتعت به من أي شيء كان، وكل ما حصل التمتع به فهو متاع، قال المفسرون: فلنا فِي الأرض متاع من حيث الاستقرار عليها، والاغتذاء بما تنبتها من الثمار والأقوات. وقوله: إلى حين الحين: وقت من الزمان يصلح للأوقات كلها، طالت أم قصرت، ويجمع على: الأحيان، ثم يجمع الأحيان: أحايين. والمراد بالحين ههنا فيما ذكره أهل التفسير: حين الموت. قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] التلقي ههنا معناه: الأخذ والقبول، ومنه الحديث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتلقى الوحي من جبريل عليه السلام، أي: يتقبله ويأخذه. وقال الأصمعي: تلقت الرحم ماء الرجل: إذا قبلته. والكلمات: جمع الكلمة، والكلمة: تقع على القليل والكثير، وتقع على الحرف الواحد من الهجاء، ومعنى تلقى آدم من ربه الكلمات: هو أن الله تعالى ألهم آدم حتى اعترف بذنبه، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، فهذه الآية هي المعنية بالكلمات فِي قول الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد.

33 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا أَصَابَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ فَزِعَ إِلَى كَلِمَةِ الإِخْلاصِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، عَمِلْتُ سُوءًا، وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " 34 - وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الْكَلِمَاتُ» هِيَ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلِمَ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا؟ قَالَ: بِشُؤْمِ مَعْصِيَتِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَال: نَعَمْ، قَالَ: فَهَذِهِ «الْكَلِمَاتُ» وقرأ ابن كثير: آدمَ بالنصب، وكلماتٌ بالرفع، وذلك أن من الأفعال ما يكون إسناده إلى الفاعل كإسناده إلى المفعول، وذلك نحو: أصبحت، ونلت، ولقيت، تقول: نالني خير ونلت خيرًا. وأصابني خير وأصبت خيرًا. وتقول: لقيني زيد ولقيت زيدًا. قال الله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] ، وقال: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8] ، وإذا كانت معاني هذه الأفعال كما ذكرنا، فنصب ابن كثير آدم ورفعه الكلمات، فِي المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات. وقوله تعالى: فتاب عليه معنى التوبة فِي اللغة: الرجوع، وفي الشريعة: رجوع العبد من المعصية

إلى الطاعة، فالعبد يتوب إلى الله، والله يتوب عليه، أي: يرجع إليه بالمغفرة، ومعنى قوله: فتاب عليه أي: عاد عليه بالمغفرة والرحمة. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] أي: يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه. قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] كرر الأمر بالهبوط للتأكيد، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أي: فإن يأتكم مني شريعة ورسول وبيان ودعوة، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أي: قَبِلَ أمري، اتبع ما أمرته به، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] فِي الآخرة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ولا حزن، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أعلمهم الله تعالى أنه يبتليهم بالطاعة، ويجازيهم بالجنة عليها وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط إلى الأرض. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39] هذه الآية إيعاد بالنار للكافرين بكتب الله وشرائعه، وهي مما خاطب الله تعالى به آدم وحواء وأعلمهما أن الكافر خالد فِي النار. والآيات جمع آية، ومعنى الآية فِي اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114] أي: علامة منك لإجابتك دعاءنا، وكل آية من كتاب الله تعالى علامة ودلالة على المقيمين فِيها. وقال أبو عبيدة: معنى الآية: أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وانقطاعه عن الذي بعدها. وقال ابن السكيت: يقال: خرج القوم بآيتهم: أي: بجماعتهم، لم يدعوا وراءهم شيئًا، وعلى هذا القول معنى الآية من كتاب الله تعالى: جماعة حروف دالة على معنى مخصوص. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ {41} وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {42} وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {44} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {46} } [البقرة: 40-46] قوله تعالى: يا بني إسرائيل يعني: يا أولاد يعقوب، وإسرائيل هو يعقوب، ولا ينصرف لاجتماع العجمة والمعرفة فِيهِ، وكل اسم اجتمعا فِيهِ وزاد عن ثلاثة أحرف لم ينصرف عند أحد من النحويين. وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] أراد: نعمي، فأوقع الواحد موقع الجماعة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وهذه النعم هي: أن الله تعالى فلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم، وهي مذكورة فِي قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] وأراد بقوله: عليكم أي: على آبائكم وأسلافكم، وجعلها عليهم لأن النعمة على آبائهم نعمة عليهم. فإن قيل: اليهود أبدًا يذكرون هذه النعم، فلم ذكروا ما لم ينسوه؟ قيل: المراد بقوله: اذكروا: اشكروا، وذكر النعمة: شكرها، وإذا لم يشكروها حق شكرها فكأنهم نسوها، وإن أكثروا ذكرها. وقال ابن الأنباري: أراد: اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة، وبينت لكم من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألزمتكم من تصديقه واتباعه، فلما بعث ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة. وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به سواء، أي: أتممته. قال ابن عباس: هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم فِي التوراة أنه باعث نبيًا يقال له: محمد، فمن تبعه كان له أجران اثنان: أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة، وأجر باتباعه محمدًا عليه السلام وإيمانه بالقرآن ومن كفر به تكاملت أوزاره وكانت النار جزاءه، فقال الله عز وجل: وأوفوا بعهدي فِي اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة.

وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أي: خافون فِي نقض العهد، لا ما يفوتكم من المآكل والرياسة. وقوله عز وجل وآمنوا بما أنزلت يعني القرآن، مصدقا لما معكم موافقًا للتوراة فِي التوحيد والنبوة، {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] قال الفراء: أراد أول من يكفر به. وقال البصريون: أراد أول فريق كافر أو حزب كافر، ثم حذف المنعوت وأقيم نعته مقامه، والهاء فِي به يعود إلى ما فِي قوله تعالى: بما أنزلت: وهو القرآن. والمعنى: ولا تكونوا أول كافر بالقرآن من أهل الكتاب، لأن قريشًا كفرت قبل اليهود بمكة. والخطاب لعلماء اليهود، وإذا كفروا بالقرآن كفر أتباعهم فيكونون أئمة فِي الضلالة، ولا تشتروا: ولا تستبدلوا، بآياتي يعني ما فِي التوراة من بيان صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، ثمنا قليلا عرضا يسيرًا من الدنيا، وذلك أن رؤساء اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامهم، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرياسة، واختاروا الدنيا على الآخرة، وإياي فاتقون فاخشون فِي أمر محمد، لا ما يفوتكم من الرياسة. قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] يقال: لبست الأمر ألبسه لبسا، إذا خلطته وعميته. ومنه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ، والمعنى: ولا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وتبديل نعته. قال مقاتل: إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتموا بعضًا، ليصدقوا فِي ذلك، فقال الله تعالى: ولا تلبسوا الحق الذي تقرون به وتبينونه، بالباطل: يعني بما تكتمونه، فالحق: بيانهم، والباطل: كتمانهم.

وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] هو عطف على المجزوم فِي قوله: ولا تلبسوا أي: ولا تكتموا الحق، وأنتم تعلمون أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي مرسل، قد أنزل عليكم ذكره فِي كتابكم، واليهود جحدوا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع العلم بأنه نبي، فلم ينفعهم ذلك العلم، لأن جاحد النبوة كافر. قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة الزكاة: تطهير للمال وإصلاح له وتثمير ونماء، كل ذلك قد قيل، وأصلها: من الزيادة، يقال: زكا الزرع يزكو زكاء، ممدود، وكل شيء يزداد فهو يزكو، قال النابغة: وما أخرت من دنياك نقص ... وإن قدمت عاد لك الزكاء يعني الزيادة، وسمي ما يخرج من المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاة لأنها تزيد المال الذي يخرج منه، وتوفره، وتقيه الآفات. قوله تعالى: واركعوا مع الراكعين معنى الركوع فِي اللغة: الانحناء، يقال للشيخ إذا انحنى من الكِبَر: ركع. قال لبيد: أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع قال المفسرون: معناه: وصلوا مع المصلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فعبر بالركوع عن جميع الصلاة، إذ كان ركنا من أركانها. وإنما قال: واركعوا بعد قوله: وأقيموا الصلاة لأنه أراد الحث على إقامة الصلاة فِي جماعة، وقيل: لأنه لم يكن فِي دين اليهود ولا فِي صلاتهم ركوع، فذكر ما اختص بشريعة الإسلام، والآية خطاب لليهود.

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الآية، خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه. ولا يؤمنون. والألف للاستفهام، معناه: التوبيخ والمراد بالبر: الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنسيان ههنا بمعنى: الترك، ومنه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان وترك أنفسهم ذلك. وقوله تعالى: وأنتم تتلون الكتاب أي: تقرءون التوراة، وفيها صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه. وأصل التلاوة من قولهم: تلاه يتلوه. إذا تبعه، والتلاوة: إتباع الحروف بالقراءة، ويقال عقل الرجل يعقل عقلا، إذا كان عاقلا. وعقل الإنسان هو تمييزه الذي به فارق جميع الحيوان، سمي عقلا لأنه يعقله، أي: يمنعه من التورط فِي الهلكة كما يمنع العقال البعير عن ركوب رأسه. 35 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بُجَيْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى أُنَاسٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ " ثم رجع إلى خطاب المسلمين فأمرهم أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضاء الله تعالى ونيل جنته بالصبر والصلاة، فقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] : ومعنى الصبر: حبس النفس على شيء تكرهه، والمراد بالصبر ههنا: الصبر على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، واحتمال الأذى، وجهاد العدو، وعلى المصائب، وقوله: والصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وقال مجاهد: الصبر فِي هذه الآية: الصوم، ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر. وقوله تعالى: وإنها لكبيرة قال الحسن والضحاك: ثقيلة. وكل ما ثقل على الإنسان كبر عليه، كقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] ، والكناية فِي وإنها تعود على الصلاة لأنها الأغلب والأفضل والأهم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] . وقوله تعالى: إلا على الخاشعين أي: المطيعين الساكنين إلى الطاعة، الخشوع معناه فِي اللغة: السكون، قال: وخشعت الأصوات للرحمن.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] هذا من نعت الخاشعين، والعرب تقول لليقين: ظن. وللشك: ظن. لأن فِي الظن طرفًا من اليقين، قال الله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ، وقال: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] ، وقال: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] ، كل هذا بمعنى اليقين. وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم فِي الفارسي المسرد أي: أيقنوا. والملاقاة: اللقاء، بمعنى العيان والاجتماع والمحاذاة والمصير، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] ، أي: لا يخافون المصير إلينا، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] أي: مجتمع معكم وصائر إليكم. قال ابن عباس: يريد الذين يستيقنون أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى، واللقاء والملاقاة، من حيث ذكر فِي القرآن، يحمله المفسرون على البعث والصبر إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: وأنهم إليه راجعون أي: يصدقون بالبعث ويقرون بالنشأة الثانية، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47} وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {48} } [البقرة: 47-48] وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] تقدم تفسيره.

وقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] التفضيل: نقيض التسوية، يقال: فضله، إذا أعطاه الزيادة. وفضله: إذا حكم له بالزيادة فِي الفضل، وهذا التفضيل هو ما ذكر فِي قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] وأراد ب العالمين عالمي زمانهم، والخطاب للموجودين منهم فِي ذلك الوقت، والمراد بالتفضيل سَلَفُهم، ولكن فِي تفضيل الآباء شرف الأبناء، لذلك قال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] . وقوله تعالى: واتقوا يومًا أي: واحذروا واجتنبوا عقاب يوم، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي: لا يقضي ولا يغني أحد عن أحد فِي ذلك اليوم، يقال: جزى عنه كذا، إذا قضى عنه. قال الكلبي: هو يوم القيامة يقول: اتقوا يومًا لا يغني والد عن ولده، ولا ولد عن والده. قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] يقال: قبلت الشيء أقبله قبولًا وقبولًا. ويقال: على فلان قبول، أي: تقبله العين. ومعنى الشفاعة: كلام الشفيع من هو فوقه فِي جماعة يسألها لغيره، وهو الشفع الذي هو خلاف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يصير شفعا لسؤال المشفوع له. وقرئ ولا يقبل بالياء، لأن الشفاعة والتشفع بمنزلة واحدة، كما أن الوعظ والموعظة والصيحة والصوت كذلك، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، وقال: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] .

وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] عدل الشيء وعدله: مثله، قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي: ما يماثله من الصيام، قال كعب بن مالك: صبرنا لا نرى لله عدلا ... على ما نابنا متوكلينا أي: لا نرى له مثلا. والمراد بالعدل فِي هذه الآية: الفداء، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70] أي: إن تفد كل فداء، وسمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدي ويماثله. قال السدي فِي هذه الآية: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما قبل منها. وقوله تعالى: ولا هم ينصرون أي: لا يمنعون من عذاب الله، قال المفسرون: نزلت هذه الآية فِي اليهود، وذلك أنهم كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء، فآيسهم الله عز وجل من ذلك. {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {50} وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {51} ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {52} } [البقرة: 49-52] قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] التنجية: التخليص من مكروه وشدة، ومثله الإنجاء، وآل فرعون: أتباعه، ومن كان على دينه.

وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] السوم: أن تجشم إنسانا مشقة أو سوءا أو ظلما، يقال: سمته ذلا وسوءا، إذا ألزمته إياه. وسوء العذاب: شديد العذاب. وقد فسره بقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] وأصل الذبح فِي اللغة: الشق، والذباح والذباح بالتخفيف والتشديد: تشقق فِي الرجل، وسمي فري الأوداج ذبحًا لأنه نوع شق، والتفعيل: على التكثير. وقوله تعالى: ويستحيون نساءكم يستحيون: يستفعلون، من الحياة، والمعنى: يستبقونهن أحياء ولا يقتلونهن، ومنه الحديث: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم» . واسم النساء: يقع على الصغار والكبار، وهم كانوا يستبقون البنات لا يقتلونهن. والخطاب لبني إسرائيل، يذكرهم الله تعالى النعمة عليهم حين أنجاهم من عدوهم الذين كانوا يذيقونهم شدة العذاب بذبح الأبناء واستبقاء النساء، ثم قال: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] البلاء: اسم ممدود من البلو، وهو الاختبار والتجربة، يقال: بلاه يبلوه بلوا، إذا جربه. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا، والله عز وجل يبلو عباده بالصنيع الحسن ليمتحن شكرهم عليه ويبلوهم بالبلوى التي يكرهونها ليمتحن صبرهم، فقيل للحسن: بلاء. وللسيء: بلاء. لأن أصلهما المحنة، ومنه قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168] ، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] . والذي فِي هذه الآية يحتمل الوجهين، فإن حملته على الشدة كان معناه: فِي استحياء البنات للخدمة، وذبح البنين بلاء ومحنة، وهو قول ابن عباس، فِي رواية عطاء والكلبي.

وإن حملته على النعمة كان المعنى: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمة عظيمة، وهو قول مجاهد، والسدي. ومثل هذا فِي احتمال الوجهين قوله فِي قصة إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] . وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} [البقرة: 50] وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يذهب ببني إسرائيل إلى البحر فينفلق له حتى يخوض فِيهِ هو وبنو إسرائيل، فلما ذهب بهم وانتهى إلى البحر فرق الله البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط منهم طريق، حتى مروا فِيهِ وهو منفلق، وسمي البحر بحرًا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه. وقوله تعالى: وأغرقنا آل فرعون ولم يذكر غرق فرعون، لأنه قد ذكره فِي مواضيع، كقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103] ، ويجوز أن يريد بآل فرعون: نفسه، كقوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] يعني موسى وهارون. وقوله: وأنتم تنظرون وذلك أنهم لما خرجوا من البحر رأوا انطباق البحر على فرعون وقومه، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر وإنجائكم من عدوكم. وقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] قال المفسرون: إن الله تعالى لما أنجى موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون، وأمن بنو إسرائيل من عدوهم ودخلوا مصر ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ممهدة، فواعد الله موسى أن يؤتيه الكتاب فِيهِ بيان ما يأتون وما يذرون، وأمره أن يصوم ثلاثين يومًا فصامه وصالا ولم يطعم شيئًا، فتغيرت رائحة فمه، فعمد إلى لحاء شجرة فمضغها، فأوحى الله إليه: «أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك» ؟ وأمر أن يصل بها عشرًا، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وخرج موسى من بين بني إسرائيل تلك الأيام فاتخذ السامري عجلا وقال لبني إسرائيل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88] ، فافتتن بالعجل ثمانية آلاف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه.

وقراءة أكثر القراء واعدنا من المواعدة، لأن ما كان من الله من الوعد ومن موسى القبول والتحري لإنجازه يقوم مقام الوعد، فصار كالتواعد من الفاعلين، وأيضًا فإن المفاعلة قد تقع من الواحد وقد ذكرنا. وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف، لكثرة ما جاء فِي القرآن من هذا القبيل بغير ألف، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 9] ، {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [طه: 86] ، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] ، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] ، {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] ، يقال: وعدته وعدًا وعدة وموعدًا، وموعدة. قال الله تعالى: {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، وقال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] . ويقال: وعد، فِي الخير والشر. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86] ، وقال: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72] . وتقدير الكلام: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة للتكلم معه، أو لإتيانه الكتاب. وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51] الاتخاذ: افتعال من الأخذ، والمعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده معبودًا أو إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك قوله تعالى: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] ، {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] ، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152] ، التقدير فِي هذا كله: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني. ومعنى الآية: أن الله تعالى نبههم على أن كفرهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل ومن موسى عليه السلام. وقوله تعالى: وأنتم ظالمون أي: ضارون لأنفسكم، وواضعون العبادة فِي غير موضعها.

وقيل: وأنتم ظالمون اليوم بمخالفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله تعالى: ثم عفونا عنكم قال ابن الأنباري: عفا الله عنك، معناه: محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار، إذا درستها ومحتها. وعفو الله: محوه الذنب عن العبيد، والمراد بالعفو ههنا: قبوله التوبة من عَبَدَةِ العجل، وأمره برفع السيف عنهم. وقوله تعالى: من بعد ذلك أي: من بعد عبادة العجل، لعلكم تشكرون لكي تشكروا نعمتنا بالعفو. ومعنى الشكر فِي اللغة: عرفان الإحسان بالقلب ونشره باللسان. {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {53} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {54} وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {55} ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {56} وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {57} } [البقرة: 53-57] وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] الآية، الفرقان: مصدر فرقت بين الشيئين أفرق فرقا وفرقانا، كالرجحان والنقصان، ويسمى كل فارق فرقانا، كما سمي كتاب الله: الفرقان، لفصله بين المحق والمبطل، وسمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان فِي قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] ، لأنه فرق فِي ذلك اليوم بين الحق والباطل، فكان ذلك يوم الفرقان، وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: يفرق بينكم وبين ذنوبكم. واختلفوا فِي معنى الفرقان فِي هذه الآية: فقال مجاهد: هو بمعنى الكتاب، وهما شيء واحد. وهو اختيار الفراء، قال: العرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه، كقول عدي بن زيد: وألفى قولها كذبا ومينا. وقال عنترة: أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وارتضى الزجاج هذا القول، قال: لأن الله تعالى ذكر لموسى الفرقان فِي غير هذا الموضع، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] ، فعلى هذا القول الفرقان هو الكتاب، والكتاب هو الفرقان. قال الزجاج: ويجوز أن يريد بالفرقان: انفراق البحر، وهو من عظيم الآيات، كأنه قيل: آتيناه فرق البحر. وقال ابن عباس: أراد بالفرقان: النصر على الأعداء، لأن الله تعالى نصر موسى وقومه على عدوهم، وسمى نصره فرقا لأن فِي ذلك فرقا بين الحق والباطل، وقوله: لعلكم تهتدون أي: بما آتيناه من الكتاب. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 54] يعني الذين عبدوا العجل، يا قوم نداء مضاف حذف منه الياء، والمنادى إذا أضفته إلى نفسك جاز فِيهِ ثلاث لغات: حذف الياء، وإثباتها، وفتحها، فحذف الياء كقوله: {يَا قَوْمِ} [البقرة: 54] ، والإثبات كقوله: يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ، والفتح كقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر: 53] على قراءة من فتح الياء، والأجود الاكتفاء بالكسرة. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] أي: نقصتم حظ أنفسكم، {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] إلها، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ارجعوا إليه بالطاعة والتوحيد، والباري: الخالق، يقال: برأ الله الخلق. أي: خلقهم. وكان أبو عمرو يختلس حركة الهمزة فِي بارئكم كأنه يخفف الحركة ويقربها من الجزم، وسيبويه: يجوز تخفيف حركة الإعراب، وأنشد فِي ذلك: وقد بدا هنك من المئزر

وأنشد أيضًا قول امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل وفي الآية إضمار واختصار، كأنه لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم قالوا: كيف؟ قال: فاقتلوا أنفسكم أي: ليقتل البريء المجرم. المعنى: استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم. وقوله تعالى: ذلكم خير لكم أي: توبتكم بقتل أنفسكم، {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] من إقامتكم على عبادة العجل. وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54] فِي الآية اختصار لأن التقدير: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54] . قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] قال ابن عباس: يعني: نراه علانية. وقال قتادة: عيانا. ومعنى قوله: جهرة أي: غير مستتر عنا بشيء، يقال: جهرت بالقول، أجهر به: إذا أعلنته. والجهر: العلانية. وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55] يعني: ما تصعقون منه، أي: تموتون، قال المفسرون: إن الله تعالى

أمر موسى أن يأتيه فِي ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم، وخرج بهم إلى طور سيناء، وسمعوا كلام الله عز وجل، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، ويغشاه عمود من غمام، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام، قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] أي: لن نصدقك {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ، فأخذتهم الصاعقة، وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] يريد: نظر بعضهم إلى بعض عند نزول الصعقة، وإنما أخذتهم لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته، حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا عاقبهم الله، وهذه الآية تتضمن التوبيخ لهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة، والتحذير لهم أن ينزل بهم ما نزل بأسلافهم. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] قال المفسرون: إنهم لما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] ، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله جميعا، رجلا بعد رجل، وهم ينظرون كيف يحيون، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] أي: نشرناكم وأعدناكم أحياء. والبعث: إثارة البارك والنائم عن مكانه، ونشر الميت كبعث النائم. قال قتادة: بعثهم الله تعالى ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، ولكن كان ذلك الموت عقوبة لهم على ما قالوا. قال الزجاج: والآية احتجاج على مشركي العرب الذين كفروا بالبعث، فاحتج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإحياء من بعث بعد موته فِي الدنيا فيما يوافقه اليهود والنصارى. وقوله تعالى: لعلكم تشكرون أي: نعمة البعث. قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] معناه: تسترناكم عن الشمس بالغمام، والظل معناه فِي اللغة: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان، أي: ستره، وظل الشجرة: سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل، لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] .

والغمام: جمع غمامة، وهي السحاب، سمي غماما لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل ما ستر شيئا فقد غمه. قال المفسرون: وهذا كان حين أبوا على موسى دخول تلقاء مدينة الجبارين فتاهوا فِي الأرض ثم ندموا على ذلك وكانت العزيمة من الله أن يحبسهم فِي التيه، فلما ندموا ألطف الله لهم بالغمام، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] كرامة لهم ومعجزة لنبيهم. والمن: الترنجبين، وكان كالعسل الجامس حلاوة، وكان يقع على أشجارهم بالأسحار، والسلوى: طائر كالسماني، والواحدة: سلواة، وأنشد الليث: كما انتفض السلواة من بلل القطر قال مقاتل: كان الله عز وجل يبعث سحابة فتمطر لهم السماني. وقوله: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا، من طيبات حلالات، ما رزقناكم والطيب: الحلال، لأنه طاب، وأصل الحرام يكون خبيثًا، وأصل الطيب: الطاهر، وسمي الحلال طيبا لأنه طاهر لم يتدنس بكونه حراما. وما ظلمونا أي: ما نقصونا وما ضرونا بالمعصية وإبائهم دخول تلك القرية، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] أي: ولكن ظلموا أنفسهم، ونقصوا حظها باستيجابهم عذابي. {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {59} } [البقرة: 58-59] وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما خرجوا من

التيه قال الله لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] . قال ابن عباس: هي أريحا. وقال قتادة، والسدي، والربيع: هي بيت المقدس. واشتقاق القرية من قريت، أي: جمعت، والمقرأة: الحوض يجمع فِيهِ الماء، ويقال لبيت النمل: قرية. لأنه يجمع النمل، فالقرية تجمع أهلها. وقوله: وادخلوا الباب يعني بابا من أبوابها، سجدا قال ابن عباس: ركعا. وهو شدة الانحناء، والمعنى: منحنين متواضعين. قال مجاهد: هو باب حطة من بيت المقدس، طوطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم فلم يخفضوا، ودخلوا متزحفين على أستاههم. وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] هي فعلة من الحط، وهو وضع الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال: حط الحمل عن الدابة. والسيل يحط الحجر عن الجبل، وقال امرؤ القيس: كجلمود صخر حطه السيل من عل فالحطة من الحط، مثل الردة من الرد، ويجوز أن يكون اسما، ويجوز أن يكون مصدرا.

وقال ابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير، فِي قوله تعالى: وقولوا حطة أي: مغفرة. فقالوا: حنطة. وقال مقاتل: إنهم أصابوا خطيئة بإبائهم على موسى دخول الأرض التي فِيها الجبارون، فأراد الله أن يغفرها لهم فقيل لهم: قولوا حطة. وقال الزجاج: معناه: قولوا مسألتنا حطة. أي: حط ذنوبنا عنا. وقوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] أصل الغفر: الستر والتغطية، وغفر الله ذنوبه، أي: سترها، وكل شيء سترته فقد غفرته، والمغفر: يكون تحت بيضة الحديد يغفر الرأس. وأجمع القراء على إظهار الراء عند اللام، إلا ما روي عن أبي عمرو من إدغامه الراء عند اللام. قال الزجاج: وهو خطأ فاحش، وأحسب الذين رووا ذلك عن أبي عمرو غالطين، ولا يدغم الراء فِي اللام، لأن الراء حرف مكرر، ولا يدغم الزائد فِي الناقص، فلو أدغمت الراء فِي اللام لذهب التكرير من الراء، وهذا إجماع النحويين. والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنب على عمد، قال أبو الهيثم: يقال: خطئ: لما صنعه عمدا وهو الذنب، وأخطأ: لما صنعه خطأ غير عمد. وقوله: وسنزيد المحسنين أي: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحسانا وثوابا. قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] التبديل: التغيير إلى بدل، والمعنى: أنهم غيروا تلك الكلمات التي أمروا بها وقالوا بدل حطة: حنطة. وهذا قول ابن عباس وجميع المفسرين. وقال الزجاج: جملة ما قالوه أنه أمر عظيم سماهم الله به فاسقين.

وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] الرجز: العذاب، قال تعالى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134] أي: العذاب، ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب العذاب، قال الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] ، وقال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] قيل: أراد به: عبادة الأوثان، لأنه سبب العذاب. قال الضحاك: أرسل الله تعالى عليهم ظلمة وطاعونا، فهلك منهم فِي ساعة واحدة سبعون ألفا عقوبة لهم بتبديلهم ما أمروا به. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60} وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {61} } [البقرة: 60-61] قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} [البقرة: 60] الآية، قال المفسرون: عطش بنو إسرائيل فِي التيه، فقالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك الحجر. قال ابن عباس: وكان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل، أمر أن يحمله معه، فكان يضعه فِي مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه، وضربه بعصاه فينفجر عيونا، لكل سبط عين. وقوله تعالى: فانفجرت فِيهِ اختصار، والمعنى: فضرب فانفجرت، أي: انشقت، والانفجار: الانشقاق، والفجر فِي اللغة: الشق، وسمي فجر النهار لشقه ظلمة الليل، وقوله {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] أراد: كل أناس منهم، يعني الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطا.

والمشرب يجوز أن يكون مصدرا كالشرب، ويجوز أن يكون موضعا. قال المفسرون: كان فِي ذلك الحجر اثنتا عشرة حفرة، فكانوا إذا نزلوا وضعوا الحجر، وجاء كل سبط إلى حفرته فحفروا الجداول إلى أهلها، فذلك قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] . وقوله تعالى: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مئونة، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [البقرة: 60 يقال: عثي يعثى عثوا، وهو أشد الفساد. قوله تعالى:] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] الطعام: اسم جامع لما يؤكل، وإنما قالوا: طعام واحد وكان طعامهم المن والسلوى، لأنهم كانوا يأكلون المن بالسلوى، فكان طعاما واحدا كالخبيص، لون واحد وإن اتُّخِذَ من أطعمةٍ شتَّى. قال المفسرون: إنهم ملوا عيشهم وما كانوا يأكلونه، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فقالوا لموسى: فادع لنا ربك أي: ادع لأجلنا ربك، وسله وقل له: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} [البقرة: 61] وهو كل نبات لا يبقى له ساق إذا رعته الماشية، وقثائها وهو نوع من الخضروات، وفومها وهو الحنطة بلا اختلاف بين أهل اللغة، فقال لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] أي: أقرب وأسهل متناولا بالرفيع الجليل الذي خصكم الله به؟ ! ويجوز أن يكون معنى الدنو فِي قرب القيمة، يقول: أتأخذون ما هو أقل قيمة بدلا بالذي هو خير فِي القيمة؟ ! ويجوز أن يكون أدنى من الدناءة، وهي الخسة، وترك همزها، والمعنى: أتستبدلون ما هو أوضع وأخس بالذي هو خير؟ ! وهذا اختيار الفراء.

وقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] أي: انزلوا مصرا من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار، وفي الكلام إضمار كأنه قيل: فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: اهبطوا مصرا، ويجوز أن يكون أراد: مصر بعينها، وصرفها لخفتها وقلة حروفها، مثل: جمل، ودعد، وهند. وقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61] أي: ألزموها إلزاما لا تبرح عنهم، وأصله من ضرب الشيء على الشيء، كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه. يقال: ضرب فلان على عبده ضريبة، وضرب السلطان على التجار ضريبة. أي: ألزمهم شيئا معلوما يؤدونه إليه. والذلة: الذل، والمسكنة: مصدر فعل المسكين، يقال: تمسكن الرجل، إذا صار مسكينا. قال الحسن، وقتادة: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ { [البقرة: 61 هي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وقال عطاء بن السائب: هي الكستينج وزي اليهودية، والمسكنة: زي الفقر، فترى المثري منهم يتباءس مخافةَ أن يضاعف عليه الجزية، ولا يوجد يهودي غني النفس. وقوله تعالى:] وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61] : أي: رجعوا، فِي قول الفراء، وقال الكسائي: انصرفوا به. ولا يكون باءوا إلا بشيء، إما بخير وإما بشر، يقال: باء يبوء بوءا وبواءا. ولا يكون باء بمعنى مطلق الانصراف.

وقال عبيدة، والزجاج: باءوا بغضب: احتملوه، يقال: قد بؤت بهذا الذنب. أي: احتملته، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] . ومعنى غضب الله ذمه إياهم، وإنزال العقوبة بهم. وقوله: ذلك إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61] قال ابن عباس: يريد: الحكمة التي أنزلت على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 61] يعني: من قتلهم اليهود من الأنبياء مثل زكريا ويحيى، وشعيا. وقوله: بغير الحق أي: قتلا بغير حق، يعني: بالظلم. وأكثر العرب على ترك همزة النبي وبابه، قال أبو عبيدة: اجتمعت العرب على حذف الهمزة من أربعة أحرف: من النبي، والذرية، والخابية، والبرية، وأصلها الهمزة. قال الزجاج، وعدة معه: اشتقاق النبي من نبأ، وأنبأ، أي: أخبر، وترك همزه لكثرة الاستعمال، وهذا مذهب سيبويه، واستردأ سيبويه همز النبي والبرية لأن الغالب فِي استعمالها تخفيف الهمزة. وحجة من همز النبي أن يقول: هو أصل الكلمة. ولا ينكر أن يؤتى بالكلمة على أصلها.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [البقرة: 61] أي: ذلك الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي، {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] يتجاوزون ويرتكبون محارمي، والاعتداء: تجاوز الحد. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] قوله تعالى: إن الذين آمنوا أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك، وقيل: أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، والذين هادوا أي: دخلوا فِي دين اليهودية، كقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] . واختلفوا لمَ سموا اليهود؟ فقال بعضهم: هو من الهود، وهو التوبة، ولما تابوا من عبادة العجل لزمهم هذا الاسم، يقال: هاد يهود، إذا تاب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] . وقيل: هو من الهيد، وهو الحركة، وذلك أنهم كانوا يتحركون عند قراءة التوراة فلزمهم هذا الاسم. والنصارى واحدهم: نصري، مثل: بعير مهري، وإبل مهارى، وسموا نصارى لأنهم كانوا من قرية يقال لها: نصرة. والصابئين يقال: صبأ الرجل فِي دينه يصبأ صبوءا، إذا كان صابئا. وهو الخارج من دين إلى دين، وهم قوم كانوا يعبدون النجوم ويعظمونها. وقال قتادة: هم قوم كانوا يعبدون الملائكة، وقال مجاهد: هم قبيلة من اليهود والمجوس لا دين لهم.

وقرأ نافع: الصابون، والصابين بترك الهمزة. ولا يجيز سيبويه ترك الهمز على هذا الحد إلا فِي الشعر، وأجازه أبو زيد وغيره، فهذه القراءة على قول من أجاز ذلك، والقراءة متبعة. وقوله تعالى: من آمن بالله أي: من جملة هؤلاء الأصناف المذكورة فِي هذه الآية، من آمن إيمانا حقيقيا، وهو أن يؤمن بالله وبرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والدليل على أنه أراد به الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: وعمل صالحا وقد قام الدليل على أن من لا يؤمن بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون عمله صالحا. وقوله تعالى: فلهم أجرهم جمع الكناية بعد أن وحد الفعل فِي قوله: آمن، لأن من يصلح للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، فالفعل يعود إلى لفظ من، وهو واحد مذكر، والكناية تعود إلى معنى من، ومثله فِي القرآن كثير، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] ، وقال فِي موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] . والمعنى: لا ينالهم خوف ولا يصيبهم حزن فِي الآخرة، لأنهم يصيرون إلى النعيم المقيم، والأمن الدائم. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {63} ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {64} } [البقرة: 63-64] قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 63] الآية، الطور: الجبل، بالسريانية، وقد تكلمت به العرب، قال العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر

قال المفسرون: إن موسى لما أتى بني إسرائيل بالتوراة قرءوها وما فِيها من التغليظ، كبر ذلك عليهم وأبَوا أن يقبلوا ذلك، فأمر الله عز وجل جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رءوسهم مثل الظلة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: إن قبلوا التوراة، وإلا رضختهم بهذا الجبل. فلما رأوا ذلك قبلوا ما فِيها وسجدوا من الفزع، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فمن أجل ذلك يسجد اليهود على أنصاف وجوههم، فهذا معنى أخذ الميثاق فِي حال رفع الجبل فوقهم، لأن فِي هذا الحال قيل لهم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] . وكان فيما آتاهم الله تعالى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي هذه الآية إضمار، لأن المعنى: وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم، أي: اعملوا بما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه. وقوله: بقوة قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: بجد ومواظبة على طاعة الله واجتهاد. واذكروا ما فِيهِ الكناية تعود إلى ما فِي قوله: ما آتيناكم، وهو التوراة. والمعنى: احفظوا ما فِي التوراة من الحلال والحرام، واعملوا بما فِيهِ، وقيل: اذكروا ما فِيهِ من الثواب والعقاب. لعلكم تتقون لكي تتقوا محارمي فتتركوها. قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 64] أي: أعرضتم وعصيتم أمر الله وتركتم طاعته، من بعد ذلك من بعد أخذ الميثاق، {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة: 64] بتأخير العذاب عنكم، {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64] بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65} فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {66} } [البقرة: 65-66] قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] العلم ههنا بمعنى المعرفة، كقوله

تعالى: {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ، و {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] هم الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت. كانوا أمروا ألا يصيدوا السمك فِي السبت، فحبسوها فِي السبت، وأخذوها فِي الأحد، فعدوا فِي السبت، لأن صيدها: منعها من التصرف. وذكر الله تعالى قصتهم فِي { [الأعراف فِي قوله تعالى:] وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [سورة الأعراف: 163] الآية. قال ابن الأنباري: السبت: القطع، وسمي السبت من الأيام سبتا، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فِيهِ، وقطع فِيهِ بعض الخلق، وخلق الأرض، ويقال: أُمِرَ فِيهِ بنو إسرائيل بقطع الأعمال وتركها. وقوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] أي: كونوا بتكويننا إياكم وتغييرنا خلقكم، وهذا أمر حتم ليس للمأمور فِيهِ اكتساب، ولا يقدر على دفعه عن نفسه. والقردة: جمع قرد، ويقال: قرد وثلاثة أقردة وقرود، وقردة كثيرة. وقوله تعالى: خاسئين الخسء: الطرد والإبعاد، يقال: خسأته فخسأ وانخسأ، فهو واقع ومطاوع. قال الفراء، والكسائي: يقال: خسأته خسئا، فخسأ خسوءا، مثل: رجعته رجعا فرجع رجوعا، وتقدير الآية: كونوا خاسئين قردة، لأنه لولا التقديم والتأخير لكان قردة خاسئة.

يخوف الله تعالى اليهود بهذه الآية فِي تركهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذكرهم ما أصاب من المسخ للذين اعتدوا فِي السبت، وهو قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا} [البقرة: 66] الآية، الكناية راجعة إلى القردة، وقال الفراء: الكناية راجعة إلى المسخة، لأن معنى كونوا قردة: مسخناهم قردة، فوقعت الكناية عن الكلام المتقدم. والنكال: اسم لما جعلته نكالا لغيره، إذا رآه خاف أن يعمل عمله، من قولهم: نكل عن الأمر ينكل نكولا، إذا جبن عنه. وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} [البقرة: 66] قال الزجاج: للأمم التي تراها. {وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] ما يكون بعدها، فما فِي قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] عبارة عن: الأمم، وتكون بمعنى من. وهذا قول ابن عباس، فِي رواية عطاء، قال: يريد: نكالا للخلق الذين كانوا معهم. وما خلفها ولجميع من يأتي إلى يوم القيامة، وقال، فِي رواية الكلبي: يقول: جعلناها عقوبة. لما بين يديها لما مضى من ذنوبهم، وما خلفها يعني: من بعدهم من بني إسرائيل، أن يستنوا بسنتهم ويعملوا بعملهم، وما الثانية تكون بمعنى من. وروى محمد بن الحصين، عن ابن عباس، قال: يعني: ما بين يديها من القرى وما خلفها وما خلفها، ويعتبرون بهم، فلا يعملون عملهم. وموعظة للمتقين: نهيًا لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتجاوزوا ما حد لهم. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ

الْجَاهِلِينَ {67} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ {68} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ {69} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ {70} قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ {71} وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ {72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {73} ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {74} } [البقرة: 67-74] قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] قال المفسرون: كان فِي بني إسرائيل رجل كثير المال، وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، ولما قتله حمله من قرية إلى قرية أخرى، ثم أصبح يطلب بثأره ودمه، واشتبه أمر القتيل على موسى، ووقع الخلاف فِيهِ، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك، فسأل موسى ربه، فأمره بذبح بقرة، فقال موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أي: أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة؟ ! وإنما قالوا ذلك لتباعد الأمرين فِي الظاهر، قال موسى، أعوذ بالله أي: أمتنع بالله، {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] أي: من المستهزئين بالمؤمنين. ولما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل سألوه الوصف، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. وقالوا لموسى، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] يقال: بين الشيء وأبانه، إذا أزال الإشكال عنه. والمعنى: يظهر لنا ما تلك البقرة التي نذبحها لأجل القتيل، وأي شيء هي؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} [البقرة: 68] قال الفراء: هي الهرمة. وقال الكسائي: الفارض: الكبيرة العظيمة، وقد فرضت تفرض فروضا. ولا بكر

يقال: بقرة بكر. أي: فتية لا تحمل، قال الزجاج: أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة. قال: وارتفع فارض بإضمار هي. وقوله تعالى: عوان قال أبو الهيثم: العوان: النصف التي بين الفارض والبكر. وقال أبو زيد: بقرة عوان: بين المسنة والشابة، وقد عانت تعون عونا إذا صارت عوانا. وقال ابن الأعرابي: العون من الحيوان: السن بين السنين، لا صغير ولا كبير، يقال فِي الجمع: عون. ويقال: فرس عوان، وخيل عون. قال ابن عباس: عوان: بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما يكون من البقر وأحسن ما يكون. وقال مجاهد: وعوان: وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين. وقوله تعالى: بين ذلك أي: بين الهرم والشاب، وبين الفروض والبكارة. وقوله تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] أي: من ذبح البقرة. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] يبين لنا أي شيء لونها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] ، فاقع: مبالغة فِي نعت الأصفر، قال ابن عباس: شديد الصفرة. قال عدي بن زيد: وإني لأسقى الشرب صفراء فاقعا ... كأن زكيَّ المسك فِيها يفتق

يقال: فقع يفقع فقوعا، إذا اشتدت صفرته. قوله تعالى: تسر الناظرين أي: تعجبهم بحسنها وصفاء لونها، لأن العين تسر وتولع بالنظر إلى الشيء الحسن. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 70] أسائمة أم عاملة، {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] اشتبه وأشكل، وذكر الفعل، والبقر: جمع بقرة، لتذكير اللفظ، كقوله: {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] ، وكل جمع حروفه أقل من حروف واحده جاز تذكيره، مثل: بقر، ونخل، وسحاب، فمن ذَكَّرَ ذهب إلى لفظ الجمع، ولفظ الجمع مذكر، ومن أنث ذهب إلى لفظ الجماعة، قال الله تعالى: {يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] ، وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] . قوله تعالى: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] قال ابن عباس: إلى القاتل. قال: ولولا أنهم استثنوا ما اطلعوا على القاتل. قال لهم موسى، إنه إن ربكم، {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة: 71] لم يذللها العمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة: 71] يعني: لا يزرع عليها، ليست من العوامل، ومعنى الإثارة ههنا: قلب الأرض للزراعة، يقال: أثرت الشيء واستثرته، إذا هيجته. {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة: 71] أي: ليست بسانية، والحرث: الأرض المهيأة للزرع، مسلمة قال ابن عباس، وقتادة، والربيع: أي: من العيوب. وقال الحسن: من أثر العمل. لا شية فِيها الوشي، والشية: خلط لون بلون، يقال: وشيت الثوب أشيه وشيا وشية. وأصل الدرء: الدفع، وادارأتم أصله: تدارأتم، ثم أدغم التاء فِي الدال، وأدخلت الألف ليسلم سكون

الحرف الأول، ومثله: اثاقلتم، واطيرنا، قوله: والله مخرج مظهر، ما كنتم تكتمون أي: تخفون وتسترون من أمر القتيل. فقال ابن عباس: لا بياض فِيها، صفراء كلها. وقال الزجاج: ليس فِيها لون يفارق سائر لونها. قالوا الآن وهو الوقت الذي أنت فِيهِ، جئت بالحق بالوصف البين التام الذي دل على التمييز من أجناسها. وقوله تعالى: فذبحوها فِي الآية إضمار ما، أراد: فطلبوها فوجدوها فذبحوها، وما كادوا يفعلون قال ابن عباس، والقرطبي: لغلاء ثمنها. وقال السدي: من تشديدهم على أنفسهم، وتعنتهم موسى. قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] هذا عطف على قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] ، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} [البقرة: 55] ، والذكر مضمر ههنا، كأنه قال: واذكروا إذ قتلتم نفسا. وأضاف القتل إليهم وإن كان القاتل واحدا على ما ذكرنا من عادة العرب أنهم يضيفون فعل البعض إلى جماعة القبيلة، يقولون: فعلتم كذا. وإن كان بعضهم فعل ذلك. وهذه الآية هي أول القصة، ولكنها مؤخرة فِي الكلام، ومعناه التقديم. قوله تعالى: فادارأتم فِيها قال ابن عباس: اختلفتم. وقال الربيع: تدافعتم. يعني: ألقى هذا على ذلك، وذلك على هذا، فدافع كل واحد عن نفسه. قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] قال ابن عباس: بالعظم الذي يلي الغضروف. وقال الضحاك: بلسانها. وقال سعيد بن جبير: بعجب ذنبها. وقال مجاهد: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا وقال: قتلني فلان. ثم عاد فِي ميتته، فذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] أي: كما أحيا هذا القتيل. وفي الآية اختصار، لأن التقدير: اضربوه ببعضها فيحيا، فضرب فحيي، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] . فإن قيل: ما معنى ضرب القتيل ببعض البقرة، والله قادر على إحيائه بغير ذلك؟ ! فالجواب: إن فِي ذلك تأكيدا لقدرة الله على إحياء الميت، إذ جعل الأمر فِي إحيائه إليهم، وجعل ذلك عند الضرب بموات لا

إشكال فِي أنه علامة لهم، وآية للوقت الذي يحيا فِيهِ عندما يكون منهم، فبان أنه من فعل الله عز وجل. قوله تعالى: ويريكم آياته أي: علامات قدرته فِي خلق الحياة فِي الأموات، لعلكم تعقلون: لكي تعرفوا قدرة الله عز وجل على إحياء الميت. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه القصة فِي القرآن من أدل الدلائل على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث خبرهم بما صدقه فِي ذلك أهل الكتاب، وهو رجل عربي أمي، لم يقرأ كتابا، ولم يتعلم من أحد، ولم يكن هذا من علم العرب. قوله تعالى: ثم قست قلوبكم يقال: قسا قلبه يقسو قسوة وقساوة وقسوا. وهي الشدة والصلابة واليبس، يقال: حجر قاس. أي: صلب، وأرض قاسية: لا تنبت شيئا. قال الزجاج: تأويل القسوة: ذهاب اللين والرحمة والخشوع. قوله تعالى: من بعد ذلك أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهدها أن يلين قلبه ويخضع، فهي كالحجارة قال المفسرون: إنما شبه قلوبهم بالحجارة فِي الغلطة والشدة، ولم يقل: كالحديد. وإن كان الحديد أصلب من الحجارة، لأن الحديد يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام بإذن الله حتى صار كالعجين، ولا تلين الحجارة بمعالجة أبدا، ولأن فِي الحديد منافع، تلك المنافع لا توجد فِي الحجارة، فشبه الله قلوبهم بالحجارة لقسوتها، ولعدم المنفعة فِيها. قوله تعالى: أو أشد قسوة معناه: بل أشد قسوة، وارتفع أشد بإضمار هي، كأنه قال: أو هي أشد. 36 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْشَاذَ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ

اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ الْجُوَيْنِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الثَّلْجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُكْثِرُوا الْكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] الكناية فِي منه عائدة على ما، كأنه قيل: وإن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار، يعني: من الحجارة ما يسيل منه أنهار من ماء، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} [البقرة: 74] أي: يتشقق، فأدغمت التاء فِي الشين، {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} [البقرة: 74] أي: ينزل ويسقط من رأس الجبل إلى أسفله، {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] قال مجاهد: كل حجر تفجر منه الماء، أو تشقق عن الماء، أو تردى من رأس جبل، فهو من خشية الله نزل فِي القرآن. ومعنى الآية: إن الحجارة قد تصير إلى هذه الأحوال التي ذكرها من خشية، الله وقلوب اليهود لا تخشع ولا

تخشى الله ولا تلين، لأنهم عارفون بصدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأن من كذبهم كانت النار عاقبته، ثم لا يؤمنون به، فقلوبهم أقسى من الحجارة. ثم أوعدهم على ترك الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] أي: أن يجازيكم على ذلك. ثم خاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ {76} أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {77} وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ {78} فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ {79} وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {80} بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {81} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {82} } [البقرة: 75-82] {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 75] وهذا استفهام معناه الإنكار والنهي، {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] أي: يصدقكم اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 75] أي: طائفة وجماعة، {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة: 75] يعني التوراة، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة: 75] أي: يغيرونه، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] علموه وفهموه، يعني: الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد عليه السلام، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي. وقال ابن عباس، ومقاتل: هم الذين انطلقوا مع موسى إلى الجبل فسمعوا كلام الله ثم حرفوه، وزادوا فِيهِ. وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم سألهم الذين لم يذهبوا معهم، فقالت طائفة منهم {لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] : سمعنا الله فِي آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم، فلا تفعلوا ولا بأس. فغيروا ما سمعوا، ولم يؤدوه على الوجه الذي سمعوه، فقيل فِي هؤلاء الذين شاهدهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم إن كفروا

وحرفوا فلهم سابقة فِي كفرهم، وهذا مما يقطع الطمع فِي إيمانهم. وقوله تعالى: وهم يعلمون أي: لم يفعلوا ذلك عن خطأ ونسيان، بل فعلوه عن قصد وتعمد. قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 76] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: يعني منافقي اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين قالوا: آمنا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبي صادق نجده فِي كتابنا بنعته وصفته. {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة: 76] إذا رجعوا إلى رؤسائهم لاموهم على ذلك، وقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76] قال الكلبي: قال: بما قص الله عليكم فِي كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق. وقال الكسائي: بما بينه الله لكم من العلم بصفة محمد النبي المبشر به ونعته. {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} [البقرة: 76] ليجادلوكم ويخاصموكم، يعني أصحاب محمد عليه السلام، ويقولون لليهود: قد أقررتم أنه نبي حق فِي كتابكم ثم لا تتبعونه! وقوله تعالى: عند ربكم قال ابن الأنباري: معناه: فِي حكم ربكم، كما تقول: هذا حلال عند الشافعي. أي: فِي حكمه. وهذا يحل عند الله. أي: فِي حكمه. والمعنى: لتكون لهم الحجة عليكم عند الله فِي الدنيا والآخرة، أفلا تعقلون أفليس لكم ذهن الإنسانية، وهذا من كلام رؤسائهم لهم فِي لومهم إياهم، فقال الله تعالى: أولا يعلمون يعني: اليهود، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [البقرة: 77] من التكذيب، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] من التصديق. قوله تعالى: ومنهم عبد الله: من اليهود، أميون قال الحجاج: معنى الأمي فِي اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمة. أي: لا يكتب، فهو فِي أنه لا يكتب على ما ولد عليه.

وقال غيره: قيل للذي لا يكتب: أمي، لأن الكتابة مكتسبة، أي: هو على ما ولدته أمه، لم يتعلم الكتابة. وقوله تعالى: لا يعلمون الكتاب قال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته. إلا أماني قال ابن عباس: إلا أحاديث، لا يعلمون إلا ما حدثوا به، وقال الفراء: الأماني: الأحاديث المفتعلة، يقول الله تعالى: لا يعلمون الكتاب، ولكن أحاديث مفتعلة ليست كتاب الله، يسمعونها من كبرائهم، وهي كلها أكاذيب. والعرب تقول: أنت إنما تمتني هذا القول. أي: تختلقه. وقال أحمد بن يحيى: التمني: الكذب، يقول الرجل: والله ما تمنيت هذا الكلام ولا اختلقته. وقال الحسن، وأبو العالية، وقتادة فِي قوله تعالى: إلا أماني: أي: إلا أن يتمنوا على الله الباطل والكذب مثل قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] ، وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . قال ابن الأنباري: والاستثناء على هذا التأويل منقطع عن الأول، يريد: لا يعلمون الكتاب البتة، لكنهم يتمنون على الله ما لا ينالون. وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] قال ابن عباس: لا يعلمون ولا يدرون ما هم فِيهِ وهم يجحدون نبوتك بالظن. وقال أصحاب المعاني: ذم الله بهذه الآية قوما من اليهود لا يحسنون شيئا، وليسوا على البصيرة إلا ما

يحدثون به، وإلا ما يقرءونه من غير علم به، ففيه حث على تعلم العلم، حتى لا يحتاج الإنسان إلى تقليد غيره وأن يقرأ شيئا لا يكون له به معرفة. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] روى أبو سعيد الخدري، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " ويل: واد فِي جهنم، يهوي فِيهِ الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ". وقال عطاء بن يسار: الويل: واد فِي جهنم لو سيرت فِيهِ الجبال لانماعت من حره. وقال الزجاج: الويل: كلمة يستعملها كل واقع فِي هلكة. وقال الكلبي، عن ابن عباس فِي قوله: فويل، قال: الشدة من العذاب. {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] يعني: يغيرون صفة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كتابهم، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان ربعة أسمر، وكتبوا صفته على غير ما كانت فِي التوراة، وذلك لما كانوا يأخذونه من المآكل من سائر اليهود، فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن هم بينوا الصفة، فذلك قوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . 37 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شَبِيبٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "

أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَجَدُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبَةً فِي التَّوْرَاةِ: أَكْحَلَ، أَعْيَنَ رَبْعَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي التَّوْرَاةِ مَحَوْهُ حَسَدًا وَبَغْيًا، فَأَتَاهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: أَتَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ نَبِيًّا مِنَّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، نَجِدُهُ طَوِيلا أَزْرَقَ سَبِطَ الشَّعْرِ " قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] قال ابن عباس: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، ويهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع عنا العذاب. فأنزل الله فِي ذلك: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] أي: قليلة. والمعدودة إذا أطلقت كان معناها: القليلة، كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] فقال الله عز وجل: قل لهم يا محمد، {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة: 80] أي: هل أخذتم بما تقولون من الله ميثاقا؟ ! فالله لا ينقض ميثاقه، {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} [البقرة: 80] الباطل جهلا منكم. والمعنى: قل لهم: على أي الحالتين أنتم على اتخاذ العهد؟ أم على القول ب ما لا تعلمون؟ قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] قال الفراء: بلى يكون جوابا للكلام الذي فِيهِ الجحد، فإذا قال الرجل: ألست تقوم؟ فتقول: بلى. ونعم جواب للكلام الذي لا جحد فِيهِ، فإذا قال الرجل: هل تقوم؟ قلت: نعم. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى} [الملك: 8-9] ، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] والآية رد على اليهود فِي قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، فقال الله تعالى: بلى أعذب من كسب سيئة. والسيئة: العمل القبيح. وإجماع أهل التفسير أن السيئة ههنا هي الشرك، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] أي: سدت عليه مسالك النجاة، والخطيئة: الذنب على عمد.

قال ابن عباس، والضحاك، وأبو وائل، وأبو العالية، والربيع، وابن زيد: هي الشرك يموت عليه الإنسان. وقال غيرهم: هي الذنوب الكبيرة الموجبة لأهلها النار. والمؤمنون لا يدخلون فِي حكم هذه الآية، لأن الله تعالى أوعد بالخلود فِي النار من أحاطت به خطيئة وتقدمت منه سيئة هي الشرك، والمؤمن، وإن عمل الكبائر، فلم يوجد منه الشرك. وقرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والباقون: على الواحدة، لأنها أضيفت إلى ضمير مفرد، فلما لم يكن الضمير جمعا لم يجمع كما جمعت فِي قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف: 161] ، لأنه مضاف إلى جماعة، وهي وإن كانت مفردة لا يمتنع وقوعها على الكثرة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] والعد إنما يقع على الجموع. ومن قرأ بالجمع حمل على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة لا الواحد، والضميرُ المضافُ إليه جمعٌ فِي المعنى، بدليل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] . {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ {83} وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {85}

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {86} } [البقرة: 83-86] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} [البقرة: 83] قرئ بالياء والتاء، وما كان من مثل هذا جاز أن يكون على لفظ الغيبة، من حيث كان اللفظ لها، وجاز أن يكون على لفظ المخاطب، لأنك تحكي حال الخطاب وقت ما تخاطب، ألا ترى أنهم قد قرءوا قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون على لفظ الغيبة، وبالتاء على حكاية حال الخطاب، وإذا كان هذا النحو جائزًا جاز أن تجيء القراءة بالوجهين. قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، كأنه لما قال: أخذنا ميثاقهم. قال: وقلنا لهم: أحسنوا بالوالدين إحسانا. ويقال: أحسن به، وأحسن إليه. قال الله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ، وقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ومعنى الإحسان بالوالدين: البر بهما والعطف عليهما. وقوله: وذي القربى يعني: القرابة فِي الرحم، واليتامى جمع يتيم، مثل: نديم وندامى، وهو المنفرد من أبيه ما دام طفلا، والمساكين يعني الفقراء {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل، والأكثرون: وقولوا للناس صدقا وحقا فِي شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا له صفته، ولا تكتموا أمره، ولا تغيروا نعته. وقال الربيع، وعطاء، ومحمد بن علي الباقر: هذا على العموم فِي تحسين المقالة للناس كلهم. وقال الحسن، والثوري: يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن يأمروهم بما أمرهم الله به، وينهوهم عما نهاهم الله عنه.

وقال عطاء، عن ابن عباس: المراد بالناس فِي هذه الآية: محمد عليه السلام، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] ، فكأنه يقول: قولوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسنا. وقرئ: حسنا وحسنا، وكلاهما واحد، لأن الحسن لغة فِي الحسن، كالبخل والبخل، والرشد والرشد، وبابه، حكى الزجاج عن الأخفش هذا القول فقال: زعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا فِي معنى حسنا. وقوله تعالى: ثم توليتم أي: أعرضتم عن العهد والميثاق، إلا قليلا منكم يعني: من كان ثابتا على دينه ثم آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنتم معرضون كأوائلكم فِي الإعراض عما عهد إليكم فِي كتابكم، ومعنى الإعراض: الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة: 84] السفك: صب الدم، يقال: سفك يسفك ويسفك: لغتان، ودماء: جمع دم. قال ابن عباس، وقتادة: لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق. {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84] أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره وغلبه عليها، ثم أقررتم أي: قبلتم ذلك وأقررتم به، وأنتم تشهدون اليوم على إقرار أوائلكم بأخذ الميثاق عليهم. قوله: ثم أنتم الخطاب لقريظة والنضير، هؤلاء أراد: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، تقتلون

أنفسكم يقتل بعضكم بعضا، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85] روى الربيع، عن أبي العالية، قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكون دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وإن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. وقد كشف السدي عن هذا فقال: أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، وذلك أن قريظة كانت حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون، وذلك أن قريظة مع الأوس، والنضير مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقولون: إنا قد أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم الله تعالى عليه فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 85] ، قرئ بتخفيف الظاء وتشديدها، فمَن شدَّد أدغم التاء فِي الظاء لمقاربتهما، ومَن خفَّف حذف التاء لكراهة اجتماع المثلين، والمعنى: تتعاونون على أهل ملتكم بالمعصية والظلم. والمظاهرة: المعاونة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4] ، وقوله: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48] ، وقوله تعالى: {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85] العدوان: الإفراط فِي الظلم، يقال: عدا عدوا وعدوانا وعدوا وعداء. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85] وإن أتوكم مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم، وقرئ أسارى، وأسرى، وهما جمع أسير، وأسير: فعيل فِي معنى مفعول، وإذا كان كذلك فجمعه: فعلى، نحو لديغ

ولدغى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى فالأسرى هو القياس فِي جمع أسير. ومن قال: أسارى شبهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسرى كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته، شبه به، فقيل فِي جميعه: أسارى. كما قيل: كسالى. قال سيبويه: قالوا: كسلى. شبهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى. شبهوه بكسالى. وقوله تعالى: تفادوهم قرئ أيضا بوجهين: بألف: من المفاداة، وبغير ألف: من الفداء، يقال: فديته بمال. قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، ويقال: فادى الأسير، إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا. ومعنى فديته بالشيء: خلصته به، وجعلته عوضا عنه صيانة له، والقراءتان معناهما واحد، وإنك تقول: فديته بالمال وفاديته وافتديته. قال طرفة: على مثلها أمضي إذا قال صحابي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدي ومعنى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] : خلصناه به من الذبح. والمفعول الثاني محذوف من الآية، لأن المعنى: تفدونهم، أو تفادونهم بالمال. وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85] هو إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره فِي قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا} [البقرة: 85] ، ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي حرم عليهم الإخراج، فقال: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 85] ، ولو اقتصر على هذا القدر اشتبه أن يرجع ذلك إلى فداء الأسرى، فأظهر المكني عنه وأعاده فقال: إخراجهم، ونظم الآية، على التقدير والتأخير، لأن التقدير: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وهو محرم عليكم إخراجهم وإن يأتوكم أسرى تفدوهم. والمحرم: الممنوع منه، والحرام: كل ممنوع من فعله، والمحروم: الممنوع منه ما ناله سواه.

وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: 85] يعني فداء الأسرى، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] يعني المقاتلة والإخراج من الديار، وقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [البقرة: 85] استفهام فِي معنى توبيخ، {إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85] يعني ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا من مساكنهم، وبني قريظة أبيروا بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. والخزي: الهوان والفضيحة، وقد أخزاه الله، أي: أهانه وفضحه، وفي القرآن: {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] أي: لا تفضحون. ثم أعلم الله تعالى أن ذلك غير مكفرٍ عنهم ذنوبَهم فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ} [البقرة: 85] يرجعون، إلى أشد العذاب أي: لا روح فِيهِ باتصال أجزائه، وقيل: إلى عذاب أشد من عذاب الدنيا. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] وعيد لهم وتهديد، فمن قرأ بالياء فهو على الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ثم أخبر أنهم استبدلوا قليل الدنيا بكثير الآخرة فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86] أي: اختاروا الحياة فِي هذه الدنيا بالنعيم المقيم والعز الدائم فِي الآخرة، فلا يخفف أي: لا يهون، {عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 86] أي: يمنعون من عذاب الله. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ {87} وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ {88} وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {89} بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ {90} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ

آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {91} } [البقرة: 87-91] قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87] أي: أرسلنا رسولا يقفو رسولا فِي الدعاء إلى توحيد الله والقيام بشرائع دينه، يقال: قفا أثره، وقفا غيره على أثره. أي: أتبعه إياه، {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 87] وهي العلامات الواضحة التي ذكرها فِي { [آل عمران، والمائدة، وأيدناه قويناه، يقال: آيده وأيده، إذا قواه. والأيد والآد: القوة، بروح القدس قال قتادة والربيع، والضحاك، والسدي، وعطاء، عن ابن عباس: إنه جبريل، وكان قرينه يسير معه حيثما سار، وصعد به إلى السماء لما قصد قتله، ومثله قوله تعالى:] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [سورة النحل: 102] يعني: جبريل، وإنما سمي بذلك لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وأضيف إلى القدس، وهو الطهارة، لأنه لا يقترف ذنبا ولا يأتي مأثمًا. وقرئ القدس بالتخفيف والتثقيل، وهما نعتان مثل: العنق والعنق، والحلم والحلم، وبابه. قوله تعالى: أفكلما جاءكم يا معشر اليهود، {رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87] بما لا يوافق أهواءكم، استكبرتم أي: تعظمتم عن الإيمان به، وذلك أنهم كانت لهم الرياسة وكانوا متبوعين، فآثروا الدنيا على الآخرة، ففريقا كذبتم مثل: عيسى ومحمد عليهما السلام، وفريقا تقتلون مثل: يحيى وزكريا عليهما السلام، نظير قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] ، والفريق: الطائفة من الناس.

ولما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا عرفوا أنه الوحي، يوبخهم الله تعالى بما صنعوا. وقالوا يا محمد، قلوبنا غلف وهو جمع أغلف، وكل شيء فِي غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف، إذا لم يختتن. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: إنهم قالوا استهزاء وإنكارا لما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلوبنا عليها غشاوة، فهي أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد. فأكذبهم الله فيما قالوا، وقال: بل لعنهم الله أي: أبعدهم من رحمته وطردهم، واللعن فِي اللغة: الإبعاد، ثم يسمى التعذيب والسب والشتم لعنا. يقول الله تعالى: ليس كما ذكروا من أن قلوبهم فِي الغلاف فلا تفهم، ولكن الله لعنهم وأخزاهم ولم يجعل لهم سبيلا إلى فهم ما يقول محمد، وإن فهموا حرموا الانتفاع به. فهذا معنى لعن الله اليهود فِي هذا الموضع. وقوله تعالى: بكفرهم أي: بإقامتهم على كفرهم، وتركهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الله جزاءهم على ذلك أن لعنهم، فقليلا ما يؤمنون قال قتادة: معناه: لا يؤمنون منهم إلا قليل، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود. وما صلة، وانتصب قليلا على الحال على تقدير: فيؤمنون قليلا كعبد الله بن سلام وأصحابه. والآية رد على القدرية، لأن الله تعالى بين أن كفرهم بسبب لعنه إياهم، وأنه لما أراد كفرهم وشقاءهم منعهم الإيمانَ. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] يعني القرآن، مصدق موافق، لما معهم لأنه جاء على ما تقدم به الأخبار فِي التوراة، فهو مصداق الخبر المتقدم، وكانوا يعني اليهود، من قبل أي: من قبل

هذا الكتاب، {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] يستنصرون الله عليهم بالقرآن والنبي المبعوث آخر الزمان. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنما نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا فِي آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم. فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني الكتاب، وذلك أنهم كانوا قد قرءوا فِي التوراة أن الله يبعث فِي آخر الزمان نبيا وينزله عليه قرآنا مبينا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] . وقوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 90] بئس: لفظ وضع للذم، يخبر به عن الشيء المذموم، وهو مستوف لجميع الذم، ومعنى الاشتراء ههنا: البيع، وهو من الأضداد، والمعنى: بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر، يريد: أنهم اختاروا الكفر وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنار، لأن اليهود، خصوصًا، علموا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من كذبه فالنار عاقبته، فاختاروا الكفر وسلموا أنفسهم للنار، فكان ذلك كالبيع منهم. وقوله تعالى: بغيا أي: حسدا، قال اللحياني: يقال: بغيت على أخيك بغيا. أي: حسدته، فالبغي أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغيا لأن الحاسد يظلم المحسود جهده، طلبا لإزالة نعمة الله عنه، قال الله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] ، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] ، وقال ابن عباس: إن كفر اليهود لم يكن شكا ولا اشتباها، ولكن كان بغيا منهم، حيث صارت النبوة فِي ولد إسماعيل، وقال السدي: لما جاءهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟

وقوله تعالى: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [البقرة: 90] أي: إنزال الله، والمعنى: حسدا إنزال الله الكتاب، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90] يعني محمدًا عليه السلام، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] قال قتادة: الأول: بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بكفرهم بمحمد والقرآن. وقال السدي: أما الغضب الأول: فحين غضب الله عليهم فِي عبادة العجل، والثاني: حين كفروا بمحمد عليه السلام. وقال مجاهد: الأول: بتبديلهم التوراة قبل خروج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني: بجحودهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفرهم بما جاء به. وللكافرين يعني: الجاحدين نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عذاب مهين يهانون فِيهِ ولا يعزون. وقوله: وإذا قيل لهم أي: لليهود، آمنوا بما أنزل الله يعني القرآن، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] يعنون التوراة، {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] قال ابن الأنباري: تم الكلام عند قوله: بما أنزل علينا، ثم ابتدأ الله تعالى بالإخبار عنهم فقال: ويكفرون بما وراءه أي: بما سواه. وقال الفراء: وذلك كثير فِي العربية، يتكلم الرجل بالكلام الحسن، فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيء. يريد: ليس سوى هذا الكلام شيء، ويحتمل بما وراءه: بما بعده، أي: بما بعد التوراة. يريد: الإنجيل والقرآن، ومثل هذا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي: ما بعده وما سواه، وقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] .

قوله تعالى: وهو الحق يعني ما وراء التوراة من الإنجيل والقرآن، أخبر الله تعالى أن ما يكفرون به هو الحق، مصدقا لما معهم قال الزجاج: فِي هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم، إذ كفروا بما يصدق ما معهم، قال: ونصبت مصدقا على الحال. ثم أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وهذا تكذيب لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي: أي كتاب جوز فِيهِ قتل نبي، وأي دين جوز فِيهِ ذلك؟ والمراد بلفظ الاستقبال ههنا: المضي، وجاز ذلك لأنه لا يذهب الوهم إلى غيره بقوله: من قبل، ودليل هذا قوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] ، وأضاف القتل إلى المخاطبين، وإن كان آباؤهم قد قتلوا، لأنهم كانوا يتولون الذين قتلوا، فهم على مذهبهم، وإذا كانوا كذلك فقد شركوهم. قال ابن عباس: كلما عملت معصية فمن أنكرها برئ منها، ومن رضي بها كان كمن شهدها. وقوله تعالى: إن كنتم مؤمنين: إن بمعنى الشرط وجوابها قبلها، على تقدير: إن كنتم مؤمنين فلمَ تقتلون أنبياءَ اللهِ؟ لأنه ليس سبيل المؤمنين أن يقتلوا الأنبياء، ولا يتولوا قاتليهم. {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {93} } [البقرة: 92-93] قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92] يعني: العصا، واليد، وفلق البحر، وما أوتي موسى من الدلالات الواضحة، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 92] أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل، وأنتم ظالمون، وهذه الآية توبيخ لليهود على كفرهم وعبادتهم العجل بعدما رأوا آيات موسى، وبيان أنهم إن كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بأعجب من كفرهم فِي زمان موسى. وقوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم مفسر فيما سبق إلى قوله: واسمعوا أي: ما فِيهِ من حلاله وحرامه، قالوا سمعنا ما فِيهِ، وعصينا ما أمرنا به.

وقال الحسن: قالوا سمعنا بألسنتهم، وعصينا بقلوبهم. والمفسرون اتفقوا على أنهم قالوا: سمعنا لما أظل الجبل فوقهم، فلما كشف عنهم قالوا: عصينا. وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] الإشراب: خلط لون بلون، يقال: أبيض مشرب حمرة، إذا كان يخالطه حمرة. قال أبو عبيدة، والزجاج: معناه: سقوا حب العجل، وخلطوا به حتى اختلط بهم. وبين أن محل ذلك الحب قلوبهم، وأن الخلط حصل فِيها، فأسند الفعل أولا إلى الجملة، ثم خص القلوب، كما تقول: ضربوا على رءوسهم، وأراد: حب العجل، فحذف المضاف، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ أي: باعتقادهم التشبيه، لأنهم طلبوا ما يتصور فِي نفوسهم. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] معناه: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر. وهذا تكذيب لهم، لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، وذلك أنهم قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] فكذبهم الله تعالى وعيرهم بعبادة العجل، وذلك أن آباءهم ادعوا الإيمان ثم عبدوا العجل. {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {94} وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {95} وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96} } [البقرة: 94-96] وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} [البقرة: 94] الآية، كانت اليهود تقول: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] فقيل لهم: إن كنتم صادقين عند أنفسكم فتمنوا الموت فإن من كان لا يشك فِي أنه صائر إلى الجنة فالجنة آثر عنده من الدنيا.

ثم أخبر أنهم لا يتمنون الموت فقال: ولن يتمنوه أبدا وذلك أنهم عرفوا أنهم كفرة، ولا نصيب لهم فِي الجنة، لأنهم تعمدوا كتمان أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيبه، وقوله تعالى: بما قدمت أيديهم أي: بما قدموه وعملوه، فأضاف ذلك إلى اليد، وإن أكثر جنايات الإنسان تكون بيده، فيضاف إلى اليد كل جناية، وإن لم يكن لليد فِيها عمل، وقوله تعالى: والله عليم بالظالمين فِيهِ معنى التهديد، أي: عليم بمجازاتهم. وفي هذه الآية أبينُ دلالةٍ على صدق نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أُخبر عن الله أنهم لا يتمنون الموت، ثم لم يرد، مع حرصهم على تكذيبه، أن أحدًا أتاه وقال: يا محمد، أنا أشتهي الموت وأتمناه. لأنهم علموا أنهم لو تمنوا، لم يبق منهم صغير ولا كبير إلا مات، فكان إحجامهم عن ذكر الموت دليلا على عنادهم الحق وتكذيب من يعرفون صدقه. قوله تعالى: ولتجدنهم دخلت اللام والنون لأن القسم مضمر، تقديره: والله لتجدنهم، يعني علماء اليهود الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار إذا ماتوا. ومعنى الحرص: شدة الطلب، ومن الذين أشركوا أي: وأحرص من الذين أشركوا، ومعنى الإشراك: عبادة غير الله مع الله، وهو أن يجعل عبادته مشتركة بين الله وغيره. قال أبو العالية، والربيع: أراد بالذين أشركوا: المجوس، وإنما وصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة، ويزدان وأهرمن، وهم موصفون بالحرص على الحياة، ولهذا جعلوا التحية بينهم: زه هزار سال. أي: عش ألف سنة. وقال ابن عباس: أراد بالذين أشركوا: منكري البعث، ومن أنكر البعث أحب الحياة، لأنه لا يرجو بعثا بعد الموت.

وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة: 96] أي: أحد اليهود، يقال: وددت الشيء أوده ودا وودادا وودادة. {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] يقال: عمره الله تعميرا، إذا أطال عمره. وما هو أي: وما أحدهم، {بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96] بمبعده، {مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] والزحزحة: الإبعاد والتنحية، يقال: زحزحه فتزحزح. يعني: إنه وإن عمر فعاقبته النار. {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {97} مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {98} وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ {99} أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {100} } [البقرة: 97-100] قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية، سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن يأتيه من الملائكة، فقال: «جبريل» . فقالوا: هو عدونا، ولو أتاك ميكائيل بالوحي لقبلنا منك. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وجبريل فِيهِ لغات، وكذلك ميكائيل وإسرائيل، وهذه أسماء أعجمية وقعت إلى العرب، فإذا أتي بها على ما فِي أبنية العرب مثله كان أذهب فِي باب التعريب. فمن قال: جبريل. بكسر الجيم وحذف الهمزة، كان على لفظ: قنديل وبرطيل، ومن قال: جبريل. بفتح الجيم وترك الهمزة، فليس بهذا البناء مثل فِي كلام العرب فيكون هذا من باب الآجر والإبريسم والفرند، ونحو ذلك من الذي لم يجئ له مثل فِي كلامهم،

ومن قال: جبرئل. على وزن جبرعل، كان على وزن جحمرش، وصهصلق. وجبرئيل: على وزن عندليب، وكلا المذهبين حسن، لاستعمال العرب لهما جميعا. قال جرير: عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكالا وقال حسان: وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء وقال كعب بن مالك: ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فِيهِ مع النصر جبريل وميكال وقال جماعة من أهل العلم: جبر، وميك: هو العبد بالسريانية، وإيل: هو الله عز وجل. وروي عن ابن عباس، أنه قال: إنما جبريل وميكائيل كقولنا: عبد الله وعبد الرحمن. وقوله: فإنه يعني جبريل، نزله يعني القرآن، {عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] يعني قلب محمد عليه السلام، بإذن الله بأمر الله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97] رد على اليهود حين قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة. فقيل: إنه، وإن كان ينزل بالحرب والشدة على الكافرين، فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين. وعنى بالهدى والبشرى: القرآن، فإن فِيهِ هدى من الضلالة وبشرى بالجنة لمن آمن به. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] الآية. إن اليهود قالت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن صاحب محمد من الملائكة جبريل وهو عدونا يطلع محمدًا على سرنا، وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة. فقال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فإنه عدو لميكائيل، ومن كان عدوا لهما فإن الله عدو له. ثم أتى عمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد جبريل عليه

السلام قد سبقه بالوحي، فقرأ عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيات، وقال: «لقد وافقك ربك يا عمر» . قال عمر: فلقد رأيتني فِي دين الله أصلب من الحجر. ومعنى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] أي: من كان الله عدوه، ولا تصح العداوة لله على الحقيقة، لأن العداوة للشيء: طلب الإضرار به بغضا به، وإنما قيل للكافر: عدو لله. من عداوة الله له، أو لأنه يفعل فعل المعادي. وقوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] : أخرجهما الله من جملة الملائكة، بالذكر تخصيصا وتشريفا لهما، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، وكقوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ بعد قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 109] ، ومعنى الآية: من كان عدوا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له، وهو قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] لأن عدو الواحد عدو للجميع، وعدو محمد عدو لله، ومعنى {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] : أنه تولى تلك العداوة بنفسه، وكفى رسله وملائكته أمر من عاداهم. وإنما قال: عدو للكافرين ولم يقل: عدو لهم. ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [البقرة: 99] قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا، حيث قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله هذه الآية. والبينة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة، لأنها من إبانة أحد الشيئين عن الآخر فيزول الالتباس بها. قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99] أي: الخارجون عن أديانهم، واليهود خرجت، بالكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن شريعة موسى. قوله تعالى: أوكلما الواو فِيهِ: عطف واو العطف، ودخل عليها ألف الاستفهام، وكلما: ظرف، وقوله: {عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100]

قال المفسرون: إن اليهود عاهدوا، فيما بينهم: لئن خرج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمنن به، وليكونن معه على مشركي العرب. فلما بُعث نقضوا العهد وكفروا به. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين اليهود فنقضوها، كفعل قريظة والنضير، عاهدوا ألا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق. وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] لأنهم من بين كافر ينقض العهد، أو كافر بالجحد لأمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكثرهم غير مؤمنين. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ {101} وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {102} وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {103} } [البقرة: 101-103] قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101] أي: من نعته وصفته، جاءهم على النعت الذي نعت به فِي التوراة، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] يعني علماء اليهود الذين تواطئوا على كتمان أمر محمد عليه السلام. قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] يجوز أن يكون المراد ب كتاب الله: القرآن، ويجوز أن يكون المراد به: التوراة، لأن الذين كفروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبذوا التوراة، والنبذ: الطرح، ويقال لكل من استخف بشيء ولم يعمل به: نبذه وراء ظهره. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكن نبذوا العمل به.

وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه فِي الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. وقوله تعالى: كأنهم لا يعلمون أعلم الله تعالى أنهم نبذوا كتاب الله ورفضوه عن علم بعظيم ما يفعلون، حتى كأنهم لا يعلمون ما يستحقون من العذاب، ثم أخبر أنهم رفضوا كتابه، واتبعوا السحر فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: تقرأ وتحدث وتقص، والمراد بلفظ الاستقبال: المضي، بمعنى: تلت الشياطين، {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] قال السدي: إن الناس، فِي زمن سليمان، اكتتبوا السحر، واشتغلوا بتعلمه، فأخذ سليمان تلك الكتب وجعلها فِي صندوق، ودفنها تحت كرسيه، ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان، وذهب الذين كانوا يعرفون دفنه الكتب، تمثل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوا قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا. فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب، فذلك أكثر ما يوجد السحر فِي اليهود، وبرأ الله عز وجل سليمان من ذلك، وأنزل هذه الآية. وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] أي: لم يكن كافرا ساحرا يسحر ويعمل بالسحر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] بالله. وفي ولكن قراءتان: التشديد ونصب الاسم به، والتخفيف ورفع الاسم به، وهذا الحرف إذا استعمل

مثقلا كان عاملا فِي الاسم، وعمله النصب، وإذا استعمل مخففا لم يعمل النصب وكان حرف عطف. وقوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] يعني: الشياطين إذا حدثوا بالسحر وتكلموا به وألقوه بين الناس، ويجوز أن يكون يعلمون من فعل اليهود الذين عنوا بقوله: واتبعوا. قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] موضع ما نصب عطفا على السحر. ومعنى {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102] : علِّما وأُلْهِمَا، وقذف فِي قلوبهما من علم التفرقة بين المرء وزوجه، وهو رقية وليس بسحر، والرخصة فِي الرقية واردة، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا» . وروى طلحة، عن عطاء، قال: بلغني أن هاروت وماروت قالا، وهما فِي السماء: أي ربنا، إنك لتعصى فِي الأرض. قال: فاهبطا إلى الأرض. فجعلا يحكمان بين الناس، حتى جاءتهما امرأة من أحسن الناس وأجملهم تخاصم زوجا لها، فقال أحدهما للآخر: هل سقط فِي نفسك مثل الذي سقط فِي نفسي؟ قال: نعم. قال: فهل لك أن تقضي لها على زوجها؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من المغفرة والرحمة؟ فسألاها نفسها، فقالت لهما: لا، إلا أن تقضيا على زوجي. فقضيا عليه ثم سألاها نفسها، فقالت: لهما: لا، إلا أن تقتلاه، فأفرغ لكما. فقال أحدهما للآخر: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من المغفرة والرحمة؟ فقتلاه، ثم سألاها نفسها، فقالت: لا، إلا أن لها صنما تعبده، إن أنتما صليتما معي عنده فعلت. فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول، وقال له صاحبه مثل قوله الأول، فصليا معها عنده، فمسخت عند ذلك شهابا، وأخذا عند ذلك، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.

قال عطاء: فبلغني أنهما معلقان بأرجلهما، مصوبة رءوسهما تحت أجنحتهما، وبابل: اسم أرض فِي جانب العراق. وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] اختلفوا فِي تعليم الملكين السحر، فذكر أهل التفسير وأصحاب المعاني فِيهِ وجهين: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حرم عليهم، وطاعة الله فيما أمروا به ونهوا عنه، وفي ذلك حكمة، لأن سائلا لو سأل: ما الزنى وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر وحرام. ويؤكد هذا الوجه ما روى أبو العباس، عن ابن الأعرابي، أنه قال: علم بمعنى: أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك من الإعلام، كما يقال: تعلم، بمعنى: علم. لأن من تعلم شيئا فقد علمه، فيوضع التعليم موضع العلم. قال ابن الأعرابي: ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] قال: معناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول:

أخبراني عما نهى الله عنه حتى أنتهي. فيقولان: نهى الله عن الزنى. فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن اللواط. ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن السحر. فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا. فيحفظه وينصرف، فيخالف فيكفر. فهذا معنى قوله: يعلمان أنما هو يعلمان. ولا يكون تعليم السحر، إذا كان إعلاما، كفرا، ولا تعمله، إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه، كفرا، كما أن من عرف الزنى لم يأثم، إنما يأثم بالعمل. الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناس بالملكين فِي ذلك الوقت، وجعل المحنة فِي الكفر والإيمان أن يقبل تعليم السحر، فيكفر بتعلمه، ويؤمن بشرك التعلم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء، كما امتحن بنهر طالوت فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] ، يدل على صحة هذا: قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] أي: محنة من الله، نخبرك أن عمل السحر كفر بالله وننهاك عنه، فإن أطعتنا فِي ترك العمل بالسحر نجوت، وإن عصيتنا فِي ذلك هلكت. ومعنى من أحد: أحدا، ومن زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد. ومعنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، مأخوذ من قولهم: فتنت الذهب والفضة، إذا أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد. ومن هذا قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] قيل فِي التفسير: وهم لا يبتلون فِي أنفسهم وأموالهم. {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] أي: اختبرنا، ويقال: فتنه وأفتنه. والفتنة مصدر، لذلك لم يُثَنَّ.

وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وهو أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه، وما هم أي: السحرة، وقيل: الشياطين. بضارين به أي: بالسحر، من أحد أي: أحدا. إلا بإذن الله قال المفسرون: الإذن ههنا: إرادة التكوين. أي: لا يضرون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه الضرر. وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] المعنى: أنه يضرهم فِي الآخرة وإن تعجلوا به فِي الدنيا نفعا، ولقد علموا يعني اليهود، {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] أي: اختاره، يعني السحر، {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] أي: نصيب، والخلاق: النصيب الرامز من الخير، قال المفسرون: الخلاق من هذه الآية: النصيب من الجنة. قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] أي: بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله، لو كانوا يعلمون عاقبة ما يصير إليه من بخس حظه فِي الآخرة. ولو أنهم آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، واتقوا اليهود والسحر، لأثيبوا ما هو خير لهم، وهو قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] ، والمثوبة كالثواب، وكذلك المثوبة مثل المشورة والمشورة، ويعني بالآية أن ثواب الله لهم لو آمنوا خير من كسبهم بالكفر والسحر. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104} مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {105} } [البقرة: 104-105] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] المراعاة: المراقبة وحفظ ما يكون من أحوال الشيء، يقال: راعنا سمعك. أي: اسمع منا حتى نفهمك وتفهم عنا، والعرب تقول: راعنا سمعك، وراعنا بسمعك. بمعنى واحد. قال الكلبي، عن ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعنا سمعك. وكان هذا بلسان اليهود سبا قبيحا فيما بينهم، فلما سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعجبتهم، فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها

لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأضربن عنقه. فقالت اليهود: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهوا عن ذلك. وهذا النهي اختص بذلك الوقت، لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذا اللفظ الآن. وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] أي: نظرت فلانا، أي: انتظرته، ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، ومعنى انظرنا: اصبر حتى نفهمك ما نقول، ويجوز أن يكون انظرنا أي: انظر إلينا، فحذف حرف الجر، أمروا أن يقولوا بدل راعنا: انظرنا. قوله تعالى: واسمعوا أي: ما يقال لكم وما تؤمرون به، ومعناه: وأطيعوا، لأن الطاعة تحت السمع، وللكافرين يعني اليهود، عذاب أليم. قوله تعالى: ما يود أي: ما يحب وما يريد، {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] يعني اليهود، ولا المشركين من العرب، {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105] أي: خيرٌ، من ربكم ومن: صلة مؤكدة، يريد: أنهم على إنزال القرآن عليكم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} [البقرة: 105] يقال: خصه بالشيء واختصه به، إذا أفرده به دون غيره. قوله تعالى: برحمته أي: نبوته، من يشاء يعني محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] تفضل بالنبوة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين بدينه الإسلام. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {106} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {107} } [البقرة: 106-107] قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية، وذلك أن المشركين قالوا: القرآن كلام محمد تقوَّله من نفسه، يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى النسخ: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخت الشمس الظل. أي: أذهبته وحلت محله، وهذا نسخ إلى بدل، لأن الظل يزول ويبطل، وتكون الشمس بدلا عنه، ويجوز النسخ إلى غير بدل، وهو رفع

الحكم وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا، يقال: نسخت الريح الآثار، أي: أبطلتها وأزالتها. والمعروف من النسخ فِي القرآن: إبطال الحكم مع إثبات الخط، وهو أن تكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين فِي التلاوة، إلا أن المنسوخة لا يعمل بها، مثل عدة المتوفى عنها زوجها، كانت سنة، لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وكقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية، ثم نسخت بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] ، الآية. وقرأ ابن عامر ما ننسخ بضم النون، من أنسخت الآية، أي: وجدتها منسوخة، كقولك: أحمدت الرجل، وأحببته، وأكذبته، وأبخلته. أي: وجدته على هذه الأحوال. فيكون معنى قوله: ننسخ: نجده منسوخا، وإنما نجده كذلك لنسخه إياه، وإذا كان كذلك كان معنى قراءة ابن عامر كمعنى قراءة من قرأ ننسخ، بفتح النون، يتفقان فِي المعنى، وإن اختلفا فِي اللفظ. وقوله تعالى: أو ننسها النسيان: ضد الذكر، والإنساء منقول منه، يقال: نسي الرجل الشيء، وأنسيته الشيء، إذا جعلته ينساه. ومعنى الآية: إنا إذا رفعنا آية من جهة النسخ أو الإنساء لها أتينا بخير من الذي نرفعه بإحدى هذين الوجهين، وهما النسخ والإنساء. وقد يقع النسخ بالإنساء، وهو ما 38 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ

التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ سُورَةً قَدْ كَانَ دَعَاهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ إِلا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، فَأَتَى بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَصْبَحَ، لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَآخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَا جَمَعَهُمْ؟ فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِشَأْنِ تِلْكَ السُّورَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، وَسَأَلُوهُ عَنِ السُّورَةِ، فَسَكَتَ سَاعَةً لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ مِنْ صُدُورِكُمْ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ فِيهِ» وقرأ أبو عمرو ننسأها مفتوحة النون، مهموزة، من النسيء بمعنى التأخير، يقال: نسأت الإبل عن الحوض. أي: أخرتها. ومعنى التأخير فِي الآية: أن يؤخر التنزيل، فلا ينزل ولا يعلم ولا يعمل به ولا يتلى، والمعنى: نؤخرها لوقت كان، فنأتي بدلا منها فِي الوقت المتقدم بما يقوم مقامها،

ومعنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] أي: أصلح لمن تعبر بها، وأنفع لها، وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم، لا أن آية خير من آية، أو مثلها فِي المنفعة والمثوبة بأن يكون ثوابها كثواب التي قبلها. والفائدة فِي ذلك: أن يكون الناسخ أسهل من المأخذ من المنسوخ، والإيمان به والناس إليه أسرع، نحو القبلة التي كانت على جهة، ثم حولت إلى الكعبة، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساويا فِي العمل والثواب، فالذي أمر الله به فِي ذلك الوقت كان الأصلح والأدعى للعرب وغيرهم إلى الإسلام. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] أي: من النسخ والتبديل وغيرهما. قوله: ألم تعلم استفهام معناه التقرير، {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 107] الملك: تمام القدرة واستحكامها، والمعنى: أنه يملك السموات والأرض ومن فيهن، فهو أعلم بما يتعبدهم من ناسخ ومنسوخ، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} [البقرة: 107] الولي: فعيل بمعنى فاعل، يقال: هو والي الأمر ووليه. أي: القائم به. المعنى: ما لكم من دون الله من وال يلي أمركم، ولا نصير ناصر يمنعكم من العذاب، وفي هذا تحذير للعباد، إذ لا مانع منه. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {108} وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {109} وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {110} } [البقرة: 108-110] قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] الآية، قال المفسرون: إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن قائل يقول: ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتي موسى بالتوراة، ومن قائل

يقول، وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي: ائتني بكتاب من السماء فِيهِ: من رب العالمين إلى ابن أبي أمية، اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس. ومن قائل يقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فأنزل الله عز وجل: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108] معناه: بل أتريدون، فهو استفهام منقطع عما قبله، {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] محمدًا عليه السلام من الاقتراح والتمني، {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108] يعني قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] . قال الزجاج: معنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا خير لهم فِي السؤال عنه، والسؤال بعد قيام البراهين كفر، لذلك قال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] أي: قصده ووسطه. ومعنى الضلال: الذهاب عن الاستقامة. قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] قال ابن عباس: نزلت فِي نفر من اليهود قالوا للمسلمين، بعد وقفة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم. وقوله تعالى: حسدا أي: يحسدونكم حسدا، من عند أنفسهم أي: فِي حكمهم وتدينهم ومذهبهم، أي: هذا الحسد مذهب لهم، لم يؤمروا به، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] فِي التوراة أن قول محمد صدق، ودينه حق. قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] أي: عن مساوئ كلامهم وغل قلوبهم، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] قال عطاء: يريد: إجلاء النضير وقتل قريظة، وفتح خيبر وفدك.

وقال قتادة: يعني: أمر بالقتال فِي قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] . {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] . {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {112} وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {113} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {114} } [البقرة: 111-114] قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] أي: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى: لن يدخلها إلا من كان نصرانيا. والهود: هم اليهود، هادوا يهودون هودا، أي: تابوا من عبادة العجل، والهود: جمع هائد، مثل: حائل وحول، وفاره وفره، قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] التي تمنوها على الله باطلا، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] أي: قربوا حجتكم على ما تقولون، إن كنتم صادقين فِي دعواكم. بلى يدخل الجنة، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] أي: يذل وجهه له فِي السجود، والمعنى: سلم وجهه له بأن

صانه عن السجود لغيره، وهو محسن قال ابن عباس: مؤمن موحد، مصدق لما جاء به محمد عليه السلام، فله أجره الذي وعده الله له، عند ربه يعني الجنة، {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] الآية، قال ابن عباس: قدم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتنازعوا مع اليهود، فكذب كل واحد منهما صاحبه، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] قال الزجاج: يعني أن الفريقين يتلوان التوراة، وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم. ثم بين أن سبيلهم كسبيل من لا يعلم الكتاب فِي الإنكار لدين الله من مشركي العرب وغيرهم فقال: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] قال مقاتل: يعني مشركي العرب قالوا: إن محمدًا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] الآية، قال الزجاج: أي: يريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا. قوله: ومن أظلم أي: وأي أحد أظلم، {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] يعني مشركي مكة، منعوا المسلمين من ذكر الله فِي المسجد الحرام، وسعى عمل، فِي خرابها لأن عمارتها بالعبادة فِيها، وكل من منع من عبادة الله فِي مسجد فقد سعى فِي خرابه، {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} [البقرة: 114] قال ابن عباس، فِي رواية عطاء: هذا وعد من الله لنبيه والمهاجرين، يقول: أفتح لكم مكة حتى تدخلوها آمنين وتكونوا أولى بها منهم.

لهم فِي الدنيا خزي يعني: القتل لمن أقام على الكفر، ولهم فِي الآخرة عذاب عظيم. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {115} وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {116} بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {117} وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {118} } [البقرة: 115-118] قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية، قال ابن عباس، فِي رواية علي بن أبي طلحة الوالبي: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فلما صرفه الله إليها عيرت اليهود المؤمنين، فأنزل الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . والمعنى: فأينما تولوا وجوهكم، فحذف المفعول للعلم به. ومعنى قوله: فثم وجه الله: فهناك قبلة الله، والوجه: والجهة، والجهة: القبلة، ومثله: الوزن والزنة، والوعد والعدة، والعرب تسمي القصد الذي يتوجه إليه: وجها، قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل معناه: إليه القصد بالعبادة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] أي: واسع الرحمة، واسع الشريعة بالترخيص لهم والتوسعة على عباده فِي دينهم، لا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه. 39 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ

إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْتُ فِيهَا، فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ، فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا: قَدْ عَرَفْنَا الْقِبْلَةَ، هِيَ هَهُنَا قِبَلَ الشَّمَالِ فَصَلُّوا وَخُطُّوا خُطُوطًا، وَقَالَ بَعْضُنَا الْقِبْلَةُ هَهُنَا قِبَلَ الْجَنُوبِ، فَصَلُّوا، وَخُطُّوا خُطُوطًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا، سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] نزلت ردا على اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم وصفوا الله تعالى بالولد ف {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ، وقال المشركون: الملائكة بنات الله. فنزه الله نفسه عن اتخاذ الولد فقال: سبحانه وفي مصاحف الشام قالوا بغير واو، لأن هذه الآية مستأنفة غير معطوفة على ما تقدم.

وقوله: بل أي: ليس الأمر كما زعموا، له ما فِي السموات والأرض عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] قال مجاهد، وعطاء، والسدي: مطيعون. والقنوت: الطاعة، والقانت: المطيع لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] ، قال ابن عباس: هذا راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين. وهو من العموم الذي أريد به الخصوص، وهذا قول مقاتل والفراء. وقال السدي: هذا فِي يوم القيامة، تصديقه قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] . وقال أهل المعاني: طاعة الجميع لله تعالى: تكونهم فِي الخلق عند التكوين، إذ قال: كن فكان كما أراده. {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] البديع: الذي يبدع الأشياء، أي: يحدثها مما لم يكن، وبديع: بمعنى مبدع. قال أبو إسحاق الزجاج: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] : منشئهما على غير مثال سابق، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: أبدعت. ولهذا يقال لمن خالف السنة: مبتدع. لأنه أحدث فِي الإسلام ما لم يسبقه إليه السلف. قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة: 117] أي: قدره وأراد خلقه، فإنما يقول له أي: لذلك الأمر الذي يريد وجوده، وما قدر الله وجوده، فهو كالموجود الشاهد، فجاز أن يخاطب.

وقال ابن الأنباري: يحتمل أن تكون اللام فِي له: لام الأجل، والتأويل: فإذا قضى أمرا فإنما يقول من أجل إرادته: كن فيكون كقوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 193] أي: من أجله، وكقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] أي: من أجل حب المال لبخيل. وقوله: كن: المأمور بهذا الأمر لا قدرة له على دفع هذا الأمر، ولا صنع له فِيهِ، والمعنى: كن بتكويننا إياك. وقوله: فيكون قال الفراء، والكسائي، والزجاج: رفعه من وجهين: أحدهما: العطف على يقول، ومثله {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ} [إبراهيم: 44] ، والثاني: أن يكون رفعه على الاستئناف، والمعنى: فهو يكون، لأن الكلام تم عند قوله: كن ثم قال: فيكون ما أراد الله، قال الفراء: وإنه لأحب الوجهين إلي. وقرأ ابن عامر فيكون بنصب النون، على جواب الأمر بالفاء فِي ظاهر اللفظ. وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118] قال ابن عباس: هم اليهود. وقال مجاهد: هم النصارى. وقال الحسن، وقتادة: هم مشركو العرب، قالوا لمحمد عليه السلام: لا نؤمن لك حتى يعلمنا الله أنك رسوله، أو حتى تأتينا بمثل الآيات التي أتت بها الرسل، وهو قوله: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] أي: هلا، تقول: لولا فعلت ما أمرتك. بمعنى: هلا فعلت، وقد يقال: لو ما. بهذا المعنى كقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر: 7] أي: هلا، وكل ما فِي القرآن لولا يفسر على هلا، غير التي فِي { [الصافات:] فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [سورة الصافات: 143] . وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة: 118] أراد: كفار الأمم الخالية، قال الزجاج: أعلم الله أن كفرهم فِي

التعنت بطلب الآيات على اقتراحهم ككفر الذين من قبلهم فِي قولهم لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] وما أشبهه، وفي هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] أي: أشبه بعضها بعضا فِي الكفر والقسوة، ومسألة المحال كقوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30] . قوله {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] يريد أن من أيقن وطلب الحق فقد أتته الآيات والبينات، نحو المسلمين ومن لم يعاند من علماء اليهود، لأن القرآن برهان شاف. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ {119} وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {120} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {121} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {122} وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {123} } [البقرة: 119-123] قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] قال ابن عباس: الحق: القرآن، كقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] ، وكقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5] ، وقال ابن كيسان: الحق فِي هذه الآية: الإسلام، نحو قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] ، والباء فِي بالحق بمعنى مع، أي: مع الحق، كقوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] ، وقوله: بشيرا هو فعيل بمعنى فاعل، من بشر يبشر بشرا بمعنى: بشر، ونذيرا أي: منذرا، بمعنى: مخوفا محذرا، كالبديع بمعنى المبدع، قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قال مقاتل: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن الله أنزل بأسه باليهود آمنوا» . فأنزل الله تعالى: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] أي: لست بمسئول عنهم، وليس عليك من شأنهم عهدة ولا تبعة، فلا تحزن عليهم.

وقرأنا مع ولا تسأل بفتح التاء وجزم اللام، على النهي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه، فدله عليهما، فذهب إلى القبرين فدعا لهما، فتمنى أن يعرف حال أبويه فِي الآخرة، فنزل قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] ،

والجحيم: النار المتلظية العظيمة، يقال: جحمت النار تجحم جحوما فهي جاحمة وجحيم. قال الله تعالى: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] . وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] قال المفسرون: كانت اليهود والنصارى يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدنة، ويطمعونه ويرونه أنه إن هاونهم وأمهلهم اتبعوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنه لا يُرضيْهم إلا ما يستحيل وجوده، لأن اليهود لا ترضى عنه إلا بالتهود، والنصارى إلا بالتنصر، ويستحيل الجمع بينهما، وإذا استحال إرضاؤهم فهم لا يرضون أبدًا، ومعنى ملتهم: دينهم. وقوله {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] قال ابن عباس: يريد أن الذي أنت عليه هو دين الله الذي رضيه، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120] قال ابن عباس: صليت إلى قبلتهم. {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] بأن دين الله الإسلام، والقبلة هي الكعبة. والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به أمته، لأنه معصوم عن اتباع هوى الكافرين {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] . ثم ذكر أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد، ولا طالب رياسة، تلا التوراة كما أنزلت، فرأى فِيها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، فآمن به وهو قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] قال ابن مسعود: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه. وقال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه. وقال ابن عباس: نزلت فِي الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكانوا من أهل الكتاب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الضحاك: نزلت فِي مؤمني اليهود. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله تعالى: {

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ {124} وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {125} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {126} وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {129} } [البقرة: 124-129] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] الابتلاء: الاختبار والامتحان، وابتلاء الله يعود إلى إعلامه عباده لا إلى استعلامه، لأنه يعلم ما يكون، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم، والمعنى: أنه عامله معاملة المختبر. وأكثر المفسرين قالوا فِي تفسير الكلمات: إنها عشر خصال عن السنة، خمس فِي الرأس، وخمس فِي الجسد، فالتي فِي الرأس: الفرق، والمضمضمة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. والتي فِي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، ونتف الرفغين. قال عطاء، عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم: يا خليلي تطهر. فمضمض، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فاستنشق، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فاستاك، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فأخذ من شاربه، فأوحى الله إليه: أن

تطهر. ففرق، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فاستنجى، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فحلق عانته، فأوحى إليه: أن تطهر. فنتف إبطيه، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فقلم أظفاره، فأوحى الله إليه: أن تطهر. فأقبل بوجهه ماذا يصنع؟ فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. 40 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ

41 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وقوله: فأتمهن أي: أداهن تامات غير ناقصات، فقال الله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] قال ابن عباس: أوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماما يقتدي بك الصالحون من بعدك. والإمام: كل من ائتم به قوم، والنبي: إمام وقته، والخليفة: إمام رعيته، والقرآن: إمام المسلمين، على معنى أنهم ينتهون إليه فيما أمر وزجر. قال إبراهيم، ومن ذريتي أي: ومن أولادي أيضا فاجعل أئمة يقتدى بهم، والذرية: تقع على الآباء والأبناء والرجال والنساء، قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] أراد آباءهم الذين حملوا مع نوح فِي السفينة، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] إلى قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] فدخل الآباء فِيها والأبناء. وتكون الذرية واحدا، وهو فِي قوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] يعني: ولدا صالحا. قال الله تعالى لإبراهيم: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أعلمه أن فِي ذريته الظالم، قال السدي: عهدي: نبوتي، أي: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة فِي الدين من كان ظالما من ولدك. وقال الفراء: لا يكون للناس إمام مشرك. قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة: 125] يعني الكعبة التي هي القبلة اليوم، {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] المثاب والمثابة مصدران: ثاب يثوب إذا رجع، والمراد بالمثابة ههنا: الموضع الذي يثاب إليه، قال ابن عباس: معادا ومرجعا لا يقضون منه وطرا، كلما أتوه وانصرفوا اشتاقوا إلى الرجعة إليه. وقوله: وأمنا أراد: مأمنا. قال ابن عباس:

يريد: من دخله كان آمنا، فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثم لجأ إليه أمن من أن يهاج فِيهِ، ولكن لا يئوى ولا يخالط ولا يبايع، فإذا خرج منه أقيم عليه الحد، ومن أحدث فِي الحرم أقيم عليه الحد. وهذا مذهب أبي حنيفة: وهو أن الجاني إذا لاذ بالحرم أمن. ومذهب الشافعي: أنه لا يأمن بالالتجاء إليه، ويستوفى منه ما وجب عليه فِي الحرم على ما روي فِي الخبر: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا» . وعلى هذا فمعنى قوله: وأمنا الأولى: أن يأمن فِيهِ الجاني، فإن أخيف بإقامة الحد عليه جاز، وقد قال كثير من المفسرين: من شاء آمن ومن شاء لم يؤمن، كما أنه لما جعله مثابة، من شاء ثاب، ومن شاء لم يثب. وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه فِي الحرم فلا يتعرض له، وهذا شيء كانوا توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه إلى أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاليوم من أصاب فِيهِ جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع. وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قراءة أهل المدينة والشام بفتح الخاء على معنى الخبر، ويؤكده أن الذي قبله والذي بعده خبر، وهو قوله: وإذ جعلنا، وعهدنا، ومن قرأ واتخذوا، بالكسر على الأمر، فحجته ما

42 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّوْسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوِ اتخَّذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الْحِجَابِ، وَقَالَ: وَبَلَغَنِي بَعْضُ مَا أَذَيْنَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: أَزْوَاجَهُ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ، فَجَعَلْتُ أَسْتَقْرِبُهُنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] الآيَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآيَةِ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] : هُوَ الصَّلاةُ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، أُمِرُوا بِالصَّلاةِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ وَلا تَقْبِيلِهِ والمقام فِي اللغة: موضع القدمين، حيث يقوم عليه الإنسان، وهو الحجر الذي فِيهِ أثر قدمي إبراهيم عليه السلام. 43 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

قَالَ: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَصَابِعَهُ، وَأَخْمَصَ قَدَمَيْهِ، وَالْعَقِبَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ 44 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ» 45 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ صُبَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُسَافِعَ بْنَ شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «

الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْلا أَنَّ نُورَهُمَا طُمِسَ لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» 46 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتَرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا الرُّكْنُ الأَسْوَدُ وَالْمَقَامُ، فَإِنَّهُمَا جَوْهَرَتَانِ مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ وَلَوْلا مَا مَسَّهُمَا أَهْلُ الشِّرْكِ: مَا مَسَّهُمَا ذُو عَاهَةٍ إِلا شَفَاهُ اللَّهُ وقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 125] أي: أمرناهما وأوحينا إليهما، {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] قال سعيد بن جبير، وعبيد بن عمير، وعطاء، ومقاتل: من الأوثان والريب. قال الكلبي: إن الله تعالى عهد إلى إبراهيم إذ بنى الكعبة: أن طهره من الأوثان، فلا ينصب حوله

وثن. وقال مجاهد: طهرا بيتي: من الشرك. وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] قال الكلبي: أما الطائفون: فمن اعتراه من بلد غيره، والعاكفون: فأهل البلد، والركع السجود: فأهل الصلاة. وقال عطاء: إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. 47 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ، إِلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلا يَنْطِقُ إِلا بِخَيْرٍ» 48 - وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الْعَابِدِيُّ،

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْفَيْضِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ» وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] كل موضع من الأرض عامر أو غامر، مسكون أو خال: بلد، والقطعة منه: بلدة، والجمع: بلاد وبلدان. قال ابن عباس: يريد: حراما محرما لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، والحكم فِي هذا أن صيد مكة لا ينفر، ولا يتعرض له بنوع أذى، ومن قتل صيد مكة فعليه جزاؤه، ولا يجوز قطع أشجار الحرم على جهة الإضرار بها. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى حبس الفيل عن مكة، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» .

والعرب تقول: آمن من حمام مكة. يضرب المثل بها فِي الأمن لأنها لا تهاج، قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] يعني أنواع حمل الأشجار من أي نوع كان، فاستجاب الله دعاء إبراهيم فِي المسألتين جميعا، فقال فِي موضع آخر: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، وذكر المفسرون أن الله تعالى بعث جبريل إلى الشام حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة، فسميت الطائف، ثم أنزلها تهامة، ومنها يجبى إلى مكة الثمرات. وقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] : من: بدل من أهله، وهو بدل البعض من الكل، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وهذا كما تقول: أخذت المال ثلثيه، ورأيت القوم ناسا منهم. وإنما خص إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق بطلب للمؤمنين، لأن الله تعالى أدبه بقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] ، فتوهم أنه كما لا يعطيهم النبوة إلا إذا كانوا مؤمنين، كذلك لا يرزق أهل مكة إلا إذا كانوا مؤمنين، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126] فسأرزقه إلى منتهى أجله. وقراءة العامة بالتشديد، من التفعيل، وعليه التنزيل كقوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] ، {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 61] ، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] . وقرأ ابن عامر بالتخفيف من الإمتاع، وأفعل قد يكون بمعنى فعل فِي كثير من المواضع، نحو: فرحته وأفرحته، ونزلته وأنزلته. ومعنى قليلا: أي زمانا قليلا، يعني مدة عمره، وإنما وصف بالقلة من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، وإن طال. وقوله تعالى: ثم أضطره أي: ألجئه فِي الآخرة، {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] بئس المرجع عذاب النار. قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] : القواعد: أصول الأساس، الواحدة: قاعدة. قال الزجاج: وكل قاعدة فهي أصل للتي فوقها، ومنه يقال لخشبات أسافل الهودج: القواعد. لأنها كالأساس له.

قال ابن عباس: يعني أصل البيت، قال: وجاء إبراهيم إلى ابنه إسماعيل فقال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. فقال: فأطع ما أمرك ربك. قال: فتعينني؟ قال: وأعينك عليه. قال: إن الله أمرني أن أبني له بيتا ههنا. فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت. {وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي: ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] المعنى: يقولون: أخرجوا أنفسكم، ومثله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23-24] ، وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] يريد: السميع لدعائنا، العليم بما فِي قلوبنا. وقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] أي: مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك، والمسلم: المستسلم لأمر الله. وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] كل قوم نسبوا إلى نبي فأضيفوا إليه فهم أمته، وكل جيل من الناس أمة على حدة. قال ابن الأنباري: والأمة أيضا: تُبَّاعُ الأنبياء. قال ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان. وإنما خصا بالدعوة بعض الذرية لأن الله تعالى أعلمهما أن فِي ذريتهما من لا ينال العهد فِي قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] . وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] قال الزجاج: الأجود كسر الراء لأن الأصل: أرئنا، فالكسرة فِي الراء هي كسرة همزة ألقيت، فطرحت حركتها على الراء، فالكسرة دليل الهمزة، وحذفها قبيح، وهو جائز على بعد، لأن

الكسرة والفتحة تحذفان استثقالا لقولهم فِي فخد فخذ، وفي عضد عضد. والمعنى: عرفنا متعبداتنا والمواضع التي يتعلق بها النسك لنفعله ونقضي نسكنا فِيها، نحو المواقيت التي يحرم منها، والموضع الذي نقف فِيهِ بعرفة، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار. وكل متعبد فهو منسك ومنسك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} [البقرة: 129] قال ابن عباس: يريد: ولدي، والكناية تعود إلى الذرية، أو إلى الأمة فِي قوله: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] ، وكلاهما ولد إبراهيم، وهم العرب. وقوله: رسولا منهم قال ابن عباس: يريد: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستجاب الله له دعاءه، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، محمدا سيد الأنبياء، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129] وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] قال: يريد: القرآن الذي أنزل عليه، وما فِيهِ من الفرائض والأحكام والسنن وشرائع النبيين، وقال مجاهد: الحكمة: فهم القرآن. وقال ابن دريد: كل كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكم، ومنه قوله عليه السلام: «إن من الشعر حكمة» . وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] قال ابن عباس: ويرشدهم إلى أفضل عبادتك. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ.

قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] قال الزجاج: العزيز فِي صفات الله: الممتنع، فلا يغلبه شيء. وكذا قول المفضل، قال: العزيز: الممتنع الذي لا تناله الأيدي. وعزة الله تعالى: امتناعه على من أراده وعلوه من أن تناله يد. وقال ابن عباس: العزيز: الذي لا يوجد مثله. قال الفراء: يقال عز يعز، بالكسر، إذا قل حتى لا يكاد يوجد غيره عزة فهو عزيز. وقال الكسائي، وابن الأنباري: يقال: العزيز: القوي الغالب. تقول العرب: عز فلان فلانا يعزه عزا، إذا غلبه. ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] ، ويقال: من عزيز. فمعنى العزيز: الغالب القوي الذي لا يعجزه شيء. وذكرنا معنى الحكيم فيما تقدم. {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {130} إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {132} } [البقرة: 130-132] قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130] الآية، قال الزجاج: معنى من: التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام. والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم، {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] قال الأخفش: يعني: سفه فِي نفسه، فحذف حرف الجر كما يحذف فِي سائر المواضع، كقوله تعالى: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] والمعنى: لأولادكم، ومثله: {

وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي: عليها. وقال الزجاج: معنى {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] : جهل نفسه، فوضع سفه موضع جهل. وبهذا قال ابن كيسان، فقال: لأن من عبد حجرا أو قمرا أو شمسا أو صنما فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم ما يحق لله عليه. والعرب تضع سفه فِي موضع جهل، ومنه الحديث: «الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس» . أي: تجهل الحق. ويؤيد هذا القول ما روي فِي الحديث: «من عرف نفسه عرف ربه» . فقيل فِي معناه: إنما يقع الناس فِي البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنهم أنهم يملكون الضر والنفع دون الله عز وجل. وحكي عن أبي بكر الوراق، أنه قال فِي معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقا رازقا بالحول والقوة.

وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كيف عرفتني؟ وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفت نفسي بالضعف والعجز والفناء. فقال: الآن عرفت. فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه كان من جهل نفسه جهل ربه، حتى يرغب عن ملة إبراهيم. قال قتادة: رغبت عن ملة إبراهيم اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية دينا بدعة ليست لله، وتركوا ملة إبراهيم. وقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 130] أي: اخترناه للرسالة، وتأويله: أخذناه صافيا من غير شائب، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] قال عطاء: يريد نوحا وآدم. وقال الحسن: أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب. وقال الزجاج: يريد: من الفائزين، لأن الصالح فِي الآخرة فائز. وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: 131] : إذ يتعلق بالاصطفاء، على معنى: اصطفاه إذ قال له ربه: أسلم. أي: فِي ذلك الوقت. قال الكلبي، عن ابن عباس: رفع إبراهيم الصخرة عن باب السرب، ثم خرج منه، فنظر إلى الكوكب والشمس والقمر كما ذكر الله عنه فِي قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام: 76] الآيات، فقال له ربه: أسلم. أي: أخلص دينك لله بالتوحيد. وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوض أمرك إليه. قال الكلبي: أخلصت ب «لا إله إلا الله» .

وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يحرق بالنار فِي رضا الله عز وجل، ولم يستعن بأحد من الملائكة. قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132] يقال: وصى يوصي توصية ووصاه. وقرئ وأوصى، ولهما أمثلة من الكتاب، فمثال التشديد قوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] ، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8] ، ومثال الإفعال قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . قال الزجاج: وصى: أبلغ من أوصى، لأن أوصى: جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصى: لا يكون إلا لمرات كثيرة. وقوله: بها قال الكلبي، ومقاتل: بكلمة الإخلاص «لا إله إلا الله» ، وذلك أن إبراهيم، ومِنْ بعدِه يعقوب وصيا أولادهما بلزوم التوحيد، وقالا لهم: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132] قال ابن عباس: يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، قال إبراهيم لبنيه: لا تعدلوا بالله شيئا، وإن نشرتم بالمناشير، وقرضتم بالمقاريض، وحرقتم بالنار. وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وقع النهي فِي ظاهر الكلام على الموت، وإنما نهوا فِي الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه. والمعنى: الزموا الإسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه، وهذا كما تقول: لا أريتك ههنا. توقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيت المخاطب، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع، فمتى جئته لم أرك فِيهِ. وهذا من سعة الكلام. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {133} تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {134} } [البقرة: 133-134] وقوله: أم كنتم شهداء الآية، نزلت فِي اليهود حين قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألست تعلم أن يعقوب

يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ فأنزل الله عز وجل قوله: أم كنتم شهداء الآية، ومعناه: بل أكنتم، كأنه ترك الكلام الأول واستفهم فقال: أكنتم شهداء؟ أي: حاضرين، أي: أحضرتم وصية يعقوب بنيه حين حضره الموت؟ {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب، قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم. فجمع ولده، وهم اثنا عشر رجلا وهم الأسباط وجميع أولادهم، فقال لهم: قد حضرت وفاتي وأنا أريد أن أسألكم: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك الذي لا إله غيره، {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133] الآية، فطابت نفسه. وقوله: وإسماعيل: أدخله فِي جملة الآباء، وكان عم يعقوب، لأن العرب تسمي العم أبا، وروي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس: «هذا بقية آبائي» . وقوله: إلها واحدا ينتصب على وجهين: أحدهما: الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك فِي حال وحدانيته. والثاني: على البدل من قوله: إلهك. قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ} [البقرة: 134] يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه الذين قد تقدم ذكرهم، {قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134] مضت، ومنه قوله: {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] يعني: الماضية المتقدمة، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 134] من العمل، ولكم يا معشر اليهود، ما كسبتم أي: حسابهم عليهم، وإنما تسألون عن أعمالكم لا عن أعمالهم، وهو قوله: {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] . {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {135} قُولُوا آمَنَّا

بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {136} فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {137} صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ {138} } [البقرة: 135-138] قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] قال ابن عباس: نزلت فِي يهود المدينة ونصارى نجران، قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا تهتدوا فلا دين إلا ذلك. فقال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 135] أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. قال ابن دريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وسمي الإسلام: الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية. وقال الأصمعي: ومن عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب. وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان فِي الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف. لأن العرب لم تتمسك فِي الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية. وقال ابن عباس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. وقال مجاهد: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس. قوله تعالى: قولوا آمنا بالله الآية: 49 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» ، وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآيَةَ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن العباس القرشي، فيما كتب إلي، أن العباس بن الفضل بن زكريا، أخبرهم عن أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله فِي كتابه، حتى يؤمنوا بهم، ويصدقوا بما جاءوا به، فإن الله تعالى يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [البقرة: 136] الآية. 50 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فِي الأُولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآيَةَ كُلَّهَا، وَفِي الآخِرَةِ {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قوله: والأسباط قال الزجاج: الأسباط فِي ولد إسحاق بمنزلة القبائل فِي ولد إسماعيل، فولد كل واحد من ولد يعقوب: سبط، وولد كل واحد من ولد إسماعيل: قبيلة. وإنما سموا هؤلاء بالأسباط وهؤلاء بالقبائل، ليفصل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق. قال ابن الأعرابي: السبط فِي كلام العرب: خاصة الأولاد، وكان فِي الأسباط أنبياء، لذلك قال: وما أنزل إليهم. {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [البقرة: 136] أي: من الآيات والكتاب، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136] من المعجزات والكتب، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] أي: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون أي: مخلصون ديننا عن الشرك بالله تعالى.

قال الحسن: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله فِي كتابه حتى يؤمنوا بهم ويصدقوهم بما جاءوا به. وقالت العلماء: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بسائر الأنبياء السابقين وجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على الرسل، فيجب على الإنسان أن يعلم صبيانه ونساءه أسماء الأنبياء، ويأمرهم بالإيمان بجميعهم، إذ لا يبعد أن يظنوا أنهم كلفوا الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، فيلقنوا قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية. قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] قال ابن الأنباري: المعنى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي: فإن آمنوا مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد كما زيدت فِي قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] . وقال أبو معاذ النحوي: أراد: فإن آمنوا هم بكتابكم كما آمنتم أنتم بكتابهم، فالمثل ههنا المراد به الكتاب، وقيل: المثل: صلة، والمعنى: فإن آمنوا آمنتم به. وقد يذكر المثل ويراد به الشبه والنظير كقول الشاعر: يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا أي: أنا لا أقبل منك. وكان ابن عباس يقرأ فإن آمنوا بما آمنتم به، وهذا يدل على أن مثل فِي قراءتنا صلة. قوله: فقد اهتدوا أي: قد صاروا مسلمين، وإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان بكتابكم ونبيكم، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137] فِي خلاف وعداوة.

والشقاق والمشاقة: المخالفة، ومنه قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول، ومن يشاق الله. وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137] وعد من الله لرسوله بكفايته أمر من عاداه من مخالفيه، قال المفسرون: ثم كفاه الله أمر اليهود بالقتل والسبي فِي قريظة، والجلاء والنفي فِي بني النضير، والجزية والذلة فِي نصارى نجران. قوله: صبغة الله الصبغ: ما يلون به الثياب، والصبغ: المصدر، قال الحسن، وقتادة، وأبو العالية، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وعطية: دين الله، وإنما سمي الدين صبغة لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه كما يلزم الصبغ الثوب. وقال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: صبغة الله يعني: دين الله، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] يقول: دينًا؟ وذلك أن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه فِي ماء لهم ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور. مكان الختان، وذلك حين جعلوه نصرانيا، وهم صنف من النصارى، فجعل الله الختان للمسلمين تنظيفا وتطهيرا، وأمر به معارضة للنصارى. وسمي الختان صبغة من حيث كان بدل ما فعلوه من صبغهم أولادهم، كما قال: وجزاء سيئة سيئة فسمى الثانية سيئة لما كانت فِي معارضة الأولى. وصبغة الله نصب على الإغراء، على معنى: الزموا واتبعوا. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ {139} أَمْ تَقُولُونَ

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {140} تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {141} } [البقرة: 139-141] قوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139] الآية، خاصمت يهود المدينة ونصارى نجران رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن أنبياء الله كانوا منا، ونبينا هو الأقدم، وكتابنا هو الأسبق، ولو كنت نبيا كنت منا. فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} [البقرة: 139] أي: أتخاصموننا وتجادلوننا؟ ! وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقوله: فِي الله أي: فِي دين الله، {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [البقرة: 139] أي: نحن وأنتم عبيد له، ولنا أعمالنا نجازى بحسنها وسيئها، ولكم أعمالكم: وأنتم فِي أعمالكم على مثل سبيلنا، لا يؤخذ بعضنا بذنب بعض، ونحن له مخلصون موحدون. قال ابن الأنباري: وفي الآية إضمار وهو: وأنتم غير مخلصين، فحذف اكتفاء بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] . قوله: أم تقولون قرئ بالتاء والياء، فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله من قوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} [البقرة: 139] وما بعده من قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} [البقرة: 140] بالتاء، ومن قرأ بالياء فلأن المعنى لليهود والنصارى وهم غيب. ومعنى الآية: كأنه قيل: بل أتقولون إن الأنبياء الذين ذكروا فِي هذه الآية من قبل أن تنزل التوراة {كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] أي: قد أخبرنا الله أن الأنبياء كان دينهم الإسلام ولا أحد أعلم منه. وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] توبيخ لليهود، قال ابن عباس: يريد: من أظلم ممن كتم شهادته التي أشهد عليها؟ ! يريد أن الله أشهدهم فِي التوراة والإنجيل أنه باعث فيهم محمد بن عبد الله من ذرية إبراهيم، وأخذ على ذلك مواثيقهم أن يبينوه للناس، فكتموه وكذبوا فِيهِ. وقال مجاهد، والربيع: الشهادة فِي أمر إبراهيم والأنبياء الذين ذكرهم أنهم كانوا حنفاء مسلمين، فكتموها وقالوا: إنهم كانوا هودا أو نصارى.

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140] وعيد لهم، أي أنه يجازيكم على خلاف ذلك. قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 141] قد مضت هذه الآية، وأعيدت ههنا لأن الحجاج إذا اختلفت مواطنه حسن تكريره للتذكير. {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {142} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {143} } [البقرة: 142-143] قوله تعالى: سيقول السفهاء الآية، نزلت فِي تحويل القبلة، قال ابن عباس: عني ب السفهاء: يهود المدينة. والسفهاء: جمع سفيه، وهو الخفيف إلى ما لا يجوز له أن يخف فِيهِ، ما ولاهم أي: عدلهم وصرفهم، {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يعنون بيت المقدس. والقبلة: الوجهة، وهي الفعلة من القابلة، والعرب تقول: ما له قبلة ولا دبرة، إذا لم يهتد لجهة أمره. والضمير فِي قبلتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] أي: له أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] قال ابن عباس: إلى دين مستقيم، ودين الله يسمى الصراط المستقيم، لأنه يؤدي إلى الجنة كما يؤدي الطريق المستقيم إلى المطلوب. قوله تعالى: وكذلك أي: وكما اخترنا إبراهيم وأولاده وأنعمنا عليهم بالحنيفية المستقيمة كذلك {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: عدلا خيارا. قال أهل المعاني: لما صار ما بين الغلو والتقصير خيرا منهما، صار الوسط والأوسط عبارة عن كل ما هو خير،

قال الله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] قيل فِي تفسيره: خيرهم وأعدلهم. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير هذا الدين النمط الأوسط» . وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسط لأنهم لم يغلوا غلو النصارى، ولا قصروا تقصير اليهود فِي حقوق أنبيائهم بالقتل والصلب. قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] قال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: على جميع الأمم، وذلك أن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين أتي بالناس أمة بعد أمة، فيؤتى بأمة نوح فيسألهم عما أرسل إليهم فينكرون أن نوحا بلغهم ما أرسل به إليهم، فيدعى بأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: نشهد أنه قد بلغ رسالتك فكذبوه وعصوك. فتقول أمة نوح: هؤلاء كانوا بعدنا، فكيف يشهدون علينا؟ ! فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه، فكان فيما أنزلت عليه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] إلى قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] . وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أي: على صدقكم، فهو من باب حذف المضاف، وذلك أن محمدا عليه السلام يسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ؟ قال: أمة محمد عليه السلام شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين حين جاءه الهدى والإيمان. {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] يشهد على أنهم آمنوا بالحق حين جاءهم وقبلوه وصدقوا به.

وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، فهو من باب حذف المضاف، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا، على تقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، فحذف للعلم به. وقوله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل به الثوابَ والعقابَ، وهو علم بالشيء بعد وجوده، والله تعالى يعلم الكائنات ولكن لا يعلمها موجودة إلا إذا وجدت، فكذلك العلم الذي يوجب الثواب والعقاب. وابن عباس يفسر لنعلم ههنا: لنرى، وهذا راجع إلى ما ذكرنا، لأنه إنما يراه إذا علمه موجودا. وكان تحويل القبلة إلى الكعبة ابتلاء من الله تعالى لعباده، وذلك أن الله تعالى لما وجه نبيه إلى الكعبة قال فِي ذلك قائلون من الناس، فقال بعضهم: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. وقال آخرون: قد اشتاق الرجل إلى مولد آبائه. وقال ابن عباس فِي قوله: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] : يعني: أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ومن يوافق الرسول فِي التوجه إلى الكعبة ممن يرتد عن الدين فيرجع إلى ما كان عليه. والانقلاب على العقب: عبارة عن الانصراف إلى حيث أقبل منه. وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] : أي: وقد كانت التولية إلى الكعبة لثقيلة، {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] أي: هداهم للحق، وهم الذين عصمهم الله حتى صدقوا الرسول فِي التحول إلى الكعبة. وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] 51 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ النَّسَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

لَمَّا وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ بِالَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وقال الكلبي، عن ابن عباس: كان رجال من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة أبو أمامة، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، وأناس آخرون، فقامت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله، توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] . يعني: ليبطل صلاتكم قبل بيت المقدس، يعني به الأموات أنه قد تقبل منهم. والمفسرون يجعلون الإيمان ههنا بمعنى الصلاة، ويمكن أن يحمل الإيمان ههنا على ما هو عليه من معنى التصديق فيكون معنى الآية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: تصديقكم بأمر تلك القبلة. قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] الرأفة أشد من الرحمة وأبلغ، يقال: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورأفة، ورؤفت به أرؤف به. وفي الرءوف قراءتان: إحداهما على وزن فعول، والثانية على وزن فعل، وفعول أكثر فِي كلامهم من

فعل، ألا ترى أن باب صبور وشكور أكثر من باب حذر ويقظ؟ وإذا كان أكثر فِي كلامهم كان أولى؟ يؤكد هذا أن صفات الله قد جاءت على هذا الوزن نحو: غفور وشكور، ولم يأت شيء منها على وزن فعل. ومن قرأ على وزن فعل فقد قيل أنه غالب لغة أهل الحجاز، ومنه قول الوليد بن عقبة: وشر الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمه الرءوف الرحيما وكثر ذلك حتى قاله غيرهم، قال جرير: ترى للمسلمين عليك حقا ... كفعل الوالد الرءوف الرحيم {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {144} وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {145} } [البقرة: 144-145] قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] : 52 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ

الرِّفَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: " صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَوَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَنَزَّلَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآيَةَ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَلِّيَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمَرَّ عَلَيْنَا رَجُلٌ، وَنَحْنُ نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَتَوَجَّهْنَا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَدْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ كِلاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قال المفسرون: كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، ولأنه كره موافقة اليهود، فقال لجبريل: «وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها» . فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله. ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديم النظر إلى السماء، رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] أي: فِي النظر إلى السماء، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] أي: لنصيرنك تستقبل بوجهك قبلة تحبها وتهواها، {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144] أي: أقبل وحول وجهك، {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] قصده ونحوه وتلقاءه، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 144] فِي بر أو بحر، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] يعني: عند الصلاة.

ولما حولت القبلة قالت اليهود: يا محمد، ما أمرت بهذا، وإنما هو شيء من عندك تبتدعه من تلقاء نفسك. فأنزل الله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] أي: إن اليهود عالمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم وأنه الحق. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] قال ابن عباس: يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم، وأن اليهود يطلبون سخطي، وما أنا بغافل عن خزيهم فِي الدنيا والآخرة. قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] الآية، قال أهل التفسير: إن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأيأس نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إيمانهم، وذلك أنهم علموا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كانوا يرونه فِي كتابهم من صفته ونعته، ولكنهم جحدوا مع تحقق علمهم، وما تغني الآيات والنذر عند من يجحد ما يعرف، لذلك قال: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] . وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145] حسم بهذا أطماع اليهود فِي رجوعه عليه السلام إلى قبلتهم، وما بعضهم يعني: اليهود والنصارى {بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 145] أخبر أنهم وإن اتفقوا على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم مختلفون فيما بينهم، فلا اليهود تستقبل المشرق، ولا النصارى تستقبل بيت المقدس. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 145] أي: صليت إلى قبلتهم، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145] أن قبلة الله هي الكعبة، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] أي: إنك إذا مثلهم، والخطاب له فِي الظاهر، وهو فِي المعنى لأمته. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {146} الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {147} وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {148} } [البقرة: 146-148] قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146] الآية، قال الكلبي: يعني عبد الله بن سلام وأصحابه،

يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنعته وصفته ومبعثه واسمه فِي كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد الله بن سلام: لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني بابني. فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا ويقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدثت النساء. فقال عمر: وفقك الله يابن سلام. قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146] يعني الذين يكتمون شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، وهم يعلمون لأن الله تعالى بين ذلك فِي كتابهم. ثم قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] أي: هذا الحق من ربك، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] الشاكين فيما أخبرتك من أمر القبلة وعناد من كتم النبوة، وامتناعهم من الإيمان بك. والمرية: الشك، ومنه الامتراء والتماري، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد: غيره من الشاكين. قوله: ولكل وجهة أراد: ولكلِّ أهلٍ دينٌ، والوجهة: اسم لكل متوجه إليه، وقوله: هو موليها قال الزجاج: هو ضمير لكل، والمعنى: كل هو موليها وجهه، أي: مستقبلها بوجهه. وقرأ ابن عامر هو مولاها، أي: مصروف إليها، والمعنى: لكلِّ وليٍّ جهةٌ. وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] قال ابن عباس: يقول: تنافسوا فيما رغبتكم فِيهِ من الخير، فلكلٍّ عندي ثوابُه. وقال الزجاج: أي: فبادروا إلى القبول من الله عز وجل، وولوا وجوهكم حيث أمركم الله أن تولوا. وقوله {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148] أي: أينما تكونوا يجمعكم الله للحساب فيجزيكم بأعمالكم. ثم أكد عليه استقبال القبلة أينما كان بآيتين، وهما: {

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {149} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {150} } [البقرة: 149-150] قوله: حيث خرجت وإنما كُرِّرتِ الآيتان لأن هذا من مواضيع التأكيد لأجل النسخ الذي نقلوا به من جهة إلى جهة. ومعنى {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [البقرة: 150] أي: للمسافرة والبروز إلى البدو، {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فاستقبل الكعبة أينما كنت، وما بعد هذا مضى تفسيره، إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] قال المفسرون: الناس ههنا: اليهود، كانوا يحتجون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المؤمنين فِي صلاتهم إلى بيت المقدس، ويقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! ويقولون: يخالفنا محمد فِي ديننا ويتبع قبلتنا!! وهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجون بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتمويه بها على الجهال، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجة، ثم قال: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وهم المشركون، فإنهم قالوا: قد تحير محمد فِي دينه فتوجه إلى قبلتنا، وعلم أنا أهدى سبيلا منه، ويوشك أن يرجع إلى ديننا. فهؤلاء تبقى لهم الخصومة. والحجة قد تكون بمعنى الخصومة كقوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] ، وقال أبو روق: حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبعوث فِي آخر الزمان قبلته الكعبةُ، وأنه يحول إليها، فلما رأوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلى

الصخرة احتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلا يكون لهم عليه حجة. {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] يريد: إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من الحق، ومن أنه يحول إلى الكعبة. وقوله: فلا تخشوهم أي: فِي انصرافكم إلى الكعبة، وفي تظاهرهم عليكم فِي المحاجة والمحاربة، واخشوني فِي تركها ومخالفتها، {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، فتتم لكم الملة الحنيفية. قال عطاء، عن ابن عباس: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] فِي الدنيا والآخرة، أما فِي الدنيا: فأنصركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأما فِي الآخرة ففي رحمتي وجنتي، وأزوجكم الحور العين. ولعلكم تهتدون ولكي تهتدوا بإنعامي عليكم إلى الملة الحنيفية. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ {151} فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ {152} } [البقرة: 151-152] قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} [البقرة: 151] الآية، هذه الكاف تتعلق بما قبله، على تقدير: ولأتم نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولا، أي: أتم هذه كما أتممت تلك، وذلك أن إبراهيم عليه السلام دعا بدعوتين: إحديهما: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة: 128] الآية، والثانية: قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية، فالله تعالى قال: كما أجبت دعوته بابتعاث الرسول، كذلك أجيب دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين. وقوله: رسولا منكم تعرفونه بأصله ونسبه، وباقي الآية مفسر.

قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي. وروي أن عبد الملك كتب إلى سعيد بن جبير فِي مسائل، فقال فِي جوابها: وتسأل عن الذكر، الذكر: طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكر الله، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة الكتاب، وتسأل عن قول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] فإن ذلك أن الله يقول: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي. ويشهد لصحة هذا ما 53 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ الْفَضْلِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَجْدَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَ اللَّهُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلاوَتُهُ الْقُرْآنِ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَ اللَّهَ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلاوَتُهُ الْقُرْآنِ»

54 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِحفدَةَ الْخَشَّابِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ". . . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ. . .، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الأَعْمَشِ وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152] تقول العرب: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له. روى سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام: أن موسى قال لربه: يا رب ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى لا يزال لسانك رطبا من ذكري. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153} وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ {154} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } [البقرة: 153-157] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] قال مقاتل: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر

على الفرائض، وبالصلوات الخمس فِي مواقيتها على تمحيص الذنوب. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] قال عطاء، عن ابن عباس: يقول: إني معكم، أنصركم ولا أخذلكم. وقال الزجاج: تأويله: أن يظهر دينهم على سائر الأديان، لأن من كان الله معه فهو الغالب. قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154] : كان الناس يقولون لمن يقتل فِي سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: بل أحياء ذكر المفسرون فِي حياة الشهداء فِي سبيل الله ما روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أرواح الشهداء فِي أجواف طير خضر تسرح فِي ثمار الجنة وتشرب من أنهارها، وتأوي بالليل إلى قناديل من نور معلقة بالعرش» . وقوله: ولكن لا تشعرون أي: ما هم فِيهِ من الكرامة والنعيم. قوله: ولنبلونكم النون فِيهِ للتأكيد، واللام جواب قسم محذوف على تقدير: والله لنبلونكم، والمعنى: لنعاملنكم معاملة المبتلى، لأن الله تعالى يعلم عواقب الأمور، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم العاقبة، ولكنه يعاملهم معاملة من يبتلى، فمن صبر أثابه على صبره، ومن لم يصبر لم يستحق الثواب. وقوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} [البقرة: 155] قال ابن عباس: يعني: خوف العدو. {وَالْجُوعِ} [البقرة: 155] يعني: المجاعة والقحط، {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} [البقرة: 155] يعني: الخسران والنقصان فِي المال وهلاك المواشي، {وَالأَنْفُسِ} [البقرة: 155] يعني: بالموت والقتل والمرض والشيب، {وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] يعني الجوائح، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج، ثم ختم الآية بتبشير الصابرين ليدل على أن من صبر على هذه المصائب كان على وعد الثواب من الله تعالى فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] . ثم نعتهم فقال: {

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156] أي: نالتهم نكبة مما ذكر، ولا يقال فيما يصيب بخير: مصيبة. {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} [البقرة: 156] أي: نحن وأموالنا لله، يصنع بنا ما يشاء، {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] إقرار بالفناء والهلاك. ومعنى الرجوع إلى الله تعالى: الرجوع إلى انفراده بالحكم، إذ قد ملك فِي الدنيا الأحكام، فإذا زال حكم العباد رجع الأمر إلى الله. 55 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ 56 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ،

حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ الْكِنْدِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ» 57 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْعِمْرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الَفِقيُه، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ جَابِرٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَاسِينُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَابَ عَبْدًا مُصِيبَةٌ إِلا بِإِحْدَى خَلَّتَيْنِ، إِمَّا بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ إِلا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ، أَوْ بِدَرَجَةٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُبْلِغَهُ إِيَّاهَا إِلا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ»

وقال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الآية عند المصيبة ما لم يعطه الأنبياء قبلهم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ، ولو أعطيه الأنبياء لأعطيه يعقوب، إذ يقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] . 58 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ سَفِينَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ قَالَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا آجَرَهُ اللَّهُ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا " قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ لِي مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، فَأَخْلَفَنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ

أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري، أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الشعبي: أن شريحا قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم تكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فِيهِ من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها فِي ديني. قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 157] ذكرنا معنى الصلاة فيما تقدم، والصلاة من الله رحمة ومغفرة، وأنشد الأزهري: صلى على يحيى وأشياعه ... رب كريم وشفيع مطاع قال: معناه: ترحم عليه. وفسر ابن عباس الصلوات ههنا فقال: مغفرة من ربهم، وهذا كما يروى، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» . أي: ارحمهم.

قال ابن كيسان: وجمع الصلوات لأنه عنى بها رحمة بعد رحمة، وذكر الرحمة بعد الصلوات لإشباع المعنى والاتساع فِي اللفظ، ومثله قوله تعالى: {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] ، وقال ذو الرمة: لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب فكرر لما اختلف اللفظ. وقوله: وأولئك هم المهتدون قال ابن عباس: يريد: الذين اهتدوا للترجيع. وقيل: إلى الجنة والثواب. 59 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نِعْمَ الْعِدْلانِ وَنِعْمَ الْعِلاوَةُ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] : نِعْمَ الْعِدْلانِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] نِعْمَ الْعِلاوَةُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] هما جبلان معروفان بمكة، و {شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] : متعبداته التي

أشعرها الله، أي: جعلها أعلاما لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو منحر، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} [البقرة: 158] أصل الحج فِي اللغة: زيارة شيء تعظمه، قال الزجاج: أهل الحج: القصد، وكل من قصد شيئا فقد حجه. وقوله: أو اعتمر قال الزجاج: أي: قصد. وقال غيره: زاره. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] أي: لا إثم عليه، ولا حرج ولا ذنب، {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] 60 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يُمْسِكُونَ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنَّا نَتَّقِي الطَّوَافَ بِهِمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] الآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَاصِمٍ أخبرني سعيد بن العباس القرشي، أخبرنا العباس بن المفضل النضروي، أخبرنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن داود، عن الشعبي، قال: كان لأهل الجاهلية صنمان، يقال لأحدهما: يساف. وللآخر: نائلة. وكان يساف على الصفا، وكان نائلة على

المروة، وكانوا إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوهما، فلما جاء الإسلام قالوا: إنما كان أهل الجاهلية يطوفون بينهما لمكان هذين الصنمين وليسا من شعائر الحج. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، فجعلهما الله من شعائر الحج. والآية بظاهرها تدل على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا» . وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] قال الحسن: يعني به الدين كله، والمعنى: فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة ونوع من الطاعة. وقرأ حمزة ومن يطوع بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع، إلا أن التاء أدغمت فِي الطاء لمقاربتهما، وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء، الأحسن فِيهمَا الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته. فتوقع الماضي موضع المستقبل فِي الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} [البقرة: 158] أي: مجاز له بعمله، ومعنى الشاكر فِي وصف الله: المجازي على الطاعة بالثواب، عليم بنية المتطوع.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159} إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {160} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {161} خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {162} } [البقرة: 159-162] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] الآية، نزلت فِي علماء اليهود، وأراد ب البينات: الرجم والحدود والأحكام، وبالهدى: أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 159] لبني إسرائيل، فِي الكتاب فِي التوراة، أولئك يعني: الذين يكتمون، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] قال ابن عباس: كل شيء إلا الجن والإنس. وقال قتادة: هم الملائكة والمؤمنون. وقال عطاء: الجن والإنس. وقال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته. قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أي: من الكتمان. {وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] السريرة بإظهار أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] نعته، فأولئك أتوب أعود، عليهم بالرحمة. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} [البقرة: 161] إلى قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] قال قتادة، والربيع: أراد بالناس أجمعين: المؤمنين. وقال السدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: لعن الله الظالم. إلا رجعت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه.

خالدين فِيها: باقين فِي تلك اللعنة دائمين، {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162] قال ابن عباس: لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164} } [البقرة: 163-164] وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] قال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: قالت كفار قريش: يا محمد صف وانسب لنا ربك. فأنزل الله { [الإخلاص وهذه الآية وقال جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: كان للمشركين ثلاث مائة وستون صنما يعبدونها من دون الله، فبين الله سبحانه أنه إله واحد، فأنزل هذه الآية. قال الأزهري: الواحد فِي صفة الله تعالى له معنيان: أحدهما: أنه واحد لا نظير له، وليس كمثله شيء، والعرب تقول: فلان واحد قومه وواحد الناس، إذا لم يكن له نظير. والمعنى الثاني: أنه إله واحد ورب واحد، ليس له فِي الإلهة والربوبية شريك، لأن المشركين أشركوا معه آلهة، فكذبهم الله تعالى، فقال:] وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] . قال أصحابنا: حقيقة الواحد فِي وصف الباري سبحانه: أنه واحد لا قسيم له فِي ذاته، ولا بعض له فِي وجوده، بخلاف الجملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازا كقولهم: دار واحدة وشخص واحد. وعبر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد فِي أفعاله، لا شريك له يشاركه فِي إثبات المصنوعات، وواحد فِي ذاته لا قسيم له، وواحد فِي صفاته لا يشبه الخلق فِيها.

61 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وَ {الم {1} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} } [آل عمران: 1-2] قوله: إن فِي خلق السموات والأرض الآية، قال المفسرون: لما نزل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] قالت كفار قريش: كيف يسمع الناس إله واحد؟ وتعجبوا وقالوا: إن محمدا يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] فليأتنا بآية إن كان من الصادقين. فأنزل الله هذه الآية، وعلمهم كيفية الاستدلال على الصانع وعلى توحيده، وردهم إلى التفكر فِي آياته، والنظر فِي مصنوعاته. وقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164] يريد: تعاقبهما فِي الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان، إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده. فذهابه يخلف مجيئه، ومجيئه يخلف ذهابه، أي: يأتي أحدهما خلاف الآخر، أي بعده. وكل شيء يجيء بعد شيء فهو خلفه، وبهذا فسر قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] قال الفراء: يذهب هذا ويجيء هذا.

وقوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164] الفلك: يكون واحدا وجمعا ومذكرا ومؤنثا، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] ، فإذا أريد به الواحد ذكره، وإذا أريد به الجمع أنث كالتي فِي هذه الآية. والآية فِي الفلك: تسخير الله إياها حتى يجريها على وجه الماء، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] ووقوفها فوق الماء مع ثقلها وكثرة وزنها. قوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] أي: بالذي ينفعهم من ركوبها والحمل فِيها للتجارات، فهي تنفع الحامل لأنه يربح، والمحمول إليه لأنه ينتفع بما حمل إليه. وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} [البقرة: 164] يعني: المطر، قال وهب: ثلاثة ما أظن يعلمهن إلا الله عز وجل: الرعد والبرق والغيم، ما أدري من أين هي وما هي؟ فقيل له: إن الله أنزل من الماء ماء. قال: نعم، ولا أدري أمطر من السماء على السحاب، أم خلق فِي السحاب؟ قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164] أراد بموت الأرض: جدوبتها ويبوستها، فسماها موتا مجازا، وذلك أن الأرض إذا لم يصبها مطر لم تنبت ولم تتم نباتا، فكانت من هذا الوجه كالميت، وإذا أصابها المطر أنبتت. قوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] البث: النشر والتفريق، ومنه قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] ، وقوله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] . قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض من جميع الخلق، من الناس وغيرهم. قوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164] : تقليبها قبولا ودبورا، وشمالا وجنوبا، وتصريفها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب، ومرة حارة ومرة باردة، ولينة وعاصفة. قال قتادة: قادر والله ربنا إن شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب ونشرا بين يدي رحمته، وإن شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح شيئا، إنما هي عذاب على من أرسلت إليه.

وقال عبيد بن عمير: يبعث الله المنشرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير سحابا، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر. 62 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَاجَتِ الرِّيحُ عَلَى عَهْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَسُبُّ الرِّيحَ، فَقَالَ: لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، وَلَكِنْ قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلا تَجْعَلْهَا عَذَابًا 63 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ؟ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ، فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتِي، حَتَّى أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا»

واختلف القراء فِي الرياح، فقرأ بعضهم بالجمع فِي مواضع، وبالتوحيد فِي مواضع، والأظهر فِي هذه الآية الجمع، لأن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى فِي دلالتها على الوحدانية بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه الجمع، وأما من وحد فإنه يريد الجنس، كما قالوا: أهلك الناس الدينار والدرهم. وإذا أريد بالريح: الجنس، كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع. وقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164] أي: المذلل، المطيع لله عز وجل فِي الهواء، لآيات أي: فِي هذه الأضياء التي ذكرها دلالات على توحيد الله وقدرته، لقوم يعقلون. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {165} إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ {167} } [البقرة: 165-167] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165] لما ذكر الله تعالى الدلالة على وحدانيته أعلم أن قوما، بعد هذه الدلالة والبيان، يتخذون الأنداد مع علمهم أنهم لا يأتون بشيء مما ذكره. ومعنى تفسير الأنداد: قال أكثر المفسرين: يريد بالأنداد: الأصنام المعبودة من دون الله. وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] أي: يحبون الأصنام كحب المؤمنين الله تعالى. ومعنى حب المؤمنين الله: حب طاعته والانقياد لأمره ليس معنى يتعلق بذات القديم سبحانه. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] أي: أثبت وأدوم، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنما، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن. وقال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده وقت البلاء، والمؤمن لا يعرض عن الله فِي السراء والضراء والشدة والرخاء.

64 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً، وَأَنَا أَقُولُ أُخْرَى، قَالَ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ للَّهِ تَعَالَى نِدًّا دَخَلَ النَّارَ " وَأَنَا أَقُولُ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ لا يَجْعَلُ للَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 165] يعني: الذين أشركوا بالله، {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة: 165] يعني: فِي الآخرة حين يعاينون جهنم، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] تقدير الآية: ولو يرون أن القوة لله جميعا، والمعنى: ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته، وجواب لو محذوف، وتقديره: لعلموا مضرة اتخاذ الأنداد. وكثير فِي التنزيل حذف جواب لو، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] ، وقرأ نافع وابن عامر ولو ترى بالتاء على مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى: لو تراهم إذ يرون العذاب رأوا أن القوة لله، أي أنهم شاهدوا من قدرته ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك أو شكهم فِيهِ. والاختيار كسر إن مع المخاطبة، لأن الرؤية واقعة على الذين ظلموا، فكان وجه الكلام استئناف إن، وجواب لو تقديره ههنا: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لعجبت، أو لرأيت أمرا عظيما، ثم تستأنف إن القوة. وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، وحجته قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [البقرة: 167] .

قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ} [البقرة: 166] العامل فِي إذ معنى شديد من قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {165} إِذْ تَبَرَّأَ} [البقرة: 165-166] كأنه قيل وقت تبرؤ الذين ابتعدوا، يعني: المتبوعين فِي الشرك والشر، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] يعني: السلفة والأتباع، ورأوا العذاب عاينوا جهنم. وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] الباء ههنا بمعنى عن، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] أي: عنه. والأسباب معناها فِي اللغة: الحبال، ثم يقال لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب. ويقال للطريق: سبب. لأنه بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، قال الله تعالى: فأتبع سببا أي: طريقا وأسباب السموات: أبوابها، لأن الوصول إليها يكون بدخولها، والمودة بين القوم تسمى: سببا، لأنهم بها يتواصلون، ومنه قول لبيد: بل ما تذكر من نوار وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: أسباب المودة والوصلات التي كانت بينهم فِي الدنيا تقطعت، وصارت مخالتهم عداوة. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 167] وهم الأتباع، {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: 167] أي: رجع إلى الدنيا، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [البقرة: 167] وهو جواب التمني بالفاء. قال الكسائي: تأويله: لو أن لنا أن نكر فنتبرأ منهم فِي الدنيا لو رجعنا إليها، كما تبرءوا هم، منا اليوم.

وقوله: كذلك أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167] فِي الآخرة، قال الربيع: يريد: أعمالهم القبيحة التي سلفت منهم فِي الدنيا، حسرات عليهم فِي الآخرة، لأنهم إذا رأوا حسن مجازاة الله المؤمنين بأعمالهم الحسنة تحسروا على أن لم تكن أعمالهم حسنة فيستحقوا بها من ثواب الله مثل الذي استحقه المؤمنون. قال ابن كيسان: يعني بأعمالهم: عبادتهم الأوثان، رجاءَ أن تقربهم إلى الله تعالى، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا. قال ابن عباس: نزلت الآية فِي الكفار الذين أخرجوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة. {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {169} } [البقرة: 168-169] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} [البقرة: 168] قال ابن عباس، فِي رواية أبي صالح: نزلت فِي الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر. وقال فِي رواية عطاء: عنى المؤمنين خاصة. ومعنى الحلال: المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه، يقال: حل الشيء يحل حلالا وحلا. والأصل فِي الطيب: هو ما يستلذ به ويستطاب، ويوصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فلا يستلذ، والحرام أيضا غير مستلذ، لأن المشرع يزجر عنه. ولما وصف الحلال بالطيب وصف الحرام بأنه خبيث، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] ، وأراد بالحلال الطيب: ما أحل الله أكله مما حرمه المشركون على أنفسهم من الزرع والأنعام، وهو قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] الآية، وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: قد غنمتكم مال أعدائكم، وعلى هذا القول عني بالحلال الطيب: الغنيمة.

وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا من الوجه الذي يحرم. وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] هي جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يقال: خطوت خطوة. مثل: حسوت حسوة، والحسوة: اسم ما تحسيت، وما كان اسما من هذا القبيل يجمع بتحريك العين نحو: غرفة وغرفات، وظلمة وظلمات، وثمرة وثمرات، وما كان نعتا جمع بسكون العين، نحو: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فتجمع بتحريك العين. ومن قرأ بتسكين العين فإنه نوى الضمة، وأسقطها لثقلها وهو يقدر ثباتها، لأن ذلك إنما يجوز فِي صورة الشعر. ومعنى {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] لا تتبعوا سبيله، ولا تسلكوا، ولا تقفوا أثره، ولا تأتموا به، ولا تطيعوه فيما يزين لكم من تحريم حلال واستحلال حرام فِي الشرع. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم أبيكم، وهو الذي أخرجه من الجنة. ثم بين الله تعالى عداوته فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 169] قال عطاء، عن ابن عباس: السوء: عصيان الله، والفحشاء: البخل. وقال فِي رواية باذان: السوء من الذنوب: ما لا حد فِيهِ فِي الدنيا، والفحشاء: ما كان فِيهِ حد. وقال السدي: أما السوء فالمعصية، وأما الفحشاء فالزنا.

وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] من تحريم الحرث والأنعام، هذا قول ابن عباس، فِي رواية أبي صالح، وقال فِي رواية عطاء: يريد المشركين وكفار أهل الكتاب، يعني: فِي نسبتهم أشياء مما شرعوها إلى الله تعالى، كما ذكر الله عنهما فِي قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ {170} وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ {171} } [البقرة: 170-171] قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 170] قال الكلبي: يعني الذين حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وإذا قيل لهم: اعملوا بما أنزل الله فِي القرآن. وقال الضحاك، عن ابن عباس: نزلت فِي كفار قريش. {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] وجدناهم عليه من الدين، فقال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] يتبعونهم؟ ! وهذا جواب لو، وهو محذوف، والواو فِي أولو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام التي هي للتوبيخ. وقال عطاء: لا يعقلون عظمة الله ولا يهتدون إلى دينه. وقوله: {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} [البقرة: 170] عام ومعناه الخصوص، أي: لا يعقلون شيئا من أمر الدين. ثم ضرب الله مثلا للكفار، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] الآية، النعيق: صوت الراعي بالغنم، يقال: نعق

ينعق نعقا ونعيقا ونعقانا ونعاقا، إذا صاح بالغنم زجرا. قال الأخطل: انعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك فِي الخلاء ضلالا قال الأخفش، والزجاج، وابن قتيبة: تقدير الآية: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا فِي وعظهم ودعائهم إلى الله كمثل الراعي الذي يصيح بالغنم ويكلمها يقول: كلي واشربي وارعي. وهي لا تفهم شيئا مما يقول لها، كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن الله شيئا. وعلى هذا حذف أحد المثلين اكتفاءً بالثاني. وقال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: ومثل الكفار فِي قلة فهمهم وعقلهم كمثل الرعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل عنهم شيئا، غير أنها تسمع الصوت ولا تفقه، وعلى هذا شبه الكفار بالرعاة الذين يكلمون ما {لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] ، وهي البهائم. وهذا قول مجاهد، قال: هذا مثل ضربه الله للكافر، يسمع ما يقال له ولا يعقل، فمثله كمثل البهيمة، تسمع النعيق ولا تفهم، ولا تعقل. ثم وصفهم فقال: صم قال قتادة: صم عن الحق، فلا يسمعونه، بكم عن الحق، فلا ينطقون به، عمي عن الحق فلا يبصرون. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {172} إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {173} } [البقرة: 172-173] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] قال المفسرون: هذا أمر إباحة، وأراد

بالطيبات: الحلالات من الحرث والأنعام وما حرمه المشركون منها على أنفسهم. 65 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّارِمِيُّ، إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. أَشْعَثُ أَغْبَرُ، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ فُضَيْلٍ، وَهُوَ مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي لَمْ يُخَّرِجْهَا الْبُخَارِيُّ وقوله: واشكروا لله أي: إذا كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب بأنه محسن إليكم. ثم بين أن المحرم ما هو، فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173] قال الزجاج: إنما إذا جعلته كلمة واحدة كان إثباتا لما يذكر بعده،

ونفيا لما سواه، وقوله: إنما حرم معناه: ما حرم عليكم إلا ما ذكر، وذلك لأن كلمة إن للتوكيد فِي الإثبات، وما تكون نفيا، فإذا قال القائل: إني بشر. فالمعنى: أنا بشر على الحقيقة، وإذا قال: إنما أنا بشر. كان المعنى: ما أنا إلا بشر، والميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح. قوله: والدم كانت العرب تجعل الدم فِي المباعر، وتشويهَا ثم تأكلها، فحرم الله تعالى الدم. وقد خصت السنة هذين الجنسين، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالجراد والسمك، وأما الدمان: فالكبد والطحال ". وقد قال الله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فقيد، وأطلق فِي هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد، وقوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] أراد: الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] معنى الإهلال فِي اللغة: رفع الصوت، قال ابن أحمر: يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر ويقال للمحرم: مهل. لرفعه صوته بالتلبية، وللذابح: مهل. لرفعه الصوت بذكر ما يذبح على اسمه. ومعنى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] : قال ابن عباس: ما ذبح للأصنام وذكر عليه غير اسم الله. وهذا قول جميع المفسرين.

66 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ سَبْعَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَلَعَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَعْنَةً تَكْفِيهِ، قَالَ: مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ، مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الأَرْضِ " وقوله: فمن اضطر أي: أحوج وألجئ، وهو افتعل من الضرورة، قال الأزهري: معناه: من ضيق عليه الأمر بالجوع. وقرئ برفع النون وكسرها، فمن رفع فلإتباع ضمة الطاء، ومن كسر فعلى أصل حركة التقاء الساكنين. قوله: غير باغ البغي: الظلم والخروج عن النصفة، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] ، ولا عاد هو من العدو، وهو التعدي فِي الأمور، يقال: عدا عدوا وعدوانا، إذا ظلم. قال مجاهد: غير قاطع لسبيل، أو مفارق للأئمة، أو خارج فِي معصية الله، فله الرخصة. وقال سعيد بن جبير: الذي يقطع الطريق

فلا رخصة له فِي شرب الخمر ولا أكل الميتة. وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم. وعلى هذا التأويل: كل من عصى بسفره لم تحل له الميتة عند الضرورة لأنه باغ، وهو مذهب الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفيه قول آخر: غير باغ بأكله من غير اضطرار، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام، فيأكله وهو غني عنه، وهذا قول الحسن، والربيع، وابن زيد، وعلى قول هؤلاء يستبيح العاصي بسفره الرخص، وهو مذهب أهل العراق. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] أي: للمعاصي، وفيه إشارة إلى أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يأخذ بما جعل فِيهِ الرخصة، رحيم حيث رخص للمضطر فِي أكل الميتة. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {174} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ {175} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177} } [البقرة: 174-177] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 174] نزلت فِي رؤساء اليهود الذين كتموا صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 174] ذكرنا تفسيره فِي قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 41] ، {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} [البقرة: 174] أي: إلا ما يئول عاقبته إلى النار، كقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174] أي: لا يكلمهم كلاما يسرهم وينفعهم، فأما التهديد والتوبيخ فقد يكون، {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 174] ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم. قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 175] مضى تفسيره. وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] المعنى: فما أصبرهم على عمل أهل النار حين تركوا الهدى وأخذوا بالضلالة! وقال الحسن، وقتادة، والربيع: ما أجرأهم على أعمال أهل النار! قال الفراء: وهذه لغة يمانية، يقول الرجل: ما أصبرك على كذا! يريد: ما أجرأك عليه. وما على هذا القول: تعجب، كقولك: ما أحسن زيدا! ومعنى التعجب من الله: أنه يعجب المخاطبين ويدلهم على أنهم قد حلوا محل من يتعجب منهم. وقال السدي: هذا على وجه الاستفهام، ومعناه: ما الذي صبرهم وأي شيء صبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وما على هذا القول للاستفهام لا للتعجب، وأصبر بمعنى: صبر، مثل: كرم وأكرم. وقوله: ذلك إشارة إلى قوله: ولهم عذاب أليم أي: ذلك العذاب لهم، {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176] يعني: التوراة، فاختلفوا فِيهِ، أي: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ

بَعِيدٍ} [البقرة: 176] لفي خلاف طويل، وذكرنا معنى الشقاق فيما سبق. وقوله عز وجل: ليس البر قرئ نصبا ورفعا، وكلاهما حسن، لأن اسم ليس وخبرها اجتمعا فِي التعريف، فجاز أن يكون أحدهما أيها كان اسما والثاني خبرا. قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وعطاء: كان الرجل فِي ابتداء الإسلام إذا شهد الشهادتين وصلى إلى أي ناحية كان، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت الفرائض، وحددت الحدود، وصرفت القبة إلى الكعبة، أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر ما ذكر فِي قوله: ولكن البر من آمن بالله. قال الزجاج: معناه: ولكن ذا البر، فحذف المضاف كقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] أي: ذوو درجات. وقال قطرب، والفراء: معناه: ولكن البر بر من آمن بالله، فحذف المضاف وهو كثير فِي الكلام، كقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] ، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . قوله: والكتاب قال ابن عباس: يريد: الكتب، والكتاب: اسم جنس، فيجوز وقوعه على الكثير. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] أي: على حب المال. قال ابن عباس، وابن مسعود: هو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر.

وقوله: وابن السبيل قال مجاهد: هو المنقطع من أهله يمر عليك. وقال قتادة: هو الضيف ينزل بالرجل. قوله: وفي الرقاب قال جميع المفسرين: يريد به: المكاتبين، ويكون التقدير: وفي ثمن الرقاب، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] أراد: فيما بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس، إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا اؤتمنوا أدوا. وارتفع الموفون بالعطف على محل من فِي قوله: من آمن فهو رفع لأنه خبر لكن، كأنه قال: ولكن البر من آمن بالله والموفون. وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} [البقرة: 177] يعني: الفقر، وهو اسم من البؤس، والضراء المرض، وانتصب الصابرين على المدح، وإن كان معطوفا على مرفوع. والعرب، إذا تطاول الكلام، اعترضت فِيهِ بالمدح أو الذم، وإن كان حقه الرفع، من ذلك قول الشاعر: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر فنصب النازلين، والطيبين على المدح، وإن كان صفة لاسم مرفوع.

قال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى: أعني، فكأنه قال، بعد قوله وآفة الجزر: أعني النازلين بكل معترك. قوله: وحين البأس يعني: وقت القتال فِي سبيل الله، والبأس: اسم للحرب، لما فِيها من الشدة، أولئك أي: أهل هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر. أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدثنا محمد بن الحسين الطبركي، حدثنا محمد بن مهران، حدثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن أبي ميسرة، قال: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] . 67 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي كُرَيْبٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْعَنْبَرِيُّ الأَرْحَامِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا عَتَّابٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ:

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَنِ الْبِرِّ سَأَلْتُكَ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلْتَنِي، فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِثْلَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَأَبَى أَنْ يَرْضَى كَمَا أَبَيْتَ أَنْ تَرْضَى، فَقَالَ: ادْنُ فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: «الْمُؤْمِنُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا» {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {179} } [البقرة: 178-179] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] : كتب ههنا بمعنى: فرض وأوجب، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] والقصاص فعال من المقاصة، يقال: قاصصته مقاصة وقصاصا، إذا أقدته من أخيه. وقال الليث: القصاص والتقاص فِي الجراحات والحقوق: شيء بشيء. وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] قال المفسرون: نزلت الآية فِي حيين من العرب، لأحدهما طول على الآخر،

فكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهر، فقتل الأوضع منهما من الشريف قتلى، فحلف الشريف: ليقتلن الحر بالعبد، والذكر بالأنثى، وليضاعفن الجراح، فأنزل الله هذه الآية يعلم أن الحر المسلم كفء للحر المسلم، وكذلك العبد للعبد، والذكر للذكر، والأنثى للأنثى. ولم تدل الآية على أن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقتل الذكر بالأنثى مستفاد من إجماع الأمة، لأنهما تساويا فِي الحرمة والميراث وحد الزنى والقذف وغير ذلك، فوجب أن يستويا فِي القصاص. وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] معنى العفو ههنا: ترك الواجب من أرش جناية، أو عقوبة ذنب، أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية، فصفح عنه وترك له من الواجب عليه. وقوله: من أخيه أراد: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به، وأراد بالأخ: المقتول، سماه أخا للقاتل، فدل على أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله. وفي قوله: شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود، لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: فمن عفي له من أخيه شيء والكنايتان فِي قوله: له، وأخيه ترجعاه إلى من، وهو القاتل. وقوله: فاتباع بالمعروف أي: فعلى ولي المقتول اتباع بالمعروف فِي المطالبة بالدية، وهو ترك التشديد على القاتل فِي طلب الدية. وقوله: وأداء إليه بإحسان وعلى القاتل تأدية المال إلى العافي بإحسان، أمرَ اللهُ تعالى الطالبَ أن يطلبَ بالمعروف، ويتبع الحق الواجب له، من غير أن يطالبه بالزيادة، أو يكلفه ما لم يوجبه الله، أو يشدد عليه، كل هذا تفسير المعروف، وأمرَ المطلوبَ منه بالإحسان فِي الأداء، وهو ترك المطل والتسويف. وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] قال ابن عباس: يريد: حيث جعل الدية لأمتك يا محمد، قال قتادة: لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة. قال المفسرون: إن الله تعالى كتب على أهل التوراة أن يقيدوا ولا يأخذوا الدية ولا يعفوا، وعلى أهل

الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا، ولا يأخذوا الدية، وخير هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو، فقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أي: هذا التخيير بين هذه الأشياء. 68 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْعُقَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قَالَ: «الْعَفْوُ» أَنْ تَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] قال: أمر هذا أن يطلب بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178] مما كتب على من كان قبلكم. 69 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَصْرٍ الْجَمَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَرْوَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَكْفَرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِذَنْبٍ لأَكْفَرَ الَّذِينَ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمَّى الْقَاتِلَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ مُؤْمِنًا، وَفِي وَسَطِهَا أَخًا، وَلَمْ يُؤْيِسْهُ فِي آخِرِهَا مِنَ التَّخْفِيفِ وَالرَّحْمَةِ وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [البقرة: 178] يعني: قتل بعد أخذ الدية والعفو، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] . 70 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى

الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ بِخَبَلٍ، وَالْخَبَلُ: الْجِرَاحَةُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاثٍ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعَدَّى، فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا " قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] قال مقاتل: حياة بما ينتهي بعضكم عن دماء بعض مخافة أن يقتل. وقال قتادة: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لأهل السفه والجُهَّلِ من الناس، وكم من رجل قد هم بداهية لولا مخالفة القصاص لوقع فِيها، ولكن الله حجز بالقصاص عبادة بعضهم عن بعض.

وهذا قول أكثر أهل التفسير، قالوا: إن القاتل إذا قتل قصاصا أمسك عن القتل من كان يهم به مخافة أن يقتل، فكان فِي القصاص حياة للذي همَّ بالقتل وللذي هم بقتله. وقال السدي: كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والعشرة والمائة، فلما قصروا على الواحد كان فِي ذلك حياة. وهذا قول ابن مسعود، قال: لا يقتل إلا القاتل بجنايته. وقوله: {يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] يعني: يا ذوي العقول، وأولي بمعنى: ذوي، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] يعني: إراقة الدماء مخافة القصاص. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {180} فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {181} فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {182} } [البقرة: 180-182] قوله: كتب عليكم أي: فرض وأوجب، {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] يريد: أسباب الموت ومقدماته من العلل والأمراض، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أي: مالا، والخير: اسم جامع للمال فِي كثير من القرآن، كقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، و {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] أي: بالعدل الذي لا ينكر، يعني: لا يزيد عن الثلث، حقا يعني: حق ذلك عليكم حقا، أي: وجب، على المتقين المؤمنين الذين يتقون الشرك. وكان السبب فِي نزول هذه الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بما لهم للبعداء رياءً وسمعةً، فصرف الله تعالى بهذه الآية ما كان يصرف إلى البعداء إلى الأهل والأقرباء، فعمل بها ما كان العمل، ثم نسختها آية المواريث

فِي سورة النساء، وكانت الوصية للوالدين والأقربين فرضا على من مات وله مال، حتى نسخ حكم الآية، ولا يجب على أحد وصية لأحد قريب ولا بعيد، وإذا أوصى فله أن يوصي لكل من يشاء من الأقارب والأباعد إلا الوارث. 71 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقْصُع بِجِرَّتِهَا وَلُعَابُهَا يَنُوسُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَلا إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا يَجُوزُ لِلْوَارِثِ وَصِيَّةٌ» 72 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ،

حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة. والخير فِي هذه الآية محمول على المال الكثير، قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا، وقال طاوس: من لم يترك ثمانين دينارا لم يترك خيرا. قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} [البقرة: 181] الكناية تعود إلى الإيصاء، لأن الوصية بمعنى الإيصاء، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] أي: وعظ، {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] من الميت، قال المفسرون: أي: فمن غير الوصية من الأوصياء والأولياء والشهود بعد ما سمعه من الميت، فإنما إثمه إثم التبديل، {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] أي: على من بدل الوصية، وبرئ الميت، إن الله سميع سميع ما قاله الموصي، عليم بنيته وما أراد، وعليم بما فعله الموصى. قال الكلبي: كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول هذه الآية وإن كانت مستغرقة للمال، فأنزل الله قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} [البقرة: 182] أي: علم، والخوف يستعمل بمعنى العلم، لأن فِي الخوف طرقا من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا. كأنه يقول: أعلم. وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، فاستعمل الخوف فِي العلم، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} [الأنعام: 51] ، وقوله: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] .

قوله: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] أي: ميلا، يقال: جنف يجنف جنفا، إذا مال. وكذلك تجانف، ومنه قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] . قال ابن عباس: يريد: خطأ من غير تعمد. وقال السدي، وعكرمة، والربيع، وعطية: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد. قال مجاهد: هذا حين يحضر الرجل وهو يموت، فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانا كذا. ومعنى الآية: أن الميت إذا أخطأ فِي وصيته أو خاف فِيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ومن ولي أو وصي أو والى أمر المسلمين، ويرد الوصية إلى العدل. قوله: فأصلح بينهم يعني: بين الورثة والمختلفين فِي الوصية، وهم الموصى لهم. قوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] لأنه متوسط للإصلاح، وليس بمبدل بإثم. 73 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَوَضَعَ وَصِيَّتَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِمَا ضَيَّع مِنْ زَكَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ»

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {184} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {185} } [البقرة: 183-185] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الآية، الصيام: مصدر من صام، كالقيام من قام، وأصله فِي اللغة: الإمساك عن الشيء والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم. لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] ، وصام النهار: إذا قام قائم الظهيرة. وصامت الريح: إذا ركدت. وصام الفرس: إذا قام على غير إعلاف. هذا أصله فِي اللغة. وفي الشريعة: هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع اقتران النية به. وإجماع المفسرين على أن المراد بهذا الصيام: صيام شهر رمضان، وكان الفرض فِي ابتداء الإسلام هو صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، فنسخ ذلك بصيام رمضان، قبل قتال بدر بشهرين. وقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أي: كما فرض على الأمم من أهل الكتابين قبلكم، أي: أنتم متعبدون بالصيام كما تعبد الذين كانوا من قبلكم. وقوله: لعلكم تتقون قال السدي: كي تتقوا الأكل والشرب والجماع وقت وجوب الصوم. وقال الزجاج: لتتقوا المعاصي، فإن الصيام وصلة إلى التقى، لأنه يكف الإنسان عن كثير مما تطمع إليه النفس من المعاصي.

وقوله: أياما معدودات قال الزجاج: أياما: ظرف ل كتب، كأنه قال: كتب عليكم الصيام فِي هذه الأيام. وقال الفراء: هي نصب على خبر ما لم يسم فاعله، وهو قوله: كتب كما تقول: أعطى عبد الله المال. وأراد بالأيام المعدودات: أيام رمضان. وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدة، أي: فعليه عدة ما أفطر، {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] سوى أيام مرضه وسفره، والعدة: فعلة، من العد، وهي بمعنى المعدودة كالطحن بمعنى المطحون. والمرض الذي يبيح الإفطار هو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة فِي علته زيادة لا يحتملها. وحد السفر الذي يبيح الإفطار: ستة عشر فرسخا فصاعدا، والإفطار: رخصة من الله عز وجل للمسافر، فمن أفطر فبرخصة الله أخذ، ومن صام ففرضه أدى. 74 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَكَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ 75 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَسِّنٍ حُصَيْنُ بْنُ نُسَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] أي: يطيقون الصيام، يقال: أطاق يطيق إطاقة وطاقة. كما يقال: أطاع يطيع إطاعة وطاعة. والطاقة والطاعة: اسمان يوضعان موضع المصدر. وقوله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] هذه قراءة أهل المدينة والشام، والمعنى: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا فدية طعام. والفدية: البدل، وقد مر ذكره، وأضيفت الفدية إلى الطعام لأنها اسم للقدر الواجب، والطعام: اسم يعم

الفدية وغيرها، فهذا كقولك: ثوب خز وخاتم حديد. وجمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه فأفطروا جماعةٌ، وكلُّ واحد منهم يلزمه طعامُ مسكين. وقرأ الباقون فدية منونة طعام مسكين على واحد، جعلوا ما بعد الفدية تفسيرا لها، ووحدوا المسكين لأن المعنى: على كل واحد لكل يوم طعام مسكين، ومثل هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وليس جميع القاذفين يفرق فيهم جلد ثمانين، إنما على كل واحد منهم ذلك. وقال أبو زيد: يقال: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة، وأعطانا كلنا مائة. معناه: كسا كل واحد منا حلة، وأعطى كل واحد منا مائة. فأما حكم الآية فقال ابن عباس والمفسرون: كان فِي ابتداء إيجاب الصوم: من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطعام وهو من واحد، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] قال ابن عباس: زاد فِي الصدقة على الواحد، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] أي: الصوم خير لكم من الإفطار والفدية، وهذا إنما كان خيرا لهم قبل النسخ، وبعد النسخ لا يجوز، أي يقال: الصوم خير من الإفطار والفدية. وقوله: شهر رمضان قال الفراء: ارتفع على البدل من الصيام، كأن المعنى: كتب عليكم شهر رمضان، وقال الأخفش: ارتفع على أنه خبر ابتداء محذوف، والمعنى: هي شهر رمضان، لأن قوله: شهر رمضان تفسير للأيام المعدودات. ورمضان لا يتصرف للتعريف وزيادة الألف والنون، مثل عثمان وسعدان، واختلفوا فِي اشتقاقه فقال قوم: هو

مأخوذ من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم: الرمضاء، والأرض رمضة، وسمي هذا الشهر رمضان لأن وجوب صومه وافق شدة الحر. وهذا القول حكاه الأصمعي، عن أبي عمرو. ويحكى عن الخليل، أنه قال: مأخذه من الرمضى، وهو من السحاب والمطر ما كان فِي آخر القيظ وأول الخريف، وسمي هذا الشهر رمضان لأنه يغسل الأبدان من الآثام. 76 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَهْرُ رَمَضَانَ سَيِّدُ الشُّهُورِ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةً ذُو الْحِجَّةِ» 77 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَمْزَةَ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفٌ أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا حَضَرَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَ: "

سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا تَسْتَقْبِلُونَ وَمَاذَا يَسْتَقْبِلُكُمْ؟ ، قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَحْيٌ نَزَلَ، أَوْ عَدُوٌّ حَضَرَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ لِكُلِّ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ " 78 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّا، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ: " يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِه تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةِ وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ وَشَهْرٌ يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ: يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ، أَوْ تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الْحَوْضِ شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَوَسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتِكْثُروا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَانِ لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا. أَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ مِنَ النَّارِ "

79 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ 80 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "

أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي رَمَضَانَ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِي، أَمَّا وَاحِدَةٌ: فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُمْ يُمْسُونَ وَخُلُوفُ أَفْوَاهِهِمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ أَنِ اسْتَعِدِّي وَتَزَيَّنِي لِعِبَادِي، فَيُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ نَصَبُ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا وَيَصِيرُونَ إِلَى جَنَّتِي وَكَرَامَتِي، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ جَمِيعًا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْعُمَّالِ إِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا " 81 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ: جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا يُوسُف بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِدُبَيْسٍ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَوْمُ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ، وَصَمْتُهُ تَسْبِيحٌ، وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ»

82 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وقوله: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] : 83 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْغُدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» 84 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي

الْمُجَالِدِ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: قَالَ عَطِيَّةُ الأَزْرَقُ لابْنِ عَبَّاسٍ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، وَقَدْ أُنْزِلَ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ، فَقَالَ: أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ أَرْسَالا فِي الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ وقوله: هدى للناس أي: هاديا، يعني القرآن، وبينات جمع بينة، يقال: بان الشيء يبين بيانا فهو بين. مثل: بيع بمعنى: بايع، والبينات: الواضحات. قال عطاء، عن ابن عباس: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} [البقرة: 185] يريد: من الرشاد إلى مرضاة الله. والفرقان يريد: فرق فِيهِ بين الحق والباطل، وبين لكم ما تأتون وما تذرون. قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] أي: حضر، والشهود فِي اللغة: الحضور، ومفعول شهد محذوف، لأن المعنى: فمن شهد منكم البلد أو بيته فِي الشهر، وانتصاب الشهر على الظرف. قوله: فليصمه قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: معناه: فليصم ما شهد منه، لأنه إن سافر فِي خلال الشهر كان له الإفطار. وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185] أعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما فِي الإفطار، لأن الله تعالى ذكر فِي الآية الأولى تخييرَ المقيم والمسافر والمريض، ونسخ فِي الثانية تخيير المقيم بقوله: {فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فلو اقتصر على هذا احتمل أن يعود النسخ إلى التخير للجميع، فأعاد بعد النسخ ترخيص المسافر والمريض، ليعلم أنه باق على ما

كان. وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] : اليسر: السهولة، يقال: تيسر الأمر، إذا سهل ولان. والمعنى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] بالرخصة للمسافر والمريض، {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] لأنه لم يشدد ولم يضيق عليكم، وقال الشعبي: إذا اختلف عليكم أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق، لأن الله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . 85 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ الْحَضْرَمِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ سَعِيدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأَدْرَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلا فِي الْمَسْجِدِ يُطِيلُ الصَّلاةَ، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَضِيَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهُمُ الْعُسْرَ، قَالَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ هَذَا أَخَذَ بِالْعُسْرِ وَتَرَكَ الْيُسْرَ» وقوله {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] يعني: عدة ما أفطرتم إذا أقمتم وبرأتم فصوموا للقضاء بعدد أيام الإفطار بالعذر. قال الفراء: معنى الآية: ولتكملوا العدة فِي قضاء ما أفطرتم. والواو واو استئناف، واللام من صلة فعل مضمر بعدها، والتقدير: ولتكملوا العدة شرع الرخصة، ومثله قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.

وقرئ ولتكملوا بالتشديد، وفعل وأفعل: يتعاقبان فِي أكثر الأحوال كما ذكرنا فِي وصى وأوصى. وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قال ابن عباس: لتعظموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين، وقال كثير من العلماء: أراد به التكبير ليلة الفطر. وكان أبو سلمة، وعروة، وسعيد بن المسيب يجهرون بالتكبير ليلة الفطر لقول الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، وقال زيد بن أسلم فِي هذه الآية: يعني التكبير يوم الفطر. ولعلكم تشكرون يعني: الرخصة. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186} أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} } [البقرة: 186-187] قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة: 186] الآية، قال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقوله: فإني قريب قال عطاء، عن ابن عباس: قريب من أوليائي وأهل طاعتي. وقال أهل المعاني: يريد: قربة بالعلم، كما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] يريد: بالعلم. وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] قال السدي: ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإما إن عجل له فِي الدنيا، وإما إن ادخر له فِي الآخرة، أو دفع به عنه مكروها. ويدل على صحة هذا التفسير 86 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُسْتُمَ الدِّينَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ثَلاثًا، إِلا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَبَّيْكَ عَبْدِي فَيُعَجِّلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ " 87 - وَمَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ جَعْفَرٍ، يَعْنِي: الأَحْمَرَ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَدْعُو بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ مِنْهُ مَا نَرَى إِجَابَتَهُ وَمِنْهُ مَا لا نَرَى إِجَابَتَهُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلا اسْتُجِيبَ لَهُ، أَوْ صُرِفَ عَنْهُ مِثْلَهَا سُوءًا، إِذَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ " قال ابن الأنباري: أجيب ههنا بمعنى: أسمع، لأنه أخبر عن قربه، وظاهر القرب يدل على السماع، لا على الإجابة، والإجابة قد تكون فِي بعض المواضع بمعنى السماع، لأنها تترتب على السماع، فسمى السماع إجابة، كما تقول: دعوت من لا يجيب. أي: من لا يسمع قال الشاعر: منزلة صم صداها وعفت ... أرسمها إن سئلت لم تجب أراد: لم تسمع، فنفى الإجابة لأن نفيها يدل على نفي السماع. وقوله: فليستجيبوا لي أي: فليجيبوني بالطاعة وتصديق الرسل، وأجاب واستجاب بمعنى واحد، وإجابة العبد لله: الطاعة. وقوله: لعلهم يرشدون ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو نقيض الغي. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] قال المفسرون: كان الجماع فِي أول فرض الصيام محرما فِي ليالي الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة، فأحل الله تعالى ذلك كله إلى طلوع الفجر.

وقال الوالبي، عن ابن عباس: كان المسلمون فِي شهر رمضان إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء فِي شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والرفث ههنا: كناية عن الجماع، قال ابن عباس: إن الله حيي يكني بما يشاء، إن الرفث واللماس والمباشرة والإفضاء: هو الجماع. وقال الزجاج: الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وقال الأخفش: إنما عداه ب إلى لأنه بمعنى الإفضاء. وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] أصل اللباس: ما يلبسه الإنسان مما يواري جسده، ثم المرأة تسمى لباس الرجل، والرجل لباس المرأة، لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا للآخر. قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. والمفسرون يقولون: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والمعنى: إنكم تلابسونهن، وتخالطونهن بالمساكنة، وهن كذلك، أي: قل ما يصبر أحد الزوجين عن الآخر، فمن فضل الله أن رخص فِي إتيانهن ليالي الصيام. وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] يقال: خانه واختانه، إذا لم يف له. والمعنى: علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم بالمعصية، أي: لا تؤدون الأمانة فِي الامتناع عن المباشرة، فتاب عليكم أي: عاد عليكم بالرخصة، وعفا عنكم ما فعلتم قبل هذا، فالآن باشروهن: أمر إباحة. والمباشرة: المجامعة، لتلاصق البشرتين، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أي: اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد، وهذا قول أكثر المفسرين.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] أمر إباحة، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا ببياض النهار وسواد الليل. 88 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي وَضَعْتُ تَحْتَ رَأْسِي خَيْطَيْنِ، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي شَيْءٌ، قَالَ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ، إِنَّمَا ذَلِكَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، أَوِ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ قال سهل بن سعد: كان الرجل إذا أراد الصوم ربط فِي رجليه خيطين: أسود وأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما، فأنزل الله عز وجل: من الفجر فعلموا أنه يعني: الليل والنهار.

وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] : 89 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَايِينِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: قُبِلَتْ مُوَاصَلَتُكَ وَلا تَحِلُّ لأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَلا صِيَامَ بَعْدَ اللَّيْلِ " وقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قال المفسرون: كان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف فيجامع أهله ثم يعود، فنهوا عن ذلك ما داموا معتكفين، فالجماع يفسد الاعتكاف. وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187] أشار إلى الأحكام التي ذكرها فِي هذه الآية، وحدود الله: ما منع الله من مخالفتها، ومعنى الحد فِي اللغة: المنع، ومنه يقال للبواب: حداد. لمنعه الناس من الدخول إلا بالإذن. وقوله: فلا تقربوها أي: لا تأتوها، كذلك يبين الله آياته للناس أي: مثل هذا البيان الذي ذكر، لعلهم يتقون لكي يتقوا ما حرم الله ومنع منه.

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، قال ابن عباس: يعني: باليمين الباطلة والكاذبة يقطع الرجل بها مال أخيه المسلم. والأكل بالباطل على وجهين: أحدهما: أن يكون على جهة الظلم، من نحو الغضب والخيانة والسرقة، والثاني: على جهة الهزء واللعب، كالذي يؤخذ فِي القمار والملاهي ونحو ذلك. قوله: وتدلوا بها أي: لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام أي: لا تصانعوهم بها، ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم، ومعنى الإدلاء فِي اللغة: إرسال الدلو وإلقاؤها فِي البئر، ومنه قوله تعالى: فأدلى دلوه ثم جعل كلُّ إلقاءِ قولٍ أو فعلٍ إدلاءً. يقال للمحتج: أدلى بحجته. كأنه يرسلها إلى مراده إدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان يمت إليه. فمعنى {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] : تتقربون وتتوصلون بتلك الأموال إليهم ليحموا لكم، وهو قوله: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} [البقرة: 188] أي: طائفة، {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة: 188] قال ابن عباس: باليمين الكاذبة. وقال غيره: بالباطل، يعني: بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم، وأنتم تعلمون أنكم مبطلون وأنه لا يحل لكم. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الآية، الأهلة: جمع هلال، وهو غرة القمر حين يراها الناس، سميت هلالا لأن الناس يهلون بذكر الله، ويذكرها، حين يرون، أي: يرفعون أصواتهم. قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا، ويكثرون مسألتنا عن الأهلة. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال قتادة: ذكر لنا أنهم سألوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم خلقت هذه الأهلة؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . أخبر الله تعالى أن الحكمة فِي زيادة القمر ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس فِي حجهم وحل ديونهم، وعدد نسائهم، وأجور أجرائهم، ووقت صومهم وإفطارهم. 90 - حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، إِمْلاءً، بِجُرْجَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي: أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ فَلا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِالصِّيَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا ثَلاثِينَ» . وَ «الْمَوَاقِيتُ» : جَمْعُ الْمِيقَاتِ، بِمَعْنَى: الْوَقْتِ، كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى: الْوَعْدِ وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] قال عامة المفسرين: كان أهل الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم نقب فِي بيته نقبا من مؤخره، يخرج منه ويدخل، فأعلمهم الله أن ذلك ليس ببر، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ

اتَّقَى} [البقرة: 189] أي: بر من اتقى مخالفة الله، وأمرهم بترك سنة الجاهلية، فقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] 91 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، وَالْحَوْضِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ واختلفوا فِي البيوت وأخواتها، فقرءوا بضم أولها وكسره، فمن ضم فهو الأصل، لأن فعل يجمع على فعول، ومن كسر فلأجل موافقة الياء، فإن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة، ولا يستقبح ذلك، وإن لم يكن فعل، لأن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تكره، ألا ترى أنه لم يجئ فِي الكلام عند سيبويه على فعل إلا إبل؟ وقد استعملوا هذا البناء بقصد تقريب الحركة من الحرف، نحو قولهم: ماضغ لهم، ورجل ضحك. وقالوا فِي الفعل: شهد ولعب. وقالوا، أيضا: شعير ورغيف وشهيد. وليس فِي الكلام شيء على وزن فعيل. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190} وَاقْتُلُوهُمْ

حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {191} فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ {193} الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {194} } [البقرة: 190-194] وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] قال الربيع وابن زيد: هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه. ولا تعتدوا أي: لا تبدءوهم ولا تفجئوهم بالقتال قبل تقديم الدعوة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال ابن عباس: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ والكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم. قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] أي: حيث وجدتموهم وأخذتموهم، يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا. أي: أخذناه، قال الفراء: ثقف يثقف ثقفا وثقفا. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191] يعني مكة، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وشركهم بالله أعظم من قتلكم إياهم، {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] نهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال في الحرم حتى يبتدئ المشركون، {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] أن يقتلوا حيثما وجدوا. فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192] يغفر ما كان في شركهم إذا أسلموا. قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أي: شرك، يعني: قاتلوهم حتى يسلموا، فليس يقبل من المشرك الوثني جزية، ويكون الدين الطاعة والعبادة، لله وحده، فلا يعبد دونه شيء، فإن انتهوا من الكفر، فلا عدوان أي: لا نهب ولا قتل ولا استرقاق، {إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] الكافرين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها، وسمى ما عليهم عدوانا لأن ما يكون منهم من الكفر عدوان، فسمى جزاء ذلك عدوانا كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .

وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في مثله، قال الزجاج: معناه: قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام. {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] قال ابن عباس: يريد: إن انتهكوا لكم حرمة فانتهكوا منهم مثل ذلك. أعلم الله أن أمر هذه الحرمات قصاص لا يكون للمسلمين أن ينتهكوها على سبيل الاعتداء، ولكن على سبيل القصاص، كقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] ويدل على هذا المعنى قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: ظلم فقاتل، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزه باعتدائه وقاتلوه، فسمى الثاني اعتداء لأنه مجازاة اعتداء، واتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] بالعون والنصرة. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195] كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله وأكثر ما يستعمل في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه. قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] الباء في بأيديكم: زائدة، يقال لكل من أخذ في عمل: قد ألقى يديه إليه وفيه. ومنه قول لبيد: حتى إذا ألقت يدا في كافر يعني: الشمس إذا بدأت في المغيب. والتهلكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة. ومعنى الهلاك: الضياع، وهو مصير الشيء بحيث لا يدرى أين هو، والمعنى: ولا تقربوا مما يهلككم، لأن من ألقى يده إلى الشيء فقد قرب منه. وهذا مبالغة في الزجر، وتأكيد في النهي، وكأنه المعنى: لا تقربوا من ترك الإنفاق في سبيل الله، أي: لا تمسكوا ولا تبخلوا، وهذا نهي عن ترك النفقة في الجهاد.

قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله وإن لم يكن إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. وقال السدي: أنفق في سبيل الله ولو عقالا، ولا تقل ليس عندي شيء. قال الزجاج: معناه: إنكم إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم بالمعصية، وجائز أن يكون: هلكتم بِتَقَوِّي عدوِّكم عليكم. وقال أبو أيوب الأنصاري: إنها نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله دينه ونصر رسوله، قلنا: لو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا، معنى الآية: لا تتركوا الجهاد فتهلكوا، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] قال ابن عباس: أحسنوا الظن بالله، فإنه يضاعف الثواب، ويخلف لكم النفقة. وعلى قول أبي أيوب، معنى وأحسنوا: أي: جاهدوا في سبيل الله، والمجاهد: محسن. {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {196} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ {197} } [البقرة: 196-197] قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال ابن عباس ومجاهد: أتموهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما،

وتأدية كل ما فيهما. وقال علي وابن مسعود: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك مؤتنفين. والعمرة واجبة في قول علي، وابن عباس، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال ابن عباس: والله إن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] . 92 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّوْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْحَجُّ الأَصْغَرُ 93 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو يَحْيَى الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْت» 94 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ» 95 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُحَمَّدَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُمْرَتَانِ تُكَفِّرَانِ مَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ

96 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي: حبستم ومنعتم عن إتمام الحج. وأصل الحصر والإحصار: الحبس، يقال: من حصرك ههنا، ومن أحصرك؟ وكل من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام، فإن أحصره عدو أو سلطان نحر هديا لإحصاره حيث أحصر، وحل من إحرامه، وهو قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، قال ابن عباس، وقتادة: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس. والهدي: ما يهدى إلى بيت الله، جمع هدية، هذه لغة أهل الحجاز، وتيم تقول: هدية وهدى. مثل:

مطية ومطى، بالتشديد، قال الفرزدق: حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلدات وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أي: لا تتحللوا من إحرامكم حتى ينحر الهدي، ومحله: حيث يحل ذبحه ونحره. وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حين صدوا عن البيت، نحروا هديهم بالحديبية، والحديبية ليست من الحرم. وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] المحرم إذا تأذى بهوام رأسه أو بالمرض أبيح له الحلق والمداواة، بشرط الفدية، وهو قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] وهو صيام ثلاثة أيام، يصوم حيث شاء، أو صدقة وهو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مدان، أو نسك جمع نسيكة وهي الذبيحة، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة، وهذه الفدية على التخيير، أيها شاء فعل كما دل عليه ظاهر الآية. 97 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَصْفَهَانِيُّ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ:

قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: " مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قَالَ: صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ " فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَلَكُمْ عَامَّةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] قال ابن عباس: أي: من العدو، أو كان حج ليس فيه عدو، {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] هو أن يقدم مكة محرما فيعتمر في أشهر الحج، ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، ويكون مستمتعا بمحظورات الإحرام، لأنه حل بالعمرة إلى حرامه بالحج، فإذا فعل ذلك وجب عليه دم وهو قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فإن كان معسرا فعليه صوم عشرة أيام وهو قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] أي: في أشهر الحج، يصوم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، إن شاء متفرقة، وإن شاء متتابعة، وقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] له أن يصومها بعد الفراغ من الحج أين شاء ومتى شاء، {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] يعني: الثلاثة والسبعة، وهذا ذكرى على طريق التأكيد، كقول الفرزدق: ثلاث واثنتان فهن خمس وقوله: ذَلِكَ أي: ذلك الفرض الذي أمرنا به من الهدي والصيام، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ

الْحَرَامِ} [البقرة: 196] أي: لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة. قال الفراء: واللام في قوله: لمن معناها: على، وذكر الله تعالى حضور الأهل والمراد به حضور المحرم، ولكن الغالب أن يسكن الرجل حيث أهله ساكنون، وكل من كانت داره على مسافة لا يقصر إليها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه يقرب من مكة. وقوله: واتقوا الله قال ابن عباس: يريد: فيما افترضه عليكم، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] لمن تهاون بحدوده. وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] تقدير الآية: أشهر الحج أشهر معلومات، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قال ابن عباس: جعلهن الله سبحانه للحج، فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن أحرم في غير أشهر الحج انعقد إحرامه عمرة. وسمى الله تعالى شهرين وبعض الثالث أشهرا، لأن العرب توقع لفظ الجمع على الاثنين، كقوله تعالى: أولئك مبرءون يعني: عائشة وصفوان، قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يعني: داود وسليمان، وقال: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وقال الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين

وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: من أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية، فلا رفث قال المفسرون: لا جماع. ولا فسوق يعني: المعاصي كلها، {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] هو أن يجادل صاحبه ويماريه حتى يغضبه، نهي المحرم عن هذا، وذكرنا وجه انتصاب قوله: فلا رفث عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . ومن قرأ بالرفع شبه لا بليس كقول الشاعر: من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح ولم يختلفوا في نصب ولا جدال وذلك أن معنى الأولين: النهي، كأنه قال: لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى الثالث: الخبر، لأن معناه: لا جدال في أن الحج في ذي الحجة، وهذا قول مجاهد، وأبي عبيدة، قالا: معناه: ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة، إبطالا للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية، وأرادوا الفرق بين اللفظين، ليكون مخالفة ما بينهما في اللفظ كمخالفة ما بينهما في المعنى. 98 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ،

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ فَرَجَعَ كَانَ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ وقوله {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] وفي هذا حث على فعل الخير، وإخبار أن الله تعالى ليس بغافل عن فعلهم، فهو مجازيهم بذلك. قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] 99 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]

قال المفسرون: نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون. ثم كانوا يسألون الناس، وربما ظلموهم وغصبوهم، فأمرهم الله أن يتزودوا فقال: وتزودوا. قال سعيد بن جبير: يعني: الكعك والسويق، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] يعني: ما تكفون به وجوهكم عن سؤال، وأنفسكم عن الظلم، فهذا نوع تقوى. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {199} } [البقرة: 198-199] قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] قال أبو أمامة التيمي: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا. قال: ألستم تلبون، ألستم تطوفون، ألستم ألستم؟ قلت: بلى. قال: إن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما سألت عنه، فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . وقال ابن عباس: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا أن

يتجروا في الحج، فسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس. قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] معنى الإفاضة في اللغة: دفع الشيء حتى يتفرق، ومعنى أفضتم: دفعتم بكثرة، يعني دفع بعضكم بعضا، لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضا. وعرفات: اسم لبقعة معروفة، قال عطاء: إن جبريل كان يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت عرفت. فسميت عرفات. وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198] بالدعاء والتلبية، {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] يعني المزدلفة، سميت مشعرا لأنه معلم للحج، والصلاة، والمقام، والمبيت به، والدعاء عنده من سنن الحج، {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي: اذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم، أي: يكون جزاء لهدايته. {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] وما كنتم من قبل هداه إلا ضالين، وقال سفيان الثوري: من قبله يعني: من قبل القرآن، ذكر الله منته عليهم بالهدى والقرآن. وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ذكرنا معنى الإفاضة. وقال عامة المفسرين: كانت الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات، إنما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله وسكان حرمه، فلا نخرج من الحرم ولسنا كسائر الناس. فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات كما يقف سائر الناس حتى تكون الإفاضة معهم منها. والناس في هذه الآية: هم العرب كلها غير الحمس.

وقال قتادة: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم لا يفيضون من الناس من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه. فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات. 100 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْكِنَانَةِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لأُمَّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: قَدْ فَعَلْتُ، إِلا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَمَّا ذُنُوبُهُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تُثِيبَ هَذَا الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يُجِبْهُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: تَبَسَّمْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تَتَبَسَّمُ فِيهَا، فَقَالَ: تَبَسَّمْتُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَيَحْثُو التُّرَابِ عَلَى رَأْسِهِ "

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ {200} وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {203} } [البقرة: 200-203] قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي: أديتم وفرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] قال جماعة من المفسرين: كانت العرب إذا فرغوا من حجهم ذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم، فأمرهم الله عز وجل بذكره، فقال: فاذكروني، فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم. وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] يعني: وأشد، أي: وأبلغ مما تذكرون آباءكم وأتم. وقال السدي: كانت العرب إذا قضت مناسكها، أي: فرغت من إراقة الدماء، قاموا بمنى، فيقوم الرجل فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت أبي. ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في الدنيا. وهو قوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] قال ابن عباس: هم المشركون، كانوا يسألون المال من الإبل والغنم، وكانوا يقولون: اللهم اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر. ولا يسألون حظا في الآخرة لأنهم

كانوا غير مؤمنين بالآخرة، وذلك قوله: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 200] أي: حظ ونصيب. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 201] الآية، هؤلاء المسلمون يسألون الحظ في الدنيا والآخرة، قال عطاء، عن ابن عباس: لما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر على الموسم عام الفتح، وبعث عليا بفاتحة { [براءة، كان أول من قال:] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة البقرة: 201] أبو بكر رضي الله عنه، ثم اتبعه علي والناس أجمعون. قال الحسن: الحسنة في هذه الآية: العلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة. وقال علي بن أبي طالب: الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة، وفي الآخرة: الجنة. وروى أبو الدرداء: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أوتي في الدنيا قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وآخرته فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار» . 101 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلا قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ: هَلْ دَعَوْتَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللَّهِ، ثَلاثًا، هَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ؟ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ عَفَّانَ، عن حَمَّادٍ 102 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ: اللَّهُمَّ {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] قال ابن عباس: يريد: ثواب ما عملوا. وقال الزجاج: أي: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم، ههنا، الدعاء. {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] : سريع: فاعل من السرعة: يقال: سرع يسرع سرعا وسرعة فهو سريع. والحساب: مصدر كالمحاسبة. قال ابن عباس: يريد أنه لا حساب على هؤلاء، إنما يعطون كتبهم بأيمانهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزتها عنكم، وهذه حسناتكم قد ضعفتها لكم. وقال ابن الأنباري: معناه: سريع المجازاة للعباد على أعمالهم، وإن كان قد أمهلهم مدة من الدهر، فإن وقت الجزاء عنده قريب. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] يعني: أيام التشريق، أيام منى ورمي الجمار، سماها معدودات لقلتها، كقوله: دراهم معدودة وهي ثلاثة أيام بعد النحر، أولها: يوم القر، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة يستقر فيه بمنى، والثاني: يوم النفر الأول، لأن الناس ينفرون في هذا اليوم من منى، والثالث: هو يوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني، وهذه الأيام الثلاثة من يوم النحر كلها أيام النحر وأيام رمي

الجمار، وهذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة: أيام التكبير أدبار الصلوات، يبتدأ مع الصبح يوم عرفة، ويختم مع العصر يوم الثالث عشر. والمراد بالذكر في هذه الأيام: التكبير أدبار الصلوات، وعند الجمرات يكبر عند كل حصاة. 103 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلابَةَ، حَدَّثَنَا نَايِلُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: عَلَى مَكَانِكُمْ، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَللَّهِ الْحَمْدُ، وَيُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] قال ابن عباس: يقول: من نفر من منى في يومين بعد النحر. {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ} [البقرة: 203] فلا حرج، يعني: من تأخر عن النفر إلى اليوم الثالث حتى نفر فيه، {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] في تأخره،

وقوله: لمن اتقى أي: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتقيا في حجهما تضييع شيء مما حده الله وأمر به، حتى لا يظن أن من تعجل أو تأخر خرج عن الآثام دون أن تبقى. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {206} } [البقرة: 204-206] قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] نزلت هذه الآية واللتان بعدها في الأخنس بن شريق، وكان حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجالسه ويظهر الإسلام، ويخبره أنه يحبه، وكان يعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه. قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204] كان يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله إني بك مؤمن ولك محب. يحلف بالله ويشهده على أنه مضمر ما يقول، وهو كاذب في ذلك، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] الألد: الشديد الخصومة، يقال: لددت، فأنت تلد لددا ولدادة. والخصام: مصدر كالمخاصمة. قال ابن عباس: يريد أنه يدع الحق ويخاصم في الباطل. قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة: 205] أي: أعرض وأدبر، {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] وذلك أنه انصرف من بدر ببني زهرة راجعا إلى مكة، وكان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلا، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم، قال السدي: مر بزرع للمسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر. وقال الضحاك، ومجاهد: تولى بمعنى: تملك ووليَ وصار واليا، ومعناه: إذا ولي سلطانا جار.

وأراد بالحرث: الزرع والنبات، وبالنسل: نسل الدواب، على ما روي أنه أهلك المواشي وأحرق الزرع. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] قال الكلبي، عن ابن عباس: لا يرضى بالفساد والعمل بالمعاصي. وذكر في تفسير الفساد ههنا: الخراب، وقطع الدراهم، وشق الثياب، لا على وجه المصلحة. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة: 206] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه إلى إجابة الله في ظاهره وباطنه، فدعاه الأنفة والكبر إلى الإثم والظلم، وهو قوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206] معنى العزة ههنا: المنعة والقوة. قال قتادة: إذا قيل له: مهلا مهلا. ازداد إقداما على المعصية. والمعنى: حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، فحسبه جهنم كافيه الجحيم جزاء له وعذابا، يقال: حسبك كذا. أي: كفاك. وحسبنا الله: أي: كافينا الله، قال امرؤ القيس: وحسبك من غنى شبع وري أي: يكفيك الشبع والري. ولبئس المهاد جهنم، على معنى: بئس الموضع وبئس المقر، والمهاد: جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] الآية، قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته، ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، إني من أرماكم رجلا، وايم الله، لا تصلون إلي حتى أرمي ما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع أبا يحيى» . وأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] والشرى: من الأضداد، يقال: شرى، إذا باع. وشرى: إذا اشترى، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي: باعوه. ومعنى بيع النفس ههنا: بذلها لأوامر الله وما يرضاه. ونصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] على المفعول له، أي: لابتغاء مرضات الله ثم نزع اللام منه، والمرضاة: الرضا، يقال: رضي رضا ومرضاة. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {208} فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {209} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {210} } [البقرة: 208-210] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] قال المفسرون: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاموا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وعلى هذا. فقالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن

التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا. فأنزل الله هذه الآية. والسلم بكسر السين: الإسلام، وهو اسم جعل بمنزلة المصدر، كالعطاء من أعطيت، والنبات من أنبت، والفتح لغة، ويجوز أن يكون بالفتح والكسر: الصلح، والمراد بالصلح: الإسلام، لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال من أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض؟ فسمي الإسلام صلحا لما ذكرنا. وقوله: كافة الكافة: اسم للجملة الجامعة لأنها تمنع من الشذوذ والتفرق، والمعنى: ادخلوا في شرائع الإسلام جملة مانعة من شريعة لم تدخلوا فيها. والكافة في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانا عن السوء فكف يكف كفا. سواء لفظ اللازم والمجاوز، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 208] آثاره ونزعاته فيما زين لكم من تحريم السبت ولحم الجمل، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] ظاهر العداوة، أخرج أباكم من الجنة وقال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] . وقوله: فإن زللتم يقال: زلت قدمه تزل زللا وزلا وزليلا، إذا دحضت. ومعنى زللتم: تنحيتم عن القصد والشرائع في تحريم السبت ولحوم الإبل، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 209] يعني القرآن ومواعظه، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 209] في انتقامه، لا تعجزونه، حكيم فيما شرع لكم من دينه. قوله: هل ينظرون الآية، هل ههنا: استفهام يراد به النفي والإنكار، كما يقال: هل يفعل هذا إلا مائق؟ ! أي: ما يفعل، وينظرون بمعنى: ينتظرون، يقال: نظرته، وانتظرته. ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، والمعنى: ما ينتظر التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان إلا العذاب يوم القيامة؟ ! يريد: أنه لا ثواب، لهم فلا ينتظرون إلا العذاب، وهو قوله: {إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أي: يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله، فحذف المضاف، ومثل هذا قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] أي: عذاب الله.

وقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] الظلل: جمع ظلة مثل: حلة وحلل، وهي ما يستظل به من الشمس، ويسمى السحاب ظلة لأنه يستظل بها، ومنه قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] أراد: غيما تحته سموم، والمعنى: أن العذاب يأتي فيها ويكون أهول، وقوله: والملائكة يعني: الذين وكلوا بتعذيبهم، وقضي الأمر أي: فرغ لهم مما يوعدون به بأن قدر ذلك عليهم وأعد لهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة: 210] أي: في الجزاء من الثواب والعقاب، وذلك أن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم، ثم إليه يصيرون، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وهذا كقوله: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] وقرئ ترجع الأمور بضم التاء وفتح الجيم، أي: ترد إليه الأمور. {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211] قوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] معنى السؤال ههنا: تبكيت للمسئول عنه وتقريع له، لا تعرف منه، كما يقال: سله كم أنعمت عليه فكفر نعمتي؟ كذلك هؤلاء، أنعم الله عليهم نعما، فلق البحر لهم، وأنجاهم من عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى فكفروا بهذه النعم حين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبينوا نعته، {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} [البقرة: 211] التبديل: تصيير الشيء على غير ما كان عليه، يريد: من يجعلها نقمة بالكفران وترك الشكر لها، {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211] يعني: لمن فعل ذلك، والعقاب: عذاب يعقب الجرم. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212] فهي همهم وطلبتهم ونيتهم، فهم لا يريدون غيرها، كقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] ، وإنما قيل: زين على التذكير لأن الحياة مصدر، فذهب إلى تذكير المصدر كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، وهذا قول الفراء، وقال الزجاج: تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة والبقاء والعيش واحد.

قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212] أي: يسخرون من فقراء المؤمنين ويعيرونهم بالفقر، {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} [البقرة: 212] الشرك، وهم هؤلاء الفقراء، {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 212] لأنهم في الجنة وهي عالية، والكافرين في النار وهي هاوية، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] قال ابن عباس: يريد: أن أموال قريظة والنضير تصير إليهم بغير حساب ولا قتال، بأسهل شيء وأيسره. وقال مقاتل: يرزق من يشاء حين بسط للكافرين وقتر على المؤمنين، بغير حساب يعني: ليس فوقه من يحاسبه، فهو الملك يعطي من يشاء بغير حساب، وهذا معنى قول الحسن، لأن الله قال: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] لا يسأل عما يفعل. {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {213} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {214} } [البقرة: 213-214] قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] قال ابن عباس: يعني: على عهد إبراهيم كفارا كلهم. وقال الحسن، وعطاء: كان الناس بعد وفاة آدم إلى مبعث نوح، أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر، كانوا

كفارا كلهم أمثال البهائم، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] نوحا وإبراهيم وغيرهما من النبيين، {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 213] يعني الكتب، والكتاب: اسم جنس أريد به الجمع، بالحق يريد: بالعدل والصدق، ليحكم أي: الكتاب، بين الناس بما فيه من البيان، {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] من الأحكام، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213] الكناية راجعة إلى الكتاب، والمراد بالكتاب المختلف فيه: التوراة. قوله: {إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة: 213] يعني: اليهود، واختلافهم في التوراة: تبديل بعضهم وتحريفهم، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213] الدلالات الواضحات في شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة نبوته، بغيا بينهم حسدا منهم وطلبا للرياسة، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] أي: إلى ما اختلفوا فيه، من الحق والمعنى: لمعرفة ما اختلفوا فيه، يقال: هديته إلى الشيء، وللشيء. قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة، فصلت اليهود إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام، وهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا. فهدانا الله تعالى للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهودية لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدانا الله عز وجل من ذلك. 104 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] قَالَ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»

وقوله: {بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] أي: بعلمه وإرادته فيهم، قال ابن عباس: يريد: كان في قضائي وقدري. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة: 214] الآية، قال عطاء، عن ابن عباس: لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة اشتد الضر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل تطييبا لقلوبهم: أم حسبتم. معناه: بل أحسبتم؟ {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} [البقرة: 214] أي: ولم يأتكم، وما صلة، {مَثَلُ الَّذِينَ} [البقرة: 214] أي: شبه الذين، خلوا مضوا، من قبلكم من النبيين والمؤمنين، وفي الكلام حذف تقديره: مثل محنة الذين، أو مثل مصيبة الذين من قبلكم، والمثل والمثل: واحد. ثم ذكر ما أصابهم فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة: 214] قال عطاء: يريد: الفقر الشديد، والضراء المرض والجوع، {وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] : حركوا بأنواع البلايا والرزايا، {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] إلى أن يقول الرسول، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ؟ أي: بلغ منهم الجهد إلى أن استبطئوا النصر، فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] أي: أنا ناصر أوليائي لا محالة، ونصري قريب منهم. وقرئ حتى يقولُ الرسول رفعا، كما تقول: سرت حتى أدخلها. بمعنى: سرت فأدخلها، بمنزلة: سرت فدخلتها، وحتى ههنا مما لا يعمل في الفعل شيئا، لأنها تلي الجمل، تقول: سرت حتى إني كال، وكقول الفرزدق: فيا عجبا حتى كليب تسبني

فعملها في الجمل يكون في معناها، لا في لفظها، وعلى هذا وجه الآية. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قال الكلبي، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخا كبيرا، وعنده مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية. وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] إلى قوله: وما تفعلوا قال ابن الأنباري: إن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصدقة، أين يخص بها عند موته؟ فأنزل الله هذه الآية؟ فلما نزلت آية المواريث نسخت من هذه الآية التصدق على الوالدين. ويقال: إن الإنفاق في هذه الآية لا يراد به الصدقة عند الموت، إنما يراد به النفع في الدنيا، والإيثار بما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى، فأخبر الله تعالى أن من قصد ذلك ينبغي له أن يبر بذلك المذكورين في هذه الآية. وعلى هذا: الآية محكمة لم ينسخ منها شيء، وهذا معنى قول مقاتل بن حيان، وقال كثير من أهل التفسير: هذا كان قبل فرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة بالآية التي في البراءة. وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] أي أنه يحصيه ويجازي عليه.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {216} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {217} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {218} } [البقرة: 216-218] قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] قال عطاء: يعني بهذا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، لأن القتال مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فريضة، وما كان يجوز القعود عنه إذا خرج لجهاد عدو. والإجماع اليوم على أنه من فروض الكفاية. وقوله: وهو أي: القتال، كره لكم قال الفراء: الكره: المشقة، قمت على كره، أي: على مشقة، والكره بفتح الكاف: الإجبار، يقال: أقامني على كره، إذا أكرهك عليه. ولهذا المعنى لم يقرأ، ههنا، كره بالفتح كما قرئ في سائر المواضع بالضم والفتح، لأن المشقة ههنا أليق من الإجبار، وهذا الكره من حيث المشقة الداخلة على النفس وعلى المال من المئونة، لا أنهم كانوا يكرهون فرض الله. وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] لأن في الغزو إحدى الحسنيين، إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة، {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} [البقرة: 216] يعني: التعود على الغزو، {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر. وقال ابن عباس: كنت ردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «يابن عباس، ارض عن الله بما قدر، وإن كان خلاف هواك، إنه لمثبت في كتاب الله عز وجل» . فقلت: يا رسول الله، أين وقد قرأت القرآن؟ فقال " {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] .

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] أي: يعلم ما فيه مصالحكم ومنافعكم، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم. قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] الآية: 105 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قُلْتُ: حَدَّثَكُمْ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ الْجَرْكَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الأَسَدِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى هَبَطُوا نَخْلَةً، فَوَجَدُوا بِهَا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فِي عِيرِ تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ، فِي يَوْمٍ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: غُرَّةُ هَذِهِ مِنْ عَدُوٍّ وَغُنْمٍ رُزِقْتُمُوهُ، وَلا نَدْرِي أَمِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَذَا الْيَوْمُ أَمْ لا؟ وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لا نُسَلِّمُ هَذَا الْيَوْمَ إِلا مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلا نَرَى أَنْ تَسْتَحِلُّوهُ لِطَمَعٍ أَشْفَيْتُمْ عَلَيْهِ، فَغَلَبَ عَلَى الأَمْرِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، فَشَدَّوْا عَلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ وَغَنِمُوا عِيرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَرَكِبَ وَفْدٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَيَحِلُّ الْقِتَالُ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.

فَحَدَّثَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ حِينَ يَسْجِنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَصَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلاةِ فِيهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ، وَهُوَ سُكَّانُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الدِّينِ. فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] فقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] يعني: أهل الشرك يسألون عن ذلك على جهة العيب للمسلمين، باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقوله: قتال فيه تقديره: عن قتال فيه، وكذا هو في قراءة ابن مسعود. قل لهم يا محمد، قتال في الشهر الحرام، كبير أي: عظيم في الإثم، وتم الكلام ههنا، ثم قال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] يعني: صد المشركين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عن البيت عام الحديبية، وكفر به أي: بالله، والمسجد الحرام ينخفض بالعطف على سبيل الله تقديره: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراج أهله أهل المسجد، منه أكبر أعظم وزرا، {عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ} [البقرة: 217] الشرك والكفر، {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] يعني: قتل ابن الحضرمي. ولما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش، صاحب هذه السرية، إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام، فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت.

وقوله: ولا يزالون يعني المشركين، يقاتلونكم أيها المؤمنون، {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة: 217] الإسلام، إلى الكفر إن استطاعوا، ثم ذكر حكم من يرجع عن الإسلام إلى الكفر فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] يعني: يبقى على الردة إلى أن يموت، {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] أي: بطلت، يقال: حبط عمله، يحبط حبطا وحبوطا، وأحبطه الله إحباطا. والمسلم إذا ارتد ومات على الردة حبط عمله الذي عمله في الإسلام، وبقي في النار خالدا، وهو قوله عز وجل: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . قال الزهري: ولما فرج الله على أهل تلك السرية بهذه الآية ما كانوا فيه من غم بقتالهم في الشهر الحرام، طمعوا فيما عند الله من ثوابه. فقالوا: يا نبي الله، أنطمع أن تكون هذه الغزوة نعطى فيها أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 218] بمحمد والقرآن، {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة: 218] فارقوا عشائرهم وأوطانهم، وجاهدوا المشركين، أي: حملوا أنفسهم على الجهد والمشقة في قتالهم، {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] أي أنهم بما فعلوا على رجاء رحمة الله، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعملوا ورحمهم. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية، نزلت في جماعة من الصحابة، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت هذه الآية. والخمر إنما سميت خمرا لأنها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الداء، إذا خالطه. قال كثير:

هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت وهي كل شراب مسكر مغط للعقل، سواء كان عصيرا أو نقيعا، مطبوخا كان أو نيا. والميسر: القمار، والياسر واليسر: المقامر، وتجمع اليسر: أيسارا. وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] أراد: الإثم بسببهما، من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وزوال العقل، والمنع من الصلاة، والقمار يورث العداوة، بأن يصير مال الإنسان إلى غيره بغير جزاء يأخذ عليه. وقراءة العامة كبير بالياء، لأن الذنب يوصف بالكبر والعظم، يدل على ذلك قوله تعالى: {كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى: 37] ، {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] كذلك ههنا ينبغي أن يكون بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبيرة؟ وقرأ حمزة، والكسائي بالثاء، لأنه قد جاء فيها ما يقوي وصف الإثم فيهما بالكثرة دون الكبر، وهو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فذكر عددا من الذنوب فيهما. ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عشرة في سبب الخمر فدل على كثرة الإثم فيهما.

قوله: ومنافع للناس منفعة الخمر: ما كانوا يصيبونه من المال في بيعها والتجارة فيها، واللذة عند شربها، والتقوي بها. ومنفعة الميسر: ما يصاب من القمار، ويرتفق به الفقراء. وليست هذه الآية المحرمة للخمر، إنما المحرمة التي في المائدة. قال قتادة: في هذه الآية ذمها ولم يحرمها، وهي يومئذ حلال. وقال ابن عباس: كل شيء فيه قمار فهو ميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، والكعاب. وقوله: وإثمهما أي: الإثم الحاصل، {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، لأن نفعهما في الدنيا، وما يحصل من الإثم بسببهما يضر بالآخرة. وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219] نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لما نزل قوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] في سؤاله، أعاد السؤال وسأل عن مقدار ما ينفق، فنزل قوله: قل العفو قال ابن عباس: ما فضل من المال والعيال. وهو قول السدي، وقتادة، وعطاء. وأصل العفو في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: حتى عفوا أي: زادوا على ما كانوا عليه من العدد. وقال أهل التفسير: أمروا أن ينفقوا الفضل، وكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه ما يكفيه في عامه، وينفق باقيه، إلى أن فرضت الزكاة، فنسخت آية الزكاة المفروضة هذه الآية، وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة.

واختلف القراء في رفع العفو ونصبه، فمن نصب جعل ماذا اسما واحدا في موضع نصب، وجواب هذا العفو بالنصب، كما تقول في جواب ما أنفقت درهما، أي: أنفقت درهما، ومن رفع جعل ذا بعد ما بمنزلة الذي، ورد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو. أي: الذي ينفقون العفو، فيضمر المبتدأ الذي كان خبرا في سؤال السائل، كما تقول في جواب ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [البقرة: 219] أشار إلى ما بين في الإنفاق، كأنه قال: مثل الذي بينه لكم في الإنفاق يبين لكم الآيات، لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا. قال المفسرون: لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها، فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها، فترغبوا فيها. قال قتادة: من تفكر في الدنيا والآخرة عرف ذلك فضل إحداهما على الأخرى، عرف أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وعرف أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء. {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {220} وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {221} } [البقرة: 220-221] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] قال ابن عباس: لما أنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] انطلق من كان عنده مال ليتيم فعزل طعامه عن طعامه،

وشرابه عن شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، واشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] يعني: الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عون منهم خير وأعظم أجرا، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} [البقرة: 220] أي: تشاركوهم في أموالهم وتخالطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم. قال الضحاك: مخالطتهم: ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشرب اللبن، هذا إذا قام على مال اليتيم. وقوله: فإخوانكم أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض. وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} [البقرة: 220] أي: لأموالهم، من المصلح لها، فاتقوا الله في مال اليتامى ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] معنى الإعنات: الحمل على المشقة التي لا تطاق، يقال: أعنت فلان فلانا. أي: أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه. قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. وقال آخرون: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم، وأثمكم في مخالطتهم، ومعناه: التذكير بالنعمة في التوسعة. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 220] في ملكه، حكيم فيما أمركم به. قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] نزلت في مرثد الغنوي، كانت له خليلة مشركة في الجاهلية يقال لها: عناق. فلما أسلم قالت له: تزوج بي. فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أيحل لي أن أتزوجها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحرم نكاح المشركات.

ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية في المائدة، وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وقوله: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] الأمة: المملوكة. قال السدي: كانت لعبد الله بن رواحة أمة سوداء، فغضب عليها ولطمها، ثم أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال له: «وما هي يا عبد الله؟» فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله. فقال: «هذه مؤمنة» . قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجن بها. ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وعرضوا عليه حرة مشركة، فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] يعني: المشركة بمالها وجمالها. وقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحال، وقوله: أولئك يعني المشركين، {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] أي: إلى الأعمال الموجبة للنار. {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} [البقرة: 221] يقول: إلى التوبة والتوحيد والعمل الموجب لهما. {بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] أي: بأمره، يعني أنه بأوامره يدعوكم. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {222} نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {223} } [البقرة: 222-223] قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] قال أنس بن مالك: إن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت، فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها، فسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فأنزل الله هذه الآية. والمحيض: الحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا.

قوله: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] قال عطاء، وقتادة، والسدي: أي: قذر. وقال مجاهد والكلبي: دم. والأذى: ما يغم ويكره من كل شيء، {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] أي: تنحوا عنهن ودعوا مجامعتهن إذا حضن، {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] لا تجامعوهن، يقال: قرب الرجل امرأته، إذا جامعها قربانا. وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] : أي: يتطهرن، ومعناه: يغتسلن بالماء بعد النقاء من الدم، فأدغمت التاء في الطاء، ومن قرأ يطهرن بالتخفيف فهو من طهرت المرأة تطهر طهرا وطهارة، ومعناه: حتى يفعلن الطهارة التي هي الغسل. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] اغتسلن، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] بتجنبه في الحيض، وهو الفرج، قاله مجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وعكرمة، وقال ابن عباس، في رواية الوالبي يقول: طئوهن في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات. قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] : 106 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ:

أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَن أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُدْبِرَةٌ جَاءَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] الآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعْيَمٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ومعنى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] أي: مزرع ومنبت للولد، قال أهل المعاني: معناه: ذوات حرث لكم، فيهن تحرثون الولد، فخاف المضاف. وقال الأزهري: حرث الرجل: امرأته. وأنشد المبرد: إذا أكل الجراد حروث قوم ... فحرثي همه أكل الجراد وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي: ائتوا مواضع حرثكم كيف شئتم مقبلة ومدبرة، بعد أن يكون في صمام واحد. قال ابن عباس في هذه الآية: ائتها كيف شئت في الفرج. {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: العمل لله بما يحب ويرضى. وقال مقاتل: يقول: قدموا طاعة الله وأحسنوا عبادته. واتقوا الله فيما حد لكم من الجماع، وأمر الحيض، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة: 223] راجعون إليه، والمعنى: ملاقو جزائه، إن ثوابا وإن عقابا، وبشر المؤمنين الذين خافوا وحذروا معصيته. {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {224}

لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {225} لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {227} } [البقرة: 224-227] قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته بشير بن النعمان، حلف أن لا يكلمه، ولا يدخل بيته وبيت خصم له، وجعل يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي. فأنزل الله هذه الآية. والعرضة: المانع من الشيء، وتقول العرب: هو له دونه عرضة، إذا كان يمنعه من الوصول إليه. قال الحسن، وطاوس، وقتادة: ولا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى، من حيث تتعمدون اليمين لتعتلوا بها. والأيمان: جمع يمين، وهو القسم. وقوله: أن تبروا قال الزجاج: تقديره: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فسقط في، ووصل الفعل إليه، وقال أبو عبيدة: معناه: أن لا تبروا، فحذفت لا، كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، وكقوله: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، والمعنى: لئلا تضلوا، ولئلا تميد بكم. وقال أبو العباس: تقديره: لدفع أن تبروا، فحذف المضاف. ومعنى أن تبروا: أن تصنعوا الخير وتصلوا الرحم وتأمروا بالمعروف، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] يسمع أيمانكم، ويعلم ما تقصدون بها كقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] اللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه ولا يعتد به، يقال: لغا يلغو لغوا. قال ابن الأنباري: اللغو: ما يطرح من الكلام استغناءً عنه، ولا يُفتقَر إليه. وقال الزجاج: وكل ما لا خير فيه مما يؤثم فيه، أو يكون غير محتاج إليه من الكلام، فهو لغو ولغا.

قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي: لغو اليمين: ما يسبق به اللسان من غير عقد ولا قصد، ويكون كالصلة من الكلام، مثل قول القائل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله. ونحو هذا، ولا كفارة فيه ولا إثم، هذا قول عائشة رضي الله عنها. وقال ابن عباس، في رواية الوالبي: لغو اليمين: أن يحلف الإنسان يرى أنه صادق فيه، ثم يتبين له خلاف ذلك، فهو خطأ منه غير عمد، ولا كفارة عليه فيه ولا إثم. وهو قول الحسن والنخعي والزهري وقتادة والربيع والسدي. وقال في رواية وسيم: اللغو: اليمين في حالة الغضب والضجر، من غير عقد ولا عزم، وهو قول علي رضي الله عنه وطاوس. وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] أي: عزمتم وقصدتم، لأن كسب القلب: العقد والنية، {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] معنى الحليم في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكافرين والعصاة، والحلم في كلام العرب معناه: الأناة والسكون. قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية يقال: آلى يولي إيلاء، إذا حلف. ويقال لليمين: الألية. قال ابن عباس: هو أن يحلف بالله لا ينكح امرأته، فحكمه ما ذكره الله تعالى، وهو قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] والتربص: التلبث والانتظار، فإن جامع قبل مضي أربعة أشهر لزمته الكفارة، والنكاح ثابت، وإن لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر، فإن عفت المرأة ولم تطلب حقها من الجماع فلا شيء، ولا يقع به طلاق، وإن طلبت

حقها وقف الحاكم زوجها، فإما أن يطلق وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعا طلق الحاكم عليه بالقهر والجبر، وهو قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي: رجعوا، يعني: بالجماع. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] أي: طلقوا بعد مضي أربعة أشهر، {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: 227] يسمع ما قاله المطلق، عليم بما في قلبه. {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] الآية، يعني: المطلقات المدخول بهن البالغات غير الحوامل، لأن في الآية بيان عدتهن، ومعنى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] : ينتظرن انقضاء {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] لا يتزوجن، لفظه خبر ومعناه: الأمر. والقروء: جمع قرء، وجمعه القليل: أقرؤ، وأقراء، والكثير: قروء، وهذا الحرف من الأضداد، يقال للحيض: قرء. وللأطهار: قروء. وأقرأت المرأة في الأمرين جميعا. والمراد بالتي في الآية: الأطهار، في قول عائشة رضي الله عنها، وزيد بن ثابت، وابن عمر، ومالك، والشافعي، وأهل المدينة، قال ابن شهاب: ما رأيت أحدا من أهل بلدنا إلا يقول: الأقراء: الأطهار. إلا سعيد بن المسيب. وأكثر المفسرين: على أنها الحيض، وهو قول فقهاء الكوفة. قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قال ابن عباس وقتادة ومقاتل:

يعني: الحبل والولد، ومعنى الآية: لا يحل لهن أن يكتمن الحمل ليطلن حق الزوج من الرجعة. قال ابن عباس: وذلك أن المرأة السوء تكتم الحمل شوقا منها إلى الزوج، وتستبطئ العدة لأن عدة ذات الحمل أن تضع حملها، فيجب عليهن إظهار ما يخلق الله في أرحامهن من الولد، إذ لا مرجع إلى غيرهن فيه. وقد أغلظ الله القول عليهن حيث قال: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] . وقوله: وبعولتهن هي جمع بعل، يعني: الزوج، {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] أي: إلى النكاح والزوجية، يعني: أحق بمراجعتهن، {فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أي: في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه، {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] لا إضرارا، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة، وتركها حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها، ثم راجعها يضارها بذلك، فجعل الله الزوج أحق بالرجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار. وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] أي: للنساء على الرجال مثل الذي للرجال على النساء من الحق بالمعروف، أي: بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة. 107 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا وَكيِعٌ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقال الزجاج: المعنى: أن المرأة تنال من اللذة كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه عليها.

108 - أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، فَأَخْبِرْنِي مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَإِنِ اسْتَطَعْتُ ذَلِكَ تَزَوَّجْتُ، وَإِلا جَلَسْتُ أَيِّمًا، فَقَالَ: " مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: إِنْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ لا تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَنْ لا تَصُومَ تَطَوُّعًا إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَلا تُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ الأَجْرُ لِغَيْرِهَا وَالإِصْرُ عَلَيْهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَنْ لا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ " 109 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا لأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا» وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] أي: أنه يأمر كما أراد ويمتحن كما أحب، ولا يكون هذا إلا عن حكمة بالغة. {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {230} } [البقرة: 229-230] قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] قال عروة بن الزبير، وغيره: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فحصر الطلاق وجعل حده ثلاثة، فذكر في هذه الآية طلقتين، وذكر الثالثة في الآية الأخرى وهي قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] ، والآية مختصرة، لأن المعنى: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان. وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] الإمساك: خلاف الإطلاق وهو مرتفع لأنه خبر ابتداء محذوف، على تقدير: فالواجب إذا راجعها بعد الطلقتين إمساك بمعروف، أي: بما يعرف شرعا من إقامة الحق في إمساك المرأة. وقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قال عطاء والسدي والضحاك: هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة. قال ابن عباس: إذا طلق امرأته طلقتين فليتق الله في التطليقة الثالثة. فإما أن يمسكها بمعروف ويحسن صحبتها، أو

يسرحها بإحسان ولا يظلمها من حقها شيئا، وهو قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] لا يجوز للزوج أن يأخذ من امرأته شيئا مما أعطاها من المهر إلا في الخلع، وهو قوله: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي: يعلما ويوقنا. والخوف يكون بمعنى العلم، وذلك أن في الخوف طرفا من العلم، لأنك تخاف ما تعلم، وما لا تعلم لا تخافه، كما أن الظن لما كان فيه طرف من العلم جاز أن يكون علما. ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بغضا له، وخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، حل له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك. وقرأ حمزة إلا أن يُخافا بضم الياء، لأنه بني للمفعول بهما وهما الزوجان، والمعنى: إلا أن يعلما أنهما لا يقيمان حدود الله. فإن خفتم أيها الولاة والحكام، أي: علمتم وغلب على ظنكم أن الزوجين لا يقيمان حدود الله في حسن العشرة وجميل الصحبة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] المرأة نفسها من الزوج، أي: لا جناح على الرجل فيما يأخذ من المرأة، ولا عليها فيما تفتدي به للخلع. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 229] يريد: ما حده من شرائع الدين، {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] أي: لا تتجاوزوها إلى غيرها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] أنفسهم بترك ما أمر الله به. وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يعني الزوج المطلق ثنتين، {فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] المطلقة، من بعد أي: من بعد التطليقة الثالثة، {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أي: غير المطلق. والنكاح: لفظ يتناول العقد والوطء جميعا، فلا تحل للأول ما لم يصبها الثاني. وقد ثبتت السنة بهذا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 110 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاقِي،

فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ " وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلا تَسْمَعُ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "؟ وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يعني: الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 230] على المرأة ولا على الزوج الأول، {أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] إلى ما كانا عليه من النكاح بعقد جديد، إن ظنا أي: علما وأيقنا، {أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] أي: ما بين الله من حق أحدهما على الآخر، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] خص العالمين بالذكر، لأنهم الذين ينتفعون ببيان الآيات. {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {231} وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {232} } [البقرة: 231-232] وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] قاربن انقضاء العدة، والبلوغ ههنا: بلوغ مقاربة، كما تقول: قد بلغت البلد، إذا قربت منه. والأجل: آخر المدة، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أي: راجعوهن بما يتعارفه الناس بينهم مما تقبله النفوس ولا تنكره العقول.

قال ابن جرير: أي بإشهاد على الرجعة وعقد لها، لا بالوطء كما يجوز عند أبي حنيفة. {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، ويكن أملك بأنفسهن، {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة: 231] لا تراجعوهن مضارة وأنتم لا حاجة بكم إليهن، وكانوا يفعلون ذلك إضرارا بالمرأة. لتعتدوا أي: عليهن بتطويل العدة، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [البقرة: 231] الاعتداء، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] أي: ضرها وأثم فيما بينه وبين الله، {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] قال أبو الدرداء: كان الرجل في الجاهلية يقول: إنما طلقت وأنا لاعب. فيرجع فيها، وينكح فيقول مثل ذلك، ويعتق فيقول مثل ذلك فيها، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح، فزعم أنه لاعب فهو جد» . وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 231] قال عطاء: بالإسلام. {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 231] يعني القرآن، والحكمة يعني مواعظ القرآن، يعظكم به يدعوكم به إلى دينه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] أي: أنه يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فعلمه بما أتيا وعملا، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد. قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 232] أي: انقضت عدتهن، وبلوغ الأجل ههنا: انقضاء العدة، لا بلوغ المقاربة. قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] العضل: المنع: يقال: عضل فلان أمته، إذا منعها من التزوج. فهو يعضلها ويعضلها، أنشد الأخفش: وإن قصائدي لك فاصطنعى ... كرائم قد عضلن عن النكاح

نزلت الآية في أخت معقل بن يسار، وذلك ما: 111 - أَخْبَرَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: " كُنْتُ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَفْرَشْتُكَ ثُمَّ طَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ لا تَعُودُ إِلَيْهَا أَبَدًا، قَالَ: وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ وقوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] يريد: الذين كانوا أزواجا لهن، {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] يعني: بعقد حلال، ومهر جائز.

ونظم الآية: أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا بينهم. وفي الآية ما يقطع به على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي. لإجماع المفسرين أن الخطاب للأولياء، لو صح نكاح بدون ولي لم يتصور عضل، ولم يكن لنهي الله عن العضل معنى. وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} [البقرة: 232] ذلك: إشارة إلى ما سبق، أي: أمر الله الذي تلي عليكم من ترك العضل يوعظ به، {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 232] خص المؤمنين لأنهم أهل الانتفاع به، {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} [البقرة: 232] خير لكم وأفضل، وأطهر لقلوبكم من الريبة، وذلك أنهما إن كان في نفس كل واحد منهما علاقة حب يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحل الله. والله تعالى، يعلم ما لكم فيه من الصلاح في العاجل والآجل، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] أي: وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم الله. {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {233} وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {234} وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {235} } [البقرة: 233-235] وقوله: والوالدات يعني الأمهات، {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] لفظه لفظ الخبر ومعناه: الأمر، كما تقول: حسبك درهم. أي: اكتف به، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، يريد: إنهن أحق بالإرضاع من غيرهن إذا أردن ذلك، ولو وجب عليهن الإرضاع ما وجب لهن الأجرة، وقد أوجب الله لهن الأجرة في { [الطلاق.

وقوله:] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: 233] أي: سنتين، وذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم: أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين. وإنما أقام حولا وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره. وإنما يعنون يوما وبعض آخر. وهذا تحديد لقطع التنازع بين الزوجين إذا اشتجرا في مدة الرضاع، فجعل الحولين ميقاتا لهما يرجعان إليه عند الاختلاف، وليس هذا تحديد إيجاب. وقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] يقال: رضع المولود يرضع رضاعة ورضاعا. والمعنى: أن هذا التقدير والبيان لمريدي إتمام الرضاعة من الأب والأم، وليس فيما دون ذلك وقت محدود، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] يعني الأب، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] الكسوة: اللباس، يقال: كسوت فلانا أكسوه كسوة، إذا ألبسته ثوبا. قال المفسرون: وعلى الزوج رزق المرأة المطلقة وكسوتها إذا أرضعت الولد. بالمعروف أي: بما تعرفون أنه عدل على قدر الإمكان، {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} [البقرة: 233] أي: لا تلزم، إلا وسعها ما يسعها فتطيقه. وقوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] الاختيار فتح الراء من تضار وموضعه: جزم على النهي، والأصل: لا تضارر، فأدغمت الراء الأولى في الثانية، وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهذا الاختيار في التضعيف: إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول في الأمر: عض يا رجل، وضار زيدا يا رجل. والمعنى: لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي، ولا تلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها، تضاره بذلك.

وقيل: معناه: لا تضار والدة فتكره على إرضاع الصبي إذا قبل من غيرها وكرهت هي رضاعه، لأن ذلك ليس بواجب عليها. {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] فيكلف أن يعطي الأم إذا لم يرتضع الولد منها أكثر مما يجب لها عليه. والقولان: على مذهب الفعل المبني للمفعول نهيا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لا تضار برفع الراء على الخبر، منسوقا على قوله: لا تكلف أتبع ما قبله ليكون أحسن في تشابه اللفظ، وهو خبر بمعنى الأمر والمعنى: ما ذكرنا. قوله {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] هذا منسوق على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] المعنى: على وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حياته. وأراد ب الوارث: من كان عصبتَه كائنا من كان من الرجال في قول عمر بن الخطاب والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان. وقال آخرون: أراد ب الوارث: الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، عليه أجر رضاعه من ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت أمه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي. وقوله: فإن أرادا يعني: الوالدان، فصالا فطاما للولد، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة: 233] يعني: قبل الحولين، وتشاور معنى التشاور: استخراج الرأي، وكذلك المشورة والمشورة، ومنه يقال: شرت العسل، إذا استخرجته. والمعنى: أنهما إن تشاورا وتراضيا على الفطام قبل الحولين فلا بأس إذا كان الولد قويا.

وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] أي: لأولادكم، وحذفت اللام اكتفاء بدلالة الاسترضاع، لأنه لا يكون إلا للأولاد، والمعنى: وإن أردتم أن تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] فلا إثم عليكم، {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] قال مجاهد والسدي: إذا سلمتم إلى الأم أجرتها بمقدار ما أرضعت. وقرأ ابن كثير ما أتيتم بقصر الألف، ومعناه: ما فعلتم، يقال: أتيت جميلا. أي: فعلته، قال زهير: وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل يعني: فعلوه وقصدوه. ويكون التسليم على هذه القراءة بمعنى الطاعة والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، والمعنى: إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: إذا سلمت أمه ورضي أبوه، لعل له غنى يشتري له مرضعا. ثم أوصى بالتقوى فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] أي: فلا يترك جزاء شيء من أعمالكم، لأنه بصير بها. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] أي: يموتون ويقبضون، ومعنى التوفي: أخذ الشيء وافيا، يقال: توفى الشيء واستوفاه. {وَيَذَرُونَ} [البقرة: 234] يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر ومثله، أيضا، يدع في رفض مصدره وماضيه. وقوله: أزواجا أي: نساء، {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] أي: ينتظرن ويحبسن أنفسهن عن التزوج، {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ومعنى الآية: بيان عدة المتوفى عنها زوجها، وأنها تعتد من حين وفاة الزوج أربعة أشهر وعشرا، وذكرت العشر بلفظ التأنيث، والمراد بها: الأيام، تغليبا لليالي على الأيام، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل،

قال ابن السكيت: يقولون: صمنا خمسا من الشهر. فيغلبون الليالي على الأيام، لأن ليلة كل يوم قبله. وهذه الآية ناسخة لقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] . 112 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِيُّ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ: " أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا حَتَّى خُشِيَ عَلَيْهَا فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَكْتَحِلُ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلاسِهَا فِي بَيْتِهَا حَوْلا كَامِلا، فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ، أَفَلا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "؟ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ

113 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الشَّعِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيَّاتُ، عَنْ بَحْرِ بْنِ كُنَيْزٍ السَّقَّاءِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَى الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 234] يخاطب الأولياء، لأن الرجال قوامون على النساء، فذكر أنهن إذا انقضت عدتهن لا جناح على الأولياء في تخلية سبيلهن، فيما فعلن ليفعلن، {فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ما يرون من تزوج الأكفاء بإذن الأولياء، وهذا تفسير المعروف، لأن التي تزوج نفسها سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زانية. قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] التعريض: ضد التصريح، وهو أن تضمن الكلام دلالة على ما تريد. والخطبة: التماس النكاح، يقال: خطب فلان فلانة، إذا أراد أن يتزوجها.

قال المفسرون: معنى التعريض بالخطبة: أن يقول لها، وهي في عدة الوفاة: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لنافقة، وإن من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب. وما أشبه هذا الكلام. قوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] أي: أسررتم وأضمرتم من خطبتهن. قال مجاهد: هو إسرار العزم على النكاح دون إظهار. وقال السدي: هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء. ومعنى الاكتنان: الإخفاء والستر، يقال: أكننت الشيء وكنتته، إذا سترته. لغتان. وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235] يعني الخطبة، {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قال الشعبي والسدي: لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، وعطية: السر: هو الزنا، وكان الرجل يدخل على المرأة للريبة وهو يعرض بالنكاح، ويقول لها: دعيني، فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك. فنهى الله عن ذلك. وقوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] يعني: التعريض بالخطبة كما ذكرناه. قوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي: لا تصححوا عقد النكاح، يعني: لا تتزوجوا المعتدة، {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] أي: حتى تنقضي عدتها. والكتاب: هو القرآن. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] مطلع على ضمائركم، {فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] فخافوه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235] .

{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ {236} وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {237} } [البقرة: 236-237] وقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] الآية، قال الزجاج: أعلم الله تعالى في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لا إثم على من طلق من تزوج بها بغير مهر، كما أنه لا إثم على من طلق من تزوج بها بمهر. قال ابن عباس في رواية الوالبي في قوله: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] قال: المس: النكاح، والفريضة: الصداق، ومعنى {تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] : توجبوا لهن صداقا. وأو ههنا بمعنى الواو كقوله: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] ، وقال عطاء بن يسار، عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها، قال: ليس لها إلا المتاع، وهو قوله: ومتعوهن أي: أعطوهن ما يتمتعن به. والمطلقة قبل الجماع وقبل تسمية المهر: مستحقة للمتعة بالإجماع من العلماء، ولا مهر لها. وقوله: على الموسع وهو الذي في سعة من غناه، يقال: أوسع الرجل، إذا كثر ماله واتسعت حاله. قدره أي: قدر إمكانه وطاقته، {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} [البقرة: 236] وهو المقل الفقير، يقال: أقتر الرجل، إذا افتقر. قدره وقرئ بتحريك الدال، وهما لغتان، يقال: هذا قدر وهذا وقدره، واحمل قدر ما تطيق، وقدر ما تطيق.

والمتعة غير مقدرة، وهي كما قال الله تعالى: على الغني قدر إمكانه وعلى الفقير قد طاقته. قال ابن عباس والزهري والشعبي والربيع: أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، قال: أعلاها، على الموسع، خادم، وأوسطها: ثوب، وأقلها: أقل ما له ثمن، قال: وحسن ثلاثون درهما. وقوله: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] أي: متعوهن متاعا بما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان، وقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] أي: حق ذلك عليهم حقا، بمعنى: وجب. وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، المرأة إذا طلقت بعد تسمية المهر وقبل الدخول فالواجب لها نصف المهر، لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] قال ابن عباس في هذه الآية: لها نصف صداقها، ليس لها أكثر من ذلك. وقال ابن مسعود: لها نصف الصداق ما لم يجامعها، وإن جلس بين رجليها. وقوله: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يعني: النساء يتركن ذلك النصف الواجب لهن فلا يطالبن الأزواج به. وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يعني الزوج، في قول علي، ومجاهد، والضحاك، والحسن، ومقاتل بن حيان، وابن سيرين، وشريح، وابن عباس في رواية عمار بن أبي عمار. وعفو الزوج: أن يعطيها الصداق كاملا.

ولما ذكر الله تعالى عفو المرأة عن النصف الواجب ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط، فيستحسن لها أن تعفو ولا تطالبه بشيء، وللرجل أن يعفو ويوفي لها المهر كاملا. 114 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: طَلَّقَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَعْطَاهَا الصَّدَاقَ كَامِلا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] هذا خطاب للرجال والنساء جميعا، ومعناه: وعفو بعضكم عن بعض أدعى إلى اتقاء معاصي الله، لأن هذا العفو ندب، فإذا انتدب إليه علم أنه لما كان فرضا كان أشد استعمالا. وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] قال ابن عباس: لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض، وهذا حث من الله تعالى للزوج والمرأة على الفضل والإحسان، وأمر لهما جميعا أن يستبقا إلى العفو. {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ {238} فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ {239} } [البقرة: 238-239] قوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] قال مسروق: الحفاظ عليها: الحفاظ على وقتها، والسهو عنها: ترك وقتها. أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أخبرنا محمد بن إسحاق

الثقفي، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن مالك بن الحارث، عن مسروق، قال: لا يحافظ إنسان على الصلوات الخمس فيكتب بعدهن من الغافلين، وفي تركهن الهلكة. 115 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ. أَخْبَرَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَيُصَلِّي فِيهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، أَوْ رَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنُقَارِبُ بَيْنَ الْخُطَا، وَإِنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاةٍ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] اختلفوا فيها، فقال معاذ وابن عباس وابن عمر وعلي وطاوس وعكرمة ومجاهد: هي صلاة الفجر. وهو اختيار مالك والشافعي، لأنها وسطت فكانت بين الليل والنهار، تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار، وهي أكثر صلاة تفوت الناس، ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.

وقال زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبو سعيد الخدري وعائشة: إنها الظهر لأنها وسط النهار. وقال ابن مسعود وأبو هريرة والنخعي وقتادة والحسن والضحاك والكلبي ومقاتل: إنها العصر. وروي ذلك مرفوعا، ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل. وقال قبيصة بن ذؤيب: إنها المغرب، لأنها وسط في الطول والقصر من بين الصلوات. أخبرنا أبو بكر التميمي، أخبرنا أبو محمد بن حيان الحافظ، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه: أن سائلا سأل الربيع بن خيثم عن الصلاة الوسطى، أي الصلاة هي؟ فقال له الربيع: أكنت محافظا عليها لو علمتها؟ قال: وما يمنعني يا أبا يزيد وقد أمر الله بالمحافظة عليها وحث عليها؟ قال الربيع: قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فإنك إن تفعل تصبها، إنما هي واحدة منهن.

وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] قال الزجاج: القنوت: العبادة والدعاء لله في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياما بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية. قال ابن عباس والحسن وقتادة والشعبي: قانتين: مطيعين. وقال مقاتل والكلبي: ولكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين. وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال: «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو طاعة» . وقال مجاهد: من طول القنوت: الخشوع والركود، وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله. قال: وكانت العلماء إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشذ بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا، إلا ناسيا، ما دام في صلاته. قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] يعني: عدوا أو سبعا وما الأغلب من شأنه الهلاك، {فَرِجَالا} [البقرة: 239] جمع راجل، مثل: تاجر وتجار، وصاحب وصحاب، {أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] جمع راكب، مثل: فارس وفرسان. ومعنى الآية: فإن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها، فصلوا مشاة على أرجلكم، وركبانا على ظهور دوابكم، وهذا في حال المسايفة والمطاردة.

وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها، {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239] يريد: كما افترض عليكم في مواقيتها. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {240} وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {241} كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {242} } [البقرة: 240-242] قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] قال المفسرون: كان في ابتداء الإسلام إذا مات الرجل لم يكن لامرأته في الميراث شيء إلا السكنى والنفقة سنة ما لم تخرج من بيت زوجها، وكان المتوفى يوصي بذلك لها، فإن خرجت من بيت زوجها لم يكن لها نفقة، وكان الحول واجبا عليها في الصبر عن التزوج، ثم نسخت هذه الآية بالربع والثمن، وتقدير لمدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر. واختلفوا في رفع الوصية، ونصبها، فمن رفع فعلى تقدير: فعليهم وصية، يضمر خبر المبتدأ، ومن نصب فعلى تقدير: فيوصوا وصية. وقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] أي: متعوهن متاعا بالإنفاق عليهن إلى الحول من غير إخراج لها من بيت الزوج، {فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] من قبل أنفسهن قبل الحول، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240] يا أولياء الميت، {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240] يعني: التشوف للنكاح، والتصنع للأزواج.

قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] قال أبو العالية: في هذه الآية لكل مطلقة متعة. وقال ابن زيد: لما نزل قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] إلى قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل. فأنزل الله تعالى: وللمطلقات إلى قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] يعني المتقين الشرك، فبين أن لكل مطلقة متاعا. وقد ذكرنا الكلام في المتعة عند قوله: ومتعوهن. وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: 242] أي: مثل البيان الذي تقدم فيما ذكر من الأحكام يبين الله آياته. قال عطاء: يريد: يفسر لكم فرائضه لتعملوا بها حتى تفقهوا، وهو قوله: لعلكم تعقلون أي: يثبت لكم صفة العقلاء باستعمال ما بينا لكم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {243} وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {244} مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {245} } [البقرة: 243-245] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] أي: ألم تعلم؟ ألم ينته علمك إلى هؤلاء؟ ومعنى الرؤية ههنا: رؤية القلب، وهو بمعنى العلم. قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير: يعني قوما خرجوا فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها

موت. فخرجوا حتى إذا كانوا بموضع كذا، قال لهم الله: موتوا. فماتوا، فمر بهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فهو هذه الآية {وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] تفضل على هؤلاء بأن أحياهم بعد موتهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] إنعام الله عليهم بفضله. قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] قال ابن عباس في رواية عطاء: يحرض المؤمنين على القتال، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: 244] لما يقوله المتعلل، عليم بما يضمره. قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانا، إذا أعطاه ما يتجازاه منه. والاسم منه: القرض، وهو ما أعطيته لتكافأ عليه. شبه الله تعالى عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض، لأنهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما وعدهم الله من جزيل الثواب. وقوله: قرضا حسنا قال عطاء: يعني: حلالا. وقال الواقدي: طيبة به نفسه. وقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قرئ بالتشديد والتخفيف، والرفع والنصب، أما التشديد والتخفيف: فهما لغتان. ومعنى التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد، وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. والرفع: بالنسق على يقرض، أو الاستئناف، وأما النصب: فعلى جواب الاستفهام بالفاء، لأن المعنى: أيكون قرض فيضاعفه؟

وقال الحسن والسدي: هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله، وهو مثل قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] . وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] يعني: يمسك الرزق عمن يشاء ويضيق عليه، ويوسع على من يشاء. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {246} وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {247} } [البقرة: 246-247] قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 246] الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم للجماعة كالقوم والرهط، {مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة: 246] وهو أشمويل، وذلك أن الأحداث كثرت في بني إسرائيل، وعظمت فيهم الخطايا، وغلب عليهم عدد لهم فسبوا كثيرا من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكا يجتمع به أمرهم، وتستقيم به حالهم في جهاد عدوهم، وهو قوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] فقال لهم ذلك النبي: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246] في سبيل الله؟ يقول: لعلكم أن تجبنوا عن القتال. وقرأ نافع عسيتم بكسر السين، وهي لغة، يقال: عسي. بكسر السين،

فقال الملأ لذلك النبي: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] أي شيء لنا في ترك القتال؟ {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] أي: بالسبي والقهر على نواحينا، والمعنى: أنهم أجابوا نبيهم بأن قالوا: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذ بلغ الأمر هذا فلا بد من الجهاد. وقال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 246] فرض عليهم الجهاد، تولوا أعرضوا عن القيام به، {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [البقرة: 246] وهم الذين عبروا النهر، ويأتي ذكرهم بعد هذا، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246] يعني المشركين والمنافقين. قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] أي: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك يقاتل وتقاتلون معه، {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة: 247] أنكروا ملكه وقالوا: كيف يكون ملكنا؟ ! {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247] لأنا من سبط الملوك، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247] أي: ليس بذي مال كثير فيمتلك به، قال ذلك النبي، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 247] اختصه بالملك، {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه. والبسطة: الزيادة في كل شيء، قال الكلب: زاده بسطة في العلم بالحرب، والجسم بالطول، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه، وإنما سمي طالوت لطوله. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] يريد: أن الملك ليس بالوراثة، وإنما هو بإيتاء الله تعالى واختياره، والله واسع أي: واسع الرزق والفضل، والرحمة وسعت رحمته كل شيء، وهذا كما يقال: فلان كبير عظيم. يراد: أنه كبير القدر، كذلك هو واسع، بمعنى أنه واسع الفضل. ثم إنهم سألوا نبيهم آية على تمليك طالوت: {

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {248} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249} } [البقرة: 248-249] {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248] وكان ذلك تابوتا أنزله الله على آدم فيه صور الأنبياء، فتوارثه أولاد آدم، وكان في بني إسرائيل يستفتحون به على عدوهم، فغلبتهم العمالقة عليه، فرد الله ذلك التابوت على طالوت، فلما رأوه عنده علموا أن ذلك أمارة ملكه عليهم. وقوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] أي: طمأنينة، وفي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا، قال الزجاج: أي: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم. وقال الحسن: جعل الله لهم في التابوت سكينة تطمئن قلوبهم إليه. وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] قال المفسرون: هي لوحان من التوراة، ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقى موسى الألواح، قفيز من المن الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى وعصاه، وعمامة هارون وعصاه. وأراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون، والعرب تقول: آل فلان. يريد: نفسه، وأنشد أبو عبيدة: ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر

يريد: أبا بكر نفسه. وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة: 248] قال المفسرون: كانت الملائكة تحمل تابوت بني إسرائيل فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ} [البقرة: 248] أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248] مصدقين بتمليكه عليكم. قوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] أي: سار بهم وقطعهم عن موضعهم، {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] وهو نهر بين الأردن وفلسطين، وإنما وقع الابتلاء ليتميز الكاذب من الصادق، والمحقق من المقصر، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة: 249] أي: من أهل ديني وطاعتي، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] وطعم كل شيء: ذوقه، يقال: طعمت الماء أطعمه. بمعنى: ذقته، وأنشد أبو العباس العرجي: فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا أراد: لم أذق، والنقاخ: الماء العذب. قوله: {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والمغرفة: الآلة التي يغرف بها، والمغرفة: المرة الواحدة، وهي مصدره، والغرفة، بالضم: الشيء المغترف والماء المغروف. وقوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] قال المفسرون: قال لهم طالوت: من شرب من النهر وأكثر فقد عصى الله وخالف أمره، وتعرض لعقابه، ومن اغترف غرفة أقنعته. فهجموا على النهر بعد عطش شديد أضر بهم فوقع

أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قومٌ قليلٌ عددُهم لم يزيدوا على الاغتراف، فأما من اغترف قوي قلبه، وصح إيمانه، وعبر النهر سالما، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، لم يردوا وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، ولم يشهدوا الفتح. وتلك الغرفة لم تكن ملء الكف، ولكن المراد بالغرفة: أن يغترف مرة واحدة بقربة أو جرة، وما أشبه ذلك، تكفيه وتكفي دابته. وهؤلاء القليل الذين لزموا الاغتراف، كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه يوم بدر: «أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر، وما جاز معه إلا مؤمن» . قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا. وقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ} [البقرة: 249] جاوز النهر طالوت، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249] قال ابن عباس والسدي: يعني هؤلاء الذين شربوا وخالفوا أمر الله عز وجل، وكانوا أهل شك ونفاق، وانصرفوا عن طالوت، ولم يشهدوا قتال جالوت. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة: 249] يستيقنون ويعلمون، {أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249] راجعون إليه، يعني القليل الذين اغترفوا، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} [البقرة: 249] جماعة، قليلة في العدد، {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249] عددهم، {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] بإرادته ذلك، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] على قتال أعدائه بالنصرة والمعونة. يعني: أن النصر مع الصبر. {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ

وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252} } [البقرة: 250-252] قوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ} [البقرة: 250] أي: خرجوا لقتال جالوت، {وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] الإفراغ: الصب، يقال: أفرغت الإناء، إذا صببت ما فيه. والمعنى: اصبب علينا الصبر أتمَّ صبٍّ وأبلغَه، وثبت أقدامنا بتقوية قلوبنا، وانصرنا وأحسن معونتنا، {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] يريدون: جالوت وجنوده. قوله: فهزموهم هذه الآية تتصل بما قبلها بتقدير محذوف، كأنه قيل: فأنزل الله صبرا ونصرا فهزموهم. أي: كسروهم، ومعنى الهزم في اللغة: الكسر، يقال: هزمت العظم القصبة هزما، إذا كسرته. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] وكان عبر النهر مع طالوت، رمى جالوت بحجر من مقلاعه فوقع بين عينيه فخرج من قفاه، فخر قتيلا، {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251] جمع له بين الملك والنبوة، قال ابن عباس: يعني: بعد طالوت. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251] يعني: صنعة الدروع، والتقدير في السرد، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] قال ابن عباس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين، وخربوا البلاد والمساجد. وقال سائر المفسرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض بمن فيها. يدل على هذا ما 116 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،

حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلاءَ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] حيث لم يهلكهم ولم يؤاخذهم عاجلا بعقوبة جناياتهم. قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة: 252] أي: هذه الآيات التي أنبأتك بها آيات الله، أي: علاماته التي تدل على توحيده، نتلوها عليك نقرأها عليك على لسان جبريل، بالحق أي: بالصدق، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] أي: أنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم، لأنك قد أعطيت مثل ما أعطوا وزيادة. {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {254} } [البقرة: 253-254] قوله: تلك الرسل يعني جماعتهم، {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] أي: أنهم لا يسوى بينهم في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرسالة. وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» . وفي هذا نهي عن الخوض في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، فنستفيد من الآية معرفة أنهم متفاوتون في الفضيلة، وننتهي عن الكلام في ذلك لنهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] يعني موسى، {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] قال مجاهد: أرسل الله محمدا إلى الناس كافة. وقال الزجاج: ليس شيء من الآيات التي أعطاها الأنبياء إلا وقد أعطى محمدا عليه السلام وأكثر. وقال الربيع بن خيثم: لا نفضل على نبينا أحدا ولا نفضل على خليل الله أحدا. وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253] تقدم فيما سبق تفسير هذا، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] يعني: من بعد الرسل، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 253] يعني: من بعد ما وضحت لهم البراهين، {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 253] ثبت على إيمانه، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253] كالنصارى بعد المسيح، اختلفوا فصاروا فرقا ثم تحاربوا، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] كرر المشيئة باقتتالهم تأكيدا للأمر، وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لم يَجْرِ به قضاءٌ من الله تعالى ولا قدر، ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] فيوفق من يشاء فضلا، ويخذل من يشاء عدلا. قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] قال الحسن: أراد الزكاة المفروضة. وقال أبو

إسحاق: أي: أنفقوا في الجهاد وليعن بعضكم بعضا. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة: 254] يعني يوم القيامة، يريد: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدل ولا فداء، فذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، ولا خلة والخلة: مصدر الخليل، والخلة تنقطع يوم القيامة بين الأخلاء إلا المتقين، كقوله: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] ، وقوله: ولا شفاعة إنما نفى الشفاعة عاما، لأنه أراد الكافرين، بأن هذه الأشياء لا تنفعهم، ألا ترى أنه قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ؟ أي: هم الذين وضعوا أمر الله غير موضعه. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] : 117 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ السُّكَّرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ

سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، حَتَّى أَعَادَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قُلْتُ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] قَالَ: فَضَرَبَ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ 118 - أَخْبَرَنَا مَسْعُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُعَاذٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُوَيْهِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُوسَى الْغُنْجَارُ، عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ خَرَجَ، يَعْنِي: عُمَرَ، ذَاتَ يَوْمٍ، وَالنَّاسُ سِمَاطَانِ،

فَقَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ أَيُّكُمْ يُخْبِرُنِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَهُنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَدَنَا مِنْهُ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُخْبِرِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] إِلَى آخِرِهَا 119 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رُزَيْقٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ خَرَقَتْ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فَلَمْ يَلْتَئِمْ خَرْقُهَا حَتَّى يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَى قَائِلِهَا فَيَغْفِرَ لَهُ، ثُمَّ يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَكْتُبَ حَسَنَاتِهِ وَيَمْحُوَ سَيِّئَاتِهِ إِلَى الْغَدِ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ» وقوله: الله رفع بالابتداء، وما بعده خبره، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [البقرة: 255] نفي إله سواه توكيد وتحقيق لإلهيته، لأن قولك: لا كريم إلا زيد. أبلغ من قولك: زيد كريم.

والحي: من له الحياة، وهي صفة تخالف الموت، وذا الجمادية، ومعنى الحي في صفة الله: الدائم البقاء، والقيوم: مبالغة من القائم، قال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وتأويله: أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم. وقال الضحاك: القيوم: الدائم الوجود. وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول الاستقامة وصفٌ بالوجود حيث لا يجوز عليه التغير بوجه من الوجوه. وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] السنة: ثقل النعاس، وهو مصدر، يقال: وسن يوسن سنة ووسنا. والنوم: الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور. وقال الفضل: السنة في الرأس والنوم في القلب. والمعنى: أنه لا يغفل عن تدبير الخلق والعلم بالأشياء. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] استفهام معناه: الإنكار والنفي أي: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأمره، وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا بإذنه، يعني: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة بعض المؤمنين لبعض. وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] قال مجاهد وعطاء والسدي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 255] من أمر الدنيا، وما خلفهم من أمر الآخرة. وقال الضحاك والكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 255] يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها، وما خلفهم الدنيا، لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم. وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئا أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به.

من علمه أي: من معلومه، والمفعول يسمى بالمصدر. وقوله: {إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] إلا بما أنبأ به الأنبياء، ليكون دليلا على ثبوت نبوتهم، قال ابن عباس: يريد: ما أطلعتهم على علمه. وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] يقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة، إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. ويقال: لا يسعك هذا. أي: لا تطيقه ولا تحتمله. وأما الكرسي فقال ابن عباس في رواية عطاء والسدي: إنه الكرسي بعينه وهو لؤلؤ، وما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس. والمعنى: إن كرسيه مشتمل بعظمه على السموات والأرض. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذا القول بين، لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة هو الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه، وهذا يدل على أن الكرسي عظيم، عليه السموات والأرضون. وقال بعضهم: كرسيه: سلطانه وملكه، ويكنى عن الملك بالكرسي. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: وسع علمه السموات والأرض. وقال أبو إسحاق الزجاج: الله أعلم بحقيقة الكرسي، إلا أن جملته أنه أمر عظيم من أمره. وقوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي: لا يثقله ولا يجهده، يقال: آده يئوده أودا، إذا أثقله. وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] يقال: علا يعلو علوا فهو عالٍ وعليٌّ. مثل: عالم وعليم، وسامع وسميع، فالله تعالى علي بالاقتدار ونفوذ السلطان، وعلي عن الأشباه والأمثال، يقال: علا فلان عن هذا، إذا كان أرفع محلا عن

الوصف به. فمعنى العلو في وصف الله تعالى: اقتداره وقهره واستحقاقه صفات المدح. والعظيم معناه: أنه عظيم الشأن، لا يعجزه شيء ولا نهاية لمقدوره ومعلومه. {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {256} اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {257} } [البقرة: 256-257] قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: معنى الآية: لا إكراه في الدين بعد إسلام العرب، وذلك أن العرب كانت أمة أمية، لم يكن لهم دين ولا كتاب، فلم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأكرهوا على الإسلام، ولم تقبل منهم الجزية، فلما أسلموا ولم يبق منهم أحد إلا دخل في الإسلام طوعا أو كرها أنزل الله هذه الآية، فلا يكره على الإسلام أهل الكتاب، فإذا أقروا بالجزية تركوا. وقوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] أي: ظهر الإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة، بكثرة الحجج والآيات الدالة. والرشد: إصابة الحق، ويراد ههنا: الإيمان، من الغي يقال: غوى يغوي غيا وغواية، إذا سلك خلاف طريق الرشد. قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256] قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدا وجمعا، ومؤنثا ومذكرا، وهو في الأصل مصدر نحو الرغبوت والرهبوت. قال ابن عباس والمفسرون: الطاغوت: الشيطان. وقيل: الأصنام. وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] استمسك بالشيء: إذا تمسك به، والعروة: جمعها عرى، وهي نحو عروة الدلو الكوز، والوثقى: تأنيث الأوثق.

قال عطاء، عن ابن عباس: العروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق. وقال مجاهد: هي الإيمان. وقوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] الفصم: كسر الشيء من غير إبانة، يقال: فصمته فانفصم. قال ابن عباس: لا انقطاع لها دون رضا الله ودخول الجنة. والله سميع لدعائك يا محمد بإسلام أهل الكتاب، عليم بحرصك واجتهادك. قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] أي: معينهم وناصرهم ومتولي أمورهم، والذي يقرب منهم بالعون والنصرة. وقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] أي: من الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257] يعني: رؤساء الضلالة، مثل كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] يعني اليهود، وكانوا مؤمنين بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث، لما يجدونه في كتابهم، فلما بعث جحدوه وكفروا به. وروى مجاهد، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: كان قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى، فقال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] من كفر بعيسى إلى إيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] قال: من إيمان بعيسى إلى كفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ

قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] أي: هل انتهت رؤيتك يا محمد إلى من هذه صفته؟ وفي هذا تعجيب للمخاطب، وحاج: جادل وخاصم، وهو نمروذ بن كنعان. وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] أي: لأن آتاه الله، يريد: بطر الملك حمله على محاجة إبراهيم. قال ابن عباس: إن إبراهيم دخل بلدة نمروذ ليمتار، فأرسل إليه نمروذ، وقال: من ربك؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ} [البقرة: 258] نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] أقتل من شئت، وأستحيي من شئت. فسمى ترك القتل إحياءً، وعارضه في الحجة بالعبارة دون فعل حياة أو موت على سبيل الاختراع. وقرأ نافع أنا بإثبات ألف بعد النون، وذلك إنما يجوز في الوقف دون الوصل، ولكنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وأثبت الألف كما أنشد الكسائي: أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذريت السناما فاحتج إبراهيم بحجة مسكتة، لا يمكنه أن يقول: أنا أفعل ذلك. وهو قوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] أي: تحير، أو سكت وانقطعت حجته، يقال: بهت الرجل فهو مبهوت، إذا تحير. قال عروة: فما هو إلا أن رآها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب

{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] لا يجعل جزاءهم على ظلمهم أن يهديهم. {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] قال أكثر المفسرين: هو عزير، والقرية هي إيليا، وهي بيت المقدس، أتى عليها عزير بعد أن خربها بخت نصر البابلي. وقوله: وهي خاوية أي: ساقطة متهدمة، يقال: خوى الحائط، إذا تهدم. وهو أن ينقلع من أصله، ومنه قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أي: منقلعة من أصولها. وقوله: على عروشها أي: على سقوفها، وذلك أن الحيطان كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها، ثم انقلعت الحيطان فتساقطت على السقوف. وقوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] أي: أنى يعمرها بعد خرابها؟ استبعد أن يفعل الله ذلك، على معنى

أنه لا يفعله، فأحب الله تعالى أن يريه آية في نفسه وفي إحياء القرية، {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة: 259] وذلك أنه نام فنزع الله منه الروح مائة عام، وكان معه حمار وتين وعصير، فأمات الله حماره أيضا، فلما مضت مائة سنة أحيا الله تعالى منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره، فإذا عظامه بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا. فكان كذلك، ثم قام بإذن الله ونهق، فذلك قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259] أي: كم أقمت ومكثت ههنا؟ {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا} [البقرة: 259] وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] بمعنى: بل بعض يوم، {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} [البقرة: 259] يعني التين، وشرابك يعني العصير، {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] لم يتغير ولم ينتن بعد مائة سنة، والتسنه: التغير. وقال: قرأ لم يتسن بغير هاء، أخذه من التسني، وهو التغير أيضا بمر السنين عليه. قال ابن عباس: نظر إلى التين فإذا هو كما اجتناه، ونظر إلى العصير فإذا هو كهيئته لم يتغير. وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259] أراه الله علامة مكثه مائة سنة ببلى عظام حماره. قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259] قال المفسرون: جعله الله آية للناس بأن بعثه شابا أسود الرأس واللحية، وبنو بنيه شيب.

وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة: 259] يعني: عظام حمارك، كيف ننشرها أي: نحييها، يقال: أنشر الله الميت. قال الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] ، وقرأ حمزة والكسائي ننشزها بالزاي، من الإنشاز وهو الرفع. يقال: أنشزته فنشز. أي: رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض: نشز. ومعنى الآية: كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أمكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض. وقوله: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] أي: قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبا. وقرأ حمزة قال اعلم مجزوما موصولا على لفظ الأمر، كأنه أمر نفسه بذلك. ويجوز أن يكون الله تعالى قال له: اعلم أن الله على كل شيء قدير. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] قال أكثر المفسرين: رأى إبراهيم جيفة بساحل البحر تتناولها السباع والطير ودواب البحر، ففكر كيف يجتمع ما قد تفرق من تلك الجيفة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فقال الله عز وجل: أولم تؤمن وهذه الألف للإيجاب والتقرير، يعني: أولست قد آمنت؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] برؤية ما أحب وأشتهي مشاهدته،

قال الحسن: كان إبراهيم موقنا بأن الله عز وجل يحيي الموتى، ولكن لا يكون الخبر عند ابن آدم كالمعاينة. وقال سعيد بن جبير: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] : لأزداد إيمانا. قال الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة: 260] قال ابن عباس: أخذ طاوسا ونسرا وديكا وغرابا. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] قال أكثر أهل اللغة والتفسير: وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد: قطعهن. يقال: صار الشيء يصوره صورا، إذا قطعه. وقرأ حمزة بكسر الصاد، قال الأخفش: يقال: صاره يصيره، إذا قطعه. وتقدير الآية: خذ إليك أربعة من الطير فصرهن. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة: 260] قال المفسرون: أمره الله تعالى أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض، ثم يجزئهن أربعة أجزاء على أربعة أجبل، ففعل

ذلك إبراهيم، وأمسك رءوسهن عنده، ثم دعاهن: تعالين بإذن الله. فجعلت أجزاء الطيور يطير بعضها إلى بعض، ثم أتينه سعيا على أرجلهن، وتلقى كل طائر رأسه، فذلك قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 260] لا يمتنع عليه ما يريد، حكيم فيما يدبر ويفعل. {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {262} } [البقرة: 261-262] قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] الآية، هذا حث على الإنفاق في الجهاد، ووعد من الله تعالى لمن أنفق في سبيله أن الواحد يضاعف له بسبعمائة، وهو قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] : 120 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] أي: من أهل النفقة في طاعة الله، والله واسع جواد لا ينقصه ما يتفضل به، عليم بمن ينفق. قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة: 262] المن: الاعتداء بالصنيعة وذكرها. قال المفسرون: المن المذكور في هذه الآية: هو أن يقول: قد أحسنت إلى فلان ونعشته، وجبرت حاله وأغنيته. يمن بما فعل. والأذى: هو أن يذكر إحسانه لمن لا يحب الذي أحسن إليه وقوفه عليه، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيه. قال قتادة: علم الله أن ناسا يمنون بعطائهم، فكره ذلك وتقدم فيه فمن فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {264} } [البقرة: 263-264] قول معروف أي: كلام حسن، ورد على السائل جميل، وقال عطاء: عدة حسنة. ومغفرة أي: تجاوز عن السائل إذا استطال عليه عند رده، {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] أي: من وتعيير للسائل بالسؤال، والله غني عن صدقة العباد، حليم إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته. قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة: 264] أي: ثواب صدقاتكم، بالمن هو أن يمن بما أعطى، وقال الكلبي: بالمن على الله في صدقته. {وَالأَذَى} [البقرة: 264] لصاحبها، {كَالَّذِي يُنْفِقُ} [البقرة: 264] أي: كإبطال الذي ينفق، ماله وهو المنافق، أنفق ماله من غير إيمان ولا احتساب، رئاء الناس يرائي الناس بصدقته، ولا

يرجو ثوابا لها. والرئاء: فعال من المراءاة، كما يقال: قتال ومقاتلة، والهمزة فيه عين الفعل، فمثله أي: مثل هذا المنافق المرائي، {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264] وهو الحجر الأملس، {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة: 264] وهو المطر الشديد، يقال: وبلت السماء تبل وبلا. {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] وهو الأملس اليابس، يقال: حجر صلد، وجبين صلد، إذا كان براقا أملس. وهذا مثل ضربه الله لعمل المرائي وعمل المان المؤذي، يري الناس في الظاهر أن له عملا، كما يرى التراب على هذا الحجر، فإذا كان يوم القيامة بطل عمله، لأنه لم يكن لله، كما أذهب المطر ما كان على الحجر من التراب، فلا يقدر أحد على ذلك التراب الذي أزاله المطر عن الحجر، وهو قوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 264] أي: على ثواب شيء، مما كسبوا أي: لا يؤجرون على ما أنفقوا ولا يجدون ثواب ما عملوا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] أي: لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم. ثم ضرب مثلا لمن ينفق، يريد ما عند الله ولا يمن ولا يؤذي، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {265} أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {266} } [البقرة: 265-266] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265] طلبا لرضا الله، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265] قال

السدي وابن زيد: يقينا. وقال الشعبي والكلبي: يعني: تصديقا من أنفسهم. قال الزجاج: ينفقونها مقرين بأنها مما يثيب الله عليها. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] وهي ما ارتفع من الأرض. وقرئ بفتح الراء، وهما لغتان. {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265] وهو المطر الشديد، {فَآتَتْ} [البقرة: 265] أدت وأعطت، أكلها ما يؤكل منها، ومنه قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] والضم والتخفيف لغتان، قال المفسرون: أكلها: ثمرها. وقوله: ضعفين قال ابن عباس: حملت في سنة من الريع ما تحمل غيرها في سنتين. وقوله: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] أي: وأصابها طل، وهو المطر اللين الصغير القطر. يقال: طلت السماء تطل طلا فهي طلة، وطلت الأرض فهي مطلولة. والمعنى: فأصابها طل، فتلك حالها في إيتاء الثمر وتضاعفه، لا ينقص بالطل عن مقداره بالوابل، يقول: كما أن هذه الجنة تثمر في كل حين، ولا تخيب صاحبها، قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص، قلت نفقته أو كثرت. قال قتادة: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف كما ليس لخير الجنة خلف علي أي حال، إن أصابها وابل وإن أصابها طل.

قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} [البقرة: 266] الآية، قال مجاهد: هذا مثل للمفرط في طاعة الله تعالى المشتغل بملاذ الدنيا، يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى. وقال ابن عباس: هذا مثل للذي يختم عمله بفساد وكان يعمل عملا صالحا، فمثله كمثل رجل كانت له جنة {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة: 266] فضعف عن الكسب، وله أطفال صغار لا ينفعونه، وهو قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة: 266] وهي ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود، {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266] جنته، أحوج ما كان إليها عند كبر سنه وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد، فبقي هو وأولاده عجزة متحيرين، لا يقدرون على حيلة، كذلك يبطل الله عمل المنافق والمرائي حين لا توبة لهما، ولا إقالة من ذنوبهما. 121 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا وَجَدْتُ أَحَدًا يَشْفِينِي مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنِّي لأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ، لِمَ تُحَقِّرَ نَفْسَكَ؟ تَحَوَّلْ هَهُنَا، فَقَامَ فَأَجْلَسَهُ، فَقَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ عُمْرُهُ كُلُّهُ للَّهِ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِخَيْرٍ، حِينَ فَنِيَ عُمْرُهُ، وَاقْتَرَبَ أَجَلُهُ، عَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَخَتَمَ بِهِ عَمَلَهُ، فَأَفْسَدَ ذَلِكَ عَمَلَهُ كُلَّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ لأَحَدِكُمْ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، فَأَتَتْهَا نَارٌ فَأَحْرَقَتْهَا، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِهَذَا

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {267} الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {268} يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ {269} } [البقرة: 267-269] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] قال مجاهد: يعني التجارة، والمعنى: أنفقوا، أي: أدوا الزكاة. ما كسبتم بالتجارة والصناعة من الذهب والفضة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] يعني: الحبوب مما تجب فيه الزكاة، {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] التيمم: القصد والتعمد، يقال: أممته وتيممته ويممته. أي: قصدته. قال المفسرون: كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [البقرة: 267] يقول: لا تقصدوا إلى الرديء من أموالكم فتنفقونه في سبيل الله. وقراءة العامة: ولا تيمموا مخففة التاء، وعلى حذف إحدى التاءين، لأن الأصل: لا تتيمموا، وقرأ ابن كثير: مشددة التاء على الإدغام. وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة: 267] أي: يأخذ ذلك الرديء الخبيث لو كان لكم على إنسان حق، {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] والإغماض في اللغة: غض البصر وإطباق جفن على جفن، ثم صار عبارة عن التسامح والتساهل في البيع وغيره. يقول: أنتم لا تأخذونه إلا بتساهل، فكيف تعطونه في الصدقة؟

وفي هذا بيان أن الفقراء شركاء رب المال في ماله، فإذا كان ماله جيدا فهم شركاؤه في الجيد، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد إلا بالتساهل. 122 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ نَصْرٍ الْحَذَّاءُ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحِميِد بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ أَبِي عُرَيْبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي الْمَسِجِد، وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ مِنَّا قِنْوَ حَشَفٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْعَنُ الْقِنْوَ بِالْعَصَا، وَيَقُولُ: " لَوْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا، أَوْ قَالَ: رَبَّ هَذَا، تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [البقرة: 267] أي: عن صدقات الناس، حميد على إحسانه وإنعامه. قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] أي: يخوفكم بالفقر على إنفاق المال والتصدق به. يقول: أمسك مالك فإنك إن تصدقت افتقرت. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] أي: البخل ومنع الزكاة. والله يعدكم أي: يجازيكم على صدقاتكم، مغفرة منه لذنوبكم، وفضلا وهو أن يخلف عليكم ما أنفقتم، والله واسع الفضل لمن أنفق، عليم بمن ينفق ومن لا ينفق. قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال ابن عباس والمفسرون: يعني القرآن والفهم فيه. وقال الحسن: يعني الورع في دين الله. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مجاهد: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] أي: ما يتعظ إلا ذوو العقول. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {270} إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {271} } [البقرة: 270-271] قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} [البقرة: 270] يعني: ما أديتم من زكاة مفروضة، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} [البقرة: 270] يعني: تطوعتم بصدقة، والنذر: ما يلتزمه الإنسان لله بإيجابه على نفسه، وكل ما نوى الإنسان أن يتطوع به فهو نذر. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] أي: يجازي به، فدل بذكر العلم على تحقيق الجزاء، وعادت الكناية في قوله: يعلمه إلى ما في قوله: وما أنفقتم لأنها اسم.

وقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] وعيد لمن أنفق في غير الوجه الذي يجوز له، من رياء أو معصية أو من مال مغصوب مأخوذ من غير وجهه. والأنصار: جمع نصير، بمعنى ناصر، يعني: لا أحد ينصرهم من عذاب الله. قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] قال ابن عباس: نزلت لما سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ قوله: فنعما هي أي: فنعم شيئا ابداؤها، وقراءة العامة فنعما بفتح النون وكسر العين، لأن أصل نعيم: نعم، كما قال طرفة: نعم الساعون في الأمر المبر وقرأ نافع فنعما بكسر النون والعين، أتبع العين النون في الكسر حذارا من الجمع بين ساكنين. وقرأ أبو عمرو بكسر النون وجزم العين، واختاره أبو عبيد وقال: هي لغة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله لعمرو بن العاص: «

نعما بالمال الصالح للرجل الصالح» . هكذا روي الحديث بسكون العين. وجمهور المفسرين على أن المراد بالصدقات في هذه الآية: التطوع، لا الفرض، لأن الفرض إظهاره أفضل من كتمانه، والتطوع كتمانه أفضل، وهو قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] قال ابن عباس في رواية الوالبي: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. وقال قتادة: كلٌّ مقبول إذا كانت النية صالحة، وصدقة السر أفضل، وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] التكفير معناه: التغطية والستر، يقال: كفر عن يمينه. أي: ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة. والكفارة: الساترة لما حصل من الذنب. وقرئ ونكفر بالجزم، عطفا على قوله: من سيئاتكم من ههنا: صلة للكلام، يريد: جميع سيئاتكم. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ {272} لِلْفُقَرَاءِ

الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ {273} } [البقرة: 272-273] قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] : 123 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَرْثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَصَدَّقُوا إِلا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الأَدْيَانِ» وبهذا الإسناد، عن سهل، حدثنا ابن نمير، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، قال: كان المسلمون يكرهون أن يتصدقوا على فقراء المشركين حتى نزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] فأمروا أن يتصدقوا عليهم.

قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين جاءت قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إليها تسألها، وكذلك جدتها، وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنكما لستما على ديني. فاستأمرته في ذلك فأنزل الله هذه الآية، فأمرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتصدق عليهما. وهذا في صدقة التطوع، أباح الله أن يتصدق على الملي والذمي، فأما الفرض فلا يجوز أن يتصدق به إلا على المسلمين. ومعنى الآية: ليس عليك هدى من خالفك، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، حاجة منهم إليها. وأراد بالهدى ههنا: هدى التوفيق، وخلق الهداية، لأنه كان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدى البيان والدعوة لجميع الخلق. وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] قال ابن عباس: يريد أولياءه. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] من مال، وهو شرط، وجوابه: {فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] ظاهر خبر، وتأويله: نهي، أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ، و {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . وفي ذكر الوجه في قوله تعالى: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] قولان: أحدهما: أن المراد منه تحقيق الإضافة، لأن ذكر الوجه يرفع الإيهام أنه له ولغيره، وذلك أنك لما ذكرت الوجه، ومعناه: النفس، دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك إلى تحقيق الاختصاص، فكنت بذلك محققا للإضافة ومزيلا لإيهام الشركة.

القول الثاني: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد. كان أشرف في الذكر من: فعلته له. لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يدل على أشرف الذكر من غير تحقيق وجه، ألا ترى أنك تقول: وجه الدليل، ووجه الرأي، ووجه الأمر. فلا تريد تحقيق الوجه، وإنما تريد أشرف ما فيه من جهة شدة ظهوره وحسن بيانه؟ قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] يوف لكم جزاؤه، والتوفية: إكمال الشيء، قال ابن عباس: يجازيكم به في الآخرة. وإنما حسن إليكم مع التوفية، لأنها تضمنت معنى التأدية، {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، كقوله: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] يريد: لم تنقص. كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: هم أهل الصفة، صفة مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم نحو من أربع مائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله. فحث الله الناس على الصدقة عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى. واللام في قوله: للفقراء متعلق بمحذوف، وتأويله: هذه الصدقات أو النفقة للفقراء، وقد تقدم ما يدل عليه لأنه سبق ذكر الإنفاق والصدقات. قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: عاقل لبيب، إذا تقدم وصف رجل. والمعنى: الموصوف عاقل لبيب. وقوله: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] تفسير الإحصار قد تقدم عند قوله: فإن أحصرتم قال قتادة: صبروا أنفسهم في سبيل الله، أي: في طاعته للغزو، فلا يتفرغون إلى طلب المعاش. وقال سعيد بن المسيب: هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاروا زمني، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض. وقال ابن عباس في رواية عطاء: هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 273] يريد: الجهاد.

يقال: ضربت في الأرض ضربا، إذا سرت فيها. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ، وهؤلاء إنما لا يستطيعون الضرب في الأرض لأن الفقر منعهم عن جهاد العدو على قول ابن عباس. وعلى قول سعيد بن المسيب: الزمانة. وعلى قول قتادة: لأنهم ألزموا أنفسهم أمر الجهاد، فمنعهم ذلك عن التصرف للمعاش. وقوله: يحسبهم الجاهل يقال: حسبت الشيء أحسبه وأحسبه. بالكسر والفتح، وقرئ بالوجهين في القرآن ما كان من مضارع حسب، والفتح أقيس عند أهل اللغة، لأن الماضي إذا كان فعل كان المضارع على يفعل، والكسر شاذ وهو حسن لمجيء السمع به. وقوله: الجاهل: لم يرد الجهل الذي هو ضد العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبرة، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم. {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] وهو ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء، وتعفف عنه، إذا تركه. ومنه قول رؤبة: فعف عن أسرارها بعد العسق أي: تركها. وقوله: تعرفهم بسيماهم السيما، والسيماء، والسيمياء: العلامة التي يعرف بها الشيء، قال مجاهد: سيماهم التخشع. وقال الربيع والسدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر. وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع. وقال ابن زيد: رثاثة ثيابهم.

وقوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] الإلحاف: هو الإلحاح في المسألة، قال الزجاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة. واللحاف سمي لحافا لأنه يشمل الإنسان، فالملحف الذي يشمل سؤاله كل أحد، ويشمل وجوه الطلب، هذا هو الأصل، ثم يسمى من سأل مع الاستغناء: ملحفا. 124 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا» قال ابن عباس في قوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] يقول: إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء، وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء. وأكثر أهل المعاني الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا: هذا نفي للسؤال أصلا، فهم لا يسألون الناس إلحافا، ولا غيرَ إلحافٍ، لما وصفوا به من التعفف. قالوا: والمعنى: ليس منهم سؤال فيكون إلحافا، كما قال الأعمش: لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر معناه: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها، ليس أن هناك أينا ولا يغمز. 125 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ الطَّوَافُّ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَالأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا» 126 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ (فَيَبِيعَهَا) فَيَكُفَّ (اللَّهُ) بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ (أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) » {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 274] الآية، قال ابن عباس، في رواية الكلبي، وفي رواية مجاهد عنه: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يكن يملك غير أربعة دراهم،

فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فأنزل الله هذه الآية. 127 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْجُرْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ وَاحِدًا، وَبِالنَّهَارِ وَاحِدًا، وَفِي السِّرِّ وَاحِدًا، وَفِي الْعَلانِيَةِ وَاحِدًا وروى حنش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار سرا وعلانية. وروي ذلك مرفوعا: 128 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَلِيلُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ ".

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَخْبِلُ أَحَدًا فِي بَيْتِهِ فَرَسٌ عَتِيقٌ مِنَ الْخَيْلِ» {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {278} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ {279} وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {280} وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {281} } [البقرة: 275-281] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يريد: الذين يعاملون به، فنبه بالأكل على ما سواه، كما قال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] . والربا في اللغة: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو ربا، وأربى الرجل، إذا عامل في الربا. ومنه الحديث: «من أجبى فقد أربى» . أي: عامل بالربا. هذا معنى الربا في اللغة، وأما في الشرع: فهو اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع.

وقوله: لا يقومون يعني: يوم القيامة من قبورهم، {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة: 275] التخبط معناه: الضرب على غير استواء، ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: يخبط خبط عشواء. ومنه قول زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم وتخبطه الشيطان: إذا مسه بخبل أو جنون، يقال: به خبطة من جنون. وقوله: من المس المس: الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس وألس. وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، ثم سمي الجنون مسا، كما أن الشيطان يتخبطه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة. قال قتادة: إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك علم لأكله الربا يعرفهم به أهل الوقف. وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] أي: ذلك الذي نزل بهم بقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة بالربع في أول البيع. وكان أحدهم إذا حل له مال على إنسان قال لغريمه: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل. فكذبهم الله عز وجل فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي: وعظ، قال السدي: يعني القرآن. فانتهى عن أكل الربا، {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] أي: ما أكل من الربا، ليس عليه رده. ومعنى سلف: تقدم ومضى، والسلوف: التقدم.

{وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] أي: بعد النهي، إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، ومن عاد إلى استحلال الربا، {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] قال أبو إسحاق الزجاج: هؤلاء الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا. ومن اعتقد هذا فهو كافر. 129 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا مَحْفُوظُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّبَا خَمْسًا: آكِلَهُ، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ " قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] المحق: نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلاك، يقال: محقه الله فانمحق وامتحق. قال المفسرون: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] أي: ينقصه ويذهب بركته، وإن كان كثيرا كما يمحق القمر، وقال ابن

عباس في رواية الضحاك: يعني: لا يقبل الله منه صدقة ولا جهدا ولا حجا، ولا صلاة. ويربي الصدقات أي: يزيد فيها ويبارك عليها، قال عطاء، عن ابن عباس: ويربي الصدقات لصاحبها كما يربي أحدكم فصيله. 130 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ النَّاجِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ وَلا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلا الطَّيِّبَ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، أَوْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] و {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} [البقرة: 276] أي: بتحريم الربا لا يصدق الله ورسوله في ذلك، أثيم أي: فاجر بأكله، ومعنى لا يحبه الله: لا يثني عليه، ولا يثيبه، ولا يرضى فعله. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] تفسير هذه الآية قد تقدم فيما مضى. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] :

131 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ رِبَاهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ فَجَاءَ الإِسْلامُ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَجَاءُوا يَطْلُبُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَفَعَ ذَلِكَ بَنُو الْمُغِيرَةِ، إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَتَّابًا عَلَى مَكَّةَ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، فَكَتَبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ فَفَعَلُوا ومعنى الآية: تحريم ما بقي دينا من الربا، وإيجاب أخذ المال دون الزيادة على جهة الربا. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] معناه: أن من كان مؤمنا فهذا حكمه، كما تقول: إن كنت أخي فأكثر مني. معناه: أن من كان أخا أكرم أخاه. قال الزجاج: أعلم الله أن من كان مؤمنا قبل عن الله تعالى أمره، ومن أبى فهو حرب، أي: كافر. وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 279] أي: فإن لم تذروا ما بقي من الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] يقال: أذن بالشيء، إذا علم به. يأذن أذنا وأذانة، قال أبو عبيدة: يقال: آذنته بالشيء فأذن به. أي: علم. والمعنى: فإن لم تضعوا الربا الذي قد أمر الله بوضعه عن الناس فاعلموا بحرب من الله ورسوله، وهي القتل في الدنيا والنار في الآخرة، أي: فأيقنوا أنكم تستحقون القتل والعقوبة بمخالفة أمر الله ورسوله.

وقرأ حمزة وعاصم، في بعض الروايات فآذنوا ممدودا، أي: فاعلموا، من قوله: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] ، والمعنى: فأعْلِمُوا مَن لم ينتهِ عن ذلك بحربٍ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة. قال سعيد بن جبير: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقوله وإن تبتم أي: عن الربا، {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وإنما شرط التوبة لأنهم إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله، وصار مالهم فيئا للمسلمين، فلا يكون لهم رءوس أموالهم. وقوله: لا تظلمون أي: بطلب الزيادة، ولا تظلمون بالنقصان عن رأس المال. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال الإخوة المربون، يعني ثقيفا: بل نتوب إلى الله عز وجل، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله. فرضوا برأس المال، وسلموا لأمر الله عز وجل، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات. فأبوا أن يؤخروا، فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] وكان ههنا بمعنى: وقع وحدث، أي: إن وقع غريم ذو عسرة، والعسرة: اسم من الإعسار، وهو تعذر الموجود من المال. وقوله: فنظرة النظرة: اسم من الإنظار، وهو الإمهال، يقال: بعته بنظرة وبإنظار. والمعنى: فالذي تعاملونه به نظرة، أي: تأخير، إلى ميسرة وهي مفعلة من اليسر الذي هو ضد العسر، وهو تيسر الموجود من المال، يقال: ميسرة وميسرة وميسور. ومهما علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه وملازمته ومطالبته بما له عليه، ووجب عليه الإنظار إلى وقت يساره.

132 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَ أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّجَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ» 133 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا أُعْسِرَ الْمُعْسِرُ، قَالَ لِفَتَاهُ: تَجَاوَزْ عَنْهُ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] أعلم الله تعالى أن الصدقة برأس المال على المعسر خير وأفضل من انتظار يسره. قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] انتصب يوما على المفعول به، لا على الظرف، لأنه ليس المعنى: اتقوا في هذا اليوم، ولكن المعنى: تأهبوا للقاء هذا اليوم بما تقدمون من العمل الصالح، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 281] أي: جزاء ما كسبت من الأعمال، قال ابن عباس: يريد ثواب عملها خيرا بخير وشرا بشر.

{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] يريد: وهم لا ينقصون لا أهل الثواب ولا أهل العقاب، قال: وهذه الآية لجميع الخلق البر والفاجر. 134 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] قال ابن جريح: وعاش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية تسع ليال. وقال سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال. قال ابن عباس: قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من { [البقرة. ] يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {282} وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ

بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {283} } [سورة البقرة: 282-283] قوله {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: لما حرم الله تعالى الربا أباح السلم بهذه الآية. والتداين: تفاعل، من الدين، ومعناه: تبايعتم بدين، والأجل معناه: الوقت المضروب لانقضاء الأمر، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا، إذا تأخر. والآجل: نقيض العاجل. قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. ثم قرأ {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . أمر الله تعالى في الحقوق المؤجلة بالكتابة والإشهاد، وهو قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] حفظا منه للأموال، وذلك أن الذي عليه الدين إذا كانت عليه الشهود والبينة قل تحدثه نفسه بالطمع في إذهابه، وهذا أمر ندب وإباحة، فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. 135 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوَب، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّهُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ» 136 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حبَّانَ بْنِ

الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَقَالَ: «هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلانٍ إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ بِبَابِ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ» 137 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى الدِّينِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أي: ليكتب كتاب الدين بين المستدين والمدين كاتب بالعدل،

أي: بالحق والإنصاف، لا يكتب لصاحب الدين فضلا على الذي عليه، ولا ينقصه من حقه، ولا يقدم الأجل ولا يؤخره، ولا يكتب شيئا يبطل به حقا لأحدهما هذا هو العدل. قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} [البقرة: 282] أي: لا يمتنع، يقال: أبى فلان الشيء يأباه، إذا امتنع عنه. قال مجاهد والربيع: واجب على الكاتب أن يكتب إذا أمر، لأن الله تعالى أمره أن لا يأبى. وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] أي: لا يأب أن يكتب كما أمره الله عز وجل من العدل. وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] الإملال والإملاء: لغتان، قال الفراء: أمللت: لغة الحجاز وبني أسد، وأمليت: لغة بني تميم وقيس، نزل القرآن باللغتين، قال الله تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] . ومعنى الآية: أن الذي عليه الدين يملي، لأنه المشهود عليه، فيقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. وقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] البخس: النقصان، يقال: بخسه حقه. أي: نقصه، أمر من عليه الحق أن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص شيئا. وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: 282] قال مجاهد: جاهلا بالإملاء. وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا. أو ضعيفا قال السدي وابن زيد: يعني: عاجزا أحمق. {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} [البقرة: 282] لخرس أو عي أو جهل بما له وعليه، {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] أي: ولي السفيه والعاجز والطفل، يعني: قيمه أو وارثه، أو من يقوم مقامه في حقه، بالعدل بالصدق والحق والإنصاف.

وقوله: واستشهدوا أي: أشهدوا، {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] من أهل ملتكم من الأحرار البالغين دون الصبيان والعبيد، {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] قال الأخفش والفراء: فليكن رجل وامرأتان. والإجماع: أن شهادة النساء جائزة في الأموال. وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: يريد: من أهل الفضل والدين. وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] أصل الضلالة في اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن، إذا غاب. ومعنى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] : أي تغيب عن حفظها، أو يغيب حفظها عنها، يعني إحدى المرأتين، {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] هذا من التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا، وبحضرتنا فلان أو فلانة؟ حتى تذكر الشهادة. والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها. ومن قرأ {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] من الإذكار، فهو بهذا المعنى أيضا، يقال: أذكره الشيء وذكره. مثل: فرحه وأفرحه، وهو كثير. وقرأ حمزة إن تضل بكسر الألف، فتذكر بالرفع، وجعل إن للجزاء وتضل في موضع جزم، وحركت بالفتح لالتقاء الساكنين كقوله: من يرتد، والفاء في قوله: {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] جواب الجزاء، كقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] .

قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] هذا في تحمل الشهادة، وكل من دعي ليتحمل الشهادة وجب عليه ترك الإباء في قول قتادة والربيع. وقال الشعبي: هذا إذا لم يوجد غيره، فيتعين عليه الإجابة، فإن وجد غيره ممن يتحمل الشهادة فهو مخير. وقال آخرون: هذا في إقامة الشهادة. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: إذا استودعته ثم احتجت إلى شهادته فلا ينبغي له أن يتخلف عنك حتى يأتي معك إلى الحاكم فيؤديها. وهذا قول مجاهد والسدي وسعيد بن جبير وعكرمة. وقوله: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] السآمة: الملال والضجر، يقال: سئمت الشيء أسأمة سأما وسآمة. يقول: لا يمنعكم الضجر والملالة أن تكتبوا ما شهدتم عليه من الحق، صغر أو كبر، قل أو كثر. {ذَلِكُمْ} [البقرة: 282] أي: الكتاب، أقسط أعدل، عند الله لأن الله أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه، {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] أي: أبلغ في الاستقامة، لأن الكتاب يذكر الشهود، فتكون شهادتهم أقوم من لو شهدوا على ظن ومخيلة. قوله: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل. وقوله: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] أي: إلا أن تقع تجارة حاضرة، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] فلا جناح في ترك الإشهاد والكتابة فيه، لأن ما يخاف في النساء والتأجيل يؤمن في البيع يدا بيد. وقرأ عاصم {تِجَارَةً حَاضِرَةً} [البقرة: 282] بالنصب، على تقدير: إلا أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرةً، فأضمر الاسم لدلالة الخبر عليه، ومثله ما أنشد الفراء:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا أي: إذا كان اليوم يوما. وقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ذكرنا أن هذا أمر ندب، وليس بواجب. وقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] نهى الله الكاتب والشهيد عن المضارة، وهو أن يزيد الكاتب، أو ينقص منه، أو يحرف، وأن يشهد الشاهد بما لا يستشهد عليه، أو يمتنع عن إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وابن زيد، وعلى هذا أصله: يضارر. قال ابن عباس: هو أن يمتنع الكاتب أن يكتب، والشاهد أن يشهد. وقال عكرمة: هو أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان. وقيل: هو أن يدعى الكاتب ليكتب الباطل، ويدعى الشاهد ليشهد الزور. فعلى هذه الأقوال أصله: لا يضارر. وإن تفعلوا يعني ما ذكر الله من المضارة، {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] أخبر الله تعالى أن مضارة الكاتب والشاهد فسق، أي: خروج عما أمر الله تعالى به. قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} [البقرة: 283] أمر الله تعالى عند عدم الكاتب في حال السفر بأخذ الرهون، ليكون وثيقة بالأموال، وهو قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أي: فالوثيقة رهان، وهو جمع رهن، مثل: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.

وقرأ أبو عمرو فرهن مقبوضة وهو أيضا جمع رهن، مثل سقف وسقف، وأنشد أبو عمرو حجة لقراءته قول قعنب: بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلقت عندها من قبلك الرهن والقبض شرط في صحة الرهن، حتى لو رهنه شيئا ولم يقبضه، لم يحكم بصحته. قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] أي: لم يخف خيانته وجحوده الحق، فلم يشهد عليه، {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] اؤتمن: افتعل، من الأمانة، يقال: أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن. أمر الله تعالى المؤتمن بأداء الأمانة وتقوى الله فيما أمن فيه من الحق، وهو قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] . قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] نهي لمن كانت عنده شهادة أن يكتمها ويمتنع من إقامتها، ثم أوعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] قال ابن عباس: يريد: قد أثم قلبه وفجر. قال المفسرون: ذكر الله تعالى على كتمان الشهادة نوعا من الوعيد لم يذكره في سائر الكبائر، وهو إثم القلب. ويقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله من ذلك. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] قوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 284] ملكا، وهو مالك أعيانه يملك تصريفه وتدبيره، {

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير وعطاء: هذه الآية منسوخة، وذلك أنها لما نزلت جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: كلفنا من العمل ما لا نطيق، إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وأن له الدنيا. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا. قولوا: سمعنا وأطعنا ". فقالوا: سمعنا وأطعنا. واشتد ذلك عليهم ومكثوا حولا، فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فنسخت هذه الآية ما قبلها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا به» . وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والقرظي وابن سيرين والكلبي وقتادة. وقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] قرئ رفعا وجزما، فمن جزم فبالعطف على ما قبله، على معنى جواب الشرط، وهو قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] ومن رفع فتقديره: فهو يغفر لمن يشاء، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] أي: الأمر إليه في المغفرة والعذاب. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ

عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {286} } [البقرة: 285-286] قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] قال الزجاج: لما ذكر الله عز وجل في هذه ال { [فرض الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والجهاد، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بجميع ذلك، وهو قوله:] كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة: 285] وقرأ حمزة وكتابه على التوحيد، أراد اسم الجنس، كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، يراد به الجمع وإن أفرد. وقوله: لا نفرق أي: يقولون: لا نفرق. {بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ومعناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم. {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] أي: اغفر غفرانك، ويستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء، نحو سقيا ورعيا، وإليك المصير هذا إقرار منهم بالبعث. قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الوسع: اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عنه، وهذه الآية نسخت قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] الآية. والمعنى: لا يكلفها إلا يسرها لا عسرها، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] من العمل بالطاعة، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] من العمل بالإثم، والكسب والاكتساب بمعنى واحد، {

رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] قال الحسن: معناه: قولوا ربنا. على التعليم للدعاء. ومعنى {لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] لا تعاقبنا، إن نسينا أي: تركنا شيئا من اللازم لنا، {أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال أبو عبيدة: يقال: أخطأ وخطئ لغتان. ومعنى أخطأنا ههنا: أثمنا وتعمدنا الإثم، {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة: 286] أي: عهدا وميثاقا لا نطيقه ولا نستطيع القيام به، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] أي: على اليهود، فلم يقوموا به، وهذا قول قتادة ومجاهد والسدي. قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] أي: من العذاب، كأنهم سألوا الله أن لا يعذبهم بالنار، فإنه لا طاقة لأحد مع عذاب الله تعالى، {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة: 286] أي: تجاوز عنا، واغفر لنا أي: استر ذنوبنا، وارحمنا أي: تلطف بنا، أنت مولانا أي: ناصرنا والذي يلي علينا أمورنا، {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] في إقامة الحجة عليهم وفي غلبتنا إياهم، حتى يظهر ديننا على الدين كله كما وعدتنا. 138 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآيَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَكُلَّمَا قَالَهَا جِبْرِيلُ قَالَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَبَّ الْعَالَمِينَ: قَدْ فَعَلْتُ "

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان 139 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ أُعْطِيَ بِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا أَمَانًا عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ» 140 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ وَإِنَّهُمَا يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَابَتَانِ، أَوْ فِرْقَانِ، مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ»

{الم {1} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ {3} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {4} إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ {5} هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {6} } [آل عمران: 1-6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم وتفسير الم قد تقدم، وكذلك تفسير {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] . وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 3] يعني القرآن، وإنما قال: نزل. ثم قال: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} [آل عمران: 3] لأن التنزيل للتكثير، والقرآن نزل نجوما شيئا بعد شيء، والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة. وقوله: بالحق أي: بالصدق في أخباره وجميع دلالاته، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] موافقا لما تقدم الخبر به في سائر الكتب، وفي ذلك دليل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] من مجاز الكلام، وذلك أن ما بين يديك فهو أمامك، فقيل لكل ما تقدم على الشيء: هو بين يديه. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} [آل عمران: 3] وهي اسم لكتاب موسى، والإنجيل اسم لكتاب عيسى. من قبل من قبل القرآن هدى للناس هاديين لمن آمن بهما إلى طريق الحق، {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 4] يعني كتاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي فرق بين الحق والباطل. قال السدي: في الآية تقديم وتأخير، لأن التقدير: وأنزل التوراة والإنجيل وأنزل الفرقان هدى للناس. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 4] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [آل عمران: 4] في النار، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [آل عمران: 4] غالب قوي، {ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] ممن كفر به، يقال: انتقم منه انتقاما، إذا كافأه عقوبة بما صنع. {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] لا يغيب عن علمه شيء فيهما. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} [آل عمران: 6] جمع رحم، وهي مستقر الولد في بطن الأم، كيف يشاء ذكرا أو

أنثى، قصيرا أو طويلا، أسود أو أبيض، سعيدا أو شقيا، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ} [آل عمران: 6] في ملكه، الحكيم في خلقه. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ {7} رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {8} رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {9} } [آل عمران: 7-9] قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] قال ابن عباس، في رواية عطاء المحكمات: هي الثلاث آيات في آخر { [الأنعام] قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} [سورة الأنعام: 151] إلى آخر الآيات الثلاث. وهذه الآيات محكمات لأنها لا تحتمل من التأويل غير وجه واحد. قال ابن الأنباري: الآية المحكمة: التي منعت كثرة التأويلات، لأنها لا تحتمل إلا تفسيرا واحدا. {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أي: أصل الكتاب الذي يعمل عليه، والآيات الثلاث في الأنعام هن أم كل كتاب أنزله الله على النبي، فيهن كل ما أحل وفيهن كل ما حرم. ووحد الأم بعد قوله: هن لأنهن بكمالهن أم، وليست كل واحدة منهن أم الكتاب على انفرادها.

وقوله: وأخر جمع أخرى، متشابهات يريد: التي تشابهت على اليهود، وهي حروف التهجي في أوائل السور، وذلك لأنهم أولوها على حساب الجمل، وطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة، فاختلط عليهم واشتبه. والمتشابه من القرآن: ما احتمل من التأويل أوجها، وسمي متشابها لأن لفظه يشبه لفظ غيره، ومعناه يخالف معناه، قال الله تعالى في وصف ثمار الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أي: متفق المناظر مختلف الطعوم. ثم يقال لكل ما غمض ودق: متشابه. وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه. وليس الشك فيها لمشاكلتها غيرها والتباسها به. وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] أي: ميل عن الحق، وهم اليهود، طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة، وهو قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] قال مجاهد: طلب اللبس ليضلوا به جهالهم. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] التأويل: التفسير، ومعناه: ما يئول إليه الشيء، أي: يرجع، قال ابن عباس: وابتغاء تأويله: طلب مدة أجل أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] يريد: ما يعلم انقضاء مدة ملك أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الله، لأن انقضاء ملك هذه الأمة مع قيام الساعة، ولا يعلم ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. ثم ابتدأ وقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي: الثابتون فيه، والرسوخ في اللغة: الثبوت في الشيء. وعند أكثر المفسرين: المراد بالراسخين: علماء مؤمني أهل الكتاب، قال ابن عباس ومجاهد والسدي:

بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم: قولهم: آمنا به أي: بالمتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] المحكم والمتشابه وما علمناه وما لم نعلمه. 141 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْهِسِنْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: فَوَجْهٌ حَلالٌ وَحَرَامٌ لا يَسَعُ أَحَدًا جَهَالَتُهُمَا، وَوَجْهٌ عَرَبِيٌّ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَوَجْهُ تَأْوِيلٍ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَوَجْهُ تَأْوِيلٍ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ فَمَنِ انْتَحَلَ فِيهِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَبَ وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] أي: ما يتعظ بالقرآن إلا ذوو العقول. قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] أي: ويقول الراسخون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] . لا تملها عن الهوى والقصد كما أزغت قلوب اليهود والنصارى والذين في قلوبهم زيغ، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] للإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك. وروت أم سلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» . ثم قرأ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .

قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] يعني: يوم القيامة يجمعهم الله للجزاء في ذلك اليوم، وهذا إقرار من المؤمنين بالبعث، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] يعني: ميعاد الجمع والبعث. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ {10} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {11} قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {12} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ {13} } [آل عمران: 10-13] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 10] قال ابن عباس: يعني قريظة والنضير. {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} [آل عمران: 10] لن تنفع ولن تدفع عنهم أموالهم، {وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 10] قال الكلبي: من عذاب الله. {شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10] أي: هم الذين توقد بهم النار. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11] قال ابن عباس ومجاهد والسدي: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب، يريد: أن اليهود كفرت بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعادة آل فرعون في تكذيب موسى بعدما عرفوا صدقه. والمعنى: دأبهم في الكفر كدأب آل فرعون، والدأب معناه في اللغة: الأمر والشأن والعادة، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [آل عمران: 11] يعني كفار الأمم الخالية، {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11] . {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 12] قال ابن عباس: يعني يهود المدينة، وقال مقاتل: يعني مشركي مكة. {سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] ستصيرون مغلوبين بنصرة الله المؤمنين عليكم، وقد فعل ذلك، فاليهود غلبوا بوضع الجزية عليهم، والمشركون غلبوا بالسيف. قوله: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] وعيد لهم بالنار.

وقرئ بالتاء والياء، قال الفراء: يجوز في مثل هذا التاء والياء، لأنك تقول في الكلام: قل لعبد الله أنه قائم وأنك قائم. وفي حرف عبد الله قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف قوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] قال ابن عباس: بئس ما قد مهد لكم وبئس ما مهدتم لأنفسكم. قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} [آل عمران: 13] يخاطب الذين ذكرهم في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 12] وأراد بالآية: علامة تدل على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] يعني: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يوم بدر، ومشركي مكة حين خرجوا لقتاله، {الْتَقَتَا} [آل عمران: 13] اجتمعتا، {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 13] وهم المؤمنون، {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] يعني المشركين، {يَرَوْنَهُمْ} [آل عمران: 13] ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة، {مِثْلَيْهِمْ} [آل عمران: 13] وهم كانوا ثلاثة أمثالهم. ولكن الله أرى المسلمين أن المشركين لا يزيدون عن مثليهم، وذلك أن الله كان قد أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم. ومن قرأ ترونهم بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود، والمعنى: ترون أيها اليهود المشركين ضعفي المؤمنين، على ما ذكرنا من تقليل الله المشركين في الأعين. وقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] يجوز أن تكون مصدرا، يقال: رأيته رأيا ورؤية. ويجوز أن تكون ظرفا للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} [آل عمران: 13] يقوي، {بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 13] يعني: المؤمنين نصرهم يوم بدر على قلتهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [آل عمران: 13] أي:

فيما فعل من نصرة المؤمنين، {لَعِبْرَةً} [آل عمران: 13] العبرة: الاعتبار، وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم، وأصله من العبور، وهو النفوذ من جانب إلى جانب، لأن المعتبر بالشيء تارك جهله وواصل إلى علمه بما رأى. وقوله: {لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] أي: لأولي العقول، يقال: لفلان بصر بهذا الأمر. أي: علم ومعرفة. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] أي: بما جعل في طباعهم من الميل إلى هذه الأشياء محنة كما قال عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7] . و {الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] : جمع شهوة، وهي توقان النفس إلى الشيء ميلا إليه. {وَالْقَنَاطِيرِ} [آل عمران: 14] جمع قنطار، وهو المال الكثير، حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: هو وزن لا يحد. قال مجاهد: هو سبعون ألف دينار. وقال معاذ بن جبل: القنطار: ألف ومائتا أوقية. وقال الضحاك: اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار. وقال أبو نضرة: هو ملء مسك ثور ذهبا. و {الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14] قال قتادة: المال الكثير بعضه على بعض. وقوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 14] الخيل: جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم والنساء والرهط. فأما المسومة فقال ابن عباس في رواية

عطاء: هي الراعية، يقال: أسمت الماشية وسومتها، إذا رعيتها. فهي مسامة ومسومة، ومنه قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] . وقال في رواية الوالبي: هي المعلمة من السيما التي هي العلامة. ومعنى العلامة ههنا: الكي في قول المؤرج، والبلق في قول ابن كيسان، والشية في قول قتادة. قوله: {وَالأَنْعَامِ} [آل عمران: 14] جمع نعم، والنعم من الإبل والبقر والغنم، {وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] الأرض المهيأة للزراعة، قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] يعني ما ذكر من هذه الأشياء، وهي مما يتمتع به في الدنيا، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] أي: المرجع، يقال: آب الرجل ويئوب أوبة وأيبة وإيابا. وفي هذا ترغيب فيما عند الله من الجنة والثواب، إذ ذكر أن عنده حسن المآب. ثم أعلم أن خيرا من جميع ما في الدنيا ما أعده لأوليائه، فقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {15} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {16} الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ {17} } [آل عمران: 15-17] {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آل عمران: 15] قل لهم يا محمد: أأخبركم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15] الذي ذكرت؟ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [آل عمران: 15] قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار، أراد الله أن يعزيهم ويشوقهم إلى المعاد، ويدخل في هذا كل من آمن بالله واتقى الشرك.

وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 15] وقرئ بضم الراء، وهي لغة قيس وتميم، قال الفراء: يقال: رضيت رضا ورضوانا ورضوانا ومرضاة. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] عالم بهم، وإذا كان عالما بهم جازاهم بما يستحقون. ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران: 16] الآية. ثم زاد في وصفهم فقال: الصابرين قال ابن عباس: على دينهم وعلى ما أصابهم. والصادقين قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم، فصدقوا في السر والعلانية. والقانتين الطائعين لله، والمنفقين قال ابن عباس: الذين ينفقون الحلال في طاعة الله. والمستغفرين بالأسحار قال مجاهد وقتادة: يعني: المصلين بالأسحار، جمع سحر، وهو الوقت قبيل طلوع الفجر. قال الزجاج: وصف الله هؤلاء بما وصف، ثم بين أنهم مع ذلك لشدة خوفهم يستغفرون بالأسحار. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} } [آل عمران: 18-20] قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] قال الزجاج: معنى شهد الله: بين وأظهر، لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه، والله عز وجل قد دل على توحيده بجميع ما خلق، فبين أنه لا يقدر أحد أن ينشئ شيئا واحدا مما أنشأ.

وقوله: وأولو العلم أي: وشهد بتوحيده أولو العلم بما ثبت عندهم، قال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال عطاء، عن ابن عباس: يعني المهاجرين والأنصار. وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم. وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أي: بالعدل، كما يقال: فلان قائم بهذا الأمر، أي: يجريه على الاستقامة في جميع الأمور، والله تعالى يجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور. 142 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَا، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ، فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الأَعْشَى، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، فَمَرَّ بِهَذِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ثُمَّ قَالَ الأَعْشَى: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] قَالَهَا مِرَارًا. قُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ وَوَدَّعْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: آيَةٌ سَمِعْتُكَ تُرَدِّدُهَا، قَالَ: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُحَدِّثْنِي. قَالَ: وَاللَّهِ لا أُحَدِّثُكَ بِهَا سَنَةً، فَكَتَبْتُ عَلَى بَابِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَقَمْتُ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَتِ السَّنَةُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لِعَبْدِي هَذَا عَنِّي عَهْدًا، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ "

قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] الأحسن كسر ألف إن لأن الكلام الذي قبله قد تم، ووجه قراءة من قرأ بالفتح: أن تكون الشهادة واقعة على أن، على أن يكون بدلا من الأولى، فكأن التقدير: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به. ومعنى الإسلام في اللغة: الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ثم من الإسلام ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، وهو قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، ومنه ما هو متابعة وانقياد باللسان والقلب، وهو قوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] روى الحسن، عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " تعرض الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: أي رب، إني الصلاة. فيقول الله عز وجل: إنك على خير. ثم تجيء الصدقة فتقول: أي رب، إني الصدقة. فيقول: إنك على خير. ويجيء الصيام، وتجيء الأعمال كذلك، ويجيء، أحسبه قال: الإسلام. فيقول: أي رب، أنت السلام وأنا الإسلام. فيقول الله: إنك على خير، بك آخذ اليوم وبك أعطي ". ثم قال الحسن: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .

قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 19] قال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأتباعهم. يقول: لم تختلف اليهود في صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته. {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19] يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمي علما لأنه كان معلوما عندهم. والمعنى: أنهم كانوا يصدقونه بنعته وصفته قبل بعثه، فلما جاءهم اختلفوا، فآمن بعضهم وكفر آخرون، فقالوا: لست الذي وعدنا به، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] . وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] هذا شرط وجواب يتضمن وعيدا لليهود الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر معنى سريع الحساب في { [البقرة. قوله: فإن حاجوك أي: جادلوك، يعني اليهود والنصارى،] فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [سورة آل عمران: 20] قال الفراء: أخلصت عملي لله. ومعنى الوجه ههنا: العمل، وتقدم الكلام في هذا عند قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] . وقوله: ومن اتبعن يريد: المهاجرين والأنصار، {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 20] يعني اليهود، والأميين يعني العرب أأسلمتم قال الفراء والزجاج: معناه الأمر، أي: أسلموا. ومثله قول: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا، فإن أسلموا أي: انقادوا للقرآن، صدقوا بما جئت به، فقد اهتدوا صاروا مهتدين، وإن تولوا أعرضوا عنك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] فليس عليك إلا أن تبلغ الرسالة، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] قال ابن عباس: يريد: بمن آمن بك وصدقك، وبمن كفر بك وكذبك. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {21} أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {22} } [آل عمران: 21-22] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21] تقدم تفسيره في { [البقرة.

وقوله:] وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: 21] روى أبو عبيدة بن الجراح: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم» . وأخبر ببطلان عملهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران: 22] يريد بأعمالهم: ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة وإقامة شريعة موسى، وأراد ببطلانها في الدنيا: أنها لم تحقن دماءهم وأموالهم، وفي الآخرة: لم يستحقوا بها مثوبة، فصارت كأنها لم تكن. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ {23} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {24} فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {25} } [آل عمران: 23-25] قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] يعني علماء اليهود من قريظة والنضير، أعطوا حظا من التوراة لأنهم كانوا يعلمون بعضها، {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] قال ابن عباس في رواية الضحاك: المراد ب {كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] ههنا: القرآن. وهو قول قتادة، قال: دعوا إلى القرآن بعد أن ثبت أنه كتاب الله، حيث لم يقدر بشر أن يعارضه. وقوله: ليحكم بينهم جعل الله تعالى القرآن حكما بين اليهود وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحكم القرآن عليهم بالضلالة فأعرضوا عنه، وهو قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [آل عمران: 23] يعني مَنْ أعرض عن حكم القرآن فلم يؤمن به من رؤساء اليهود. وقوله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعرضون الباقين من اليهود، ويجوز أن يكون

الفريق المتولي هم المعرضون. ثم بين سبب إعراضهم فقال: ذَلِكَ أي: ذلك الإعراض عن حكمك يا محمد، {بِأَنَّهُمْ} [آل عمران: 24] بسبب اغترارهم ومقالتهم، حيث {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] ومضى تفسير هذا. وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} [آل عمران: 24] الغرور: الإطماع فيما لا يصح. وقوله: {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] يعني قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] . قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] كيف معناه: السؤال عن الحال، والتقدير: فكيف حالهم إذا جمعناهم؟ ليوم أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، {لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] يعني: يوم القيامة، يجمع الخلق فيه للحساب والجزاء. وتأويل الكلام: أي حالة تكون حال من اغتر بالدعاوى الباطلة إذا جمعوا ليوم الجزاء؟ قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [آل عمران: 25] أي: وفرت وجوزيت، ما كسبت أي: جزاء ما كسبت من خير أو شر، يعني: أعطيت كل نفس جزاءها كاملا، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25] لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {26} تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {27} } [آل عمران: 26-27] قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الآية، قال ابن عباس: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فارس والروم أعز وأمنع من أن يُغْلَبَ على بلادهم. فأنزل الله هذه الآية. ومعنى اللهم: يا الله، مالك الملك مصرفه ومدبره كما يشاء، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] محمدا

وأصحابه، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الروم والعجم، {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] قال ابن عباس: يريد: المهاجرين والأنصار، {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] يريد: الروم وفارس، بيدك الخير عز الدنيا والآخرة. 143 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُمُعَةَ بْنِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] مُشَفَّعَاتٌ، مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنْزِلَهُنَّ تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ فَقُلْنَ: يَا رَبِّ: تُهْبِطُنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ، قَالَ اللَّهُ: بِي حَلَفْتُ لا يَقْرَأْكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ إِلا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَإِلا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، وَإِلا قَضَيْتُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ "

قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] قال جميع المفسرين: تجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخر. والإيلاج: الإدخال، يقال: أولجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: 27] قال أكثر أهل التفسير: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] قال الزجاج: بغير تقتير وتضييق. يقال: فلان ينفق بغير حساب، إذا كان يوسع في النفقة. وكأنه لا يحسب ما ينفقه. {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {28} قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {29} يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ {30} } [آل عمران: 28-30] قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] نزلت الآية في قوم من المؤمنين كانوا يباطنون اليهود ويوالونهم، نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويوالونهم.

ثم أوعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [آل عمران: 28] أي: اتخاذ الأولياء من الكفار، {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] أي: من دين الله، والمعنى: أنه قد برئ منه وفارق دينه. ثم استثنى فقال: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] يقال: تقيته تقاة وتقى وتقية. وهذا في المؤمن إذا كان في قوم كفار ليس فيهم غيره، وخافهم على نفسه وماله، فله أن يداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه. قال ابن عباس: يعني: مداراة ظاهرة. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] يخوفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه، قال الزجاج: معنى نفسه: إياه، كأنه قال: وحذركم الله إياه. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] أي: إليه يرجع الخلق كلهم بعد الموت. قوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} [آل عمران: 29] يعني: من مودة الكفار وموالاتهم، أو تبدوه أي: تظهروه، يعلمه الله أي: يجازيكم على ذلك، لأنه عالم به، {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 29] إتمام التحذير، لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف عليه الضمير؟ وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29] تحذير من عقاب من لا يعجزه شيء. قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] يريد بيان ما عملت بما ترى من صحائف الحسنات، ويجوز أن يكون المعنى: جزاء ما عملت بما ترى من الثواب، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] قال مقاتل: كما بين المشرق والمغرب. وقال الحسن: يسر أحد أن لا يلقى عمله أبدا. والأمد: الغاية التي ينتهي إليها. {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] قال الحسن: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ولم يهلكهم من غير تحذير.

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {32} } [آل عمران: 31-32] قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: وقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قريش، وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام، فقال: «يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم» . فقالت قريش: إنما نعبد هذه حبا لله، ليقربونا إلى الله. فقال الله: قل يا محمد، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] وتعبدون الأصنام بتقربكم إلى الله، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأنا رسوله إليكم، وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. ومعنى محبة العبد لله: إرادته طاعته، وإيثاره أمره، ورضاه بشرائعه. ومعنى محبة الله للعبد: إرادته لثوابه، وعفوه عنه، وإنعامه عليه. ومعنى الآية: إن كنتم تحبون طاعة الله وتريدون رضاه وثوابه فاتبعوني وأطيعوا أمري يثبكم الله، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . ثم بين أن طاعة الله معلقة بطاعة الرسول، فلا يتم لأحد طاعة الله مع عصيان الرسول، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] قال ابن عباس: يريد محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن طاعتكم له طاعة لي. فإن تولوا أعرضوا عن طاعتك، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] لا يغفر لهم ولا يثني عليهم. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {33} ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {34} إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {35} فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {36} فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {37} } [آل عمران: 33-37] {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] الآية، أي: جعلهم صفوة خلقة، واختارهم بالنبوة والرسالة. وأراد بآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وبآل عمران: موسى وهارون، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء بأسرهم من نسلهم. وقوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] يعني عالمي زمانهم. {ذُرِّيَّةً} [آل عمران: 34] نصب على البدل من الذين اصطفاهم، {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] أي: من ولد بعض، لأن الجميع ذرية آدم ثم ذرية نوح، والله سميع لما تقوله الذرية المصطفاة، عليم بما تضمره، فلذلك فضلها على غيرها. قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35] أي: اذكر يا محمد لقومك هذه القصة، وهي: إذ قالت امرأة عمران، يعني حنة أم مريم جدة عيسى عليه السلام، {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35] معنى {نَذَرْتُ} [آل عمران: 35] : أوجبت، والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه. وقوله: {مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: عتيقا خالصا لله، خادما للكنيسة، مفرغا للعبادة ولخدمة الكنيسة، وكل ما أخلص فهو محرر، يقال: حررت العبد، إذا أعتقته. قال ابن عباس: ولم يكن يحرر في ذلك الوقت إلا الغلمان، فحررت ما في بطنها قبل أن تعلم ما هو، حتى وضعت. فلما وضعتها إذا هي جارية ف {قَالَتْ} [آل عمران: 36] عند ذلك: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] اعتذرت إلى الله حين فعلت ما لا يجوز من تحرير الأنثى للكنيسة، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] هذا من كلام الله، لا من كلام حنة، ولو كان من كلامها لكان: وأنت أعلم بما وضعتُ. لأنها تخاطب الله تعالى. ومن ضم التاء جعل هذا من كلام أم مريم، قالت: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] بعد قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] .

قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} [آل عمران: 36] أي: أمنعها وأجيرها بك، وذريتها يعني عيسى، {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] المطرود المرمي بالشهب. 144 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلا يَسِمُهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَابْنِهَا عِيسَى» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] أي: رضيها، وكان المحرر الذي نذرته حنة، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى، {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] قال ابن الأنباري والزجاج: وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. قال ابن عباس: يريد: في صلاح ومعرفة بالله وطاعة له وخدمة للمسجد. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] أي: ضمنها إلى نفسه، وقام بأمرها، قال الزجاج: ضمن القيام بأمرها، يقال: كفل يكفل كفالة فهو كافل. وهو الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه.

وفي زكريا قرءاتان: القصر والمد، وهما لغتان، كقولهم: الهيجاء والهيجا. وقرأ حمزة وكفلها مشددة، وزكريا على هذه القراءة منصوب لأنه المفعول الثاني للتكفيل، ومعناه: ضمنها الله زكريا فضمنها إليه. وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] لما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها محرابا في المسجد لا يرقى إليه إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره. قال الأصمعي: {الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] : الغرفة. قال عمر بن أبي ربيعة: ربة محراب إذ جئتها ... لم أدن حتى أرتقي سلما أي: ربة بيت. قال ابن عباس: صارت عنده لها غرفة تصعد إليها تصلي فيها الليل والنهار. وقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37] كان زكريا كلما دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، تأتيها بها الملائكة من الجنة. {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] من أين لك هذا؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فقال زكريا: إن الذي رزقك العنب في غير حينه قادر على أن يرزقني من العقيم الولدَ. فدعا زكريا أن يهب الله له ولدا، فذلك قوله: {

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ {38} فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ {39} قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ {40} قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ {41} } [آل عمران: 38-41] هنالك أي: عند ذلك، {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} [آل عمران: 38] أي: من عندك، {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] نسلا مباركا تقيا، {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] قال ابن عباس: يريد: لأوليائك وأهل طاعتك. {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 39] وقرأ حمزة فناداه الملائكة بالتذكير. قال الزجاج: الجماعة يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير، لأنه يقال: جمع الملائكة. وهذا كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] . وقوله: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 39] قرئ بفتح إن وكسرها، فمن فتح كان المعنى: فنادته الملائكة بأن الله، ثم حذف الجار، ومن كسرَ أضمرَ القول كأنه يقول: نادته الملائكة فقالت: إن الله، وإضمار القول في القرآن كثير كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23-24] أي: يقولون سلام عليكم. وقرأ حمزة والكسائي يبشرك مخففا، من البشر بمعنى التبشير، يقال: بشره يبشره بشرا. وقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] قال ابن عباس: يريد: مصدقا بعيسى أنه روح الله وكلمته، وسمي عيسى:

كلمة الله، لأنه حدث عند قوله: كُنْ فوقع عليه اسم الكلمة، لأنه بها كان. وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه. قوله: وسيدا قال الضحاك والربيع: السيد: الحليم. وقال أبو صالح وسعيد بن جبير: السيد: التقي. وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه غضبه. وقال الزجاج: السيد: الذي يفوق في الخير قومه. وقوله: وحصورا وهو الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، قال ابن قتيبة: هو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: مأخوذ محبوس، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه حصر نفسه عن الشهوات. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران: 40] لما بشر زكريا بالولد على كبر سنه استخبر الله تعالى عند ذلك فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران: 40] أي: على أي حال يكون ذلك؟ أتردني إلى حال الشباب وامرأتي، أم مع حال الكبر؟ {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] وهو مصدر، كبر الرجل: إذا أسن. قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة. قوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] أي: ذات عقر لا تلد، قيل له: كذلك أي: مثل ذلك من الأمر، وهو هبة الولد على

الكبر، {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] فسبحان من لا يعجزه شيء. فسأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا على هبة الولد، وهو قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: 41] قال المفسرون: إن زكريا لما بشر بالولد سأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا لله على هبة الولد ف قال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] أي: علامة ذلك أن يمسك لسانك عن الكلام وأنت صحيح سوي، كما قال: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . قال الحسن وقتادة: أمسك لسانه ثلاثة أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء، وجعل ذلك علامة حمل امرأته. والرمز: الإيماء بالشفتين والحاجبين والعينين، يقال: رمز يرمز ويرمز. وإنما حبس لسانه عن التكلم بأمور الدنيا وما يدور بين الناس، ولم يحبس لسانه عن التسبيح وذكر الله، وهو قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] . والعشي: جمع عشية، وهي آخر النهار، والإبكار مصدر أبكر، إذا صار في وقت البكرة، ثم يسمى ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكارا، كما يسمى: إصباحا. {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ {42} يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44} } [آل عمران: 42-44] وقوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} [آل عمران: 42] قال ابن عباس: من ملامسة الرجال. وقيل: من الحيض والنفاس.

{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] قال الأكثرون: معناه: على عالمي زمانها فضلت عليهن. قال الزجاج: وجائز أن تكون على نساء العالمين كلهن، لأنه ليس في النساء امرأة ولدت من غير أب غير مريم، ولأنها قبلت في التحرير للمسجد، ولم يكن التحرير في الإناث، فهي مختارة على النسوان كلهن بما لها من الخصائص. {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43] قال ابن عباس: قومي للصلاة بين يدي ربك. وقال مجاهد: اطلبي القيام في الصلاة. وقال قتادة: أطيعي ربك. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] قدم السجود لفظا وهو مؤخر في المعنى، والواو لا توجب ترتيبا عند النحويين، وقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ولم يقل: مع الراكعات. لأن الراكعين أعم، لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا. قال المفسرون: كلمت الملائكة مريم بهذا شفاهًا، فقامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا. قوله: ذلك يعني ما قص من حديث مريم وزكريا ويحيى، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [آل عمران: 44] أخبار ما غاب عنك وعن قومك، نوحيه إليك نلقيه إليك بإرسال جبريل بها، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] فيه إضمار، والمعنى: أيهم أرفق بكفالتها. قال ابن عباس في رواية عطاء: هؤلاء جماعة كانوا من الأنبياء اختصموا في مريم، كل واحد يقول: أنا أولى بها. فقال زكريا: هي بنت عمي، وخالتها عندي. قالوا: فتعالوا حتى نستهم. فجمعوا سهامهم ثم أتوا بها إلى الماء

وقالوا: اللهم من كان أولى بها فليقم سهمه وليغرق البقية. وألقوا سهامهم فارتز قلم زكريا وانحدرت أقلام الباقين، فقرعهم زكريا. قال قتادة: كانت مريم بنت إمامهم وسيدهم عمران بن ماثان، كانوا أهل بيت صالح من الله بمكان، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا بسهامهم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا، فكفلها زكريا. {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {45} وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ {46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {47} وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ {48} وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {49} وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {50} إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {51} } [آل عمران: 45-51] قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 45] قال ابن عباس: يريد جبريل. {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] يعني عيسى عليه السلام، قال الحسن وقتادة: إنما قيل لعيسى: كلمة الله. لأنه كان بكلمة الله، وهي كن. والمعنى: أنه كان أوجده بالكلمة، وكوَّنه بها من غير توليد من فحل. وقوله اسمه المسيح قال ابن عباس في رواية عطاء والضحاك: إنما سمي عيسى مسيحا لأنه كان لا يمسح

بيده ذا عاهة إلا برئ. وقال إبراهيم النخعي: المسيح: الصديق. وقال أبو عبيدة: هو بالسريانية: مشيحا، فعربته العرب. وقوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران: 45] يعني الوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر، يقال: وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. وقوله: ومن المقربين إلى ثواب الله وكرامته. وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] يعني: صغيرا، والمهد: الموضع الذي مهد لنوم الصبي. ويعني بكلامه في المهد: تبرئته أمه مما قرفت به، حين {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم: 30] الآية، وقوله: وكهلا الكهل: الذي اجتمع قوته وتم شبابه. وقال ابن عباس: يريد أنه يتكلم بكلام النبوة كهلا. ومن الصالحين قال: يريد: مثل موسى وإسرائيل وإسحاق وإبراهيم. قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] تعجبت حين بشرت بولد من غير أب، لخروج ذلك عن العادة، والبشر: الخلق، واحده وجمعه سواء. {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 47] أي: يخلق الله ما يشاء مثل ذلك من الأمر، وهو خلق الولد من غير مسيس. وقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 48] يعني الكتابة، والحكمة العلم، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] . {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49] قال الزجاج: وتجعله رسولا. {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 49] ثم ذكر

تلك الآية فقال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} [آل عمران: 49] أي: أقدر وأصور، والخلق معناه: التقدير في اللغة. {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49] الهيئة: الصورة المهيأة، من قولهم: هيأت الشيء، إذا قدرته. فأنفخ فيه أي: في الطين، {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] وقرأ نافع طائرا على معنى: يكون ما أنفخ فيه طائرا. قال ابن عباس: أخذ طينا فجعل منه خفاشا، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير. وأبرئ الأكمه أي: أجعله بصيرا بعد الكمه، وهو الذي يولد أعمى. والأبرص وهو الذي به وضح، {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] أحيا عازر وكان صديقا له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، ومر عليه بابن عجوز على سرير ميتا فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله، وبقي، وولد له. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] قال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه، وقال قتادة: بما تأكلون من المائدة، وما تدخرون منها. وقوله: ومصدقا أي: وجئتكم مصدقا، {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} [آل عمران: 50] أي: الكتاب الذي أنزل من قبله، {وَلأُحِلَّ

لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] قال المفسرون: أحل لهم على لسان المسيح: لحوم الإبل والثروب، وأشياء من الطير والحيتان مما كان محرما في شريعة موسى. قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 50] قال الزجاج: أي: لم أحل لكم شيئا بغير برهان، فهو حقيق عليكم اتباعي. وإنما وحد الآية وكان قد أتاهم بآيات، لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على الرسالة. وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] أي: طريق من طرق الدين مستو. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {52} رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {53} وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {54} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {55} فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {56} وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58} } [آل عمران: 52-58] قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى} [آل عمران: 52] قال ابن عباس: أحس: علم. وقال مقاتل: رأى. وقال الزجاج: أحس في اللغة: علم ووجد ورأى. وقوله منهم الكفر يريد: القتل، وذلك أنهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله فاستنصر عليهم، و {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] والأنصار: جمع نصير، مثل شريف وأشراف. ومعنى قوله: إلى الله أي: مع الله.

وقوله: قال الحواريون قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير: كانوا صيادين سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال في رواية عطاء: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، اتبعوا عيسى وصدقوه. وقال قتادة والكلبي: الحواريون: خواص عيسى وأصفياؤه. وقال الزجاج: الحذاق باللغة يقولون: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا في التصديق بهم ونصرتهم، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «. . . وحواري الزبير بن العوام» . وقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: أنصار دين الله، {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ} [آل عمران: 52] يا عيسى، {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] . قوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آل عمران: 53] يعني: ما أنزل الله على عيسى وهو الإنجيل، واتبعنا الرسول عيسى عليه السلام، {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق، أي: اثبت أسماءنا مع أسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا به من الدرجة والكرامة. قوله: ومكروا قال ابن عباس: إن عامة بني إسرائيل كفروا بعيسى وهموا بقتله، فذلك مكرهم به، حيث أرادوا أن يقتلوه اغتيالا. وقوله: ومكر الله قال المفسرون: مكر الله بهم بإلقاء شبه عيسى على من دل عليه، فجعله الله في صورة عيسى فأخذ وصلب. وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] أي: أفضل المجازين بالسيئة العقوبة. قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55] أي: قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن تنال اليهود منك شيئا، وهذا قول الحسن والكلبي وابن جريج.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: هذا مقدم ومؤخر، يريد: إني رافعك إلي ومتوفيك بعد أن أهبطك إلى الأرض حتى تكون فيها وتتزوج ويولد لك حتى تموت. وهذا اختيار الفراء، قال: يقال: إن هذا مقدم ومؤخر، والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقوله: ورافعك إلي أي: إلى سمائي ومحل كرامتي، فجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] أي: مخرجك من بينهم، لأن كونه في جملتهم التنجيس له بهم. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] قال قتادة والربيع والكلبي ومقاتل: هم أهل الإسلام من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتبعوا دين المسيح وصدقوه بأنه رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه، فوالله ما اتبعه من دعاه ربا. ومعنى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] بالبرهان والحجة، ومحتمل بالعز والغلبة. ثم رجع عن الغيبة إلى الخطاب فقال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55] من الدين وأمر عيسى. ثم بين ذلك الحكم فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} [آل عمران: 56] يعني: بالقتل وسبي الذراري وأخذ الجزية، والآخرة وفي الآخرة بالنار، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 56] ما لهم من يمنعهم من عذاب الله. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 57] بمحمد وعيسى، {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] يتم لهم جزاءهم من الثواب، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57] لا يرحمهم، ولا يثني عليهم، وهم الذين لا يطيعون الله فيما أمرهم به من الإيمان بالرسل والكتب. وقوله: ذلك إشارة إلى ما تقدم من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين، نتلوه عليك قال ابن عباس: نخبرك به بتلاوة جبريل عليك، وتلاوته بأمر الله، ومثله قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف: 3] . وقوله: من الآيات أي: العلامات الدالة على نبوتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب، أو من يوحى إليه، وأنت أمي لا تقرأ. وقوله: {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] يعني: القرآن الحكيم، أي: المانع من الفساد وكل ما يقبح، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم، أي: الممنوع من الباطل.

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {59} الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ {61} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {62} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ {63} } [آل عمران: 59-63] قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآية: 145 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَاهِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الإِسْلامَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، فَقَالَ: كَذَبْتُمَا، إِنَّهُ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإِسْلامِ ثَلاثَةٌ: عِبَادَتُكُمُ الصَّلِيبِ، وَأَكْلُكُمُ الْخِنْزِيرِ، وَقَوْلُكُمْ: للَّهِ وَلَدٌ، قَالا: مَنْ أَبُو عِيسَى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآيَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِيَاسَ خَلْقِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ كَقِيَاسِ خَلْقِ آدَمَ. وَمَعْنَى {عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] : أَيْ: فِي الْخَلْقِ وَالإِنْشَاءِ ثم ذكر خلق آدم فقال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] يعني: قالبا من تراب لا روح فيه، {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: 59] بشرا، {فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] بمعنى: فكان، وهذا مما أريد بمثال المستقبل فيه الماضي، كقوله: {تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] . وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [آل عمران: 60] قال الفراء والزجاج: الحق: مرفوع بخبر ابتداء محذوف، على تقدير: الذي أنبأتك به من قصة عيسى الحق، فحذف لتقدم ذكره. وقال أبو عبيدة: هو ابتداء وخبره من ربك كما تقول: الحق من ربك والباطل من الشيطان. وقوله: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به: نهي غيره عن الشك، كما قال: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ،

والامتراء: الشك، والممتري: الشاك، يقال للشك: المرية. وقوله: فمن حاجك أي: جادلك وخاصمك، فيه في عيسى، فقل تعالوا أي: ائتوا وهلموا، {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] قال المفسرون: لما احتج الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} [آل عمران: 59] الآية، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم من طريق الإعجاز، وهو المباهلة. ومعنى المباهلة: الدعاء على الظالم من الفريقين. فلما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد نجران إلى المباهلة، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: «إذا دعوت فأمنوا» . فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن ينزل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قبلوا الجزية وانصرفوا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا» . 146 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ

الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] دعا رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَقَالَ: «هَؤُلاءِ أَهْلِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قُتَيْبَةَ وأراد بالأنفس: بني العم، والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس، وقد تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أراد: إخوانكم من المؤمنين. وقيل: ثم نبتهل الابتهال في اللغة على معنيين، أحدهما: التضرع إلى الله، والثاني: الالتعان والدعاء بالبهلة وهي اللعنة، يقال: عليه بهلة الله. أي: لعنته. وكلا القولين مروي عن ابن عباس، قال، في رواية الكلبي، في قوله: نبتهل: أي: نجتهد في الدعاء. وقال في رواية عطاء: ندع الله باللعنة على الكاذبين. وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] أي: هذا الذي أوحيناه إليك من الآيات والحجج، والقصص: مصدر، من قولك: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا.

{الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] القرآن الصادق فيما أخبر به، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 62] نفي لجميع ما ادعى المشركون أنهم آلهة، أي أن عيسى ليس بإله كما زعموا. قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62] أي: لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 63] أي: فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإن الله يعلم من يفسد خلقه، فيجازيه على ذلك. {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {65} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {66} مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {67} إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ {68} } [آل عمران: 64-68] قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] يعني اليهود والنصارى، {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] يريد بالسواء: العدل، وكذلك في قراءة عبد الله إلى كلمة عدل، والمعنى: إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية، إذا أتيناها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة. ثم فسر الكلمة فقال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] لا نعبد معه غيره، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] قال ابن عباس: يريد: كما اتخذت النصارى عيسى ربا، واتخذت بنو إسرائيل عزيرا. وقال الزجاج: أي: نرجع إلى أن معبودنا الله عز وجل وأن عيسى بشر كما أننا بشر، فلا نتخذه ربا.

فإن تولوا أعرضوا عن الإجابة، فخالفوهم أنتم إنكارا عليهم، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] أي: مقرون بالتوحيد، منقادون لما أتتنا به الأنبياء. قوله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] قال ابن عباس والسدي وقتادة: اجتمعت اليهود ونصارى نجران عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا. وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا. فنزلت هذه الآية. وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] يريد: أن اليهودية حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وإنما أنزل الكتابان بعد مهلك إبراهيم بزمن طويل، وليس فيهما اسمه بواحد من دين اليهود والنصارى. واختلفوا في اشتقاق التوراة ووزنها من الفعل، فقال الفراء: هي في الأصل تورية، على وزن تفعلة، فصارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الخليل: وزنها فوعلة، وأصلها: وورية، ولكن الواو الأولى قلبت تاء كما قالوا: تولج، وهو فوعل ولجت، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت تورية، وكتبت بالياء على أصل الكلمة. وأما اشتقاقها: فحكى ابن الأنباري عن الفراء، قال: التوراة معناها: الضياء والنور، من قول العرب: وري الزند يرى ويورى، إذا أظهر النار. فالتوراة سميت لظهور الحق بها.

وقال المؤرج: هو من التورية وهو التعريض بالشيء، وكان أكثر التوراة معاريض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح. وأما الإنجيل فقال الزجاج: هو إفعيل من النجل وهو الأصل. وقال ابن الأنباري: إنجيل: أصل للقوم الذين نزل عليهم، لأنهم يعملون بما فيه. وقال قوم: الإنجيل مأخوذ من قول العرب: نجلت الشيء، إذا استخرجته وأظهرته. يقال للماء الذي يخرج من النز: نجل واستنجل الوادي، إذا أخرج الماء. فسمي كتاب عيسى إنجيلا لأن الله تعالى أظهره للناس بعد طموس الحق ودروسه. وقال جماعة: التوراة والإنجيل والزبور: أسماء عربت من السريانية والعبرية، وليس يطرد فيها قياس الأسماء العربية، ألا تراهم يقولون لها بالسريانية: توري إنكليون زفوتا؟ وقوله: أفلا تعقلون أي: فساد هذه الدعوى، إذ العقل يزجر عن الإقامة على دعوى بغير حجة. قوله: هأنتم ها: حرف للتنبيه، كأنه قيل: انتبهوا عن غفلتكم. هؤلاء أي: يا هؤلاء، جادلتم وخاصمتم، {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] وهو ما وجدوه في كتابهم وأنزل عليهم بيانه وقصته، {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] أي: لم تجادلون في شأن إبراهيم، وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم شأن إبراهيم، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] . ثم بين حال إبراهيم فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران: 67] برأه الله تعالى ونزهه عن الدينين، ووصفه بدين الإسلام فقال: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] الآية، وذكرنا معنى الحنيف فيما تقدم. قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 68] أي: أقرب الناس إليه وأحقهم به، للذين اتبعوه على دينه وملته، وهذا النبي يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذين آمنوا يعني المهاجرين والأنصار والتابعين ممن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال الزجاج: أي: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنا على دين إبراهيم. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] أي: ناصرهم ومعينهم. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {69} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ {70} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {71} وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {72} وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {73} يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {74} } [آل عمران: 69-74] قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 69] أي: تمنت جماعة من اليهود والنصارى، قال ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أرادوا أن يستزلوا المسلمين عن دينهم ويردوهم إلى الكفر، وهو قوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 69] لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم وما يدعونهم إليه، فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين، وما يشعرون وما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. قوله: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 70] يعني اليهود، {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 70] بالقرآن، {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] بما يدل على صحة القرآن من كتابكم، لأن فيه نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره. قوله {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71] تقدم تفسيره عند قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] . قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 72] الآية، إن أحبار اليهود قالوا لمن دونهم: ائتوا محمدا وأصحابه أول النهار فقولوا: إنا على دينكم. فإذا كان آخر النهار فقولوا: إنا كفرنا بدينكم، ونحن على ديننا الأول. فإنه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينهم ويشكوا فيه إذا قلتم: نظرنا في كتبنا فوجدنا محمدا ليس بذلك الذي وعدنا به.

وهو قوله: آمنوا أي: أظهروا الإيمان، {بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 72] يعني: القرآن المنزل على المؤمنين، وجه النهار أول النهار، {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] أي: اكفروا به آخر النهار، لعلهم يرجعون عن دينهم إلى دينكم. وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض، والمعنى: لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية وقام بشرائعكم. وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73] كلام معترض بين المفعول وفعله، وهو من كلام الله لا من كلام اليهود، ومعناه: إن الدين دين الله، كقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] . {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} [آل عمران: 73] من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى والفضائل والكرامات. أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، {إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] قوله: أو يحاجوكم عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} [آل عمران: 73] ، المعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجوكم، عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم، فلا يكون لهم عليكم الحجة عند الله، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [آل عمران: 73] قال ابن عباس: يريد: ما تفضل به عليك وعلى أمتك، {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 73] يعني: هذه الأمة. وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] قال الحسن ومجاهد والربيع: بنبوته. وقال ابن عباس: بدينه. وقال ابن جريج: بالقرآن والإسلام. قال عطاء: يريد: اختصك وتفضل عليك وعلى أمتك بدينه ورحمته. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ} [آل عمران: 74] على أوليائه وأهل طاعته، العظيم لأنه لا شيء أعظم عند الله من الإسلام.

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {76} إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {77} } [آل عمران: 75-77] قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} [آل عمران: 75] الآية، قال المفسرون: أخبرنا الله تعالى في هذه الآية عن اختلاف أحوال أهل الكتاب في الأمانة والخيانة، ليكون المؤمنون على بصيرة في ترك الركون إليهم، لاستحلالهم أموال المسلمين. وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه، فمدحه الله تعالى، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه، وذلك قوله: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] يعني عبد الله بن سلام، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] يعني فنحاص. وقوله: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي: بالإلحاح والخصومة في التقاضي والمطالبة، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد. قال القتيبي: وأصله أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرف، والتارك له يقعد عنه، ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر: قام به. وإن لم يكنْ ثَمَّ قيامٌ.

وقال السدي: يعني: إلا ما دمت قائما على رأسه بالاجتماع معه والملازمة والمطالبة له، فإن أنظرته وأخرته أنكر وذهب به. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] أي: ذلك الاستحلال والخيانة بأنهم يقولون: ليس عندنا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. لأنهم مشركون. والمراد ب الأميين ههنا: العرب. ثم كذبهم الله تعالى فيما قالوا، فقال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [آل عمران: 75] لأنه ليس في كتابهم استحلال الأمانة، وهم يعلمون أنهم كاذبون، يعني: لم يقولوا ذلك عن جهالة فيعذروا. قوله: بلى رد لقولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] أي: بلى يكون عليهم سبيل في ذلك. وقوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} [آل عمران: 76] أي: بما عاهد الله إليه في التوراة، وآمن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن وأداء الأمانة، واتقى الكفر والخيانة ونقض العهد، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] يعني: من كانت هذه صفته. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77] الآية، نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضيعة، فهمَّ المدعى عليه أن يحلف فنزلت الآية، فنكل المدعى عليه عن اليمين، وآثر للمدعي حقه. 147 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأبِيوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فقال الأشعث: في والله ذاك، وكان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألك بينة؟» قلت: لا، فقال لليهودي: احلف، فقلت يا رسول اللَّه: إذن يحلف فيذهب

بمالي، فأنزل اللَّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية رواه البخاري عن عبدان عن أَبِي حمزة، ورواه مسلم عن ابن نمير أَبِي معاوية، كلاهما عن الأعمش. ومعنى يشترون: يستبدلون ويأخذون، بعهد الله أي: بما عهد الله إليهم من أداء الأمانة، وأيمانهم الكاذبة، ثمنا قليلا عرضا يسيرا من الدنيا وهو ما يحلفون عليه كاذبين، {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} [آل عمران: 77] لا نصيب لهم من الخير، {فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 77] أي: بكلام يسرهم، {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] نظرا يسرهم، يعني نظر الرحمة، {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77] لا يزيدهم خيرا، ولا يثني عليهم. 148 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ

عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ 149 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ، قَالَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ: مَا أَشَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ

150 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنِ ابْنِ زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] قوله: وإن منهم يعني: من اليهود، لفريقا جماعة، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران: 78] قال مجاهد والربيع وقتادة: يحرفونه بالتغيير والتبديل، وذلك أنهم يلوون ألسنتهم عن سنن الصواب بما يأتون به من عند أنفسهم. وقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] أي: لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به مما حرفوه وبدلوه من الكتاب، قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] .

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {80} } [آل عمران: 79-80] قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن اليهود والنصارى احتجوا بأنهم أولى بإبراهيم وبدينه، فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلا الفريقين منه ومن دينه بريء» . فغضبوا وقالوا: يا محمد، والله ما تريد إلا أن نتخذك ربا. فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال قتادة: يقول: ما ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم، يعني الفقه والعلم، والنبوة ثم يأمر عباد الله أن يتخذوه ربا من دون الله. والمعنى: ما كان لبشر أن يجمع بين هذين، بين النبوة وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله، وهو قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] . ولكن كونوا أي: ولكن يقول: كونوا ربانيين قال ابن عباس: معلمين. وقال قتادة وسعيد بن جبير: فقهاء علماء حكماء. قال سيبويه: زادوا ألفا ونونا في الرباني، إذا أرادوا تخصيصا بعلم الرب كما قالوا: شعراني ولحياني. فالرباني على هذا القول: منسوب إلى الرب، على معنى التخصيص بعلم الرب، أي: يعلم الشريعة وصفات الرب. وقال المبرد: الرباني: الذي يرب العلم ويرب الناس، أي: يعلمهم ويصلحهم. وعلى هذا القول: الرباني: من الرب الذي هو بمعنى التربية.

وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] أي: بكونكم عالمين بالكتاب، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] وبما كنتم دارسين للكتاب. قال الزجاج: كونوا معلمي الناس بعلمكم ودرسكم، علموا الناس وبينوا لهم. ومن قرأ تعلمون بالتشديد فالمعنى: بكونكم معلمين، أي: علموا الناس الكتاب وبينوا لهم صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما فيه من الحق والصواب، حتى تستحقوا هذه الصفة وتكونوا معلمين. ومعنى تدرسون: تقرءون، ومنه قوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169] . وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران: 80] من قرأ بالرفع قطعه مما قبله. قال ابن جريج: ولا يأمركم محمد. ومن نصب كان المعنى: ما كان لبشر أن يأمركم، فيكون نصبا بالنسق على قوله: أن يؤتيه قال الزجاج: معنى الآية: ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين، لأن الذين قالوا: إن عيسى إله. عبدوه واتخذوه ربا، وقال قوم من الكفار: إن الملائكة أربابنا. يقال لهم: الصابئون. وقوله: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} [آل عمران: 80] استفهام معناه الإنكار، أي: لا يفعل ذلك، {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] أي: بعد إسلامكم. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ

الشَّاهِدِينَ {81} فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} } [آل عمران: 81-83] قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية، قال قتادة: هذا ميثاق قد أخذه الله من النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده، فبلغت الأنبياء وأخذوا مواثيق أهل الكتاب في كتابهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويصدقوه وينصروه، وذلك قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] ما ههنا: بمعنى الشرط والجزاء، والمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم من كتاب وحكمة. وقرأ حمزة لما بكسر اللام، وهي متعلقة بالأخذ، لأن المعنى: أخذ الله ميثاقهم لما أوتوا من الكتاب والحكمة، أي: لأنهم الأفاضل وأصحاب الكتب والشرائع. وقرأ نافع آتيناكم بالمد، وحجته: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] ، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات: 117] . وقوله: ثم جاءكم يعني: ثم جاء أممكم وأتباعكم، وخرج الكلام على النبيين لأن ما لزمهم لزم أممهم. وقوله: {رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جاء بالقرآن بصدق التوراة في الأخبار والأقاصيص. قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] يريد: إن أدركتموه، قال أأقررتم أي: قال الله للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصرة له؟ {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: قبلتم، {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا} [آل عمران: 81] أي: قال الله للنبيين: اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم. {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] عليكم وعليهم. قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} [آل عمران: 82] قال ابن عباس: فمن أعرض عما جئت به، وأنكر ما عاهد الله عليه. وقال الزجاج: فمن أعرض عن الإيمان بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] أي: الخارجون عن العهد والإيمان.

قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] أي: أبعد أخذ الميثاق عليهم بالإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون دينا غير دين الله وهو ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! ومن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب، كقوله: أأقررتم وأخذتم والياء: على الأخبار عنهم، وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] قال ابن عباس في رواية مجاهد: يعني: عند أخذ الميثاق وهو قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وقال قتادة: أما المؤمن فأسلم طوعا فنفعه، وأما الكافر فأسلم كارها في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بأهل السموات والأرض: الملائكة، والمهاجرين والأنصار، وعبد القيس طوعا، وسائر الناس أسلموا كرها، خوفا من السيف. وقوله: وإليه ترجعون وعيد لمن أعرض عن دين الله، والمعنى: أيبغون غير دين الله مع أن مرجعهم إليه فيجازيهم على تركهم دينه؟ ! {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} } [آل عمران: 84-85] قوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [آل عمران: 84] الآية، في هذه الآية إنكار على الكفار من اليهود والنصارى فيما ذهبوا إليه من الإيمان ببعض النبيين دون بعض، وأمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته أن يقولوا: آمنا بالله وبجميع الرسل وما أنزل عليهم، لا نفرق بين جميعهم في الإيمان بهم كما فعلت اليهود والنصارى. قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران: 85] إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] قال ابن عباس: يريد: خسر ثواب الله

وصار إلى عذابه، وخسر الحور العين. وقال الزجاج: يعني: خسر عمله، حيث لم يجاز به الجنة والثواب. {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {86} أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {87} خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {88} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {89} } [آل عمران: 86-89] قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] قال ابن عباس: يعني اليهود وقريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن كانوا قبل مبعثه مؤمنين به، وكانوا يشهدون له بالنبوة، فلما بعث وجاءهم بالآيات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا. ومعنى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} [آل عمران: 86] أي: لا يهديهم الله، كما قال ابن الرقيات: كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء أي: لا نوم لي ولا أنام، ومثله قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد. قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه لا جهة لهدايتهم، لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم، لأنهم قد كفروا بعد البينات. وقوله: وجاءهم البينات يجوز أن يريد ما بين لهم في التوراة والإنجيل، وهو قول ابن عباس. ويجوز أن يريد: ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكتاب والآيات والمعجزات. وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86] قال ابن عباس: لا يرشد من نقض عهود الله وظلم نفسه.

وقوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 89] قال ابن عباس: راجعوا الإيمان بالله والتصديق بنبيه. وأصلحوا أعمالهم، وقال الزجاج: معنى أصلحوا: أظهروا للناس أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ومن تغريرهم من تبعهم ممن لا علم عنده. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89] أعلم الله تعالى أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفر لمن اجترأ عليه هذا الاجتراء، وذلك أن الذي فعلوا لا غاية وراءه في الكفر، وهو أنهم كفروا بعد تبين الحق لهم. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ {90} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {91} } [آل عمران: 90-91] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعثه. {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] بالإقامة على كفرهم حتى هلكوا عليه. وقال قتادة: إن اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] بكفرهم بمحمد والقرآن. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90] . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا} [آل عمران: 91] ملء الشيء: قدر ما يملأه، يقال: ملء القدح. وانتصب ذهبا على التفسير. قال الزجاج: المعنى: لو قدم ملء الأرض ذهبا يتقرب به إلى الله ما ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه. 151 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرٍ

الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالا: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] قوله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] قال عطاء ومقاتل: البر: التقوى في هذه الآية، وقال أبو

روق: الخير. وقال مسروق وعمرو بن ميمون: {الْبِرَّ} [آل عمران: 92] : الجنة. وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قال الضحاك: يعني الزكاة، يقول: حتى تخرجوا زكاة أموالكم. وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله ويبتغي به وجه الله فإنه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] حتى الثمرة. 152 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَيْرَحَا للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ» ، فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزٍ، عَنْ حَمَّادٍ 153 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]

قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولا، وَيَوْمَ جَلُولا فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَأَعْتَقَهَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {93} فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {94} قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {95} إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ {96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {97} } [آل عمران: 93-97] قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] الآية، قال المفسرون: لما ادعى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه على ملة إبراهيم عليه السلام قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ ! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله» . فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على إبراهيم ونوح. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وهو يعقوب، وذلك أنه مرض مرضا، فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحبَّها إليه لُحْمَانُ الإبل وألبانُها، فحرمها الله على ولده، وكان هذا قبل نزول التوراة، وذلك قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93] لتعرفوا أن هذا التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن في زمن إبراهيم ولا نوح، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فيما تدعون.

فلما ثبتت عليهم الحجة بكتابهم قال الله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 94] من بعد ظهور الحجة بأن التحريم كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 94] أنفسهم. قوله: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران: 95] فيما أخبر، {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] وملة محمد عليه السلام داخلة في ملته، فمن اتبع ملة إبراهيم فقد اتبع ملة محمد عليه السلام. قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، روى عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن أول لمعة وضعت على الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض، وإن أول جبل وضعه الله على هذه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال» . وهذا قول مجاهد، قال: خلق الله هذا البيت قبل أن يُخلق شيء من الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: هو أول بيت بناه آدم في الأرض. وقال علي رضي الله عنه: هو أول بيت مبارك وهدى وضع للناس. 154 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْفَسَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الأَرْضِ أَوَّلا؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَصَلِّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ 155 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: حَدِّثْنِي عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ فِي الأَرْضِ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالْهُدَى وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وقوله: للذي ببكة بكة: هي مكة، فأبدلت الميم باء كقولهم: سمد رأسه وسبده، وضربة لازم ولازب. وقال أبو مالك وإبراهيم: بكة: موضع البيت، ومكة: القرية. وقوله: مباركا أي: كثير الخير، بأن جعل فيه وعنده البركة، وهدى قال الزجاج: المعنى: وذا هدى. قال: ويجوز أن يكون على معنى: وهو هدى. ومعنى كونه هدى للعالمين: أنه قبلة صلاتهم.

وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] قال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة. وقال المفسرون: الآيات التي فيها: أمن الخائف، وامتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمه، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخراجه. وقال زيد بن أسلم: الآيات البينات: مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا. وهذا اختيار الزجاج، لأنه قال: ومن الآيات أيضا: أمن من دخله. وقال: معنى أمن من دخله: أن إبراهيم سأل الله عز وجل أن يؤمن سكان مكة وقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] ، فجعل الله عز وجل أمن مكة آية لإبراهيم، فلم يطمع في أهلها جبار، وكان فيما عطف الله تعالى من قلوب العرب في الجاهلية على من لاذ بالحرم حتى يؤمنوه آية بينة. يدل على هذا قول قتادة في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قال: كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم إن سرق فيه أحد قطع، ولو قتل فيه قتل. وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقرئ حج البيت بالكسر، والمفتوح مصدر، وهو لغة أهل الحجاز، والمكسور: اسم للعمل، قال سيبويه: ويجوز أن يكون مصدرا كالعلم والذكر. قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قال الزجاج: موضع من خفض على البدل من الناس، والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت.

وجمهور أهل العلم على أن معنى الاستطاعة الموجبة للحج: القوة، فمن قوي في نفسه بالكون على الراحلة وجب عليه الحج إذا ملك الزاد والراحلة. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد، ومذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. 156 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدَانُ الأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَتَكْفُرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ 157 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبُ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَعَدْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: مَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ "

158 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، لَمْ يَفِدْ إِلَيَّ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ عَامًا لَمَحْرُومٌ " 159 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يُوصِ بِحَجٍّ، وَلَمْ يُحَجَّ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَلٌ» أخبرنا أبو حسان المزكي، أخبرنا هارون بن محمد الاستراباذي، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو الوليد الأزرقي، أخبرنا جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني ابن جريج، قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة. وقال المسلمون: الكعبة أعظم. فبلغ ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس. وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] قال ابن عباس والحسن وعطاء: جحد فرض الحج، وزعم أنه ليس بواجب عليه. وهذا قول جماعة من المفسرين. قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» . فآمن به المسلمون وكفر الباقون، فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .

{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ {98} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {99} } [آل عمران: 98-99] قوله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 98] هذا استفهام معناه التوبيخ، والمراد بالآيات: ما أنزل الله على محمد عليه السلام وما أوتي من المعجزات والعلامات التي تدل على صدقه. وقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] قال ابن عباس: يريد أنه حاضر لأعمالكم. ومعنى الآية: أن الله تعالى وبخهم على كفرهم، وأخبر أنه لا ينفعهم الاستمرار به، لأنه شهيد على أعمالهم. قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99] يعني: بتكذيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن صفته ليست في كتابهم، ولا تقدمت البشارة عندهم. وقوله: تبغونها عوجا أي: تطلبون لسبيل الله الزيغ والتحريف بالشبه التي تلبسون بها على الناس، وأنتم شهداء بما في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {101} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} } [آل عمران: 100-103] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 100] يعني الأوس والخزرج، {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100] الآية. قال عكرمة: كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اصطلحوا

وألف الله بين قلوبهم، فجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فدخلهم من ذلك شيء، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] ، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قام بين الصفين فقرأهن، ورفع صوته، فلما سمعوا صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنصتوا له، وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، وجثوا يبكون. قوله: وكيف تكفرون الآية، قال الزجاج: أي: على أي حال يقع منكم الكفر، وآيات الله التي تدل على توحيده، ونبوة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهركم؟ ! {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران: 101] يتمسك بحبل الله ويمتنع به، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] يعني الإسلام. قوله {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال ابن مسعود: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقال الكلبي، عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين مشقة شديدة ولم يطيقوا ذلك. وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، فلم يطق ذلك العباد، فأنزل الله على نبيه عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] يقول: ما أطقتم. فلم يكلف العباد من طاعته وعبادته إلا ما استطاعوا، فنسخت هذه الآية ما قبلها.

وقال قتادة: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ثم أنزل الله التخفيف واليسر بعد ذلك فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . 160 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبِرْتِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَوْصِنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ وَذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَاخْزَنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] مفسر في { [البقرة. قوله عز وجل:] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [سورة آل عمران: 103] قال عبد الله: حبل الله: الجماعة. وقال الضحاك وقتادة والسدي: حبل الله: القرآن. وقال أبو عبيدة: الاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن، لأن المؤمن إذا اتبع القرآن أمن من العذاب.

وروى معمر، عن قتادة في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] قال: بعهد الله وبأمره. قال ابن الأنباري: سمي عهد الله حبلا لأنه سبب النجاة، كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر ونحوها. وقوله: ولا تفرقوا قال ابن عباس: أي: كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله. وقال الزجاج: أي: تناصروا على دين الله ولا تفرقوا. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103] بدين الإسلام، {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران: 103] يعني ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب التي تطاولت عشرين ومائة سنة، إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخوانا في الإسلام متوادين، وذلك قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] أي: برحمته، يعني الإسلام، إخوانا. قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} [آل عمران: 103] شفا الشيء: حرفه، مثل: شفا البئر، والجمع: الأشفاء. قال ابن عباس: يريد: لو متم على ما كنتم عليه في الجاهلية لكنتم من أهل النار. فأنقذكم منها أي: خلصكم ونجاكم بدينه الإسلام ومحمد عليه السلام، يقال: أنقذته وتنقذته. أي: خلصته، وقوله: كذلك أي: كالبيان الذي ذكر، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] لكي تهتدوا. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {107} } [آل عمران: 104-107] قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] الخطاب للمؤمنين في هذه الآية، أي: كونوا أمة، {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] قال

مقاتل: إلى الإسلام. ويأمرون بالمعروف يقولون بطاعة الله، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] عن معصية الله، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] يعني الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. 161 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الدَّلالُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ شَيْءٌ، فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ، وَمَا كَلَّمَ أَحَدًا، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي فَلا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلا أُعْطِيكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلا أَنْصُرُكُمْ " وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 105] يعني اليهود والنصارى، تفرقوا بالعداوة والمخالفة، {وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] يعني: صاروا فرقا مختلفين وكتابهم واحد. قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قال ابن عباس، في رواية عطاء: تبيض وجوه المهاجرين وتسود وجوه قريظة والنضير الذين كذبوا بمحمد عليه السلام. وقال في رواية سعيد بن جبير: تبيض وجوه أهل السنة

وتسود وجوه أهل البدعة. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] فقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] قال ابن عباس: هم اليهود، شهدوا لمحمد عليه السلام بالنبوة، فلما قدم عليهم كذبوه وكفروا به. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم. 162 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مَأْمُونُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَأْمُونٍ السَّرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ الْهِسِنْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ " {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ {108} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {109} } [آل عمران: 108-109] قوله: تلك آيات قال ابن عباس: يعني القرآن. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} [آل عمران: 108] نعرفك إياها ونبينها، بالحق بأنها حق، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] فيعاقبهم بلا جرم، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه يعذب من يعذبه باستحقاقه.

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ {111} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {112} } [آل عمران: 110-112] قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] قال الفراء والزجاج: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ. قالا: ويجوز أن يكون معنى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] : أنتم خير أمة، كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وقال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] . قال ابن عباس: يريد أمة محمد عليه السلام. وقال الزجاج: أصل هذا الخطاب لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعم سائر أمته. وقوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال أبو هريرة: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في دين الإسلام. وقال عكرمة ومجاهد: خير الناس، لأنه لم يؤمر أحد بالقتال غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنتم تسبون الروم وفارس تدخلونهم في دينكم. 163 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجُورِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا

شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتُمْ وَفَيَّتْمُ سَبْعِينَ أُمَّةً، وَأَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» 164 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْ أُمَّتِي، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ»

165 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أُمَّتِي مَرْحُومَةٌ، لا حِسَابَ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ وَلا عَذَابَ» وذكر عيسى ابن مريم أمة محمد عليه السلام، فقال: أخف الناس أحلاما وأثقلهم ميزانا، فأما خفة أحلامهم: فلعنهم البهائم، وأما ثقل موازينهم: فذلة ألسنتهم بكلمة ثقلت على من كان قبلهم: لا إله إلا الله.

ثم مدحهم بما فيهم من الخصال الحميدة، وأخبر بها عنهم، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] . قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111] أي: ضررا يسيرا باللسان، مثل الوعيد والبهت، {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] أي: ينهزمون، فيجعلون مآخيرهم مما يليكم. وهذا وعد من الله تعالى لنبيه والمؤمنين بالنصرة على أهل الكتاب وهزيمتهم عند القتال، فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين إلا ولوا منهزمين. قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] فسرناه في { [البقرة. ] أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [سورة آل عمران: 112] صودفوا ووجدوا، {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] أي: بعهد من الله وعهد من المؤمنين، يعني الذمة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله، فيحقن دماءهم، ويمنع فروجهم وأموالهم عن الاغتنام والسبي، وباقي الآية تقدم تفسيره في { [البقرة. ] لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113} يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ {114} وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {115} } [سورة آل عمران: 113-115] قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] أخبر الله تعالى أن أهل الكتاب غير متساوين، ثم أخبر بافترائهم فقال: {مِنْ

أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] قال ابن عباس: أي: على الحق وعلى أمر الله، لم يتركوه كما تركه الآخرون. وقال السدي: قائمة بطاعة الله. {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] يقرءون كتاب الله، {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] ساعاته، الواحد إنى، مقصور، وإني مثل نحي. أراد مؤمني أهل الكتاب، وهم يسجدون أي: يصلون. وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 114] قال ابن عباس: بتوحيد الله. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 114] عن الشرك بالله. وقال الزجاج: يأمرون باتباع النبي عليه السلام وينهون عن الإقامة على مشاقته. {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: 114] يبادرونها خوف الفوت بالموت، ويجوز أن يكون المعنى: يعملونها غير متثاقلين فيها. {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] لن يعدموا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه، ومن قرأ بالياء فهو كناية وإخبار عن الأمة القائمة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {116} مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {117} } [آل عمران: 116-117] قوله: إن الذين كفروا يعني اليهود، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [آل عمران: 116] لن تدفع عنهم الضرر إذا نزل بهم، {أَمْوَالُهُمْ وَلا

أَوْلادُهُمْ} [آل عمران: 116] المعنى: لن تغني عنهم أموالهم في الصدقات ولا أولادهم في الشافاعات، بخلاف المؤمن، فإن المؤمن ينفعه ماله في الكفارات والصدقات، وأولاده في الشفاعة. ثم ذكر بطلان نفقاتهم فقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 117] قال مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وقال مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم. وقوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] الصر: البرد الشديد. قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح على هذا الزرع، وهو قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] بالكفر والمعصية، {فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 117] لأن كل ما فعله بخلقه فهو منه عدل، {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] بالكفر والعصيان. والمعنى: أن هؤلاء رجوا فائدة نفقاتهم، فعادت عليهم بالمضرة، كما رجا أصحاب الزرع عائدة زروعهم فضرتها الريح، فأهلكتها. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ {118} هَأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {119} إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {120} } [آل عمران: 118-120] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] نزلت في النهي عن مداخلة اليهود

والمنافقين، وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن. وقوله: من دونكم أي: من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم. وقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] يقال: ألا يألو، إذا فتر وضعف وقصر. والألو: التقصير، والخبال: الفساد والشر. والمعنى: لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادتكم. قال الزجاج: أي: لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم. وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ما ههنا: ما المصدر، والمعنى: ودوا عنتكم، وهو دخول المشقة على الإنسان ووقوعه فيما لا يستطيع الخروج منه، قال السدي: تمنوا ضلالكم عن دينكم. وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118] قد ظهرت عداوتهم بالشتيمة والوقيعة في المسلمين وإطلاع المشركين على أسرارهم، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} [آل عمران: 118] من العداوة والخيانة، أكبر أعظم مما أظهروا، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118] قال السدي: قد بينا آياتهم لتعرفوهم بها. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] موقع نفع البيان. {هَأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119] قال الزجاج: ها: تنبيه دخل على أنتم، وأولاء في معنى: الذين، كأنه قيل: هأنتم الذين تحبونهم، ولا يحبونكم أي: تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء، وهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] قال ابن عباس: يريد: بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على عيسى والذي أنزل على موسى. وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119] أي: عضوا الأنامل من الغيظ عليكم، ففيه تقديم وتأخير. والغيظ: الإغضاب، يقال: غاظه. أي: أغضبه. والأنامل: أطراف الأصابع، الواحدة: أنملة، وعض الأصابع واليد من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر

على أن يتداركه، أو يرى شيئا يكرهه ولا يقدر أن يغيره. قال المفسرون: وإنما ذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، وقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] أمر الله نبيه أن يدعو عليهم بهذا، وهو أن يدوم غيظهم إلى أن يموتوا، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] بما فيها من خير وشر. وقال ابن الأنباري: معناه: ما تخفيه القلوب من المضمرات. قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] أي: إن نالكم نصر وغنيمة وخصب تسؤهم وتحزنهم، يقال: ساءه كذا، إذا أحزنه. يسوءه مساءة. {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} [آل عمران: 120] أي: نالكم ضد ذلك، {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 120] على ما تسمعون من أذاهم، وتتقوا مقاربتهم في دينهم، والمحبة لهم، {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] ضمن الله للمؤمنين النصر إن صبروا، وأعلمهم أن عداوتهم وكيدهم غير ضار لهم، وقرئ لا يضركم من ضاره إذا أضره. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] أي: عالم به، لا يخفى عليه شيء من ذلك. قال قتادة في هذه الآية: إذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهروا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا فرقة واختلافا، أو أصيب المسلمون سرهم وأعجبوا به. {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {121} إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ

أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {122} وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {123} إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ {124} بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ {125} وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {126} لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ {127} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ {128} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {129} } [آل عمران: 121-129] قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] الآية، قال المفسرون: هذا كان يوم أحد، غدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منزل عائشة إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 121] يقال: بوأته منزلا، وبوأت له منزلا. أي: أنزلته إياه، والمباءة: المنزل، وقوله: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] أي: مراكز ومثابت، قال ابن عباس: كل رجل لمقعده. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] يسمع قولكم ويعلم ما في ضمائركم، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار أصحابه في الخروج إلى أحد، فمنهم من أشار عليه بالمقام في المدينة، ومنهم من أشار عليه بالخروج إليهم، فقال الله تعالى: أنا أسمع ما يقوله المشيرون، وأعلم ما يضمرون. قال المسور بن مخرمة: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أي خال، أخبرني عن قصتكم يوم أحد. قال: اقرأ

العشرين ومائة من آل عمران، تجد قصتنا، {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 121] إلى قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} [آل عمران: 154] . قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] أي: تجبنا، يعني بني سلمة وبني حارثة، هما بالانصراف مع عبد الله بن أبي المنافق، فعصمهما الله، وهو قوله: والله وليهما أي: ناصرهما. وقال جابر بن عبد الله: فينا نزلت {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} [آل عمران: 122] نحن الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] . قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] الآية، بدر: اسم موضع نصر هناك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] جمع ذليل، أي: بقلة العدد وضعف الحال بقلة السلاح والمال. 166 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ فَارِسًا يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ 167 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ

168 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ الاثْنَيْنِ صَبِيحَةَ سَبْعَةَ عَشَر مِنْ رَمَضَانَ 169 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الأَبْرَشُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا

وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] أي: اتقوا عقاب الله بالعمل بطاعته لتقوموا بشكر نعمته. قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 124] الآية، قال الشعبي: بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر الحنفي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 124] الآية. قوله: بلى تصديق لوعد الله بالإمداد والكفاية، إن تصبروا على لقاء العدو، وتتقوا معصية الله ومخالفة نبيه، {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125] ، وأصل الفور: غليان القدر، يقال: فارت القدر تفور فورا. ثم يقال للغضبان: فار فائره، إذا اشتد غضبه. قال ابن عباس وقتادة والربيع: من وجههم. وقال مجاهد: من غضبهم. وقوله: يمددكم ربكم أصل المد والإمداد في اللغة: الزيادة، يقال: مد النهر، ومد الماء، إذا زاد ومده نهر آخر. ومنه قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] أي: يزيد منه، وأكثر ما يستعمل الإمداد في الخير، ومنه قوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] ، {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] ، {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} [الطور: 22] . وقوله: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] أي: يزد في عددكم بهذا العدد من الملائكة.

ومن فتح الواو من المسومين فمعناه: معلمين قد سوموا، فهم مسومون والسومة: العلامة، ومن كسر الواو: نسب الفعل إليهم، لما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر: «سوموا، فإن الملائكة قد سومت» . قال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، قد أرسلوها في ظهورهم. وقال الحسن: مسومين بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عباد بن عبد الله بن الزبير: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجرا، فنزلت الملائكة عليها عمائم صفر. قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} [آل عمران: 126] أي: ما جعل الله ذكر المدد، {إِلا بُشْرَى لَكُمْ} [آل عمران: 126] والبشرى: اسم من الإبشار والتبشير، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] فلا تجزع من كثرة العدو وقلة عدوكم. وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] أراد الله أن لا يركن المؤمنون إلى الملائكة، وأعلمهم أنهم وإن حضروا

وقاتلوا فما النصر إلا من عند الله ليستعينوا به ويتوكلوا عليه. والإمداد بالملائكة: بشرى لهم، وطمأنينة لقلوبهم، لما في البشر من الضعف، فأما حقيقة النصر فهو من عند الله، العزيز الحكيم. وقوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 127] أي: ليهلك طائفة، وليقتل قطعة. قال السدي: ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون، وأسر سبعون. وقوله: أو يكبتهم الكبت في اللغة: صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت. ثم يذكر والمراد به: الإخزاء والهلاك واللعن والهزيمة والإذلال. . . هذا ما ذكره المفسرون في تفسير الكبت. وقوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران: 127] أي: يرجعوا وينصرفوا ولم يدركوا ما أملوا. قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآية: 170 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ملاسٍ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]

ومعنى أو في قوله: أو يتوب معنى حتى، وإلى أن. قال الفراء: ومثل هذا في الكلام: لألزمنك أو تعطيني حقي. على معنى: إلى أن تعطيني وحتى تعطيني. ولما نفى الأمر عن نبيه ذكر أن جميع الأمر له، فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129] قال ابن عباس: الذنب العظيم للموحدين. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129] قال: يريد المشركين على الذنب الصغير. والله غفور لأوليائه، رحيم بهم. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {130} وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {131} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132} } [آل عمران: 130-132] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] قال المفسرون: إنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل، كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد زيادة. قال مجاهد: يعني ربا الجاهلية. واتقوا الله بطاعته، لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة، قال الزجاج: المفلح: الذي أدرك ما أمل من الخير. قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] قال ابن عباس: يهدد المؤمنين إن استحلوا ما حرم الله عليهم من الربا مما أوجب به النار. وقال الزجاج: اتقوا أن تحلوا ما حرم الله، فإن من أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 132] فيما يأمران به من النهي عن أكل الربا، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] . {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ

يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {136} } [آل عمران: 133-136] قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] قال عطاء عن ابن عباس: لا تصروا على الذنب، إذا أذنب أحد فليسرع الرجوع، يغفر الله له. وقال في رواية الكلبي: إلى التوبة من الزنا وشرب الخمر. وفي الكلام محذوف على تقدير: وسارعوا إلى موجب مغفرة من ربكم. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] قال ابن عباس: يريد: لرجل واحد من أوليائه. وقال كريب: أرسلني ابن عباس إلى رجل من أهل الكتاب أسأله عن هذه الآية، فأخرج أسفار موسى فنظر، فقال: يلفق كما يلفق الثوب، فأما طولها فلا يقدر أحد قدره. وقال في رواية أبي صالح: الجنان أربع: جنة عدن وهي الدرجة العليا، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وكل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض. أعدت في الآخرة، للمتقين الشرك والفواحش. ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: في اليسر والعسر. وسمى اليسر سراء لأنه يسر الإنسان، وسمى العسر ضراء لأنه يضر الإنسان. {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] يقال: كظم غيظه، إذا سكت عليه ولم يظهره بقول أو فعل. قال المراد: تأويله: أنه كتمه على امتلائه منه.

والمعنى: الكافين غضبهم عن إمضائه، يردون غيظهم في أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون. 171 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَاذِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ فَيُخَيِّرُهُ فِي الْحُورِ الْعِينِ، يُزَوِّجْهُ مِنْهُنَّ أَيَّهَا شَاءَ» وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: عن المماليك، إذا أذنب واحد منهم ذنبا عفوا عنه لما يرجون من ثواب الله. وقال زيد بن أسلم ومقاتل: أي: ممن ظلمهم وأساء إليهم. وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: يريد الموحدين الذين هذه الخصال فيهم. قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت الآية في نبهان التمار، أتته

امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي عليه السلام، فذكر له ذلك، فنزلت هذه الآية. ومعنى الفاحشة ههنا: الزنا. وقوله: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] قال الكلبي ومقاتل: هو ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظر فيما لا يحل، مثل الذي فعل نبهان. وقوله: ذكروا الله قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عز وجل. وقال مقاتل والواقدي: تفكروا أن الله سائلهم عنه. وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] أي: قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فإنا تبنا إليك وندمنا. {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران: 135] لم يقوموا ولم يدوموا، بل تابوا وأقروا واستغفروا. 172 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي نُصَيْرَةَ، قَالَ: لَقِيتُ مَوْلًى لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقوُلُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»

173 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ، مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَسْمَاءَ، أَوِ ابْنِ أَسْمَاءَ، مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَلِكَ الذَّنْبِ إِلا غَفَرَ لَهُ» ، وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] وقوله: وهم يعلمون قال مجاهد: يعلمون أنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب إليه. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي ذر، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: من علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي.

ثم ذكر جزاء المستغفرين من الذنب فقال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 136] إلى قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] أي: نعم أجر العاملين المغفرة. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ {138} وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {139} إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} } [آل عمران: 137-141] قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] السنن: جمع السنة، وهي المثال المتبع والإمام المؤتم به، وسنة الله: أمره ونهيه، وسنة النبي عليه السلام: طريقته. يقول الله تعالى: قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم، حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته في إهلاكهم، وبقيت لهم آثار في الدنيا، فيها أعظم الاعتبار. {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} [آل عمران: 137] آخر أمر، المكذبين منهم. وقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] يعني: القرآن بيان من العمى، وهدى من الضلال، وموعظة من الجهل، للمتقين يعني هذه الأمة. قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] هذه الآية تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسلمين من الله تعالى، لما نالهم يوم أحد من القتل والجرح. ومعنى ولا تهنوا: لا تضعفوا، يقال: وهن يهن وهنا فهو واهن، إذا ضعف في العمل. قال المفسرون: لا تهنوا عن جهاد عدوكم، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، فإنكم أنتم الأعلون، أي: لكم تكون العافية بالنصر والظفر. قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] يعني: إن الإيمان يوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن، أي: من كان مؤمنا يجب أن لا يهن ولا يحزن لثقته بالله عز وجل. وقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] أي: يصيبكم، يقال: مسه أمر كذا، ومسته الحاجة، إذا أصابته.

والقرح قرئ بضم القاف وفتحه، وهما لغتان في غض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد، مثل: الضعف والضعف. يقول: إن أصابكم جرح يوم أحد فقد أصاب المشركين مثله يوم بدر، وهو قوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] . وقوله: وتلك الأيام قال ابن عباس: يعني أيام الدنيا. {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] قال الحسن وقتادة والسدي والربيع: نصرفها مرة لفرقة ومرة لفرقة. والدولة: الكرة، يريد أنه أدال المسلمين من المشركين يوم بدر، وأدال المشركين من المسلمين يوم أحد. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140] أي: ليعلمهم مميزين بالإيمان من غيرهم، أي: إنما يجعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة. والمعنى: ليقع ما علمه غيبا مشاهدة للناس، وليعلم ذلك كائنا موجودا كما علمه غيبا. المجازاة إنما تقع بما يعلمه موجودا، لا بما علمه غيبا. وقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] أي: وليكرم قوما بالشهادة، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140] قال ابن عباس: يعني المشركين. وفي هذا إشارة إلى أنه إنما يديل الكافرين على المؤمنين لما ذكر، لا لأنه يحبهم. وإذا أدال المؤمنين أدالهم نصرة لهم ومحبة منه إياهم. قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] أي: ليطهرهم من ذنوبهم ويسقطا عنهم، قال المبرد: تأويل قول الناس: محص عنا ذنوبنا: أذهب ما تعلق بنا من الذنوب. فمعنى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] : ليخلصهم من ذنوبهم، قال الزجاج: معنى الآية: جعل الله الأيام

مداولة بين الناس ليمحص المؤمنين إذا أدال عليهم، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] ويستأصلهم إذا أدال عليهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين لأن تمحيص هؤلاء هو بإهلاك ذنوبهم، نظير محق الكافرين بإهلاك أنفسهم. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {143} } [آل عمران: 142-143] قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] الآية، خطاب للذين انهزموا يوم أحد، فقيل لهم: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وبذلوا مهجتهم وثبتوا على ألم الجراح والضرب، من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟ ! وهو قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] أي: ولما تجاهدوا فيقع العلم به. والمعنى: ولما يعلم الله ذلك واقعا منكم، لأنه يعلمه غيبا. قوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] انتصب على الصرف عن العطف، قال ابن الأنباري: هذه الواو يسميها أهل النحو واو الصرف، والذي بعدها ينصب على خلاف ما قبلها، كما تقول العرب: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. أي: لا تجمع بينهما، ولا تأكل السمك في حال شربك اللبن. قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} [آل عمران: 143] الآية، قال المفسرون: كانوا يتأسفون على ما فاتهم من بدر، ويتمنون يوما مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم انهزموا يوم أحد فاستحقوا العقاب. قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} [آل عمران: 143] يعني: من قبل يوم أحد، وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} [آل عمران: 143] أي: رأيتم أسباب الموت وما يتولد منه الموت كالسيف والأسنة، {وَأَنْتُمْ

تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] أي: وأنتم بصراء تتأملون الحال في ذلك كيف هي، فلم انهزمتم؟ ! وهذا محذوف، وهو مراد، لأنه موضع العتاب. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ {144} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ {145} وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} } [آل عمران: 144-148] قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} [آل عمران: 144] الآية، لما نعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشيع أنه قد قتل، قال بعض المسلمين: ليت لنا من يأخذ أمانا من أبي سفيان. وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] معناه: أنه يموت كما ماتت الرسل من قبله، {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] أي: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل؟ ! ويقال لكل من عاد إلى ما كان عليه ورجع وراءه: انقلب على عقبيه. وقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] فيه معنى الوعيد، أي: فإنما يضر نفسه باستحقاق العقاب، {

وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال ابن عباس: يريد الطائعين لله من المهاجرين والأنصار. وقال عبد الرحمن بن عوف في قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] : هو صياح الشيطان يوم أحد: قتل محمد. قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] قال الزجاج: اللام في النفس معناها: النقل، بتقدير: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. قال ابن عباس: يريد: بقضائه وقدره. والمراد بهذا: الحض على الجهاد، من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله. قال ابن الأنباري: عاتب الله بهذا المنهزمين يوم أحد رغبة في الدنيا وضنا بالحياة، وأخبرهم أن الحياة لا تزيد ولا تنقص، وأن الموت بأجل عنده لا يتقدم ولا يتأخر. وقوله: كتابا مؤجلا أي: كتب الله ذلك كتابا إلى أجله في اللوح المحفوظ، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] أي: من يرد بطاعته وعمله زينة الدنيا وزخرفها نؤته منها ما نشاء مما قدرناه له، كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] . وعني بهذا الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة ورغبة في الدنيا، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ} [آل عمران: 145] أي: من كان قصده بعمله ثواب الآخرة، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] يعني الذين ثبتوا يوم أحد حتى قتلوا. أعلم الله أنه يجازي كلا على قصده وإرادته، كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «الأعمال بالنيات» . قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} [آل عمران: 146] الآية، معنى كأين: كم، وتأويله: الكثير، لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم.

وقرأ ابن كثير وكائن بوزن كاعن، وهما لغتان بمعنى واحد، وأكثر ما جاء في الشعر على هذه اللغة، قال جرير: وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا قوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] يجوز أن يكون القتل مسندا إلى نبي، ويجوز أن يكون مسندا إلى ربيون، وكذلك الوجهان من قراءة من قرأ قاتل، والربيون: الجماعات الكثيرة، الواحد: ربي، وهو قول جميع المفسرين. قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} [آل عمران: 146] قال الزجاج: ما جبنوا عن قتال عدوهم، وما فتروا، {وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146] وما خضعوا لعدوهم. والآية احتجاج على المنهزمين يوم أحد، وذلك أن صائحا صاح: قد قتل محمد. فاضطرب أمر المسلمين، واختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعاتبهم على ما كان من فعلهم، ويحضهم على الجهاد بسلوك طريقة صحابة الأنبياء. قال ابن الأنباري: أي فقد كان واجبا عليكم أن تقاتلوا على أمر نبيكم لو قتل كما قاتل أمم الأنبياء بعد قتلهم ولم يرجعوا عن دينهم.

قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} [آل عمران: 147] أي: عند لقاء العدو، {إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] أي: تجاوزنا الحد في المعاصي، وثبت أقدامنا بالقوة من عندك والنصرة. قال الزجاج: أي ثبتنا على دينك، وإذا ثبتوا على دينهم ثبتوا في حربهم. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] هذا تعليم من الله تعالى، دعاء الاستفتاح والنصرة على الكافرين عند لقائهم في الحرب. قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 148] النصر والظفر والغنيمة، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران: 148] يعني الأجر والمغفرة، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ {150} سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ {151} } [آل عمران: 149-151] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149] قال ابن عباس: يعني اليهود. وقال السدي: يعني أبا سفيان وأصحابه. وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين، في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] أي: يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله، فتنقلبوا خاسرين فتصيروا خائبين من المغفرة والجنة. {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} [آل عمران: 150] ناصركم ومعينكم، أي: استغنوا عن موالاة الكفار فلا تستنصروهم، فإني وليكم وناصركم. ثم وعدهم خذلان أعدائهم فقال: {

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] قال السدي: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد إلى مكة، هموا بالرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى الله في قلوبهم الرعب، فمضوا ولم يرجعوا. والرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، والتخفيف والتثقيل فيه لغتان، كالكتب والرسل. وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] أي: بإشراكهم، وما ههنا: للمصدر، والمعنى: بما عدلوا بالله، ومن عدل بالله شيئا من خلقه فهو كافر. قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] أي: حجة وبرهانا في قول جميع المفسرين، يعني الأوثان التي عبدوها مع الله. ومأواهم أي: مرجعهم ومصيرهم إلى {النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151] هي، والمثوى: المكان الذي يقيم به، وهذا ذم لمكانهم من النار. {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {152} إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {153} ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {154} إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {155} } [آل عمران: 152-155] قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي: تقتلونهم قتلا شديدا كثيرا.

قال أبو عبيدة والزجاج: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس، إذا قتله البرد. قال المفسرون: كان المسلمون يوم أحد يقتلون المشركين قتلا ذريعا حتى ولوا هاربين، وانكشفوا منهزمين. فذلك قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي: بعلمه وإرادته. ثم أخل الرماة بالمكان الذي ألزمهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فحمل حينئذ خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وتراجع المشركون وقتل من المسلمين سبعون رجلا ثم هزموا. وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] أي: جبنتم عن عدوكم، يقال: فشل الرجل عن الحرب يفشل إذا ضعف وذهبت قوته، وإنه لفشل وفشل. وقوله: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] أي: اختلفتم، وكان اختلافهم أن المشركين لما انهزموا في أول الأمر قال بعض الرماة الذين كانوا عند المركز: ما مقامنا ههنا وقد انهزم القوم؟ ! وقال بعضهم: لا نجاوز أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: وعصيتم أي: بترك المركز، {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] من الظفر والنصر والفتح، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا إلى النهب، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] يعني الذين ثبتوا حتى قتلوا. 174 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:

مَا كُنْتُ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا، حَتَّى نَزَلَ فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} [آل عمران: 152] أي: ردكم عنهم بالهزيمة، على معنى: صرف وجوهكم عنهم، وهذا صريح في أن المعصية مخلوقة لله، حيث أضاف انهزامهم إلى نفسه فقال: صرفكم عنهم ولم يقل: انصرفتم. قوله: ليبتليكم أي: ليختبركم بما جعل عليكم من الدبرة والهزيمة، فتبين الصابر من الجازع، والمخلص من المنافق، {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152] ذنبكم بعصيان الرسول والانهزام، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] قال ابن عباس: يريد المغفرة. 175 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتَهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُهُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْهُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لا يَزِيدُ الدَّمَ إِلا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ، حَتَّى إِذَا صَارَ رَمَادًا أَلْزَمَتْهُ الْجَرْحَ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمَ قوله: إذ تصعدون يقال: أصعد في البلاد، إذا سار ومضى. ومعنى تصعدون: تبعدون في الهزيمة.

{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} [آل عمران: 153] لا تعرجون ولا تقيمون، يقال: مضى فلم يلو على شيء. أي: لم يعرج، وأصله من لي العنق في الالتفات، ثم استعمل في ترك التعريج. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: من خلفكم، يقول: إلي عباد الله، إلي عباد الله. يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس، إذا جاء خلفهم. وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [آل عمران: 153] الباء بمعنى اللام، أي: جعل مكان ما ترجعون من الثواب أن غمكم بالهزيمة، وظفر المشركين بغم، أي: بغمكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ عصيتموه فعصيتم أمره، فالغم الأول لهم، والثاني للنبي عليه السلام، وهذا القول اختيار الزجاج. قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] تذكير للتحذير. قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] قال المفسرون: إن المشركين لما انصرفوا يوم أحد كانوا يتوعدون المسلمين بالرجوع، ولم يأمن المسلمون كرتهم، وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال، فأنزل الله تعالى عليهم دون المنافقين أمنة، فأخذهم النعاس. قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد خوف، وإنما ينعس من أمن، والخائف لا ينام. قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. قال: وكنت ممن ألقي عليه النعاس يومئذ، فكان السيف يسقط من يدي، فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي، فآخذه.

والأمنة: مصدر كالأمن، يقال: أمن فلان يأمن أمنا وأمنة وأمانا. والنعاس: بدل من الأمنة. قوله: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154] قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فلأن النعاس هو الغاشي، والعرب تقول: غشيني النعاس، وقل ما غشيني الأمن. ومن قرأ بالتاء جعل الأمنة هي الغاشية، لأن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، والأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس. وقوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] يعني المنافقين: عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وأصحابهما، كان همهم خلاص أنفسهم. يقال: أهمني الشيء. أي: كان من همي وقصدي. قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران: 154] أي: يظنون أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضمحل، وأنه لا ينصر، ظن الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. والتقدير: ظن أهل الجاهلية، أي: أنهم كانوا على جهالتهم في ظنهم هذا. {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154] هذا استفهام معناه الجحد، أي: ليس لنا من النصر والظفر شيء كما وعدنا، بل هو للمشركين يقولون ذلك على جهة التكذيب، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] قال ابن عباس: يريد: القضاء والقدرة والنصرة والشهادة. وقرأ أبو عمرو كله بالرفع على الابتداء، ولله الخبر.

قال الفراء: ومثله مما قطع مما قبله قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ومن هذا أيضا ما أجازه سيبويه من قولهم: أين تظن زيد ذاهب. وقوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154] من الشك والنفاق وتكذيب الوعد بالنصرة، {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا} [آل عمران: 154] يعنون: أنهم خرجوا كرها، ولو كان الأمر بيدهم لم يخرجوا. 176 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الأُمَوِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ النُّعَاسَ لَيَغْشَانَا بَعْدَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ إِذْ سَمِعْتُ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ، وَمَا أَسْمَعُهَا إِلا كَالْحُلْمِ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا " ثم رد الله تعالى عليهم هذا الكلام بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 154] أيها المنافقون، ولم تخرجوا إلى أحد، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] يعني: لو تخلفوا عن القتال لخرج الذين كتب عليهم القتل، ولم يكن لينجيهم قعودهم. ويريد بالمضاجع: مصارعهم للقتل إلى حيث يسقطون هناك قتلى. وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} [آل عمران: 154] قال الزجاج: أي ليختبر ما في صدوركم ليعلمه مشاهدة كما علمه غيبا، لأن المجازاة إنما تقع على ما علمه مشاهدة.

وتقدير الآية: وليبتلي الله ما في صدوركم فعل ما فعل يوم أحد. وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] قال قتادة: ليطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو، وإعلان سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين دون المنافقين، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] أي: بما فيها من خير وشر. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] يعني الذين انهزموا يوم أحد، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155] أي: حملهم على الزلة، وكسبهم الزلة، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] قال مقاتل: يعني معصيتهم النبي عليه السلام وتركهم المركز. {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] غفر لهم تلك الخطيئة، قال قتادة في هذه الآية: تولى أناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد عن القتال وعن نبي الله، وكان ذلك من أمر الشيطان، فأنزل الله ما تسمعون أنه قد تجاوز عن ذلك وعفا عنهم. 177 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا الْقَارِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَفَعَ صَوْتَهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:

بِأَيْشِ تَرْفَعُ صَوْتَكَ عَلَيَّ وَلَقَدْ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، وَبَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تُبَايِعْ، يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَفَرَرْتَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ أَفِرَّ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَمَّا قَوْلُكَ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَنِي عَلَى ابْنَتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بَايَعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أُبَايِعْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ ضَرَبَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، فَشِمَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ يَمِينِي، وَلَقَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ فَرَرْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلُمْتَ بِذَنْبٍ عَفَا اللَّهُ لِي عَنْهُ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {156} وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {157} وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ {158} } [آل عمران: 156-158] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 156] الآية، قال ابن عباس: يريد قوما من المنافقين قالوا فيمن بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السرايا إلى بئر معونة وإلى الرجيع فأصيبوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وقوله: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 156] أي: في النفاق، {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 156] أي: ساروا وسافروا فيها، {أَوْ كَانُوا غُزًّى} [آل عمران: 156] جمع غاز، مثل: صائم وصوم، ونائم ونوم. وفي الآية محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو كانوا غزى فقتلوا. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] وهذا الظاهر يدل على موتهم وقتلهم. وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] أي: ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا الحرب اندفع عنهم القتل، حسرة في قلوبهم، وحسرتهم في مقالتهم التي كانوا كاذبين فيها على القضاء والقدر أشد عليهم مما نازلهم في قتل إخوانهم وموتهم. وتقدير معنى الآية: لا تكونوا كهؤلاء الكفار عَنَّ هذا القول منهم ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم. {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [آل عمران: 156] أي: ليس ينفع الإنسان تحرزه من إتيان أجله على ما سبق في علم الله، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156] بالياء والتاء، فمن قرأ بالتاء فلأن الآية خطاب، وهو قوله: ولا تكونوا، ومن قرأ بالياء فللغيبة التي قبلها، وهي قوله: وقالوا لإخوانهم. قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 157] اللام في لئن: لام القسم، بتقدير: والله لئن قتلتم في سبيل الله أيها المؤمنون، أو متم في سبيل الله. وقرئ متم بكسر الميم، وهو شاذ، ونظيره في الصحيح: فضل يفضل. والخطاب للمؤمنين، يقول الله تعالى: ولئن قتلتم في الجهاد، أو متم ليغفرن لكم، وهو قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] من أعراض الدنيا التي تتركون القتال في سبيل الله للاشتغال بجمعها. وقرأ حفص يجمعون بالياء، ويكون المعنى: لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعه غيركم مما تركوا القتال لجمعه.

ولئن متم يريد: مقيمين عن الجهاد، أو قتلتم مجاهدين، {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] يعني: في الحالين، وهذا تهديد بالحشر، وتحذير من القيامة. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ما ههنا: صلة، لا تمنع الباء من عملها فيما عملت فيه، وهي كثيرة في القرآن كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] ، و {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} [ص: 11] ، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] . والمعنى: فبرحمة من الله، لنت لهم أي: سهلت أخلاقك، وكثر احتمالك. يقال: لان يلين لينا وليانا، إذا رق وحسن خلقه وانقاد. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} [آل عمران: 159] الفظ: الغليظ الجانب، السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة، فأنت فظ. وقال الكلبي: لو كنت فظا في القول غليظ القلب في الفعل، {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] لتفرقوا ونفروا منك. وقوله: فاعف عنهم أي: عن الشيء يكون منهم، واستغفر لهم من ذلك الذنب، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم إذا شاور بعضهم بعضا. وقال الضحاك: ما أمر الله نبيه بالمشورة إلا لما يعلم ما فيها من الفضل. وروى عمرو بن دينار، عن ابن

عباس في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال: يريد أبا بكر وعمر. وقوله تعالى: فإذا عزمت أي: على ما تريد إمضاءه فتوكل على الله لا على المشاورة. ومعنى التوكل: تفويض الأمر إلى الله للثقة بحسن تدبيره. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] وقوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] أي: من الناس. والمعنى: إن ينصركم الله لم يضركم خذلان من خذلكم. وإن يخذلكم معنى الخذلان: القعود عن النصرة وقت الحاجة إليها. {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] هذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا ينصركم أحد من بعده. وقال الكلبي: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 160] يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فعل يوم بدر، {فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} [آل عمران: 160] كما كان يوم أحد، {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ} [آل عمران: 160] أي: يمنعكم من عدوكم. وقوله: من بعده ظاهر الكناية يعود إلى اسم الله تعالى. والمعنى على حذف المضاف بتقدير: من بعد خذلانه. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161] قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] روى عكرمة، عن ابن عباس: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر

مما أصيب من المشركين، فقال أناس: لعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] أي: يخون، من الغلول وهو الخيانة، وأصله: أخذ الشيء في خفية، يقول: ما كان لنبي أن يخون فيكم الغنيمة من أصحابه. وأن مع الفعل بمنزلة المصدر، كأنه قيل: ما كان لنبي الغلول، أراد: ما غل نبي، ينفي عن الأنبياء الغلول. وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين، من الأغلال وهو النسبة إلى الغلول، قال الفراء: قرأ أصحاب عبد الله يغل يريدون: أن يسرق ويخون، وذلك جائز، وإن لم يقل: يغلل، فيكون مثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] و {لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] . 178 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْمُقْرِي، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] وَيَقُولُ: كَيْفَ لا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَغُلَّ، وَقَدْ كَانَ يَقْتُلُ، قَالَ اللَّهُ: {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ} [آل عمران: 112] وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ اتَّهَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]

179 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ اللُّتَبْيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ الْهَدِيَّةُ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أُمِّكَ وَأَبِيكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، فَلا أَعْرِفَنَّ رَجُلا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلاثًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وقوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران: 161] قال ابن عباس: يريد: تجازى ثواب عملها. وهم لا يظلمون لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {162} هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {163} } [آل عمران: 162-163] قوله: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يعني: بالعمل بطاعته والإيمان به، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] في العمل بمعصية الله والكفر به، قال ابن عباس {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يريد المهاجرين والأنصار، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يريد المنافقين. وقال الزجاج: يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمر المسلمين يوم أحد بالحرب اتبعه المؤمنون، وتخلف عنه جماعة

من المنافقين، فأعلم الله أن من اتبع نبيه اتبع رضوان الله، وأن من تخلف عنه فقد باء بسخط من الله. ومعنى باء به: احتمله ورجع به، وذكرنا هذا في { [البقرة. قوله:] هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة آل عمران: 163] أي: أهل درجات، أو ذوو درجات، فحذف المضاف، والمعنى: أن المؤمنين ذوو درجة رفيعة، والكافرين ذوو خسيسة. قال ابن عباس: يعني أن من اتبع رضوانه ومن باء بسخط منه مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوانه الكرامة والثواب، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب. وهذا قول الكلبي، قال: أهل الجنة بعضهم أفضل من بعض، وكل في فضل وكرامة، وأهل النار بعضهم أشد عذابا من بعض، وكل في عذاب وهوان. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] أي: أنعم عليهم وأحسن إليهم، {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] هذا خاص للعرب، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من العرب، ولم يكن حي من أحياء العرب إلا وقد ولده وله فيهم نسب، غير بني تغلب، لأنهم كانوا نصارى، فطهره الله منهم. ومعنى من أنفسهم: من نسبهم، قال ابن عباس: يريد: من نسبهم، وهو من ولد إسماعيل. وهذا قول عائشة رضي الله عنها، لأنها قالت: هذا للعرب خاصة. وقال آخرون: المراد به المؤمنون كلهم، ومعنى من أنفسهم: أنه واحد منهم يعرفونه ويعرفون نسبه، وليس بملك ولا أحد من غير بني آدم. وهذا القول اختيار الزجاج، قال: لو كانت المنة فيه أنه من العرب لكان العجم لا منة عليهم، ولكن المنة فيه أنه قد خبر أمره وشأنه، وعلم صدقه بعد أن علموا أنه كان واحدا منهم، فكان أيسر عليهم معرفة أحواله من الصدق والأمانة.

وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] أي: وما كانوا من قبل محمد إلا في ضلالة، كقوله: وإن كنتم من قبله لمن الظالمين. {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {165} وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ {166} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {168} } [آل عمران: 165-168] قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [آل عمران: 165] يعني: أوحين أصابتكم، ألف الاستفهام دخلت على واو العطف، وأراد بالمصيبة: ما أصابهم يوم أحد. وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] يعني يوم بدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] قلتم: من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة وقد تقدم الوعد بالنصر ونحن مسلمون ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: إنكم تركتم المركز، وطلبتم الغنيمة، وعصيتم الرسول، فمن قِبَلكم جاء الشر. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: يأخذكم الفداء، وذلك أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر فقال: يا محمد، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقومه، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وأخواننا، لا، بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال العدو، ويستشهد منا بعددهم. فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: يأخذكم واختياركم القتل.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] أي: من النصر مع الطاعة، وترك النصر مع المخالفة. قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 166] يعني يوم أحد، التقى فيه المشركون والمسلمون، فبإذن الله وقال ابن عباس: فبقضاء الله. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ {166} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166-167] أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم على ما ينزل بهم. وذكرنا معنى علم الله فيما لا يزال مع سبق علمه بالكائنات فيما لم يزل. قال ابن عباس: يريد بالذين نافقوا: عبد الله بن أبي، وأصحابه، وذلك أنهم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم. ودعاهم إلى القتال في سبيل الله، فذلك قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167] . قال السدي: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا. وقال جماعة من المفسرين: أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله. {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] أي: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، يعنون: لا يكون اليوم قتال ولو نعلم أنه يكون قتال لاتبعناكم، ونافقوا بهذا القول لأنه كان في قلوبهم خلاف ما تكلموا به، قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167] يريد: إنهم بما أظهروا من خذلان المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وذلك أنهم قبل هذا كانوا بظاهر حالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا أنفسهم بما فعلوا وقالوا مما لم يكن في قلوبهم ذلك، وهو قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167] أي: من النفاق. قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 168] يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا لإخوانهم من المنافقين وقعدوا هم عن الجهاد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواو للحال، لو أطاعونا في القعود عن الحرب، يعنون

شهداء أحد، ما قتلوا. فرد الله تعالى عليهم وقال: قل لهم يا محمد، {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] أي: إن صدقتم أن الحذر ينفع من القدر. ومعنى الدرء في اللغة: الدفع، ومنه قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] . {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ {171} الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {175} } [آل عمران: 169-175] قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية. 180 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعيِد بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبْلِغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءَ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ؟ لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلا يَتَّكِلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبْلِغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]

181 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَذَّاءُ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ الْفَاكِهِ الأَنْصَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالا، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآيَةَ 182 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَال: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ كَطَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ اطَّلَعَ رَبُّكَ عَلَيْهِمُ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا مَاذَا نَسْأَلُكَ، وَنَحْنُ فِي الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِي أَيِّهَا شِئْنَا؟ قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لا يُتْرَكُونَ مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبَّنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لا يَسْأَلُونَ إِلا هَذَا تَرَكَهُمْ.

رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وقوله: بل أحياء الأصح في حياة الشهداء ما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن أرواحهم في أجواف طير، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون. وقيل: إن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقوله: عند ربهم أي: في دار كرامته، ومعنى عنده معنى القرب والإكرام بحضور دار السلام. وقيل عند ربهم أي: في علمه. وقوله: يرزقون أي: من ثمار الجنة كما رويناه. {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] أي: بما نالوا من الكرامة، ويستبشرون: الاستبشار: السرور بالبشارة يبشر بها، {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170] أي: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، فيصيبون من كرامة الله ما أصابنا. وهو قوله: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] . قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ} [آل عمران: 171] قرئ بالفتح والكسر، فمن فتحها فعلى معنى: وبأن الله، فهي معطوفة على الباء في بنعمة، ومن كسرها استأنف. قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] الآية، قال المفسرون: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد ندموا وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا قليل تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندبهم للخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح، فذلك قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] أي: أجابوهما، {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] أي: الجراحات وألمها، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} [آل عمران: 172] أي: بطاعة الرسول، واتقوا معصيته ومخالفته، أجر عظيم.

183 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] إِلَى آخِرِهَا، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا أَصَابَ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَذْهَبُ فِي أَثَرِهِمْ فَانْتُدِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، كَانَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] الآية، قال مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي والكلبي: إن أبا سفيان حين أراد أن ينصرف يوم أحد قال: يا محمد، إن موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلك بيننا إن شاء الله» . فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، فبعثه أبو سفيان وقال: ثبط عنا محمدا وخوفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، ولأن يكون الخلف من قبله أحب إلي. فأتى نعيم المسلمين، فوجدهم يتجهزون لميعاد أبي سفيان، وقال: قد أتوكم في بلدكم وصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا أغرتم عليهم في بلدهم وهم أكثر وأنتم أقل؟ ! فذلك قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] يعني نعيما، فأطلق لفظ الناس على الواحد، كما تقول: انتظرت قوما فجاء واحد منهم: قد جاء الناس. وقال السدي: الناس ههنا: المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير لميعاد أبي سفيان: إن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع منكم أحد.

وقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان وأصحابه، {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] زادهم قول الناس لهم إيمانا، أي: تصديقا ويقينا. قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم، وإقامة على نصرة نبيهم. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] أي: الذي يكفينا أمرهم الله، ونعم الوكيل أي: الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول. قال ابن عباس: آخر كلام إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. وقال نبيكم مثلها، ثم قرأ هذه الآية. قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فلم يلقوا أحدا من المشركين، ووافقوا السوق فباعوا واشتروا وربحوا، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فذلك قوله: فانقلبوا أي: انصرفوا، {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] قال السدي ومجاهد: والنعمة ههنا: العافية، والفضل: التجارة. وقوله {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] أي: لم يصبهم قتل ولا جراح، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 174] في طاعة رسوله، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174] تفضل على المؤمنين بما تفضل به. وقوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 175] أي: ذلك الذي يخوفكم أيها المؤمنون هو الشيطان، يوقع في قلوبكم الخوف من الكفار، وهو قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه وهم المشركون، فحذف المفعول الثاني وحرف الجر. قال الفراء: ومثله قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر: 15] ومعناه: لينذركم بيوم التلاق، وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2] أي: لينذركم ببأس شديد.

والذي يدل على هذا قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه. فلا تخافوهم أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] أي: خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي، وقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم، فقد سقط عنكم الخوف. {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176] وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] أكثر القراء على يحزنك بفتح الياء، وقرأ نافع بضم الياء، وحزن وأحزن بمعنى واحد، يقال: حزنني الأمر وأحزنني. ذكر ذلك الخليل وسيبويه وأبو زيد الزجاج، وأراد ب {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] : المنافقين واليهود، وتأويله: يسارعون في نصرة الكفر. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] يعني: أن عائد الوبال في ذلك عليهم، لا على غيرهم. وقال عطاء: لن يضروا أولياء الله شيئا. {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 176] أي: نصيبا في الجنة. {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {177} وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُهِينٌ {178} } [آل عمران: 177-178] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [آل عمران: 177] أي: اختاروا الكفر واتخذوه بدلا من الإيمان، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 177] . قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 178] قال ابن عباس: يعني المنافقين وقريظة والنضير. وقال مقاتل: يعني مشركي مكة. وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 178] الإملاء: الإمهال والتأخير، قال الأصمعي: يقال: أملى عليه الزمان. أي: طال عليه. وأملى له: أي طول له وأمهله.

قال ابن عباس في قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178] : يريد تماديهم في معاصي الله. قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] أي: إنما نطول أعمارهم في الكفر ليزيد إثمهم، فيكون ذلك أشد لعقوبتهم. قال الزجاج: هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا، وأن بقاءهم يزيدهم إثما وكفرا. 184 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ عَيْنٍ تَطْرِفُ إِلا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ الْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ صَلاةً وَيَزِيدُ صَوْمًا وَيَزْدَادُ خَيْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] فَإِنْ كَانَ بَرًّا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ الْكَافِرَ أَلَيْسَ إِنْ مَاتَ عُجِّلَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَلْبَسُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] وَلا يَزْدَادُونَ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً إِلا ازْدَادُوا إِثْمًا {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 179] الآية، نزلت في المنافقين وتمييزهم عن المؤمنين، ومعنى الآية: وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 179] من التباس المنافق بالمؤمن، والمؤمن بالمنافق، {

حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] أي: المنافق من المؤمن. قال مجاهد: فميز الله يوم أحد المؤمنين من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي يميز قراءتان: التخفيف والتشديد، وهما لغتان، يقال: مزت الشيء بعضا من بعض فأنا أميزه ميزا، وميزته تمييزا. أي: فرقته وفصلت بينه، ومنه الحديث: «من ماز أذى من الطريق فهو له صدقة» . {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التمييز، والإطلاع: أن تطلع إنسانا على أمر لم يكن عَلِمَ به، يقال: أطلعته على كذا. أي: أعلمته. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} [آل عمران: 179] أي: يختار لمعرفة ذلك، {مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] قال ابن عباس: يريد: أنت يا محمد ممن اصطفيته وأطلعته على هذا الغيب. ثم أمر بالإيمان بجميع الرسل ووعدهم الأجر العظيم على ذلك فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] . {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180] نزله في الباخلين بالزكاة الواجبة عليهم.

قال ابن عباس: {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] يريد: من الذهب والفضة والحيوان والثمار. ففسروه بالأشياء التي تجب فيها الزكاة. وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180] قال الحسن: لأنهم نالوا به عذاب الله. {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] يجعل ما بخل به من المال حية يطوقها يوم القيامة في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه. 185 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، سَمِعْتُ جَامِعَ بْنَ أَبِي رَاشِدٍ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَعْيَنَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا وَائِلٍ يُخْبِرُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَهُوَ يَتْبَعُهُ، حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 180] يعني: أنه يفني أهلهما، وتبقى الأملاك والأموال ولا مالك لها إلا الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] من قرأ بالياء فلأن ما قبله على الغيبة، وذلك قوله: سيطوقون. والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه. ومن قرأ بالتاء فلأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 179] .

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {181} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ {182} الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {183} فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {184} } [آل عمران: 181-184] قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] قال المفسرون: نزلت هذه الآية في اليهود، قالوا لما نزل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] : إن الله فقير يستقرضنا ونحن أغنياء. يروى أن قائل هذا رجل من اليهود يقال له: فنحاص. قال: لو كان الله غنيا لما استقرضنا أموالنا. فقال الله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181] أي: نأمر الحفظة بإثبات قولهم في صحائف أعمالهم، وذلك أظهر في الحجة عليهم. وقرأ حمزة سيكتب بضم الياء، اعتبارا بقراءة عبد الله ويقال ذوقوا عذاب الحريق، وهو اسم للنار الملتهبة، وهو بمعنى المحرق. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182] أي: ذلك العذاب بما سلف لكم من الإجرام، وأن الله أي: وبأن الله، {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] فيعاقبهم بلا جرم. قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] الآية، قال السدي: إن الله أمر بني إسرائيل في

التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، إلا المسيح ومحمدا، فإنهما يأتيان بغير قربان. والقربان: البر الذي يتقرب به إلى الله، وأصله المصدر، من قولك: قرب قربانا، ومثل الكفران والرجحان والخسران، ثم سمي به نفس المتقرب به. قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها وسط البيت، والسقف مكشوف، فيقوم النبي ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها حفيف ولا دخان لها، فتأكل ذلك القربان، فقال الله تعالى إقامة للحجة عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} [آل عمران: 183] المعجزات الظاهرات، وبالذي قلتم يعني أكل النار القربانَ، {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183] فيما ذكرتم؟ ! قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [آل عمران: 184] هذه الآية تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تكذيب اليهود إياه، وبيان أنهم إن كذبوه فالتكذيب عادة للأمم وسائر الرسل، فقد كذبوا كما كذب. وقوله: جاءوا بالبينات أي: جاءوا أممهم بالمعجزات الظاهرة، والزبر أي: الكتب، وهو جمع زبور، والزبور: الكتاب، بمعنى المزبور، أي: المكتوب، يقال: زبرت الكتاب. أي: كتبته. وقرأ ابن عامر وبالزبر، أعاد الباء وإن كان مستغنى عنه لضرب من التأكيد، {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 184] الهادي إلى الحق، من قولك: أنرت الشيء أنيره إنارة. أي: بينته وأوضحته.

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ذائقة: فاعلة من الذوق، وهذا وعد من الله تعالى بالموت، ووعيد للمكذبين بالقرآن، لأنهم إذا ماتوا حصلوا على خسران وحسرة، وهو قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] فمن عمل صالحا وفي وأكمل أجره بدخول الجنة والتبعيد من النار، وهو قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آل عمران: 185] أي: بعد عنها، {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] أي: ظفر بالخير ونجا من الشر. قال الزجاج: يقال لكل من نجا من هلكة وظفر بما يغتبط به: فاز. وتأويل فاز: تباعد عن المكروه ولقي ما يحب. وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] يريد: العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب. {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186] أي: لتختبرن في أموالكم بالخسران والنقصان حتى يتبين الجازع من الصابر، والمخلص من المنافق، وأنفسكم بالأمراض. والخطاب للمهاجرين، أخذ المشركون أموالهم بمكة، وباعوا رباعهم وعذبوهم، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186] يعني اليهود، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه

بالصبر على ذلك، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186] الآية. وقوله: وإن تصبروا على الأذى الذي ينالكم، وتتقوا بترك المعارضة، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] أي: مما يعزم عليه من الأمر، لظهور رشده، وكان هذا قبل نزول آية السيف. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الآية، نزلت في يهود المدينة أخذ الله ميثاقهم في التوراة ليبينن شأن محمد ونعته ومبعثه ولا يخفونه، وهو قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] . قال الحسن: هذا مثال ميثاق الله تعالى على علماء أهل الكتاب أن يبينوا للناس ما في كتابهم، وفيه ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإسلام. وتقرأ هذه الآية بالياء على الغيبة، وبالتاء على حكاية المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق، ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] بالياء والتاء. وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] قال ابن عباس: أي: ألقوا ذلك الميثاق خلف ظهورهم. {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 187] يعني: ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم. وقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] قال ابن عباس: قبح شراؤهم وخسروا. {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {188} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {189} } [آل عمران: 188-189] قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] الآية، قال أبو سعيد الخدري: نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه، فيقبل عذرهم، وأحبوا أن يحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان. وقال عكرمة ومجاهد: اليهود فرحوا بإضلال الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا كذلك. وقوله: بما أتوا قال الفراء: بما فعلوا، كما قال: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] أي: فعلت فعلا. وقوله: بمفازة أي: بمنجاة من النار، والمعنى: لا تحسبن هؤلاء أنهم ينجون من العذاب. قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 189] أي: يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء. وهذا تكذيب للذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] . {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {192} رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ {193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ {194} فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا

وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195} } [آل عمران: 190-195] قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ} [آل عمران: 190] قال ابن عباس: بت في بيت ميمونة، فتحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر في السماء، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ثم قام فتوضأ، واستن فصلى إحدى عشرة ركعة. وتفسير الآية قد تقدم في { [البقرة. قوله:] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا} [سورة آل عمران: 191] أي: قائمين، وقعودا قاعدين، وعلى جنوبهم مضطجعين. والمعنى: أنهم يصلون في جميع هذه الأحوال على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم. قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير، فسألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] ليدلهم ذلك على قدرة الصانع وتوحيده وحكمته، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} [آل عمران: 191] أي: ويقولون: ربنا ما خلقت هذا الخلق، باطلا لغير شيء، خلقته دليلا على حكمتك وكمال قدرتك.

سبحانك تنزيها لك عما لا يجوز في وصفه، {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] أي: قد اعترفنا بوحدانيتك، فلا تعذبنا بالنار. قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} [آل عمران: 192] قال قتادة: إنك من تخلد في النار، {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] . قال شمر بن حمدويه: فضحته. وقال المفضل: أهلكته. قال عمرو بن دينار: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فسألته عن هذه الآية، فقال: أليس قد أخزاه حين أهلكه بالنار؟ ! إن دون ذلك لخزيا. ما للظالمين يريد الكافرين، من أنصار أعوان يمنعونهم من عذاب الله. قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران: 193] المنادي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول ابن عباس والأكثرين. قال قتادة: ينبئكم الله عن مؤمني الإنس كيف قالوا، وعن مؤمني الجنة كيف قالوا، أما مؤمنو الجنة فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، وأما مؤمنو الإنس فقالوا: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 193] . وقال محمد بن كعب القرظي: هو كتاب الله ليس كل أحد لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: ينادي للإيمان قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي: سمعنا مناديا للإيمان ينادي {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 193] . وقوله: {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] أي: غطها عنا حتى لا نراها، وجمع بين غفران الذنوب وتكفير السيئات لأن غفران الذنوب بفضله ورحمته، وتكفير السيئات بالطاعات، كتكفير الحنث بالصوم، والظهار بالإعتاق، فالمغفرة بفضله من غير سبب، والتكفير بسبب طاعة. والسيئات: الأعمال القبيحة، يقال: سوأت الرجل فعله. أي: قبحته عليه وعبته بما صنع. وقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] قال ابن عباس: مع الأنبياء، والمعنى: توفنا في جملتهم. قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] قال الكلبي: على لسان رسلك، والمعنى: أن المؤمنين

يدعون الله تعالى بأن ينجز لهم ما وعدهم من الثواب على لسان الرسل. وقوله: {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 194] أي: لا تفضحنا ولا تهنا ولا تهلكنا. قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] أي: دعاءهم. وقوله: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195] يعني: لا يضيع لأحد عندي عمل، رجلا كان أو امرأة، وهو قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] أي: حكم جميعكم حكم واحد منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم وترك تضييعها لكم. {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران: 195] يعني المؤمنين الذين أخرجوا من مكة وآذاهم المشركون فهاجروا منها إلى المدينة. وقاتلوا المشركين، وقتلوا وقرأ ابن عباس مشددا، لتكرر القتل فيهم، والتخفيف يقع على القليل والكثير، وقرأ حمزة وقتلوا وقاتلوا وهو كقراءة العامة، لأن الواو لا توجب ترتيبا، {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] . وقوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195] قال الزجاج: هو مصدر مؤكد لما قبله، لأن معنى لأدخلنهم جنات: لأثيبنهم. {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ {196} مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {197} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ {198} وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا

يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200} } [آل عمران: 196-200] قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 196] نزلت في مشركي مكة، وذلك أنهم كانوا يتجرون ويتنعمون، ومعنى تقلبهم في البلاد: تصرفهم للتجارات. أعلم الله تعالى أن ذلك مما لا ينبغي أن يغتبطوا به، لأن مصيرهم بكفرهم إلى النار، ولا يمتعون بما جمعوا، وهو قوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران: 197] قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل. ثم ذكر المؤمنين فقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [آل عمران: 198] إلى قوله: {نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 198] النزل: ما يهيأ للضيف أو القوم إذا نزلوا موضعا. قال الكلبي: جزاء وثوابا. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] مما يتقلب فيه الكفار في دار الدنيا. قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199] الآية 186 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْعَرُوضِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَاشِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ

مِنَ الْحَبَشَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199] وهذا قول ابن عباس وجابر وقتادة، أن الآية نزلت في النجاشي حين مات، وصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم. قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] يعني القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] يعني التوراة، خاشعين لله قال الزجاج: لما ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب في قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 187] ذكر حال من آمن من أهل الكتاب، وأخبر أنهم صدقوا في حال خشوعهم فقال: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 199] أي: عرضا من الدنيا كفعل اليهود الذين غيروا التوراة. ثم وعدهم الأجر مع ذلك فقال: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199] ومضى الكلام في سرعة الحساب. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران: 200] قال الحسن: على دينكم، فلا تدعوه لشدة. وقال زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم، فلا يكون أصبر منكم، ورابطوا أقيموا على جهاد عدوكم بالحرب.

وأصله من مرابطة الخيل، وهو ارتباطها بإزاء العدو في بعض الثغور، ثم سمي ملازمة الجهاد رباطا ومرابطة، هذا قول أكثر المفسرين وفيه قول آخر: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، حدثنا محمد بن معاذ الماليني، حدثنا الحسين بن الحسن بن حرب المروزي، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني داود بن صالح، قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] ؟ قلت: لا. قال: إنه لم يكن في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزو يرابطون فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، عن أبي محمد المزني، عن أحمد بن نجدة. ودليل صحة هذا القول: الحديث الصحيح الذي 187 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ إِلَى الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ".

رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، كِلاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ انْتِظَارُ الصَّلاةِ رِبَاطًا؛ لأَنَّ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ، يُقَالُ: رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَرَبَطَ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَبِيدٌ: رَابِطُ الْجَأْشِ عَلَى كُلِّ وَجِلٍ ، أَيْ: صَابِرٌ ثَابِتٌ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] : اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]

سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النساء مدنية وآياتها سبعون ومائة 188 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْرِئِ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَايِنِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءَ فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثًا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنِ اشْتَرَى مُحَرَّرًا، وَبَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ» 189 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ النِّسَاءِ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ وَسُوَرةَ الْحَجِّ وَسُورَةَ النُّورِ فَإِنَّ فِيهِنَّ الْفَرَائِضَ {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {1} وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا {2} وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا {3} وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا {4} } [النساء: 1-4] . قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] قال ابن عباس: الخطاب لأهل مكة.

{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] يعني: آدم، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» . وقوله: وبث أي: فرق ونشر، والبث التفريق، ومنه قوله: وزرابي مبثوثة أي: متفرقة في المجالس، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض. وقوله: منهما أي: من آدم وحواء، وهما أبوا البشر، وفي هذا بيان قدرة الله تعالى، حيث خلق آدم وكان نفسا واحدة، ثم خلق منه حواء، ثم خلق منهما الرجال والنساء على كثرتهم. قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} [النساء: 1] أي: تتساءلون، فأدغم التاء في السين ومن خفف حذف ولم يدغم، والمعنى: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم وحقوقكم به، فتقولون: أسألك بالله، وأنشدك بالله، ونشدتك الله، وكذا كانت العرب تقول له.

وقوله: والأرحام قال قتادة، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد، والفراء، والزجاج: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فهي عطف على اسم الله في قوله: واتقوا الله. والمعنى: واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وهذا ينبئ بوجوب صلة الرحم. 190 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَدَّادًا اللَّيْثِيَّ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أنا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ " 191 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرّسْعَنِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ هَارُونَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُعَمِّرُ بِالْقَوْمِ الدِّيَارَ وَيُكْثِرُ لَهُمُ الأَمْوَالَ، وَمَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ مُذُ خَلَقَهُمْ بُغْضًا، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِصِلَتِهِمْ أَرْحَامَهُمْ "

وقرأ حمزة والأرحامِ بالخفض، وضعف النحويون كلهم هذه القراءة واستقبحوها. قال الزجاج: إجماع النحويين أنه يقبح باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض كقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81] ، ويستقبح النحويون: مررت به وزيد، لأن المكني المخفوض حرف متصل غير منفصل، فكأنه كالتنوين في الاسم، فقبح أن يعطف باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. وقال سيبويه: لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة الشعر وأنشد: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] الرقيب: الحافظ يقال: رقب يرقب رقبة ورقبًا. ومعناه: أنه يرقب عليكم أعمالكم، فاتقوه فيما نهاكم عنه. قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] الخطاب للأوصياء وأولياء اليتامى أي: أعطوهم أموالهم إذا بلغوا، {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] يقال: تبدل الشيءَ بالشيء، إذا أخذه مكانه.

قال المفسرون: كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل الرديء مكانه، فيجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، فنهى الله تعالى عن ذلك. قال السدي: لا تضع بعيرا مهزولا مكان بعير سمين، تقول: بعير ببعير. وشاة مهزولة مكان شاة سمينة، وثوبًا خلقا مكان ثوب جديد، تقول: ثوب بثوب وشاة بشاة. وأراد ب الخبيث: الحرام، وهو ما يأخذه من مال اليتيم بدل ماله الحلال، قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي: لا تضيفوها في الأكل إلى أموالكم، وقال السدي: يقول: ولا تخلطوها بأموالكم ثم تأكلوها جميعا. إنه يعني: إن أكل أموالهم {كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] الحوب والحوب والحاب: الإثم الكبير. وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الإقساط: العدل، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، ومنه قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . 192 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ وعلى هذا التفسير تقدير الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فحذف المضاف، وقوله: {

فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] أي: من غيرهن، وقال أكثر المفسرين: يقول: فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وهمكم ذلك، فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، فلا تتزوجوا أكثر ما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز. وهذا قول ابن عباس، في رواية الوالبي، وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي. وقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] أي: حل لكم من النساء، يعني: من اللاتي يحل نكاحهن، دون المحرمات اللاتي ذكرن في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية. وما ههنا: بمعنى مَن كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، وقال مجاهد: معناه: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم من النساء، فما على هذا عبارة عن النكاح. وقوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] معناه: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعًا أربعًا، على اختلاف الأحوال لأن الأربع إنما يحل نكاحهن إذا لم يتقدمها ثلاث، وكذلك الثلاث إذا لم يتقدمها اثنتان. ولا تدل الآية على إباحة التسع، وإن كان مجموع هذه الأعداد تسعًا لأن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنين وثلاثة وأربعة فمن قال: أعط زيدًا اثنين وثلاثة وأربعة وهو يريد تسعة كان ذلك أعيا كلام. قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3] أي: في الأربع بالحب والجماع، فواحدة أي: فلينكح كل واحد منكم واحدة من الحرائر، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] من الجواري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق كالذي يلزم في الحرائر من التسوية بينهن في القسمة.

وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] أي: نكاح الأربع على قلة عددهن أقرب إلى العدل وأبعد من الظلم. ومعنى تعولوا: تميلوا وتجوروا، عن جميع المفسرين، والعول: الميل في الحكم إلى الجور. قال الفراء: عال الرجل يعول عولًا، إذا مال وجار، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، وعكرمة، والفراء، والزجاج، وابن الأنباري. وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] الصدُقات: المهور، واحدتها صدقة، النحلة معناها في اللغة: الديانة والملة والشريعة، يقال: فلان ينتحل كذا. إذا كان يتدين به، ونحلته كذا. أي: دينه. ولهذا قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد في قوله: نحلة أي: فريضة. والخطاب للأزواج، أمروا بإيتاء النساء مهورهن تدينا، لأنه مما أوجبه الله لهن. وقال الكلبي: نحلة: هبة وعطية، يقال: نحلت فلانًا شيئًا أنحله نحلة. أي: أعطيه، والمعنى: أن الله جعل الصداق نحلة للنساء، فأمر الأزواج بإعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن، ولا مخاصمة فيه، لأن ما يأخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة. 193 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوَفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسَفَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، كِلاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ 194 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ جَدِّهِ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً صَدَاقًا وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَى أَنْ لا يُوَفِّيَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْطِهَا إِيَّاهُ، لَقِيَ اللَّهَ زَانِيًا» وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] قال الفراء، والزجاج: فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من

الصداق، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] معنى الهنيء: الطيب المساغ الذي لا ينقصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة، التام الهضم، الذي لا يضر ولا يؤذي. قال المفسرون: يقول: لا تخافون به في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة. 195 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] قَالَ: «إِذَا جَادَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا بِالْعَطِيَّةِ غَيْرَ مُكْرَهَةٍ لا يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ، وَلا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِهِ فِي الآخِرَةِ» {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا {5} وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا {6} لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا {7} } [النساء: 5-7] قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} [النساء: 5] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يقول: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله، وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم، ورزقهم ومؤنتهم. ف السفهاء هم النساء والصبيان. هذا قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والسدي. وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] قال عطاء، عن ابن عباس: قيامًا لمعايشكم، وصلاح دنياكم، قال الزجاج: التي جعله الله تقيمكم، فتقومون بها قيامًا.

قال الكسائي: القيام ههنا: اسم بمعنى القوام وهو ما يقوم به الشيء. قال ابن قتيبة: يقال: هذا قوام أمرك وقيام أمرك، أي ما يقوم به أمرك. وقرأ نافع قيما، قال الأخفش: قيامًا وقوامًا وقيمًا وقوما: واحدًا، فالقيم عنده مصدر في معنى القيام. وقال غيره: القيم: جمع قيمة، والدنانير والدرهم قيم الأشياء، واختار الزجاج هذا الوجه فقال: من قرأ قيمًا فالمعنى: أموالكم التي جعلها الله قيمًا للأشياء فبها تقوم أموركم. وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] الرزق من العباد: هو الأجر الموظف، يقال: رزق فلان عياله كذا وكذا، أي: أجرى عليهم. وإنما قال: فيها، ولم يقل منها لأنه أراد: اجعلوا لهم فيها رزقًا، كأنه أوجب ذلك لهم في المال، قال ابن عباس: يريد أنفقوا عليهم منها. ومعنى واكسوهم: ألبسوهم الثياب، يقال: كسوت فلانًا ثوبًا فاكتساه. أي: لبسه، والكسوة: ما يكتسي من الثياب. وقوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] أي: عِدَةً جميلة من البر والصلة، تقول: إذا ربحت في سفرتي هذه أحسنت إليكم، وإن غنمت في غزاتي أعطيتكم. قوله تعالى: وابتلوا اليتامى: قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: اختبروهم في عقولهم وأديانهم. وكيفية هذا الابتلاء: أن يرد إليه الأمر في نفقته عند مراهقة الحلم ليعرف كيف تدبيره وتصرفه. وإن كانت جارية يرد إليها ما يرد إلى النساء من أمور البيت وتدبير الغزل والقطن، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] أي:

حال النكاح من الاحتلام، وإنزال الماء، فإن آنستم أي: عرفتم ورأيتم، والإيناس: الإبصار، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] . وقوله: منهم رشدًا قال ابن عباس، والسدي: هو الصلاح في العقل، وحفظ المال. وقال الشافعي: الرشيد من يكون صالحًا في دينه مصلحًا لماله. وقوله: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] يقول: لا تبادروا بأكل أموالهم قبل كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا، فيلزمكم تسليم المال إليهم، {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا} [النساء: 6] من الأوصياء وأولياء اليتامى، فليستعفف أي: عن مال اليتيم، وليتركه. يقال: استعف عن الشيء، وعف عنه. إذا امتنع منه وتركه. {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وهو أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، والغني يستعف كما أمره الله، فإن أخذ الأجرة حلت له في مقابلة عمله. 196 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:

حَضَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَاسْتَفْتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْتَامٌ لِي، لَهُمْ لِقَاحٌ، أَفَأَشْرَبُ مِنْ فَضْلِ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ تَرِدُ نَادَّتَهَا، وَتَلُوطُ حَوْضَهَا، وَتَكْفِي مِهْنَتَهَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاشْرَبْ مِنْ فَضْلِ أَلْبَانِهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِأَوْلَادِهَا، وَلا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ وقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] هذا وصية من الله تعالى للأولياء بالإشهاد عليهم على دفع المال إذا دفعوه إلى الأيتام، لكي إن وقع اختلاف أمكن أن يقيم البينة على أنه رد المال إليه. قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] قال ابن عباس: مجازيًا للمحسن والمسيء. والحسيب بمعنى المحاسب، والباء في بالله زيادة، وحسيبًا منصوب على الحال، والمعنى: وكفى بالله في حال الحساب. قوله: للرجال نصيب الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي، وترك ثلاث بنات وامرأته يقال لها أم كُحة، فقام رجلان من بني عمه، فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكرت له ذلك فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية لا تورث النساء، ولا الصغار شيئًا، وإن كانوا ذكورًا، وإنما كانت

تورث الكبار ومن طاعن بالرماح، وحاز الغنيمة، فأبطل الله ذلك عليهم، وأعلم أن حق الميراث على ما ذكر من الفرض. وقوله: نصيبًا مفروضًا قال الأخفش: هو نصب على معنى: جعل لهم نصيبًا، والآية تدل على هذا لأن قوله: للرجال نصيب، وللنساء نصيب يدل على معنى: جعل لهم نصيبًا. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا {8} وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ

ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا {9} إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا {10} } [النساء: 8-10] . قوله {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] يعني: قسمة المال بين الورثة، أولو القربى: ذوو القرابات الذين يحزنون ولا يرثون، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] هذا على الندب والاستحباب، يستحب للوارث أن يرضخ لهؤلاء بشيء من التركة بقدر ما تطيب به نفسه من الذهب والورق، ويقول لهم عند قسمة العقار والرقيق، {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] وهو أن يقول: بورك فيكم. قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وإباحة الثلث للميت يجعله حيث يشاء من القرابات واليتامى والمساكين. قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} [النساء: 9] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد عنده أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: انظر لنفسك فإن ولدك لا يغنون عنك من الله شيئًا، فيقدم الرجل ماله، ويحجب ولده. وهذا قبل أن تكون الوصية في الثلث، فكره الله تعالى ذلك منهم وأنزل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] أي: أولاد صغارًا خافوا عليهم: الفقر {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 9] فليخافوا الله إذا قعدوا عند أحد من إخوانهم وهو في الموت، {وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] عدلا، وهو أن يأمره أن يخلف ماله لولده، ويتصدق بما دون الثلث، وهذا قول سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي. والسديد: العدل والصواب من القول، يقال: سددًا وسدادًا وسديدًا. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] سماه بما يئول إليه في العاقبة، كقوله: أعصر خمرًا ومنه قوله عليه السلام في الشارب من آنية الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» . 197 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُخَلَّدِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَاسَرْجَسِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: " فَإِذَا أنا بِرِجَالٍ قَدْ وُكِّلَ بِهِمْ رِجَالٌ يَفُكُّونَ لِحَاهُمْ، وَآخَرُونَ يَجِيئُونَ بِالصُّخُورِ مِنَ النَّارِ فَيَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] 198 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ

عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا، فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ؟ " وقوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] يقال: صلى الكافر النار يصلاها صلا وصلاء، وهو صال النار. إذا قاسى حرها وشدتها، ومنه قوله: {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] ، ومَن ضم الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] . والسعير النار المستعرة، يقال: سعرت النار أسعرها سعرًا وهي مسعورة وسعير. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ

كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {11} وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ {12} تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ {14} } [النساء: 11-14] . قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية 199 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةً بِابْنَتَيْنِ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ بِنْتَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَوْ قَالَتْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ

مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا وَمِيرَاثَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا إِلَّا أَخَذَهُ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا يُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، قَالَ: فَقَالَ: " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَقَالَ لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا، فَقَالَ لِعَمِّهَا: أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَلَكَ " ومعنى يوصيكم اللَّه: قَالَ الزجاج: يفرض عليكم، لأن الوصية من اللَّه فرض، والدليل عَلَى ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] ، وهذا من الفرض المحكم علينا. ثُمّ بين ما أوصى فَقَالَ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] يعني: للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين. ثُمّ ذكر نصيب الأناث من الأولاد فَقَالَ: فَإِن كن يعني الأولاد، {نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ، وأجمعت الأمة عَلَى أن: للبنتين الثلثين إِلَّا ما روي عَنْ ابْن عَبَّاس: أَنَّهُ ذهب إلى ظاهر الآية وقَالَ: الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن اللَّه تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] ، فجعل الثلثين للنساء إذا زدن عَلَى الثنتين وهذا غير مأخوذ به.

ووجه الآية، أن فوق ههنا: صلة لا معنى لَهُ، كقوله {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ، يريد: فاضربوا الأعناق. وسمى البنتين جماعة، لأن الاثنين جماعة عِنْد العرب، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وقَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فسمى التثنية باسم الجمع، فثبت بِهَذَا البيان أن ثلثي التركة للبنتين، وأن نصفها للواحدة، وَهُوَ قوله {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . وقرأ نَافِع واحدةٌ بالرفع عَلَى معنى: وإن وقعت واحدة، وتم بيان ميراث الأولاد. ثُمّ ذكر ميراث الوالدين فَقَالَ: ولأبويه يعني: أبوي الميت، وَلَم يجر لَهُ ذكر فكنى عَنْ غَيْر مذكور، {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النساء: 11] من الأبوين {السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ} [النساء: 11] للميت ولد، أو ولد ابْن، واسم الولد يقع عَلَى ما وُلِد الابن، {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] إذا مات وَلَم يخلف غَيْر أبويه كان ثلث المال للأم، والباقي للأب. وقرأ حمزة بكسر الهمزة إذا وليتها كسرة أَوْ ياء نحو: فلإمه، أَوْ بيوت إمهاتكم وَفِي إمها أتبع الهمزة ما قبلها من الياء والكسرة. قَالَ أَبُو إسحاق الزجاج: إنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة فِي قوله فلأمه وليس من كلام العرب مثل: فِعُل بكسر الفاء وضم العين. فَإِن كان للميت أخوان عاد نصيب الأم من الثلث إلى السدس، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وأجمعت الأمة عَلَى أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والأخ الواحد لَا يحجب.

وابن عَبَّاس يخالف فِي هَذِهِ المسألة وهي ما 200 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُفَسِّرُ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ، عَنِ ابْن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: إِنَّ الأَخَوَيْنِ لَا يَرُدَّانِ الأُمَّ إِلَى السُّدُسِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ وَكَلامِ الْعَرَبِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَجَرَى فِي الأَمْصَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا غَلَطٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ لأَنَّ الاثْنَيْنِ يُسَمَّيَانِ بِالْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ حكى سِيبوَيْه: أن العرب تَقُولُ: قَدْ وضعا رحالهما، يريدون: رحلي راحلتيهما. وقَالَ ابْن الأنباري: التثنية عِنْد العرب أول الجمع، ومشهور فِي كلامهم إيقاع الجمع عَلَى التثنية، ومن ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، يعني حكم دَاوُد وسليمان عليهما السَّلَام.

قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] أَي: هَذِهِ الأنصبة إِنَّمَا تقسم بعد قضاء الدّين وإنفاذ وصية الميت فِي ثلثه. وقرئ: يوصي بفتح الصاد وكسرها، فَمنْ كسر فلأن المعنى من بعد وصية يوصيها الميت، ومن فتح الصاد: فَإنَّهُ يئول فِي المعنى إلى يوصى، ألا ترى أن الموصي هُوَ الميت. وقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] أَيّ: إنكم لَا تدرون أَيّ هَؤُلَاءِ أنفع لَكُمْ فِي الدُّنْيَا فتعطونه من الميراث ما يستحق، وَلَكِن اللَّه تَعَالَى قَدْ فرض الفرائض عَلَى ما هو عِنْده حكمه منه، ولو وكل ذَلِكَ إليكم لَمْ تعلموا أيهم أنفع لَكُمْ فأفسدتم وضيعتم، وهَذَا معنى قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11] . قال عطاء: كان عليما بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيما حيث فرض للصغار مع الكبار. 201 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حُمْرَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَابِرٍ الْهَجَرِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهَ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهَ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرِؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» 202 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَأَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ أَبِي الْعَطَّافِ، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرْضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ يُنَسَّى، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» ثُمّ بين اللَّه تَعَالَى ميراث الأزواج فَقَالَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] كُلّ امرأة ماتت وَلَا وُلِد لها كان لزوجها نصف ميراثها، فَإِن كان لها وُلِد كان للزوج الربع وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] يعين: أن الميراث إِنَّمَا يستحق بعد إنفاذ الوصية وقضاء الدّين. وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12] يعني: للمرأة ربع المال إذا لَمْ يَكُنْ للزوج وُلِد، فَإِن كان للزوج وُلِد كان للمرأة الثمن، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] إلى ههنا بيان ميراث الأزواج والزوجات. ثُمّ بين ميراث وُلِد الأم فَقَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ} [النساء: 12] كُلّ من مات وَلَا وُلِد لَهُ وَلَا والد فهو كلالة ورثته، وكل وارث لَيْسَ بوالد للميت فهو كلالة مورثة. فالكلالة: اسم يقع عَلَى الوارث والموروث، إذا كانا بالصفة التي ذكرنا. يُقَالُ: رَجُل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لَا تثنى وَلَا تجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة. يُقَالُ: كلّ الرَّجُل يكل كلالة، أَيّ: صار كلًّا، وَهُوَ الَّذِي لَا وُلِد لَهُ وَلَا والد، والمراد بالكلالة فِي هَذِهِ الآية: الأخ للأم إذا مات.

قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] يعني: من الأم بإجماع المفسرين، وكذلك فِي قراءة سعد بن أَبِي وَقَّاص وَلَهُ أخ أَوْ أخت من أُمّه. {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية عَطَاء: وَلَهُ أخ أَوْ أخت من أُمّه فلكل واحد منهما السدس، وفرض الواحد من وُلِد الأم السدس، فَإِن كانوا أكثر من واحد اشتركوا فِي الثلث، الذكر والأنثى فِيه سواء، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] أَيّ: غَيْر مدخل الضرر عَلَى الورثة، وَهُوَ أن يوصي بدين لَيْسَ عَلَيْه، يريد بِذَلِك ضرر الورثة، فمنع اللَّه منه. وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] قَالَ ابْن عَبَّاس: فريضة من اللَّه، واللَّه عليم بما دبر من هَذِهِ الفرائض حليم عمن عصاه بأن أخر عقوبته وقبل توبته. قوله جلَّ جلاله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد ما حد اللَّه من فرائضه فِي الميراث، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] فِي شأن المواريث، يدخله جنات وقرأ نَافِع بالنون والمعنى فِيهِ كالمعنى بالياء. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] قَالَ مُجَاهِد: فيما افترض من المواريث، وقَالَ عِكْرمَة عَنْ ابْن عَبَّاس: من لَمْ يرض بقسم اللَّه، ويتعد ما قَالَ اللَّه يدخله نارا خالدا فيها، {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] . {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا

فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا {15} وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا {16} إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {18} } [النساء: 15-18] قوله جلَّ جلاله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] أَيّ: يفعلن الزنا، {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] أَيّ: من الْمُسْلِمِين، فَإِن شهدوا عَلَيْهَا، بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] احبسوهن فِي السجون {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ، وكان هَذَا فِي ابتداء الْإِسْلَام: المرأة إذا زنت حبست فِي البيت حَتَّى تموت، والرجل إذا زنى أوذي بالتعيير والضرب بالنعال، فنزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآية، هَذَا حُكم البِكر. فَإِن كانا محصنين رجما بسنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سبيلهما الَّذِي جعله اللَّه لهما فِي قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] . 203 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ حَطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا وَالْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى، وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ» .

رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ 204 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» قوله: واللذان: قرأ ابْن كثير بالتشديد، وكذلك: هذان، وهاتين، جعل التشديد عوضا من الحذف الَّذِي لحق الكلمة ألا ترى أن قولهم ذا قَدْ حذف لامُها، وقد حذفت الياء من اللذان وهذان، وكان حقهما فِي التثنية: اللذيان، وهذيان فجعل التشديد فيه عوضا من الحرف المحذوف عَنْهُ فِي التثنية. وقوله: يأتيانها منكم يعني: الفاحشة، والمعنى: يفعلان الزنا، فآذوهما يعني التعيير باللسان والتوبيخ كَمَا ذكرنا. قوله: فَإِن تابا: من الفاحشة، وأصلحا: العمل فيما بعد، فأعرضوا عَنْهُمَا: فاتركوا أذاهما، وَقَدْ ذكرنا حكم هَذِهِ الآية فِي التي قبلها. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] معنى التواب فِي صفة اللَّه تَعَالَى: أَنَّهُ يتوب عَلَى عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إِلَيْهِ من ذنبه. قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] أَيّ: التوبة التي أوجب اللَّه بفضله عَلَى نفسه {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أن ذنب الْمُؤْمِن جهل منه. وقَالَ السُّدِّيّ: كُلّ من عصى اللَّه تَعَالَى فهو جهالة

عمدا كان أو غير ذَلِكَ. قَالَ الزجاج: معنى الجهالة ههنا: أنهم فِي اختيارهم اللذة الفانية عَلَى اللذة الباقية جهال. وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية الوالبي: القريب: ما بينه وبَيْنَ أن ينظر إلى ملك الموت. وقَالَ فِي رواية عَطَاء: ولو قبل الموت بفواق ناقة. 205 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدةُ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ تَوْبَتَهُ» قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [النساء: 18] قَالَ عَطَاء عَنْ ابْن عَبَّاس: يريد الشرك.

وقَالَ عكرمه عَنْهُ فِي هَذِهِ الآية: هُمْ أَهْل الشرك. وقَالَ سَعِيد بن جُبَيْر: نزلت الأولى فِي الْمُؤْمِنِين. يعني قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] الآية، والوسطى فِي المنافقين. يعني قوله: وليست التوبة والأخرى فِي الكافرين. يعني: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] . ومعنى الآية: لَا توب لمشرك، وَلَا لمنافق إذا تاب عِنْد حضور الموت، وَهُوَ النظر إلى ملك الموت، وَلَا لمن مات كافرا، لأن التوبة لَا تقبل فِي الآخرة. {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18] أَيّ: هيَّانا وأعددنا، يُقَالُ: أعتدت الشرع فهو معتد وعتيد. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا {19} وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {20} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {21} } [النساء: 19-21] قوله عَزَّ وَجَلّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] الآية: قَالَ ابْن عَبَّاس والمفسرون: كان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لَمْ يزوجوها فنزلت، هَذِهِ الآية. وأعلم اللَّه أن ذَلِكَ حرام، وأن الرَّجُل لَا يرث المرأة من الميت، وقرئ: كرها بفتح الكاف وضمها،

وهما لغتان كالفقر والفقر، والضعف والضعف، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] المنهي عَنْ العضل ههنا الأزواج، نهوا أن يمسكوهن إذا لَمْ يَكُنْ لهم فيهن حاجة إضرارا بهن حَتَّى يفتدين ببعض مهورهن. وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] يعني: الزنا. فِي قول عَطَاء، والحسن، والسدي. وقَالَ ابْن مَسْعُود، وقَتَادَةَ: هِيَ النشوز. فإذا زنْت امرأة تحت رَجُل، أَوْ نشزت عَلَيْه حل لَهُ أن يسألها الخلع، وأن يضارها ويسيء معاشرتها لتفتدي منه بالمهر. ثُمّ قَالَ: وعاشروهن بالمعروف يعني: قبل الإتيان بالفاحشة. قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد اصحبوهن بما يجب لهن عليكم من الحق. قَالَ الزجاج: هُوَ النصفة فِي المبيت والنفقة، والإجمال فِي القول. وقوله: فَإِن كرهتموهن إلى قوله خيرًا كثيرًا: قَالَ عَطَاء: يريد فيما كرهتم مما هُوَ للَّه رضا خير كثير، وثواب عظيم. قَالَ المفسرون: الخير الكثير فِي المرأة المكروهة: الولد الصالح، وربما يَكُون فرطا. قوله جلَّ جلاله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] قَالَ الوالبي عَنْ ابْن عَبَّاس: إن كرهتَ امرأتك وأعجبك غيرها، فأردت أن تطلق هَذِهِ وتتزوج تِلْكَ، فلا يحل لك أن تأخذ من مهر التي كرهتَ شيئًا، وإن كثر وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] أَيّ: لَا ترجعوا فيما أعطيتموهن من المهر إذا كرهتموهن، وأردتم طلاقهن.

وقوله: أتأخذونه بهتانا أَيّ: ظلما وهذا استفهام إنكار، قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أن أخذك إياه بعدما دخلت بها بهتان وإثم عظيم. ثُمّ قَالَ عَلَى وجه الإنكار والتوبيخ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] أَيّ: وصل بعضكم إلى بعض بالجماع، ولا يجوز للزوج الرجوع فِي شيء من المهر بعد المسيس. والإفضاء معناه الوصول، يُقَالُ: أفضى إِلَيْهِ، أَيّ: وصل إليه بالملامسة معه. وقوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] قَالَ أكثر المفسرين: هُوَ قولهم عِنْد العقد: زوجتكها عَلَى ما أَخَذَ اللَّه للنساء، من إمساك بمعروف أَوْ تسريح بإحسان. وقَالَ أَبُو العالية: أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه. {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا {22} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {23} وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ

بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {24} وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {25} يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {26} وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا {27} يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا {28} } [النساء: 22-28] قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] كَانَتْ العرب يتزوج الرَّجُل امرأة أَبِيهِ من بعد موته التي ليست بأمه، فنهى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ وحرمه. وقوله: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] يعني: لَكُمْ ما قَدْ سلف فَإِن اللَّه تجاوز عَنْهُ، وسلف معناه: تقدم ومضى، يُقَالُ: سلف يسلف سلوفا فهو سالف. وقوله: إنَّه أَي: إن ذَلِكَ النكاح كان فاحشة: قبيحا ومقتا: وَهُوَ أشد البغض، يُقَالُ: مقته يمقته مقتا. وهذا إخبار عما كان فِي الْجَاهِلِيَّة، أعلموا أن هَذَا الَّذِي حرم عليهم لَمْ يزل منكرا فِي قلوبهم، ممقوتا عندهم. وقوله: وساء سبيلا أَيّ: قبح هَذَا الفعل طريقا، يُقَالُ: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح. قوله جلَّ جلاله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] كُلّ امرأة يرجع نسبك بالولادة إليها من جهة أبيك، أَوْ من جهة أمك بإناث رجعت إليها، أَوْ بذكور فهي أمك. وقوله: وبناتكم: كُلّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أَوْ بدرجات بإناث أَوْ ذكور فهي بنتك. وقوله: وأخواتكم: كُلّ أنثى ولدها شيء ولدك فِي الدرجة الأولى فهي أختك. وقوله: وعماتكم: هِيَ جمع العمّة، وكل ذكر رجع نسبك إِلَيْهِ فأخته عمتك، وَقَدْ تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أَبِي أمك.

وقوله: وخالاتكم: كُلّ أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وَقَدْ تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك. وقوله: وبنات الأخ التحديد فِي هؤلاء كالتحديد فِي بِنْت الصلب، وهؤلاء النسوة اللاتي ذكرن من محرمات بالنسب. ثُمّ ذكر المحرمات بسبب حدث، فَقَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وهؤلاء سميت أمهات للحرمة كأزواج النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماهن اللَّه تَعَالَى أمهات الْمُؤْمِنِين، فكل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك فالتي أرضعتك أَوْ أرضعت امرأة أرضعتك أَوْ رَجُلًا أرضعك فهي أمك. وقوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] أخوات الرضاعة ثلاث: وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أَوْ مَعَ وُلِد قبلك أَوْ بعدك، وأم الرضاعة وأخت الرضاعة لَمْ تحرما، فكان الرضاع سبب تحريمهما. 206 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ الْجَرَشِيُّ فِي دَارِ السُّنَّةِ إِمْلاءً سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ» . فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّبْعَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مُحَرَّمَاتٌ بِاللَّبَنِ وقوله: وأمهات نسائكم: حد أم امرأتك كحد أمك سواء كَانَتْ من اللبن أَوْ من النسب، وهي تحرم بنفس

العقد عَلَى زوج بنتها لأن اللَّه تَعَالَى أطلق التحريم وَلَم يقيده بالدخول، وقوله: وربائبكم: جمع الربيبة وهِيَ بِنْت امرأة الرَّجُل من غيره. وقوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] يعني: اللاتي ربيتموهن فِي حجوركم، وهي جمع حجر الْإِنْسَان. والمعنى: فِي ضمانكم وتربيتكم. والربيبة لَا تحرم بمجرد العقد على الأم، وإنما تحرم بالدخول بالأم لقوله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] أَيّ: فِي نكاح الربائب إذا لَمْ تدخلوا بالأمهات. وقوله: وحلائل أبنائكم: الحليل والحليلة: الزوج والمرأة، سميا بِذَلِك لأنهما يحلان فِي موضع واحد. وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] إحتراز عَنْ المُتبنَّى، وكان المبتنى فِي صدر الْإِسْلَام بمنزلة الابن، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] يحرم عَلَى الرَّجُل أن يجمع فِي النكاح بين أختين فِي النسب أَوْ باللبن. وقوله: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] قَالَ الكلبي: مضى فِي الْجَاهِلِيَّة فإنكم لَا تؤاخذون به فِي الْإِسْلَام، وهم كانوا يجمعون فِي الْجَاهِلِيَّة بين الأختين، فحرم اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ رحمة لهذه الأمة، إذ علم شدة غيرة النّساء بعضهن عَلَى بعض. قَالَ ابْن عَبَّاس: كان أَهْل الْجَاهِلِيَّة يحرمون ما حرم اللَّه إِلَّا امرأة الأب والجمع بين الأختين. قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعني: ذوات الأزواج وهن محرمات عَلَى كُلّ أحد إِلَّا عَلَى أزواجهن لذلك عطفن عَلَى المحرمات فِي الآية التي قبلها. والإحصان يقع عَلَى معان منها: الحرية كقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] يعني: الحرائر، ومنها: العفاف كقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] يعني: عفائف، ومنها: الْإِسْلَام، من ذَلِكَ قوله: فإذا أحصن أَيّ: أسلمن، ومنها: كون المرأة ذات زوج من ذَلِكَ قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] . ثُمّ استثنى من ذوات الأزواج فَقَالَ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] يريد: إِلَّا ما ملكتموهن بالسبي من دار الحرب، فَإِنَّهَا تحل لمالكها، ولَا عدة عَلَيْهَا فتستبرأ بحيضة وتوطأ. 207 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا

سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا سَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ أَوْطَاسَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقَعُ عَلَى نِسَاءٍ قَدْ عَرَفْنَا أَنْسَابَهُنَّ وَأَزْوَاجَهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وإذا وقع السباء على الزوجين الحربيين أو على أحدهما انقطع النكاح بينهما، وكان من سبي أوطاس خلق كثير وقع السبي عليهم مع نسائهم، ونادى منادي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا لَا توطأ حامل حَتَّى تضع، وَلَا حائل حَتَّى تحيض حيضة، فأباح وطأهن بعد الاستبراء لانفساخ نكاحهن. قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد هَذَا ما حرم، يعني كتب تحريم ما ذِكْرُ مَنْ النّساء عليكم. قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقرئ بضم الألف، والفتح أشبه بما قبله، لأن معنى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] كتب اللَّه عليكم كتابا، وأحل لَكُمْ فبناء الفعل للفاعل هنا. ومن بنى الفعل للمفعول به، فَقَالَ: وأُحل لَكُم فهُو فِي المعنى يئول إلى الأولى وذلك مراعاة ما قبله، وَهُوَ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، ومعنى {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ما سوى هَذِهِ النّساء اللاتي حرمت.

وقوله: أن تبتغوا أَيّ: تطلبوا، بأموالكم: إمّا بنكاح وصداق، أَوْ بملك وثمن، محصنين: متعففين عَنْ الزنا، غَيْر مسافحين: غَيْر زانين، والسفاح والمسافحة: الزنا. وقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] يعني: فَمَا استمتعتم وتلذذتم من النّساء بالنكاح الصحيح، فآتوهن أجورهن: مهورهن، فريضة: فَإِن استمتع بالدخول بها آتى المهر تاما، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر. وقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] قَالَ الزجاج: لَا إثم عليكم فِي أن تهب المرأة للزوج مهرها، أَوْ يهب الرَّجُل للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [النساء: 35] بما يصلح أمر العباد، حكيما: فيما بين لهم من عقد النكاح. قوله جلَّ جلاله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الطول الغَناء والسعة والقدرة، يُقَالُ: فُلان ذو طول أَيّ: ذو قدرة فِي ماله، يراد بالقدرة ههنا: القدرة عَلَى المهر. وقوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] يريد الحرائر، فَمَنْ فتَح الصاد أراد: أنهن أحصن لحريتهن وَلَم تبتذلن كالإماء فهن محصَنات، ومن كسر الصاد أراد: أنهن أحصن أنفسهن لحريتهن وَلَم يبرزن بروز الأمة فهن محصِنات. وقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] أَيّ: فليتزوج مما ملكت أيمانكم، قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد جَارِية أخيك فِي الْإِسْلَام وَهُوَ أن يتزوج الرَّجُل بمن يَمْلك غيره مِمَّنْ تكون عَلَى مثل حاله فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الفتيات: المملوكات والإماء جمع فتَاة، تَقُولُ العرب للأمة: فتاة وللعبد: فتى وأفاد التقييد

ب المؤمنات: أنه لَا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، وَهُوَ قول مُجَاهِد، وسعيد، والحسن، ومذهب مَالِك، والشافعي. وعند أَبِي حنيفة يجوز التزوج بالأمة الكتابية، والآية حجة عَلَيْه. وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} [النساء: 25] قَالَ الزجاج: أَيّ: اعملوا عَلَى الظاهر من الْإِيمَان فإنكم محاسبون بما ظهر، واللَّه يتولى السرائر والحقائق. وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] أَيّ: فِي النسب كلكم بنو آدم، فلا يتداخلنكم الأنفة من تزوج الإماء عِنْد الضرورة. وقوله جلَّ جلاله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أخطبها إلى سيدها. ونكاح الأمة دون إذن السيد باطل. وقوله: وآتوهن أجورهن أَيّ: مهورهن بالمعروف من غَيْر مطِل وَلَا إضرار. وقوله: محصنات يريد: عفائف، غَيْر مسافحات غَيْر زوان، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] جمع خدن وَهُوَ الَّذِي يخادنك. قَالَ قَتَادَة، والضحاك: المسافحة: هِيَ التي تؤجر نفسها معلنة بالزنا، والتي تتخذ الخدن: هِيَ التي تزني سرا. وكانت العرب فِي الْجَاهِلِيَّة يعيبون الزنا العلانية، وَلَا يعيبون اتخاذ الأخدان، فجاء اللَّه تَعَالَى بالإسلام، فهدم ذَلِكَ وقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] . قَالَ قَتَادَة: نهى اللَّه تَعَالَى عَنْ نكاح المسافحة، وذات الخدن. وقوله: فإذا أحصن أَيّ: الأزواج عَلَى معنى تزوجن، ومن فتح الألف، فمعناه أسلمن، والإحصان

معناه فِي اللغة: المنع، ومنه قوله: أحصنت فرجها أَيّ: منعته عَنْ الزنا. وقوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] أَي زنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أَي عليهن نصف الحد، والمحصنات ههنا: الأبكار اللاتي أحصنهن العفاف، وحدهن مائة، ويتنصف فِي حق الأمة إذا زنت. وقوله: ذَلِكَ يعني: نكاح الأمة عِنْد عدم الطوْل، {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] يعني: الزنا وَهُوَ أن يخاف شدة الشبق والغلمة عَلَى الزنا، فيلقى العذاب فِي الآخرة، أَوْ الحد فِي الدُّنْيَا. أباح اللَّه نكاح الأمة بشرطين: أَحَدهمَا فِي أول الآية، وَهُوَ عدم الطول، والثاني فِي آخر الآية وَهُوَ خوف العنت. ثُمّ قَالَ: وأن تصبروا أَيّ: عَنْ تزوج الإماء، خير لَكُمْ: لئلا يصير الولد عبدا، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25] . قوله جلَّ جلاله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] قَالَ ابْن عَبَّاس: ليبين لَكُمْ ما يقربكم إلى طاعته. وقَالَ غيره: ليبين لَكُمْ شرائع دينكم، ومصالح أموركم. {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] يريد: دين إِبْرَاهِيم وإسماعيل، دين الحنيفية، ويتوب عليكم: يرجع بكم من معصيته التي كنتم عَلَيْهَا قبل هَذَا إلى طاعته التي أمركم بها، والله عليم بما يصلحكم، حكيم فِي تدبيره فيكم. {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] يخرجكم من كُلّ ما يكره إلى ما يحب ويرضى، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء: 27] قَالَ مُجَاهِد: هُمْ الزناة يريدون أن يزني أَهْل الْإِسْلَام، وَهُوَ قوله: {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا} [النساء: 27] . وقَالَ ابْن زَيْد: هُمْ جميع أَهْل الباطل فِي دينهم، يريدون أن تميلوا ميلا عظيما عَنْ الحق وقصْد السبيل بالمعصية فتكونوا مثلهم. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] يعني: فِي أحكام الشرع، وَفِي جميع ما يسَّره اللَّه لنا، وسهَّله علينا، وَلَم يثقل التكليف كَمَا ثقل عَلَى بني إسرائيل.

{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] قَالَ ابْن عَبَّاس والأكثرون: يضعف عَنْ الصَّبْر عَنْ الجماع، وَلَا يصبر عَنْ النّساء، فلذلك أباح اللَّه لَهُ نكاح الأمة. قَالَ الزجاج: أَيّ يستميله هواه وشهوته فهو ضَعِيف فِي ذَلِكَ. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {29} وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {30} } [النساء: 29-30] قوله عَزَّ وَجَلّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] أَيّ: بما لَا يحل لَكُمْ فِي الشرع، كالربا والغصب والسرقة والخيانة. والباطل: اسم جامع لكل ما لا يحل. نهى اللَّه تَعَالَى بهذه الآية عَنْ جميع المكاسب الباطلة بالشرع، ثُمّ قَالَ {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] أَيّ: إلا أن تقع تجارة برضاء البَيِّعَيْن، يرضى كُلّ واحد منهما بما فِي يده. وقرئ تجارةً بالنصب عَلَى تقدير: إِلَّا أن تكون التجارة تجارة، كَمَا قَالَ: إذا كان يومًا ذا كواكب أشنعا أَيّ: إذا كان اليوم يومًا. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيّ: لَا يقتل بعضكم بعضا، لأنكم أَهْل دين واحد، فأنتم كنفس واحدة. هَذَا قول ابْن عَبَّاس والأكثرين. وذهب قوم إِلَى أن هَذَا نهي عَنْ قُتِل الْإِنْسَان نفسه، ويدل على صحة هَذَا التأويل ما 208 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ، عَنْ

يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَنَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّه يَقُولُ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَم يَقُلْ شَيْئًا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَمْرًا تَأَوَّلَ فِي الآيَةِ إِهْلاكَ نَفْسِهِ، لا نَفْسَ غَيْرِه وَلَم يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله جلَّ جلاله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء: 30] كان ابْن عَبَّاس يَقُولُ: الإشارة تعود إلى كُلّ ما نهي عَنْهُ من أول ال { [إلى هَذَا الموضع. وقَالَ قوم: الوعيد راجع إلى أكل المال بالباطل وقُتِل النَّفْس المحرمة. وقوله:] عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [سورة النساء: 30] : معنى العدوان: أن يعدوا ما أمر اللَّه تَعَالَى به، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] أَيّ: إنَّه قادر عَلَى إيقاع ما توعد به من إدخال النار. قوله عَزَّ وَجَلّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية، الاجتناب: المباعدة عَنْ الشيء وتركه جانبا، واختلفوا فِي الكبائر ما هِيَ؟ 209 - فأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ

إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْريُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرَ الْكَبَائِرِ؟ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا قَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَفْصٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ النَّاقِد كِلَاهُمَا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُليَّةَ 210 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَأَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: أَعْظَمُهُنَّ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُنَّ كَانَ مَعِي فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ، مَصَارِيعِهَا مِنْ ذَهَبٍ "

وقَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية الوالبي: الكبائر كُلّ ذنب ختمه اللَّه بنار، أَوْ غضب، أَوْ لعنة، أَوْ عذاب، وقَالَ فِي رواية ابْن سِيرِينَ: كُلّ ما نهي عَنْهُ فهو كبيرة. وقَالَ الْحَسَن، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك: كُلّ ما جاء فِي القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة نحو: قُتِل النَّفْس، وقذف المحصنة، والربا، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف. 211 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفةَ، حَدَّثَنَا سَهْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْن عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَمِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ سَبْعُ مِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا {31} وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {32} وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا {33} الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ

فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا {34} } [النساء: 31-34] وقوله: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يعني: ما دون الكبائر ومثل النظر والكذبة واللمسة والقبلة. وهذه تقع مكفرة بالصلوات الخمس. 212 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ مَوْلَى زَائِدَةَ حَدَّثَه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مَكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» 213 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُحَدِّثُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ شَابًّا حَدَثًا، وَلَا شَيْخًا مَارِقًا، أَلَا إِنَّ الشَّفَاعَةَ لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» قَالَ: ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآية {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [النساء: 31] وقرئ مَدخلا بفتح الميم عَلَى تقدير: وندخلكم فتدخلون مدخلا، ومن قرأ بضم الميم جاز أن يَكُون مصدرا، وجاز أن يكون مكانا، والأوْلى أن يَكُون مكانا لأن المفسرين قَالُوا فِي قوله مدخلا كريما: هُوَ الجَنَّة. قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ} [النساء: 32] الآية، قَالَ مُجَاهِد: قَالَتْ أم سَلَمَة: يغزو الرجال وَلَا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا كُنَّا رجالا، فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فنزلت هَذِهِ الآية. وَفِي هَذِهِ الآية نهي أن يتمنى أحد مال غيره، فَإِن ذَلِكَ هُوَ الحسد، وَقَدْ جاء فِي الْحَدِيث: " لَا يتمنين أحدكم مال أَخِيهِ، وَلَكِن ليقل: اللَّهُمَّ ارزقني، اللَّهُمَّ أعطني مثله ". وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} [النساء: 32] أَيّ: من الجهاد، {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] حفظ فروجهن،

وطاعة أزواجهن، أَيّ: لكل واحد من الفريقين حظ من الثواب، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] أَيّ: إن احتجتم إلى مال غيركم، وأعجبكم أن يَكُون لَكُمْ مثل ماله، فسلوا اللَّه أن يعطيكم مثل ذَلِكَ من فضله. 214 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» قوله عَزَّ وَجَلّ: ولكل أَيّ: ولكل واحد من الرجال والنساء، جعلنا موالي: قَالَ ابْن عَبَّاس، ومجاهد، وقَتَادَةَ، وابن زَيْد: عصبة. وقَالَ السُّدِّيّ: ورثة. {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] أَيّ: يرثون، أَوْ يعطون ما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم لَهُ، والذين عاقدت أيمانكم يعني: الحلفاء فِي قول جميع المفسرين. وكان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يعاقد الرَّجُل، وَيَقُولُ لَهُ: دمي دمك، وناري نارك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، فَلَمَّا قام الْإِسْلَام جعل للحليف السدس، وَهُوَ قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثُمّ نسخ ذَلِكَ بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] .

وقرئ عقدت وكلا القرائتين معناهما واحد، أَيّ: أحكمت أيمانكم، والأيمان: يحتمل أن يَكُون جمع يمين من: اليد، ويحتمل أن يَكُون من: القسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، ويأخذ بعضهم بيد بعض عَلَى الوفاء والتمسك بالعهد، ويتحالفون عَلَيْه أيضًا. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33] قَالَ عَطَاء: يريد لَمْ يغب عَنْهُ علم ما خلق وبرأ. قوله جلَّ جلاله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] الآية، قَالَ المفسرون: لطم رَجُل امرأته، فجاءت إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب القصاص، فنزلت هَذِهِ الآية. ومعنى قوله: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] مسلطون عَلَى تأديبهن، والأخذ فوق أيديهن، فعلى المرأة أن تطيع زوجها فِي طاعة اللَّه. والقوام: المبالغ فِي القيام، يُقَالُ: هَذَا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويحفظها. قَالَ المفسرون: وليس بين المرأة وزوجها قصاص إِلَّا فِي النَّفْس والجروح، وكان النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أوجب القصاص فِي اللطم، فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قَالَ: «أردنا أمرا، وأراد اللَّه أمرا، وَالَّذِي أراد اللَّه خير» . ورفع القصاص. وقوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] يعني: بما فضل اللَّه الرجال عَلَى النّساء بالعقل والجسم والعلم والعزم والجهاد وَالشَّهَادَةِ والميراث. وقوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] يعني: المهر والإنفاق عليهن. 215 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا»

216 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ، أَنَّ عَمَّتَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَكِ بَعْلٌ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا أَعْجِزُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ " وقوله: فالصالحات يعني النّساء الصالحات، قانتات: مطيعات لأزواجهن، حافظات للغيب: قَالَ مُجَاهِد، وقَتَادَةَ: لغيب أزواجهن. وقَالَ أَبُو روق: يحفظن فروجهن فِي غيبة أزواجهن. {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أَيّ: بما حفظهن اللَّه فِي إيجاب المهر والنفقة وإيصاء الزوج بهن. {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] والنشوز ههنا: معصية الزوج وَهُوَ الترفع عَلَيْه بالخلاف، قَالَ عَطَاء: هِيَ أن لَا تتعطر لَهُ، وتمنعه نفسها، وتتغير عما كَانَتْ تفعله من الطواعية. فعظوهن: بكتاب اللَّه وذكروهن اللَّه وما أمرهن به، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أن يوليها ظهره عَلَى الفراش وَلَا يكلمها، وقَالَ

الشَّعْبِيّ، ومجاهد: هُوَ أن يهجر مضاجعتها فلا يضاجعها. واضربوهن يعني: ضربا غَيْر مبرح، قَالَ ابْن عَبَّاس: أدبا مثل اللكزة. وللزوج أن يتلافى نشوز امرأته بما أذن اللَّه لَهُ فِيهِ، ومما ذكر فِي هَذِهِ الآية. فإن أطعنكم أَيّ: فيما يلتمس منهن، {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تتجنوا عليهن العلل. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا {35} وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا {36} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {37} } [النساء: 35-37] قوله جلَّ جلاله: وإن خفتم أي: علمتم شقاق بينهما أي: عداوة وخلاف ما بينهما، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} [النساء: 35] المأمور ببعث الحكمين السلطان الذي يترافع الزوجان فيما شجر بينهما إليه، والحكم بمعنى الحاكم وهو المانع من الظلم. وقوله: {مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أي: من أقارب هذا وأقارب تلك، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] قال عامة المفسرين: إن أراد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوج والمرأة حتى يصطلحا.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [النساء: 35] بما في قلب الزوجين من المودة، خبيرا: بما يكون منهما. قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] 217 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عَائِذٍ، عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّهُمْ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَأَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ " 218 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ السُّكَّرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْصِنِي , قَالَ: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلا تَدَعِ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنَّهَا ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ»

قوله: وبالوالدين إحسانا قال ابن عباس: برا بهما مع اللطف ولين الجانب، ولا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما. وبذي القربى: قال: يصله ويتعطف عليه، واليتامى: يرفق بهم، ويدنيهم، ويمسح رأسهم، والمساكين: ببذل يسير أو، رد جميل، {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] يعني: الذي بينك وبينه قرابة، فله حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام، والجار الجنب: هو الذي ليس بينك وبينه قرابة، يقال: رجل جنب. إذا كان غريبا متباعدا عن أهله، وقوم أجناب. والجنابة: البعد. 219 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» 220 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ،

قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَبِأَيِّهِمَا أَبْدَأُ؟ فَقَالَ: بِأَقْرَبِهِمَا مِنْكُمْ بَابًا "، رَوَاهُ الْبُخَارِيِّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ شُعْبَةَ 221 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِيَنَّ جَارَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ , عَنْ حَرْمَلَةَ , عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيّ 222 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَيَانٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَسْنَوَيْهِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي، حَدَّثَنَا أَبُو هُدْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْجَارَ لَيَتَعَلَّقُ بِالْجَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَوْسَعْتَ عَلَى أَخِي وَقَتَّرْتَ عَلَيَّ، أُمْسِي طَاوِيًا بَطْنِي، وَيُمْسِي هَذَا شَبْعَانَ، سَلْهُ لِمَ أَغْلَقَ بَابَهُ عَنِّي وَحَرَمَنِي مَا قَدْ أَوْسَعْتَ عَلَيْهِ، فَالْجَارُ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وقوله والصاحب بالجنب قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والحسن، والسدي، والضحاك: هو الرفيق في السفر، له حق الجوار، وحق الصحبة. وابن السبيل: هو الضيف يجب قراه إلى أن يبلغ حيث يريد، قال ابن عباس: هو عابر السبيل تئويه، وتطعمه حتى يرحل عنك.

{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] يريد: المملوك، تحسن رزقه، وتعفو عنه فيما يخطئ. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36] قال ابن عباس: يريد بالمختال: العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله، والفخور: الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته وما أعطاه من نعمته. 223 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ شَابٌّ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ مُخْتَالا فَخُورًا، إِذِ ابْتَلَعَتْهُ الأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ تَقُومُ السَّاعَةُ» 224 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاءِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» 225 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَسَّانٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى اللَّخَمِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي

حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: انْطَلَقْنَا حَاجِّينَ فَمَرَرْنَا عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقُلْنَا: حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثَلاثَةٌ لا خَلاقَ لَهُمُ: الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ , ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36] ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي لا يَفْعَلُ خَيْرًا إِلَّا مَنَّ بِهِ، ثُمَّ قَرَأَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] ، وَالَّذِي يَشْتَرِي بِيَمِينِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77] قوله عز وجل: الذين يبخلون: نزلت في اليهود , قال قتادة: هم أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدا، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. قال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يَصْدُقُوا مَن أتاهم صفةَ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته , وأمروا قومهم بالبخل وهو كتمان أمره، وذلك قوله: {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] . وقرئ بالبخل وهما لغتان، مثل: الثكلي والثكل. قال: يأمرون سفلتهم بكتمان نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] قال ابن عباس: يريد العلم بما في التوراة مما عظم الله به أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. ثم أوعدهم بالنار فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] ، وهو النار يذلهم الله فيها ويخزيهم. {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ

قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا {38} وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا {39} إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا {40} فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا {41} يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا {42} } [النساء: 38-42] قوله جل جلاله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء: 38] نزلت في المنافقين، كانوا ينفقون أموالهم رياء، لا لوجه الله {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء: 38] قال الكلبي: هذا في الآخرة، يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار، يقرن مع كل كافر. يقول الله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء: 38] صاحبا، فساء قرينا يقول: بئس الصاحب الشيطان. قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 39] الآية، هذا احتجاج على هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله بأنهم لا يؤمنون بالله، وذلك أن الإنسان يحاسب نفسه فيما عليه وله، فإذا ظهر لها عليه في فعل شيء من استحقاق العقاب تركه، وإذا ظهر ما يستحق من الثواب في عمل شيء عمله، ولزم ذلك الشيء، يقول الله: ليتفكروا ولينظروا ماذا عليهم في الإيمان لو آمنوا. وهذا حث من الله تعالى لهم على الإيمان والنظر في شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدقه، والإنفاق في سبيل الله، وهو قوله: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39] ، قال ابن عباس: تصدقوا مما تفضل الله به عليهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء: 39] يعلم ما ينفقون رياء. قوله جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] قال عطاء، عن ابن عباس: لا ينقص مثقال ذرة من عمل منافق إلا جازاه، {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} [النساء: 40] أي: وإن تكن الذرة حسنة. ومن قرأ بالرفع كان المعنى: وإن تحدث حسنةٌ، أو إن تقع حسنةٌ.

قال ابن عباس: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} [النساء: 40] يريد: من مؤمن. يضاعفها: بعشرة أضعافها. وقال السدي: هذا عن الحساب والقصاص، فمن بقي له من الحساب مثقال ذرة يضاعفها الله إلى سبع مائة ضعف، وإلى الأجر العظيم، وهو قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] يعني: تفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف، وقال الكلبي: «الأجر العظيم» : الجنة. قوله جل جلاله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] الآية، قال الزجاج: أي: فكيف يكون حال هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله من المنافقين والمشركين يوم القيامة، وهو قوله {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، قال المفسرون: يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها. وجئنا بك يا محمد، على هؤلاء: المنافقين والمشركين، شهيدا تشهد عليهم بما فعلوا. 226 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، قَالَ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ فَقَرَأْتُ حَتَّى بَلَغْتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ: فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسْبُكَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ " 227 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْكَامِلِ الْفُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَجَدُّهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَرٍ، فَجَلَسَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي مَسْجِدِ بَنِي ظَفَرٍ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَمَر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الآيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] بَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اضْطَرَبَ لِحْيَاهُ وَجَنْبَاهُ، وَقَالَ: «يَا رَبِّ هَذَا شَهِدْتُ عَلَى مَنْ أنا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُ؟» قوله عز وجل: يومئذ يعني يوم إذ ذاك، يعني يوم القيامة، وهو {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 42] يتمنون {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} [النساء: 42] في الدنيا، والواو ههنا: للحال التي كانوا عليها من معصية الرسول في الدنيا. {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء: 42] قال قتادة: ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها، وقال الزجاج: يودون أنهم كانوا والأرض سواء. وقال ابن الأنباري: ودوا أنهم يستوون مع تراب الأرض ويدخلون في جملتها.

وقرأ نافع تَسَّوَّى من التسوي، يقال: سويته فتسوى، والمعنى: تتسوى فأدغم التاء في السين لقربه منها، وحذف حمزةُ التاء، ولم يدغمها فقرأ تَسَوَّى مفتوحة التاء خفيفة السين. وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] استئناف كلام في الإخبار عن الكفار، أنهم لا يكتمون الله حديثا في القيامة لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هذا حين يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم، وأرجلهم فحينئذ لا يكتمون الله حديثا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] قال المفسرون: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما، ودعا أناسا من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطعموا وشربوا، وحضرت صلاة المغرب، فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يأيها الكافرون فلم يقمها، فأنزل الله تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أي: لا تصلوا إذا كنتم سكارى.

{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قال ابن عباس: يريد ما تقرءون، وتثبتوا حدود الصلاة، وتكبيرها، وخشوعها، فكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر والشراب أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها. وقوله: ولا جنبا: الجنب: الذي يجب عليه الغسل لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع يقال: جنب الرجل يجنب جنبا وجنابة، فهو جنب وأجنب مثله. {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] العابر: فاعل من العبور وهو قطع الطريق، يقال: عبرت النهر والطريق عبورا. إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر. روى الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال عطاء بن يسار، عن ابن عباس: في قوله: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لا تقرب المسجد وأنت جنب إلا أن يكون طريقك فيه، فتمر مارا، ولا تجلس. وقال سعيد بن جبير: الجنب يمر في المسجد ولا يجلس فيه. وهذا قول سعيد بن المسيب، والحسن، والضحاك، وعكرمة، والزهري، ومذهب الشافعي، وعند هؤلاء: يجوز للجنب المرور بالمسجد إذا كان طريقه إلى الماء. ومعنى الآية: نهي الجنب عن دخول المسجد حتى يغتسل وهو قوله: حتى تغتسلوا، إلا إذا كان مارا بالمسجد. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] جمع مريض، وعني به: المريض الذي يضره مس الماء كصاحب الجدري، والجروح، والحروق، ومن يتضرر باستعمال الماء.

{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] المسافر إذا أعوزه الماء تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية، قوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] يعني الذي أحدث بالتبرز إلى الغائط وهو المطمئن من الأرض، وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن أعين الناس، ثم قيل للحدث غائط، إذا كان سببا له. وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ، وقرئ لمستم. فمعنى اللمس في اللغة: طلب الشيء باليد ههنا وههنا، قال لبيد: يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل واختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وهؤلاء لا يحكمون بانتقاض الطهر باللمس، وهو مذهب الكوفيين. والقول الثاني: أن المراد باللمس ههنا: التقاء البشرتين سواء بجماع أو غيره، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وإبراهيم، ومنصور، ومذهب الشافعي، وهؤلاء يوجبون الطهارة على من أفضى بشيء من بدنه إلى عضو من أعضاء المرأة. وهذا القول أولى، لأن حقيقة اللمس في اللغة باليد، وحمل الآية على الحقيقة أولى. وقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال ابن عباس: فتعمدوا الأرض وتربتها، والمراد بالتيمم ههنا:

التمسح بالتراب، وذكرنا معناه في اللغة في { [البقرة، وأما الصعيد فقال أبو عبيدة، والفراء: الصعيد: التراب. وقال ابن الأعرابي: الصعيد: الأرض بعينها. وقال الزجاج: الصعيد: وجه الأرض. وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار. والطيب من الأرض: اسم لما ينبت بدليل قوله:] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سورة الأعراف: 58] . وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] قال ابن عباس: تضرب بكفيك على وجه الأرض، ثم تردهما إلى وجهك، ثم تضرب الثانية بكفيك فتمسح واحدة بالأخرى إلى المرفقين. والتيمم من خصائص هذه الأمة ومما أكرمهم الله تعالى به، وأما ابتداء التيمم فهو ما 228 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْجُوزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: أَحَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حَضِيرٍ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ،

رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ 229 - وأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّيَمُّمُ طُهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَكَ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ {44} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا {45} } [النساء: 44-45] قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] قال ابن عباس: يعني اليهود، يشترون الضلالة: قال الزجاج: يؤثرون التكذيب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأخذوا على ذلك الرشى، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] أي: تضلوا طريق الهدى. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء: 45] أي: أعرف بهم فهو يعلمكم ما هم عليه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} [النساء: 45] أي: كفى الله وليا لكم، والياء زائدة للتوكيد.

ومعنى الآية: أن ولاية الله ونصرته إياكم تغنيكم عن غيره من هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم ممن تطمعون في نصرته. قال الزجاج: أعلمهم الله تعالى أن عداوة اليهود وغيرهم من الكفار لا تضرهم شيئا، إذ ضمن لهم النصرة والولاية في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45] . {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 46] قوله جل جلاله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [النساء: 46] أي: قوم أو فريق يحرفون الكلم، وهو جمع الكلمة. قال الكلبي، ومقاتل: هم اليهود يغيرون صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمانه ونبوته في كتابهم، ويقولون سمعنا: قولك، وعصينا: أمرك، {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46] كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت. وقوله: وراعنا: ذكرنا في { [البقرة: أن هذا كان سبا بلغتهم، ومعنى ليا بألسنتهم أي: قلبا للكلام بها، وهو أنهم كانوا يحرفون راعنا عن طريق المراعاة إلى السب بالرعونة. ] وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النساء: 46] مكان قولهم سمعنا وعصينا، واسمع وانظرنا: بدل راعنا، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 46] عند الله، وأقوم أي: أعدل وأصوب {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 46] أي: أبعدهم الله عن رحمته مجازاة لهم، {بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 46] يعني بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال السدي: القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حق، والنار حق، فهذا قليل من إيمانهم. قال الزجاج: والتقدير على هذا القول: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يجب أن يسموا مؤمنين.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا {47} إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا {48} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا {49} انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا {50} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا {51} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا {52} أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا {54} فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا {55} } [النساء: 47-55] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء: 47] يخاطب اليهود، {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] يعني القرآن {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] . الطمس المحو، يقال: طمسته تطمس، أي: درس. قال ابن عباس: نجعلها كخف البعير، أو كحافر الفرس، على معنى: نمحو ما فيها من عين وفم وأنف وحاجب. {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] قال قتادة: نحول وجوههم قبل ظهورهم. يقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يأتي أهله وأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وقال النخعي: أقبل كعب من اليمن يحج بيت المقدس، فذهب إليه، فبينا هو فيه سمع رجلا من المهاجرين

يقرأ في جوف الليل هذه الآية، فأتى عمر رضي الله عنه فأسلم. ويروى أن عمر قرأ هذه الآية عليه , فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت. مخافة أن يصيبه هذا الوعيد. وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] أي: نمسخهم قردة، كما فعلنا بأوائلهم، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [النساء: 47] قال ابن عباس: لا راد لحكمه، ولا ناقض لأمره. قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] الآية، هذه الآية دليل قاطع في مسألتين كبيرتين من الأصول: إحديهما: أن من ارتكب الكبائر من المسلمين إذا مات على الإيمان لم يخلده الله في النار، وإنما يخلد المشرك في النار دون المسلم. والثانية: أن الله تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك، فيعفو عمن يشاء، ويغفر لمن يشاء، لا حجر عليه في شيء من ذلك، ولا حكم عليه لأحد، تكذيبا للقدرية حيث قالوا: لا يجوز أن يغفر الكبيرة ويعفو عن المعاصي. 230 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] 231 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَهْ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُمْسِكُ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لأَهْلِ الْكَبَائِرِ حَتَّى سَمِعْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» . فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ورجونا 232 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ "

وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] أي: اختلق ذنبا غير مغفور. قال الزجاج: يقال: افترى فلان الكذب، إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري وهو بمعنى القطع. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 49] قال ابن عباس في رواية الكلبي: نزلت في اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا محمد، هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، فكذَّبهم اللهُ تعالى. ومعنى يزكون أنفسهم: يزعمون أنهم أزكياء، وتفسير التزكية قد مر. وقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] يجعل من يشاء زاكيا، قال ابن عباس: يريد: أهلَ التوحيد، {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] قال ابن عباس: يريد: ولا ينقصون من الثواب قدر فتيل النواة، يريد القشرة التي حول النواة فيما بينها وبين البسرة. قال الفراء: الفتيل: ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ. وهو قول السدي، وقال ابن السكيت: القطمير: القشرة الرقيقة على النواة، والفتيل: ما كان في شق النواة، والنقير: النكتة في ظهر النواة. قال الأزهري: وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير القدر أي: لا يظلمون قدرها، قال النابغة:

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا قوله جل جلاله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] هذا تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي قولهم: يكفر عنا ما نعمله، وكفى به أي: كفى هو يعني: افتراءهم، إثما مبينا وتأويل هذا: تعظيم إثمهم. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 51] يعني: علماء اليهود الذين أعطوا علم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] كل معبود من دون الله فهو جبت. قال ابن عباس في رواية عطية: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وفي رواية الوالبي: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر، وقال الكلبي: الجبت في هذه الآية: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، سميا بذلك لإغوائهما الناس ولطاعة اليهود لهما في معصية الله تعالى. وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51] وذلك أن حُيَيًّا، وكعبا لقيا قريشا بالموسم فقال لهما المشركون: أنحن أهدى طريقا أم محمد وأصحابه؟ فقالا: بل أنتم أهدى سبيلا، وأقوم طريقا، وأحسن من الذين آمنوا دينا، وهما يعلمان أنهما كاذبان، حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه. قال الزجاج: وهذا دليل على معاندة اليهود لأنهم زعموا أن المشركين الذين لا يصدقون بشيء من الكتب وعبدوا الأصنام أهدى طريقا من الذين يوافقونهم على كثير مما يصدقون به. ثم أنزل الله فيهم قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] ناصرا ينصره، ومانعا من عذاب الله، ثم وصفهم بالبخل فقال:

أم لهم: على معنى: بل ألهم، {نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء: 53] وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: ليس لهم ذلك. وقوله {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] قال الفراء: هذا جواب لجزاء مضمر كأنك قلت: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا إذا. قال الزجاج: وتأويل إذًا: إن كان الأمر كما جرى، أو كما ذكرت، يقول القائل: زيد يصير إليك. فتقول: إذًا أكرمه. أي: إن كان الأمر على ما تصف وقع إكرامه. قال ابن عباس: النقير: نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة. قال الزجاج: وذكر النقير ههنا: تمثيل، المعنى لَبَخلوا بالقليل. قوله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] الآية، حسدت اليهود محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما آتاه الله من النبوة، فقال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] على معنى: بل أيحسدون الناس، يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الناس وهو واحد، لأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون في جماعة، ومثله قوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] . وقوله: {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] يعني: النبوة، وقد علموا أن النبوة كانت في آله، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54] يعني: النبوة، يريد ما كان في بني إسرائيل من الكتاب والنبوة، وكانوا من آل إبراهيم لأنهم كانوا أولاد إسحاق بن إبراهيم، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ولد إسماعيل بن إبراهيم. وهذا الذي ذكرنا قول الحسن، وابن جريج، وقتادة، واختيار الزجاج. وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] قال مجاهد: يعني النبوة، لأن الملك لمن له الأمر والطاعة، والأنبياء لهم الطاعة والأمر.

قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} [النساء: 55] قال ابن عباس، والأكثرون: مِن أهل الكتاب مَن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء: 55] أعرض ولم يؤمن، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 55] عذابا لمن لا يؤمن. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا {56} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا {57} } [النساء: 56-57] قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [النساء: 56] يعني: بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} [النساء: 56] ندخلهم نارا كلما نضجت: لانت بحرارتها، {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] قال ابن عباس: يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس. وقال الحسن: بلغنا أنهم تنضجهم كل يوم سبعين ألف مرة، تأكل جلودهم ولحومهم , قال: وغلظ لحوم أهل النار أربعون ذراعا، وما بين منكبي أحدهم مسيرة ثلاثة أيام. 233 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْكَلاعِيُّ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُحْشَرُ مِنْ بَيْنِ السَّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْنَاء ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً، الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فِي خَلْقِ آدَمَ، وَقَلْبِ أَيُّوبَ، وَحُسْنِ يُوسُفَ، مُرْدًا مُكَحَّلِينَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْكَافِرِ؟ قَالَ: يَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ غِلَظُ جِلْدِهِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَحَتَّى يَصِيرَ النَّابُ مِثْلَ أُحُدٍ " وعن جابر بن عبد الله قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] فبكى، واشتد بكاؤه، فبكينا لبكائه، فلما أفاق قال: «تبدل ليجدد عليهم العذاب» . وهو قوله: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] أي: هو قوي لا يغلبه شيء، وهو مع ذلك حكيم فيما دبر. ولما ذكر ما أعد للكافرين من العذاب ذكر ثواب المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 57] إلى قوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} [النساء: 57] أي: دائما لا تنسخه الشمس، كما تنسخ ظلال الدنيا. وقال الحسن: ظلا ظليلا: لا يدخله الحر والسمائم. قال الزجاج: معنى ظليل: يظل من الريح والحر، وليس كل ظل كذلك، أعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر فيه ولا برد. وقال مقاتل: ظلا ظليلا يعني أكتان القصور، لا فرجة فيها ولا خلل. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] أجمع المفسرون على أن الآية نازلة في شأن مفتاح الكعبة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فتح مكة طلب المفتاح، فقيل: إنه مع عثمان بن طلحة الحجبي، وكان من بني عبد الدار وكان يلي سدانة الكعبة، فوجه إليه عليا رضي الله عنه فأبى دفعه إليه، وقال: لو

علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح. فلوى علي يده، وأخذه منه قسرا حتى دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيت وصلى فيه فلما خرج قال له العباس: بأبي أنت اجمع لي السدانة مع السقاية، وسأله أن يعطيه المفتاح، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا برده إليه، فرده إليه عليّ وألطف في القول، فقال: أخذته مني قهرا ورددته علي باللطف، قال: لأن الله تعالى أمرنا برده إليك، وقرأ عليه الآية، فأتى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم، ثم إنه هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم. 234 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتَرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ: قَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاحَ وَقَالَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ» قال ابن عباس: هذه الآية عامة في كل أمانة، تؤدى الأمانة إلى البر والفاجر، والرحم توصل برة كانت أو فاجرة. وقال ابن عمر، وابن مسعود: الفرج أمانة , والبصر أمانة، والأمانة في كل شيء، في الوضوء والصلاة، والزكاة، والجنابة، والصوم، وفي الكيل والوزن، وأعظم من ذلك الودائع، ولا إيمان لمن لا أمانة له. والأمانة مصدر سمي به المفعول، ولذلك جُمع أمانات لأنه أخلص اسما، قال الشاعر: فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين

235 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ» وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58] أي: نعم شيئا يعظكم به الله، يعني: أداء الأمانة، والحكم بالعدل، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا} [النساء: 58] لما تقولون في الأمانة والحكم، بصيرا: بما تعملون فيهما. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] وقوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] قال الحسن، وعطاء: اتباع الكتاب والسنة، {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قال ابن عباس في رواية الوالبي: هم الفقهاء، والعلماء، وأهل الدين الذين يعلمون الناس معالم دينهم. وأوجب الله تعالى طاعتهم. وهذا قول مجاهد، والحسن، والضحاك. وفي رواية عطاء: هم الولاة. وهو قول ابن زيد، قال: هم الأمراء والسلاطين لما أمروا بأداء الأمانة في الرعية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء: 58] الآية، أمرت الرعية بحسن الطاعة لهم فيما يوافق الحق. 236 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ قَطَنٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَخْبَرَنِي زُرَيْقٌ مَوْلَى بَنِي

فَزَارَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ قَرَظَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أخبرنا عبد الله بن أحمد المروزي، أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي دارة، حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاد، حدثنا سلمة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، أخبرنا الحسن بن عياش، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: قال مسلمة بن عبد الملك: أليس قد أمرتم بطاعتنا، يعني: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ؟ قال: قلت: إن الله قد انتزعه منكم إذ خالفتم الحق، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . قال: فأين الله؟ قلت: الكتاب , قال: فأين الرسول؟ قلت: السنة. والمعنى: فإن تنازعتم في شيء، أنتم وأمراؤكم، فردوا الحكم فيما تنازعتم فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله. ذلك خير أي: ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة، وترككم التجادل خير، وأحسن تأويلا قال قتادة، والسدي، وأحمد: عاقبة.

والعاقبة تسمى تأويلا لأنها مآل الأمر، يقال: إلى هذا مآل الأمر، وتأويله، أي: عاقبته. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا {61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا {62} أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا {63} } [النساء: 60-63] قوله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء: 60] الآية، الزَّعم والزُّعم: لغتان وأكثر ما يستعمل الزَّعم بمعنى القول فيما لا يتحقق، يقال: زعم فلان إذا لم يدر لعله كذب أو باطل، ومنه قوله تعالى: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكذب. قال المفسرون: وقع نزاع بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم. يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلم أنه لا يقبل الرشوة، وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. لأنه علم أنه يأخذ الرشوة، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60] يعني: المنافقين، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] يعني: كعب بن الأشرف، وقال عطاء: يعني: حيي بن أخطب {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] قال ابن عباس: أمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم. {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] أي: ضلالا لا يرجعون عنه إلى دين الله أبدا.

ومعنى الآية: تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جهل مَن يعدل عن حكم الله إلى حكم الطاغوت مع زعمه بأنه مؤمن بالله ورسوله، وما أنزل إليه من قبله. قوله جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [النساء: 61] أي: لهؤلاء المنافقين: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [النساء: 61] يعني: في القرآن من الأحكام، وإلى الرسول إلى حكمه، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] أي: يعرضون عنك إلى غيرك. قوله عز وجل: فكيف أي: فكيف يحتالون ويصنعون، {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء: 62] عقوبة من الله مجازاة على ما صنعوا وهو قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء: 62] أي: من التكذيب والكفر بالقرآن والرسول؟ ثم عاد الكلام إلى ما سبق من القصة فقال: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 62] ، وذلك أن المنافقين أتوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وحلفوا أنهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة، {إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] أي: إلا توفيقا بين الخصوم أي: جمعا وتأليفا، وإحسانا بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق. وكل ذلك كذب منهم، لأن الله تعالى قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] من الكذب والخيانة والشرك والنفاق، فأعرض عنهم أي: لا تعاقبهم، وعظهم: بلسانك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} [النساء: 63] قال ابن عباس: خوفهم بالله. وقال الحسن: قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم، فهذا القول البليغ، لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ. وقال الزجاج: أعلمهم أنهم إن ظهر منهم رد لحكمك وكفر فالقتل. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] قوله جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} [النساء: 64] مِن: دخلت للتأكيد، والمعنى: وما أرسلنا رسولا، {إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] أي: بأمر الله، يعني: إن طاعة الرسول وجبت بأمر الله الذي دل على وجوب طاعته. قال الزجاج: أي: إلا ليطاع لأن الله تعالى قد أذن في ذلك وأمر به قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 64] بعصيانك وموالاتهم الكفار حتى يحكموهم، {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء: 64] أي: تابوا إلى الله ونزعوا عما هم عليه، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] سأل الله لهم أن يغفر لهم ما تقدم من تكذيبهم، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {65} وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {66} وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {68} } [النساء: 65-68] قوله عز وجل: فلا أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف القسم فقال: {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] . وهذا قول عطاء، ومجاهد، والشعبي: إن الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، وهي متصلة بما قبلها. وقال آخرون: هذه مستأنفة نازلة في قصة أخرى وهي ما 237 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِمَا كَلَأَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلأَنْصَارِيِّ فَلَمَّا أَحْفَظَ الأَنْصَارِيّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] الآيَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، كِلاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ وقوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] أي: اختلف واختلط، يقال: شجر يشجر شجورا وشجرا ومشاجرة في الأمر. إذا

نازعه مشاجرة، وتشاجروا وتشاجرا، واشتجروا، ولك ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض. وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] قال ابن عباس: يعني ضيقا مما قضيت، يعني: يرضون بقضائك. وقال الزجاج: لا تضيق صدورهم بقضيتك. ويسلموا تسليما: لما يأتي من حكمك، لا يعارضون بشيء، أي: يبذلون الرضا لحكمك ويتركون السخط والمنازعة. قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 66] أي: فرضنا وأوجبنا، قال المفسرون: كتب الله تعالى على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال الله تعالى: ولو أنا كتبنا على هؤلاء ما كتبنا على غيرهم، وهو قوله {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] كسرهما عاصم وحمزة، لالتقاء الساكنين، ومَن ضمهما: فلأنهما حلا محل الهمزة المضمومة، فضمتا كما ضمت هي، وإن كانتا منفصلتين. قال الزجاج: وللكسرة والضمة في هذه الحروف وجهان جيدان، ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية، إلا أن يكون رواية. قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال الحسن: أخبر عن علمه فيهم، يعني ما يفعل ذلك إلا من قد علم الله منه ذلك، وهم قليل. وارتفع قليل على البدل من الواو في فعلوه كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد ترفع زيدا على البدل من أحد. ومن نصب إلا قليلا فإنه جعل النفي بمنزلة الإيجاب، وذلك أن قولك: ما جاءني أحد كلام تام، كما أن:

جاءني القوم. كذلك، فنصب مع النفي كما نصب مع الإيجاب، من حيث اجتماعهما في أن كل واحد منهما كلام تام. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66] أي: ما يؤمرون به، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66] في دينهم وفي الآخرة، وأشد تثبيتا: تصديقا بأمر الله، أي: ذلك أشد تثبيتا منهم لأنفسهم في الدين. وإذا لآتيناهم أي: لو فعلوا ما وعظوا به لآتيناهم، من لدنا مما لا يقدر عليه غيرنا، أجرا عظيما وهو الجنة. {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68] قال ابن عباس: أرشدناهم إلى دين مستقيم، يريد: دين الحنيفية، لا دين اليهودية. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا {69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا {70} } [النساء: 69-70] قوله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] الآية، قال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها، ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع؟ فنزلت الآية. وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فقال: ما يبكيك يا فلان؟ فقال: يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وولدي، وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك، وذكرت موتي، وأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك. فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} [النساء: 69] أي: في الفرائض، والرسول أي: في السنن، فأولئك: يعني المطيعين، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] أي: أنه يستمتع برؤية النبيين، وزيارتهم، والحضور معهم، فلا يتوهمن من أجل أنهم في أعلى عليين أنه لا يراهم.

وقوله: والصديقين: كل من صدق بكل ما أمر الله، لا يدخله شك، وصدق الأنبياء فهو صديق، وهو قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] . وقال الكلبي: الصديقون: أفاضل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مقاتل: الصديقون أول من صدقوا الأنبياء حين عاينوهم. وقوله: والشهداء يعني: القتلى في سبيل الله، والصالحين: هم سائر المسلمين، وحسن أولئك يعني: الأنبياء وهؤلاء، رفيقا: صاحبا. وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وبصحبته، ويقال للجماعة في السفر: رفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ووحد الرفيق لأن الواحد في التمييز ينوب عن الجماعة، نحو قولك: هو أجمل فتى. المعنى: هو أجمل الفتيان. قوله: ذلك أي: ذلك الثواب، وهو الكون مع النبيين والصديقين، {الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 70] تفضل به على من أطاعه، {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 70] أي: أنه لا يضيع عنده عمل عامل لأنه لا يخفى عليه شيء. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا {71} وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا {72} وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا {73} فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {74} وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ

يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا {75} الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا {76} } [النساء: 71-76] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] هذه الآية حث من الله على الجهاد، والحِذْر بمعنى الحَذَر كالمثل، وتقول العرب: خذ حذرك أي: احذر. والمعنى: احذروا عدوكم بأخذ العدة والسلاح. وقوله: فانفروا ثبات يقال: نفر القوم ينفرون نفرا، إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا لحرب. والثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة، قال قتادة: الثبات: الفرق. وقال مقاتل: عصبا متفرقين. {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] خيّرهم الله تعالى بين أن يقاتلوا جميعا وبين أن يقاتل بعضهم دون بعض، فدل على أن الجهاد ليس من فروض الأعيان. قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] يعني: عبد الله بن أبي، كان يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج لغزو، والخطاب للمؤمنين وجعله منهم من حيث الظاهر، وهو حقن الدم والموارثة، والتبطئة: التأخر عن الأمر، تقول العرب: ما بطأ بك عنا. أي: ما أخرك، يقال: بطوء بطأ، وأبطأ إبطاء، وبطَّأ تبطئة بمعنى واحد. قال مقاتل: ليبطئن أي: ليتخلفن عن الجهاد. وقال الكلبي: ليتثاقلن. {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء: 72] من القتل وجهد من العيش، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} [النساء: 72] بالقعود، {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72] أي: لم أحضر معهم فيصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة.

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 73] فتح ونصر وغنيمة، ليقولن: هذا المنافق قول نادم حاسد: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] لأسعد بمثل ما سعدوا به من الغنيمة. وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] متصل في النظم بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ} [النساء: 72] كأن لم تكن بينكم وبينه مودة. قال ابن الأنباري: كأن لم يعاقدكم على الإسلام، ولم يبايعكم على الصبر والثبات فيه على ما ساء وسر. وقرئ: تكن بالياء والتاء، فالتأنيث على الأصل، والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل. وقوله: {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] قال مقاتل: آخذ نصيبا وافرا، وإنما قال هذا حرصا على الدنيا، وميلا إليها ولا رغبة في الثواب. ولما ذم الله تعالى المنافق بالاحتباس عن الجهاد، أمر المؤمنين بالقتال فقال سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء: 74] أي: يبيعون، يقال: شريت. بمعنى: بعت. والمعنى: أنهم يختارون الجنة على البقاء في الدنيا، فيجاهدون طلبا للشهادة في سبيل الله، {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} [النساء: 74] شهيدا أو يغلب فينظر ويقتل هو، فكلاهما سواء في الثواب، وهو قوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] ، قال ابن عباس: ثوابا لا صفة له. قوله جل جلاله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 75] قال المفسرون: هذا حض من الله تعالى على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين من أيدي المشركين. والمعنى: لا عذر لكم في ترك القتال في سبيل الله، وفي المستضعفين من الرجال والنساء والولدان،

قال ابن عباس: يريد قوما بمكة قد استضعفوا، فحبسوا وعذبوا. قال: وكنت أنا وأمي من المستضعفين. ولم يكن لهم قوة يمتنعون بها من المشركين، ولم يقدروا أن يهاجروا إلى المدينة فكانوا يدعون الله ويقولون: ربنا أخرجنا: إلى المدينة دار الهجرة، {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [النساء: 75] يعني مكة، الظالم أهلها يريد: جعلوا لله شركاء. قال الزجاج: الظالم أهلها: نعت للقرية. وإنما وحد الظالم لأنه صفة يقع موضع الفعل، يقال: مررت بالقرية الصالح أهلها. أي: التي صلح أهلها، {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [النساء: 75] وَلِّ علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بأمورنا، {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] ينصرنا على عدونا ويمنعنا منهم. فاستجاب الله دعاءهم، وولى عليهم رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما فتحت مكة، عتاب بن أسيد فكان ينصف المظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد. قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 76] في نصرة دين الله، وهو سبيله الذي يؤدي إلى ثوابه ورحمته، والذين كفروا: يعني: المشركين واليهود والنصارى، {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76] في طاعة الشيطان، {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76] قال ابن عباس: يعني: عبدة الأصنام {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76] سعيه في إيقاع الضرر بالمؤمنين على جهة الاحتيال، كان ضعيفا يعني: خذلانه إياهم يوم قتلوا ببدر. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا {77} أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا {78} مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {79} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا {80} } [النساء: 77-80] قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الآية، نزلت الآية في نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، كانوا يقولون

للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائذن لنا في قتال المشركين، فيقول لهم: كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وأمروا بالقتال كرهه بعضهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله: كفوا أيديكم: قال ابن عباس: عن قتال عبدة الأصنام لأن الله تعالى لم يأمر بقتالهم. قال الزجاج: كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أذنت لنا أن نقاتل المشركين، فأمروا بالكف وأداء ما افترض عليهم من غير القتال، وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ} [النساء: 77] فُرض {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [النساء: 77] يعني: جماعة منهم، يخشون الناس: المشركين، كخشية الله: كما يخشون الله، {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] قال الحسن: هذا كان منهم لما في طبع البشر من المخافة لا على كراهة أمر الله بالقتال. وقالوا: جزعا من الموت وحرصا على الحياة: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] أن: هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا وعافيتنا من القتل؟ قل: لهم، يا محمد: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] أي: ما تمتعون به من الدنيا وعيشها قليل، والآخرة خير يعني: الجنة لمن اتقى الله ولم يشرك به شيئا. 238 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْمدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقُولُ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ» وقوله: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] قال ابن عباس: لا ينقصون من ثواب أعمالهم فتيل النواة. ثم أعلمهم أن آجالهم لا تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون، فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] أي: في حصون وقصور مطولة رفيعة، وقال السدي، وقتادة: يعني بروج السماء الاثني عشر، يقال: شاد بناءه وأشاده وشيده. إذا رفعه. وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78] إلى قوله: من عندك هذا من قول اليهود والمنافقين عند مقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وكان قد بسط عليهم الرزق، فلما كفروا أمسك عنهم بعض الإمساك، فقالوا: ما رأينا أعظم شؤما من هذا، نقصت ثمارنا، وغلت أسعارنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. فذلك قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78] يعني: الخصب ورخص الأسعار {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 78] جدب وغلاء الأسعار قالوا هذه من عندك: من شؤم محمد، {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] . قال ابن عباس: أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] لا يفهمون القرآن وتأويله فيؤمنوا ويعلمون أن الحسنة والسيئة من عند الله. قوله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] قال ابن عباس في رواية عطاء: ما أصابك من حسنة يوم بدر من النصر والغنيمة، {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 79] يوم أحد من القتل والهزيمة، فمن نفسك فبذنبك.

قال: وهذا مخاطبة من الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به أصحابه والنبي من ذلك بريء. قال الزجاج: هذا خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراد به الخلق، ومخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكون للناس جميعا، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسانهم. ومعنى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] أي: ما أصبتم من غنيمة أو أتاكم من خصب فمن تفضل الله عليك، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 79] أي: من جدب وهزيمة في حرب، فمن نفسك أي: أصابكم ذلك بما كسبت أيديكم. وقال قتادة: فمن نفسك عقوبة لذنبك يابن آدم، وكذلك قال الحسن، والسدي، وابن جريج، والضحاك: فمن نفسك فبذنبك، وهذا كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، والحسنة تكون بمعنى الخصب، والسيئة: بمعنى الجدب، قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] يعني: الخصب والجدب. ولا تعلق للقدرية بهذه الآية، لأن الحسنة والسيئة المذكورتين ههنا لا ترجعان إلى الطاعة والمعصية، واكتساب العباد بحال، لأن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها: أصابتني. إنما يقال: أصبتها. وليس في كلام العرب: أصابت فلانا حسنة، على معنى: عمل خيرا، وكذلك: أصابته سيئة، على معنى: عمل معصية، غير موجود في كلامهم، إنما يقولون: أصاب سيئة إذا عملها واكتسبها. قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} [النساء: 79] قال ابن عباس: يريد أنك قد بلغت رسالاتي، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] على ما بلغت من رسالات ربك. قوله جل جلاله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] قال ابن عباس: يريد: إن طاعتكم لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاعة لله. وقال الحسن: جعل الله طاعة رسوله طاعته، وقامت به الحجة على المسلمين. وذكر الشافعي في الرسالة، في باب فرض طاعة الرسول هذه الآية، وقال: إن كل فريضة فرضها الله في كتابه كالحج والصلاة والزكاة، لولا بيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كنا نعرف كيف نأتيها، ولا كيف يمكننا أداء شيء من العبادات،

وإذا كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشريعة بهذه المنزلة، كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله عز جل. 239 - وأَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الإِمَامَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَا الإِمَامَ فَقَدْ عَصَانِي» وقوله: ومن تولى: قال ابن عباس، ومقاتل: أعرض عن طاعتك يا محمد، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] حافظا من التولي والإعراض. ثم أمر بعد ذلك بالجهاد، والإكراه على الدين بالسيف. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {81} أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا {82} } [النساء: 81-82] قوله عز وجل: ويقولون طاعة يعني: المنافقين كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طاعة لأمرك. قال مقاتل: كانوا إذا دخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: مرنا بما شئت فأمرك طاعة. وقال النحويون: معناه: أمرنا طاعة، أي: أمرنا وشأننا أن نطيعك. فإذا برزوا: خرجوا، {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 81] قال الزجاج: كل أمر فكر فيه بليل فقد بيت، ومنه

قوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] وقال ابن عباس: يريد ما أضمر في قلوبهم غير ما يقولون. وقال ابن قتيبة: ويقولون طاعة: بحضرتك، فإذا خرجوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي يقول، أي: قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوه نهارا. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81] أي: يحفظ عليهم ليجازوا به، فأعرض عنهم: قال ابن عباس: فاصفح عنهم، وذلك أن الله تعالى نهى عن قتل المنافقين، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 81] اعتمد بأمرك عليه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 81] معتمدا وملجأ. قوله جل جلاله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} [النساء: 82] يعني: المنافقين، ومعنى تدبرت الشيء: نظرت في عاقبته، يقول: أفلا يتأملون القرآن ويتفكرون فيه؟ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] قال ابن عباس: لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب وباطل واختلاف. وقال الزجاج: لولا أنه من عند الله لكان ما فيه من الأخبار عن الغيب مما يُسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا، بعضه حق وبعضه باطل لأن الغيب لا يعلمه إلا الله. وقال أهل المعاني: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] أي: لو كان من عند مخلوق لكان على قياس كلام العباد، بعضه بليغ حسن، وبعضه مرذول فاسد، فلما كان جميع القرآن بليغا ولم يختلف، عرف أنه من عند الله، وليس بحمد الله في القرآن اختلاف تناقض، ولا اختلاف تفاوت. فأما اختلاف القراءات، واختلاف مقادير الآيات والسور، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فكل حسن وحق، وليس ذلك اختلافا يؤدي إلى فساد وتناقض.

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] قوله جل جلاله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء: 83] الآية، نزلت في قوم كانوا يرجفون بسرايا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبرون بما وقع بها من هزيمة، وبما أدركت من غنيمة قبل أن يخبر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيضعفون قلوب المؤمنين ويؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبقهم إياه بالأخبار، فأنزل الله تعالى وإذا جاءهم يعني المنافقين وأصحاب الأراجيف، {أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} [النساء: 83] حديث فيه أمن، أو الخوف: يعني الهزيمة أذاعوا به: أفشوه وأظهروه، ولو سكتوا عنه حتى يكون الرسول هو الذي يفشيه، وأولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83] يتبعونه ويطلبون علم ذلك منهم. ومعنى الاستنباط في اللغة: الاستخراج. وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 83] قال ابن عباس: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] قال ابن عباس في رواية الوالبي: تم الكلام عند قوله: لاتبعتم الشيطان، ثم استثنى القليل من قوله: أذاعوا به أي: أذاعوا به إلا قليلا، يعني بالقليل المؤمنين. وهذا القول اختيار الكسائي والفراء. قال في رواية عطاء: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] ممن عصم الله.

قال ابن الأنباري: وهم الذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان , والإشراك بالله بغير رسول الله ولا كتاب مثل: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء الشني، وأبي ذر الغفاري، وطلاب الدين. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا} [النساء: 84] وقوله عز وجل: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84] أمر الله نبيه عليه السلام بالجهاد، ولو كان وحده لأنه قد ضمن له النصر. ومعنى {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84] لا ضرر عليك في فعل غيرك، ولا تهتم بتخلف من يتخلف عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك. {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] : حُضَّهم على القتال، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] عسى معناها: الإطماع، والإطماع من الله واجب، لأن إطماع الكريم إيجاب. والبأس الشدة في كل شيء، ومعنى {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] شدة حربهم، وقد أنجز الله وعده بكف بأس هؤلاء الذين ذكرهم الله. {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} [النساء: 84] أشد عذابا، والعذاب يسمى بأسا لما فيه من الشدة، ومنه قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29] ، {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12] . وأشد تنكيلا يقال: نكلت بفلان، إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، أي: تجنبه، وقال الحسن، وقتادة: أشد تنكيلا عقوبة. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا {85} وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا {86} } [النساء: 85-86] قوله جل جلاله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] قال الكلبي: يصلح بين اثنين. {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ} [النساء: 85] أي: أجر {مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} [النساء: 85] يمشي بالنميمة، {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ} [النساء: 85] إثم منها. وقال مجاهد: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة: شفاعة الناس بعضهم لبعض. قال الحسن: ما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة. قال: ومن يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر وإن لم يشفَّع، لأن الله تعالى قال من يشفع ولم يقل: من يشفَّع. ويؤيد هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشفعوا تؤجروا» . 240 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ الصَّيْدَلانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» وأما الكفل، فقال أبو عبيدة، والفراء، وجميع أهل اللغة: الكفل الحظ والنصيب، وهو قول مجاهد، والسدي، والربيع، وابن زيد. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] قال الفراء، وابن قتيبة: المُقيت: المقتدر، يقال: أقات على الشيء إذا قدر عليه.

وهو قول السدي، وابن زيد، واختيار الكسائي، وقال آخرون: المُقيت الحافظ. وهو قول ابن عباس، وقتادة، واختيار الزجاج، قال: معنى المُقيت الحافظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة، من الحفظ، وقال مجاهد: المُقيت الشهيد. قوله جل جلاله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] التحية: السلام، يقال: حيا يحي تحية إذا سلم، قال ابن عباس: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] يريد السلام، {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] وهو الزيادة على التحية إذا كان المسلّم من أهل الإسلام، يريد: ورحمة الله وبركاته. وإذا كان من غير أهل دين الإسلام يقول: وعليكم. لا يزيد على ذلك، وهو قوله: أو ردوها، قال الضحاك: إذا قال: السلام عليكم. فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله. وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله. فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقد حييته بأحسن منها وهنا منتهى السلام. 241 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَ أَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْحَفْصُ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ التَّيِّهَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَ لَهُ ثَلاثُونَ حَسَنَةً» قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86] قال ابن عباس: مجازيا. وقال الزجاج: أي يعطي كل شيء من العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه أي يكفيه. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا {87} فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ

سَبِيلا {88} وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {89} إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا {90} } [النساء: 87-90] قوله عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] هذه لام القسم، كأنه قال: والله ليجمعنكم في الموت أو في القبور، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] سميت القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] قال ابن عباس: يريد موعدا لا خلف لوعده. وقال مقاتل: لا أحد أصدق من الله في أمر البعث. قوله جل جلاله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] نزلت في قوم قدموا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، واستأذنوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرجعوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف المسلمون فيهم: فقائل يقول: هم منافقون. وقائل يقول: هم مؤمنون. فبين الله تعالى نفاقهم. ومعنى الآية: فما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين، {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] أي: ردهم إلى الكفر. يقال: ركست الشيء وأركسته. لغتان إذا رددته وقلبت آخره على أوله. قال الزجاج: تأويل أركسهم: نكسهم وردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل، بما كسبوا بما أظهروا من الارتداد. وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88] قال ابن عباس: ترشدوا من لم يرشده الله، أي: أتقولون: هؤلاء مهتدون والله قد أضلهم، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 88] طريقا إلى الجنة. قوله جل جلاله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء: 89] أي: أنهم يودون لكم الكفر كما فعلوا هم فتكونون أنتم وهو

سواء في الكفر، {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89] أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89] حتى يرجعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودار الهجرة ثانيا. فإن تولوا: أعرضوا عن الهجرة وقبول حكم الإسلام، فخذوهم بالأسر، {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89] قال ابن عباس: ولا تستنصروا بهم على عدوكم. قوله عز وجل: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} [النساء: 90] الآية، هذا الاستثناء راجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأن موالاة المشركين والمنافقين حرام بكل حال. ومعنى {يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} [النساء: 90] يتصلون بهم، ويدخلون فيما بينهم بالحلف والجوار، قال ابن عباس: يريد: يلجأون إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90] وهم: بنو مدلج في قول الحسن، وقال الضحاك: بنو بكر بن زيد مناة، وقال مقاتل: هم خزاعة وجذيمة بن عبد مناف. وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] معنى حصرت: ضاقت، وكل من ضاق صدره بأمر فقد حصر، وهؤلاء الذين وصفوا بضيق الصدر عن القتال هم بنو مدلج، كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد أن لا يقاتلوه، فنهى الله تعالى عن قتال هؤلاء المرتدين إن اتصلوا بأهل عهد المسلمين، إما بحلف أو بجوار، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهم حكمهم في حقن الدم والمال. وقوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90] كان بنو مدلج قد عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين، وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم أيضا، فهو قوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90] يعني: قريشا. ثم من الله تعالى على المسلمين بكف بأس المعاهدين فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90] يعني: إن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لقذف الله الرعب في قلوبهم.

فإن اعتزلوكم أي: اعتزلوا قتالكم {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] أي: المقادة والاستسلام {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] في قتالهم وسفك دمائهم. {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91] قوله جل جلاله: ستجدون آخرين: قال ابن عباس: هم بنو عبد الدار. وقال الكلبي: هم أسد وغطفان. وقال الحسن: هم قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ليأمنوا المسلمين، ويظهرون لقومهم الموافقة لهم ليأمنوهم. وهو قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 91] ، أطلع الله نبيه على نفاقهم، {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] كلما ردوا إلى الشرك دخلوا فيه {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} [النساء: 91] لم يتركوا قتالكم، ولم ينقادوا لكم بعهد أو صلح، ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم: بالأسر، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [النساء: 91] وجدتموهم، {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91] حجة بينة في قتلهم ولأنه ليس لهم عهد ولا ميثاق. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {92} وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {93} } [النساء: 92-93] قوله جل جلاله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة حين قتل

الحارث بن زيد، ظنه كافرا، ولم يشعر بإسلامه فقتله. قال قتادة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [النساء: 92] أي: ما كان له ذلك فيما أتاه الله من ربه وأمر به. وقوله إلا خطأ جميع أهل النحو والمعاني: على أن هذا استثناء منقطع من الأول، على معنى: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا أن يخطئ المؤمن، فكفارة خطئه ما ذكر من بعد، وصفة قتل الخطأ: هو أن يرمي إلى عرض أو إلى صيد فيخطئ فيصيب إنسانا فيقتله، وكذلك لو قتل رجلا ظنه كافرا، كما ظن عياش بن أبي ربيعة وكان مسلما، كان قتل خطأ. والواجب فيه الدية والكفارة، وهو قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قال المفسرون: هي المصلية المدركة عند عامة الفقهاء، يجوز وإن كانت صغيرة إذا كانا أبواها مسلمين أو أحدهما. وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] يعني: جميع ورثته. وصفة الدية في قتل الخطأ: أن تكون مخففة، مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وظاهر القرآن أوجب أن تكون الدية على القاتل في الخطأ، غير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن تكون الدية في

الخطأ على العاقلة وهم الأخوة وبنو الأخوة والأعمام وبنو الأعمام. وقوله: {إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] أصله: يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد ومعنى التصدق: الإعطاء، والمعنى: إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية فتسقط. وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يعني: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وقومه كفار، فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة، وليس فيه دية، لأن ورثته كفار فلا يرثونه. وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] هذا في الذمي الذي يقتل خطأ، فيجب فيه الدية والكفارة. قال ابن عباس: هذا الرجل يكون معاهدا ويكون قومه أهل عهد، فتسلم إليهم دية ويعتق الذي أصابه رقبة. وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء: 92] يعني: الرقبة أو ثمنها، {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] أي: فعليه ذلك بدلا عن الرقبة، والتتابع واجب، حتى لو أفطر يوما استأنف. وقوله: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] أي: اعملوا بما أوجبه للتوبة من الله، أي: ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم. قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] صورة القتل العمد: أن يقصد القتل بالسيف أو غيره من الآلات التي بها يقصد القتل غالبا، جرح أو لم يجرح، كالحجر الثقيل، والحديد الثقيل، وكذلك التخنيق والتغريق والتحريق، وما أشبهها. والآية نزلت في كافر قتل مؤمنا وهو أن مقيس ابن صبابة كان قد أسلم هو وأخوه هشام، فقتل بنو النجار أخاه

هشاما خطأ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيسا ومعه زهير بن عياض الفهري، وكان من المهاجرين من أهل بدر، إلى بني النجار ليدفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علموه، أو يجمعوا له دية أخيه إن لم يعلموا القاتل، فجمعوا لمقيس دية أخيه، فلما صارت إليه وثب على زهير فقتله وارتد إلى الشرك، وقال في ذلك أبياتا منها: فأدركت ثأري واضطجعت مؤسرا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع وقوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] إلى آخر الآية، وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا حرم الله به قتله، وحظر به سفك دمه، وقد وردت في قتل المؤمن أخبار شداد. 242 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْد ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " وَيْحٌ لَهُ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ، يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلَ رَأْسِهِ بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ، وَفِي يَدِهِ الأُخْرَى قَاتِلُهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَى نَبِيِّكُمْ فَمَا نُسِخَتْ حَتَّى قُبِضَ، يَعْنِي: هَذِهِ الآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]

243 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَاسُوَيْهِ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَالِمٍ التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةً» 244 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا

الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا» وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَهُ تَوْبَةٌ أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أخبرنا أبو عمرو بن نجيد، أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، قال: كنا عند محمد بن سيرين، فقال له رجل من القوم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] حتى ختم الآية، فقال محمد: أين أنت من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] . أخبرنا أبو بكر التميمي، أخبرنا عبد الله بن محمد الحافظ، أخبرنا العباس بن حمدان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشهيدي، قال: سمعت قريش بن أنس يقول:

كنت عند عمرو بن عبيد، فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالي، فيقول: قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلت، ثم تلا هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] حتى فرغ منها، فقلت وما في البيت أصغر مني: أرأيت أن قال لك: فإني قلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] ، من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا. وأما ما روي عن ابن عباس وغيره من السلف، أنهم قالوا: لا توبة للقاتل فإن الأولى لأهل الفتوى سلوك سبيل التغليظ، سيما في القتل، يدل على ذلك ما روي: أن سفيان سئل عن عقوبة القاتل، قال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي الرجل قالوا له: تب. 245 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِيمَا أَذِنَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ: أَلِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَسَأَلَهُ آخَرُ: أَلِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْتَ لِذَلِكَ: لا تَوْبَةَ لَكَ، وَلِذَلِكَ: لَكَ تَوْبَةٌ، قَالَ: جَاءَنِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَ، فَقُلْتُ: لا تَوْبَةَ لَكَ لِكَيْ لا يَقْتُلَ، وَجَاءَنِي هَذَا وَقَدْ قَتَلَ، فَقُلْتُ: لَكَ تَوْبَةٌ لِكَيْ لا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فأما تأويل قوله تعالى: فجزاؤه جهنم، فقد روي مرفوعا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «هو جزاؤه أن جازاه» .

وروى عاصم بن أبي النجود، عن ابن عباس في قوله: فجزاؤه جهنم قال: هي جزاؤه، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وبهذا قال عون بن عبد الله، وبكر بن عبد الله، وأبو صالح: وقد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا. والأصل في هذا: أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد، وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد، بهذا وردت السنة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما: 246 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَأَبُو حَفْصٍ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ» أخبرنا أبو بكر، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن حمزة، حدثنا أحمد بن الخليل، حدثنا الأصمعي، قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: يا أبا عمرو، يخلف الله ما وعد؟ قال: لا. قال:

أفرأيت مَن أوعده الله على عمل عقابا، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء من العجمة: أتيت يا أبا عثمان؟ إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عارا ولا خلفا أن تعد شرا ثم لا تفعله، ترى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في العرب. قال: أما سمعت قول الأول: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف ايعادي ومنجز موعدي والذي ذكره أبو عمرو بن العلاء رحمه الله مذهب الكرام، ويستحسن عند كل أحد خلف الوعيد كما قال السري الموصلي: إذا وعد السر أنجز وعده ... وإن أوعد الشر فالعفو مانعه وأحسن يحيى بن معاذ في هذا الفصل حيث قال: الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله؟ والوعيد حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء أخذ، لأنه حقه، وأولاهما بربنا الكرم والعفو إنه غفور رحيم. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 94] أي: سرتم وغزوتم، نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية، فلقوا رجلا كان قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه أسامة فقتله واستاقوا غنمه.

قوله: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] يقال: تبينت الأمر، أي: تأملته وتثبت فيه، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا إن التبين من الله، والعجلة من الشيطان، فتبينوا» . وقرئ فتثبتوا، والمعنيان متقاربان. {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} [النساء: 94] أي: لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية: لست مؤمنا، فتقتلوه وتأخذوا ماله. ومن قرأ السلم أراد الانقياد والاستسلام للمسلمين، ومنه قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87] أي: استسلموا لأمره، وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] جميع متاع الدنيا عرض، يقال: إن الدنيا حاضر. قال ابن عباس: يعني الغنائم، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94] يعني: ثوابا كثيرا لمن ترك قتل من ألقى إليه السلام، {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] قال سعيد بن جبير: كنتم تكتمون إيمانكم في المشركين، فمن الله عليكم بإظهار الإسلام. وقال قتادة: كنتم ضلالا فمن الله عليكم بالإسلام وهداكم له. ثم أعاد الأمر بالتبين، فقال: {فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] قال عطية العوفي: هو خبير أنكم قتلتموه على ماله. قال ابن عباس: ثم استغفر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسامة بن زيد وأمره أن يعتق رقبة.

{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {95} دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {96} } [النساء: 95-96] قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الضرر: النقصان وهو كل ما يضرك وينقصك من عمى ومرض وعلة. قال زيد بن ثابت: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزلت عليه: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» ، ولم يذكر {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى، لا أبصر؟ فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، ثم سري عنه فقال: اكتب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فكتبتها. وقرئ: غير رفعا ونصبا، فمن رفع فهو صفة للقاعدين، والمعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر، أي: لا يستوي القاعدون من الأصحاء والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين. ومن نصب غيرَ جعله استثناء من القاعدين، يعني: لا يستوي القاعدون إلا أولو الضرر، وهذا الوجه اختيار الأخفش، قال: لأنه استثني بها قوم لم يقدروا على الخروج، وهو أيضا قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما: 247 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُخَلَّدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكِسَائِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ،

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] نَصْبًا وقوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] عطف على قوله: القاعدون والمعنى: ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر والمؤمنون المجاهدون سواء، إلا أولي الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عن الجهاد. وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95] يعني من أهل العذر درجة، وذلك أن المجاهدين مباشرون للطاعة فلهم فضيلة على القاعدين من أهل العذر، وإن كانوا هم على نية الجهاد وقصده. وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] قال مقاتل: يعني المجاهد والقاعد، المقدور، والحسنى: الجنة. قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] يعني: القاعدين من غير عذر، والمجاهدون مفضلون عليهم بدرجات، قال ابن محيريز: هي سبعون درجة، ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا. 248 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقَ كَلِمَتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قوله: درجات منه يعني: منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة، قال السدي: فضلوا بسبع مائة درجة.

وروى أبو هريرة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» . وقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] يريد: للفريقين جميعا، للمجاهدين والقاعدين. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {97} إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا {98} فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا {99} وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {100} } قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] قال الفراء: إن شئت جعلت: توفاهم ماضيا، وإن شئت كان على الاستقبال، يريد: تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين. وقوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] أي: بالمقام في دار الشرك، نزلت الآية في قوم كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا، حتى خرج المشركون إلى بدر فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدر، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقالوا لهم: ما ذكر الله سبحانه وهو قوله: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97] أي: أكنتم في المشركين أم في المسلمين؟ وهذا سؤال توبيخ وتعيير. فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك وهو قوله: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: 97] يعني: أرض مكة، فحاجتهم الملائكة بالهجرة عن دارهم، وهو قوله: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] يعني: المهاجرة إلى المدينة مع المسلمين، وذلك أن الله تعالى لم يرض بإسلام أهل مكة حتى يهاجروا، ولذلك قال: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، وذلك أنهم خرجوا مع المشركين يكثرون سوادهم فقتلوا معهم. ثم ذكر أهل العذر في التخلف عن الجهاد فقال: {

إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98] يريد: الذين أقعدهم عن الهجرة الضعف، وقال ابن عباس: هم ناس من المسلمين كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها فيهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك. قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله. وقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [النساء: 98] أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على نفقة، ولا قوة، {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] لا يعرفون طريقا إلى المدينة دار الهجرة. {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99] الآية، قال الزجاج: أعلم اللهُ أن هؤلاء راجون العفو كما يرجو المؤمنون. وعسى كلمة ترجي، وما أمر الله أن يرجى من رحمته فمنزلة الواقع، وكذلك الظن بأرحم الراحمين. قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} [النساء: 100] قال الزجاج: المعنى: يجد في الأرض مهاجرا، لأن المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة وإن اختلف اللفظان، وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب، يقال: راغمت فلانا أي: هجرته وعاديته ولم أبال رغم أنفه، وإن لصق أنفه بالتراب. وقال أبو عمرو بن العلاء في قوله: مراغما: الخروج عن العدو برغم أنفه. وقال ابن قتيبة: المراغمة والمهاجرة واحدة، يقال: راغمت وهاجرت. وذلك أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغما، أي: مغاضبا لهم، فقيل للمذهب: مراغم. قال ابن عباس في رواية الوالبي: منحولا من أرض إلى أرض. وقال مجاهد: متزحزحا عما يكره. وقال ابن زيد: مهاجرا. وقوله: وسعة أي: من الرزق، وقال قتادة: وسعة من العيلة إلى الغنى.

وقال أهل المعنى: وسعة في إظهار الدين، وذلك أن المشركين كانوا قد ضيقوا عليهم في أمر دينهم حتى منعوهم من إظهاره. قوله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب بالآية التي نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليث لبنيه، وكان شيخا كبيرا: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت، فصفق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات حميدا، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرا. فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية. وهذا قول جماعة المفسرين. ومعنى {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وجب ثوابه، والمؤمن إذا قصد طاعة ثم أعجزه العذر عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة، وهذا معنى قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] . {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا {101} وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {102} فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا

اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا {103} } [النساء: 101-103] قوله جل جلاله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] الآية، يقال: قصر الصلاة وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز. وفرض المسافر أربع، إلا إن رخص له في القصر، إن شاء أخذ بالرخصة، وإن شاء أتم على أصل الفرض لأن الله تعالى قال {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء: 101] ، وهذا اللفظ للإباحة، لا للإيجاب. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] قال ابن عباس: يريد: أن يقتلكم، ومثل هذا قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] أي: يقتلهم. وظاهر قوله: إن خفتم يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر على ذلك، فإن القصر مباح في السفر عند الأمن، ولكن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثرها لم تخل عن خوف العدو، والقصر في الأمن جائز. 249 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فِيمَ إِقْصَارُ النَّاسِ لِلصَّلاةِ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» 250 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّصْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْيَشْكُرِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» قوله عز وجل {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآية: 251 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي دَارِهِ بِالْحِيرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السّمندِيُّ، سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَنَدِيُّ، بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّحْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَيَّاشٍ الزَّرَقِيُّ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ، لَوْ كُنَّا أَصَبْنَا مِنْهُمْ غِرَّةً، فَقَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهُمْ صَلاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، فَقَالَ: وَهِيَ الْعَصْرُ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَؤُلاءِ الآيَاتِ بَيْنَ الأُولَى وَالْعَصْرِ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وَهُمْ بِعُسْفَانَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ

قال الزجاج: الهاء والميم في: فيهم يعودان على المؤمنين أي: وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم، {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] أي: أقمتها، وإقامة الصلاة: الابتداء في تأديتها {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] أي: فلتقف، يقال: قام الرجل إذا وقف، ومنه قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] أي: وقفوا، قال ابن عباس: تصفّهم يصلون معك. وليأخذوا أسلحتهم أي: وليأخذ الباقون أسلحتهم، فإذا سجدوا أي: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك، {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] أي: الذين أمروا بأخذ السلاح. قوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] قال ابن عباس: يريد: الذين كانوا من ورائهم من لم يكونوا صلوا فليصلوا معك، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، يريد: الذين صلوا أولا. {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} [النساء: 102] أي: يتمنى الكفار لو كنتم مشتغلين كلكم بالصلاة غافلين {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] فيقصدونكم بالقتال، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] قال ابن عباس: يريد: ثقل السلاح على المريض وفي المطرة، فرخص لهم في وضع الأسلحة. وقوله: وخذوا حذركم أي: راعوا العدو وراقبوهم بقلوبكم كيلا يغفلون. قوله جل جلاله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] يعني: صلاة الخوف، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] يعني: المرضى الذين لا يستطيعون الجلوس فإذا اطمأننتم أي: في بلادكم وزالت حركة السفر، فأقيموا الصلاة: فأتموها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فرضا مؤقتا، قال ابن عباس: فريضة بأوقاتها. والمراد ههنا: المفعول، يقال وقَته بمعنى وقّته.

{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] قوله جل جلاله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104] لا تضعفوا عن طلب العدو يعني: أبا سفيان وأصحابه، وذلك أنهم لما انصرفوا من أحد أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسير في آثارهم، فندب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] والألم: الوجع وقد ألم الرجل يألم ألما فهو آلم. وقال قتادة: إن كنتم تتوجعون فإنهم يتوجعون كما تتوجعون، أي: إن ألمتم جراحكم، فهم أيضا في مثل حالكم من ألم الجراح. {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 104] من الأجر والثواب والنصرة {مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] هم وكان الله عليما بخلقه، حكيما فيما حكم لأوليائه بالثواب ولأعدائه بالعقاب. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا {105} وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {106} وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا {107} يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {108} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا {109} وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {110} وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {111} وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {112} } [النساء: 105-112] قوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] نزلت في رجل يقال له طعمة بن أبيرق، سرق درعا

فاستودعها يهوديا، فوجدت عنده، فقال: استودعنيها طعمة بن أبيرق، فأنكر وقال: إنما سرقها اليهودي، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهودي، فانطلقوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان هوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع طعمة، فنزل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء: 105] القرآن، بالحق: لا بالتعدي في الحكم، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] بما علمك الله، {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] الخصيم: الذي يخاصمك. أي: لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن، يعني: طعمة وقومه. واستغفر الله: قال السدي: مما أردت من الجدال عن طعمة، وقال ابن عباس: من همك بقطع اليهودي. {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] يعني: طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق. والاختيان كالخيانة، يقال: خانه واختانه، وقد ذكرنا ذلك عند قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] . ومعنى يختانون أنفسهم: يخونونها بالمعصية، والعاصي خائن لأنه مؤتمن على دينه. وقد صرحت الآية بالنهي عن المجادلة عن الظالمين، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جادل عن طعمة على غير بصيرة فعاتبه الله بهذا، وأمره بالاستغفار، ونهاه عن المعاودة إلى مثله. فما ظنك بمن يعلم ظلم الظالم ثم يستجيز معاونته؟ وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] أي: خائنا فاجرا، وذلك أن طعمة خان في الدرع، وأثم في رميه اليهودي. قوله جل جلاله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} [النساء: 108] الاستخفاء: الاستتار، يقال: استخفيت من فلان. أي: تواريت منه، قال الله تعالى {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد: 10] أي: مستتر، والمعنى: يستترون من الناس، يعني: طعمة وقومه كيلا يطلعوا على كذبهم وخيانتهم، ولا يستخفون: ولا يستترون {مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] أي: عالم بما يخفون وما

يعلنون، إذ يبيتون: يهيئون ويقدرون {مَا لا يَرْضَى} [النساء: 108] ما لا يرضاه الله من القول: وهو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، لأني على دينهم ولا تقبل يمين اليهودي. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] أحاط بسرائرهم. ثم خاطب قوم طعمة، فقال: {هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109] خاصمتم عنهم: عن طعمة وقومه، يعني: جماعة من الأنصار من قرابة طعمة جادلوا عنه عن قومه، {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 109] أي: لا أحد يفعل ذلك {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 109] أي: لا يكون عليهم يوم القيامة وكيل يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم. ثم عرض التوبة على طعمة بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 110] الآية. 252 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدَشٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ سنْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ الْفَأْفَاءُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعْنِي عَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّدُوقُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَامَ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» . يُنَادِي عَلَى الْمِنْبَرِ: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] قوله جل جلاله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] أي: إنما ضر بما فعل نفسه، لأنه لا يؤخذ غير الآثم

بإثمه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء: 111] بالسارق، حكيما: حكم بالقطع على طعمة في السرقة. قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} [النساء: 112] قال الكلبي: لما نزلت هذه الآيات عرف قوم طعمة أنه الظالم فأقبلوا عليه، وقالوا: بؤ بالذنب، واتق الله، فقال: لا والذي يحلف به ما سرقها إلا اليهودي، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} [النساء: 112] ، يقول: بيمينه الكاذبة، أو إثما: يعني سرقه الدرع ورميه بها اليهودي، {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} [النساء: 112] برميه اليهودي البرئ، وإثما مبينا يعني: يمينه الكاذبة. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] قوله جل جلاله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 113] قال ابن عباس: بالنبوة والعصمة. لهمت: قال الفراء، والزجاج: المعنى: لقد همت. {طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113] يخطئوك في الحكم، وذلك: أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجادل عن طعمة ويرمي بسرقته اليهودي. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 113] لأنهم يعملون عمل الضالين بتعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان، {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] لأن الضرر على من شهد بغير حق، ثم ذكر منَّته عليه، فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] قال الزجاج: بين لك في كتابه ما فيه الحكمة التي لا يقع معها ضلال، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] يعني: من أحكام الدين {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} [النساء: 113] بالنبوة والعصمة عظيما. {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {114} وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {115} إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا {116} إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا {117} لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا {118} وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ

فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا {119} يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {120} أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا {121} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا {122} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {123} وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا {124} وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا {125} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا {126} } [النساء: 114-126] قوله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] النجوى سر بين اثنين، ومنه قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، قال مجاهد: هذه الآية عامة بين الناس. يريد: أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير، وهو قوله: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] قال أبو عبيدة: إلا في نجوى من أمر بصدقة، ثم حذف المضاف. أو معروف: قال ابن عباس: بِصِلة رحم، أو بطاعة لله، ويقال لأعمال البر كلها: معروف. لأن العقول تعرفها. وقوله: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] هذا مما حث عليه رسول الله، فقال لأبي أيوب الأنصاري: " ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم

إذا تباعدوا ". وروت أم حبيبة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر لله» . وروي أن رجلا قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث، فقال سفيان: ألم تسمع قول الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] ، فهذا هو بعينه. ثم أعلم الله أن ذلك إنما ينفع من ابتغى ما عند الله، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] ثوابا لا حد له. قوله جل جلاله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] الآية، قال ابن عباس: ثم حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طعمة بالقطع، فهرب ولحق بالمشركين، فنزل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] أي: خالفه، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] ظهر له أن دين الله الإسلام، وأن ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] غير دين الموحدين. وذلك أن طعمة ترك دين الإسلام، وخالف المسلمين، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] ندعه وما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله إياها، وساءت مصيرا: ساءت جهنم موضعا يصار إليه. قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] مضى الكلام في هذه الآية في هذه ال { [.

قوله جل جلاله:] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [سورة النساء: 117] قال ابن عباس: يعني عبادتهم الأوثان: اللات والعزى ومناة وأشباهها من الآلهة التي كانوا يعبدونها. وقال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه فيسمونه: أنثى بني فلان، فأنزل الله إلا إناثا. وقال مقاتل، وقتادة، والضحاك: إلا إناثا: إلا مواتا لا روح فيه. وقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] أي: ما يعبدون بعبادتهم لها إلا شيطانا مريدا بطاعتهم له في عبادتها، فتلك العبادة إذا ليست للأوثان بل هي للشيطان. قال الزجاج: يعني بالشيطان ههنا: إبليس وهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، والمَريد: الخبيث الشرير، وشيطان مريد ومارد واحد، قال الزجاج: ومعنى مَريد: خارج عن الطاعة. وقوله: لعنه الله قال ابن عباس: دحره الله وأخرجه من الجنة، وقال يعني: إبليس {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] قال ابن عباس: يعني من اتبعه وأطاعه. وقال الكلبي نصيبا مفروضا: معلوما. وكل من أطاع إبليس فيما يزينه له فهو من نصيبه المفروض. قوله تعالى: ولأضلنهم: قال ابن عباس: عن سبيل الهدى وطرق الحق. وإضلاله وسواس ودعاء إلى الباطل، ولو كان إليه شيء من الضلالة سوى الدعاء إليها لأضل جميع الخلق، ولكنه كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء» . يعني: إنه يزين للناس الباطل وركوب الشهوات ولا يخلق لهم الضلالة.

وقوله: ولأمنينهم: التمنية: تسهيل سبيل إدراك المنية وهو ما يتمناه الإنسان، والشيطان يمني الإنسان بأن يخيل إليه إدراك ما يتمناه من المال وطول العمر. قال ابن عباس: يريد تسويف التوبة وتأخيرها. وقال الكلبي: ولأمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث. وقال الزجاج: أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون من الآخرة حظا. وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء: 119] البتك: القطع، والتبتيك: التقطيع، وهو في هذا الموضع: قطع آذان البحيرة عند جميع أهل التفسير. وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] قال ابن عباس: يريد دين الله. وهو قول مجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومعنى تغيير دين الله: تبديل الحرام حلالا، والحلال حراما، ومن ارتكب محظورا أو أتى منهيا فقد غير دين الله. {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النساء: 119] من يطعه فيما يدعوه إليه من الضلال {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119] خسر الجنة ونعيمها. قوله جل جلاله: يعدهم ويمنيهم: معنى وعد الشيطان وتمنيته: ما يصل إلى قلب الإنسان من نحو ما يجده من: أنه سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وتعلو على أعدائك، وكل هذا غرور وتمنية، وستهجم عن قريب على الأجل، وقد أبطل أيام عمره في رجاء ما لم يدرك منه شيئا، فالعاقل من لم يعرج على هذا، وجد في الطاعة، وعلم أنه سينقطع عن الدنيا قريبا، وصدق الله في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120] أي: إلا ما يغرهم بإيهام النفع فيما فيه الضر. قوله تعالى: أولئك يعني: الذين اتخذوا الشيطان وليا مأواهم جهنم: مرجعهم ومصيرهم إليها {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 121] يقال: حاص عن الأمر. إذا عدل عنه، والمعنى: أنهم لا بد لهم من ورودها والخلود فيها فلا معدل لهم عنها.

قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 122] ظاهر إلى قوله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123] أكثر المفسرين: على أن هذا في المسلمين وأهل الكتاب، وذلك أن المسلمين قالوا: نحن أهدى منكم. وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم. فأنزل الله هذه الآية، يقول: ليس ثواب الله بالأمنية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] . قال الحسن: هذا في الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير، والمؤمن يجازى بأحسن عمله، ويتجاوز عن سيئاته، ثم قرأ: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] الآية. وقال آخرون: هذا عام في كل من عمل سوءا من مسلم وكافر، ولكن المؤمن يجزى به في الدنيا. 253 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ الصَّلاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فَقَالَ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ " 254 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بَكَيْنَا وَحَزَنَّا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكُمَا أُنْزِلَتْ وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا، إِنَّهُ لا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْكُمْ مُصِيبَةٌ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا خَطِيئَةً، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ»

255 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلا تَلا هَذِهِ الآيَةَ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فَقَالَ: أنا لَنُجْزَى بِمَا عَمِلْنَا هَلَكْنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا بِمُصِيبَةٍ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَمَا يُؤْذِيهِ» وقوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] قال ابن عباس: وليا يمنعه، ولا نصيرا ينصره، وتأويل هذه الآية ظاهر في الكفار، وأما في المسلمين فإنه لا ناصر لأحد في القيامة دون الله تعالى ولا ولي للمسلمين غير الله، وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله. قال قتادة: ثم أفلج الله حجة المسلمين على مَن ناوأهم مِن أهل الأديان بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 124] الآية، قال المفسرون: بين الله تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم. قال مسروق: لما نزل قوله تعالي: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 124] وما بعده من قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} [النساء: 125] الآية. وقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] قال ابن عباس: النقير: النقرة التي تكون في ظهر النواة، ينبت الله منها النخلة، يريد: لا ينقصون قدر منبت النواة. قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125] يعني: توجه بعبادته إلى الله خاضعا له، وهو محسن: قال ابن عباس: موحد لله لا يشرك به شيئا. {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] ملة إبراهيم داخلة في ملتنا

وفي ملتنا زيادة عن ملة إبراهيم، فمن اتبع الإسلام فقد اتبع ملة إبراهيم، وذكرنا معنى الحنيف. وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] قال الزجاج: الخليل: المحب، والمحب الذي ليس في محبته خلل، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله لأنه الذي أحبه الله محبة تامة، وأحب الله هو محبة تامّة. قال: وقيل: الخليل: الفقير، فجائز أن يكون سمي فقيرا لله، أي: الذي يجعل فقره وفاقته إلى الله، والخلة: الحاجة، والخلة: الصداقة. قال ابن عباس: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] صفيا بالرسالة والنبوة. 256 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجُورِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا وَلَهُ فِي أُمَّتِهِ خَلِيلٌ، أَلَا وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ» 257 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ

بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا جِبْرِيلُ لِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا؟ قَالَ: لإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ يَا مُحَمَّدُ " قوله جل جلاله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 126] إخبار عن سعة قدرته، وكثرة مملوكاته ليرغب إليه بالطاعة، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126] علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه شيء. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا {127} وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {128} وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {129} وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا {130} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا {131} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {132} إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا {133} مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {134} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {135} } [النساء: 127-135]

قوله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127] يطلبون منك الفتوى، وهو تبين المشكل من الأحكام. {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] يبين لكم الحكم فيهن، أي: في توريثهن، وكانت العرب لا تورث النساء والصبيان شيئا من الميراث، كما ذكرنا أول ال { [، فنزلت ال: في توريث اليتامى. وقوله:] وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] موضع ما رفع، لأن المعنى: الله يفتيكم والكتاب يفتيكم، يعني آية المواريث في أول هذه ال { [. وقوله:] فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [سورة النساء: 127] يعني: في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول: كتاب الكامل، ويوم الجمعة، وهذا قول الكوفيين، وعند البصريين لا يجوز إضافة الصفة إلى الموصوف. والمراد ب النساء ههنا: أمهات اليتامى، أضيفت إليهن أولادهن اليتامى، وقوله: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] قال ابن عباس: يريد: ما فرض لهن من الميراث. وترغبون: عن أن تنكحوهن لدمامتهن. قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في اليتيمة، يرغب وليها نكاحها، ولا ينكحها فيعضلها طمعا في ميراثها، فنهي عن ذلك. وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] يعني: الصغار من الصبيان، قال ابن عباس: يريد: أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان ولا من الجواري، وهو عطف على يتامى النساء.

والمعنى: يفتيكم في المستضعفين أن تعطوهم حقوقهم لأن ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] يدل على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث. وقوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] قال الفراء: أن في موضع خفض على معنى: ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس: يريد: بالعدل في مهورهن، وفي مواريثهن. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [النساء: 127] يريد: من حسن فيما أمرتكم به {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127] يجازيكم عليه ولا يضيع لكم شيئا منه. قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] الآية. أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا، إما كبرا وإما غيرة، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني وأمسكني واقسم لي ما بدا لك، فأنزل الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] أي: علمت من بعلها: زوجها نشوزا: ترفعا عليها لبغضها، أو إعراضا عنها لموجدة أو أثرة. قال مقاتل: نشوزا عصيانا يعني الأثرة. وهو قول ابن عباس أو إعراضا عنها لما به من الميل إلى أخرى. وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] جعل الله تعالى الصلح جائزا بين الرجل والمرأة إذا رضيت منه بإيثار غيرها عليها.

قال المفسرون: هذا الصلح في القسمة وهو أن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو قد دخلت في السن، وأريد أن أتزوج عليك شابة جميلة وأوثرها عليك في القسم بالليل والنهار، فإن رضيت فأقيمي، وإما كرهت خليت سبيلك، فإن رضيت بذلك وإلا كان الواجب على الزوج تمام حقها من المقام عندها، أو تسريحها بإحسان. وكل ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وهو أن تترك له من مهرها أو بعض أيامها، ومعنى يصَّالحا يتصالحا فأدغم التاء في الصاد. وقرئ يُصلحا من الإصلاح عند التنازع، كقوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 182] . وقوله: والصلح خير: من النشوز والإعراض والفرقة، يقول: إن يصالحا على شيء خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض. وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي: ألزمت البخل، قال المفسرون: أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة شحا بحقه قبل صاحبه فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها. وقوله: وإن تحسنوا: أن تصلحوا، وتتقوا: الجور والميل، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] . قوله عز وجل: ولن تستطيعوا الآية، قال المفسرون: لن تقدروا على التسوية بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك مما لا تقدرون عليه، ولو حرصتم أي: اجتهدتم، {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] إلى التي تحبون في النفقة والقسمة. قال أبو عبيدة: لا يقدر أحد على العدل بين الضرائر بقلبه وليس يؤاخذ به، لأنه لا يستطيع ولا يملكه، لكن عليه أن لا يميل بنفسه وهو الذي وقع عليه النهي، قال الشافعي: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقسم فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك» . يعني: محبته لعائشة. وقوله: فتذروها كالمعلقة: قال ابن عباس: لا أيما ولا ذات بعل.

قال المفسرون: يقول: لا تميلوا إلى الشابة كل الميل فتدعوا الأخرى كالمنوطة لا في الأرض وفي السماء كذلك هذه لا تكون مخلاة فتزوج ولا ذات بعل يحسن عشرتها. وإن تصلحوا: بالعدل في القسم، وتتقوا: الجور، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] لما ملت إلى التي تحبها. قوله تعالى: وإن يتفرقا الآية: ذكر الله تعالى جواز الصلح بين الزوجين إن أحبا أن يجتمعا ويتآلفا، فإن أبت الكبيرة الصلح، وأبت إلا التسوية بينها وبين الشابة، فتفرقا بالطلاق، فقد وعد الله لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق، وهو قوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] قال الكلبي: أمر الله المرأة بزوج أو الزوج بامرأة. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130] الجميع خلقه في الرزق والرحمة حكيما فيما حكم ووعظ وعلم، ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 131] أي: هو مالك ما فيها، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 131] يعني: اليهود والنصارى وإياكم: أوصى {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء: 131] بما أوصاكم به {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 131] يعني أن له ملائكة من السموات والأرض هم أطوع له منكم، {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} [النساء: 131] لا حاجة له، والله تعالى غني بذاته لأنه قادر على ما يريد، حميدا: محمودا على نعمه. قوله جل جلاله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 133] قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين. ويأت بآخرين: قال مقاتل: يخلق غيركم أمثل وأطوع له منكم. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [النساء: 134] قال ابن عباس: يريد متاع الدنيا، {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء: 134] قال الزجاج: كان مشركو العرب لا يؤمنون بالبعث والحساب وكانوا مقرين بأن الله خالقهم فكان تقربهم إلى الله تعالى إنما هو ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها، فأعلم الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة عنده، فينبغي أن يطلب من عنده ثواب الدنيا والآخرة. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] قوام: مبالغة من قائم. قال ابن عباس: كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على مَن كانت، {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] . وقال الزجاج: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإن كان الحق على نفس الشاهد أو على والديه أو أقربيه. وشهادة الإنسان على نفسه: إقراره بما عليه من الحق، فكأنه قيل: ولو كان لأحد عليكم حق فأقروا على أنفسكم. وقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135] أي: أن يكن المشهود غنيا أو فقيرا , قال ابن عباس: يقول: لا تحابوا غنيا لغناه، ولا ترحموا فقيرا لفقره. وقال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني فتمسكوا على القول فيه.

وقوله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] أي: أعلم بهما لأنه يتولى علم أحوالهما من الغنى والفقر، وهذا معنى قول الحسن: الله أعلم بغناهم وفقرهم. وقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] قال مقاتل: فلا تتبعوا الهوى في الشهادة، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى، وهذا من العدول الذي هو الميل والجور. قال ابن عباس: تميلوا عن الحق. وقوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قال مجاهد: وإن تلووا تبدلوا الشهادة، أو تعرضوا تكتموها فلا تقيموها. وهذا مِن ليّ اللسان، كأنه لواها من الحق إلى الباطل، وقال السدي: الليّ: دفع الشهادة، والإعراض: الجحود. وقرئ تلوا بواو واحدة من ولاية الشيء، وهو الإقبال عليه وخلاف الإعراض عنه، والمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] فيجازي المقبل المحسن بإحسانه والمسيء المعرض بإعراضه، وقال قطرب: وإن تلوا من الولاية، يريد: إن تلوا القيام بالحق وتتولوه، وتعرضوا عنه فلا تقوموا به. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا {136} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا {137} } [النساء: 136-137] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل.

وقال الضحاك: الخطاب لليهود والنصارى يقول {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 135] بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمِنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن. وقال جماعة من المفسرين: الخطاب للمؤمنين وتأويل آمنوا بالله: أقيموا واثبتوا ودوموا عليه. وقال مجاهد: الآية خطاب للمنافقين، وذلك إنهم آمنوا في الظاهر بألسنتهم، وكفروا بقلوبهم، فقال الله تعالى آمِنوا بقلوبكم بالله ورسوله. وقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136] قال ابن عباس: يريد القرآن. {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] يريد: كل كتاب نزل على النبيين، وذلك أنه اسم الجنس فصلح للعموم. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الآية: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في اليهود. قال قتادة: آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت بمخالَفتها، ثم آمنت بالإنجيل ثم كفرت بمخالَفته. {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] ما أقاموا على ذلك لأن الله أخبر أنه يغفر كفر الكافر إذا انتهى، فإذا أطلق القول بأنه لا يغفر لهم، علم أن المراد به: ما أقاموا عليه. {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] طريق هدى، وهذا إخبار عمن في معلوم الله أنه لا يؤمن. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا {139} } [النساء: 138-139] قوله جل جلاله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] قال المفسرون: إن المنافقين كانوا يتولون اليهود، فألحقوهم بالتبشير في العذاب، ومعنى بشرهم: أخبرهم، ثم وصفهم فقال: {

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} [النساء: 139] يعني: اليهود {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] كان المنافقون يوالون اليهود ويتوهمون أن لهم القوة والمنعة وذلك قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء: 139] أي: القوة بالظهور على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، والمعنى: أيطلبون أن يتقووا بهم فيظهروا على المسلمين؟ وقوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] أي: الغلبة والقوة لأنه عزيز بعزه ومعز من عز من عباده بما خلق من العزة، فله العزة جميعا من كل وجه. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {140} الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا {141} إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا {142} مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا {143} } [النساء: 140-143] قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 140] الآية، قال المفسرون: الذي نزل عليهم في الكتاب: النهي عن مجالستهم. وهو قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الآية. وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وقوله: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] أي: إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] أي: يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء. {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] أي: إنكم كافرون مثلهم لأن من رضي بالكفر فهو كافر. وهذا يدل على أن من

رضي بمنكر يراه خالط أهله، كان في الإثم بمنزلة المباشر. وقد ورد النهي في هذه الآية عن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله بالباطل فلا يجوز القعود عند من يتكلم في القرآن وتفسيره بالباطل. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 140] الآية، يريد: أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء يجتمعون في جهنم على العقاب. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء: 141] هذه الآية أيضا من صفة المنافقين، قال الكلبي: ينتظرون بكم الدوائر والأحداث. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 141] أي: ظهور على اليهود قالوا: للمؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء: 141] فأعطونا من الغنيمة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} [النساء: 141] قال ابن عباس: ظفر على المسلمين {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] ألم نغلب عليكم. والاستحواذ: الاستيلاء على الشيء، ومنه قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] أي: غلب، قال المبرد: معناه: ألم نغلبكم على رأيكم ونصرفكم عن الدخول في جملة المؤمنين. وقوله: {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] أي: بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهارُ المنَّة على الكافرين، أي: فاعرفوا لنا الحق هذا عليكم، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] بين المؤمنين والمنافقين، قال ابن عباس: يريد: أنه أخر عقاب المنافقين إلى الموت، ووضع عنهم السيف في الدنيا. وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] قال ابن عباس، والسدي: حجة يوم القيامة. 258 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ

فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ادْنُهُ ادْنُهُ، ثُمَّ قَالَ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ} [النساء: 141] يوم القيامة {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] قال أهل المعاني: وذلك أن الله يظهر ثمرة إيمان المؤمنين ويصدق موعدهم، ولم يشركهم الكفار في شيء من اللذات، وكما شاركوهم اليوم حتى يعلموا أن الحق معهم دونهم. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء: 142] يعملون على المخادع بما يظهرونه من الإيمان، ويبطنون خلافه من الكفر وهو خادعهم مجازيهم على خداعهم، وذلك أنهم يعطون نورا كما يعطى المؤمنون، فإذا مضوا على الصراط طفئ نورهم وبقوا في الظلمة. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} [النساء: 142] أي: مع المؤمنين قاموا كسالى: متثاقلين لأنهم لا يرجون لها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا، يراءون الناس بصلاتهم لكي يراهم الناس مصلين لا يريدون بها وجه الله. قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى المنافقون، وما يصلون إلا رياء وسمعة. 259 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ قَطَنٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جُنَادَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا نُودُوا: أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةِ مَا رَجَعَ الأَوَّلُونَ بِمِثْلِهَا , فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا، قَالَ: ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلافِ مَا تُعْطُونَنِي مِنْ قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي، أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمُ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ مَعَ حُرْمَتِكُمْ مِنَ الثَّوَابِ " وقوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] قال الحسن: إنما قل ذلك لأنهم يعملونه رياء، ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيرا. وقال قتادة: إنما قل لأن الله لم يقبله، وما رد الله فهو قليل وما قبله فهو كثير.

قوله عز وجل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] يقال: ذبذبه فتذبذب. أي: حركه فتحرك، وهو كتحريك شيء ما معلق بين السماء والأرض. ومعنى بين ذلك بين الكافرين والمؤمنين، يعني: أنهم مرددون بين الكفر والإيمان. قال السدي، وقتادة: ليسوا بمشركين مصرحين بالشرك، وليسوا بمؤمنين. {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] قال ابن عباس: لا من الأنصار ولا من اليهود. 260 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبَضَيْنِ، إِنْ جَاءَتْ إِلَى هَذِهِ نَطَحَتْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ إِلَى هَذِهِ نَطَحَتْهَا» وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 143] قال ابن عباس: من أضله الله فلن تجد له دينا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا {144} إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا {145} إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {146} مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا {147} } [النساء: 144-147]

قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 144] قال المفسرون: نهى الله المؤمنين أن يوالوا اليهود من قريظة والنضير، وأوعدهم على ذلك بقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] حجة بينة في عقابكم بموالاة الكفار؟ أي: إنكم إذا واليتموهم صارت الحجة عليكم في عقابكم. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قال ابن عباس: في أسفل النار. قال الأخفش، وأبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازل، وكل منزل منها درك. وقال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض. وقرئ الدرَك بفتح الراء وجزمه وهما لغتان. قال الزجاج: الاختيار فتح الراء لأنه أكثر في الاستعمال. وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] أي: مانعا يمنعهم من عذاب الله، من جهة شافعة أو غير ذلك. {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء: 146] من النفاق، وأصلحوا: العمل لله، واعتصموا بالله: وثقوا به والتجأوا إليه، {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] من شائب الرياء. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المنافقون شر من كفر بالله وأولاهم بمقته. وأبعدهم من الإنابة إليه لأنه شرط عليهم في التوبة: الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم ثم شرط الإخلاص لأن النفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب. ثم قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] ولم يقل: فأولئك المؤمنون. أو: من المؤمنين. غيظا عليهم. ثم أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم، فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] . قوله جل جلاله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] الآية: ما استفهام معناه التقرير، أي: إن الله لا يعذب الشاكر المؤمن.

قال ابن عباس في رواية عطاء: ما يريد الله بعذاب خلقه. إن شكرتم: اعترفتم بإحسانه، وآمنتم: بنبيه، وهذا على التقديم والتأخير، أي: إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان يقدم على سائر الطاعات، ولا تنفع طاعة دون الإيمان. 261 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤَخِّرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ " وقال قتادة في هذه الآية: إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا. {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} [النساء: 147] شاكرا للقليل من أعمالكم، عليما: بنياتكم. {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا {148} إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا {149} إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا {150} أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {151} وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {152} } [النساء: 148-152] قوله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] قال عطاء، عن ابن عباس: نزلت الآية في الضيافة، ينزل الرجل بالرجل عنده سعة فلا يضيفه، فإن تناوله بلسانه فقد عذره الله، وهو قوله: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] ، معنى: لا يحب الله أن يجهر بالقبيح في القول، لكن المظلوم يجهر بشكواه. وقال قتادة، والحسن، والسدي، وابن زيد: هذه الآية عامة في كل مظلوم، وله أن ينتصر من ظالمه بالدعاء عليه بما لا يعتدي فيه.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} [النساء: 148] أي: لقول المظلوم، عليما: بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق. قوله جل جلاله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} [النساء: 149] قال ابن عباس: يريد من أعمال البر مثل الصدقة والضيافة، {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149] يأتيك من أخيك المسلم، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء: 149] لمن عفا، قديرا: على ثوابه. قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] يعني: اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] أي: بين الإيمان بالله ورسله. ولا يصح الإيمان بالله والتكذيب برسله أو ببعض منهم، وذلك قوله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] لا يصح التصديق ببعض الأنبياء دون البعض لأن كل نبي قد دعا إلى تصديق من بعده من الأنبياء، فإذا كذبوهم فقد كذبوا من تقدم منهم. وقوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] بيْن إيمان ببعض الرسل وكفر ببعض مذهبا يذهبون إليه. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151] ذِكْر حق ههنا: تأكيدٌ لكفرهم، إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر، ثم نزل في المؤمنين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء: 152] إلى آخر الآية. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا {153} وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {154} } [النساء: 153-154] قوله جل جلاله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] قال المفسرون: إن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كنت صادقا أنك نبي فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] يعني: السبعين الذين ذكرنا قصتهم عند قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ،

وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [النساء: 153] يعني: الذين خلفهم موسى مع هارون حين خرج لميقات ربه. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء: 153] يعني: العصا واليد وفلق البحر، {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] ، ولم نستأصل عبدة العجل، {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153] حجة بينة قوي بها على من ناوأه. قوله جل جلاله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} [النساء: 154] مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [سورة النساء: 154] أي: لا تعتدوا باقتناص السمك فيه، يقال: عدا عُدوا وعَدْوا وعَدَاء وعُدْوَانًا، أي: ظلم وجاوز الحد. وقرأ نافع لا تعْدُّوا ساكنة العين مشددة الدال، أراد: لا تعتدوا ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهم، وروى ورش لا تعَدّوا فتح العين وذلك أنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين. وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] قال ابن عباس: عهدا مؤكدا في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا {155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا {156} وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا {157} بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {158} وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا {159} } [النساء: 155-159] قوله تعالي: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] ما ههنا: صلة مؤكدة، والآية تفسيرها ظاهر إلى قوله {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] يقال: طبع الله على قلب الكافر، أي: ختم عليه فلا يعي وعظا، ولا يوفق للخير. قال الزجاج: جعل الله مجازاتهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 155] قد مر في هذه ال { [.

قوله عز وجل: وبكفرهم يعني: بالمسيح، وجحدوا أنه نبي،] وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 156] حين رموها بالزنا، وزعموا أن عيسى لغير رِشْدَةٍ. {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 157] اليهود تدعي أنهم قتلوا المسيح، وكذبوا في ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] أي: ألقى شبهه على غيره حتى ظنوا لما رأوه أنه المسيح، وذلك أن عيسى عليه السلام لما أراد الله تعالى رفعه إلى السماء قال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فأُلقيَ عليه شبهُه فقتل وصلب وهم يظنون أنهم قتلوا عيسى. وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النساء: 157] أي: في قتله، وكان اختلافهم فيه أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به، كان الشبه قد ألقي على وجهه، ولم يلق عليه شبه جسد عيسى، فلما قتلوه ونظروا إليه قالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، فذلك اختلافهم فيه. وقوله: {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [النساء: 157] أي: مِن قتْله، {مَا لَهُمْ بِهِ} [النساء: 157] بعيسى من علم: قتل أو لم يقتل؟ {إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لكنهم يتبعون الظن في قتله، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] وما قتلوا المسيح على يقين من أنه المسيح. {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي: إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سوى الله فيه حكم، فكان رفعه إلى ذلك الموضع رفعا لأنه رفع عن أن يجري عليه حكم العباد. يؤكد هذا أن الحسن قال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي: إلى السماء، كما قال: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وكانت الهجرة إلى المدينة. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [النساء: 158] في اقتداره على نجاة من يشاء من عباده، حكيما: في تدبيره في نجاة عيسى. قوله جل جلاله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلا ليؤمنن به، أي: بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام. قال عطاء عن ابن عباس: إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله

إلا آمن به وصدقه، وشهد أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه، وهذا قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير. 262 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الثَّوْرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] على أن قد بلغ رسالة ربه وأقر بالعبودية على نفسه. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا {160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {161} لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا {162} } [النساء: 160-162] قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] قال مقاتل: كان الله عز وجل حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا، ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما، فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس بالباطل،

وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية. قوله: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] يعني: ما أخذوه من الرشى في الحكم وغير ذلك. قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161] خص الكافرين منهم لأنه علم أن منهم من يؤمن فيأمن العذاب. قوله جل جلاله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162] هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب. وعني بالراسخين: المبالغين في علم الكتاب، كعبد الله بن سلام وعدة نفر، قال الزجاج: يعني أنهم بعلمهم وبصيرتهم وثبوتهم في علمهم آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: والمؤمنون: قال ابن عباس: والمؤمنون من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: والمقيمين الصلاة نص سيبويه على أن: والمقيمين نصب على المدح، والعرب تقول: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد، على معنى: اذكر المطعمين وهم المغيثون، وكذلك هذه الآية هنا معناها: اذكر المقيمين، وهم المؤتون الزكاة. {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا {163} وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا {164} رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {165} } [النساء: 163-165] قوله جل جلاله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] الآية: قال ابن عباس: إن جماعة من اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

ما أوحى الله ولا إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله وأنزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] الآية. وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] الزبور الكتاب، وكل كتاب زبور، وهو فعول بمعنى مفعول، كالرسول والركوب والحلوب، وأصله من زبرت الكتاب. بمعنى كتبت، وقرأ حمزة زُبورا بضم الزاي على أنه جمع زبر وهو الكتاب سمي المفعول باسم المصدر، ثم جمعه كما يسمى المكتوب كتابا، ثم يجمع على كتب. قوله تعالى: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] الآية: قال الكلبي: يقول من الرسل من قد سميناهم لك في القرآن وعرفناكهم إلى من بعثوا، وما رد عليهم قومهم، ومنهم من لم نسمِّه لك. وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي: مخاطبة من غير واسطة، وتأكيد كلم بالمصدر: يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة لا كما تقول القدرية: إن الله تعالى خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام لأنه لا يكون ذلك كلام الله. قال أحمد بن يحيى: لو قال: وكلم الله من غير أن يؤكد بالمصدر لاحتمل كما قالوا، فلما قال تكليما سقط الشك الذي كان يدخل في الكلام لأن أفعال المجاز لا تؤكد بذكر المصادر، لا يقال: أراد الحائط أن يسقط إرادة. قوله جل جلاله: رسلا مبشرين أي: بالجنة لمن أطاع ومنذرين: بالنار لمن عصى، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] لأنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس حجة في ترك الطاعة والتوحيد والمعرفة لأن هذه الأشياء إنما وجبت ببعث الرسل، وقد قال في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [طه: 134] ، فبين أنهم كانوا يحتجون بعدم الرسل لو لم تبعث إليهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [النساء: 165] في اقتداره على إنجاز موعوده على ألسنة رسله حكيما: في إرساله الرسل. {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {166} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا {167} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا {168} إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {169}

يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {170} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {171} } [النساء: 166-171] قوله عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] قال المفسرون: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد سألنا اليهود عنك وعن صفتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك إلينا رسولا، فنزل {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] قال الزجاج: الشاهد: هو المبين لما يشهد به والله عز وجل يبين ما أنزل إليه بنصب المعجزة له، وبيّن صدق نبيه بما يغني عن بيان أهل الكتاب. وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] أي: أنزله وفيه علمه، قال الزجاج: أنزل القرآن الذي فيه علمه، {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166] : من قامت له المعجزة شهدت له الملائكة بصدقه، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شهادة أهل الكتاب بشهادة الله والملائكة. قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 167] يعني اليهود، {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 167] دين الإسلام بقولهم: ما نعرف صفة محمد في كتابنا، {قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] بعدوا عن سبيل الخير فلا يهتدون. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 168] يعني اليهود، وظلموا: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتمانه نعته {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] يعني: من مات منهم على الكفر {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء: 168] يعني: دين الإسلام. {إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء: 169] يعني: طريق اليهودية وهو طريق جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 169] لأنه قادر على أن يخلق لهم العذاب والألم شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى. قوله جل جلاله: يأيها الناس قال ابن عباس: يريد المشركين، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] أي: بالهدى والصدق وشهادة أن لا إله إلا الله، {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170] قال الزجاج: قال الخليل وجميع

البصريين: هذا محمول على المعنى كأن معنى قوله: «آمنوا خيرا لكم» : ائتوا خيرا لكم. وقوله: وإن تكفروا أي: بتكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء: 170] ملكا واقتدارا عليه، أي: أنه غني عنكم وعن إيمانكم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء: 170] بما يكون منكم من إيمان وكفر، حكيما: في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم. قوله جل جلاله: يأهل الكتاب يريد: النصارى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] أي: لا تتجاوزوا حد الحق، يقال: غلا يغلو غلوا إذا جاوز الحق. والنصارى غلت في المسيح، فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى جعلوه إلها، وذلك أن الماريعقوبية، نصارى أهل نجران، قالوا: عيسى هو الله. وقالت النسطورية: هو ابن الله. وقال المرقوسية: هو ثالث ثلاثة. فأنزل الله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] . 263 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُطَوَّعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»

وقوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [النساء: 171] أي: فليس لله ولد ولا زوجة ولا شريك هذا هو الحق، ثم أخبر عن عيسى فقال {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] ذكرنا تفسير هذا في سورة آل عمران، قال الكلبي: يعني قوله كن فكان من غير أب. وقوله: وروح منه أي: من خلقه وإحداثه، وذلك أن الله تعالى لما أخرج الأرواح من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم، ثم ردها إلى صلبه أمسك عنده روح عيسى إلى أن أراد خلقه، ثم أرسل ذلك الروح إلى مريم فدخل فيها، فكان منه عيسى وهذا قول أبي بن كعب. 264 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ عَمُّ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرَوْحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالْبَعْثَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ وقوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] قال الزجاج: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، يعني: قولهم الله وصاحبته وابنه.

{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] أي: ائتوا بالانتهاء عن قولكم خيرا لكم مما تقولون {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} [النساء: 171] نزه نفسه {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 171] ملكا وخلقا من غير شريك في ذلك، وإذا استحال الشرك في وصفه استحال الولد، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171] أي: مفوضا إليه القيام بتدبير ملكه الذي لا ملك أوسع منه. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا {172} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {173} يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا {174} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {175} } [النساء: 172-175] قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172] المفسرون يقولون: الاستنكاف والاستكبار واحد. قال الكلبي: لن يتعظم. وقال الأخفش، ومقاتل: لن يأنف. وقال الزجاج: أي: ليس يستنكف الذي يزعمون أنه إله أن يكون عبدا لله، {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] من كرامة الله والمواطن الشريفة وهم أكبر من البشر. ثم أوعد من استكبر عن عبادة الله تعالى، فقال: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} [النساء: 172] الآية. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] قال ابن عباس: يريد بالبرهان: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء من البيان. وإنما قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برهان، لما معه من المعجزة التي تشهد بصدقه. وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] يريد: القرآن، سماه نورا لأنه يتبين به الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور.

قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} [النساء: 175] امتنعوا به من زيغ الشيطان، {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} [النساء: 175] قال ابن عباس: يريد: الجنة. وفضل: يتفضل عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175] دينا مستقيما. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] قوله جل جلاله: يستفتونك الآية، أنزل الله تعالى في الكلالة آيتين، إحديهما: في الشتاء وهي التي في أول السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف. 265 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بَرَاءَةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ 266 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِنِي مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176]

قال ابن عباس: يريد: من ليس له ولد ولا والد {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] أراد: ولا والد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، ودل على المحذوف: أن الفتيا في الكلالة، والكلالة: من ليس له ولد ولا والد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة. وقوله: وله أخت أراد: من أبيه وأمه، لأن ذكر أولاد الأم قد سبق في أول ال { [،] فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [سورة النساء: 176] هذا بيان فرضها عند الانفراد، ولها نصف المال بالتسمية. وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] يعني: أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد، وهذا في الأخ من الأب والأم، أو من الأب. وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] ظاهر إلى قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وروي أن أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزل الله تعالى في أول { [النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، وال: الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت به الرحم من العصبة. وقوله:] يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا، أو: أن لا تضلوا، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا. هذا قول الفراء والكسائي. وقال البصريون: المحذوف ههنا: مضاف، على تقدير: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا فحذف المضاف.

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة. 267 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمَائِدَةِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2} } [المائدة: 1-2] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] قال ابن عباس في رواية الوالبي: بالعهود يعني: ما أحل وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن. وقال مجاهد: ما عقد الله على العباد وما أحل لهم وحرم عليهم. وقال الضحاك: بالعهود التي أخذ الله على هذه الأمة أن يوفوا بها مما أحل وحرم، ومما فرض من الصلاة وسائر الفرائض.

والعقود أوكد العهود، جمع العقد، بمعنى المعقود، وهو الذي أحكم، وما فرضه الله علينا فقد أحكم ذلك، ولا سبيل إلى نقضه بحال. وقال مقاتل بن حيان: أوفوا بالعقود: بالعهود التي عهد الله إليكم في القرآن مما أمركم من طاعته أن تعملوا بها، ونهيكم الذي نهاكم عنه، وبالعهد الذي بينكم وبين المشركين، وفيما يكون من العهد بين الناس. ثم ابتدأ كلاما آخر فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وقال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة. والأنعام جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم وأجناسها. والمراد ب بهيمة الأنعام: الأنعام، وزاد ذكر البهيمة للتأكيد، كما يقال نفس الإنسان. وهذا قول الحسن، والربيع، والضحاك، والسدي، وابن عباس في رواية عطاء، قالوا: هي الأنعام كلها. وقال في رواية الكلبي: بهيمة الأنعام: وحشها كالظباء وحمر الوحش. وقوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] أي: إلا ما يقرأ عليكم في القرآن مما حرم عليكم، وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية. وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] يقال: رجل حرام وقوم حرم، أي: محرمون والمعنى: إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم إذا كنتم محرمين. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] قال الزجاج: أي: الخلق له، يحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] قال أبو عبيدة: الشعائر في كلام العرب: الهدايا المشعرة، أي المعلمة. وقال الزجاج: هي ما أشعر أي أعلم ليهدى إلى بيت الله الحرام.

نزلت في الحطيم بن ضبيعة، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمامة إلى المدينة، فعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام، فلم يسلم، فلما خرج مر بسرح المدينة فاستاق الإبل فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: هذا الحطيم وأصحابه فدونكم، وكان قد قلد ما نهب من سرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى: لا تحلوها بإباحتها والإغارة عليها. وقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي: بالقتال فيه ولا الهدي: وهي كل ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة وشاة ولا القلائد: هي جمع قلادة، وأراد: ولا ذوات القلائد، يعني: الهدايا المقلدة، وعلى قول ابن عباس: أراد ولا أصحاب القلائد وهم الذين قلدوا بعيرهم ليأمنوا. وكانت الحرب في الجاهلية قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة، أو سائقا هديا أو مقلدا نفسه وبعيره من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فلا يتعرض لهؤلاء. فأمر الله المسلمين بإقرار هذه الأمنة على ما كانت عليه في الجاهلية لضرب من المصلحة إلى أن نسخها. وقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي: قاصديه، يعني: الذين يريدون الحج، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 2] يعني: التجارة، ورضوانا: بزعمهم وفيما يظنون. وهذه الآية من أولها إلى ههنا منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ

فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أي: إذا خرجتم من إحرامكم حل لكم الصيد، قال الزجاج: هذا لفظ أمر معناه الإباحة، لأن الله تعالى حرم الصيد على المحرم، وأباحه إذا حل من إحرامه، وليس أنه واجب عليه إذا حل أن يصطاد. وقوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] الجرم معناه في اللغة: الكسب، والجارم الكاسب. والشنآن البغض، يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنئا وشنآنا، إذا بغضته ويجوز شنآنا بسكون النون. أن صدوكم أي: لأن صدوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: 2] ومن أجل أن صدوكم، ومن قرأ إن صدوكم بكسر إن جعله للجزاء على معنى: إن صدوكم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا. ومعنى الآية: لا يحملنكم بغض كفار مكة أن صدوكم: يوم الحديبية {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] على حجاج اليمامة، فتستحلوا منهم محرما، وتمنعوهم عن المسجد الحرام كما منعكم كفار مكة، أو تعرضوا للهدي. وقوله: وتعاونوا: قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا على البر: وهو ما أمرت به، والتقوى: ترك ما نهيت عنه. قال الزجاج: ما مضى من هذه الآية كله منسوخ، إلا تعاون المسلمين على التقوى. وقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] قال عطاء: يريد: معاصي الله والتعدي في حدوده. ثم حذرهم فقال: واتقوا الله: فلا تستحلوا ما حرم، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] إذا عاقب.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] مفسر في { [البقرة، إلى قوله:] وَالْمُنْخَنِقَةُ} [سورة المائدة: 3] : وهي التي تنخنق فتموت، والانخناق: إنعصار الحلق، يقال: خنقه فانخنق. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، قال الزجاج: وبأي وجه اختنقت فهي حرام. والموقوذة: المضروبة حتى تموت ولم تذكَّ، قال الزجاج: هي التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا. والمتردية: هي التي تقع من جبل أو من موضع مشرف فتموت، يقال: تردى، إذا سقط في قليب أو من جبل، ومنه قوله: إذا تردى أي: سقط في النار. والنطيحة: التي تنطحها شاة أو كبش فتموت. وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل منه أكلوا ما بقي، فحرمه الله، والتقدير: وما أكل منه السبع. وقوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي: إلا ما أدركتم ذكاته وهي الذبح، يقال: ذكى فلان الشاة. إذا ذبحها الذبح التام يجوز معه الأكل ولا يحرم.

وهذا استثناء من جميع هذه المحرمات التي ذكرت. قال ابن عباس: يقول: ما أدركت من هذا كله وفيه روح فأذبحه فهو حلال، وإدراك حياته أن توجد له عين تطرف، أو ذنب يتحرك، فأكله جائز إذا ذكي. وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] قال ابن عباس: يريد: الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله. وقال الفراء: النصب: الآلهة التي تعبد من أحجار. قال الزجاج: النصب حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان. وتقدير الآية على هذا القول: وما ذبح على اسم النصب. وقال مجاهد، وقتادة، وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها. وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3] أي: تطلبوا علم ما قسم لكم من الخير والشر بالأزلام، قال المفسرون: كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا، أو غزوا، أو تجارة، أو غير ذلك طلب من الأزلام، وهي قداح كانت في الكعبة عند سدنة البيت مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج السهم الآمر مضى لحاجته، وإن خرج السهم الناهي لم يمض، وواحد الأزلام: زُلَم وزلَم. قال الزجاج: أخبر الله تعالى أن الاستقسام بالأزلام حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول النجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وذلك دخول في علم الله الذي هو غيب، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى. وقد روى أبو الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من تكهن أو استقسم، أو تطير ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» .

وقوله: ذلكم فسق أي: الاستقسام بالأزلام فسق، وهو كل ما يخرج به من الحلال إلى الحرام. وقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3] قال الكلبي: نزلت لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في حجة الوداع، يئس أهل مكة أن يرتد المسلمون راجعين إلى دينهم. فلا تخشوهم: أن يظهروا على دينكم، واخشون: في مخالفة أمري. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أجمعوا على أن المراد ب اليوم يوم عرفة، وهذه الآية نزلت يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقف بعرفات على ناقته العضباء. ومعنى {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أي: ببيان الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية شيء من الفرائض. قال ابن عباس في رواية الوالبي: بعث الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا به زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين، فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] . 268 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزمجاري بِهَا، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] . قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ. 269 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ أَبِي وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لا يَكْمُلُ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ " وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] يريد: أنه أنجز لهم ما وعدهم في قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين. وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] 270 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عُبْدُوسُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمْرَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عِصْمَةُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنِّي نَظَرْتُ فِي الأَدْيَانِ فَارْتَضَيْتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا، فَأَحْسِنُوا صُحْبَتَهُ بِالسَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ بَعِيدٌ عَنِ اللَّهِ، بَعِيدٌ عَنِ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ عَنِ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ» وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] قال الزجاج: من دعته الضرورة في مجاعة. والمخمصة: خلاء البطن من الطعام جوعا. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] قال قتادة: غير متعرض لمعصية. وأصله من الجنف الذي هو الميل، غير متجانف: غير مائل لإثم: وهو أن يأكل من الميتة فوق الشبع تلذذا. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] قال ابن عباس: غفر الله له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه، ورحيم بأوليائه حيث أحل لهم ما حرم عليهم في المخمصة إذا اضطروا إلى أكلها. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {4} الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {5} } [المائدة: 4-5] قوله جل جلاله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] الآية.

روي أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد الصيد بالكلاب والبزاة وقد حرم الله عز وجل الميتة فماذا لنا منها؟ فنزلت هذه الآية. وقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] قال المفسرون: أحل الله للعرب ما استطابوا مما لم ينزل بتحريمه تلاوة مثل: الضباب واليرابيع والأرانب وغيرها، فكل حيوان استطابته العرب فهو حلال، وكل حيوان استخبثته العرب فهو حرام، وهو قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . والطيب في اللغة: المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ. وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] يريد: وصيد ما علمتم، فحذفه، والجوارح الكواسب من الطير والسباع، الواحدة: جارحة، سميت جوارح لأنها تكسب أربابها الطعام بصيدها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور والزمج والعقاب، فما اصطادت من هذه الجوارح صيدا فقتلته فهو حلال. وقوله: مكلبين: المكلب الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد، يقال للصائد: مكلب، ومعنى مكلبين: مؤدبين.

{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] تؤدبونهن لطلب الصيد، وأن لا يأكلن الصيد كما أدبكم الله، {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] إذا كان الضاري معلما ثم صاد صيدا فجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فهو حلال إذا لم يأكل منه. فإن أكل منه، فعند ابن عباس، وطاووس، والشعبي، والسدي: لم يحل أكله وهو الأظهر من مذهب الشافعي، وعند جماعة من الصحابة: يحل وإن أكل وهو أحد قولي الشافعي. وقوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] إذا أرسلتم الكلاب واطلقتموها على الصيد، والأولى للصائد أن يرسل الجارحة على اسم الله، فإن نسي حل أكل صيده كالذابح من المسلمين إن نسي اسم الله على ذبيحته حل أكلها. قوله جل جلاله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] كرر إحلال الطيبات تأكيدا، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] يعني: ذبائح اليهود والنصارى، وإن لم يذكروا اسم الله وذكروا عيسى وعزيرا. قال الشعبي، وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح، فالأكل يحل منه، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] يريد: ذبائحنا لهم حلال، فإذا اشتروها منا كان الثمن لنا حلالا، واللحم لهم حلال، قال الزجاج {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] تأويله: حل لكم أن تطعموهم. وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] قال مجاهد: يعني الحرائر، وقال ابن عباس: يريد العفائف من المؤمنات. وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قال ابن عباس: يريد الحرائر وإماء أهل الكتاب حرام نكاحهن.

واختلفوا في الحربيات من أهل الكتاب، فعن ابن عباس: لا يحل نكاحهن، وإنما يحل نكاح الذميات. وعن الحسن، وسعيد بن المسيب: يحل نكاح الكتابيات ذميات كن أو حربيات. وقوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] يعني: مهورهن، وتقييدا التحليل بإيتاء المهور يدل على تأكيد وجوبه. وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] يعني: تنكحوهن بالمهر والبينة غير معالنين بالزنا، {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] تسرون بالزنا. قال الزجاج: حرم الله الجماع على جهة السفاح، وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج. وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] قال ابن عباس، ومجاهد: بالله الذي يجب الإيمان به. وقال الكلبي: بشهادة أن لا إله إلا الله، فجعل كلمة التوحيد إيمانا. وقال مقاتل: يقول بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمي القرآن إيمانا لأنه يجب الإيمان به. وقال الزجاج: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] أي: من بدل شيئا مما أحل الله فجعله حراما، أو أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع، وقد حبط جميع ما تقرب به إلى الله. وقوله: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] قال ابن عباس: خسر الثواب. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {6} وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7} } [المائدة: 6-7]

قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] قال زيد بن أسلم: يعني إذا قمتم من النوم. قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] المعنى: إذا أردت أن تقرأ. قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا اتجرت فاتجر في البز، وإذا آخيت فآخ أهل الحسب، يريد: إذا أردت التجارة، وإذا أردت مؤاخاة الناس. وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] هي جمع مرفق، وهو المكان الذي يرتفق به، أي: يتكأ عليه من اليد، وكثير من النحويين يجعلون إلى ههنا: بمعنى مع، ويوجبون غسل المرفق، وهو مذهب أكثر العلماء. وقوله: وامسحوا برءوسكم: المسح: مسحك شيئا بيدك كمسح العرق عن جبينك، وكمسحك رأسك في وضوئك. وظاهر الآية: لا يوجب التعميم في مسح الرأس، لأنه إذا مسح البعض فقد حصل ماسحا، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن الباء توجب التعميم، لأن ذلك لا يعرفه أهل النحو. وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] في الأرجل قراءتان: النصب والخفض، أما النصب فهو ظاهر إلا أنه عطف على المغسول، لوجوب غسل الرجلين بإجماع لا يقدح فيه قول من خالف. وأما الكسر فقال أبو حاتم، وابن الأنباري: الكسر بالعطف على المسح غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل، روي ذلك عن ابن زيد أنه قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة في معنى توضأت. قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحا. وعلى هذا: الرأس والرجل ممسوحان، إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل، يدل على ذلك ذكر التحديد،

وهو قوله إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح. وقال جماعة من أهل المعاني: الأرجل معطوفة على الرءوس في الظاهر لا في المعنى، قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيها مختلف، كما قال: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا المعنى: وحاملا رمحا، وكذلك قول الآخر: علفتها تبنا وماء باردا المعنى: وسقيتها ماء. فكذلك المعنى في الآية وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم، فلما لم يذكر الغسل عطف الأرجل على الرءوس في الظاهر. وكعب الإنسان: ما أشرف من فوق رسغه عند قدمه، وقال الأصمعي: الكعبان: الناشزان من جانبي القدم. والأخبار متواترة بوجوب الغسل، والوعيد لمن ترك من قدمه لمعة لم يصبها الماء. 271 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي

الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» ، فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ 272 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ بُطُونِ الأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ» 273 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ

يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْمُسْلِمُ فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ أَظَافِرِهِ، فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ، فَإِذَا عَمِدَ إِلَى الصَّلاةِ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلاتُهُ نَافِلَةً لَهُ» 274 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ 275 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقِطْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُلَيْكٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِلابِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَيُقَالُ: هَؤُلاءِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَمَنَّى الْخَلائِقُ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فأدمغت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد. قال مقاتل: فاغتسلوا. وباقي الآية مشروح في { [النساء، إلى قوله:] مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [سورة المائدة: 6] يعني: من ضيق في الدين، ولكنه جعله واسعا حين رخص في التيمم، {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات، لأن الوضوء يكفر الذنوب. روى أبو أمامة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الطهور يكفر ما قبله ويصير الصلاة نافلة» . وقوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] أي: ببيان الشرائع، وقال محمد بن كعب القرظي: بغفران الذنوب. 276 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَالِينِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَارَهْ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: مَرَّتْ عَلَى عُثْمَانَ فَخَّارَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا بِهِ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «

مَا تَوَضَّأَ عَبْدٌ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ الأُخْرَى» وقال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التمسته في القرآن، فالتمست هذا فوجدته: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1-2] ، فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في { [المائدة:] إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [سورة المائدة: 6] حتى بلغت {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فعرفت أن الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم. وقوله: لعلكم تشكرون: قال عطاء: لكي تشكروا نعمتي، وتطيعوا أمري. قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 7] قال مقاتل: يعني بالنعمة: الإسلام، {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7] قال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: هو ما أخذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وقال جماعة من المفسرين: يعني بالميثاق حين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في كل ما أمر ونهى، والأيمان التي أخذت عليهم يوم بيعة العقبة، ويوم بيعة الرضوان. قال السدي: وكل مؤمن آمن بالله ورسله فهذا داخل في هذا الميثاق. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7] قال ابن عباس: بخفيات القلوب والضمير والنيات.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {8} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ {9} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {10} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11} } [المائدة: 8-11] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة: 8] معنى القيام لله أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتجنبه. {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] : تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، اعدلوا: في الولي والعدو {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: هو أقرب لاتقاء النار. قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11] الآية، قال المفسرون: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه جماعة من أصحابه على بني النضير، وكانوا قد عاهدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الديات، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما إمام متي فلزمني ديتها فأريد أن تعينوني» . فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. وهموا باغتيالهم والفتك بهم، فأذن الله تعالى به حتى فاتوا بأنفسهم، فهو قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [المائدة: 11] يعني: يهود بني النضير {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] بالقتل والاغتيال، {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11] بأن أخبركم حتى خرجتم من عندهم. ثم أخبر الله تعالى عن نقض بني إسرائيل عهد الله، كما نقضت هذه الطبقة فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {12} فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ

تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {13} وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {14} يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ {15} } [المائدة: 12-15] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 12] قال الكلبي، ومقاتل: أخذ الله ميثاقهم على أن يعملوا بما في التوراة، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] النقيب: الأمين الكفيل على قومه. أخذ من كل سبط منهم نقيب فبعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم، ويرجعوا بذلك إلى قومهم، فرجعوا ينهون عن قتالهم، وكانوا قد تواثقوا بينهم أن لا يفعلوا، فنكثوا العهد إلا رجلين: كالب بن يوفنا، ويوشع بن نون. {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] بالعون والنصرة والدفع عنكم بهذه الشرائط، وهي قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12] التعزير: التوقير، والتعزير: النصر باللسان والسيف. قال عطاء: يريد: وقرتموهم. وقال السدي: نصرتموهم بالسيف. وقال مقاتل: أعنتموهم. وأقرضتم الله قال ابن عباس: يعني الصدقات للفقراء والمساكين. قرضا حسنا: قال الضحاك:

تبتغون به وجه الله، وقال ابن المبارك: حلالا طيبا من أموالكم. وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [المائدة: 12] أي: بعد العهد والميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12] أخطأ قصد الطريق، ثم أخبر عن نقضهم فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] ما صلة مؤكدة يريد: فبنقضهم، كما قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] . قال قتادة: إنهم كذبوا بالرسل بعد موسى، وقتلوا الأنبياء، ونبذوا كتاب الله، وضيعوا فرائضه. وقوله: لعناهم قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال مقاتل: عذبناهم بالمسخ. وقال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا. وهو اختيار الزجاج قال: باعدناهم من الرحمة. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] القسوة: الصلابة والشدة في كل شيء، يقال: قسا يقسو قسوة فهو قاس وحجر قاس. وقرأ حمزة قسِيَّة على وزن فعيلة بمعنى قاسية مثل عالم وعليم. قال ابن عباس: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] يابسة عن الإيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] يعني: صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الرجم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] قال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم من اتباع محمد والإيمان به. {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13] أي: على خيانة، قال مقاتل: يعني بالخيانة: الغش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال يمان بن زباب: على كذب وفجور. وقال عطاء: على خيانة منهم مثلما خانوك حين هموا بقتلك.

وقوله: {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [المائدة: 13] يعني: من أسلم منهم ولم ينقضوا العهد {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] منسوخ بآية السيف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] يعني: المعافين المتجاوزين، قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن. قوله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14] قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتبعوه، وهو مكتوب عندهم في الإنجيل. {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان ذلك الحظ، {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] قال المؤرج: حرشنا بعضهم على بعض. وقال النضر: هيجنا. وقال الكلبي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء. قال مجاهد، وقتادة، والسدي: يعني: بين اليهود والنصارى. وقال الربيع: يعني: بين النصارى خاصة وذلك ما بين فرق النصارى من الاختلاف والعداوة، وهذا اختيار الزجاج، قال: تأويل {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14] أي: صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا، {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] وعيد لهم. قال قتادة: لما ذكر نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به دعاهم على أثر ذلك إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 15] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: تكتمون مما في التوراة والإنجيل لأنهم أخفوا منه آية الرجم، وأمْر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] يتجاوز عن كثير مما كتموه فلا يخبرهم بكتمانه. وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] ضياء من الضلالة وهدى، يعني: الإسلام، وقال قتادة: يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو

اختيار الزجاج، قال: النور: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو الذي يبين، وكتاب مبين يعني: القرآن فيه بيان ما يختلفون فيه. {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {16} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17} وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {18} يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {19} } [المائدة: 16-19] قوله جل جلاله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} [المائدة: 16] أي: بالكتاب المبين {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] اتبع ما رضيه الله تعالى مما مدحه وأثنى عليه وهو دين الإسلام، سبل السلام: قال ابن عباس: يريد: دين الإسلام دين الله، والسلام: اسم من أسماء الله تعالى. وقال الزجاج: جائز أن يكون أراد طريق السلام، أي: طرق السلامة التي من سلكها سلم في دينه، ويجوز أن يكون أراد: سبل دار السلام، كما قال {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127] ، ويراد بها طرق الجنة، ولكنه على حذف المضاف. وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] قال ابن عباس: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، بإذنه أي: بتوفيقه وإرادته، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] . قال الحسن: هو الذي يأخذ بصاحبه حتى يؤديه إلى الجنة. يعني: الإسلام، ثم أخبر بكفر النصارى فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وذلك أنهم اتخذوه ربا ومعبودا وجعلوه إلها، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 17] فمن يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئا {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وهذا احتجاج على

النصارى وهو: لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله إذا أتى بإهلاكه وإهلاك غيره. قوله جل جلاله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قال ابن قتيبة: يعنون أنه من حدبه وعطفه علينا كالأب المشفق، وقيل: إن هذا من باب حذف المضاف، معناه: نحن أبناء رسل الله. قال ابن عباس: إنما قالوا هذا حين حذرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوبة الله. وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] أي: لم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بذنوبهم، وهم الذين مسخهم الله تعالى قردة وخنازير من أصحاب السبت وأصحاب المائدة. وهذا احتجاج عليهم وتكذيب لقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، لأن الوالد لا يعذب ولده والحبيب لا تطيب نفسه بتعذيب حبيبه. ثم صرح بتكذيبهم فقال: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] كسائر بني آدم مجزيون بالإحسان والإساءة، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] قال عطاء: لمن يوحد، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] من لا يوحد. وقال السدي: يهدي منكم من يشاء فيغفر له، ويميت منكم من يشاء على كفره فيعذبه. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 18] أي: أنه يملك ذلك لا شريك له فيعارضه، وهو يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء، وإليه المصير وإليه يئول أمر العباد في الآخرة. قوله عز وجل: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19] قال ابن عباس: على انقطاع من الأنبياء. يقال: فتر الشيء يفتر فتورا، إذا سكنت حدته وانقطع عما كان عليه. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بعد انقطاع الرسل، لأن الرسل كانت متواترة بعضها في إثر بعض إلى وقت رفع الله عيسى عليه السلام. وقوله: أن تقولوا أي: لئلا تقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] .

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {20} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ {21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ {22} قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {23} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ {24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {26} } [المائدة: 20-26] قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] قال الكلبي: جعل منكم أنبياء على عهد موسى بن عمران وهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل. وجعلكم ملوكا: قال ابن عباس: جعل لهم الخدم والحشم. وقال مجاهد: كل من لا يدخل عليه إلا بإذنه فهو ملك. وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم وسخر لهم من بني آدم. وقال السدي: يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط بمنزلة العبيد وأهل الجزية. 277 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

قَالَ: «كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَامْرَأَةٌ وَدَابَّةٌ كُتِبَ مَلِكًا» 278 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. وروي أن الحسن تلا هذه الآية فقال: وهل المُلك إلا مركب وخادم ودار؟ وقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] قال مجاهد، والكلبي: بأن ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم. قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] قال قتادة: هي الشام كلها. وقال عكرمة، والسدي: هي أريط. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين. ومعنى المقدسة: المطهرة، وتلك الأرض طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء.

وقوله {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] قال ابن عباس، والسدي: أمركم بدخولها، وفرض عليكم دخولها، {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21] لا ترجعوا إلى دينكم الشرك بالله وإلى معصيته فتنقلبوا خاسرين. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] قال المفسرون: هم العمالقة فرقة من عاد. وأراد بالجبارين: الطوال الأقوياء العظام، من قولهم: رجل جبار، إذا كان طويلا عظيما، تشبيها بالجبار من النخل، وهو الذي فات الأيدي بطوله، قال قتادة: كانت لهم أجسام وخلق عجب ليس لغيرهم. أخبر الله تعالى أنهم أبوا على موسى دخول تلك القرية، واعتلوا بأن فيها قوما جساما أقوياء لا يطيقونهم، وأنهم لا يدخلونها حتى يخرج منها هؤلاء القوم، فذلك قوله {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] . قوله عز وجل: قال رجلان قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هم يوشع بن نون وكالب، {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 23] الله في مخالفة أمره {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23] بالإسلام، قال عطاء: بالصلاح والفضل واليقين. {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] الآية: قال المفسرون: إنهما قالا لبني إسرائيل: نحن أعلم بالقوم، إنهم قد ملئوا منا رعبا، إنا رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة وإنكم تغلبونهم. وذلك قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] في نصره إياكم على الجبارين {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] مصدقين بما أتاكم به رسوله. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24] قال المفسرون: إن عشرة من النقباء نقضوا العهد، وقالوا لبني إسرائيل: رأينا حصونا منيعة وجبابرة، ولا يدان لكم بهم. فجبن القوم وخافوا، ولم يثقوا بنصر الله، وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] قال الحسن: هذا القول كفر منهم بالله.

وقال المفسرون: إنما قالوا هذا جهلا منهم، وفسقوا بذلك، لأن الله تعالى سماهم فاسقين في هذه القصة، وكذلك موسى سماهم فاسقين، وهو قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] ، وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] . قال الزجاج: أعلمَ اللهُ أن أهل الكتاب لم يزالوا غير قابلين من الأنبياء قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الخلاف شأنهم. 279 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا لا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا أنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ، فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ عُمَرَ 280 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنَّمَا يُرِيدُكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ

أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا أنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَنَا حَتَّى تَبْلُغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَكُنَّا مَعَكَ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] قال الكلبي: لما قالوا: اذهب أنت وربك. . . غضب موسى، وكان رجلا حديدا، ف {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] يقول: لم يطعني منهم إلا نفسي وأخي، والمعنى: لا أملك إلا طاعة نفسي وأخي. {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فاقض واحكم بيننا وبين القوم العاصين. قال فإنها: فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم: ممنوعة منهم دخولها أربعين سنة: قال ابن عباس: حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فماتوا في التيه، ولم يدخل بيت المقدس ممن خرج من مصر أحد، لا موسى ولا هارون إلا الرجلان اللذان قالا: ادخلوا عليهم الباب، يوشع وكالب، دخلا بأبناء الذين خرجوا من مصر بعدما تاهوا أربعين سنة. وقال الكلبي: قال الله تعالى لموسى: إذ سميتهم فاسقين فإنها محرمة عليهم. وقوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26] يقال: تاه يتيه توْها وتيْها إذا تحير ولم يهتد، وأرض تيه، وتيهاء، ومتيهة: يتيه فيها الإنسان. قال مجاهد والحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] قال ابن عباس: يريد: لا تحزن على القوم الذين عصوك وعصوني.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27} لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {28} إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ {29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ {30} فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {31} مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ {32} } [المائدة: 27-32] قوله عز وجل: واتل عليهم: واقرأ على قومك نبأ: خبر ابني آدم: قابيل وهابيل بالحق: كما كان {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27] كان هابيل صاحب غنم فنظر إلى خير كثير فتقرب إلى الله تعالى، ونظر قابيل إلى شر قمحه فتقرب به إلى الله تعالى، فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل، ولم تحمل قربان قابيل، فعلم أن الله تعالى قد قبل من أخيه ولم يقبل منه فحسده، وهو قوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ} [المائدة: 27] هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] قال ابن عباس: قال له هابيل: إنما يتقبل الله ممن كان زاكي القلب. والمعنى: من المتقين للمعاصي. قوله جل جلاله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] يقول هابيل لأخيه: لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] في قتلك.

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: تحتمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] بالإثمين، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] قال ابن عباس: يريد: إن جهنم جزاء من قتل أخاه ظلما. قوله جل جلاله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] قال مجاهد: شجعته نفسه على قتل أخيه. وقال قتادة: زينت له نفسه. وقال ابن زباب: سهلت له ذلك. واختاره الأزهري فقال: المعنى: سهلت له نفسه قتل أخيه، أي: جعلته سهلا وهونته. وتقدير الكلام: فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له سهل عليه. {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فأسخط والديه وبقى بلا أخ، وأما الآخرة فأسخط ربه وصار إلى النار. 281 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ كِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ 282 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ

الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ عَلَيْهِ نِصْفُ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ» 283 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّفَّاءُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْد، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْقَى النَّاسِ رَجُلانِ: عَاقِرُ نَاقَةِ ثَمُودَ، وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، مَا يُسْفَكُ عَلَى الأَرْضِ دَمٌ إِلَّا لَحِقَهُ مِنْهُ شَيْءٌ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ " قوله عز وجل: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31] قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به، لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله في جراب على ظهره حتى أَرْوَحَ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31] يثير التراب من الأرض. قال ابن عباس: وكانا غرابين اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، وقابيل ينظر، ثم بحث في الأرض حتى جعل له حفرة فدفنه فيها، ففعل قابيل مثلما فعل الغراب.

وتقدير الكلام: يبحث في الأرض على غراب ميت {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] كيف يستر جيفة أخيه قال قابيل: يا ويلتى أي: قد لزمني الويل بحملي جيفة ميت، {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] على حمله والتطواف به حين رأى الغراب فعل ذلك. قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة: 32] أي: بسبب قتل قابيل أخاه {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] قال عطاء: قضينا. وقال الكلبي: فرضنا على بني إسرائيل. {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32] وجب عليه القصاص {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 32] يعني: الإشراك بالله، {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] قال مجاهد: من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها، كما يصلاها لو قتل الناس جميعا. وقال الحسن: يجب عليه القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه القتل لو قتل الناس جميعا. وقال سعيد بن جبير: من استحل قتل نفس فهو كذلك في دماء الناس كلهم لا يتحرج لها، ومن أحياها: مخافة من الله، وتحرجا من قتلها فكذلك يرى دماء الناس كلهم حراما. وهذا كما يروى عن قتادة، والضحاك أنهما قالا: عظم الله أجرها، وعظم وزرها، فمن استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، لأنهم لا يسلمون منه، ومن أحياها فحرمها وتورع عن قتلها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] لسلامتهم عنه. قال مجاهد: ومن لم يقتلها فقد أحياها. قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 32] قال ابن عباس: بأن لهم صدق ما جاءوا به من الفرائض والحلال والحرام. {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] مجاوزون حد الحق. {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي

الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {33} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {34} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {35} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {36} يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ {37} } [المائدة: 33-37] قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية: نزلت في قصة العرنيين، وهي ما 284 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَاسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الزَّوْدَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، إِلَى قَوْلِهِ قَتَادَة

ومعنى {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] يعصونهما ولا يطيعونهما، وكل من عصاك فهو حرب لك. {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] أي: بالقتل والسرقة وأخذ الأموال، فكل من أخذ السلاح على المسلمين فهو محارب لله ورسوله، وإن كان في بلد كالمكابر في البلاد، وهذا قول مالك، والأوزاعي، ومذهب الشافعي. وقوله تعالى: أن يقتلوا إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال الوالبي، عن ابن عباس: أو دخلت للتخيير ومعناها: الإباحة، إن شاء الإمام قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى. وهذا قول الحسن، وسعيد بن المسيب، ومجاهد. وقال ابن عباس في رواية عطية: أو ليست للإباحة، إنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية، فمن قتل وأخذ المال صلب وقتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع، ومن سفك الدماء وكف عن الأموال قتل، ومن أخاف السبيل ولم يقتل نفي، وهذا قول قتادة، والسدي، ومذهب الشافعي. قال الشافعي: ويحد كل واحد بقدر فعله، فمن وجب عليه القتل والصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه، ويصلب ثلاثا ثم ينزل، ومن وجب عليه القتل دون الصلب قتل، ودفع إلى أهله يدفنونه، ومن وجب عليه القطع دون القتل قطعت يده اليمنى ثم حسمت، ثم رجله اليسرى، ثم حسمت، وذلك معنى قوله: من خلاف. وقوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال ابن عباس: هو أن يهدر الإمام دمه، فيقول: من لقيه فليقتله، هذا فيمن لم يقدر عليه. فأما المقبوض عليه فنفيه من الأرض بالحبس والسجن، لأنه إذا سجن وضع من التقلب في البلاد فقد نفي منها. أنشد ابن قتيبة، وابن الأنباري قول بعض المسجونين: خرجنا من الدنيا ونحن مِنَ اهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا موتى

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وقوله {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] أي: فضيحة وهوان، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وهذا للكفار الذين نزلت فيهم الآية. ثم جرى حكم هذه الآية على المحاربين من المسلمين، فبقى العذاب العظيم في الآخرة للكافرين. والمسلم إذا عوقب بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له. قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] أكثر أهل التفسير: على أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى، ولا يطالب بشيء مما أصاب، لا مال ولا دم، وكذلك لو آمن من بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء. قال الزجاج: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإسلام. فأما المسلم المحارب إذا تاب واستأمن من قبل القدرة عليه، فقال السدي: هو كالكافر إذا آمن لا يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرد إلى أهله. وبهذا حكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حارثة بن بدر، وكان قد خرج محاربا وذلك ما

285 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ أَفْسَدَ فِي الأَرْضِ وَحَارَبَ، فَأَتَى سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ فَانْطَلَقَ سَعِيدٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا جَزَاءُ مَنْ حَارَبَ وَسَعَى فِي الأَرْضِ فَسَادًا؟ قَالَ: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ، قَالَ: فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قَالَ: تُقْبَلُ تَوْبَتُه، قَالَ: فَإِنَّهُ حَارِثُ بْنُ بَدْرٍ فَأَتَاهُ بِهِ فَأَمَّنَهُ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وقال الشافعي: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله، ولا تسقط حقوق بني آدم ما كان قصاصا أو مظلمة في مال. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35] أي: اتقوا عقابه بطاعته، وابتغوا: اطلبوا {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] : ومعنى الوسيلة: الوصلة والقربة من وسل إليه، إذا تقرب إليه. قال ابن عباس: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] القربة. وقال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقال الكلبي: اطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة. {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة: 35] في طاعته لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 36] الآية: أخبرنا الله تعالى أن

الكافر يوم القيامة لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها، ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، ثم أخبر أنهم خالدون في النار لا يخرجون، فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} [المائدة: 37] وإرادتهم الخروج يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج منها، كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] . والثاني: أنهم يتمنون ذلك ويردونه بقلوبهم، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] ، قال الله تعالى {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] 286 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقُوا، قَالَ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا، إِنَّمَا هَذِهِ لِلْكُفَّارِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [المائدة: 36] الآيَةَ كُلَّهَا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {38} فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {39} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {40} } [المائدة: 38-40] قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] قال الحسن، والسدي، والشعبي: أراد الأيمان.

وكذلك في قراءة عبد الله: فاقطعوا أيمانهما وأراد: يمينا من هذا ويمينا من هذه فجمع، قال الفراء، والزجاج: كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع، فقيل: قد هشمت رءوسهما، وملئت ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وذلك أن الإضافة تبين أن المراد بالجمع التثنية، فإذا قلت: شبعت بطونهما، علم أن للاثنين بطنين، والتثنية في هما أغنتك عن التثنية في بطن. وهذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق، وتفصيل ذلك مأخوذ من السنة، وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] قال الزجاج: نصب لأنه مفعول له، والمعنى: فاقطعوهما لجزاء فعلهما، وكذلك: {نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] قال ابن شهاب: نكل الله بالقطع في السرقة عن أموال الناس. والله عزيز: في انتقامه من السارق، حكيم: فيما أوجبه من قطع يده. قال الأصمعي: كنت أقرأ { [المائدة وبجنبي أعرابي، فقرأت هذه ال:، فقلت: نكالا من الله والله غفور رحيم. سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد. فأعدت: والله غفور رحيم. فقال: ليس هذا كلام الله. فتنبهت وقرأت:] وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، فقال: أصبت هذا كلام الله. قلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ قال: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. قوله عز وجل: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] قال ابن عباس: أي تاب بنية صادقة، وترك ظلم الناس، فإن الله يتجاوز عنه ولا يسقط عنه القطع بالتوبة. قال مجاهد: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] تاب الله عليه، والحد كفارة له. وقال الكلبي: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] العمل بعد القطع والسرقة فإن الله يتجاوز عنه. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40] قال الضحاك: يعذب من يشاء على الذنب الصغير إذا قام عليه، {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40] الذنب الكبير إذا نزع عنه. وقال السدي: يهدي من يشاء فيغفر له، ويعذب من يشاء فيميته على كفره.

{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {43} إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44} } [المائدة: 41-44] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] قال الزجاج: أي: لا يحزنك مسارعتهم في نصرة الكفر إذ كنت موعودا النصر عليهم. وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] قال ابن عباس: هم المنافقون {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 41] يعني: يهود المدينة {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] أي: فريق سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك، أي: إنما يجالسونك ويسمعون منك ليكذبوا عليك، ويقولوا إذا خرجوا من عندك: سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منك. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41] يعني: يهود خيبر. قال الزجاج: أي: هؤلاء عيون لأولئك الغُيَّبِ، ينقلون إليهم أخبارك. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] من بعد أن وضعه الله مواضعه، يعني: آية الرجم، يقولون يعني: يهود

خيبر ليهود المدينة: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشرف أهل خيبر زنيا فكان حدهما الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فبعثوا الزانيين إلى بني قريظة ليسألوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا، ما حدهما، قالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه واجلدوا الزانيين، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به. فذلك قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة: 41] يعني: الجلد، فخذوه: فاقبلوه واعملوا به، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} [المائدة: 41] يعني: الجلد، فاحذروا أن تعملوا بغير الجلد. 287 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً سَنَةَ عَشْرٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: لا، وَلَوْلا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِ الرَّجْمِ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الْوَضِيعَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نَجْتَمِعُ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ» ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوا بِهِ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وقوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] قال ابن عباس، ومجاهد: ضلالته. وقال الحسن، وقتادة: عذابه. وقال

الزجاج: قيل: فضيحته. وقيل: كفره. {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41] لن تغني عنه، ولن تدفع عذاب الله عنه، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] وقال ابن عباس: أن يخلص نياتهم. وقال الزجاج: أن يهديهم. ودلت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، فهذه الآية من أشد الآيات على القدرية. وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [المائدة: 41] خزي المنافقين: هتك سترهم بإطلاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كفرهم، وخزي اليهود: فضيحتهم بظهورهم وكذبهم في كتابه الرجم وأخذ الجزية منهم. {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] وهو الخلود في النار. قوله جل جلاله: سماعون للكذب: قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذب عندهم في دعواهم، ويأتيهم برشوة فيأخذونها ويأكلونها، فسمعوا كذبه، وأكلوا رشوته فهو قوله: أكالون للسحت: وهو كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار، والمراد بالسحت ههنا: الرشوة في الحكم. قال مسروق: كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود، فقال له رجل: ما السحت؟ قال: الرشى في الحكم. 288 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَيْرُوزٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ السَّامِيُّ،

حَدَّثَنَا خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَخَذَ رِشْوَةً فِي الْحُكْمِ كَانَتْ سِتْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ» وقوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] هذا تخيير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه، إن شاء حكم وإن شاء ترك. قال إبراهيم، والشعبي، وعطاء، وقتادة: هذا التخيير ثابت اليوم لحكام المسلمين، إن شاءوا حكموا بينهم بحكم الإسلام، وإن شاءوا أعرضوا. وقال الحسن، وعكرمة، والسدي: هذا التخيير منسوخ بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجب على الحاكم منا أن يحكم بين أهل الذمة الذين قبلوا الجزية، ورضوا بجريان أحكامنا عليهم إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم. وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] قال عكرمة، عن ابن عباس: كان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قُتل، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله. فقالوا: بيننا وبينكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] النفس بالنفس. قوله عز وجل: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم الزاني وحدّه، ثم إعراضهم وتركهم القبول لحكمه، فعدلوا عما يعتقدونه حكما إلى ما يجحدون أنه من عند الله طلبا للرخصة، فظهر جهلهم في هذه القصة. وقوله: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] قال ابن عباس: يريد: الرجم، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43] أي: يعرضون عما في التوراة من الحكم، {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] وما أولئك الذين يعرضون عن الرجم بالمؤمنين. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} [المائدة: 44] بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونور: بيان أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] من لدن موسى إلى عيسى. قال ابن عباس: وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة، وهو قوله: الذين أسلموا أي: الذين انقاضوا لحكم التوراة. للذين هادوا: قال ابن عباس: تابوا من الكفر، أي: يحكمون بالتوراة لهم وفيما بينهم. والربانيون والأحبار فقهاء اليهود وعلماؤهم، واحدها حَبْر وحِبْر {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] قال ابن عباس: بما استودعوا وكلفوا حفظه من كتاب الله، {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] كانوا شهداء على الكتاب أنه من عند الله، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} [المائدة: 44] في إظهار صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واخشون في كتمان ذلك والخطاب لعلماء اليهود ولا تشتروا: ولا تستبدلوا بآياتي: بأحكامي وفرائضي ثمنا قليلا يعني: متاع الدنيا وهو قليل، لأنه ينقطع ويذهب. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] اختلفوا في هذا وفيما بعده من قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فقال جماعة: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال له كافر، وهذا قول قتادة، والضحاك، وأبي صالح، ورواية البراء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

289 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَوْثٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] قَالَ: نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قال قتادة في الآيات الثلاث: ليست والله كما تأولها أهل الشبهات وأهل البدع وأهل الفرى على الله وعلى كتابه، وإنما أنزل ما تسمعون في أهل الكتاب حينما نبذوا كتاب الله، وعطلوا حدوده، وتركوا أمره، وقتلوا رسله. وقال الوالبي عن ابن عباس: من جحد شيئا من حدود الله فقد كفر، ومن أقرها ولم يحكم بها فهو ظالم فاسق. وقال طاووس: قلت لابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؟ قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. وقال عبد العزيز بن يحيى: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، وكل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، وأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع فليس هو من أهل هذه الآية. وقال ابن مسعود، والحسن، والسدي: هذه الآيات عامة في اليهود، وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله فقد كفر.

290 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ فَاسِقٌ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] قال الوالبي عن ابن عباس: أخبر الله بحكمه في التوراة وهو أن النفس تقتل بالنفس، إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] : فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين، ويفقئون بالعين العينين. وقال مجاهد عن ابن عباس: إن الله كتب على بني إسرائيل القصاص في القتل، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، وذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة: 45] تقتل {بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ} [المائدة: 45] تفقأ بالعين. ومن رفع العين فإنه عطف جملة على جملة، ولم يجعل الواو للاشتراك في الناصب كما جعله من نصب. وقوله: والجروح قصاص: تعميم بعد التخصيص، لأنه ذكر العين بالعين والأنف بالأنف وما بعدهما، وهذا من

الجروح أيضا، والقصاص في الجروح إنما يثبت فيما يمكن أن يقتص فيه، مثل الشفتين والذكر والأنثيين والقدمين واليدين، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم أو كسر عظم أو جراحة في البطن ففيه أرش. وقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] أي: عفا عن القصاص الذي وجب له {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] قال ابن عباس: مغفرة له عند الله وثواب عظيم. وقال الشعبي: كفارة لمن تصدق به. 291 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {46} وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {47} } [المائدة: 46-47] قوله جل جلاله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] أي: جعلناه يقفو آثار النبيين الذين كانوا قبله، أي: يتبعهم في شرعهم وكتابهم، وهو قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] بعث عيسى بتصديقه. {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] ليس هذا تكريرا للأول، لأن الأول

لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن الإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة، كما أن عيسى جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة. وقوله: وهدى وموعظة معناه: هاديا وواعظا للمتقين: الذين يتقون الشرك. قوله جل جلاله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] هذا إخبار عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل. والتقدير: قلنا: وليحكم أهل الإنجيل، ثم حُذف القول، وحَذْف القول في القرآن كثير، واللام في ليحكم لام الأمر، ولذلك جزم: وليحكم، وقرأ حمزة: وَلِيَحْكُمَ بكسر اللام وفتح الميم على معنى: آتيناه الإنجيل ليحكم، فيكون كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] . {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48} وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {50} } [المائدة: 48-50] قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48] الآية: قال قتادة: لما أخبر الله تعالى بصنيع أهل الكتاب قبلكم وبحكمهم بغير ما أنزل الله، وعظ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بموعظة بليغة، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48] قال مقاتل: يعني: القرآن لم ينزل عبثا. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] قال ابن عباس: يريد: كل كتاب أنزله الله تعالى على الأنبياء. ومهيمنا عليه: قال الوالبي، والسدي، وقتادة، والحسن: أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله، فما أخبر

أهل الكتاب بأمر، فإن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. وقال جماعة من أهل اللغة: المهيمن: الرقيب الحافظ، يقال: هيمن الرجل يهيمن هيمنة إذا كان رقيبا على الشيء، وهو قول الخليل، وأبي عبيدة، قال أبو عبيدة: المهيمن: الشاهد المصدق، واحتج بقول حسان: إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] يعني: بين اليهود بالقرآن، والرجم على الزانيين، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] يقول: لا تتبعهم عما عندك من الحق فتتركه وتتبعهم، كما تقول: لا تتبع زبدا عن رأيك، أي: لا تترك رأيك وتتبعه. وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الشرعة والشريعة واحدة، وهي ما شرع الله للعباد من الصلاة والصوم والنكاح والحج وغيره، معناها في اللغة: الطريقة، لشروع الناس فيها. والمنهاج الطريق الواضح، يقال: نهج الأمر. وأنهج. لغتان، إذا وضح، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: شرعة ومنهاجا: سبيلا وسنة. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم أجمعين: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، والدين واحد لا يقبل الله إلا الإخلاص. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] على أمر واحد، ملة الإسلام، ولكن ليبلوكم أي: ليختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48] أعطاكم من الكتاب والسنن، فاستبقوا الخيرات: سارعوا في الأعمال الصالحات، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48] أنتم وأهل الكتاب {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] من الفرائض والدية والسنن. وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، قد ذكرنا أن هذا ناسخ للتخيير في قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . ومعنى بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بحدود الله وما أنزل في كتابه. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] قال مقاتل: إن رؤساء اليهود

قال بعضهم لبعض: انطلق بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر. فأتوه، وقالوا له: قد علمت أنا إن اتبعناك لاتبعك الناس، وإن لنا خصومة، فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] قال ابن عباس: يردوك إلى أهوائهم. قال أبو عبيدة: كل من صرف عن الحق إلى الباطل، وأميل عن القصد فقد فتن. وقوله: فإن تولوا: فإن أعرضوا عن الإيمان والقرآن {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ} [المائدة: 49] إن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا بالقتل والجلاء والجزية، ببعض ذنوبهم، ويجازيهم بالباقي في الآخرة، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] يعني: اليهود. قوله جل جلاله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] قال المفسرون: معناه: أتطلب اليهودُ في حكم الزانيين حكما لم يأمر الله تعالى به، وهم أهل الكتاب كما يفعل أهل الجاهلية. وقرا ابن عامر: تبغون بالتاء: على معنى: قل لهم يا محمد: أفحكم الجاهلية تبغون؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] قال الزجاج: أي: من أيقن تبين عدل الله في حكمه. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ {52} وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ {53} } قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] قال عطية: جاء عبادة بن الصامت، فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثير عددهم حاضر نصرهم، وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله من ولاية اليهود، وآوي إلى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: لكن أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود، فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية والتي بعدها.

ومعنى لا تتخذوهم أولياء: لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، ولا توالوهم. 292 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا مِنْ حَالِهِ وَحَالِهِ، فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْتَ حَنِيفًا؟ قَالَ: قُلْتُ: دِينُهُ لَهُ، وَلِي كِتَابَتُهُ , قَالَ: لا أُكَرِّمُهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ، وَلا أُعِزُّهُمْ إِذْ أَزَلَّهُمُ اللَّهُ، وَلا أُدْنِيهِمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَوْعَدَ عَلَى مَوْالاتِهِمْ فَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] " قال ابن عباس: كافر مثلهم، وقال الزجاج: من عاضدهم على المسلمين فإنه معهم. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] قال ابن عباس: لا يرشد الكافرين ولا المشركين ولا المنافقين. قوله جل جلاله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة: 52] يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين يسارعون فيهم: قال الكلبي، ومجاهد: يسارعون في موالاة اليهود ومصانعتهم، وقال الزجاج: في معاونتهم على المسلمين. {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب أو قحط ولا يعطوننا الميرة والقرض. {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52] يعني: فتح مكة. في قول الكلبي، والسدي، وقال الضحاك: فتح قرى اليهود. وقال قتادة، ومقاتل: بالقضاء الفصل من نصر محمد على من خالفه.

{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52] أي: خصب وسعة لمحمد وأصحابه، وقال مقاتل: يعني: القتل والجلاء لليهود. فيصبحوا يعني: المنافقين {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [المائدة: 52] من موالاة اليهود ودس الأخبار لهم نادمين. قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 53] ، وقرأ أبو عمرو ويقولَ الذين نصبا على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا، وقرأ أهل الحجاز يقول بغير واو استغناء عن حرف العطف لملابسة هذه الآية بما قبلها. قال الزجاج: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 53] في وقت إظهار الله نفاق المنافقين: أهؤلاء يعني: المنافقين، {الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53] حلفوا بالله بأغلظ الأيمان إنهم مؤمنون، إنهم لمعكم أي: إن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كفرهم وحلفهم بالباطل، قال الله تعالى: حبطت أعمالهم: بطل كل خير عملوه بكفرهم وغشهم المسلمين، فأصبحوا خاسرين خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بفوت الثواب والمصير إلى النار. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {57} وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ {58} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ {59} قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ {60} وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ {61} وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ

السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {62} لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {63} وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {64} } [المائدة: 54-64] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] وقرأ أهل الحجاز: يرتدد بإظهار دالين، قال الزجاج: وهو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف نحو إن يمسسكم ويجوز في اللغة: «إن يمسكم» ، لأنه يحرك الثاني بالفتح عند الإدغام. قال الحسن: علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم، فأخبر أنه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] واختلفوا في ذلك القوم من هم؟ فقال علي بن أبي طالب، والحسن، والضحاك، وقتادة، وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومنكري الزكاة. قال قتادة: لما قبض الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتد عامة العرب، إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل البحرين من عبد قيس، فقال المرتدون: أما الصلاة فنصلي، وأما الزكاة فلا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك، فقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، والله لو منعوني عقالا مما أدوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه. فبعث الله عصائب مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة المفروضة، قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على إثره.

وقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء، وحمدناه في الانتهاء، ورأينا ذلك رشدا. وقال الحسن: لولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر، ولقد قام يوم الردة مقام نبي من الأنبياء. وقال آخرون: المراد بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] الآية: الأشعريون وهو تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما 293 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» يَعْنِي: أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّمَّاكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] قال ابن عباس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافر كالسبع على فريسته، وهذا كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . قال الزجاج في هذه الآية: يقول الله تعالى: إن ارتد أحد عن دينه الذي هو الإيمان فسوف يأتي الله بقوم مؤمنين غير منافقين، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54] ، أي: جانبهم لين للمؤمنين ليس أنهم أذلة مهانون، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ، أي: جانبهم غليظ على الكافرين. قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله أن الصحيح الإيمان لا يخاف في نصرة الدين بيده ولسانه لومة لائم.

294 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَقْرٍ السُّكَّرِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ السّخيتِ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ بَيَانٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ الْجَنَّةَ لا شَكَّ فَلا يَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ» وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] أي: محبتهم لله ولين جانبهم للمؤمنين، وشدتهم على الكافرين، تفضل من الله عليهم، لا توفيق لهم إلا به. قوله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] الآية: قال ابن عباس في رواية عطية العوفي: نزلت في قصة عبد الله بن أبي، وعبادة بن الصامت حين تبرأ من اليهود، وقال: أتولى الله ورسوله والذين آمنوا. وقال جابر بن عبد الله: إن اليهود هجروا من أسلم منهم ولم يجالسوهم، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا، وأقسموا أن لا يجالسونا. فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. والآية عامة في جميع المؤمنين، فكل مؤمن ولي لكل مؤمن، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، ونحو هذا روي عن أبي جعفر الباقر، قال: نزلت في الذين آمنوا. فقيل له: إن ناسا يقولون: إنها نزلت في علي بن أبي طالب. فقال: عليّ من الذين آمنوا.

وقوله: وهم راكعون قال ابن عباس: يعني: صلاة التطوع بالليل والنهار، وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له. قوله جل جلاله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 56] يعني: يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين، قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] معنى الحزب في اللغة: الجماعة، وحزب الرجل: أصحابه الذين معه على رأيه، والمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان. قال الحسن: حزب الله: جند الله. وقال أبو روق: أولياء الله. ومعنى هم الغالبون: أنهم غلبوا اليهود فقتلوا قريظة، وأجلوا بني النضير من ديارهم، وغلبوهم عليها، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا. قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57] قال ابن عباس: كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكان ناس من المسلمين يودونهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى اتخاذهم الدين هزو ولعبا: تلاعبهم بالدين وإظهارهم ذلك باللسان واستبطانهم الكفر. وقوله: والكفار يعني: كفار مكة، وهو نسق على قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 57] يعني اليهود. ومن نصب: كان نسقا على قوله: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا} [المائدة: 57] كأنه قال: ولا تتخذوا الكفار {أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا

اللَّهَ} [المائدة: 57] بطاعته {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] بوعده ووعيده، أي: فلا توالوهم واتركوا موالاتهم. قوله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] أي: إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان، والنداء: الدعاء بأرفع الصوت. قال المفسرون: كان المؤذن إذا أذن للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم، وتغامزوا على طريق السخف والمجون، استهزاء بالصلاة، وتجهيلا لأهلها، وتنفيرا للناس عنها، وعن الداعي إليها. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] ما لهم في إجابتهم لو أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها. قوله جل جلاله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] الآية يقال: نقمت على الرجل، أنقم. إذا أنكرت عليه شيئا وبالغت في كراهته، قال ابن عباس: إن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن يؤمن به من الرسل، فقال: أومن {بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 136] إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا أشر من دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها. ومعنى {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] هل تكرهون منا وتنكرون علينا {إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59] وهذا مما ينكر أو يعاب به. وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] قال الزجاج: المعنى: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم. أي: إنما كرهتم

إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة وكسبكم الأموال، وهذا معنى قول الحسن: لفسقكم نقمتم علينا. قوله جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة: 60] يقول الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لليهود: هل أخبركم بشر مما نقمتم من إيماننا ثوابا وجزاء: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} [المائدة: 60] أي: هو من لعنه الله، وغضب عليه يعني: اليهود {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] يعني ب القردة: أصحاب السبت، وبالخنازير: كفار مائدة عيسى. وقال الوالبي عن ابن عباس: إن المسخين من أصحاب السبت، لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم خنازير. وقوله: وعبد الطاغوت: قال الزجاج: عبد نسق على لعنه الله لأن المعنى: لعنه الله وعبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له. وقرأ حمزة وعبُد بضم الباء، الطاغوتِ بالكسر على تأويل: وجعل منهم عبد الطاغوت، وأراد بالعبُد: العبْد، فضمت الباء للمبالغة، قال أوس بن حجر: أبني لبينى إن أمكمو ... أمة وإن أباكمو عبد أراد: عبدا، فضم الباء.

وليس عبد لفظ جمع، لأنه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] . وقوله: أولئك أي: أهل هذه الصفة شر مكانا: من المؤمنين، قال ابن عباس: لأن مكانهم سقر، ولا شر في مكان المؤمنين حتى يقال: اليهود شر مكانا منهم، ولكن هذا مبني على كلام الخصم وكذلك قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} [المائدة: 60] لأنهم قالوا: لا نعرف أهل دين شرا منكم، فقيل لهم: شر منهم من كان بهذه الصفة. وقوله: {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] أي: عن قصد الطريق. قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [المائدة: 61] الآية: قال الكلبي: إن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: صدقنا أنك رسول الله وهم يسرون بالكفر، وهو قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] أي: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كلتي حالتيهم. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61] أي: من نفاقهم وإبطانهم الكفر. {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 62] قال ابن عباس: يجترئون على الخطأ والتعدي على الناس بما لا يحل. وأكلهم السحت يعني: الرشي في الحكم، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] ذم لفعلهم. قوله: لولا: هلا ينهاهم: عما يرتكبونه من القبيح الربانيون والأحبار: فقهاء اليهود وعلماؤهم، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] . قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي من هذه الآية، أساء الله الثناء على الفريقين على اليهود وعلى العلماء بترك النكير عليهم فيما صنعوا. ودلت الآيتان على أن: تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه. قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] قال المفسرون: إن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على

اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية، فلم عصوا الله في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة. أي: مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول قتادة، والضحاك، وعكرمة، والكلبي. وقال الزجاج: أخبر الله تعالى بعظيم فريتهم فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: لا تمسكها عن الإنفاق. وقوله: غلت أيديهم أي: جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، ولا يلقى يهودي أبدا غير لئيم بخيل. وقال الحسن: غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة، أي: شدت إلى أعناقهم. وتأويله: أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في نار جهنم، {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64] أي: عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار. 295 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزْوِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِصْمَةَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلَّعْنَةٍ أَهْلا، رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَى الْيَهُودِ بِلَعْنَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ»

وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] هذا جواب لليهود، ورد لما افتروه، وإبطال لما بهتوا فيه، أُجيبوا على قدر كلامهم لما قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] يريدون به: تبخيل الله، فقيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أي: هو جواد، {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] ، ومعنى التثنية في يداه: المبالغة في الجود والإنعام. ومذهب قوم إلى أن معنى اليد في هذه الآية: النعمة، فقالوا في قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] نعمة الله مقبوضة، وفي قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] نعمتاه. أي: نعمة الدنيا والآخرة، {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع. وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64] أي: كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم، {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] أي: بين اليهود والنصارى، عن الحسن، ومجاهد، وقيل: أراد: طوائف اليهود، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جدهم وشوكتهم. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] قال ابن عباس: كلما أرادوا محاربتك ردهم الله تعالى، وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك. وهذا قول الحسن. وقال قتادة: هذا عام في كل حرب طلبتها اليهود، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس. وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64] قال الزجاج: أي يجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتبهم.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {65} وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ {66} يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {67} } [المائدة: 65-67] قوله جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا} [المائدة: 65] صدقوا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتقوا: اليهودية والنصرانية، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة: 65] التي عملوها قبل أن تأتيهم، والمعنى: محونا ذنوبهم التي سلفت بالإيمان بك. {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] قال ابن عباس: عملوا بما فيها من التصديق بك والوفاء لله، وأظهروا ما فيها {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] قال ابن عباس: لأنزلت عليهم القطر، وأخرجت لهم من نبات الأرض كلما أرادوا. قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] أي: مؤمنة، وهم العادلة غير الغالية ولا المقصرة، ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] بئس شيئا عملهم، قال ابن عباس: عملوا القبيح وما لا يرضي الله تعالى مع التكذيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] قال الحسن: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله بعثني بالرسالة فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبيّ، فأوعدني فيها: لأبلغها أو ليعذبنني ". وقال ابن الأنباري: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ويخفي بعضه، إشفاقا على نفسه من

تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعزه الله بالمؤمنين قال له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . والمعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرا به، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قال ابن عباس: يقول: إن كتمت آية مما أنزلت إليك لم تبلغ رسالتي. يعني: أنه إن ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، وحاشا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتم شيئا مما أوحي إليه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أي: يمنعك أن ينالوك بسوء من قتل أو أسر. قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فأخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من القبة، فقال: يأيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله. 296 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ يُرْسِلُ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأَرَادَ عَمُّهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ مَنْ يَحْرُسُهُ، فَقَالَ: يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] قال ابن عباس: لا يرشد من كذبك وأعرض عن ذكري. {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {68} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {69} } [المائدة: 68-69] وقوله جل جلاله: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة: 68] قال ابن عباس: لستم على شيء من الدين، حتى تُعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان صفته ونعته، وهو قوله: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 68] أي: تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيها، وقد سبق تفسير هذا إلى قوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68] ، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إن كذبوك. قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 69] ، سبق تفسير هذه الآية في { [البقرة، وارتفع: الصابئون في هذه ال: بالابتداء على التقديم في الكلام والتأخير، على تقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله. . . إلى آخر الآية، والصابئون والنصارى كذلك أيضا كما تقول: إن عبد الله ومحمد قائم. تريد: إن عبد الله قائم ومحمد كذلك، هذا مذهب الخليل، وسيبويه. ] لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ {70} وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {71} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {72} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {74} مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75} قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {76} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ {77} } [المائدة: 70-77] قوله جل جلاله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 70] مفسر إلى آخر الآية في { [البقرة. قوله تعالى:] وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة المائدة: 71] قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذبهم، ولا يبتلوا بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل. وقرئ: ألا تكونُ رفعا، على تقدير: أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وحذف الضمير. وقوله: فعموا وصموا أي: عن الهدى فلم يعقلوه، قال الزجاج: تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا، وبما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 71] بإرساله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعيا إلى الصراط المستقيم، فكانوا بذلك معرضين للتوبة، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] بعد تبين الحق، يعني: الذين لم يؤمنوا منهم، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71] من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل.

قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] إلى قوله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] . 297 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ 298 - وأَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْكَتَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُعَلِّمُكُمْ مَا عَلَّمَ نُوحٌ ابْنَهُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي آمَرُكَ أَنْ لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ "

قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] قالت النصارى، لعنهم الله: الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله، والله أحد ثلاثة آلهة، يبين هذا قول الله تعالى للمسيح: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ؟ ولا بد أن يكون في الآية إضمار واختصار، لأن المعنى أنهم قالوا: إن الله ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة لأن المعنى مفهوم، ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به الآلهة، لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] . والذي يبين أنهم أرادوا بالثلاثة: الآلهة، قوله في الرد عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 73] من الكفر والشرك {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [المائدة: 73] أي: ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول عذاب أليم. قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة: 74] قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام، وكقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا، والمعنى: إن الله يأمرهم بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم. قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75] أي: إنه رسول ليس بإله، كما أن من قبله من الرسل لم يكونوا آلهة، وأمه صديقة: صدقت بآيات الله، كما قال في صفتها: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] . {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] كانا يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الآدميين، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام؟ قال ابن عباس: يريد: هما لحم ودم يأكلان ويشربان ويبولان ويتغوطان. قال ابن قتيبة: هذا ألطف ما يكون من الكناية، لأنه عبر عن الحدث بالطعام، وذلك أن من أكل الطعام فلا بد له من أن يحدث، فلما ذكر أكل الطعام صار كأنه أخبر عن عاقبته، والطعام والحدث ليسا من أوصاف الآلهة. قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} [المائدة: 75] قال ابن عباس: نفسر لهم أمر ربوبيتي. {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] يصرفون عن

الحق الذي يؤدي إلى تدبر الآيات، يقال: أفكه يأفكه إفكا. إذا صرفه، وكل من صرف عن شيء فهو مأفوك عنه. قل: للنصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [المائدة: 76] لأنه لا يملك النفع والضر إلا الله تعالى، {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [المائدة: 76] لكفركم العليم: بضميركم. قوله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] تقدم تفسيره في { [النساء. قوله: غير الحق معناه: مخالفا للحق، أي: في دينكم المخالف للحق، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه،] وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [سورة المائدة: 77] يعني: رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم وأن يقلدوهم فيما هووا. والأهواء: جمع هوى، والمراد بها: المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. وقوله: وأضلوا كثيرا يعني: من اتبعهم على هواهم، {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] عن قصد الطريق، والمعنى: إنهم ضلوا بإضلال غيرهم. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {78} كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {79} تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {81} } [المائدة: 78-81] قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] يعني: أصحاب السبت وأصحاب المائدة: أما أصحاب السبت، فإنهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية ومثلا لخلقك فمسخوا قردة. وأما أصحاب المائدة: فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب

السبت. فأصبحوا خنازير. . . وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد. قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [المائدة: 78] الله والرسل، {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] : يتجاوزون ما أمر به. 299 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْولاهِيجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُوَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيُّ، حَدَّثَنِي عَمِّي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " دُورُوا مَعَ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا دَارَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ نُطِقْ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُونُوا كَحَوَارِيِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ شُقُّوا بِالْمَنَاشِيرِ فِي اللَّهِ، وَصُلِّبُوا فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فِي اللَّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ نُطِقْ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَتْلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكَتْهُمْ مُلُوكٌ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ فَغَيَّرُوا سُنَنَهُمْ، وَعَمِلُوا فِيهِمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَوْرِهِمْ أَنْ حَابَوْهُمْ وَضَاحَكُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَونَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُوا عَلَيْهِمْ خِيَارَكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ " وقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المناكير.

قال ابن عباس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق، فرقة اعتدت في السبت، وفرقة نهتهم ولكنهم لم يدعوا مجالستهم ولا مواكلتهم، وفرقة لما رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم، وبقيت الفرقتان المعتدية والناهية المخالِطة فلعنوا جميعا. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم» . ثم ذم فعلهم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] . قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} [المائدة: 80] قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: يعني من المنافقين {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80] اليهود، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 80] بئس ما قدموا من العمل لمعادهم {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80] والباقي ظاهر إلى قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {82} وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {83} وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ {84} فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ {85} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {86} } [المائدة: 82-86] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} [المائدة: 82] الآية: قال المفسرون: إن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ينبغي أن يكونوا أقرب إلى المؤمنين لأنهم يؤمنون بموسى والتوراة، والكفار كانوا يكذبون بهما، ولكنهم حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.

قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والسدي: يعني: النجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمنوا به، ولم يرد جميع النصارى، مع ظهور عداوتهم للدين. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] ، قال الزجاج: القس والقسيس: من رؤساء النصارى، ويجمع القسيس: قسيسين. وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم. والرهبان جمع راهب، مثل فارس وفرسان، والرهبانية مصدر الراهب، والترهب: التعبد في صومعة. قال ابن الأنباري: مدحهم الله تعالى بالتمسك بدين عيسى، وأنهم استعملوا في أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل. فتأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] ذلك بأن منهم علماء بوصاة عيسى عليه السلام. الدليل على ذلك قوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] أي: عن اتباع الحق والإذعان إليه كما استكبر اليهود وعبدة الأوثان. قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 83] الآية: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: النجاشي وأصحابه، قرأ عليهم جعفر الطيار بالحبشة: كهيعص، فما زالوا يبكون حتى فرغ من القراءة، فذلك قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] يريد: الذي نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الحق. 300 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقُتِلَ فِيهَا صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْثِ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرًا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ فَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا أنا نَصَارَى إِلَى قَوْلِهِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83] قال ابن عباس: مع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يشهدون بالحق. وقال الزجاج: مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك. وقوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] الآية: قال المفسرون: إن هؤلاء الوفد لما رجعوا إلى قومهم لاموهم على ترك دينهم فأجابوهم بهذا.

وقوله: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] يعني: أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دليله قوله تعالى: {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] . قوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85] الآية: إنما علق الثواب بمجرد القول لأنه سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة في قوله: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] ، والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص، واستكانة القلب ومعرفته إذا اقترن به القول فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه الثواب. وقال ابن عباس في قوله: بما قالوا يعني: بما سألوا من قولهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] ، وقولهم {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] ، وهذا يدل على مسألتهم الجنة. وعلى هذا التفسير القول معناه: المسألة. وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] يعني: الموحدين المؤمنين. ولما ذكر الله الوعد لمؤمني أهل الكتاب، ذكر الوعيد لمن كفر منهم وكذب، فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 86] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {87} وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ {88} } [المائدة: 87-88] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الطيبات: اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب. قال المفسرون: هَمَّ قوم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرفضوا الدنيا، ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ويخصوا أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية. واعلم أن الطيبات لا ينبغي أن تجتنب، وسمى الخصاء اعتداء، فقال: ولا تعتدوا أي: لا تجبوا أنفسكم، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم.

301 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا يَذْكُر، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، كِلاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا أَحَلَّ لَهُمْ فَقَالَ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} [المائدة: 88] قال ابن عباس: يريد: من طيبات الرزق اللحم وغيره. {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قال المفسرون: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح حلفوا على ذلك، فلما نزل قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] قالوا: يا رسول الله وكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وتقدم الكلام في معنى لغو اليمين في { [البقرة. وقوله:] وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [سورة المائدة: 89] ، وقرئ بالتشديد، والتخفيف، وبالألف، يقال: عقد فلان

اليمين والعهد، إذا وكده وأحكمه وعقد وعاقد. قال مجاهد: هو ما عقد عليه قلبك وتعمدته. وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] لكل مسكين مد، وهو ثلثا مَنٍّ، وهذا قول ابن عباس، وزيد بن ثابت، والحسن، ومذهب الشافعي. وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وقوتا وسطا وقوتا دون ذلك، فأمروا بالوسط، وهو يعود إلى ما ذكرنا من قدر المد، لأنه وسط في طعام الواحد ليس بسرف ولا تقتير. وقوله: أو كسوتهم: الكسوة معناها: اللباس، وهي كل ما يكتسى به، والتي تجزئ في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة، إذا رأوا رداء، أو قميصا، أو سراويل أو عمامة، أو مقنعة، ثوب واحد لكل مسكين. وقوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] يعني: إعتاق رقبة، ويجب أن تكون سليمة من عيب يمنع من العمل، ولا يجوز إعتاق الرقبة الكافرة في شيء في الكفارات، والحالف مخير بين هذه الثلاثة. وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] قال قتادة: من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته فهو غير واجد، وجاز له الصيام. قال الشافعي: إذا كان قوته، وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة

بالإطعام، وإن لكم يكن عنده هذا القدر فله الصيام، وهو صيام ثلاثة أيام متتابعات في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة. وقال مجاهد: هو مخير في التتابع والتفريق. وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] أي: ذلك الذي يغطي على آثامكم وحنث أيمانكم، واحفظوا أيمانكم: عن الحنث فلا تحنثوا، وقال ابن عباس: لا تحلفوا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ {91} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {92} لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {93} } [المائدة: 90-93] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية: 302 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَصْحَابًا لَهُ شَرِبُوا فَاقْتَتَلُوا، فَكُسِرَ أَنْفُ سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . 303 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْبَيَانَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْبَيَانَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبّ قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] يريد الخمر من جميع الأشربة التي تخمر حتى تشتد وتسكر. 304 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَمَانٍ بن حَبِيبٌ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ حَدَّثَهُمْ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ السَّرِيَّ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ الشَّعْبِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرًا، وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ» 305 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَائِينِيُّ إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عُقَيْلٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْسَقَانِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»

306 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ 307 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ رَجُلا حَدَّثَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ بِمَكَةَ وَسُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ الشَّيْخُ مِثْلِي وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ يَكْذِبُ فِي هَذَا الْمُقَامِ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَنِي رَجُلٌ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَسَأَلَنِي عَنِ الْخَمْرِ، فَقُلْتُ: ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ فَسَلْهُ وَارْجِعْ إِلَيَّ فَأَخْبِرْنِي مَا قَالَ لَكَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى قَعَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: سَأَلْتُهُ عَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأُمُّ الْفَوَاحِشِ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلاةَ وَوَاقَعَ أُمَّهُ وَخَالَتَهُ وَعَمَّتَهُ» 308 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَالْمُعْتَصِرَ وَالْجَالِبَ وَالْمَجْلُوبَ إِلَيْهِ وَالْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِي وَالسَّاقِي وَالشَّارِبَ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»

309 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَمَنْ شَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَلاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي بَطْنِهِ مَاتَ مَيْتَةَ جَاهِلِيَّةٍ» 310 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَازِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ»

311 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ فُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَيْرُوزٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ الْعَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُجَالِسُوا شَرَبَةَ الْخَمْرِ، وَلا تُشَيِّعُوا جَنَائِزَهُمْ، وَلا تُزَوِّجُوهُمْ وَلا تَتَزَوَّجُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْوَدًّا وَجْهُهُ مُزْرَقَّةً عَيْنَاهُ، يُدْلِعُ لِسَانَهُ عَلَى صَدْرِهِ، يَسِيلُ لُعَابُهُ عَلَى بَطْنِهِ، يَقْذُرُهُ مَنْ يَرَاهُ» والميسر: القمار كله، وتقدم معنى الكلام فيه. والأنصاب: قال ابن عباس: آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، واحدها: نُصُب، والأزلام سهام مكتوب عليها: خير وشر، ومعنى الكلام فيه الأنصاب والأزلام. وقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] أي: قبيح مستقذر، يقال: رَجَس الرجل رجَسا، ورَجُس إذا عمل قبيحا. قال الزجاج: بالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء فسماها رجسا، وأعلم أن الشيطان يسول ذلك لبني آدم، وقد قرن الله تعالى تحريم الخمر بتحريم عبادة الأوثان تغليظا وإبلاغا في النهي عن شربها. لذلك قال ابن عباس: لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم إلى بعض، فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. وقوله: فاجتنبوه أي: كونوا جانبا منه، لعلكم تفلحون. قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] أما الخمر فقال

ابن عباس: إن رجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد بن أبي وقاص، فدعاه إلى الطعام وشربوا مسكرا، فوقع بين الأنصاري وبين سعد مراء ومفاخرة، فأخذ الأنصاري لحي بعير فضرب به وجه سعد حتى أثر في وجه سعد. وأما الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيقمر ويبقى حريبا سليبا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء إلى ماله في يدي غيره. وقوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وعبادته. ثم أمر بالانتهاء عن هذه الأشياء، فقال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال ابن عباس: قالوا: انتهينا ربنا. قال ابن الأنباري: بين تحريم الخمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] إذ كان معناه: فانتهوا. قال الفراء: ردد علي أعرابي: هل أنت ساكت، هل أنت ساكت. وهو يريد: اسكت، اسكت. ولما ذكر الأمر باجتناب الخمر وما بعدها، أمر بالطاعة، فقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] فيما يأمرانكم، واحذروا: المحارم والمناهي، فإن توليتم: أعرضتم عما أمرتم، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] معناه: الوعيد، كأنه قيل: فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتوليكم عما بلغ رسولنا. والبلاغ معناه: التبليغ، والمبين الظاهر، أي: ليس على رسولنا إلا أن يبلغ ويبين. وقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية: قال المفسرون: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالوا: يا رسول الله، ما نقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون ويأكلون الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: {فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] يعني: من الخمر والميسر.

وقوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93] يعني: المعاصي والشرك، ثم اتقوا: داموا على الاتقاء، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] اتقوا ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه. 312 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي الْمَائِدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الأَحْزَابِ، قَالَ فِي ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُصِيبَ فُلانٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفُلانٌ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآيَةَ يقول: شربها القوم على تقوى من الله وإحسان، وهي يومئذ حلال، ثم حرمت فيما بعد. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {94} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {95} أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {96} } [المائدة: 94-96] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] الآية، أي: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بصيد البر خاصة، وكان هذا عام الحديبية، كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم محرمون، فنهوا عنها ابتلاء قوله: تناله أيديكم يعني: الفراخ وصغار الوحش ورماحكم يعني: الكبار ليعلم الله: ليرى الله {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] من يخاف الله ولم يره، كقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] . {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [المائدة: 94] بعد النهي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] قال ابن عباس: يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه.

قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] حرم الله تعالى قتل الصيد على المحرم، فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما. قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ. يعني: أن المخطئ في قتل الصيد ألحق بالمتعمد في وجوب الجزاء عليه بالسنة. وهذا مذهب عامة الفقهاء. قال ابن جريج: قلت لعطاء {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، فمن قتله خطأ يغرم، وإنما جعل الغرم على من قتله متعمدا؟ قال: يعظم بذلك حرمات الله، ومضت به السنن. وقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] أي: فعليه جزاء مماثل للمقتول: ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الغزال جمل. ومن قرأ: فجزاءُ مثلِ ما قتل على الإضافة إلى مثل كان معناه: فجزاء ما قتل، ويكون المثل صلة كما تقول: أنا أكرم مثلك. أي: أكرمك، ومعنى القراءتين سواء. وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] قال ابن عباس: يريد: يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم: من أهل ملتكم ودينكم، فقيهان عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] قال ابن عباس: يريد: إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] يعني: أو عليه بدل الجزاء الكفارة، وهي طعام مساكين.

وقرئ بإضافة كفارة إلى طعام، وذلك أنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدي والطعام والصيام، استجيزت الإضافة لذلك، كأنه قيل: كفارة طعام، لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام. قال الشافعي: إذا قتل صيدا فإن شاء جزاه بمثله، وإن شاء قوّم المثل دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاما، ثم يتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوما، وهو قوله {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . قال الفراء: العدل: ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل: المثل. قال ابن الأعرابي: عَدل الشيء وعِدله سواء: مثله. والجزاء إنما يجب فيما يؤكل لحمه من الدواب والطيور، فأما ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء في قتله. 313 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] قال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير: إذا عاد إلى قتل الصيد محرما بعد ما حكم عليه في المرة الأولي حكم عليه ثانيا، فهو بصدد الوعيد لقوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أي: يكافئه عقوبة بما صنع والله عزيز: منيع، ذو انتقام: من أهل معصيته، أي: ذو مكافأة لهم بالعقوبة.

قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] قال ابن عباس: يريد: ما أصيب من داخل البحر، وعني ب البحر: جميع المياه، والأنهار داخلة في هذا. وقوله: وطعامه يعني: ما لفظه البحر أو حسر عنه الماء {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] منفعة للمقيم والمسافر، تأكلون وتبيعون، ويتزود منه عابر السبيل. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] كل صيد صاده المحرم من البر أو صيد له بأمره لم يحل له أكله، واتقوا الله: فلا تستحلوا الصيد في الإحرام، ثم حذرهم بقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] فيجزيكم بأعمالكم. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {97} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {98} } [المائدة: 97-98] قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة: 97] قال مجاهد: سمى البيت كعبة لتربيعها. وقال ابن أبي النجيح: إنما سميت الكعبة لأنها مربعة مكعبة على عمل الكعب. والبيت الحرام معناه: أن الله تعالى قد حرم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلاء وأن يعضد شجره، وما عظم من حرمته. قوله: قياما للناس أي: سببا لقيام الناس إليها بالحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم، لأنه يحط عنهم الذنوب والأوزار عندها، ويغفر لهم ما اقترفوه قبل حجها. وقال جماعة من المفسرين: جعل الله حج الكعبة البيت الحرام قياما لمعاش الناس ومكاسبهم بما يحصل لهم في زيارتهم من التجارة وأنواع البركة. قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه. وقوله: والشهر الحرام يريد:

الأشهر الحرم، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون ويسكفون الدماء بغير حقها، فإذا دخل الشهر الحرام أمنوا على أموالهم وأنفسهم وانبسطوا في متاجرهم، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا، أو قلد بعيره من لحاء شجر الحرم أمن كيف تصرف، وذلك قوله: والهدي والقلائد ولو لم يؤمن الله العرب بهذه الأشياء لفسدت الأرض وفني الناس. وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المائدة: 97] قال ابن قتيبة: فعل الله ذلك لعلمه بما فيه صلاح شئونهم، ليعلموا أنه كما علم ما فيه من الخير لهم أنه يعلم أيضا ما في السموات وما في الأرض. قال ابن الأنباري: ذكر الله في هذه ال { [غيوبا كثيرة من أخبار الأنبياء عليهم السلام وتباعهم، وأشياء من أحوال المنافقين واليهود كانت مستورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، فلما دل عليها قال:] ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سورة المائدة: 97] أي: ذلك يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه لا تخفى عليه خافية. قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 98] قال الكلبي: لمن استحل الحرام، {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] لمن تاب. 314 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَارِجَةُ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» ولما أنذر الله بشدة العقاب، أخبر أنه ليس على الرسول إلا التبليغ، فقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] . {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] أي: فقد بلغ وأنذر وبشر، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] أي: لا يخفى عليه شيء مما تظهرون وما تسرون.

{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {100} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ {102} مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {103} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ {104} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {105} } [المائدة: 100-105] قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] روى جابر، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن الخمر كانت تجارتي، وإني اعتقدت من بيعها مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أنفقته في حج، أو جهاد، أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب» . وأنزل الله تصديقا لقول رسوله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] ، قال عطاء، والحسن: الحرام والحلال، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] معنى الإعجاب: السرور بما يتعجب منه، تقول: يعجبني المال والغنى. أي: يسرني، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى. ثم أمر بالتقوى، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [المائدة: 100] الآية. قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضبا خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا إلا أخبرتكموه. فقام رجل من بني سهم كان يطعن في نسبه وهو عبد الله بن حذافة، فقال: يا نبي الله من أبي؟

فقال: " أبوك حذافة بن قيس. وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار. وقام آخر فقال: يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فأنزل الله هذه الآية. وسأل عن موضع أبيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في النار فهو مما يسوء السائل بيانه. وأما من سأل عن نسبه، فإنه لم يأمن من أن يلحقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير أبيه، فيفتضح فضيحة تبقى عليه بسؤال لم يكلف ذلك. وأما السائل عن الحج فقد سأل عما كان مرفوعا عنه، لأنه كان ظاهر ما نزل من فرض الحج كفاية، فلو كان العدد في الوجوب مرارا لبين في التنزيل أو على لسان الرسول، فسؤاله إذا عن شيء عفا الله، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] . وهذا مؤخر في النظم مقدم في المعنى: لأن التقدير: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم عفا الله عنها. ومعنى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] أي: كف وأمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكما. قال الزجاج: أعلم الله أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، فإذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك، ولا وجه في المسألة عما عفا الله عنه، ولا فيما فيه إن ظهر فضيحة على السائل. وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} [المائدة: 101] أي: عن أشياء {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} [المائدة: 101] فيها من فرض أو إيجاب أو نهي أو حكم، ومست حاجتكم إلى ما هو من جملة ما نزل فيه القرآن، وليس في ظاهرها دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فإذا سألتم عنها حينئذ {تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] . قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 102] أي: سأل الآيات التي بهم غنى عنها فتكلفوا سألتها، كقوم عيسى: سألوا المائدة ثم كفروا بها، وقوم صالح: سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] أي: ما أوجبها ولا أمر بها. والبحيرة: فعيلة من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته. أي: شق أذنها، وهي بمعنى المفعولة. قال المفسرون: البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن شقوا أذنها، وامتنعوا عن ركوبها وذبحها، ولا يجز

لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تمنع من ماء ولا مرعى. وقوله: ولا سائبة: قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر نذر نذرا، أو شكر نعمة، سيب بعيرا، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها. وقال الفراء: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلها إناث سيبت فلم تركب. وقال ابن عباس: هي التي تسيب للأصنام، أي: تعتق لها. وقال سعيد بن المسيب: السائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم. وقوله: ولا وصيلة: الوصيلة من الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاه فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقوله: ولا حام: قال ابن عباس، وابن مسعود: إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره وسيب لأصنامهم فلا يحمل عليه. قال قتادة: كان هذا كله تشديد شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم وتغليظا. وإن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي. 315 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ غَانِمٍ حَدَّثَهُمْ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَنَصَبَ الأَوْثَانَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ» وقوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه يتقولون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام، وهم جعلوها محرمة، لا الله عز وجل حرمها. وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] قال الشعبي، وقتادة: يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء على الله من الرؤساء الذين حرموا هذه الأنعام. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [المائدة: 104] يعني: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون على أنفسهم هذه الأنعام: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 104] في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] من الدين والمنهاج، {

أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] مضى تفسيره. قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قال الفراء، وابن الأنباري: هذا أمر من الله، تأويله: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي. قال الزجاج: إذا قلت: عليك زيدا، فتأويله: الزم زيدا، وعليكم أنفسكم معناه: الزموا أمر أنفسكم، فإنما ألزمكم الله أمرها. {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] من أهل الكتاب إذا اهتديتم، ولا تدل الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يتأول فيقال: إذا حفظ المرء نفسه عن المعاصي، وكان مهتديا لم يضره ضلال غيره من أهل دينه، ولا يجب عليه الأمر بالمعروف، وقد صرح أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا فيما 316 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» قال أبو عبيدة: خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف، فأراد أن يعلمهم أنها ليست كذلك، وأنه لو كان وجهها ذلك ما تكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافها. والذي أذن الله في الإمساك عن تغييره من المنكر: الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم أهل ملل يتدينون بها. ثم قد صولحوا على أن شرطهم ذلك. فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام، فلا تدخل في هذه

الآية والذي يدل على صحة هذه الجملة ما 317 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلِيفَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ضَرِيرٌ فِي بَصَرِهِ، وَذَكَرَ عَتِيقَ بْنَ عُثْمَانَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَعَدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ إِذْ تَأَوَّلَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَسَّرَهَا، وَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَهَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ، لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ عُمِلَ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَسُنَّ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ، فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لا يُسْتَجَابُ لَهُمْ. ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: إِلَّا أَكُنْ سَمِعْتُهَا مِنَ الْحَبِيبِ قَصَمْتُهَا ولابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية طريقة أخرى وهي ما 318 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ:

كَانُوا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَوَقَعَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَامَ كُلُّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَا أَقُومُ إِلَيْهِمَا فَآمُرَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَهْ، لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ حِينَ نَزَلَ كَانَ مِنْهُ آيٌّ مُضِيَ تَأْوِيلُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ، وَمِنْهُ آيٌّ وَقَعَ تَأْوِيلُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌّ وَقَعَ تَأْوِيلُهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِنِينَ، وَمِنْهُ آيٌّ يَقَعُ تَأْوِيلُهَا عِنْدَ السَّاعَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَمِنْهُ آيٌّ يَقَعُ تَأْوِيلُهَا عِنْدَ الْحِسَابِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمُرُوا وَانْهَوْا، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرِؤٌ وَنَفْسَهُ ويدل على صحة ما ذهب إليه ابن مسعود في تأويل هذه الآية ما 319 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثِني عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقُلْتُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «

نَعَمْ، ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ الأَمْرَ لا يُدَانِ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 105] قال عطاء: مصيركم من خالقكم. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] قال: يجازيكم بأعمالكم. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ {106} فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {107} ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {108} } [المائدة: 106-108] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] الآية: قال المفسرون: إن تميما الداري وأخاه عديا كانا نصرانيين، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا، خرجوا تجارا، فلما قدموا الشام مرض بديل، فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه، وطرحه في جوالقه ولم يخبر صاحبيه بذلك، وأوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل رحمه الله فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا فأصابوا الصحيفة بذكر ما كان معه وفيه ذكر الإناء، فقالوا لتميم، وعدي: إنا فقدنا من متاعه إناء من فضة فيه ثلاث مائة مثقال، فقالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء،

وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل هذه الآية والتي بعدها. فقوله: شهادة بينكم: قال الفراء: أي: ليشهدكم اثنان {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] أي: أسبابه ومقدماته حين الوصية: وقت وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] من أهل دينكم وملتكم، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] من غير أهل ملتكم في قول عامة المفسرين. قال شريح: إذا كان الرجل بأرض غربة، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو أي كافر فشهادته جائزة. وقال آخرون: لا تجوز شهادة أهل الذمة في شيء من أحكام المسلمين، ولا يقبل قولهم، ولا يثبت بشهادتهم حكم، وعليه الناس اليوم. وقالوا في قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] أي: من حيكم وقبيلتكم، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي: من غير قبيلتكم ورفقتكم. هو قول الحسن، والسدي، وابن موسى، قالوا: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] قال: كلهم مسلمون. قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] إن سافرتم وسرتم فيها، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] قال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر، وأهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الأكاذيب والحلف الكاذب، فيقسمان: فيحلفان {بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] شككتم في قول الآخرين الذين ليسا من أهل ملتكم. وقوله: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] أي: لا نبيع عهد الله بعرض نأخذه من الدنيا، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106] ولو كان المشهود له ذا قربى، والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] أضيف الشهادة إلى الله

لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها، {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] أي: إن كتمناها لكنا من الآثمين. ولما رفعوها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت الآية، أمرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستحلفوهما: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا. فحلفا على ذلك وخلي سبيلهما، ثم اطلع على إناء من فضة معهما، فارتفعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] أي: فإن اطلع على أنهما أتيا خيانة، واستوجبا إثما بيمينهما الكاذبة، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة: 107] أي: مقام الشاهدين اللذين من غيركم {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] أي: من ورثة الميت وهم الذين استحق عليهم الوصية الأوليان أي: الأقربان للميت. وقرأ حمزة الأولين: وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في هذه الآية في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] ، وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء. وإنما قيل لهم الأولين لتقدم ذكرهم في قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] ، وكذلك: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] ، وذكر في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] وقرأ حفص استَحَقَّ بفتح الحاء والتاء بمعنى وجب، والمعنى: فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميتهم وهم ورثته. وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] قال ابن عباس: ليميننا أحق من يمينهما. وسميت اليمين ههنا شهادة، لأن اليمين كالشهادة على ما يجب عليه أنه كذلك، وما اعتدينا: فيما قلنا من أن شهادتنا أحق من شهادتهما. فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله أنهما ما خانا

وكذبا، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت. قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أدنى إلى الإتيان بالشهادة على ما كتب، أو يخافوا أي: أقرب إلى أن يخافوا {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} [المائدة: 108] على أولياء الميت بعد أيمانهم: فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك الحكم. واتقوا الله: أن تحلفوا أيمانا كاذبة، أو تخونوا أمانة، واسمعوا: الموعظة، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] وعيد لهم بحرمان الهداية. {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {109} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {110} وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ {111} إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {112} قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ {113} قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {114} قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {115} وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {116} مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {117} إِنْ

تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {118} قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {119} لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {120} } [المائدة: 109-120] قوله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] الآية: انتصب اليوم بفعل محذوف على تقدير: احذروا واذكروا يوم يجمع الله الرسل، {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] قال الكلبي: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد. ومعنى المسألة من الله للرسل: التوبيخ للذين أرسلوا إليهم. {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] قال ابن عباس: إن للقيامة زلازل وأهوالا حتى تزول القلوب عن مواضعها، فإذا رجعت القلوب شهدوا لمن صدقهم وعلى من كذبهم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، قالوا: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم. وحكى ابن الأنباري، عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا: معنى الآية لا حقيقة لعلمنا إذ كنا نعلم جوابهم وما كان من أفعالهم وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا، وإنما الجزاء يستحق بما يقع به الخاتمة مما يموتون عليه، فلما خفي عليهم الذي ماتت عليه الأمم لم يكن لعلمهم حقيقة، فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] . يدل على صحة هذا التأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] أي: أنت الذي يعلم ما غاب ونحن نعلم ما نشاهد، ولا نعلم ما في البواطن.

قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 110] مفسر في { [البقرة وآل عمران إلى قوله:] وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} [سورة المائدة: 110] أي: منعتهم عن قتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 110] يعني: ما ذكر في هذه الآية من معجزات عيسى عليه السلام، {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] أي: ما هذا الذي جئت به إلا سحر. ومن قرأ: إلا ساحر أشار به إلى الشخص، يعني: عيسى. قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] قال عامة المفسرين: أي: ألهمتهم، كما قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمها وقذف في قلوبها، وباقي الآية ظاهر. قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة: 112] قال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله، ولا يدل قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة: 112] على أنهم شكوا في استطاعته، وهذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، لكنه يريد: هل يسهل عليك؟ وهل يخف عليك؟ وكذلك في الآية: هل يقبل ربك دعاءك، وهل يسهل عليك إنزال المائدة؟ وقرأ الكسائي: تستطيع بالتاء، ربَّك نصبا على معنى: هل تستطيع سؤال ربك، ومرادهم بالاستفهام: التلفظ في استدعاء السؤال، كما تقول لصاحبك هل تستطيع كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلفظ.

قال ابن عباس: قال عيسى لأصحابه: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم لا تسألون شيئا إلا أعطاكم. فصاموا ثلاثين يوما، ثم قالوا: يا معلم الخير، قد فعلنا الذي أمرتنا، فسل من أمرتنا أن نصوم له أن يطعمنا، فذلك قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] . والمائدة: الخوان بما عليه من الطعام. قال: عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] أي: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم. قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113] أي: نريد سؤال المائدة من أجل هذا، وتطمئن قلوبنا: تزداد يقينا، وذلك أن الدلائل كلما كثرت قويت المعرفة في النفس {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] في أنا إذا صمنا ثلاثين لا نسأل الله شيئا إلا أعطانا. وقوله: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 113] أي: نقر لله بالوحدانية ولك بالنبوة من جهة ذلك الدليل الذي نراه في المائدة، فدعا عيسى، وقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] أي: نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه عيدا، نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا. وآية منك: دلالة على توحيدك وصحة نبوة نبيك وارزقنا: عليها طعاما نأكله {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] . {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة: 115] أي: بعد إنزال المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] يعني: جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم. قال الزجاج: فهذا العذاب جائز أن يعجل لهم في الدنيا، وجائز أن يكون لهم في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة. واختلف العلماء في نزول المائدة: فقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، وإن القوم لما سمعوا الشرط في

قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة: 115] استعفوا، وقالوا: لا نريدها، وهذا أيضا قول مجاهد. والصحيح أنها نزلت، قال ابن عباس: نزلت الملائكة بمائدة من السماء عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا. وقال الكلبي: نزلت وعليها خبز ورز وبقل. 320 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ خِلاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لا يَخُونُوا وَلا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَافُوا وَادَّخَرُوا، وَرُفِعُوا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] الآية، هذا استفهام معناه التوبيخ لمن ادعى ذلك على المسيح، ويكذبهم المسيح فيكون ذلك توبيخا لهم، وهو قوله: قال سبحانك أي: برأتك من السوء، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] أي: لست أستحق العبادة فأدعو الناس إليها، {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] لأنه لا يخفى عليك علم شيء، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك.

والمعنى: تعلم ما أخفيه من سري وغيبي، ولا أعلم ما تخفيه أنت ولم تطلعنا عليه، فلما كان سر عيسى يخفيه في نفسه، جعل أيضا سر الله مما يخفيه الله في نفسه ليزدوج الكلام ويحسن النطم. وقال الزجاج: النفس في اللغة تقع عبارة عن حقيقة الشيء، فمعنى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] أي: تعلم ما أضمره {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أي: لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه. والتأويل: إنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، يدل على هذا قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] . ثم ذكر ما قال لقومه فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] فسر ذلك فقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] أي: أمرتهم بعبادتك لأنك ربي وربهم، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] كنت أشهد على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم، فلما توفيتني يعني: وفاة الرفع إلى السماء من قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] ، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] الحفيظ عليهم تحفظ أعمالهم، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] قال ابن عباس: شهدت مقالتي فيهم وبعد ما رفعتني إليك شهدت ما يقولون بعدي. قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية: قال الحسن وأبو العالية إن تعذبهم: فبإقامتهم على كفرهم، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] فبتوبة كانت منهم. وقال ابن الأنباري: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإسلام فأنت في ذلك قاهر غالب عادل لا يعترض عليك معترض. وهذا اختيار الزجاج لأنه قال: والذي عندي: أن عيسى عليه السلام قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جميعهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل فيهم، وإن تغفر لهم لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في هذا اليوم، ولأنه يوم الجزاء، وما تقدم في الدنيا الصدق إنما يتبين نفعه في هذا اليوم. قال المفسرون: هذا تصديق لعيسى فيما قال، وذلك أنه كان صادقا في الدنيا، ولم يقل للنصارى: اتخذوني إلها فنفعه صدقه.

ومن قرأ هذا يومُ بالرفع فعلى الابتداء والخبر، جعل اليوم خبر المبتدأ الذي هو هذا، والمعنى: قال الله: هذا اليوم يوم منفعة الصادقين. ومن قرأ بالنصب فعلى الظرف على تقدير {قَالَ اللَّهُ هَذَا} [المائدة: 119] يعني: ما تقدم ذكره في يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي: قال الله هذا في يوم القيامة. وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة: 119] أي: بطاعتهم، ورضوا عنه: بثوابه {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] قال الحسن: فازوا بالجنة ونجوا من النار. قال مقاتل: ثم عظم نفسه عما قالت النصارى من أن معه إلها فقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة: 120] قال الحسن: يريد خزائن السموات وهي المطر وخزائن الأرض وهي النبات. قوله: {وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] إشارة إلى أن الآمال يجب أن تتعلق بالله تعالى لعظيم ملكه وسعة قدرته.

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: أنزلت سورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك. 321 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَتَبِعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْعَامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ أُولَئِكَ السَّبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ بَعِدَدِ كُلِّ حَرْفٍ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ يَوْمًا وَلَيْلَةً» 322 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَجَّاجِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ ثَلاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ

سُورَةِ الأَنْعَامِ حِينَ يُصْبِحُ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَحْفَظُونَهُ، وَكَتَبَ لَهُ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَهُ مِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ بِهَا، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، ابْقَ تَحْتَ ظِلِّي، وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ جَنَّتِي، وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ، وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ السَّلْسَبِيلِ، فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، لا حِسَابَ عَلَيْكَ وَلا عَذَابَ " أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان العدل، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسين هارون، حدثنا إسحاق بن محمد بن مروان، وحدثنا أبي، حدثنا نصر بن مزاحم، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي إسحاق الشيباني: بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {1} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ {2} وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ {3} } [الأنعام: 1-3] الحمد لله قال ابن عباس: يريد: على كل فعال، وبكل لسان، وعلى نعم الإسلام، وعلى صحة الأبدان. وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 1] قال الزجاج: ذكر أعظم الأشياء المخلوقة، لأن السماء بغير عمد ترونها، والأرض غير مائدة بنا، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] جعل ههنا: بمعنى خلق، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ، وقال الحسن: أراد بالظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، وقال السدي: يعني: الليل والنهار. وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنعام: 1] يعني عبدة الأوثان {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قال مجاهد: يشركون به غيره. يقال: عدل الكافر بربه عدلا وعدولا، إذا سوى به غيره فعبده، والعدل: التسوية، عدَل الشيء بالشيء إذا سواه به.

قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله , ثم أعلم أن الكفار يجعلون له عدلا فيعبدون الحجارة والموات. قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] قال ابن عباس: يعني: آدم، والخلق من نسله، {ثُمَّ قَضَى أَجَلا} [الأنعام: 2] يعني: أجل الحياة إلى الموت {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] يعني: أجل الموت إلى البعث وقيام الساعة. وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل. قال ابن عباس: إن الله تعالى قضى لكل نفس أجلين، من مولده إلى موته ومن موته إلى مبعثه، فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث، وإذا كان غير صالح ولا واصل لرحمه نقصه الله من أجل الحياة وزاد في أجل البعث، وذلك قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] . ثم أنتم يا معشر المشركين بعد هذا البيان تمترون تشكون وتكذبون بالبعث. قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] قال الزجاج، وابن الأنباري: هو المعبود في السموات والأرض، كما تقول: هو الخليفة في الشرق والغرب. {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] : ما تسرون مما لا يطلع عليه غيركم، {وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] : ما تجهرون به وتعلنونه، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] معنى الكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا لا يوصف فعل الله سبحانه بأنه كسب. {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {4} فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {5} أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ

نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {6} } [الأنعام: 4-6] قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 4] قال عطاء: يريد القرآن {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] تاركين التفكر فيها. فقد كذبوا يعني: مشركي مكة {بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام: 5] قال ابن عباس: بما جاءهم به الصادق الأمين عن الله تعالى، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 5] أي: أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم على استهزائهم بالقرآن. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبناهم. قوله: ألم يروا يعني: مشركي مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6] من أمة وجماعة، يعني: من أهلك من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل، والقرن: الأمة من الناس، وأهل كل مدة قرن. قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ} [الأنعام: 6] قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نعطكم، يعني: وسعنا عليهم في كثرة العبيد والمال والأنعام. يقال: مكنته ومكنت له، إذا أقدرته على الشيء بإعطاء ما يصح به الفعل من العدة، وفي هذا رجوع من الخبر إلى الخطاب. وأرسلنا السماء يعني: المطر عليهم مدرارا كثير الدر. يقال: سحاب مدرار وغيث مدرار. إذا تتابع منه المطر. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام: 6] : بكفرهم وتكذيبهم، وأنشأنا خلقنا وأوجدنا {مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] . {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {7} وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ {8} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ {9} وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {10} } [الأنعام: 7-10] قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] قال الكلبي: قال مشركون مكة: لن نؤمن لك يا محمد حتى

تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية. والقرطاس: كأنه يتخذ من بردي يكون بمصر، وكل كاغد قرطاس. قوله: فلمسوه بأيديهم: قال قتادة: فعاينوا ذلك معاينة ومسوه بأيديهم، {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] قال الزجاج: لو رأوا الكتاب ينزل من السماء لقالوا سحر، أخبر الله سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوه إلى السحر. قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] قال المفسرون: طلبوا ملكا يرونه يشهد، فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام: 8] لأهلكوا بعذاب الاستئصال. وقال مجاهد، وعكرمة: لقامت الساعة. {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] قال ابن عباس: لا يؤخرون لتوبة، لأنه يجب أن يجروا على سنة من قبلهم ممن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا فأهلكوا كعاد وثمود. قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} [الأنعام: 9] أي: لو جعلنا الرسول ملكا كما يطلبون لجعلناه رجلا: لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس. {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يقال: لبست الأمر ألبسه لبسا. إذا شبهته وجعلته مشكلا، قال الضحاك: ولخلطنا عليهم ما يخلطون حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي؟ ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تكذيب المشركين، فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنعام: 10] قال عطاء: فحل. وقال الربيع: نزل. وقال الضحاك: أحاط. وقال الفراء: يقال: حاق بهم يحيق حيقا وحيوقا. وقال الزجاج: أحاط بهم العذاب

الذي هو جزاء استهزائهم. كما تقول: أحاط بفلان عمله، وأهلكه كسبه. أي: جزاء كسبه، ثم حذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] قل سيروا: سافِروا {فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام: 11] اعتبروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] مكذبي الرسل، قال قتادة: دمر الله عليهم، ثم صيرهم إلى النار. {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {12} وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {13} قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {14} قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {15} مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ {16} وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17} وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {18} قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {19} } [الأنعام: 12-19] قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 12] هذا أمر من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال قومه، ثم أمره بالجواب فقال: قل لله: جاء السؤال والجواب من جهة واحدة، وهذا إخبار عن عظم ملكه. ثم أخبر أنه أوجب على نفسه الرحمة تلطفا في الاستدعاء إلى الإنابة فقال: كتب ربكم {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. 323 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الأَثَرِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12] هذا ابتداء كلام، واللام فيه: لام القسم، كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة. قال الزجاج: معناه: ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه، وهو اليوم الذي لا ريب فيه، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] أي: بالشرك بالله تعالى أوبقوا أنفسهم {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] لما سبق لهم من القضاء بالشقاوة والخسران. قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] قال ابن عباس: له ما استقر في الليل والنهار ممن خلق. وهذا عام في كل مخلوق، لأن كل ما طلعت عليه الشمس وما غربت فهو من ساكني الليل والنهار، ولهذا قال ابن الأعرابي: وله ما حل في الليل والنهار. وقال أهل المعاني: في الآية محذوف، والتقدير: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار، فحذف ذكر الحركة واكتفى بذكر السكون، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] يعني: الحر والبرد. قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] هذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا أتخذ وليا غير الله ولا أعبد سواه، {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 14] خالقهما ابتداء لا على مثال سبق، والفطرة: ابتداء الخلقة. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 14] حتى احتكم إلى أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأت حفرها. وقال ابن الأعرابي: يقال: هو أول من فطر هذا، أي: ابتدأه. قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] قال السدي،

والكلبي: يَرزق ولا يُرزق، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] من هذه الأمة، أي: قيل لي: كن أول المسلمين، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] أي: أمرت بدين الحنفية، ونهيت عن الشرك. قل: للمشركين: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الأنعام: 15] فيما أمرت به ونهيت عنه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] وهو يوم القيامة. {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} [الأنعام: 16] العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] فقد أوجب الله له الرحمة لا محالة، أي: له مع صرف العذاب عنه الرحمة. وقرأ حمزة يَصْرِف بفتح الياء وكسر الراء، أي: يصرف الله عنه العذاب يومئذ، يعني: يوم القيامة فقد رحمه، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 16] لأنه فاز بالرحمة ونجا من العذاب. وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام: 17] أي: إن جعل الضر يمسسك ويصيبك، وهو اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ومرض وزمانة، كما أن الخير: اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان. قوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [الأنعام: 17] أي: لا يكشف ذلك الضر الذي أصابك غير الله، ولا يصرفه عنك غيره. وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} [الأنعام: 17] يصبك بغنى وسعة في الرزق وصحة في الجسم، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] من الغنى والفقر. 324 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، عَنْ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:

أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ، أَهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ سَارَ مَلِيًّا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا غُلامُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، فَقَدْ مَضَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ جَهِدَ النَّاسُ أَنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ جَهِدَ النَّاسُ أَنْ يَضُرُّوكَ بِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الصَّبْرِ النَّصْرَ، وَأَنَّ مَعَ الْكَرْبِ الْفَرَجَ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ الْيُسْرَ " قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] القهر: الغلبة، والله القاهر القهار، قهر خلقه بقدرته وسلطانه فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها، يقال: أخذت الشيء قهرا. إذا أخذته دون رضا صاحبه، ومعنى القاهر في صفة الله تعالى: يعود إلى أنه القادر الذي لا يعجزه شيء. ومعنى فوق ههنا: أن قهره قد استعلى عليهم فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم من الاقتدار الذي لا ينفك عنه أحد، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] العالم بالشيء. قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} [الأنعام: 19] قال المفسرون: قال أهل مكة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن اليهود والنصارى ينكرونك، فنزلت هذه الآية، قال مجاهد: أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسأل قريشا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] .

قال الزجاج: أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم بأن شهادة الله في نبوة نبيه أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] يريد: من أمتي إلى يوم القيامة. قال الفراء: المعنى: ومن بلغه القرآن من بعدكم، وكان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع ونذير. ثم قرأ هذه الآية، وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلمه. قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19] هذا استفهام معناه الجحد والإنكار عليهم بهذه الشهادة، ثم أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفي هذه الشهادة عن نفسه بقوله: {قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام: 19] ، ثم أمره بتوحيده والتبري مما سوى الإسلام فقال: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] . {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {20} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {21} وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {22} ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {23} انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {24} } [الأنعام: 20-24] قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 20] يعني: اليهود والنصارى يعرفونه: يعرفون محمد بالنبوة والصدق بما يجدونه مكتوبا عندهم في صفته ونعته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام: 20] . وقد تقدم تفسير هذا في { [البقرة، وباقي ال: مفسر في هذه السورة. قوله:] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] قال ابن عباس: ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة، والمعنى: لا أحد أظلم منه. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] يعني: القرآن، وهم اليهود والنصارى كذبوا القرآن ومعجزاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] قال ابن عباس: لا يسعد من جحد ربوبية ربه، وكذّب رسله.

قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 22] انتصب يوم بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. يعني: يوم القيامة يجمع الله فيه الكفار والمشركين ثم يسألهم سؤال توبيخ عما أشركوا بالله من الأوثان وهو قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] قال المفسرون: إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، فقيل لهم يوم القيامة: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنها تشفع لكم؟ قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: 23] وقرئ بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان فجاز تذكيره، وقرئ فتنتهم رفعا ونصبا، فمن رفع جعله اسم كان، وجعل: {إِلا أَنْ قَالُوا} [الأنعام: 23] الخبر، ومن نصب جعل: {إِلا أَنْ قَالُوا} [الأنعام: 23] الاسم وفتنتهم الخبر. قال الزجاج: تأويل هذه الآية تأويل حسن لطيف، وذلك أن الله تعالى ذكر فيما تقدم أمر المشركين وأنهم مفتونون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرءوا منه وانتفوا عنه، وهو قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . قرئ ربِّنا بالخفض على نعت الله، ومن نصب جعله منادى مضافا. قال الله عز وجل: انظر: يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 24] باعتذارهم بالباطل وجحد شركهم في الآخرة، قاله قتادة وعطاء. قوله: وضل عنهم أي: زال وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24] بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئا، وذلك

أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم، فبطل ذلك في ذلك اليوم. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {25} وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {26} وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {27} بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {28} } [الأنعام: 25-28] وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] الآية، نزلت في نفر من المشركين منهم النضر بن الحارث، جلسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: أساطير الأولين مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] الأكنة: هو ما ستر الشيء، يقال: كننت الشيء وأكننته: سترته، قال ابن عباس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] يعني: القرآن {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأنعام: 25] غطاء أن يفهموه ويعوه. قال الزجاج: والتقدير: كراهة أن يفقهوه، فحذف المضاف. {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] الوقر: الثقل في الأذن، قال ابن عباس: صمما. وقال الضحاك: ثقلا. وليس المعنى أنهم لم يعلموا ولم يسمعوا، ولكنهم حرموا الانتفاع به، فكانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وهذه الآية دلالة صريحة على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا يفقه صاحبها كلام الله تعالى ولا يؤمن به، وهو قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] أي: كل علامة تدلهم على نبوتك لا يصدقوا بها، هذا حالهم في البعد عن الإيمان {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} [الأنعام: 25] يخاصمونك في الدين {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] ما هذا القرآن إلا ما سطره الأولون، أي: كتبوه من أحاديثهم، وواحد الأساطير: أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث، وقال أبو زيد الأخفش: لا واحد لها مثل عبابيد وأبابيل.

قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] يعني: المشركين ينهون الناس عن اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] : يتباعدون عنه فلا يؤمنون. وهذا قول الكلبي، والحسن، والسدي. والنأي: البعد، نأى ينأى نأيا. وقال ابن عباس، وعمرو بن دينار، وسعيد بن جبير: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتباعد عما جاء به. وقوله: وإن يهلكون أي: وما يهلكون بالتباعد عنه {إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أنهم يهلكونها. قوله: ولو ترى: يا محمد المشركين {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] أي: عاينوها ووقفوا عندها، فهم موقوفون على أن يدخلوها، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] إلى الدنيا، يتمنون الرد لكي يؤمنوا ويصدقوا وهو قوله: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] ، فقد شاهدنا وعاينا ما لا نكذب معه أبدا. ومن نصب ولا نكذب، ونكون قال الزجاج: نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: ليتك

تصير إلينا ونكرمك. المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، والمعنى: ليت ردنا وقع وأن لا نكذب ونكون من المؤمنين. قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} [الأنعام: 28] بل ههنا: رد لكلامهم، يقول الله تعالى: ليس على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 28] فلذلك اعتذروا وتمنوا الرد، وذلك أن المشركين كانوا يجحدون الشرك في بعض المواقف كما أخبر عنهم بقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم، أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون: يكتمون ويسترون من الشرك، ولو ردوا: إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] قال ابن عباس: إلى ما نهوا عنه من الشرك. وإنهم لكاذبون في قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ {29} وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {30} } [الأنعام: 29-30] وقالوا يعني: منكري البعث {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ولا حياة بعدها، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] . قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] أي: على مسألة ربهم وتوبيخه إياهم بكفرهم، وهو قوله: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 30] يقول الله لهم: أليس هذا البعث حقا؟ فيقرون حين لا ينفعهم ذلك، ويقولون: بلى وربنا، فيقول الله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] أي: بكفركم بالبعث. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {31} وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {32} } [الأنعام: 31-32] قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31] إنما وصفوا بالخسران لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم في ذلك البيع. ومعنى بلقاء الله: بالبعث والثواب والعقاب والمصير إلى الله. قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] يعني: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، والبغتة: الفجأة، يعني:

إنها تأتي فجأة لا يعلمها أحد فينتظرها، و {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] التفريط: التضييع والترك. أي: على ما تركنا وضيعنا من عمل الآخرة في الدنيا. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] الأوزار: الأثقال من الإثم، قال ابن عباس: يريد: آثامهم وخطاياهم. قال المفسرون: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا، فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] أي: ركبانا. وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحا، فيقول: أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] ، وهذا قول قتادة، والسدي. وقوله: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] يقال: وزرت الشيء آزره وزرا إذا حملته. قال ابن عباس: بئس الحمل حملوا. قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 32] يعني: الحياة في هذه الدار {إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام: 32] أي: باطل وغرور لأنها تنقضي وتفنى، كاللعب واللهو لذة فانية عن قرب. وللدار الآخرة يعني: الجنة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32] الشرك أفلا يعقلون أنها كذلك فيصلوا لها. وقرأ ابن عامر: ولدار الآخرة بالإضافة، قال الفراء: يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين.

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ {34} وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ {35} إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {36} } [الأنعام: 33-36] قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية عما يواجهه به قومه من التكذيب. قال أبو ميسرة: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد إنا والله لا نكذبك، وإنك عندنا صادق، ولكن نكذب ما جئت به. فنزلت هذه الآية. وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومقاتل: هذا في المعاندين الذين عرفوا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه غير كاذب فيما يقول، ولكنهم عاندوا وجحدوا، فأنزل الله تعالى فيهم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] في العلانية إنك كذاب مفتر، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] في السر يعلمون أنك صادق، وقد عرفوا صدقك فيما مضى، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] بالقرآن بعد المعرفة. وقال قتادة: يعلمون أنك رسول الله ولكن يجحدون، كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وقرأ الكسائي لا يكذبوك مخففا، واحتج بأن العرب تقول: كذبت الرجل. إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعة الأباطيل من القول، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي تحدث به كذب ليس هو الصانع له.

وقال الفراء: معنى التخفيف: لا يجعلونك كذابا، ولكن يقولون: إن ما جئت به باطل. ويجوز أن يكون معنى القراءتين سواء، يقال: كذبته وأكذبته، إذا نسبته إلى الكذب. ثم أخبر الله تعالى أن الرسل قبله قد كذّبتهم الأمم، فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 34] قال ابن عباس: من لدن نوح إليك. {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} [الأنعام: 34] رجاء ثوابي، وأوذوا: حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] بتعذيب من كذبهم {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34] لا ناقض لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] ، وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [الصافات: 171] الآيات. {وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] أي: خبرهم في القرآن، وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم. قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] أي: عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك وبالقرآن. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص على إيمان قومه أشد الحرص، وكانوا إذا سألوه آية أراد أن يريهم الله ذلك طمعا في إيمانهم، فقال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 35] وهو السَّرَب له مخلص إلى مكان آخر، {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] يقول الله تعالى: إن استطعت أن تغوص في الأرض، أو ترقى في السماء فتأتي قومك بآية فافعل. قال الزجاج: أعلم الله أنه بشر لا يقدر على الإتيان بالآيات، وفي تعجيزه عن الإتيان بما سألوا أمر له بالصبر إلى أن يدخل وقت العقاب. قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] أخبر الله تعالى أنهم إنما تركوا الإيمان بمشيئة الله، ونافذ قضائه فيهم، ولو شاء الله لاجتمعوا على الإيمان، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] . قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] فإنه يؤمن بك بعضهم دون بعض، وإنهم لا يجتمعون على الهدى، ثم ذكر من يؤمن، فقال: {

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] قال مجاهد، وقتادة: يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فينتفعون به، وقال الزجاج: يعني الذين يسمعون سماع قابلين. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36] يعني: الكفار، يقول الله سبحانه وتعالى: إنما يستجيب للحق المؤمنون، فأما الموتى وهم الكفار فإن الله يبعثهم في الآخرة {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] يرجعون فيجزيهم بأعمالهم. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {37} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ {38} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {39} } [الأنعام: 37-39] وقالوا يعني: رؤساء قريش: لولا: هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأنعام: 37] يعنون نزول ملك يشهد بالنبوة، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] ما عليهم في الآية من البلاء في إنزالها. قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] قال ابن عباس: يريد: كل ما دب على الأرض وجميع البهائم. وقال الزجاج: جميع ما خلق الله في الأرض من حيوان لا يخلو إما أن يدب وإما أن يطير، وهو قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وذكر الجناح تأكيد، كقولك: نعجة أنثى، وكلمته بفمي، ومشيت برجلي. وقوله: {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. يريد: أن كل جنس من الحيوان أمة تعرف باسمها، كالطير والظباء والذئاب والأسود مثل بني آدم يعرفون بالإنس والناس. وقال الزجاج: يعني أمثالكم في أنهم يبعثون، لأنه قال: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36] ، ثم أعلم أنه ما من دابة ولا طائر إلا أمثالكم في الخلق والموت والبعث.

يدل على صحة هذا التأويل ما 325 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قَالَ: يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا وقال القتيبي: يريد: أنهما مثلنا في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] قال ابن عباس في رواية عطاء: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم. وهذا من العام الذي أريد به الخاص، لأن المعنى: ما فرطنا في الكتاب من شيء بالعباد إليه حاجة إلا وقد بيناه، إما نصا، وإما دلالة، وإما مجملا، وإما مفصلا، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين. وقال في رواية الوالبي: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب. وعلى هذا القول: المراد ب الكتاب: اللوح المحفوظ المشتمل على ما كان ويكون، كما روي في الخبر: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .

وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] أي: مع الخلق إلى الموقف للحساب والجزاء كما روينا عن أبي هريرة. وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] . قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 39] يعني: بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صم: عن القرآن لا يسمعونه، وبكم: عن القرآن لا ينطقون به، {فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39] يعني: ظلمات الشرك والكفر. ثم أخبر أنهم صاروا كذلك بمشيئة الله تعالى، فقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39] الآية. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {40} بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {41} } [الأنعام: 40-41] وقوله: قل أرأيتكم قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك وهم يريدون: أخبرني، كما تقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي: أخبرني، وتترك التاء إذا أردت هذا المعنى موحدة على كل حال، تقول: أرأيتك وأريتكما، وأرأيتكن. وحذف الكسائي همزة الرؤية فقرأ: أرايتكم بالتخفيف كما قالوا: وَيْلُمِّهِ، وقرأ نافع بتليين الهمزة ولم يحذفها.

قال ابن عباس: قل، يا محمد لهؤلاء المشركين: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] يريد: الموت {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] يريد: إلى من تتضرعون؟ إلى هذه الأصنام. يريد: إنكم عند العذاب وعند الموت والشدائد تخلصون وتوحدون، وأنتم اليوم لا تصدقونني، احتج الله عليهم بما لا يدفعون، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ولم يلجأوا في كشفه إلا إليه، لأنه لا يملك كشف البلاء إلا هو. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] جواب قوله: أرأيتكم لأنه بمعنى أخبروني، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين أخبروني من تدعون عند نزول البلاء بكم؟ {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41] نفى دعاءهم غير الله في الشدائد، وأثبت دعاءهم إياه، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 41] أي: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه {إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] تتركونهم فلا تدعونهم لأنه ليس عندهم نفع ولا ضر. {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {42} فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {43} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {45} } [الأنعام: 42-45] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} [الأنعام: 42] في الآية محذوف تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم، بالبأساء يعني: الشدة والفقر، والضراء وهي الأمراض والأوجاع لعلهم يتضرعون لكي يتضرعوا، ومعنى التضرع: التذلل والانقياد للطاعة. فلولا: فهلا {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأنعام: 43] عذابنا تضرعوا. قال الزجاج: أعلم الله نبيه أنه قد أرسل قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، وهو قوله: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43] ، فأقاموا على كفرهم، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الضلالة التي هم عليها، فأصروا على معاصي الله.

قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. وقال مقاتل: تركوا ما دعاهم إليه الرسل. {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] قال ابن عباس، ومقاتل، والسدي: رخاء الدنيا ويسرها وسرورها. وقال الزجاج: أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير. وقوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: 44] حتى ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ففرحوا بذلك الرخاء والنعمة. أخذناهم بغتة: فاجأهم عذابنا من حيث لا يشعرون. قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا. 326 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذِان، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي لِلْعَبْدِ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ» ، ثُمَّ تَلا {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] إِلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] الإبلاس: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، قال ابن عباس: آيسون من كل خير. وقال الزجاج: المبلس: الشديد الحسرة البائس الحزين. قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] دابر القوم: آخرهم الذي يدبرهم، ودابر الرجل: عقبه، ويقال:

دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا. إذا كان آخرهم، قال الكلبي: دابر القوم دابرهم الذي يختلف في آخر القوم. والمعنى: أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية. قوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] قال الزجاج: حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم، لأن ذلك نعمة على الرسل الذين كذبوهم، فذكر الحمد ههنا تعليم لهم ولمن آمن بهم أن يحمدوا الله على كفايته شر الذين ظلموا، وليحمد محمد وأصحابه ربهم إذا أهلك المشركين المكذبين. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ {46} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ {47} } [الأنعام: 46-47] قوله: قل أرأيتم: أيها المشركون {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] أي: أذهبها أصلا حتى لا تبصروا ولا تسمعوا، {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنعام: 46] حتى لا تعرفوا شيئا مما تعرفون من أمور الدنيا، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] أي: بما أخذ منكم، يعني: هل يقدر أحد على رد هذه الأعضاء عليكم غير الله؟ وهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] . وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: 46] نبين لهم في القرآن العلامات التي تدل على توحيد الله ونبوة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: ثم هم يعرضون. والصدوف: الميل عن الشيء، يقال: صدف. إذا عدل ومال. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} [الأنعام: 47] قال ابن عباس، والحسن: ليلا أو نهارا. {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47] قال الزجاج: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم لأنكم كفرتم وعاندتم، فقد علمتم أنكم ظالمون.

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {48} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {49} } [الأنعام: 48-49] وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ} [الأنعام: 48] بالثواب لمن آمن، ومنذرين: بالنار لمن كفر، أي: إنما قصدهم التبشير والإنذار، لا أن يأتوا بما يقترح عليهم من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق فقال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: 48] العمل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] ، وذكر عقاب المكذبين فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 49] الآية. {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50] وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام: 50] الخزائن: جمع الخزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء. قال الزجاج: أعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ولا الغيب، فيخبرهم بما غاب عنه مما مضى وما سيكون، وليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشاهده البشر، وهو قوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] أي: ما أنبأتكم من غيب فيما مضى وفيما سيكون فهو بوحي من الله. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: 50] قال قتادة: الكافر والمؤمن. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك: الضال والمهتدي. أفلا تتفكرون: أنهما لا يستويان. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {51} وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ {52} وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ {53} وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ

وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {54} وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ {55} } [الأنعام: 51-55] قوله: وأنذر به: قال ابن عباس: خوّف بالقرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] يريد: المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من الأهوال علما بأنه سيكون، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} [الأنعام: 51] أي: غير الله {وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] لأن شفاعة الرسل والملائكة للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى، لعلهم يتقون كي يخافوا فينتهوا عما نهيتهم. قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] الآية. 327 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بن مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: جَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ بِلالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ فِي نَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، فَقَالُوا: أنا نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ قُعُودًا مَعَ هَؤُلاءِ الأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ

جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا ومعنى قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] يعبدون الله تعالى بالصلوات المكتوبة، في قول عامة المفسرين، وقال قتادة: يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر. وقوله: يريدون وجهه: قال ابن عباس: يطلبون ثواب الله، ويعملون ابتغاء مرضاة الله. والمعنى: يريدون الله بطاعتهم، ويذكر لفظ الوجه للتعظيم، كما تقول: هذا وجه الرأي. قال الزجاج: أي: لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه. 328 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ زُهَيْرٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اقْبَلُوا هَذَا وَدَعُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: مَا عَلِمْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: هَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ وَجْهِي، وَلا أَقْبَلُ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِه وَجْهِي "

قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] أي: من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] أي: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك، وإنما يرزقك وإياهم الله، فدعهم يدنوا منك، ولا تطردهم {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] . قال الأنباري: عظم الأمر في هذا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخوف بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء وأولي الأموال على الضعفاء وذوي المسكنة، فأعلمه الله أن ذلك غير جائز. قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] أي: كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضا هؤلاء بعضهم ببعض، كما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] . قال الكلبي: ابتلى هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله أنف أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم، وهو قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] يريدون الفقراء والضعفاء. والاستفهام ههنا معناه الإنكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة، فقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية، أي: إنما يهدي الله إلى دينه من يعلم أنه يشكر نعمته. والاستفهام في قوله: أليس الله: معناه التقرير، أي: أنه كذلك. قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] الآية. قال الحسن، وعكرمة: نزلت في الذين سأل المشركون طردهم، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رآهم بدأهم بالسلام، ويقول: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» . وهو قوله: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال ابن عباس: قضى لكم ربكم على نفسه الرحمة.

وقال الزجاج: معنى كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا. قوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54] يعني: أنه بجهله آثر العاجل القليل على الآجل الكثير، كقوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] . وقوله: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} [الأنعام: 54] أي: رجع عن ذنبه ولم يصر على ما فعل، وأصلح: عمله، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ، واختلفوا في قوله: أنه وفأنه: فمن فتحهما جعل الأولى تفسيرا للرحمة، كأنه قيل: كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلا من الأولي كقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] . ومن كسرها، كسر الأولى على الحكاية، كأنه لما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: إنه من عمل منكم سوءا بجهالة، وكسر الثانية لأنها دخلت على ابتداء وخبر وهي مستأنفة. وأما نافع فإنه أبدل الأولى من الرحمة ففتحها، واستأنف ما بعد الفاء. قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأنعام: 55] يقول: وكما فصلنا ذلك في هذه ال { [دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. ومعنى التفصيل: التمييز للبيان. قوله: ولتستبين عطف على المعنى، كأنه قيل: ليظهر الحق وليستبين. والسبيل يذكر ويؤنث، فلذلك قرئ ولتستبين بالتاء والياء، هذا فيمن رفع السبيل، ومن نصب السبيل كانت التاء للخطاب، أي ولتستبين: يا محمد سبيلَ المجرمين، يقال: استبان الشيء واستبنته.

قال ابن عباس: ولتستبين يا محمد سبيلَ المجرمين فيما جعلوا لله من الشركاء، وما بينت من سبيلهم يوم القيامة ومصيرهم إلى الخزي. ] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ {56} قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ {57} قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ {58} وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {59} وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {60} وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ {61} ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ {62} } [سورة الأنعام: 56-62] قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56] يعني: الأصنام، نهيت عن عبادتها، {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} [الأنعام: 56] قال ابن عباس: يريد: دينكم. قال الزجاج: أي: إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البينة والبرهان، فأنا لا أتبعكم على ذلك. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} [الأنعام: 56] إن عبدتها {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] الذين سلكوا سبيل الهدى. قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] البينة: الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال ابن عباس: يريد: على يقين من ربي، وقال الزجاج: أنا على أمر بين لا متبع لهوى. وكذبتم به أي: بالبيان الذي أتيتكم به وهو القرآن، والبينة والبيان بمعنى واحد. {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ

بِهِ} [الأنعام: 57] قال ابن عباس، والحسن: يعني العذاب، كانوا يقولون: يا محمد ائتنا بالذي تعدنا، كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] . {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ما الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب إلا لله، {يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: 57] أي: يقول الحق، ومعناه: إن جميع ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق، وقرئ: يقضي الحق ومعناه: يقضي القضاء الحق. {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] خير من يفصل بين الحق والباطل. قوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 58] قال ابن عباس: يقول لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل: لو أن عندي ما تستعجلونه به من العذاب لم أمهلكم ساعة، وهو قوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] أي: لو كان الأمر بيدي لأنبأتكم بما تستعجلون به من العذاب ولفصل الأمر بيني وبينكم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58] يعني: أنتم ظلمتم إذ كذبتموني بعد علمكم بصدقي وأمانتي، والله أعلم بكم إن شاء عاجلكم بالعقوبة، وإن شاء أخرها. قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الأنعام: 59] قال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل، والحسن، والسدي: مفاتح الغيب: خزائن الغيب. 329 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ،

حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إِلَّا اللَّهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] ، قال مجاهد: البر: القفار، والبحر: كل قرية فيها ماء، لا يحدث فيهما شيء إلا بعلم الله، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] ، قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط. وقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} [الأنعام: 59] يعني: في الثرى تحت الأرض. {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] قال ابن عباس: يريد: ما ينبت ومالا ينبت. {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] قال الزجاج: يجوز أن يكون الله أثبت ذلك في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] فأعلم الله أنه أثبت ما خلق من خلقه.

330 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنِي حَمُّوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الأَرْضِ، وَلا ثِمَارٍ عَلَى أَشْجَارٍ، إِلَّا عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا رِزْقُ فُلانِ ابْنِ فُلانٍ "، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] قال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} [الأنعام: 60] ما كسبتم من العمل {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60] يرد إليكم أرواحكم. قال قتادة: البعث ههنا: اليقظة. {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] أي: أعماركم المكتوبة، قال السدي: يعني: أجل الحياة إلى الموت، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام: 60] بعد الموت، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] تقدم تفسيره، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] قال ابن عباس: من الملائكة يحصون أعمالكم، كقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] . وقال قتادة: يحفظون يابن آدم رزقك وعملك وأجلك، فإذا وفيت ذلك قبضت إلى ربك. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] يعني: أعوان ملك الموت، {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] لا يضيعون ولا يغفلون ولا يتوانون. . {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62] يعني: العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق: الذي يتولى أمورهم {أَلا لَهُ

الْحُكْمُ} [الأنعام: 62] أي: القضاء فيهم، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62] إذا حاسب فحسابه سريع، كقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] وقد مضى. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ {64} قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ {65} } [الأنعام: 63-65] قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} [الأنعام: 63] وقرئ بالتخفيف، وهما لغتان، يقال: نجاه وأنجاه، قال الله تعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] وقال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [فصلت: 18] . وقوله: {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] قال ابن عباس: من أهوالهما وكرباتهما، قال: وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فإذا ضلها الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين، فأنجاهم. قال الزجاج: {ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] شدائدهما، والعرب تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون لليوم الشديد: يوم مظلم. وقوله: تدعونه تضرعا أي: تظهرون إليه الضراعة في الدعاء، وهو شدة الفقر إلى الشيء والحاجة إليه، وخفية: سرا بالنية، أي: تضمرون فقركم وحاجتكم إليه كما تظهرون. وقرئ وخِفية بكسر الخاء وهما لغتان.

{لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ} [الأنعام: 63] الظلمات والشدائد {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63] من المؤمنين الطائعين لله. وقرأ أهل الكوفة لئن أنجانا، حملوه على الغيبة، لقوله قبله: تدعونه. قوله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} [الأنعام: 64] أي: من تلك الشدائد التي دعوتموه لينجيكم منها، {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64] وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، يقال: كربه الغم، وإنه لمكروب. قال الزجاج: أعلمهم الله أن الذي دعوه وأقروا به هو ينجيهم، ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تنفع ولا تضر. ثم أعلمهم أنه قادر على تعذيبهم فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال ابن عباس: يريد من السماء كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] يريد: كما خسف بقارون. وهو قول السدي، وابن جريج، ومقاتل، قالوا: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] الصيحة والحجارة والريح والغرق بالطوفان، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] الرجفة والخسف. وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]

قال الزجاج: بمعنى يلبسكم: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. والشيع: جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شيع وأشياع. قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، والسدي: يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا يقاتل بعضكم بعضا، ويخالف بعضكم بعضا، وهو معنى قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] أي: بالخلاف والقتال. 331 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا، فَنَاجَى رَبَّهُ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاثًا، سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعِلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ وقال أبي بن كعب في هذه الآية: هي أربع خلال كلهن عذاب، فجاء منهن اثنتان بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس وعشرين سنة، لبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض. وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ} [الأنعام: 65] أي: نبين لهم الآيات في القرآن لعلهم يفقهون يعلمون. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ {66} لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {67} وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى

مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {68} وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {69} } [الأنعام: 66-69] قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] يعني: بالقرآن {وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] قال الحسن: لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وأعمالكم، إنما أنا منذر والله المجازي بأعمالكم. والمعنى: لم أوكل بحفظكم ومنعكم من الكفر، وهذا مما نسخته آية القتال. {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] لكل خبر يخبره الله تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال مجاهد: لكل نبأ حقيقة: إما في الدنيا، وإما في الآخرة. وسوف تعلمون: ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم. قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام: 68] قال المفسرون: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، فشتموا واستهزءوا، فأمرهم الله تعالى ألا يقعدوا معهم فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] . وقال ابن عباس: أمر الله تعالى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إذا رأيت المشركين يكذبون بالقرآن وبك، ويستهزئون فاترك مجالستهم حتى يكون خوضهم في غير القرآن. {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} [الأنعام: 68] وقرأ ابن عامر: ينسّينّك بالتشديد، وأفعل وفعّل يجريان مجرى واحدا. قال ابن عباس: يريد: إن نسيت فقعدت، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68] ، وقم إذا ذكرت. {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] يعني: المشركين. قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69] قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ

المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 69] أي: الشرك والكبائر والفواحش من حسابهم: من آثامهم {مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} [الأنعام: 69] يقول: ذكروهم بالقرآن، فرخص لهم في مجالستهم على ما أمروا به من المواعظ لهم لعلهم يتقون: الاستهزاء والخوض. {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70] يعني: الكفار الذين إذا سمعوا بآيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا عن ذكرها، وذكر به: وعظ بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة: تسلم للهلكة. والإبسال: أن يبسل الرجل فيخذل، يقال: أبسلته بجنايته، أي: أسلمته بها، وهو الترك. ومعنى الآية: وذكرهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون. وقوله: ليس لها أي: للنفس المبسلة {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] يعني في الآخرة. {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الأنعام: 70] وإن تفد كل فداء {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70] قال ابن عباس: إن تفد بالدنيا وما فيها لا يؤخذ منها. وقال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يقبل منها. {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام: 70] أسلموا للهلاك {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الأنعام: 70] وهو الماء الحار، وعذاب أليم: موجع مؤلم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] بكفرهم بالله والقرآن. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا

لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {71} وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {72} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {73} } [الأنعام: 71-73] قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] قال ابن عباس: يقول: أنعبد من دون الله ما ليس عنده منفعة لنا إن عبدناه، وإن عصيناه لم يكن عنده لنا مضرة. والمعنى: أنه جماد لا يقدر على فعل شيء. وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71] قال الكلبي: نرد وراءنا إلى الشرك بالله كالذي استهوته: استمالته وزينت له هواه الشياطين يقال: استهواه الشيطان بكيده إذا استغواه {فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: 71] قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله تعالى للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق إذ نادى مناد: يا فلان بن فلان، هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه: يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71] رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجر عن إجابته، كأنه قيل: لا تفعل ذلك لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك لتفعل، وأن تفعل، وبأن تفعل. والمعنى: أمرنا لننقاد ونطيع لرب العالمين. قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 72] أي: أمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 72] تجمعون إلى الموقف للحساب. قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73] الباء ههنا بمعنى اللام، أي: خلقها للحق،

أي: لإظهار الحق، وهو إظهار صنعه وقدرته ووحدانيته، قوله ويوم يقول أي: وقدر وقضى يوم يقول: كن فيكون أي: جميع ما يخلق في ذلك الوقت. المعنى: ويوم يقول للشيء كن فيكون، وهذا يدل على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال: ويوم يقول للخلق: موتوا فيموتون، وانتشروا فينتشرون. قوله الحق ابتداء وخبر، أي: قوله الصدق الكائن الواقع لا محالة، أي: إن ما وعده الله حق كائن. {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73] كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] والمعنى: إن الملوك يومئذ ملكهم زائل، فتكون حقيقة الملك لله وحده، كما قال: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ، وله الأمر في كل وقت، ولكن لا أمر لأحد في ذلك اليوم مع أمر الله تعالى. والصور: قرن ينفخ فيه في قول جميع المفسرين. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه، فليس يغيب عن علمه شيء {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73] . {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {74} وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {75} فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ {77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79} } [الأنعام: 74-79] قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] قال جماعة من المفسرين: آزر أبو إبراهيم. قال الفراء، والزجاج: ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارح، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر، فكأن آزر لقب له.

قال ابن الأنباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه حتى يكون به أشهر منه باسمه، فجائز أن يكون آزر لقبا أبطل الاسم لشهرته، فخبر الله تعالى بأشهر اسميه، لأن اللقب مضارع للاسم. وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74] هذا استفهام معناه الإنكار والتوبيخ لمن عبد الصنم، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] . وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 75] قال الزجاج: ومثل ما وصفنا من قول إبراهيم لأبيه نريه {مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 75] للاعتبار والاستدلال. والملكوت: بمنزلة الملك، لأن التاء زيدت للمبالغة كالرغبوت والرهبوت. قال مجاهد، وسعيد بن جبير: كشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض. 332 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصَرَ رَجُلا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَبْصَرَ آخَرَ عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ عَبْدٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا أنا مِنْ عَبْدِي عَلَى ثَلاثِ خِلالٍ إِمَّا أَنْ يَتُوبَ فِي آخِرِ زَمَانِهِ فَأَقْبَلُ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أُخْرِجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً تَعْبُدُنِي، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَلَّى فَإِنَّ جَهَنَّمَ مِنْ وَرَائِهِ وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار، وذلك

أن الله تعالى أراه هذه الأشياء حتى نظر إليها مستدلا بها على خالقها، وهو قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السموات والأرض، أي: ليستدل بها وليكون من الموقنين. وقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام: 76] يقال: جن عليه الليل، إذا ستره بظلمته جنا وجنانا وجنونا، وأجنه الليل أيضا: إذا أظلم عليه. وقوله: رأى كوكبا: قال المفسرون: لما شب إبراهيم في السرب الذي ولد فيه قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب، وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فقال: ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق. ثم تفكر ونظر في خلق السموات والأرض، فقال: إن الذي خلقني ورزقني ربي، ما لي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع، ويقال الزهرة. وكانت تلك الليلة في آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر، ف {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أي: تقولون: هذا ربي، وإضمار القول في القرآن كثير، كقوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي: يقولان ربنا. وكأن إبراهيم قال لقومه: تقولان هذا ربي، أي: هذا الذي يدبرني. لأنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها. وقيل: إنه قال: هذا ربي على جهة الاحتجاج على قومه، كأنه قال: هذا ربي عندكم وفيما تظنون وفي زعمكم. كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي: عند نفسك، والوجهان ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. وفي قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] دلالة على أن ما غاب بعد ظهوره فليس برب، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا مسخرا مصرفا، وذلك ينافي صفة الإله المعظم. قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} [الأنعام: 77] يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع. اعتبر إبراهيم في القمر والشمس، كما اعتبر في النجم، وكانت حجته فيها على قومه كالحجة على الكواكب، وهو قوله: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] .

ومعنى {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام: 77] لئن لم يثبتني على الهدى، ليس أنه لم يكن مهتديا، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله عز وجل الثبات على الإيمان، وإبراهيم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] . قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] قال ابن الأنباري: إنما قال: هذا، والشمس مؤنثة لأن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على التأويل، وأعان على التذكير أيضا أن الشمس ليس فيها علامة التأنيث، وأنشد قول الأعشى: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها فذكر أبقل إذ كانت الأرض عارية من علامات التأنيث. وقوله: هذا أكبر أي: من الكوكب والقمر، فلما توجهت الحجة على قومه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] . {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل، وباقي الآية مفسر فيما تقدم. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ {80} وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {81} الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ {82} وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {83} } [الأنعام: 80-83] قوله عز وجل: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80] : قال ابن عباس: خاصموه وجادلوه في آلهتهم وخوفوه بها، فقال منكرا عليهم {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80] أي: في توحيد الله، {وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] أي: بين لي ما به اهتديت والتشديد على النون

لاجتماع النونين وإدغام أحدهما في الآخر، وحذف نافع إحدى النونين تخفيفا. قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] أي: هذه الأشياء التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع ولا أخافها، {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 80] ، لكن أخاف مشيئة ربي أن يعذبني، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] علمه علما تاما وتعلق به علمه، أفلا تتذكرون أفلا تتعظون فتتركون عبادة الأصنام. ثم أنكر خوفه آلهتهم، فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام: 81] ؟ وهذا سؤال تعجيز عن تصحيح الخوف، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] قال ابن عباس: يريد: ما ليس لكم في إشراكه بالله حجة. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] أحق بأن يأمن من العذاب: الموحد أو المشرك؟ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] . ثم بين أن الأحق بالأمن هو، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قال جماعة المفسرين: لم يخلطوا إيمانهم بشرك، ونحو هذا روي مرفوعا. 333 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَو َمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْمَرْوَرُّوذِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ السِّمْنَانِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:

لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تَرَوْنَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ". رَوَاهُ /مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ 334 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٍ وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام: 82] قال ابن عباس: من العذاب، وهم مهتدون: قال: أرشد إلى دين الله. 335 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ حِيرِيُّ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُعَلَّى، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، عَنْ سَخْبَرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَقَالُوا: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ " قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] الآية: يعني: ما جرى بينه وبين قومه من المجادلة وإلزامه إياهم الحجة. قال ابن عباس: يريد: ألهمناها إبراهيم وأرشدناه إليها. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] أي: بالعلم والفهم والفضيلة والعقل، كما رفعنا درجة إبراهيم حتى اهتدى وحاج قومه في التوحيد، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] . {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلَّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {84} وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ {85} وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ {86} وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {87} ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {88} أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ {89} أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ {90} } [الأنعام: 84-90] ووهبنا له: لإبراهيم إسحاق: ولدا لصلبه ويعقوب: ولدا لإسحاق، كما قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] . كلا: مِن هؤلاء المذكورين هدينا: أرشدنا إلى ديننا {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 84] هؤلاء، ومن ذريته: قال عطاء: يريد من ذرية إبراهيم، وقال الفراء: الهاء في ذريته لنوح. قال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعا قد جرى.

والعلماء بالنسب يقولون: الكناية تعود إلى نوح، لأنه ذكر في جملة مَن عُد مِن هذه الذرية يونس ولوطا، ولا شك أنهما لم يكونا من ذرية إبراهيم. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84] . {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 85] . وقوله: وإسماعيل واليسع: وقرأ حمزة والليسع بتشديد اللام وتخفيفها، وكلاهما واحد في أنه اسم لنبي معروف، واللام الواحدة أشهر في اسمه. قال الزجاج: يقال فيه اليسع والليسع بتشديد اللام وتخفيفها، وكلاهما خارج عما عليه الأسماء الأعجمية في حال التعريف، نحو إبراهيم وإسماعيل، ألا ترى أنه لم يجئ شيء منها على هذا النحو، وإذا كان كذلك يقضى على اللام بالزيادة، كما أنشده الفراء: وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله وقوله: {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86] يعني: وكلا من المذكورين ههنا فضلنا على عالمي زمانهم.

قوله: ومن آبائهم: قال الزجاج: أي: هدينا هؤلاء الذين ذكرناهم وهدينا بعض آبائهم، وذرياتهم وإخوانهم فمِن ههنا: للتبعيض، واجتبيناهم: واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] يعني: التوحيد دين الله. {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الأنعام: 88] قال ابن عباس: يريد ذلك دين الله الذي هم عليه {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 88] يهدي بذلك الدين من يشاء إلى صراط مستقيم. {وَلَوْ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 88] : قال: يريد: لو عبدوا غيري لحبط: لبطل وزال عنهم {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] لأن العمل لا يقبل مع الشرك. {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 89] يعني: الكتب التي أنزلها عليهم، والحكم يعني: العلم والفقه، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} [الأنعام: 89] بآياتنا هؤلاء يعني: أهل مكة، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} [الأنعام: 89] أرصدنا لها قوما، ووفقناهم للإيمان وهم المهاجرون والأنصار، وهو قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] . {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90] يعني: النبيين الذين ذكرهم الله فبهداهم اقتده: قال الكلبي: بشرائعهم وسننهم أعمل. وقال الزجاج: أي: أصبر كما صبروا على تكذيب قومهم. وأكثر القراء أثبتوا الهاء في: اقتده ساكنة في الوصل والوقف موافقة للمصحف، والوجه عند النحويين: الإثبات في الوقف، والحذف في الوصل، لأن هذه الهاء للسكت، فلا تثبت في الإدراج. وقرأ ابن عامر بكسر الهاء، وخطّأه ابن مجاهد، وقال: هذه هاء وقف لا تحرك في حال من الأحوال. وقال أبو علي الفارسي: جعل ابن عامر الهاء كناية عن المصدر، لا هاء الوقف، كأنه قال: فبهداهم اقتد الاقتداء،

والفعل يدل على المصدر، فكنى عنه كما حكى سيبويه من قولهم: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب شرا له. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] أي: على القرآن، لا أطلب مالا تعطونيه ولا جعلا، إن هو يعني القرآن {إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] قال ابن عباس: موعظة للخلق أجمعين. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ {91} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {92} } [الأنعام: 91-92] قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] قال ابن عباس: ما عظموا الله حق تعظيمه. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته. وقال أبو عبيدة: ما عرفوه حق معرفته. {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] قال ابن عباس في رواية الوالبي: قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] يعني: التوراة نورا: ضياء، وهدى: هاديا للناس تجعلونه قراطيس: قال المفسرون: تكتبونه في قراطيس مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم، وهو قوله: {

تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] قال الفراء: تبدون ما تحبون وتكتمون صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ أبو عمرو يجعلونه وما بعده بالياء على الغيبة، لقوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] . وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91] الأكثرون على أن هذا خطاب لليهود. يقول: علمتم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم تعلموا. قال الحسن: جعل لهم ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضيعوه ولم ينتفعوا به. وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة مما علمهم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: قل الله: جواب لقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الأنعام: 91] ؟ قل الله أي: الله أنزله، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} [الأنعام: 91] في باطلهم وما يخوضون فيه من الكذب يلعبون: يعملون ما لا يجدي عليهم، والعرب تقول لمن كان عمل عملا لا ينتفع به: إنما أنت لاعب. وحقيقة هذا الكلام التهديد. ثم ذكر القرآن فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] معنى المبارك: الكثير الخير، ومعنى البركة: ثبوت الخير على الازدياد والنماء، وأصلها في اللغة: الثبوت. قال الكلبي: المبارك: فيه مغفرة لذنوبهم، وتوبة من أعمالهم.

وقال أهل المعاني: معنى قوله للقرآن: مبارك أنه كثير خيره، دائم منفعته، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية، إلى ما لا يعد من بركاته. وقوله: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92] موافق لما تقدمه من الكتب. وقوله: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الأنعام: 92] قال الزجاج: المعنى: أنزلناه للبركة والإنذار. وأم القرى: مكة، سميت أم القرى، لأن الأرض كلها دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها. والمعنى: ولتنذر أهل أم القرى، فحذف المضاف. ومن حولها قال ابن عباس: يريد: جميع الآفاق. ومن قرأ ولينذر بالياء، جعل الفعل للكتاب. وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92] أي: من آمن بالآخرة حقيقة آمن بالقرآن، فأما من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالقرآن فإنه لم يؤمن بالآخرة إيمانا حقيقيا، فلم يعتد بإيمانه مع كفره بالقرآن، ألا ترى أنه قال: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92] ، فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ {93} وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {94} } [الأنعام: 93-94] قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 93] تقدم تفسيره في هذه ال { [،] أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [سورة الأنعام: 93]

قال قتادة: يعني: مسيلمة الكذاب. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] قال ابن عباس: يريد: المستهزئين. وهو اختيار الزجاج، قال: هذا جواب لقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31] . وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 93] يعني: الذين ذكرهم من المغترين، والمدعين الوحي إليهم كذبا، والقائلين: سأنزل مثل ما أنزل الله، {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] شدائده ومكارهه، جمع غمرة، وهي ما تغشى الإنسان مما يكرهه. والملائكة يعني: ملائكة العذاب باسطوا أيديهم: بالتعذيب يضربونهم ويعذبونهم، أخرجوا أنفسكم أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم. قال المفسرون: إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه، ونفس الكافر تكره ذلك، ويشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح كرها. وجواب لو مضمر على تقدير: ولو رأيت ذلك لرأيت عجبا أو أمرا فظيعا. وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] الهون: الهوان، ومنه قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] . قال الزجاج: يعني العذاب الذي يقع به الهوان الشديد. ثم ذكر أن هذا العذاب جزاء كذبهم على الله فقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] عن الإيمان بالقرآن لا تصدقونه ولا تؤمنون به. وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام: 94] قال الفراء: فرادى جمع، وإحداها فرد وفرد وفريد وفردان. قال ابن عباس: يريد: بلا مال ولا ولد. قال ابن كيسان: جئتمونا مفردين مما كنتم تعبدون ومن المظاهرين لكم.

قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] حفاة عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] أي: ما ملكناكم، يقال: خوله الشيء، أي: ملكه إياه. قال ابن عباس: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} [الأنعام: 94] يريد: من النعيم والمال والعبيد والرباع والمواشي. {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 94] قال المفسرون: إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاءهم عنده، والمعنى: أنهم شركاء لي في عبادتكم. وقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز على معنى: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف ما لوضوح معناه. وقال ابن عباس: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ، يريد وصلكم ومودتكم. وقال الحسن: لقد تقطع الأمر بينكم. وقال قتادة: ما بينكم من الوصل. {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] ذهب عنكم ما كنتم تكذبون في الدنيا. {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {95} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {96} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ

يَعْلَمُونَ {97} وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ {98} وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {99} } [الأنعام: 95-99] قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] قال الكلبي: الحب: ما لم يكن له نوى مثل البر والشعير، والنوى: مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما. فلقهما الله تعالى بالنبات. وقال الحسن، وقتادة، والسدي: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وقال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة واليابسة فيخرج منها ورقا أخضر. وقال مجاهد: يعني: الشقين اللذين فيهما. وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95] قال ابن عباس: يخرج من النطفة بشرا حيا، ثم يخرج النطفة الميتة من الحي. وقال عطاء: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. قال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي. {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] قال ابن عباس: يريد: الله وحده يفعل هذا، فكيف تكذبون؟ والمعني: كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ قوله: فالق الإصباح: الصبح والصباح والإصباح: أول ما يبدو من النهار، يقال: فلق الله الصبح. أي: أبداه وأوضحه. ومعنى فالق الإصباح: مبديه وموضحه، وذلك أن الفلق معناه في اللغة: الشق، وذلك راجع إلى الإبداء والإيضاح. وقوله: وجاعل الليل سكنا: السكن: ما سكنت إليه، يريد: أن الناس يسكنون في الليل سكون الراحة، بأن جعل الله لهم ذلك سكنا.

قال الكلبي: يسكن فيه الخلق ويرجعونه إلى أوطانهم، وهو مثل قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] وقرأ أهل الكوفة وجعل الليل لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى الماضي، فلما كان فاعل بمنزلة فَعَل عطف عليه فَعَل لموافقته له في المعنى، ويدلك أنه بمنزلة فعل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام: 96] بالنصب، ألا ترى أنه لما كان المعنى في جاعل جَعَل نصب الشمس والقمر، لأن الليل في موضع نصب في المعنى، فرد الشمس والقمر على معناه. وأما الحسبان: فهو مصدر كالحساب، يقال: حسبت أحسب حسابا وحسبانا. وقال الأخفش، وأبو عبيدة، والمبرد: هو جمع حساب كركاب وركبان، وشهاب وشهبان. ومعنى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96] أي: بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} [الأنعام: 96] في ملكه يصنع ما أراد، العليم بما قدر من خلقهما. قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وذلك أن راكبي البحار، وسالكي القفار إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بالنجوم لولاها لضلوا ولم يهتدوا. {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} [الأنعام: 97] بيَّنَّا الدلائل على قدرتنا لقوم يعلمون. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] يعني: آدم، فمستقر ومستودع: قال ابن الأنباري: أراد فلكم مستقر ومستودع. قال ابن عباس: مستقر في الرحم، ومستودع في الصلب. وقال كريب: كتب حبر تيماء إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه: المستودع: الصلب، والمستقر: الرحم.

وأما من كسر القاف، فقال العوفي: كل مخلوق قد فرغ من خلقه فهو المستقِر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع: قد استودع في الصلب. وقال عكرمة: المستقر: الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع: الذي قد استودع في الصلب. والتقدير على هذه القراءة: فمنكم مستقر ومستودع، والمستقَر بفتح القاف اسم للمكان وهو بمعنى المَقر، وبكسر القاف بمعنى القار، يقال: قر مكانه واستقر. والمستودع مثل المودع، يقال: استودعته الشيء وأودعته. وهو الإنسان المودع في الصلب. 336 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ مُسْتَوْدَعٍ فِي ظَهْرِكَ فَسَيُخْرِجُهُ اللَّهُ تَعَالَى قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] يعني: المطر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] لأن كل ما ينبت فنباته بالماء، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} [الأنعام: 99] الخضر: مثل الأخضر، كالعور مثل الأعور. يعني: ما كان رطبا أخضر مما ينبت من القمح والشعير وغيرهما، نخرج منه: من الخضر حبا متراكبا: بعضه على بعض في سنبلة واحدة. قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} [الأنعام: 99] وهو أول منها من العذق قنوان دانية: قال قتادة: عذوق متدلية، وهي جمع قنو، وإذا ثنيت قلت: قنوانِ بكسر النون، قاله أبو عبيدة، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين، مثل: صنو وصنوان، والإعراب في النون للجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير، ومعنى دانية تدنو ممن يجتنيها.

قال الزجاج: ولم يقل: منها قنوان بعيدة اكتفاء بذكر القريبة، كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] قال ابن عباس في رواية الوالبي قنوان دانية يعني: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} [الأنعام: 99] الوجه كسر التاء لأنها في موضع نصب نسقا على قوله: خضرا أي: فأخرجنا خضرا وجنات من أعناب، ومن رفع فقال ابن الأنباري: رفعت بمضمر بعدها، تأويله: وجنات من أعناب أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب: أكرمت عبد الله وأخوه، يريدون: وأخوه أكرمته أيضا. وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 99] يعني: وشجر الزيتون وشجر الرمان {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99] قال المفسرون: مشتبها ورقهما مختلفا ثمرهما، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] انظروا إليه أول ما يعقد نظر الاستدلال واعتبار، والثمر: جمع ثمرة، ويجمع على ثمار أيضا، وثُمُر مثل خشبة وخشب وأكمة وأكم. وينعه: والينع: النضج، يقال: ينع يينع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، ويقال أيضا: بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] قال ابن عباس: يصدقون أن الذي يخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} لا

تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {103} } [الأنعام: 100-103] قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] المراد بالجن ههنا: الشياطين، قال الحسن: أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان فيجعلوهم شركاء لله. وتقدير الآية: وجعلوا الجن شركاء لله، ويجوز أن يكون الجن بدلا من الشركاء مفسرا لها. وقوله: وخلقهم: يجوز أن تكون الكناية عن هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، والمعنى: إن الله خلقهم ثم جعلوا له شركاء لا يخلقون، ويجوز أن تعود الكناية على الجن فيكون المعنى: والله خلق الجن فكيف يكون شركاء لله؟ وقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} [الأنعام: 100] قال الفراء: معنى خرقوا: افتعلوا ذلك كذبا وكفرا، وخرقوا واخترقوا، وخلقوا واختلقوا بمعنى واحد، يقال: خلق فلان الكلمة واختلقها، وخرقها واخترقها، إذا افتعلها وابتدعها كذبا. وقرأ نافع وخرَّقوا مشددة، والتشديد للمبالغة والتكثير، قال المفسرون: إن كفار العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وزعمت النصارى بأن المسيح ابن الله، واليهود أن عزيرا ابن الله، فأعلم الله أنهم اختلقوا ذلك بغير علم أي: لم يذكروه، وإنما تكذبا. قوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] من أين يكون له ولد، ولا يكون الولد إلا من صاحبة؟ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] أي: أنه خالق كل شيء، وخالق الأشياء لا مثل له، والولد لا يصح إلا مع المماثلة، ومن لا يصح أن يكون له مثل لا يصح أن يكون له ولد. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] لأنه هو الخالق له. وقوله: ذلكم الله أي: ذلك الذي خلق كل شيء وعلم كل شيء {رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102] قال ابن عباس: فأطيعوه. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102] بالحفظ له والتدبير فيه. قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، وهو غير الرؤية، لأنه يصح أن يقال: رآه وما أدركه. فالأبصار ترى الباري عز وجل ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .

قال ابن عباس في رواية عطاء: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار. وعلى هذا التفسير نقول: إن الباري سبحانه يرى ولا يدرك، لأن معنى الإدراك: الإحاطة بالمرئي، وإنما يجوز ذلك على من كان محدودا وله جهات. وذهب جماعة من أهل التفسير إلى تخصيص هذه الآية، قال ابن عباس في رواية أبي صالح: تنقطع عنه الأبصار في الدنيا. وقال مقاتل: لا تراه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة. والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} } [القيامة: 22-23] ، فقيد النظر إليه بيوم القيامة وأطلق في هذه، والمطلق يحمل على المقيد. أخبرنا أبو بكر الحارثي، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدثنا أبو بشر محمد بن عمران بن الجنيد، حدثنا أبو بكر الصفار، حدثنا عباد بن صهيب، عن عمرو، عن الحسن في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قال: في الدنيا. وقال الحسن: يراه أهل الجنة في الجنة. واحتج بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} } [القيامة: 22-23] ، قال: ينظرون إلى وجه الله عز وجل. وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] أي: يراها وهي لا تراه مع رؤيته إياها، وهذا لله تعالى لأنه يَرى ولا يُرى.

وإنما خص الأبصار بإدراكه إياها مع أنه يدرك كل شيء للمعنى الذي ذكرنا، لأن غير الله تعالى لا يجوز أن يرى البصر ولا يراه البصر. وقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] قال الأزهري: معناه الرفيق بعباده. وروى عمرو بن أبي عمرو، عن أبيه، قال: اللطيف: الذي يوصل إليك إربك في رفق، يقال: لطف الله لك، أي: أوصل إليك ما تحب برفق. قال ابن عباس: وهو اللطيف: بأوليائه، الخبير بهم. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ {104} وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {105} اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {106} } [الأنعام: 104-106] قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104] البصائر: جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال الكلبي: يعني بينات القرآن. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104] فمن صدق القرآن وآمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلنفسه عمل، ومن عمي عن الحق ولم يصدق فعليها: فعلى نفسه جنى العذاب لأن الله غني عن خلقه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] قال الحسن: أي: برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها. قال الزجاج: أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم. وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم. قوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: 105] قال ابن عباس: نبين الآيات في القرآن في كل وجه يدعوهم بها ويخوفوهم. وليقولوا درست قال ابن الأنباري: هذا عطف على مضمر في المعنى، التقدير: يصرف الآيات ليلزمهم الحجة وليقولوا درست، واللام في: وليقولوا لام العاقبة والصيرورة، لأن عاقبة تصريف الآيات أدت إلى هذا القول الذي قالوه، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8] .

ومعنى درست: قرأت على غيرك، يقال: درست الكتاب أدرسه درسا ودراسة. قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين يقرأ عليهم القرآن، درست تعلمت من يسار، وجبر وقرأت علينا تزعم أنه من عند الله، وقال الفراء: تعلمت من يهود. وقال الزجاج: قرأت كتب أهل الكتاب. ومن قرأ: دارست فمعناه: قرأت على اليهود وقرأوا عليك، وذاكرتهم حتى تعلمت منهم، وقرأ ابن عامر: دَرَسَتْ أي: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست، تقادمت وانمحت من قولهم: درس الأثر يدرس دروسا. وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105] قال ابن عباس: يريد: أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد. قال ابن الأنباري: يعني: إن تصريف الآيات ليشقى بها قوم ويسعد آخرون، فمن قال: درست ودارست فهو شقي، ومن تبين الحق فهو سعيد. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {107} وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {108} } [الأنعام: 107-108] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] أي: لو شاء الله لجعلهم مؤمنين، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107] أي: لم تبعث

لتحفظ المشركين من العذاب، إنما بعثت مبلغا، فلا تهتم لشركهم، فإن ذلك بمشيئة الله تعالى. قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] الآية: قال قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله. وقال الوالبي عن ابن عباس: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك. فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] أي: ظلما بالجهل، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا، أي: ظلم ظلما جاوز القدر. وقال السدي وغيره: معناه: لا تسبوا الأصنام فيسبوا مَن أمركم بما أنتم عليه من عيبها فيعود ذلك إلى الله، لأنهم كانوا لا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون بأن الله خالقهم وإن أشركوا. قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] يعني: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان، وكذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر، والطاعة والمعصية. قال ابن عباس: يريد: زينت لأوليائي وأهل طاعتي محبتي وعبادتي، وزينت لأعدائي وأهل معصيتي كفر نعمتي وخذلتهم حتى أشركوا. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ {109} وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {110} وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ {111} } [الأنعام: 109-111] قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] قال الكلبي، ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. والمعنى: اجتهدوا في المبالغة في اليمين: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] سألت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم

بآية، وحلفوا ليؤمنُن بها، وسأل المسلمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وعلم الله أنهم لا يؤمنون، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109] أي: إنه هو القادر على الإتيان بها متى شاء، وما يشعركم أي: وما يدريكم إيمانهم، فحذف مفعول يشعركم. قال الزجاج: أي: لستم تعلمون الغيب، ولا تدرون أنهم يؤمنون. ثم أستأنف فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون، ومن قرأ: أنها بالفتح فهو بمعنى لعلها، كأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن بمعنى لعل كثير في كلامهم. تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا. أي: لعلك، ذكر ذلك الخليل، والفراء. قال الفراء: ويجوز على هذه القراءة أن تجعل لا صلة فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون. والمعنى على هذا أنها إذا جاءت لم يؤمنوا، والخطاب للمؤمنين. وقرأ حمزة: تؤمنون بالتاء، والخطاب على هذه القراءة في قوله: وما يشعركم للكفار الذين أقسموا. وهو قول مجاهد، قال: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110] التقليب والقلب واحد: وهو تحويلك الشيء عن وجهه، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار: هو أن الواجب من مقتضى الآية أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فعرفوها بقلوبهم ورأوها بأبصارهم، فإذا لو يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن يكون عليه، وهو معنى ما قاله المفسرون: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات. وفي الآية محذوف تقديره: فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة. والكناية في به يجوز أن تعود على القرآن، ويجوز أن تعود على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] قال عطاء: أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون.

قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] كان المشركون يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرنا الملائكة يشهدون لك بالنبوة، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول أم باطل. فقال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] كما سألوا ورأوهم عيانا، وكلمهم الموتى، فشهدوا لك بالنبوة، وحشرنا: جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 111] في الدنيا قبلا، وقبلا، أي: معاينة، يقال: لقيت فلانا قُبُلا وقِبلا وقبيلا ومقابلة، أي: مواجهة. قال أبو عبيدة، والفراء، والزجاج: أي: معاينة. {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] أخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما سبق في علمه وقضائه من الشقوة عليهم، وأنهم لا يؤمنون بالله تعالى، إلا أن يهديهم الله ويسهل ذلك عليهم، وهو معنى قوله: {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] لا يعلمون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ {113} } [الأنعام: 112-113] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [الأنعام: 112] الآية: قال المفسرون: هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا ليعظم ثوابه على ما يقاسي أذاه. وعدوا في معنى أعداء.

ثم فسر العدو فقال: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] يعني: مردة الإنس والجن، والشيطان: كل عات متمرد من الجن والإنس. قال قتادة، ومجاهد، والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن، وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغواه بالمؤمن ليفتنه. يدل على هذا ما روي أن النبي قال لأبي ذر: " هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن ". وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن. وذلك إني إذا تعوذت بالله من شيطان الجن ذهب عني، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112] أي: يلقي ويسر إليه زخرف القول: باطله وكذبه، والزخرف: الباطل من الكلام الذي زين بالكذب، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زينه بالباطل والكذب. والمعنى: إن هؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم، {غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ولو شاء لمنعهم من الوسوسة، {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] قال ابن عباس: يريد: ما زين لهم إبليس وغرهم به. قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113] الصغو: الميل، يقال: صغا إلى كذا يصغو. إذا مال إليه. وقال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة. وليرضوه: وليرضوا الباطل من القول فيحبوه، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] أي: ليكتسبوا وليعملوا ما هم عاملون. والاقتراف: الكسب، يقال: اقترف ذنبا، أي: عمله.

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {114} وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {115} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {116} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {117} فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ {118} وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ {119} وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ {120} وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ {121} } [الأنعام: 114-121] قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] الحكم والحاكم واحد، قال الكلبي، والعوفي: قل لأهل مكة أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} [الأنعام: 114] مبينا فيه أمره ونهيه، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114] يعني: علماء أهل الكتاب يعلمون أنه: أن القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] من الشاكين أنهم يعلمون ذلك. قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [الأنعام: 115] يعني: ما ذكر من وعد ووعيد، وثواب وعقاب، ومن قرأ على الواحد أراد الجمع أيضا، والكلمة تقع على الكثير، تقول العرب: قال زهير في كلمته. يعنون: قصيدته. وقوله: صدقا وعدلا: قال ابن عباس: يريد: لا خلف لمواعيده، لا في أهل طاعته، ولا في أهل معصيته. وقال قتادة، ومقاتل: صدقا فيما وعد وعدلا فيما حكم. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] قال ابن عباس: لا راد لقضائه،

ولا مغير لحكمه، ولا خلف لموعده. وهو السميع لتضرع أوليائه، ولقول أعدائه، العليم بما في قلوب الفريقين. قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 116] قال ابن عباس: يريد: الذين ليسوا على دينك، وهم أكثر من المؤمنين، إن تطعهم في أكل الميتة {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] دين الله الذي رضيه لك. ذلك أن المشركين جادلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين في أكل الميتة، وقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] يريد: دينهم الذي هم عليه ظن وهوى، لم يأخذوه عن بصيرة وحجة، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] يكذبون ويفترون. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] قال الزجاج: موضع مَن رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام. المعنى: إن ربك هو أعلم أيّ الناس يضل عن سبيله. وهذا قول الكسائي، والفراء، والمبرد، أخبر الله تعالى أنه أعلم بالفريقين: بالضالين عن سبيله والمهتدين، فيجازي كلا بما يستحق. قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] جواب لقول المشركين: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ والمعنى: كلوا مما ذكر عليه اسم الله، والميتة لم تذبح على اسم الله، فلا يجوز أكلها، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] تأكيد أن ما أباحه الشرع فهو طيب يحل تناوله. {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] وأي شيء يقع لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] يعني: في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي: بينت لكم المحرمات مفصلة مبينة، فاتركوها وكلوا مما ذبح على اسم الله. وقوله: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] أي: دعتكم الضرورة لشدة المجاعة إلى أكله مما حرم. {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] أي: يضلون باتباع أهوائهم، والمعنى: يضلون بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه وغير ذلك مما لا شيء يوجبه في شرع، نحو السائبة والبحيرة ومما كان يفعله أهل الجاهلية. ومن قرأ: ليُضلون بضم الياء، أراد: عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر

والسوائب، قال الزجاج: يعني الذين يحلون الميتة ويناظرونكم في إحلالها. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119] يعني: المجاوزين الحلال إلى الحرام. قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] أكثر المفسرين: على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا، وباطنه الاستسرار به. قال ابن عباس: كانت العرب يحبون الزنا، وكان الشريف يتشرف أن يزني فيستر ذلك، فحرم الله الزنا فقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] . وقال آخرون: هذا عام في كل إثم، قال مجاهد: يعني: معصية الله في السر والعلانية. وهذا قول قتادة. وقال ابن الأنباري: يريد: وذروا الإثم من جميع جهاته. وقال الزجاج: الذي يدل عليه الكلام: اتركوا الإثم ظهر أو بطن، أي: لا تقربوا ما حرم عليكم سرا ولا جهرا. ثم أوعد على فعل الإثم بالجزاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] . قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] قال ابن عباس: يريد: الميتة والمنخنقة. إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . وقال الكلبي: يعني ما لم يذكّ، أو ذبح لغير الله، وقال عطاء: نهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش والعرب على الأوثان. قوله: وإنه لفسق يعني: وإن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة لفسق، أي: خروج عن الحق والدين، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] أي: يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل، وهو ما ذكر من أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة، قال ابن عباس: أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف

تعبدون شيئا لا تأكلون ما يقتل، وأنتم تأكلون ما قتلتم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: وإن أطعتموهم يعني: في استحلال الميتة إنكم لمشركون. قال الزجاج: وفي هذا دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك. فإن قيل: كيف أبحتم ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية والآية كالنص في التحريم؟ قلنا: إن المفسرين فسروا: ما لم يذكر اسم الله عليه في هذه الآية بالميتة، ولم يحمله أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية. وفي الآية أشياء تدل على أن الآية في تحريم الميتة منها قوله: وإنه لفسق، ولا يفسق أكل ذبيحة المسلم التارك للتسمية، ومنها قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] ، والمناظرة إنما كانت في الميتة بإجماع من المفسرين، لا في ذبيحة تارك التسمية من المسلمين، ومنها قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، والشرك: استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها. 337 - وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الرُّجَلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ» 338 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُوٍر، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، وَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ وَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ لِيَأْكُلْ» 339 - وأَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوا» {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {122} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {123} وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ {124} فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ {125} } قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] يعني: كافرا ضالا فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] يعني: دينا وهدى وإيمانا، قال قتادة: النور ههنا: كتاب الله بينة من الله عز وجل مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي. {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] أي: كمن هو في الظلمات، والمثل: صلة، يعني: الكافر يكون في

ظلمات الكفر والضلالة، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] ليس بمؤمن أبدا. وقال زيد بن أسلم: نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي جهل لعنه الله. وقال الحسن: الآية عامة في كل مؤمن وكافر. وهو اختيار الزجاج: قال: الآية عامة في كل من هداه الله وكل من أضله، فأعلم الله تعالى أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيئا في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يخلص منها. وقوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] قال ابن عباس: يريد: زين لهم الشيطان عبادة الأصنام. قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123] يعني: كما أن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها. قال ابن عباس: أكابر مجرمي مكة: المستهزئون، وأراد بالأكابر: الرؤساء المترفين. قال الزجاج: وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية لأنهم بما أعطوا من الرياسة والسعة أقرب إلى المكر والكفر بدليل قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] . وقوله: ليمكروا فيها: قال مجاهد: هو أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبروهم أنه شاعر كاهن، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 123] لأن وبال مكرهم يعود عليهم، كأنه قيل: وما يضرون بذلك المكر إلا أنفسهم. قال ابن عباس: لأنهم يقتلون ويصيرون إلى أشد العذاب، وما يشعرون: أنهم يمكرون بها. قوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} [الأنعام: 124] لك، لن نصدقك {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124] قال ابن عباس: حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أن محمدا صادق، كما قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] .

وقال الضحاك: سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] . وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] يعني: إنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لئن كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا. فأنزل الله هذه الآية. قال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مَطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه إليهم فيقال: إنما كانوا أكابر ورؤساء فاتبعوا. فكان الله أعلم حيث يجعل الرسالة ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد بن المغيرة وأكابر مكة. وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 124] قال الزجاج: أي هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصيبهم عند الله صغار ومذلة. والصغار: المذلة، يقال منه: صغر يصغر صُغرا وصغارا فهو صاغر. قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] يقال: شرح الله صدره فانشرح، أي: وسع صدره لقبول الخير فتوسع. وقال ابن الأعرابي: الشرح: الفتح، والشرح: البيان، وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الزمر: 22] أي: فتحه ووسع له. روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية فقال: " إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح، فقيل له: وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ". وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] ، وقرأ ابن كثير: ضيْقا ساكنة الياء، وهو من باب: الميْت والميّت، في أن المخفف مثل المشدد في المعنى.

والحرج: الشديد الضيق، وقد حرج صدره إذا ضاق. وقرئ: حرِجا بكسر الراء، فمن فتح الراء كان وصفا بالمقدر، والمعنى: ذا حرج، كما قالوا: رجل دَنف، أي: ذو دنف، ومن كسر فهو نعت مثل دنِف وفرق. والمعنى: أن قلبه غير مشروح للإيمان، قال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح إلى ذلك. قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] أي: يتصعد في السماء، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ أبو بكر: يصاعد، وهو مثل يتصعد في المعنى، وقرأ ابن كثير: يصعد من الصعود. والمعنى: أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع. قال الزجاج: كأنه قد كلف أن يتصعد إلى السماء يجد من ثقل ذلك مثلما يجد من الصعود إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه. قال ابن عباس: يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه. قوله: كذلك أي: مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] قال ابن عباس: هو الشيطان، أي: يسلطه عليهم. وقال عطاء، وابن زيد: الرجس: العذاب. وقال الزجاج: الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. وانقطع كلام القدرية لعنهم الله عند هذه الآية، وخرست ألسنتهم، فإنها قد صرحت بتعلق إرادة الله بالهداية والإضلال وتهيئة أسبابهما.

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {126} لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {127} } [الأنعام: 126-127] قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 126] قال ابن عباس: يعني التوحيد. وقال ابن مسعود: يعني القرآن. وقال عطاء: يريد: هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيما. ومعنى استقامة صراط الله: أنه يؤدي سالكه إلى دار الخلود في النعيم. وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126] قال عطاء: يريد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلوا مواعظ الله تعالى وانتهوا عما نهاهم الله عنه. قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127] قال الحسن، والسدي: السلام: هو الله عز وجل، وداره: الجنة. ومعنى السلام في اسم الله تعالى: ذو السلام أي: السلامة من الآفات والنقائص. قال الزجاج: يجوز أن تكون الجنة سميت دار السلام لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع. وقوله: عند ربهم أي: مضمونة لهم عند ربهم حتى يدخلوها. وقوله: وهو وليهم أي: يتولى إيصال المنافع ودفع المضار عنهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] في الدنيا من الطاعات. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {128} وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {129} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {130} ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ {131} وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {132} } [الأنعام: 128-132] قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 128] يعني: الإنس والجن يجمعون في موقف القيامة فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ

الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ} [الأنعام: 128] أي: من إغواء الإنس وإضلالهم، وقال أولياؤهم يعني: الذين أضلهم الجن {مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] ومعنى: استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي. واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها ويشهُّونها، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، واختيار الزجاج، والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين. قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] يعني: أجل البعث والنشور، {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128] ، قال ابن عباس: يريد: فيها مقامكم {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] قال ابن عباس: استثنى الله تعالى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما على هذا القول بمعنى من. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128] حكم للذي استثنى بالتصديق، وعلم ما في قلوبهم من البر والتقوى. قوله: وكذلك أي: وكما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129] نسلط بعضهم على بعض حتى كان منهم ما كان {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] من المعاصي. قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأنعام: 130] المعشر: كل جماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] قال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] . وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130] يقرءون عليكم كتبي {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130] يخبرونكم ويخوفونكم بيوم القيامة، {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] شهدنا أنهم قد بلغوا، يقول الله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 130] حين لم

يؤمنوا ولم يصدقوا الرسل، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، قال مقاتل: يعني: حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر. قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ} [الأنعام: 131] أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبهم، لأنه لم يكن ربك {مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] قال الكلبي: لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن تأتيهم الرسل. وقوله: بظلم يعني: بظلمهم الذي هو ذنوبهم ومعاصيهم. وقوله: وأهلها غافلون يعني: أهل القرى غافلون لم ينذروا ولم تبلغهم الرسل. وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] أي: ولكل عامل بطاعة الله درجات جزاء من أجل ما عملوا، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] قال ابن عباس: يريد: عمل المشركين، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ {133} إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {134} } [الأنعام: 133-134] وربك الغني: عن عبادة خلقه، ذو الرحمة قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته. وقال الكلبي: ذو الرحمة وذو التجاوز. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [الأنعام: 133] وعيد لأهل مكة بالإهلاك، {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133] وينشئ من بعدكم خلقا آخر كما أنشأكم: خلقكم ابتداء {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] يعني: آباءهم الماضين. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} [الأنعام: 134] من مجيء الساعة والحشر والنشر {لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134] بفائتين، يقال: أعجزني فلان. أي: فاتني فلم أقدر عليه. {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135] وقوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135] قال الزجاج: اعملوا على ما أنتم عليه، يقال للرجل إذا

أمرته أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان. أي: اثبت على ما أنت عليه. ومعنى هذا الأمر: هو المبالغة في الوعيد. وقرئ مكاناتكم والوجه: الإفراد، لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد يجمع في بعض الأحوال. ومعنى الآية: اعملوا ما أنتم عليه عاملون، إني عامل ما أمرني ربي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [الأنعام: 135] قال ابن عباس: يعني: الجنة ألكم أم لنا؟ وقرئ يكون بالياء، العاقبة: غير حقيقي، فهو كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] . وقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135] قال ابن عباس: يريد: لا يسعد من كفر نعمتي وأشرك بي. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {136} وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {137} وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {138} وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى

أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {139} قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {140} } [الأنعام: 136-140] قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] ، قال ابن عباس وجماعة من المفسرين: كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وثمارهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا، فما كان للأوثان أنفق عليها، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلوا من ذلك كله شيئا، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا. وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه وردوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير. فذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ} [الأنعام: 136] . قال ابن عباس: مما خلق من الثمر والقمح والضأن والمعز والإبل والبقر. {نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] بكذبهم واعتقادهم الفاسد وهذا لشركائنا يعني: ما جعلوه لآلهتهم من أموالهم، والآلهة كانوا شركاءهم في أموالهم حيث جعلوا لها نصيبا. قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] قال الحسن، والسدي: هو أنه إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله. وقال قتادة: كانوا إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزءوا لله، ووفروا ما جزءوا لشركائهم، فذلك قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] يعني: من تمام الحرث والأنعام {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 136] يعني: إلى المساكين، وإنما قال: إلى الله لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيبا لله، وما كان لله من التمام فهو يصل إلى آلهتهم. ثم ذم فعلهم فقال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] بئس الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوا لله على جهة التبرر إلى الأوثان.

قوله: وكذلك أي: ومثل ذلك الفعل القبيح {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] قال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة. وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى، وأضيفت الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها، كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] . وقرأ ابن عامر: زُيِّن بضم الزاي، قتلُ رفعا، أولادَهم بالنصب شركائهم بالجر على تقدير: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، ولكنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد، والمفعول به: مفعول المصدر. قال أبو علي الفارسي: وهو قبيح قليل الاستعمال، ولكنه قد جاء في الشعر، كما أنشده أبو الحسن الأخفشي: فزججتها متمكنا ... زج القلوص أبي مزاده وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك، لأنهم هم الذين زينوا ودعوا إليه فكأنهم فعلوا ذلك. وقوله: ليردوهم قال ابن عباس: يريد في النار. والإرداء: الإهلاك، ومنه قوله: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] .

وقوله: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] قال ابن عباس: يدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشياطين، وتزيينها لهم القبائح. ثم أخذ أن جميع ما فعلوا كان بمشيئته فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] ، ثم أوعدهم: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] يتقولون على الله الكذب. قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] الحجر في اللغة: الحرام، والمعنى: أنهم حرموا أنعاما وحرثا، وجعلوه لأصنامهم فقالوا: {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 138] أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة لهم فيه ولا برهان. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138] نحو البحيرة والسائبة والحامي {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام: 138] يذبحونها لآلهتهم ولا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه: للافتراء على الله، وهو أنهم زعموا أن الله تعالى أمرهم بذلك. {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} [الأنعام: 139] يعني: أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتا أكله الرجال والنساء، وهو قوله: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] يعني: النساء. وإنما قيل: خالصة لأن ما في قوله: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} [الأنعام: 139] عبارة عن الأجنة، فجاء تأنيث خالصة لتأنيث معنى ما، وجاء تذكير محرم على لفظ ما. وقوله: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} [الأنعام: 139] قرأ ابن كثير بالياء، ميتةٌ بالرفع لأن المراد بالميتة: الميت. والميتة: تقع على المذكر والمؤنث كالدابة والشاة. وابن عامر يلحق الفعل علامة التأنيث لأن الميتة في اللفظ مؤنثة. وقرأ عاصم تكن بالتاء، ميتةً بالنصب على معنى: وإن تكن الأجنة ميتة. ومن قرأ بالياء، ميتةً بالنصب كان التقدير: وإن يكن ما في بطون الأنعام ميتة، ولفظ ما مذكر. وقوله: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] يعني: الرجال والنساء سيجزيهم وصفهم: سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم الذي

هو كذب، وهو أنهم أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله، ونسبوا ذلك إلى الله، والله أحكم وأعلم من أن يفعل ذلك، وهو قوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] . قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} [الأنعام: 140] يعني: الذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء. قال قتادة: هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل بنته مخافة السبي عليها والفاقة، ويغذو كلبه. {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140] أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه والجهل من غير أن أتاهم في ذلك علم {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140] يعني: حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث، وقالوا: إن الله أمرنا به. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {141} وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {142} ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {143} وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {144} } [الأنعام: 141-144] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} [الأنعام: 141] أي: أظهر وأبدع جنات معروشات يعني: ما يعرش له من الكروم، وغير معروشات: ما قام على ساق كالشجر والزرع، {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} [الأنعام: 141] يعني: ثمر النخل وحب الزرع لكل واحد منهما طعم غير طعم الآخر، فمن ثمر النخل: الحامض والمر والحلو والجيد والرديء، وكل حب من الحبوب له طعم آخر، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141] تقدم تفسيره. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] أمر إباحة، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وحِصاده وهما لغتان كالجزاز والجزاز، والقطاف والقطاف.

قال ابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب: يعني: العشر ونصف العشر، وهذا في النخيل لأن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب منها من الصدقة. والزرع محمول عليه في وجوب الإخراج، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخر ذلك إلى زمان التنقية. وقوله: ولا تسرفوا: قال ابن عباس في رواية الكلبي: عن ثابت بن قيس الأنصاري: فصرم خمس مائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله ذلك له وأنزل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] ، أسرف حين لم يترك لأهله شيئا. قال الزجاج: والتأويل على هذا أن الإنسان إذا أعطى كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف، لأنه قد جاء في الخبر: ابدأ بمن تعول فهذا مجاوزة حد الإعطاء. قال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة، وتأويل هذا: لا تتجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة. قوله: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] أي: وأنشأ من الأنعام حمولة: وهي ما أطاق العمل من الإبل، وفرشا: وهو الصغار من الإبل التي لا تحمل. {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] قال الزجاج: لا تحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [الأنعام: 142] لا تسلكوا طريقه، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142] ظاهر العداوة أخرج أباكم من الجنة، وقال لأحتنكن ذريته.

قوله: ثمانية أزواج وهي الضأن والمعز والإبل والبقر، وجعلها ثمانية وهي أربعة، لأنه أراد ذكرا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج والأنثى زوج، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] . وهو قوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] يعني: الذكر والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] ، وقرئ بفتح العين، وهما لغتان، والمعز: ذوات الشعر من الغنم. وقوله: {قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] كان المشركون يحرمون أجناسا من النعم بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فاحتج الله عليهم بهذه الآية والتي بعدها فقال: قل آلذكرين: من الضأن والمعز حرم الله عليكم أم الأنثيين فإن حرم الذكرين منهما فكل ذكورهما حرام، وإن حرم الأنثيين منهما فكل الإناث حرام. وقوله: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] يقول: وإن كان قد حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز فقد حرم الأولاد، وكلها أولاد، فكلها حرام. وقوله: نبئوني بعلم: قال الزجاج: أي: فسروا ما حرمتم بعلم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] أن الله حرم ذلك. وقوله: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] مفسر إلى قوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] أي: هل شاهدتم الله حرم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول. ثم بين أنهم فعلوا ذلك كذبا على الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] قال ابن عباس: يريد: عمرو بن لحي ومن جاء بعده. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] قال: يريد: المشركين. ثم أعلم أن التحريم والتحليل إنما يثبت بالوحي والتنزيل، فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ

خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {145} وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {146} فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {147} } [الأنعام: 145-147] {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] على آكل يأكله {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] أي: إلا أن يكون المأكول ميتة، ومن قرأ تكون بالتاء، كان التقدير عنده اسما مؤنثا، كأنه قيل: إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة. وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء، ميتةٌ بالرفع، على معنى: إلا أن تقع أو تحدث ميتة. وقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] يقال: سفح الدم، والدم سفحا. إذا صبه، وسفح هو سفحا. إذا سال. قال ابن عباس: يريد: ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، ولا يدخل في هذا الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل. 340 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُحِلَّتْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ. وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطُّحَالُ " وقوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] قال ابن عباس: يريد: ما ذبح على النصب. والمحرمات من المطعومات أكثر من هذا، ولكن الذي حرم بوحي القرآن هو ما ذكره في هذه الآية، والباقي حرم بالسنة. قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] قال ابن عباس: هو البعير والنعامة، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ

حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] يعني: شحوم الجوف، وهي الثروب وشحم الكليتين. قوله: {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] قال قتادة: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما. أو الحوايا وهي المباعر، واحدتها: حاوية وحوية وحاوياء. يعني: وما حملت من الشحم. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] يعني: شحم الإلية في قول جميعهم. وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس والأذنين والعينين فهو مما اختلط بعظم، وهو حلال لهم، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية. وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] أي: ذلك التحريم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل، فهذا بغيهم، وهذا كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160] الآية. وقوله: وإنا لصادقون أي: في الإخبار عن التحريم وعن بغيهم وفي كل شيء. فإن كذبوك: فيما تقول {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} [الأنعام: 147] عذابه إذا جاء الوقت {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147] يعني: المكذبين. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ {148} قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ {149} قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {150} قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ

عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151} وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {152} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {153} } [الأنعام: 148-153] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 148] إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] قال المفسرون: إن المشركين جعلوا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] حجة على إقامتهم على الشرك، فقالوا: إن الله تعالى رضي منا ما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به، ولو لم يرض ذلك منا لحال بيننا وبينه. ولا يكون هذا حجة لهم على أن ما هم عليه من الدين حق، لأن الأشياء كلها تجري بمشيئة الله تعالى، فلو كانوا على صواب لأن ذلك بمشيئة الله لكان من خالفهم وجب أن يكون عندهم أيضا على صواب، لأنهم أيضا على ما شاء، فينبغي ألا يقولوا: إنهم ضالون، فبان أنه لا حجة لهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ولو كان الأمر على ما قالوه، لأنهم تركوا أمر الله تعالى وتعلقوا بمشيئة الله. وأمر الله بمعزل عن إرادته، لأنه يريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع الأمر، وليس له أن يتعلق بالإرادة بعد ورود الأمر. قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] كما كذب هؤلاء كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] شدة عذابنا، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] قال ابن عباس: من كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرمتم. إن تتبعون: ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن، لا العلم واليقين، {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وما أنتم إلا خارصين كاذبين. قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] قال الزجاج: حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد وإرساله الأنبياء بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون. وهذا معنى قول المفسرين: ولله الحجة البالغة بالكتاب والرسول والبيان.

{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] وهذا يدل على أنه ما شاء إيمان الكافر ولو شاء لهداه. أخبرنا الأستاذ أبو منصور البغدادي، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر، أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت علي بن زيد تلا هذه الآية: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] ، فنادى بأعلى صوته: انقطع والله ههنا كلام القدرية. قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] الآية، هلم: كلمة دعوة إلى شيء، تقول: هلم يا رجل، وكذلك للاثنين والجمع والمؤنث موحد، وهذه الكلمة تستعمل تارة بمعنى دعاء المخاطب كقولك: هلم إلي. أي: ادن مني وتعال، وتارة تستعمل بمعنى التعدية كقولك: هلم الطعامَ. وورد القرآن بالمعنيين، قال الله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] ، وقال في هذه الآية: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] . قال الزجاج: هاتوا وقربوا شهداءكم {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150] يعني: ما ذكر من الحرث والأنعام مما حرمه المشركون، يقول: ائتوا بمن يشهد لكم أن هذا التحريم جاءكم من الله. فإن شهدوا هم وقالوا: نشهد بذلك، {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] لا توافقهم على دينهم ومقالتهم، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 150] يعني: هؤلاء

المحرمين ما أحل الله، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150] يشركون الأصنام. قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآية: يجوز أن يكون عليكم من صلة أتل كأنه قال: أتل عليكم ما حرم ربكم، ويجوز أن تكون من صلة التحريم. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون عليكم إغراء وانقطع عند قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] ثم قال: عليكم ألا تشركوا به شيئا، كما قال عليكم أنفسكم. وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى، فيكون: أتل عليكم ألا تشركوا، والمعنى: أتل عليكم تحريم الشرك. قال: وجائز أن يكون على معنى: أوصيكم ألا تشركوا به شيئا، لأن قوله: وبالوالدين إحسانا محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانا. قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151] يقال: أملق الرجل فهو مملق. إذا افتقر، قال ابن عباس: يريد: مخافة الفقر، وقد صرح بهذا في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . وهذا في النهي عن الوأد: كانوا يدفنون البنات أحياء خوف الفقر، فضمن الله لهم الرزق فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] قال ابن عباس: كانوا يكرهون أن يزنوا علانية فيفعلون ذلك سرا، فنهاهم الله عن الزنا سرا وعلانية. قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] قال ابن عباس: إلا بالقود، يعني: القصاص. 341 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كمارَوَيْهِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَابِقٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " كَانَ فِيمَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى فِي الأَلْوَاحِ: وَلا تَقْتُلِ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمْتُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَتَضِيقَ عَلَيْكَ الأَرْضُ بِرَحْبِهَا، وَالسَّمَاءُ بِأَقْطَارِهَا، وَتَبُوءَ بِسَخَطِي فِي النَّارِ " وقوله: ذلكم يعني: ما ذكر في هذه الآية وصاكم: أمركم {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] لكي تعرفوا ذلك. قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: إن كنت وصيا فأصلحت ماله، وقمت لله في ضيعته أكلت بالمعروف إن احتجت إليه، وإن كنت غنيا عنه فعف عن أكله. وقال الزجاج: التي هي أحسن: هو حفظ ماله عليه، وتثميره بما يوجد السبيل إليه. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] الأشد: مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة. قال الفراء: واحدها شد في القياس ولم أسمع لها بواحد. وفسر بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام، وقال أبو إسحاق: بلوغ أشده: أن

يؤنس منه الرشد مع أن يكون بالغا، فحينئذ يجب دفع المال إليه. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} [الأنعام: 152] أتموه ولا تنقصوا منه شيئا، والميزان أي: وزن الميزان بالقسط: بالعدل، لا بخس ولا شطط، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] إلا ما يسعها ولا تضيق عنه، وذلك أنه لو كلف المعطي الزيادة لضاقت نفسه عنها، وكذلك لو كلف الآخذ الرضا بالنقصان. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] قال ابن عباس: إذا شهدتم أو تكلمتم فقولوا الحق، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] أي: ولو كان المشهود له وعليه ولدك وقرابتك، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] أي: وبما عاهدتم الله عليه فأوفوا به {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] لتتذكروه وتأخذوا به. قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] قال الفراء: تفتح أن بمعنى: وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما. وإن شئت قلت: ذلكم وصاكم به وبأن هذا. وسيبويه يقول: التقدير: ولأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه، كقوله: {وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] ، قال سيبويه: ولأن هذه أمتكم. وقرأ ابن عامر: وأنْ مفتوحة مخففة من المشددة، والتقدير: وأنه هذا، ثم حذف الضمير وخففت، ومن كسر إن استأنف بها. قال ابن عباس: يريد: ديني دين الحنيفية أقوم الأديان وأحسنها. وقال مقاتل: الذي ذكر في هذه الآيات من أمره ونهيه صراطي مستقيما. {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] قال ابن عباس: اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأصنام. وقال مجاهد: يعني: البدع والشبهات. وقال مقاتل: يعني: طريق الضلالة فيما حرموا على

أنفسهم من الأنعام والحرث. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فتضل وتميل وتخالف بكم عن دينه، قال المفسرون: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {154} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {155} أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ {156} أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ {157} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ {158} } [الأنعام: 154-158] وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] ثم أوجب تأخير الخبر بعد الخبر الأول، يريد: ثم أخبركم بعد ما أخبرتكم بنزول التوراة على موسى. فدخلت ثم لتأخير الخبر، لا لتأخير النزول. ذكر ذلك الزجاج، وابن الأنباري. قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] أي: على الذي أحسنه موسى من العلم وكتب الله القديمة، فيكون أحسن بمعنى: علم، وأراد بقوله: تماما: على ذلك: زيادة على ذلك. قال الزجاج: وتماما منصوب مفعول له، وكذلك وتفصيلا. والمعنى: آتينا للتمام والتفصيل {لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [الأنعام: 154] . وقوله: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] يعني: القرآن، {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} [الأنعام: 155] : اتبعوا حلاله، واتقوا حرامه، لعلكم ترحمون: لتكونوا راجين للرحمة. أن تقولوا: قال الفراء: أن متعلقة ب اتقوا، والتأويل: اتقوا أن تقولوا. وعند البصريين معناه:

أنزلناه كراهة أن تقولوا، ثم حذف المضاف، {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} [الأنعام: 156] يعني: التوراة والإنجيل {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] يعني: اليهود والنصارى، {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] وما كنا عن تلاوة كتبهم إلا غافلين. قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة. والمراد: إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن كيلا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما. فقطع الله معاذيرهم بإنزال القرآن. قال الكسائي: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] لا نعلم ما هي، لأن كتابهم لم يكن بلغتنا. فأنزل الله كتابا بلغتهم كيلا يعتذروا بأن الكتاب لم يأتهم، وأن الرسول لم يبعث إليهم، وهذا معنى قوله: أو تقولوا، يا معشر العرب: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] من اليهود والنصارى {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 157] رسول من ربكم بلسان عربي مبين حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين، وهدى ورحمة يعني: القرآن، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 157] بعد هذا البيان، وصدف: أعرض عنها، ثم أوعدهم فقال {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] الآية. قوله: هل ينظرون: معنى ينظرون: ينتظرون، وهل استفهام معناه النفي، أي: لا ينتظرون {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنعام: 158] عند الموت لقبض أرواحهم، وهذا خبر بمعنى النهي، أي: يجب أن لا ينتظروا بعد تكذيبك إلا أن تأتيهم الملائكة عند الموت فيقعوا في العذاب. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] قال ابن عباس: يتنزل أمر ربك فيهم بالقتل. وقال الزجاج: المعنى: أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو بالقيامة. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] قال عامة المفسرين: يعني: طلوع الشمس من مغربها، وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من مكذبي هذه الأمة. {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] أي: لا ينفعها الإيمان عند الآية التي تضطرهم إلى الإيمان، لأن الله تعالى لو بعث على كل من لم يؤمن عذابا لاضطر الناس إلى الإيمان وسقط التكليف والجزاء.

342 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنَ الْمَغْرِبِ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] وقوله: قل انتظروا قال ابن عباس: انتظروا يا أهل مكة، إنا منتظرون: بكم العذاب يوم القيامة أو قبلها في الدنيا. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {159} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {160} } [الأنعام: 159-160] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، والسدي، والكلبي: هم اليهود والنصارى، وذلك أنهم اختلفوا فصاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا، وآمنوا ببعض ما في أيديهم وكفروا ببعض، وذلك قوله: وكانوا شيعا أي: فرقا وأحزابا في الضلالة. وقرأ حمزة: فارقوا دينهم أي: باينوه وخرجوا عنه، وهذا يأول إلى معنى: فرقوا ألا ترى أنهم لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض فارقوه كله، فخرجوا عنه ولم يتبعوه. وروي عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة: " يا عائشة، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] هم أصحاب البدع وأهل الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ".

343 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] هُمْ أَصْحَابُ الأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلالَةِ " قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] قال المفسرون: يقول: لست من قتالهم في شيء ثم نسخته آية القتال. هذا إذا كان المراد بالآية اليهود والنصارى على ما روي مرفوعا، معنى قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] أي: أنت منهم برئ وهم منك براء، أي: لم تتلبس بشيء من مذاهبهم، والعرب تقول: إن فعلت كذا فلست مني ولست منك، أي: كل واحد منا برئ من صاحبه. قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] يعني: في الجزاء والمكافأة، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] إذا وردوا القيامة. وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [الأنعام: 160] يريد: الخطيئة، {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] أي: إلا جزاء مثلها، لا يكون أكثر منها. 344 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ

345 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمّلِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى الزِّيَادَةِ وَالسَّيِّئَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَنَا أَغْفِرُ لابْنِ آدَمَ إِنْ لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قُرَابُ الأَرْضِ ذُنُوبًا غَفَرْتُ لَهُ، وَلا أُبَالِي» 346 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ التَّيْمِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي، قَالَ: " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] قال ابن عباس: لا ينقص ثواب أعمالهم. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {163} قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {164} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {165} } [الأنعام: 161-165] قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا} [الأنعام: 161] قال الزجاج: أما نصب دينا فمحمول على المعنى، لأنه لما قال: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] دل على عرفني، فكأنه قال: عرفني. قوله: قيِّما قال ابن عباس: مستقيما، ومن قرأ: قِيَما فهو مصدر كالصغر والكبر والشبع، وذكرنا معنى قيما في أول { [النساء، وقوله:] مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سورة الأنعام: 161] ملة بدل من دينا قيما، وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: عرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته. قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] قال ابن عباس: يريد: ذبيحتي. وقال مقاتل: حججي. وقال الزجاج: كل ما تقربت به إلى الله تعالى، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح. وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام: 162] أي: حياتي وموتي {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] أي: هو يحييني ويميتني. وقرأ نافع: ومحياي ساكنة الياء، وهو شاذ غير مستعمل لأن فيه جمعا بين الساكنين لا يلتقيان على هذا الوجه، قال الزجاج: أما ياء محياي فلا بد من فتحها لأن قبلها

ساكنا، ومثل هذا ما جوزه يونس من قوله: اضربنان زيدا، واضربنان زيدا، وسيبويه ينكر ذلك من قول يونس. ومعنى الآية: أنه يخبر بأنه إنما يتوجه بالصلاة وسائر المناسك إلى الله تعالى، لا إلى غيره كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم، فأعلم أنه لله وحده، {لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163] . وقوله: وبذلك أمرت: قال ابن عباس: بذلك أوحي إلي. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] قال قتادة: أول المسلمين من هذه الأمة. وقال مقاتل: أول المخلصين من أهل مكة. 347 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكُوفِيُّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا فَاطِمَةُ قُومِي إِلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ، وَقُولِي: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عِمْرَانُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكَ وَلأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً، فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً " قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] قال ابن عباس: سيدا وإلها وهو سيد كل أحد، {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] لا تجني نفس ذنبا إلا أخذت به وكان إثمه على الجاني نفسه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال ابن عباس: إن الوليد بن المغيرة كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم. فقيل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ

وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، أي: لا يؤخذ أحد بذنب غيره، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164] . وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165] هو الذي جعلكم يا أمة محمد، خلائف الأمم الماضية في الأرض بأن أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] ، في المعاش والغنى والرزق. قاله الكلبي، ومقاتل، والسدي، {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] ليختبركم فيما رزقكم، والمعنى: ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب. {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأنعام: 165] لأعدائه، يعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهلاك أعدائه وقتلهم، وإنه لغفور: لأوليائه، رحيم: بهم. 348 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لاتَّكَلْتُمْ عَلَيْهَا وَمَا عَمِلْتُمْ إِلَّا قَلِيلا، وَلَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى لَظَنَنْتُمْ أَنْ لا تَنْجُوا وَأَنْ لا يَنْفَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ»

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان أخبرنا الشيخ الإمام الصالح الزاهد أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الفرخاني السمناني، بعد أن قدم حاجا في شوال سنة تسع عشرة وخمس مائة، قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، رحمة الله عليه، في سنة ست وستين وأربع مائة، قال: تفسير سورة الأعراف 349 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَعْرَافِ جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ سِتْرًا، وَكَانَ آدَمُ شَفِيعًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» بسم الله الرحمن الرحيم {المص {1} كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {2} اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {3} وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ {4} فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {5} فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ

أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ {6} فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ {7} وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {8} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ {9} } [الأعراف: 1-9] المص: قال ابن عباس: «أنا الله أعلم وأفصل» . كتاب أي: هذا كتاب {أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2] قال ابن عباس: ضيق. والمعنى: لا يضق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به. وقوله: لتنذر به قال الفراء: اللام في لتنذر، منظوم بقوله: أنزل على تقدير: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين: ومواعظ للمصدقين. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] اتبعوا القرآن، قال الحسن: يابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله، والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيم أنزلت، وما معناها. {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله، {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] قليلا يا معشر المشركين، تذكركم واتعاظكم، والأصل: تتذكرون، فادغمت التاء في الذال، وحذف حمزة التاء فخفف الذال، وقرأ ابن عامر: يتذكرون، بياء وتاء، أي: قليلا ما يتذكرون هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب. ثم خوفهم بإهلاك من كذب قبلهم فقال: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] يعني: أهلكنا أهلها، فحذف المضاف، {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} [الأعراف: 4] عذابنا ليلا، يقال: بات يبيت بياتا وبَيَّتَهُ. والبيات هنا مصدر يراد به الصفة، أي: جاءهم

يأسنا بائتين نائمين، {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] القيلولة: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، قال الزجاج: «جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا، فاعتبروا بهلاك من شئتم منهم» . ومعنى الآية: إنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له، إما ليلا وهو نائمون، أو نهارا وهو قائلون. {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: 5] أي: دعاؤهم وتضرعهم، والدعوى: اسم يقوم مقام الادعاء والدعاء، حكى سيبويه: «اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين» . وقوله: {إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5] : 4 قال ابن الأنباري: يقول لم يكن قولهم أن جاءهم العذاب، إلا الاعتراف بالظلم، والإقرار بالإساءة. قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6] قال الضحاك: الذين أرسل إليهم: الأمم الذين أتاهم الرسل يسألون هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم. ولنسألن المرسلين يعني: الأنبياء، هل بلغتم قومكم ما أرسلتم به؟ وماذا أجابكم قومكم؟ وقال السدي: تُسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ويُسأل الرسل هل بلغوا ما أرسلوا به. {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] أي: لنخبرنهم بما عملوا مَنًّا، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] عن الرسل والأمم، وما بلغت، وما رد عليهم قومهم. قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] يعني يوم السؤال.

وعامة المفسرين: على أن المراد بهذا الوزن وزن أعمال العباد. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفه الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، وهذا كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] الآية، وإنما قال موازينه على الجمع، لأن من في معنى الجمع، ألا ترى أنه قال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] بالجمع، وبعض المفسرين يذهب إلى أن الوزن يعود إلى الصحف التي فيها أعمال العباد. قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] قال ابن عباس: يؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه، فذلك قوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] أي: صاروا إلى العذاب {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] بجحودهم بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 350 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، أنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا أَبِي، أنا عِصَامُ بْنُ طُلَيْقٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،

قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا فِي حِجْرِي، فَقَطَرَتْ دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ فَاسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ الْقِيَامَةَ وَهَوْلَهَا، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهَالِيكُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَّا فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ لا يَذْكُرُ أَحَدٌ فِيهَا أَحَدًا إِلَّا نَفْسَهُ، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الصُّحُفِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَأْخُذُ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَمْ بِشِمَالِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ» وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة، باتباعهم في الدنيا الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة، باتباعهم في الدنيا الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {10} وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {11} قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {12} قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {13} قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ {18} وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19} فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20} وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ {21} فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ {22} قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23} قَالَ اهْبِطُوا

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {24} قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {25} } [الأعراف: 10-25] قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 10] قال ابن عباس: ملكناكم في الأرض، يريد ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام، ومعنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة والخطاب لقريش، وكان الله تعالى قد فضلهم على العرب، وكانوا يتجرون فيما بين مكة والشام واليمن آمنين، ويكسبون الأموال، وهو قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: 10] وهي جمع المعيش والمعيشة وهي ما يعاش به من المكاسب والتجارات، وقوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] قال ابن عباس: يريد أنكم غير شاكرين لأنعمي ولا طائعين. ولقد خلقناكم يعني: آدم، وإنما قال بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، وفي خلقه خلق من يخرج من صلبه، ثم صورناكم يعني ذريته في ظهر آدم، كما روي: «إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره في صورة الذر» . ويجوز أن يكون المراد بقوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] آدم، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: ثم صورناكم تصوير ذريته في الأرحام، لقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف: 11] لأن هذا كان قبل تصوير ذرية آدم في الأرحام. قوله عز وجل: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] معنى هذا السؤال: التوبيخ لإبليس لعنه الله وإظهار

عناده للأمر، ولا في قوله: ألا تسجد: قال الفراء: هي صلة، والمعنى: ما منعك أن تسجد، ونحو هذا قال الكسائي، والزجاج. وقوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] معناه: منعني من السجود له فضلي عليه، وأني خير منه، إذ كنت ناريا وكان طينيا، وهو قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] قال ابن عباس: «كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس، وإنما كفر إبليس، لأنه قاس في مخالفة النص، وإنما يذم من القياس ما خالف النص» .

قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف: 13] أي: أنزل من السماء {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] قال ابن عباس: يريد: أن أهلها ملائكة متواضعون خاشعون. {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13] الأذلاء، قال الزجاج: إن إبليس استكبر بإبائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك. قال فأنظرني: أمهلني وأخرني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] إلى يوم البعث، فأبى الله ذلك عليه، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم، لأنه بين مدة المهلة في موضع آخر، وإن لم تبين في هذه ال { [وهو قوله:] فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {37} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {38} } [سورة الحجر: 37-38] وهو النفخة الأولى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف: 16] قال ابن عباس: أضللتني. وقال ابن الأنباري: أي: فبما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء. والباء للقسم، أي: بإغوائك إياي، والمعنى: بقدرتك علي ونفاذ سلطانك فيّ، {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، وهو دين الله الإسلام، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المأثم. 351 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو الْجَبَّرِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَرِيرٍ النَّسَائِيُّ، نا

أَبُو النَّضْرِ، نا أَبُو عُقَيْلٍ، نا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلامِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ مَثَلُ الْفَرَسِ فِي الطُّولِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ، فَتُقْتَلُ، وَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ، فَجَاهَدَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ وَمَاتَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ " قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يعني: من الدنيا، ومن خلفهم من الآخرة، أتاهم من بين أيديهم، فزين لهم الدنيا ودعاهم إليها، ومن خلفهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة، ولا نار. وقوله: وعن أيمانهم، قال الوالبي عن ابن عباس: من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم: من قبل سيئاتهم. وهذا قول قتادة، قال: وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم أبطئهم عنها، وعن شمائلهم: أزين لهم السيئات والمعاصي، وأدعوهم إليها وآمرهم بها، أتاك يابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال أهل المعاني: ذكر الله تعالى هذه الجهات مبالغة في التوكيد، والمعنى: ثم لآتينهم من جميع الجهات. وهو اختيار الزجاج، قال الزجاج: الحقيقة والله أعلم: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم. وقوله: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] قال ابن عباس: يريد أن أكثرهم لإبليس طائعون، ولله عاصون. قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} [الأعراف: 18] قال الكلبي: من الجنة. مذءوما: الذأم: الاحتقار، يقال: ذأمت الرجل، أذأمه.

إذا احتقرته وذممته وعبته، قال ابن قتيبة: مذءوما: مذموما بأبلغ الذم. مدحورا: منفيا مطرودا، والدحر: الطرد والإبعاد. وقوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 18] أي: من ولد آدم، واللام لام القسم، على تقدير: والله لمن تبعك منهم {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] قال ابن عباس: لمن أطاعك منهم {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] يعني المشركين والمنافقين والكافرين وقرناءهم من الشياطين. {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] الآية مفسرة في { [البقرة، وقوله:] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [سورة الأعراف: 20] الوسوسة حديث النفس، قال الله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ، والمعنى: حدثهما الشيطان في أنفسهما ليبدي لهما: هذه لام العاقبة، وذلك أن عاقبة تلك الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، وإنما كانت الوسوسة للمعصية، لا لظهور العورة، ولكن تأدت العاقبة إلى ذلك فصار كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] ليكون له عدوا. وقوله: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20] أي: ما ستر، من الموارا ومنه قوله: {يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] . قال ابن عباس: كانا قد ألبسا ثوبا يستر العورة منهما، فلما عصيا تهافت عنهما ذلك الثوب. {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] لا تموتان إلى يوم القيامة، كما لا تموت الملائكة، والتقدير: إلا أن لا تكونا، وعند البصريين: إلا كراهة أن تكونا ملكين {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] أي: لا تموتان فتبقيان أبدا. وقاسمهما: قال ابن عباس، وقتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وإنما يخدع المؤمن بالله تعالى، قال إبليس: إني خلقت قبلكما، وأن أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: «إنه من خادعنا بالله خدعنا» . وقوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] أي: إني

أنصح لكما من دعائكما إلى أكل هذه الشجرة. قوله: فدلاهما بغرور التدلية: إرسال الدلو في البئر، والمعنى ههنا: غرهما وأطمعهما، قال الأزهري: " أصله تدلية العطشان في البئر ليروى من الماء، فلا يجد الماء، فيكون مدلى بالغرور، ثم وضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا، فيقال: دلاه إذا أطمعه في غير مطمع. قال ابن عباس: غرهما باليمن، وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف بالله كاذبا. قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22] قال الكلبي: " فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه، فاستحييا، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] يقال: طفق يفعل كذا: إذا أخذ في فعله، ومعنى يخصفان: يطبقان على أبدانهما الورق، وقال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سؤاتهما. وقال قتادة: أقبلا، وجعلا يرقعان، ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] قال عطاء: بلغني أن الله تعالى ناداهما: أفرارا مني يا آدم؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب، ما ظننت أن أحدا يحلف باسمك كاذبا. وقوله: {وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] قال ابن عباس: بيّن العداوة حيث أبى السجود لآدم، وقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] ثم أقرا على أنفسهما بالظلم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، وذكرنا أن هذه الكلمات التي كانت سبب قبول توبتهما، وقوله: قال اهبطوا إلى آخر الآية مفسر في { [البقرة. قوله تعالى:] قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} [سورة الأعراف: 25] الآية: قال الكلبي: في الأرض تعيشون، وفي الأرض قبوركم، ومن الأرض تخرجون من قبوركم للبعث. ولما ذكر عري آدم من علينا باللباس الذي يستر به العورة. {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ

يَذَّكَّرُونَ {26} يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ {27} وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {28} قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ {29} فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ {30} } [الأعراف: 26-30] فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] قال صاحب النظم: إن الله تعالى أنزل المطر، فأنبت به النبات، فاتخذ الناس من النبات اللباس، فأوقع الإنزال على اللباس لما كان يسببه ما ينزل، وهو المطر، وقوله: وريشا، وقرئ: ورياشا، وهما المال والمعاش، قال أبو عبيدة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس. وقال الفراء: يجوز أن يكون الرياش جمع ريش كما قالوا: لبس ولباس. وقال زيد بن علي: اللباس: هذا الذي تلبسون، يواري سوءاتكم، والريش والرياش الذي تتجملون به من الثياب. وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] قرئ: بالنصب والرفع، فمن قرأ بالنصب حمل على أنزل، من قوله: قد أنزلنا والمعنى على هذه القراءة هو أن يتقي الله، فيستر عورته فلا يطوف عاريا كفعل أهل الجاهلية. قال ابن الأنباري: ولباس التقوى هو اللباس الأول، وإنما أعاده لما أخبر عنه بأنه خير من التعري، إذ كان جماعة من أهل

الجاهلية يتعبدون بالتعري في الطواف بالبيت. ومن رفع: فعلى أنه مبتدأ، ومعناه على هذه القراءة ما قال قتادة، والسدي: لباس التقوى الإيمان. وقال عطية: العمل الصالح. وقال سعيد بن جبير: السمت الحسن. وقال الكلبي: العفاف. والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق له من اللباس والرياش للتجميل. وقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأعراف: 26] أي: إنزاله اللباس، وخلقه إياه مما يدل على التوحيد لعلهم يذكرون لكي يتعظوا. قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: لا يخدعنكم. وعنه أيضا: لا يضلنكم. {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] يعني: آدم وحواء {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك، لأنه كان بسبب منه، فأسند ذلك إليه، ليريهما سوءاتهما ليري آدم سوءة حواء، ويري حواء سوءة آدم، واللام في ليريهما لام العاقبة. وقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: هو وولده. وقال ابن زيد: نسله. وقال ابن قتيبة: أصحابه

وجنده. وقال مجاهد: قبيلة الجن والشياطين. {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: إن الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، كما قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] ، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم. وقال قتادة: والله إن عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة، إلا من عصمه الله. وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] قال الزجاج: سلطناهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] الآية. وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28] قال ابن عباس، ومجاهد: يعني طوافهم بالبيت عراة رجالا ونساء. وقال عطاء: يريد: الشرك. وقال الزجاج: الفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب. قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] قال ابن عباس: بلا إله إلا الله. وقال الضحاك: بالتوحيد. وقال السدي: بالعدل. وقال الزجاج: هذا رد لقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] . وقوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ

مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] قال مجاهد، والسدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] وحدوه ولا تشركوا به شيئا، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] قال ابن عباس: يبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا. وقال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون. وقال القرظي: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كإبليس والسحرة. وهذا القول اختيار القفال، قال: بدأكم في الخلق شقيا وسعيدا، وكذلك تعودون على الشقاء والسعادة. ويدل على صحة هذه الأقوال ما 352 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ شَيْخُ الإِسْلامِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا جَدِّي، أنا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، أنا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ وقال الحسن، ومجاهد: كما بدأكم، فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء. وهذا القول اختيار الزجاج، لأنه قال: احتج الله تعالى عليهم في إنكارهم البعث فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] أي: فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم. واختاره أبو علي الفارسي، وقال: الآية من باب حذف المضاف، والتقدير: كما بدأ خلقكم، ثم حذف المضاف. وقيل: كما بدأكم: قوله: تعودون معناه: يعود خلقكم، ثم حذف المضاف، وصارت المخاطبة في الفعل، فقيل: تعودون. وقوله: فريقا هدى: قال ابن عباس: أرشد إلى دينه وهم أولياؤه. {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] وهم أولياء الشيطان، فخذلهم الله، فصاروا أولياء لإبليس، ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] أي: بالكلمة الأزلية، والإرادة السابقة.

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {32} قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {33} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {34} } [الأعراف: 31-34] قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] 353 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَطَّارُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، نا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، نا شُعْبَةُ، نا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمًا الْبَطِينَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةٌ، وَهِيَ تَقُولُ: الْيَوْمُ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَلْبَسُوا ثِيَابَهُمْ وَلا

يَتَعَرَّوْا وقال الكلبي: الزينة ما وارى العورة عند كل مسجد كطواف أو صلاة. وقال طاوس: لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريان، ففي ذلك يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وهذا قول جماعة المفسرين. وقوله: وكلوا واشربوا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل. فقال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بتحريم ما أحللت لكم من اللحم والدسم، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] يعني: الكافرين الذين فعلوا ذلك. قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] أي: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] يعني: ما حرموه على أنفسهم أيام حجهم من اللحم والدسم، {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] قال الفراء: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة.

وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين: شارك المسلمين المشركون في الطيبات في الحياة الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، ثم يخلص الله تعالى الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء. وقرأ نافع: خالصةٌ رفعا على أنه خبر بعد خبر كما تقول: زيد عاقل لبيب. والمعنى: قل هي ثابتة للمؤمنين في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأعراف: 32] نبينها، لقوم يعلمون: أني أنا الله لا شريك لي. قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] قال ابن عباس: يريد: سر الزنا وعلانيته. والإثم: قال الضحاك: الذنب الذي لا حد فيه. وقال السدي: الإثم المعصية. وقال عطاء: يريد الخمر. قال ابن الأنباري: الإثم لا يكون من أسماء الخمر، لأن العرب ما سمتها إثما قط، لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولكن قد تكون الخمر داخلة تحت الإثم كقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] . والبغي ظلم الناس وهو أن يطلب ما ليس له، و {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] قال مقاتل: ما لم ينزل به كتابا فيه حجة بأن معه شريكا. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] يعني: من تحريم الحرث والأنعام. في قول مقاتل، وقال غيره: هذا عام في تحريم القول في الدين من غير يقين. قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: 34] قال عطاء،

والحسن، وابن عباس: يعني أجل الهلاك والعذاب، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34] للعذاب لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا، وذلك حين سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العذاب، فأنزلت هذه الآية. {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {35} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {36} فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {37} قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ {38} وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {39} } [الأعراف: 35-39] قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف: 35] قال ابن عباس: فرائضي وأحكامي. فمن اتقى: قال: يريد: اتقاني، وخافني، وأصلح: ما بيني وبينه {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 35] إذا خاف الناس {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] إذا حزنوا، ثم ذكر المكذبين فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 36] الآية. قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] أيّ ظلم أشنع من الكذب على الله؟ ومعنى {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] قال ابن عباس: جعل له صاحبة وولدا وشريكا. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37] بالقرآن، {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] ما كتب لهم من العذاب، وقضي عليهم وهو سواد الوجه، وزرقة العيون. قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن يفتري على الله تعالى أن وجهه مسود واحتج بقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وقال الربيع، وابن زيد، والقرظي: {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار والآجال، فإذا فنيت {جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف: 37] قال ابن عباس: يعني الملائكة يقبضون

أرواحهم. {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 37] سؤال تبكيت وتقريع، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [الأعراف: 37] بطلوا وذهبوا، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] اعترفوا عند معاينة الموت، وأقروا على أنفسهم بالكفر. قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] أي: قال الله لهم ادخلوا في أمم، يعني: مع أمم كافرة {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} [الأعراف: 38] من هذه الأمم النار، لعنت أختها يعني التي تسبقها إلى النار، وهي أختها في الدين لا في النسب، قال ابن عباس: يريد: يلعنون من كان قبلهم. وقال الزجاج: لعنت أختها لأنهم ضل بعضهم بإتباع بعض. {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا} [الأعراف: 38] تداركوا وتلاحقوا فيها {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 38] يعني: آخرهم دخولا النار وهم الأتباع، لأولاهم دخولا النار وهم القادة والرؤساء: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] قال ابن عباس: لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها، {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38] أَضْعِفْ عليهم العذاب، بأشد ما تعذبنا به، قال: الله تعالى: لكل ضعف أي: للتابع والمتبوع عذاب مضاعف، لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا، {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] ما لكل فريق من الكافرين منكم من العذاب. {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] قالت الرؤساء للأتباع: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [الأعراف: 39] تخفيف من العذاب، لأنكم كفرتم كما كفرنا.

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ {40} لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {41} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {42} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {43} } [الأعراف: 40-43] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 40] أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على نبوة الأنبياء، وتوحيد الله تعالى، واستكبروا عنها: ترفعوا عن الإيمان بها، والانقياد لها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] أي: لدعائهم ولا لأعمالهم، ولا لشيء مما يريدون به الله تعالى، وقال الضحاك، عن ابن عباس: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المسلمين. {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] الولوج: الدخول، والسم: ثقب الإبرة، والخياط: ما يخاط به، والمعنى: لا يدخلون الجنة أبدا، وذلك: أن الشيء إذا علق كونه بما لا يجوز كونه، استحال كونه، كما يقال: لا يكون هذا حتى يشيب الغراب ويبَيضّ القار. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40] ومثل ما وصفنا نجزي من كذب بآياتنا واستكبر عن الإيمان بها. قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف: 41] أي:

فراش، وهو كل ما يمهد: أي: يبسط ويفرش، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] وهي: كل ما يغشاك، أي: يسترك. قال المفسرون: هذا إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 41] قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا به، واتخذوا من دونه إلها. قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] وسع الإنسان: ما يقدر عليه، وليس معنى الوسع بذل المجهود وأقصى الطاقة، والله تعالى لم يكلف العباد ما يشق ويتعذر عليهم ولكنه كلفهم ما يطيقون، ولا يعجزون عنه، وقد قال معاذ بن جبل في الآية: إلا يسرها، لا عسرها، ولو كلفها طاقتها لبلغت مجهودها. وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] فصل بين الابتداء والخبر بما ليس بأجنبي، لأنه ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل مما يسعهم ولا يعسر عليهم. قوله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] النزع: قلع الشيء من مكانه، والغل: الحقد الكامن في الصدور، والمعنى: أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا، وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه، فقال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير من الذين قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] . 354 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ فِي قَوْلِهِ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَلَّصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى

قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَحَدِهِمْ أَهْدَى بِمَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا» وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] إذا استقر أهل الجنة في منازلهم، قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] أي: لهذا الثواب، بما وفقنا له من العمل الذي أدى إلى هذا، وهذا معنى قول الزجاج: هدانا لما صيَّرنا إلى هذا. وقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] دليل على أن المهتدي مَن هداه الله، وأن من لم يهده الله لم يهتد، وقوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] هذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا، قالوا: لقد جاءت رسل ربنا بالحق، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف: 43] قيل لهم هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها في الدنيا، أورثتموها: أوتيتم ميراثا من الكفار بإيمانكم وكفرهم، وذلك أنه ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ثم يقال لأهل الكفر يوم القيامة بعد ما يرون منازلهم في الجنة: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله. ثم يقال: يا أهل الجنة، رثوهم بما كنتم تعملون، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم. 355 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ الْمُطَوَّعِيُّ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ مِنَ النَّارِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمُؤْمِنَ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الْكَافِرَ مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ» فذلك قوله: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] قال ابن عباس: توحدون الله تعالى وتقومون بفرائضه.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {44} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ {45} } [الأعراف: 44-45] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44] قال ابن عباس: وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقا. {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] وهذا سؤال تعيير وتقرير، قالوا نعم، وقرأ الكسائي: نعِم بكسر العين، وهما لغتان في بعض الكلام، والمعروف بفتح العين، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] فنادى مناد أسمع الفريقين: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44] وقرئ مخففا: أن لعنة الله رفعا، على معنى أنه لعنةُ الله، ثم حذف الإضمار وخففت، كقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، ثم وصف الظالمين فقال {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 45] يمنعون الناس عن طاعة الله، ويبغونها عوجا: قال ابن عباس: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله. وهم بالآخرة أي: بالدار الآخرة والمصير إلى الله كافرون. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ {46} وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {47} } [الأعراف: 46-47] وبينهما يعني: بين أهل الجنة وأهل النار حجاب: وهو الأعراف التي قال الله تعالى فيها: وعلى

الأعراف: وهي جمع عرف وهو كل عال مرتفع، قال ابن عباس: يريد سور الجنة، وهو سور بين الجنة والنار. وقوله: رجال قال ابن عباس والمفسرون: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فمنعتهم حسناتهم من النار ومنعتهم سيئاتهم من الجنة، فيقومون على سور الجنة، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته، وهم آخر من يدخل الجنة. وقوله: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46] يعرفون أصحاب الجنة ببياض وجوههم، وأهل النار بسواد وجوههم، لأن موضعهم مرتفع، فهم يرون الفريقين، {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46] إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا عليهم، لم يدخلوها: لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون: في دخولها. قال حذيفة: لم يكن الله ليخيب طمعهم. وقال الحسن: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف: 47] التلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، يقال: هو تلقاؤك كقولك هو حذاؤك، قال الكلبي: إذا نظروا إلى أهل النار تعوذوا بالله منها، وقالوا {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47] .

{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ {48} أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ {49} } [الأعراف: 48-49] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 48] ينادي أصحاب الأعراف قوما من أهل النار رؤساء المشركين، فيقولون لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} [الأعراف: 48] الأموال واستكبارهم عن عبادة الله ثم يرون في الجنة جماعة من ضعفاء المسلمين وفقراءهم، وهم: مثل بلال، صهيب، عمار، خباب، فيقولون للمشركين: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} [الأعراف: 49] حلفتم وأنتم في الدنيا: {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 49] ، وهذا استفهام إنكار، ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 49] حين يخاف أهل النار، {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49] حين يحزنون. {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ {50} الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {51} } [الأعراف: 50-51] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50] الآية: قال عطاء، عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم، فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم، فلم يعرفوهم، قد اسودت وجوههم، وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] قال السدي، وابن زيد: يعني: الطعام، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذبا. فأعلمهم أهل الجنة أن الله حرم طعامهم وشرابهم على أهل النار بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] ، وهذا تحريم منع، لا تحريم تعبد. 356 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَارَوْدِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

مَنْصُورٍ الشِّيعِيُّ، نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، نا مُوسَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، نا أَبُو مُوسَى الصَّفَّارُ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَمَا رَأَيْتَ أَهْلَ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ " 357 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَجَاءٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا أَبُو قُبَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: مَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ بَاعَدَهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ النَّارِ بِقَدْرِ شَوْطِ فَرَسٍ 358 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سَمَاعَةَ الْحَضْرَمِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ، حَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ بِكُلِّ شَرْبَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَإِذَا سَقَاهَا حَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ عَشْرَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقت فأغثني، فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين.

359 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عُمَرَ النَّيْسَابُورِيُّ، أنا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقَرَظِيُّ، بَلَغَنِي، أَنَّهُ لَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ شَكْوَاهُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ، فَيُرْسِلُ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي ذَكَرَ شَيْئًا يَكُونُ لَكَ شِفَاءً، فَخَرَجَ الرَّسُولُ، حَتَّى وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ جَالِسًا مَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَمَّكَ يَقُولُ لَكَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي كَبِيرٌ ضَعِيفٌ سَقِيمٌ، فَأَرْسِلْ إِلَيَّ مِنْ جَنَّتِكَ هَذِهِ الَّتِي تَذْكُرُ مِنْ طَعَامِهَا وَشَرَابِهَا شَيْئًا يَكُونُ لِي فِيهِ شِفَاءٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ: بَلَّغْتُ مُحَمَّدًا الَّذِي أَرْسَلْتُمُونِي بِهِ فَلَمْ يَجْرِ إِلَيَّ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَحَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى أَرْسَلَ رَسُولا مِنْ عِنْدِهِ، فَوَجَدَهُ الرَّسُول فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا» قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف: 51] قال ابن عباس: يريد: المستهزئين، والمعنى: تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم، واستهزءوا به، فاليوم ننساهم: قال ابن عباس: نتركهم في جهنم. {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، يعني: تركهم العمل بطاعة الله لذلك اليوم، {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] ، ما: في موضع جر، بالعطف على ما في قوله كانوا، وما بمعنى المصدر، أي: ولجحودهم بآياتنا. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {52} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {53} } [الأعراف: 52-53] قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} [الأعراف: 52] يعني القرآن، {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] بيناه بعلم لم يقع منا فيه سهو ولا غلط، هدى ورحمة: قال الزجاج: أي: فصلناه هاديا وذا رحمة لقوم يؤمنون: به، وهذا يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم أريد به هدايتهم دون غيرهم ممن كذب به، قوله: هل ينظرون أي: ما ينظرون إلا تأويله، يريد: عاقبته، وما وعد الله فيه من البعث والنشور، والعقاب والحساب، والمعنى: كأنهم ينتظرون ذلك وإن كانوا جاحدين،

لأنه يأتيهم لا محالة. وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] قال ابن عباس: يريد يوم القيامة. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53] أي: تركوا العمل له، والأيمان به من قبل مجيئه. {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] آمنوا وصدقوا حين لا ينفعهم ذلك، {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] يطلبون شافعا يشفع لهم، أو: هل نرد: إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53] نوحد الله ونؤمن برسله. قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 53] أهلكوها بالعذاب وصاروا إلى الخزي، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53] سقط عنهم ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {54} ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {56} وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57} وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ {58} } [الأعراف: 54-58] قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] قال المفسرون: أراد في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فكيف يكون يوم ولا شمس ولا سماء. وهذا معنى قول مجاهد: إن ذلك رتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فاجتمع الخلق فيه. قال ابن الأنباري: أراد الله أن يوقع في كل يوم أمرا من خلقه، تستعظمه الملائكة وجميع المشاهدين له. وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك بعد خلق السموات والأرض. وهذا قول

الفراء، وأبي العباس، والزجاج، وقال آخرون: استوى معناه: استولى، واحتجوا بقول البعيث: ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق وخص العرش بالإخبار عن الاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات. وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] ، وقرئ: بالتشديد والإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء، قال الزجاج: والمعنى: أن الليل يأتي على النهار ويغطيه، ولم يقل: ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلا عليه، وهذا كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يذكر البرد للعلم به، وقوله: يطلبه حثيثا: الحثيث: المعجل السريع، يقال: حثثت فلانا إذا أمرته بالعجلة، قال ابن عباس: يطلب الليل النهار لا غفلة له. والمعنى: أن الليل يستمر في طلب النهار على منهاج من غير فتور يوجب التأخر عن وقته. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] أي: وخلق هذه الأشياء جاريات في مجاريها بأمر الله تعالى، ومعنى تسخيرهن: تذليلهن لما يراد منها من طلوع وسير وأفول على حسب إرادة المدبر فيهم، وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الاستئناف، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف: 54] لأنه خلقهم، والأمر، له أن يأمر في خلقه بما يشاء، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] قال ابن عباس: تبارك الله، أي: ارتفع، والمتبارك: المرتفع. وقال ابن الأنباري: تبارك الله: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال أهل المعاني: تبارك الله، استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال.

وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] التضرع: التذلل والتخشع والخفية خلاف العلانية، ويقال: خِفية بالكسر، والسنة والأدب في الدعاء أن يكون خفيا لهذه الآية، ولما روي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي» . وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد أدركنا أقواما ما كان وجه الأرض من عمل ويقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله سبحانه يقول {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وأن الله ذكر عبدا صالحا، ورضي فعله، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] . قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] أي: بالجهر في الدعاء. قاله الكلبي، ومعنى المعتدين: المجاوزين ما أمروا به. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 56] قال المفسرون: الإفساد في الأرض: العمل فيها بالمعاصي وسفك الدماء. وقوله: بعد إصلاحها بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن، والسدي، والضحاك، والكلبي، وقال عطية: معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وعلى هذا معنى قوله: بعد إصلاحها بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] قال ابن عباس: خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال الزجاج: إنما قيل قريب لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد. ونحو هذا قال الأخفش.

وأما الرحمة بمعنى الإنعام، فلذلك ذكر، وقال سيعد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب. وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] . قوله: وهو الذي يرسل الرياح نشرا جمع نشور، مثل رسول ورسل، والنشور بمعنى المنشر، كالركوب بمعنى المركوب، يقال: أنشر الله الريح، فنشرت. أي: أحياها، فحييت، وخفف ابن عامر العين فقرأ: نشرا، كما يقال: كتب ورسل، وقرأ حمزة: نشرا وهو مصدر نشرت الشيء ضد طويته، والمراد بالمصدر المفعول، أرسلها الله منشورة بعد انطوائها، وقرأ عاصم بشرا بالباء جمع بشور، أي: تبشر بالمطر والرحمة، من قوله: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} [الأعراف: 57] . وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ

رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] قال الكلبي: قدام مطره، والرياح تتقدم المطر وتؤذن به. {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} [الأعراف: 57] أي: حملت هذه الرياح سحابا ثقالا: بما فيها من الماء، يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله، {سُقْنَاهُ} [الأعراف: 57] سقنا السحاب لبلد ميت: قال ابن الأنباري: إلى بلد يحتاج إلى المطر لانقطاعها عنه، فأنزلنا به: بذلك البلد {الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} [الأعراف: 57] بذلك الماء {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: 57] نحيي الموتى مثل ذلك الإحياء الذي وصفناه في البلد الميت، فإحياء الأموات كإحياء الأرض بالنبات، لعلكم تذكرون: قال الزجاج: لعلكم بما بيناه لكم تستدلون على توحيد الله، وأنه قادر على بعث الأموات. قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] الآية: قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض العذبة التربة، وبالأرض السبخة الملحة، شبه المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله، وانتفع به، فبان أثره عليه بالبلد الطيب، إذ كان البلد الطيب يمرع يخصب، ويحسن أثر المطر عليه، وشبه الكافر الذي يسمع القرآن، ولا يؤثر فيه أثرا محمودا بالبلد الخبيث إذ كان لا يمرع، ولا يخصب ولا يتبين أثر المطر فيه. وقوله: والذي خبث: قال الكلبي: هو السبخة من الأرض. {لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58] النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير، والمصدر النكد، يقال: نكد نكدا فهو نكد وأنكد. قال ابن الأنباري: النكد: العسر البطيء البعيد الخير، وأنشد: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {59} قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {60} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي

رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {61} أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {62} أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {63} فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ {64} } [الأعراف: 59-64] قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] قرئ: رفعا وخفضا، فأما من خفض، فقال الفراء: يجعل غيرِه نعتا للإله وقد يرفع، فيجعل تابعا للتأويل في إله ألا ترى أن الإله لو نزعت منه مِن كان رفعا؟ ونحو هذا قال الزجاج سواء، قال: الرفع على معنى: ما لكم إله غيره، ودخلت من مؤكدة، ومن خفض جعله صفة لإله. وقوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62] وقرأ أبو عمرو: أبْلِغكم مخففة من الإبلاغ، وكلاهما قد جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] والتشديد قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . وقوله: وأنصح لكم قال ابن عباس: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وأعلم أن ربي غفور لمن رجع عن معاصيه، وأن عذابه أليم شديد لمن أصر على معاصيه. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 63] قال ابن عباس: موعظة من الله. {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف: 63] قال الفراء: على بمعنى مع ههنا. وقال ابن قتيبة: على لسان رجل منكم. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64] قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة

الله وقدرته وشدة بطشه. وقال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان، يقال: رجل عم. إذا كان أعمى القلب، ورجل أعمى. في البصر. قال زهير: ولكنني عن علم ما في غد عم {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {65} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {66} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {67} أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ {68} أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {69} قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {70} قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {71} فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ {72} } [الأعراف: 65-72] وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، يعني: ابن أبيهم، قال الكلبي: ليس بأخيهم في الدين ولكن في النسب. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65] قال ابن عباس: وحدوا الله. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] أفلا تخافون نقمته؟ {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] في حمق وجهل، قال

ابن عباس: تدعونا إلى دين لا نعرفه. {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] فيما جئت به، وقال مقاتل: فيما تقول من نزول العذاب. وقوله: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68] قال الضحاك: أمين على الرسالة. وقال الكلبي: كنت فيكم قبل اليوم أمينا. وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] يذكرهم النعمة عليهم، يقول: اذكروا أن الله أهلك قوم نوح واستخلفكم بعدهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] فضيلة في الطول، قال ابن عباس: يريد: أنكم أجسم وأتم من آبائكم الذين ولدوكم. وكان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف: 74] نعم الله عليكم، وإحداها ألًى وإليٌ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] قال ابن عباس: كي تسعدوا وتبقوا في الجنة. وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70] من نزول العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] في أن العذاب نازل إلينا، وقال عطاء: إن كنت من الصادقين في نبوتك وإرسالك إلينا. قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 71] أي: وجب ونزل، ومثله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: أصابهم ونزل بهم. وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: 71] قال ابن عباس: عذاب وسخط. {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأعراف: 71] قال المفسرون: كانت لهم أصنام يعبدونها، سموها أسماء مختلفة، فلما دعاهم الرسول إلى التوحيد استكبروا. وقوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] أي: من حجة وبرهان لكم في عبادتها، {فَانْتَظِرُوا} [الأعراف: 71] العذاب، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] للذي يأتيكم من العذاب، في تكذيبكم إياي، وما بعد هذه الآية ظاهر إلي قوله: {

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {74} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ {75} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {76} فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {77} فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {78} فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ {79} } [الأعراف: 73-79] {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] أي: دالة على قدرة الله ورسالته، ولهذا جاز أن يكون آية حالا لأنها بمعنى دالة، فكانت تلك الناقة آية من سائر النوق، لأنها خرجت من حجر صلد تمخض واضطرب، كاضطراب المرأة عند الولادة، وقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 73] أي: سهل الله عليكم أمرها، فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73] ولا تصيبوها بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وعيد لهم، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74] أي: أهلكهم واستخلفكم بعدهم، {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 74] أعطاكم فيها منازل ومساكن، وهو قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف: 74] قال ابن عباس: تبنون القصور بكل موضع، {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] كانوا يشققون بيوتا في الجبال يسكنونها شتاء، ويسكنون القصور بالصيف، ويروى: أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتا في الجبال، لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. قوله: قال الملأ: قال الفراء: الملأ: القوم من الرجال ليس فيهم امرأة. وقال ابن عباس: يريد الأشراف. الذين استكبروا أي: عن عبادة الله، للذين استضعفوا يريد: المساكين {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] بدل من قوله: للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75] استفهام

إنكار، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75] أقرُّوا بالإيمان بصالح وبما أرسل به، فقال المستكبرون: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {76} فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 76-77] قال الأزهري: العقر عند العرب قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرا، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره. وقوله: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 77] يقال: عتا يعتو عتوا. إذا استكبر، ومنه يقال: جبار عات. قال مجاهد: العتو: الغلو في الباطل. والمعنى: عصوا الله، وتركوا أمره في الناقة، وكذبوا نبيهم، وقالوا: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 77] من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 78] قال الفراء، والزجاج: هي الزلزلة الشديدة. وهو قول الكلبي، يقال: رجف الشيء يرجف رجفا ورجفانا. إذا تحرك، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} [الأعراف: 78] يعني: بلدهم، {جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] قال ابن عباس: خامدين ميتين لا يتحركون. وقال ابن الأنباري: قال المفسرون: معنى جاثمين: بعضهم على بعض، أي: عند نزول العذاب بهم سقط بعضهم على بعض كما يجثم الطير. 360 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ، قَالَ: " لا تَسْأَلُوا الآيَاتِ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ

مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، فَأَهْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، قِيلَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ " قوله: فتولى عنهم لما نزل بهم العذاب تولى صالح عنهم {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79] قال ابن عباس: خوفتكم من الله ومن عقابه. {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] لا تجيبونهم إلى ما يدعونكم إليه، وخطابه إياهم بعد كونهم جاثمين كخطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلى بدر، فقيل له: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، لكنهم لا يقدرون على الجواب. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ {80} إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ {81} وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {82} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {83} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {84} } [الأعراف: 80-84] قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] يعني: إتيان الذكران، في قول جميع المفسرين {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] قالوا: ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [الأعراف: 81]

يعني: الفاحشة، وهذا استفهام إنكار، {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81] يقال: شها يشها شهوة إذا اشتهى، والمعنى: تشتهونهم، فتأتونهم وتتركون النساء، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] مجاوزون ما أمرتم به. {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ} [الأعراف: 82] يعني: لوطا وأتباعه من المؤمنين، {مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يتنزهون عن أدبار الرجال، وهذا إخبار عن ربهم على نبيهم بأقبح جواب حين جعلوا تنزههم عن الفاحشة سببا لإخراجهم إياه من القرية، وهذا معنى قول قتادة: عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم. فأنجيناه وأهله يعني: ابنتيه، إلا امرأته يعني: زوجته {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83] الباقين في عذاب الله. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف: 84] أمطر الله عليهم حجارة من السماء، كما قال في آية أخرى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] . {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {85} وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {86} وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {87} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88} قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا

وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ {89} وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ {90} فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {91} الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ {92} فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ {93} } [الأعراف: 85-93] قوله: وإلى مدين وهم قبيلة من ولد إبراهيم، بعث الله إليهم شعيبا وهو قوله: أخاهم شعيبا وهو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم الخليل. وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85] قال عطاء: موعظة. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: 85] قال المفسرون: إن قوم شعيب كانوا أهل كفر بالله، وبخس للمكيال والميزان، فأمرهم شعيب بتوحيد الله، وإتمام الكيل والميزان. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] يعني: من المكيل والموزون، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 85] لا تعملوا فيها بالمعاصي، بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل وإرسال الرسل، {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] قال الكلبي، والسدي، وقتادة: لا تقعدوا على طريق الناس تخوفون أهل الإيمان بشعيب. {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} [الأعراف: 86] قال الوالبي، عن ابن عباس: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من يأتي عليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وتبغونها عوجا قال مجاهد: تلتمسون لها الزيغ. وقال الحسن: لا تستقيمون على طريق الهدى. وقال الزجاج: يريد الاعوجاج والعدول عن القصد. وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] قال الكلبي: كثر عددكم، وذلك أنه كان مدين بن إبراهيم وزوجه بنت لوط فولدت، حتى كثر عدد أولادها. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] يعني: آخر أمر قوم

لوط. {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأعراف: 87] أي: إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فريقين: مكذبين، ومصدقين {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} [الأعراف: 87] أي: بتعذيب المكذبين وانجاء المصدقين. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87] لأنه الحكم العدل الذي لا يجور فكان من جواب قومه أن {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف: 88] عن عبادة الله وتوحيده: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ولا نقاركم على مخالفتنا، فقال شعيب: {أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] يعني: أوتجبروننا على ملتكم وإن كرهنا ذلك؟ {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] وذلك أنهم كانوا يدعون أن الله أمرهم بما كانوا عليه من الكفر، فقال شعيب: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] أي: من ملتكم إن عدنا فيها كنا مفترين على الله، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أي: ما كنا لنرجع في ملتكم بعد إذ وقفنا على أنها ضلالة إلا أن يريد الله إهلاكنا، فإن الله يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، قال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89] قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] في كل أمورنا، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: احكم واقض. وقال الفراء: وأهل عمان يسمون القاضي: الفاتح لأنه يفتح مواضع الحق. وقال الزجاج: المعنى: أظهر أمرنا، حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف بأن تنزل بهم من العذاب والهلكة ما يظهر أن الحق معنا. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] أي: كأن لم يقيموا في دارهم ولم يكونوا هناك بعد الإهلاك، يقال: غني القوم في مكانهم. إذا أقاموا به، والمغنى المنزل. وقوله: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93] أي: كيف يشتد حزني عليهم إذا أهلكهم الله؟ يقال: آسيت على الشيء آسى أسى. إذا اشتد حزنك عليه، وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا آسى عليهم. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ {94} ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {95} وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {96} }

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94] قال ابن عباس: يريد في مدينة. والقرى في كتاب الله كله المدائن، وقوله: من نبي هو محذوف الصفة لأن التقدير من نبي فكذب، أو فكذبه أهلها {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] يعني: الفقر والجوع والأسقام لعلهم يضرعون أي: يتذللون ويستكينون، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] يعني بالسيئة: البؤس والمرض، وبالحسنة: الغنى والصحة، والمعنى: أنه يعطيهم بدل ما كانوا فيه من البؤس والمرض، المال والصحة، أخبر الله أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء تارة، وقوله: حتى عفوا أي: كثروا وزادوا وكثرت أموالهم، يقال: عفا الشعر والوبر إذا كثر، وقال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم. {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] يعني: لما صاروا على الرخاء قالوا: قد مس آباءنا من الدهر الشدة والرخاء، وتلك عادة الدهر ولم يكن ما مسنا عقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم لم يقلعوا عن دينهم بما مسهم من الضراء. وقوله: فأخذناهم بغتة أي: لما فسدوا على الأمرين جميعا أخذناهم بغتة، آمَنَ ما كانوا ليكون أعظم في الحسرة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] بنزول العذاب، وإنما أخبر الله تعالى بهذا عن الأمم السالفة، فليعتبر أولئك المشركون الذين كانوا يكذبون محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] قال ابن عباس: وحدوا الله واتقوا الشرك. {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] قال: يريد: الأمطار والخصب وكثرة المواشي والأنعام، ولكن كذبوا الرسلَ فأخذناهم بالجدوبة والقحط {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] من الكفر والمعصية ثم خوف كفار مكة فقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ {98} أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {99} أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {100} } [الأعراف: 97-100] {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97] قال ابن عباس: يعني: مكة وما حولها {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} [الأعراف: 97] عذابنا بياتا ليلا {وَهُمْ نَائِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ} [الأعراف: 97-98] هذه واو العطف دخلت عليه همزة استفهام، وقرأ نافع أو بسكون الواو فيكون المعنى: أفأمنوا إحدى هذه العقوبات، والضحى صدر النهار وقت انبساط الشمس.

قال الحسن: المعنى: أنهم لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا ولا نهارا بعد تكذيب الرسل، وقوله: وهم يلعبون أي: وهم في غير ما ينفعهم ويعود عليهم بنفع، ومن اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب، وقوله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] قال المفسرون: مكر الله استدراجه إياهم بالنعمة والصحة ليبطروا ويتمادوا في المعصية والغي، فيكون ذلك في الحقيقة اضرارا بهم من حيث لا يشعرون. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] يعني: كفار مكة ومن حولهم، يقول: أو لو نبين لهم أنا {لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] أي: أخذناهم وعاقبناهم كما عاقبنا من قبلهم، وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] قال الزجاج: هذا مستأنف منقطع عما قبله لأن قوله أصبنا ماض، ونطبع مستقبل، والمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون معطوفا على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب.

وفي هذا تكذيب للقدرية، وبيان بأن الله إذا شاء طبع على قلب، فلا يفقه هدى، ولا يعي خيرا. {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ {101} وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ {102} } قوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] يعني القرى التي أهلك أهلها، نتلو عليك من أخبارها، لما فيها من الاعتبار بما كانوا عليه من الاغترار، حتى أتاهم العذاب، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: 101] بالمعجزات والآيات، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأعراف: 101] بعد ما رأوها بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] أي: مثل ذلك الذي طبع على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم ألا يؤمنوا أبدا. قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] قال ابن عباس: يريد: الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه حين أخرجهم من صلب آدم، حيث يقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] عاصين ناقضين للعهد. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {103} وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {104} حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {105} قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {106} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ {107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ {108} قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {109} يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {110} قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {112} } [الأعراف: 103-112]

قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 103] من بعد الأنبياء الذين جرى ذكرهم، موسى بآياتنا بما آتيناه من المعجزات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} [الأعراف: 103] قال ابن عباس: فكذبوا بها. قال الزجاج: جعلوا بدل الإيمان بها الكفر. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] فانظر بعين قلبك كيف فعلنا بهم، وكيف عاقبناهم. قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] ، على ههنا بمعنى الباء، قال الفراء: العرب تجعل على بمعنى الباء، يقولون: رميت على القوس، وبالقوس، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة. وفي حرف عبد الله: حقيق بأن لا أقول، والمعنى: أنا حقيق بأن لا أقول، وقرأ نافع: عليّ مشددة بالياء، قال الزجاج: المعنى واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق وهو أنه لا إله غيره، والمعنى: أن موسى عليه السلام قال: واجب علي أن لا أقول في وصف الله تعالى إلا ما هو الحق وهو توحيده، وتنزيهه عن الشريك. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105] قال ابن عباس: يعني: العصا. {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] أطلق عنهم وخلِّهم، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من نحو ضرب اللبن، ونقل التراب، وقوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] الثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو من أعظم الحيات، قال الكلبي: ملأت الحية دار فرعون، ثم فتحت فاها، فإذا شدقها ثمانون ذراعا، ثم شدت على فرعون لتبتلعه، فوثب فرعون عن سريره وهرب، وقام به بطنه ذلك اليوم أربع مائة مرة، ولم يستمسك بطنه بعد ذلك اليوم حتى هلك، ثم أدخل موسى يده جيب مدرعته، ثم أخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين لها شعاع ساطع يغلب شعاع الشمس، يضيء ما بين السماء والأرض، فذلك قوله: ونزع يده أي: أخرجها من جيبه، {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] ، فلما رأوا ذلك قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] يعنون أنه حاذق بالسحر، نسبوا ذلك إلى السحر. {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ} [الأعراف: 110] يا معشر القبط، من أرضكم: ويزيل ملككم

بتقوية بني إسرائيل عليكم، فقال فرعون لما قال الملأ ذلك: فماذا تأمرون: قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به علي؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] ، وقرئ بالهمزة، وهما لغتان، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته. إذا أخرته، ومنه قوله تعالى: {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] ، و {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] ، فيهما القراءتان، والمعنى أخّره، وأخر أمره، ولا تعجل عليه، ثم

طلبوا معارضة المعجزة بالحيلة، فقالوا: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قال ابن عباس: يريد: في مدائن صعيد مصر رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 112] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {113} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {114} قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ {115} قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ

عَظِيمٍ {116} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {117} فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {118} فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ {119} وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {120} قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {123} لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {124} قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ {125} وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ {126} } [الأعراف: 113-126] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] مالا تعطينا {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] لموسى، قال نعم أجابهم فرعون إلى ما سألوا من المال على الغلبة، كأنه قال: نعم لكم ذلك. {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114] عندي في المنزلة. قال الزجاج: أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي، فقالت السحرة لموسى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} [الأعراف: 115] عصاك، {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115] ما معنا من الحبال والعصي، قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] قلبوها عن صحة إدراكها بما موهوا من تلطف الحيلة، حتى رأوا الحبال حيات، واسترهبوهم قال المبرد: أرهبوهم والسين زائدة. وقال المؤرج: أفزعوهم. وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس. {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا، فإذا هي حيات قد ملأت الوادي، يركب بعضها بعضا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقّف: تبتلع وتلقم، وقرأ حفص تلقف مخففا، يقال: لقفت الشيء ألقفه لقفا. إذا أخذته فأكلته وابتلعته، ومثله: تلقفته والتقفته. قال المفسرون: لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهو قوله: ما يأفكون يأتون بالإفك وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن حبالهم حيات وكذبوا في ذلك، إنما كانوا جعلوا فيها الزئبق وصوروها بصور الحيات فاضطرب الزئبق، لأنه لا يستقر، قوله فوقع الحق قال الحسن، ومجاهد: ظهر. وقال الفراء: فتبين الحق من السحر. وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد، فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله تعالى، فذلك قوله: {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] أي: زال وذهب بأن فقد ما عملوا به السحر من الحبال والعصي، فغلبوا هنالك أي: غلب فرعون وقومه عند ذلك الجمع، وانقلبوا، وانصرفوا من ذلك الموضع صاغرين ذليلين، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] قال ابن عباس: خروا لله سامعين مطيعين. {قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 121] قال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: لا، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 122-123] أصدقتم موسى من قبل أمري إياكم؟ {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف: 123] قال الكلبي:

لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر، قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر، {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] عاقبة ما صنعتم، لأقطعن أيديكم الأيمان، وأرجلكم اليسرى، وهو قوله: من خلاف يعني من كل شق طرفا، {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] قالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الأعراف: 125] قال ابن عباس: راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص. {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126] وما تكره منا شيئا ولا تطعن علينا، قال ابن عباس: ما لنا عندك من ذنب، ولا ركبنا منك مكروها تعذبنا عليه، إلا إيماننا بآيات ربنا. يعني: ما أتى به موسى آمنوا بها أنها من عند الله، لا يقدر على مثلها إلا الله، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [الأعراف: 126] قال مجاهد: اصبر علينا الصبر عند الصلب والقطع حتى لا نرجع كفارا، وتوفنا مسلمين مخلصين على دين موسى. {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ {127} قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {128} قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ {129} } [الأعراف: 127-129] قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 127] هذا إغراء من الملأ لفرعون على موسى، وإنكار أن يتركه مقيما على مخالفته، وأرادوا بالإفساد في الأرض: دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته، وتجهيلهم إياه، وقوله: ويذرك قال ابن الأنباري: الواو نائبة عن الفاء. وهو قول الزجاج، قال: نصب ويذرك على جواب الاستفهام بالواو، والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذرك موسى وآلهتك وهي جمع إله، قال الكلبي عن ابن عباس: كان فرعون صنع لقومه

أصنام صغارا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم، ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف: 127] قال ابن عباس: كان فرعون قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل، فلما كان من أمر موسى ما كان، أمر بإعادة القتل عليهم. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وإنا على ذلك قادرون، فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] على ما يفعل بكم، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] أطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم، والعاقبة للمتقين: قال ابن عباس: الجنة لمن اتقى الله. وقال غيره: العاقبة ههنا النصر والظفر. قالوا أوذينا بالقتل الأول، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} [الأعراف: 129] بالرسالة، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] بإعادة القتل على أبنائنا، {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129] فرعون وقومه، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 129] يملككم ما كان يملك فرعون وقومه، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] قال الزجاج: فيرى ذلك بوقوعه منكم، لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم. {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {130} فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {131} وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ {132} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ {133} وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ

مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {134} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ {135} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ {136} وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ {137} } [الأعراف: 130-137] قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] قال الزجاج: السنين في كلام العرب الجدوب، يقال: مسَّتْهم السنة، والمعنى السنة، وشدة السنة. قال الفراء: بالسنين بالقحط والجدوبة عاما فعاما. قال المفسرون: والسنين لأهل البوادي، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130] لأهل القرى {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] قال الزجاج: وذلك أن أحوال الشر ترقق القلب، وترغب فيما عند الله، وفي الرجوع إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] ، قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} [الأعراف: 131] يعني الغيث والخصب والثمار والمواشي والألبان والسعة في الرزق والعافية والسلامة، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} [الأعراف: 131] أي: إنا مستحقوه على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من الله تعالى، فيشكروا عليه، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الأعراف: 131] يعني القحط والجدب، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] يتشاءموا بهم، وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] قال ابن عباس: شؤمهم عند الله ومن قبل الله، أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] أن الذي أصابهم من الله تعالى. قوله: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الأعراف: 132] ، مهما كلمة تستعمل للشرط والجزاء، أصلها: ما ما، الأولى للجزاء والثانية زيدت توكيدا، كما يزاد في سائر حروف الجزاء، نحو إما، ومتى ما، ثم أبدلوا من ألف ما الأولى هاء كراهة لتكرار اللفظ فصار مهما. هذا قول الخليل وجميع البصريين، ومعنى الآية: أنهم قالوا لموسى: متى ما أتيتنا بآية مثل اليد والعصا لتسحرنا بها: جعلوا ذلك سحرا، فإنا لنا نؤمن بك ولن نصدقك، فلما كذبوه أرسل الله عليهم أنواع العذاب، وهو قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133] وهو الماء الذي يغشى كل مكان،

قال المفسرون: لما أبى فرعون وقومه الإيمان دعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم السماء بالماء، فامتلأت بيوت القبط ماء، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، فقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134] يكشف عنا فنؤمن لك. فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع، فقالوا: ما كان ذلك الماء إلا نعمة علينا. فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم حتى إن كانت لتأكل الأبواب والسقوف. قال عطاء: بلغني أن الجراد لما سلط على قوم فرعون أكل أبوابهم، حتى أكل مساميرهم، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل، ولا يصيبهم من ذلك شيء. ومما يذكر من الأخبار في الجراد ما 361 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَلَفٍ الْخَيَّاطُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ ابْنِهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو عَلَى الْجَرَادِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْجَرَادَ، اللَّهُمَّ اقْطَعْ دَابِرَهُ، اللَّهُمَّ اقْتُلْ كِبَارَهُ، وَأَهْلِكْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، وَخُذْ بِأَفْوَاهِهِ مِنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» وأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ لُؤْلُؤ جَعْفَر بْن مُسْلِمِ بْنِ عُمَرَ الْخَرّازُ، نا دَاوُدُ بْنُ بَكْرٍ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنِي النَّصْرُ بْنُ وَاضِحٍ، نا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي صَدْرِ الْجَرَادِ مَكْتُوبٌ: جُنْدُ اللَّهِ الأَعْظَمُ " وروى أبو أمامة الباهلي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم له، فأطعمها الله الجراد» . وقال الأوزاعي: " كان ببيروت رجل يذكر أنه رأى رجلا راكبا على جرادة، وعليه خفان طويلان، ويقول بيده: هكذا. فحيثما أشار انساب الجراد إلى ذلك الموضع، فبلغنا أن ذلك كان ملك الجراد. 363 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْوَرَّاقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا

سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنِي [محمد بن] عِيسَى بْنُ شَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَلَّ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاغْتَمَّ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى الْيَمَنِ وَرَاكِبًا إِلَى الشَّامِ وَرَاكِبًا إِلَى الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ: هَلْ رَأَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْئًا أَمْ لا؟ فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي دَخَلَ الْيَمَنَ بِقَبْضَةٍ مِنْ جَرَادٍ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَلَقَ اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ، مِنْهَا سِتُّ مِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُ مِائَةٍ فِي الْبَرِّ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ الْجَرَادُ، فَإِذَا أُهْلِكَتْ تَتَابَعَتْ مِثْلُ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ» قال المفسرون: فعَجُّوا من ذلك، وأعطوا موسى عهد الله لئن كشف الله ذلك أن يؤمنوا، فدعا موسى فكشف الله الجراد، وكان قد بقى من غلاتهم بقية، فقالوا: قد بقى لنا ما هو كافينا، فما نحن بتاركي ديننا. فبعث الله عليهم القمل، وهو الدَّبَى الصغار التي لا أجنحة لها. وهذا قول مجاهد، والسدي، وقتادة، وقول ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية سعيد بن جبير: القمل: السوس الذي يخرج من الحنطة. وهو قول الحسن قال: القمل دواب سود صغار فتتبع القمل ما بقى من حروثهم، فأكله ولحس الأرض، فجزعوا وخافوا الهلاك، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدبى، فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين ولا مرسلين معك بني إسرائيل. فدعا عليهم موسى، فأوحى الله إليه أن يقوم على حافة النيل، ويشير بعصاه إلى أدناه وأقصاه، ففعل ذلك موسى، فتداعت الضفادع بالنقيق من كل جانب حتى أعلم بعضهم بعضا، ثم خرجت مثل الليل الدامس، حتى دخلت بيوتهم بغتة، وامتلأت منها أبنيتهم وأفنيتهم وأطعمتهم، فكان لا يكشف أحدهم ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وينام أحدهم فيستيقظ وقد ركبته الضفادع ذراعا، بعضها فوق بعض وصارت عليه ركاما حتى ما يستطيع أن يتحول بشقه الآخر وكان أحدهم يفتح فاه لأكلته، فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، وكانوا لا يعجنون عجينا إلا تشدخت فيه، ولا يطبخون قدرا إلا امتلأت ضفادع، فضجر آل فرعون من ذلك، وضاق عليهم أمرهم، فبكوا وشكوا إلى موسى، وقالوا: اكشف عنا هذا البلاء، فإنا نتوب هذه المرة، فأخذ بذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا

موسى ربه فكشف عنهم الضفادع ثم نقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم كلها دما، فما يستقون من الآبار إلا وجدوه دما عبيطا، قال قتادة: ذكر لنا أن فرعون كان يجمع بين الرجلين في إناء واحد، القبطي والإسرائيلي، فكان ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما. وقال مجاهد: كان يستقي الإسرائيلي من النيل ماء طيبا ويستقي الفرعوني دما. فذلك قوله: آيات مفصلات، قال المفسرون: وكان العذاب يمكث عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر. وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} [الأعراف: 133] أي: عن عبادة الله، {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] . قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: نزل بهم العذاب يعني الجراد وما ذكر بعده، {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: 134] أي: بما أمرك وأوصاك أن تدعوه به، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {134} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} [الأعراف: 134-135] يعني إلى الأجل الذي غرقهم الله فيه، {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 135] ينقضون العهد، فانتقمنا منهم كافأناهم عقوبة بما صنعوا {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف: 136] في البحر، {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136] تاركين الاعتبار بها والتفكير فيها، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف: 137] يعني: بني إسرائيل كان قوم فرعون قد استذلوهم بقتل أبنائهم، واستخدام نسائهم، فأهلكهم الله بالغرق ومكنهم من منازلهم، ومساكنهم، وأعطاهم أرضهم، وهو قوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] يريد: جهات شرق أرض الشام ومصر وجهات غربها: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] بإخراج الزروع والثمار والنبات والأشجار والأنهار، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 137] قال ابن عباس: مواعيد ربك التي لا خلف فيها ولا ناقض لها. قال الزجاج: يعني ما وعدهم الله تعالى من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وهو قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: 5] إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] . وقوله: بما صبروا أي: على عذاب فرعون وصنيعه بهم، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ

فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] قال مقاتل: أهلكنا ما عمل فرعون وقومه بأهل مصر، وما بنوا من المنازل والبيوت. قال ابن عباس: يعرشون: يسقفون من القصور والبيوت. وقال الزجاج: يقال: عَرَشَ يَعْرِش ويَعْرش. إذا بنى. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138} إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {139} قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {140} وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {141} } [الأعراف: 138-141] وقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138] يقال: جاوز الوادي إذا قطعه وجاوز بغيره عبر به، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] قال ابن عباس: يعبدونها مقيمين عليها، يقال لكل من لزم شيئا وواظب عليه: عكف يعكِف ويعكُف. قال قتادة: كان أولئك القوم نزولا بالرقة. فلما رأوا ذلك {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] هذا إخبار عن عظيم جهل بني إسرائيل حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات، ولذلك قال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] قال ابن عباس: جهلتم نعمة ربكم فيما صنع بكم. 364 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا

سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَى حُنَيْنًا مَرَّ بِشَجَرَةٍ يُعَلِّقُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى، اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» قوله: إن هؤلاء يعني: الذين كانوا يعبدون الأصنام، {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] مُهلَك ما هم فيه من العبادة، والتبار: الهلاك، والتتبير: الإهلاك، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] قال ابن عباس: يريد: أن عملهم للشيطان ليس لله فيه نصيب. قال لهم موسى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} [الأعراف: 140] أطلب لكم {إِلَهًا} [الأعراف: 140] معبودا، وهذا استفهام وإنكار، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 140] قال ابن عباس: أكرمكم من بين الخلائق أجمعين. {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف: 141] مفسر إلى آخر الآية في { [البقرة. ] وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142} وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ

الْمُؤْمِنِينَ {143} قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ {144} وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ {145} سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ {146} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {147} } [سورة الأعراف: 142-147] قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] تقدير الآية: واعدناه انقضاء ثلاثين ليلة يترقب بعدها المناجاة، قال المفسرون: كان تلك الثلاثين ذو القعدة أمره الله أن يصوم فيها ليكلمه. قال ابن عباس: صامهن ليلهن ونهارهن فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئا من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله إليه لا كلمتك، حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إلي من ريح المسك، وأمره بصيام من ذي الحجة، فذلك قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] أي: تم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى أربعين، {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] لما أراد موسى الانطلاق إلى الجبل للمناجاة استخلف أخاه هارون على قومه، فقال له: اصلح. قال ابن عباس: يريد: الرفق بهم والإحسان إليهم. ومعناه: أصلح أمرهم، {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] أي: لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره. {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143] أي: في الوقت الذي وقتنا له، وكلمه ربه: خصه الله بأن أسمعه كلامه من غير أن يكون بينهما أحد، قال المفسرون: لما أراد الله أن يكلم موسى أهبط إلى الأرض ظلمة سبع فراسخ. فلما دنا موسى من الظلمة طرد عنه شيطانه، وطرد هوام الأرض ونحى عنه ملكا، ثم كلمه الله وكشطت له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وكان بعد ذلك لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته: أنا أيم منك مذ كلمك ربك. فكشف لها عن وجهه

فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها في وجهه، وخرت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة. قال موسى: لك ذلك إن لم تتزوجي بعد فإن المرأة لآخر أزواجها. 365 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَاذَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمَّادٍ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَصَايَا كُلّهَا، فَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ أَنْ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى لَمْ يَتَصَنَّعِ الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَقَرَّبِ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خِيفَتِي، قَالَ مُوسَى: يَا إِلَهَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهُمْ، قَالَ: أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَأُبِيحَهُمْ جَنَّتِي حَتَّى يَتَبَوَّءُوا فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا، وَأَمَّا الْوَرِعُونَ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ عَبْدٌ إِلَّا نَاقَشْتُهُ الْحِسَابَ. وَأَمَّا الْبَكَّاءُونَ مِنْ خِيفَتِي فَأُولَئِكَ لَهُمُ الرَّفِيقُ الأَعْلَى لا يُشَارَكُونَ فِيهِ " وقوله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال الزجاج: المعنى: أرني نفسك أنظر إليك أني قد سمعت كلامك، فإني أحب أن أراك. ولو كانت الرؤية لا تصح في وصف الله، ما سأل موسى ذلك لأنه كان أعلم بالله من أن يسأل ما يستحيل في وصفه، وفي قوله: لن تراني دليل على جواز الرؤية لأنه لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى. قال ابن عباس في رواية عطاء: لن تراني في الدنيا. قال مقاتل: لما قال موسى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال له ربه: لن تراني، ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل، {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} [الأعراف: 143] أي: سكن وثبت فسوف تراني، وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق رؤيتي، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} [الأعراف: 143] أي: ظهر وبان للجبل قال الكلبي: هو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير، جعله دكا أي: مدقوقا، يقال: دككت الشيء أدكه دكا إذا دققته. قال الأخفش: كأنه قال: دكه دكا. ومن قرأ: دكاء، فمعناه: جعله مثل

دكاء، فحذف المضاف، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، وقال المبرد: جعله أرضا دكاء، وهي الأرض التي لا تبلغ أن تكون تلا، قال المفسرون: ساخ الجبل في الأرض، فهو يذهب حتى الآن. 366 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَنَّ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالُوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الصَّيْمَرِيُّ، نا النَّضْرُ بْنُ مَسْلَمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ الضَّالِّ، عَنِ الْخَالِدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا صَارَ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةَ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ: أُحُدٌ، وَوَرْقَانُ، وَرَضْوَى، وَوَقَعَ ثَلاثَةٌ بِمَكَّةَ: ثَوْرٌ، وَثُبَيْرٌ، وَحِرَاءُ " وقوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] قال ابن عباس، والحسن، وابن زيد: مغشيا عليه. فلما أفاق: من غشيته قال سبحانك: تنزيها لك عن

السوء، تبت إليك: من مسألتي الرؤية، وذلك أنه سألها من غير استئذان من الله، فلذلك تاب، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] قال مجاهد، والسدي: أول قومي إيمانا. وقال أبو العالية: أول من آمن أنه لا يراك أحد قبل يوم القيامة. وقال الزجاج: أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا. قال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] أي: اتخذتك صفوة برسالاتي وبكلامي يعني: تخصيصه بكلامه من غير واسطة وذلك أن من أخذ العلم عن العالم المعظم كان أجل رتبة ممن أخذه عن واحد أخذه عنه كما تقول في الأسانيد إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أقربها إليه أعزها وأجلها. وقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف: 144] قال ابن عباس: ما فضلتك به وكرمتك، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] لأنعمي والطائعين لي. قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145] قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة، وكان طول اللوح اثنى عشر

ذراعا» . وقال الكلبي: كانت من زبرجدة خضراء. وقال مقاتل: وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم. وقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور. وقوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] قال السدي: مما أمروا به ونهوا عنه. وهذا معنى قول ابن عباس: مما افترض، وأحل وحرم، ونهى وأمر. موعظة نهيا عن الجهل، {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] هداية إلى كل أمر هو لله رضا، فخذها بقوة قال ابن عباس: بجد، والمعنى: بصحة وعزيمة. لأنه لو أخذها بضعف نية لأداه إلى فتور العمل به، وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] قال عطاء، عن ابن عباس: يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويتدبروا أمثالها، ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها. وقال قطرب: يأخذوا بأحسنها أي: بحسنها وكلها حسن. وقال أهل المعاني: أحسنها الفرائض والنوافل وهي ما يستحق عليها الثواب، وأدونها في الحسن المباح لأنه لا يستحق عليه حمد ولا ثواب. {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] قال عطاء، والحسن، ومجاهد: هي جهنم. أي: فلتكن منكم على ذكر لتحذروا أن

تكونوا منهم، وهذا تهديد لمن خالف أمر الله، وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذي خالفوا أمر الله، لتعتبروا به. قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] قال ابن عباس: يريد: الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بما جئت به. وشرحه ابن الأنباري، والزجاج، فقال ابن الأنباري: المعنى: سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها لعنادهم الحق، وعوقبوا بحرمان الهداية، وهذا كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال الزجاج: أي: أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي. قال: ومعنى يتكبرون أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وقال ابن جريج: الآيات خلق السموات والأرض. يعني: أصرفهم عن الاعتبار بما فيها، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} [الأعراف: 146] يعني: الهدى والبيان الذي جاء من الله، {لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} [الأعراف: 146] دينا، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} [الأعراف: 146] طاعة الشيطان وضلالته، يتخذوه سبيلا دينا ذلك بأنهم: قال الزجاج: فعل الله ذلك بأنهم. كذبوا بآياتنا: جحدوا الإيمان بها، وكانوا عنها أي: عن النظر فيها والتدبر لها {غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] . قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} [الأعراف: 147] يعني: ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب، حبطت أعمالهم: صارت كأنها لم تكن، وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147] هذا استفهام تقرير يعني: أنهم لا يجزون إلا بما يستحقون من العقاب، وهو قوله: {إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147] أي: إلا بما كانوا، أو على ما كانوا يعملون. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ {148} وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {149} } [الأعراف: 148-149] قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} [الأعراف: 148] أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات، من حليهم: الحلي جمع حلي مثل ثدي وثدي، ومن كسر الحاء،

فقال الزجاج: اتّبع الحاء كسرة اللام. قال المفسرون: إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه، ويستعيرون من القبط الحلي، فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم، فلما أخرجهم الله من مصر وغرقهم الله بقيت تلك الحلي في أيديهم، فجمعها السامري، فصاغها عجلا، وأعلمهم أن إلههم وإله موسى عنده فذلك قوله: {عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] . وأكثر أهل التفسير على أنه صار جسدا ذا لحم ودم، وقال وهب: جسدا لحما ودما. وقال قتادة: جعله الله لحما ودما له خوار. وقال الحسن: قبض السامري قبضة من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في فم العجل، فتحول لحما ودما، وخار خورة واحدة. قال الله تعالى منكرا عليهم: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] أي: لا يستطيع كلاما، فيدعو إلى رشد أو يصرف عن غي، {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} [الأعراف: 148] أي: لا يرشدهم إلى دين، وقوله: {اتَّخَذُوهُ} [الأعراف: 148] أي: إلها ومعبودا، كقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51] ، وكانوا ظالمين قال ابن عباس: مشركين. قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] قال ابن عباس، والمفسرون: ندموا على عبادة العجل. قال الفراء، والزجاج: يقال: للنادم على ما فعل، المتحسر على ما فرط فيه: قد سقط في

يده، وأسقط. قال الزهري: والمراد: سقط الندم في يده. {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} [الأعراف: 149] وعلموا أنهم قد ابتلوا بمعصية الله، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} [الأعراف: 149] الآية: وهذا الندم والاستغفار إنما كان بعد رجوع موسى إليهم. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {150} قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {151} إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ {152} وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {153} } [الأعراف: 150-153] قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] الأسف: الشديد الغضب، يقال: آسفني فأسفت. أي: أغضبني، ومنه قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، وقال السدي، والكلبي: الأسف: الحزين، قال موسى لقومه: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] يقال: خلفه بما يكره إذا عمل خلفه ذلك العمل، قال ابن عباس: يريد اتخاذهم العجل وكفرهم بالله. وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150] قال ابن عباس: يعني: ميعاد ربكم، فلم تصبروا له. ونحو هذا قال الحسن: وعد ربكم الذي وعدتم من الأربعين ليلة. وقال الكلبي: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم. وألقى الألواح: التي فيها التوراة. روى ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس الخبر كالمعاينة، إن الله قد أخبر موسى أن قومه قد ضلوا، فلم يكسر الألواح، فلما عاين ذلك كسر الألواح» . وقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] قال الكلبي: بذؤابة أخيه وشعره بيده اليمنى ولحيته باليسرى، لأنه توهم أنه عصى الله بمقامه فيما بينهم وتركه اللحوق به، فقال له هارون: يا ابن أم أراد: أمي، فحذف الياء، وأبقى الكسرة دليلا على المحذوف كما قالوا: يا غلام أقبل. ومن فتح

الميم جعل ابن وأم شيئا واحدا، نحو خمسة عشر، وقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف: 150] قال الكلبي: استذلوني وقهروني وكادوا وهموا أن يقتلوني، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150] يعني أصحاب العجل، ولا تجعلني في موجدتك علي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] الذين عبدوا العجل. قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف: 151] أي: ما صنعت إلى أخي من الإنكار عليه، وهو برئ مما يوجب العتب عليه، ولأخي إن قصر في الإنكار على عبدة العجل، {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف: 151] قال عطاء: في جنتك، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] . 367 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ رُسْتُمَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ بِنْتِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَدَاةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَ عَلَى مَاءِ لِقَوْمٍ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَإِذَا امْرَأَةٌ تَحْطِبُ تَنُّورًا لَهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْوَهَجُ نَحَّتْ بِابْنٍ لَهَا عَنْ وَهَجِهِ، فَأَتَتْنَا، فَقَالَتْ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قُلْنَا لَهَا: نَعَمْ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَتْ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، قَالَ لَهَا: بَلَى، قَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَوَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَفَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِالْعِبَادِ مِنَ الأُمَّهَاتِ بِأَوْلَادِهِنَّ؟ قَالَ لَهَا: بَلَى، قَالَتْ: أَوَ لَسْتَ تَزْعُمُ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ الْوَالِدَةَ لا تَطِيبُ نَفْسُهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُخْضِلَتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى رَبِّهِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152] يعني: اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عيرهم بصنع آبائهم، ونسبه إليهم. قوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 152] عذاب في الآخرة، {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 152] يعني: الجزية، وقال عطاء: يعني ما أصاب قريظة والنضير من

الجلاء والنفي. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] قال ابن عباس: كذلك أعاقب من اتخذ إلها من دوني. وقال سفيان بن عيينة: هذا لكل مبتدع ومفتر إلى يوم القيامة. {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 153] قال ابن عباس: يريد: الشرك. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} [الأعراف: 153] أي: رجعوا عنها وتركوها، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ} [الأعراف: 153] لهم، {رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] بهم. وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ {154} وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {155} وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ {156} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {158} } [الأعراف: 154-158] {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] أي: سكن وذهبت حدته وفورته، أخذ الألواح: التي كان ألقاها، وفي نسختها وفي المكتوب فيها، وذلك المكتوب انتسخ من أصل فسمي نسخة، هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب، {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] يريد الخائفين من ربه واللام في لربهم زيادة للتوكيد كقوله: ردف لكم، وقد يزاد حرف الجر توكيدا وإن كان مستغنى عنه، يقال: ألقى يده، وبيده. وفي القرآن: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] . قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] معناه: من قومه، فحذفت مِن ووصل الفعل فنصب، قال

السدي: أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلا ليعتذروا، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا الله جهرة ف أخذتهم الرجفة وهي: الرعدة والحركة الشديدة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وتنقض ظهورهم، وخاف موسى عليهم الموت فبكى ودعا، وخاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوه بأنهم ماتوا. {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 155] خروجنا، {وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155] فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني، {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] هذا استفهام على تأويل الجحد أراد: لست تفعل ذلك، أي: لا تهلكنا بما فعل عبدة العجل. هذا قول ابن الأنباري، وقال المبرد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] أي: تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك، أي: اختبارك وابتلاؤك أضللت بها قوما فافتتنوا، وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك، فذلك معنى قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا} [الأعراف: 155] ناصرنا والذي يتولى أمورنا، {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [الأعراف: 156] قال ابن عباس: اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة. وفي الآخرة يريد: وفي الآخرة حسنة، وهي الجنة، {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] قال جميع المفسرين: تبنا ورجعنا إليك بتوبتنا، والهود: الرجوع. {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} [الأعراف: 156] قال ابن عباس: يريد: على الذنب اليسير، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] قال الحسن، وقتادة: إن رحمته وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهو يوم القامة للمتقين خاصة. قال عطية العوفي: إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن، فيعيش فيها فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه.

368 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، أنا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمُ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ وقال قتادة، وسفيان بن عيينة في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] قال: قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] إلى آخر الآية، فتمنتها اليهود والنصارى وقالت: نحن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ونؤدي الزكاة، فاختلسها الله من إبليس واليهود والنصارى فجعلها لهذه الأمة خاصة، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] ، وهو نبيكم كان أميا لا يكتب، {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} [الأعراف: 157] في التوراة والإنجيل يجدون نعته ونبوته وأمره.

369 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، نا مَأْمُونُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَأْمُونٍ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ، عَنْ أَبِيهِ الصَّلْصَالِ بْنِ الدَّلَهْمَسِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَلِيلٌ امْضُوا بِنَا لِنَعُودَهُ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّنَا، وَاتَّبَعْنَاهُ فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ يُمَرِّضُ ابْنًا لَهُ فَمَالَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «يَا يَهُودِيُّ هَلْ تَجِدُونَنِي عِنْدَكُمْ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ؟» فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الْيَهُودِيُّ بِرَأْسِهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُمْ لا يَجِدُونَهُ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْيَهُودِيِّ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجِدُونَكَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا وَلَقَدْ طَلَعْتُ، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَسِفْرًا مِنَ التَّوْرَاةِ يَقْرَأُ فِيهِ صِفَتَكَ، وَصِفَةَ أَصْحَابِكَ، وَذَكَرَكَ، فَلَمَّا رَآكَ سَتَرَهُ عَنْكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَانَتْ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْغُلامُ حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقِيمُوا عَلَى أَخِيكُمْ حَتَّى تَقْضُوا حَقَّهُ، قَالَ: فَحُلْنَا بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَبَيْنَهُ وَتَوَلَّيْنَا أَمْرَهُ، حَتَّى وَارَيْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا وقوله: يأمرهم بالمعروف: قال ابن عباس: يريد: مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] عبادة الأوثان وقطع الأرحام، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] يعني: ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] الميتة والدم وما ذكر معهما، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] قال الزجاج: الإصر: ما عقدته من عقد ثقيل. قال سعيد بن جبير: هو شدة العبادة. {وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] قال المفسرون: هي الشدائد التي كانت عليهم كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، ووجوب القصاص دون الدية، وترك العمل بتة في السبت، فشبهت هذه الشدائد بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق تمثيلا، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} [الأعراف: 157] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود، وعزروه ووقروه،

ونصروه على عدوه، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] يعني القرآن، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وما يليها ظاهر التفسير. {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ {159} وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160} وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ {162} } [الأعراف: 159-162] قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} [الأعراف: 159] قال أكثر المفسرين: إنهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتركوا تحريم السبت، يجمعون ولا يتظالمون. يهدون بالحق: يدعون إلى الحق، وبه يعدلون: وبالحق يحكمون، وقال قتادة: كان بعض أهل العلم يحدثنا أن موسى لما أخذ الألواح قال: رب إني أجد في الألواح أمة، خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: إني أجد في الألواح أمة وهم الآخرون في الخلق والسابقون في دخول الجنة، رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءونها نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعوه، رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، يقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب فاجعلهم أمتى، قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يكتب عليه بشيء وإن عملها كتبت له سيئة واحدة رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد فأعطي موسى اثنتين، قال الله تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] . وقال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ، فرضي نبي الله موسى كل الرضا. قال أبو

العالية، وابن جريج، والربيع بن أنس: هم قوم موسى تمسكوا بطريقته ولم يزيغوا، ولما وقع الاختلاف في القوم اعتزلوا وصاروا إلى أن بلغوا وراء الصين، وقال آخرون: هم عبد الله بن سلام وأصحابه. قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} [الأعراف: 160] يعني: قوم موسى يقول: فرقناهم: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] يعني: أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ابنا لكل واحد منهم سبطا، فكانوا اثنى عشر سبطا، قال الفراء: وإنما قال اثنتي عشرة والسبط مذكر لأن بعده أمما، فذهب التأنيث إلى الأمم، وقال الزجاج: المعنى: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا، فالأسباط من نعت الفرقة والتأنيث في العدد، وإنما وقع لتقدير الفرقة في الكلام، ولهذا جمع الأسباط، وإن كان ما فوق العشرة من العدد لا يفسر بالجمع. والأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة، وقوله: فانبجست بجس الماء وانبجاسه: انفجاره، يقال: بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس. إذا تفجر، وهذه الآية واللتان بعدها مفسرة في { [البقرة. ] وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {163} وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {164} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {165} فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ {166} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {167} } قوله تعالى: واسألهم يعني: أسباط اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ، يقررهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قديم كفرهم ومخالفة أسلافهم الأنبياءَ في ارتكاب المعاصي، ويخبرهم بما لا يعلم إلا بوحي، وتلك القرية هي أيلة. في قول ابن عباس برواية الوالبي، وقوله: {

الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [سورة الأعراف: 163] أي: التي هي مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] أي: يظلمون فيه بصيد السمك، قال ابن عباس: يصيدون الحيتان ويفعلون ما نهوا عنه. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] ظاهرة على الماء جمع شارع وشارعة. قال المفسرون: إن اليهود أمروا بتعظيم السبت وحرم عليهم فيه الصيد، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل، بلاء ابتلوا به، فذلك قوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] أي: يوم لا يفعلون سبتهم لا تأتيهم الحيتان، وانقطع الكلام، ثم قال: كذلك نبلوهم أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم، ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: كذلك والمعنى: لا تأتيهم الحيتان مثل ذلك الإتيان الذي يأتي يوم السبت، ثم استأنف فقال: {نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] أي: نشدد عليهم المحنة بفسقهم وعصيانهم الله تعالى، والوجهان ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} [الأعراف: 164] قال أهل التفسير: افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الأولى الناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164] لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] أي: موعظتنا إياهم معذرة، والمعنى: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله تعالى، ومن نصب معذرة فعلى معنى نعتذر معذرة. وقوله: ولعلهم يتقون أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا المعصية. قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأعراف: 165] قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] يعني: الفرقة الناهية، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] قال المفسرون: بشديد من العذاب، يقال: بؤس يبؤس بؤسا. إذا اشتد، فهو بئيس. وقرأ نافع: بيس جعل بئس الذي

هو فعل اسما فوصف به ومثله ما روي: أن الله تعالى ينهى عن قيل وقال. وقراءة ابن عامر كقراءة نافع إلا أنه حقق الهمزة، وقراءة أبي بكر بَيْئَس مثل: ضيغم، وحيدر، وهو كثير في الصفة، ثم فسر ذلك العذاب الشديد فقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} [الأعراف: 166] المعنى: عتوا عن ترك ما نهوا عنه واستكبروا عن تركه، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] وهذا مفسر في { [البقرة. وروى ابن جريج، عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: هل تعرف أيلة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها ناس من اليهود حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، وكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا، تأتي واردة إلى الماء بيضاء سمانا كأمثال المخاض بأفنيتهم وأبنيتهم، فإذا كان في غير يوم السبت لم يدركوها ولم يجدوها إلا بمشقة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت فربطه إلى رد في الساحل، وتركه في الماء حتى إذا كان الغد أخذه فأكله، ففعل ذلك أهل بيت منهم حتى فشا ذلك فيهم وكثر، فافترقوا عند ذلك ثلاث فرق، وقالت الفرقة الناهية للفرقة الظالمة: والله لا نبايتكم في مكان. وفارقوهم فغدوا عليهم يوما وضربوا باب السور، فلم يجبهم أحد، فتسور عليهم واحدا فقال: يا عباد الله قد صاروا قردة، والله، لها أذناب تتعاوى، ثم فتح الباب ودخل الناس عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس، فيأتي القرد إلى نسيبه من الإنس فيحتك به ويقول الإنسان: أنت فلان؟ فيشير برأسه أي: نعم. ويبكي، فيقول لهم الإنس: أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو مسخ. قال ابن عباس: فاسمع الله يقول:] أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة الأعراف: 165] فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة. فقال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا حيث قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164] ، وإن لم يقل الله: أنجيتهم لم يقل أيضا أهلكتهم. فأعجبه قولي فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما. وهذا أيضا قول الحسن قال: نجت فرقتان وهلكت فرقة، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان، وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر، قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الأعراف: 167] تأذن بمعنى: أذن أي: أعلمَ وقال ربك، ليبعثن عليهم على اليهود، {إِلَى يَوْمِ

الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] قال المفسرون: هم العرب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، بعثهم الله على اليهود إلى يوم القيامة يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167] لمن استحق تعجيله لأنه لا يتأخر عن وقت إرادته. {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {168} فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {169} وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ {170} } [الأعراف: 168-170] {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168] فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة، منهم الصالحون قال ابن عباس، ومجاهد: هم الذين أدركوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنوا به، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] يريد: الذين كفروا، وبلوناهم عاملناهم معاملة المبتلي المختبر، بالحسنات وهي: الخصب والعافية، والسيئات وهي الجدب والشدائد، وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة: أما النعم فلارتباطها والازدياد منها، وأما النقم فلكشفها، والسلامة منها، وقوله: لعلهم يرجعون قال ابن عباس: كي يتوبوا. فخلفَ بعد هؤلاء الذين قطعهم الله، خلفٌ من اليهود، وهم أولادهم الذين أتوا بعدهم، قال ابن السكيت: يقال: هذا خلف صدق، وهذا خلف سوء، وهؤلاء خلف سوء، جمعه وواحده سواء، وأنشد: وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب وقال الزجاج: يقال للقرن الذي يجيء في أثر قرن: خلف. وقوله: ورثوا الكتاب يعني التوراة، أخذوها من آبائهم، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف: 169] جميع متاع الدنيا عرض، يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر. قال ابن عباس: ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه. وأراد بالأدنى العالم الأدنى، وهو الدار الفانية، {

وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] قال المفسرون: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما، ويتمنون على الله المغفرة، وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] قال ابن عباس: وكد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار. {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169] وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك، ولو عقلوا لعملوا للدار الآخرة، وهو قوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169] . قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] يقال: مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به. وروى أبو بكر، عن عاصم: يُمْسِكون مخففة، وهو رديء لأنه لا يقال أمسكت بالشيء، وإنما يقال: أمسكت الشيء. ومعنى يمسكون بالكتاب: يؤمنون به ويحكمون بما فيه، قال عامة المفسرين: نزلت في بني إسرائيل مؤمني أهل الكتاب. {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171] أي: رفعناه باقتلاع له من أصله، يقال: نتقه ينتقه نتقا. إذا قلعه من أصله. وقوله: كأنه ظلة: كل ما أظلك من سقفِ بيت أو سحابة أو جناحِ حائط فهو ظلة والجمع ظلل، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171] أي: علموا وأيقنوا، وذكرنا تفسير هذه الآية في { [البقرة عند قوله:] وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [سورة البقرة: 63] الآية. 370 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْميرَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، نا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ لأَيِّ شَيْءٍ سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفِ جِبَاهِهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سَجَدُوا، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ بِشِقِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ مَتَى يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَبَلُ فَكَانَتْ سَجْدَةٌ رَضِيَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً وباقي الآية مفسرة في { [البقرة. ]

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173} وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {174} } [سورة الأعراف: 172-174] قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الآية: 371 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ الأَخْرَمِ، عَنْ حَامِدِ بْنِ أَبِي

حَامِدٍ الْمُقْرِئِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكٍ 372 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا جَرِيرٌ، وَعَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلا مُعَايَنَةً، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ تَلاها إِلَى قَوْلِهِ {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] قوله تعالى: من ظهورهم: قال الزجاج: هو بدل من بني آدم، المعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وقال الكتاني: لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعا من ظهره، لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالده الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره. قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فنودي يومئذ أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين. وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال. ثم أعادهم جميعا في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى: فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] ، وهذا قول جماعة المفسرين، وقالت طائفة

منهم: إن أهل السعادة من الذرية أقروا طوعا، وإن أهل الشقاوة أقروا تقية وكرها، وذلك معنى قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وقال الزجاج: جائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما يعقل به، كما قال: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] ، وكما قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] . وقوله: شهدنا قال الكلبي: لما قالت الذرية بلى. قال الله للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا. وقال السدي: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله: بلى، لأن كلام الذرية قد انقطع. وقوله: أن تقولوا معناه لئلا تقولوا، كما قال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، ويجوز أن يكون التقدير: شهدنا كراهية أن تقولوا. وقرأ أبو عمرو بالياء، لأن الذي تقدم من الياء على الغيبة، وكلا الوجهين حسن لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى، قال المفسرون: وهذه الآية تذكير بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين لم نحفظه ولم نذكره. ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله بذلك على لسان صاحب المعجزة، وإذا صح ذلك بقول الصادق قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به قائم، ثم قطع عذر الكفار بقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 173] لا يستطيع أحد من الذرية الكافرة أن يقول يوم القيامة: إنما أشرك آباؤنا من قبلنا، ونقضوا العهد، {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173] فاقتدينا بهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] أفتعذبنا بما فعل المشركون المكذبون بالتوحيد؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتوحيد على كل واحد من الذرية، قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأعراف: 174] أي: وكما بينا في أخذ الميثاق نبين الآيات ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى مدلولها ويعملوا بموجبها، وهو بمعنى قوله: ولعلهم يرجعون أي: ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى التوحيد.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {176} سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ {177} مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {178} } [الأعراف: 175-178] قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] أي: اقرأ وقص على قومك خبر الذي علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته، فانسلخ منها أي: خرج منها وفارقها، فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه، {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] قال ابن عباس: أطاع الشيطان فكان من الضالين، نزلت الآية في بلعم بن باعوراء، كان عنده اسم الله الأعظم فقصد موسى بلده الذي هو فيه وغزى أهله وكانوا كفارا، فلم يزل قوم بلعم به حتى دعا عليهم، وكان مجاب الدعوة بذلك الاسم الذي كان عنده فاستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائهم، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ قال: بدعاء بلعم. قال موسى: فكما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان، فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم، وكان يعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه وقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يردهم عنا، قال: إني إن دعوت عليهم ذهب دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه. وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] وفقناه للعمل بها فكنا نرفع به منزلته، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] سكن إلى الدنيا ومال إليها، والأرض في هذه الآية عبارة عن الدنيا، وذلك أن الدنيا هي الأرض، لأن ما فيها من العقار والرياع والضياع كلها أرض وسائر متاعها يستخرج منها، وقوله: واتبع هواه انقاد لما دعاه إليه الهوى، قال ابن زيد: كان هواه مع القوم، وهذه الآية هي أشد الآي على ذوي العلم، وذلك أن الله تعالى أخبر أنه أتاه آياته من اسمه الأعظم، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا

وإتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ منها، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله، ثم ضرب الله له مثلا فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] يقال: لهث الكلب يلهث لَهْثا ولُهاثا. إذا دلع لسانه، قال مجاهد: هذا مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، والمعنى: أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب فإنه إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا، وإن ترك وربض كان لاهثا، وذلك أن بلعم زجر ونهي عن الدعاء على موسى، وخاطبته أتانه التي كان يركبها بذلك، فلم ينزجر ولم ينتفع بالزجر، وهذا التمثيل لم يقع لكل كلب وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أحسن ما يكون وأبشعه. ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 176] وقال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه، فلم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما دعوا بالرسول والكتاب. وقوله: فاقصص القصص قال عطاء: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم، لعلهم يتفكرون: يتعظون. قوله: ساء مثلا يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح، قال ابن عباس: يريد: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. قال الزجاج: وتقدير الكلام: ساء مثلا مثل القوم، ثم حذف المضاف وانتصب مثلا على التمييز، وساء ههنا بمنزلة بئس. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] من يتول الله هدايته فهو المهتدي، ومن يضلل: من أضله الله وخذله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] خسروا الآخرة ونعيمها. {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] الآية: أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها. 373 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَطَّانُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ

السُّلَمِيُّ، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، نا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ فَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ فَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ 374 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُفِيدُ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، نا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السِّيرِينِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «

إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ مُجْملا عَلَيْهِمْ لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا وَخَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ مُجْملا عَلَيْهِمْ لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] قال الكلبي: لا يعقلون بها الخير والهدى. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] سبيل الهدى والرشاد، {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] مواعظ الله والقرآن، والمعنى: أنهم في تركهم الحق وإعراضهم عنه بمنزلة من لا يفقه، ولا يبصر، ولا يسمع، وقوله: أولئك كالأنعام قال مقاتل: يأكلون ويشربون، ولا يلتفتون إلى الآخرة كما تأكل الأنعام وتشرب لا هم لها إلا الأكل كذلك الكافر، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] قال الزجاج: وذلك أن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار، {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] عن أمر الآخرة وما فيها من العذاب. {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {180} وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ {181} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ {182} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {183} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {184} أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ {185} مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {186} } [الأعراف: 180-186] قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] قال المفسرون: هي ما ذكره أبو هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما: 375 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الْحُمَيْرِيُّ، نا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ

قوله: فادعوه بها: دعاؤه بها تعظيمه بذكرها كقولك: يا قدير، يا عليم، يا عزيز، يا كريم، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] معنى الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد، وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. يقال: قد ألحد في الدين ولحد به، وبه قرأ حمزة: يلحدون من لحد، و {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] هم المشركون عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، وزادوا فيها، ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقال الكلبي: ويقال: الذين يلحدون في أسمائه الذين يكذبون، وعلى هذا فكل من سمى الله بما لم يسم به نفسه، ولم ينطق به كتاب ولا ورد به توقيف، فقد كذب في ذلك ومال عن الحق، وقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] أي: جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة جزاء ما كانوا في الدنيا. قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} [الأعراف: 181] الآية: قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الله: أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. وقال قتادة: بلغنا أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 182] قال الكلبي: يعني أهل مكة، كذبوا بمحمد والقرآن، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال ابن عباس: سنمكر بهم. وقال الضحاك: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة. وقال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون، وأملي لهم الإملاء:

الإمهال وإطالة المدة، وهو نقيض الإعجال، يقول: أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي، {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] قال ابن عباس: إن مكري شديد. قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] قال الحسن وقتادة: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ليلا على الصفا يدعو قريشا فخذا فخذا، فيقول: يا بني فلان، يا بني فلان. يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح. فأنزل الله هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة حالة من الجنون، إن هو: ما محمد إلا نذير: منذر مخوف إياكم عذاب الله، {مُبِينٌ} [الأعراف: 184] يبين لكم الهدى وطريق الرشد، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] ليستدلوا على أن لها صانعا مدبرا دبرها على ما أراد، ومضى تفسير ملكوت السموات والأرض في { [الأنعام، وقوله:] وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأعراف: 185] أي: وفيما خلق الله من الأشياء كلها، قال ابن عباس: يريد من جليل وصغير. {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185] أي: وفي أن لعل آجالهم قريبة فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] يعني: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصدقون؟ يعني: أنه لا نبي بعده ولا كتاب بعد كتابه، فإن لم يؤمنوا بكتابه لم يؤمنوا بكتاب بعده لأنه لا وحي بعده، ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان فقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] 376 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الزِّيَادِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ عَائِشَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْجَابِيَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، فَقَالَ نَصْرَانِيٌّ: تركس تركس، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَهْدِي وَلا يُضِلُّ، قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، اللَّهُ خَلَقَكَ وَهُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوْلا قُرْبُ عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ وقوله: ويذرهم رفع بالاستئناف والانقطاع مما قبله، وقرأ أبو عمرو بالياء لتقدم اسم الله تعالى، وقرأ حمزة بالياء والجزم ووجه ذلك فيما يقول سيبويه: أنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: {فَلا هَادِيَ

لَهُ} [الأعراف: 186] لأن موضعها جزم بجواب الشرط والحمل على الموضع كثير. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {187} قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ

السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {188} } [الأعراف: 187-188] قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] قال الحسن، وقتادة: هم قريش قالت لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسر إلينا متى الساعة. قال الزجاج: الساعة ههنا الساعة التي يموت فيها الخلق. أيان مرساها متى يقع إثباتها، ومعنى أيان: الاستفهام عن الوقت الذي لم يجئ، والمرسى ههنا مصدر بمعنى الإرساء وهو الإثبات، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} [الأعراف: 187] أي: العلم بوقتها ووقوعها، {عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا} [الأعراف: 187] لا يظهرها في وقتها إلا هو والتجلية: إظهار الشيء، وقوله {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 187] قال ابن عباس: ثقلت على أهل السموات وأهل الأرض. يريد: كلهم خائفون منها المحسن والمسيء، {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] فجأة على غفلة منكم وذلك أشد لها. 377 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْكَعْبِيُّ، أنا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى رَجُلٍ فِي فِيهِ لُقْمَةٌ فَلا يَلُوكُهَا وَلا يُسِيغُهَا، وَعَلَى رَجُلَيْنِ قَدْ نَشَرَا بَيْنَهُمَا ثَوْبًا فَلا يَتَبَايَعَانِهِ وَلا يَطْوِيَانِهِ» وقوله: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف الجار والمجرور، وحفي من الإحفاء وهو الإلحاح في السؤال، والمعنى: كأنك عالم بها، أكثرت المسألة عنها. وهذا قول مجاهد، والضحاك، وابن زيد، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] أنه عند الله حين سألوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما لم أطلعه عليه، وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الأعراف: 188] الآية: قال الكلبي: حين نزلت قال أهل مكة: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فشتري من الرخيص لتربح عليه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترحل منها؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا} [الأعراف: 188] الآية، أي: اجتلاب نفع بأن أربح، ولا ضرا أي: دفع ضر بأن ارتحل من الأرض قبل أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأعراف: 188] ما يكون قبل أن يكون، {لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188] لادخرت في زمان الخصب لزمان الجدب، {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] وما أصابني الضرر والفقر، إن أنا ما أنا إلا نذير: قال ابن عباس: لمن لا يصدق بما جئت به. {وَبَشِيرٌ} [الأعراف: 188] لمن اتبعني وآمن بي. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {189} فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {190} أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ {191} وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ {192} وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ {193} } [الأعراف: 189-193] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] يعني آدم، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] ليأنس بها ويأوي إليها، فلما تغشاها جامعها، قال الزجاج: كنى أحسن الكناية. والغشيان: إتيان الرجل امرأته، وقد غشيها وتغشاها إذا علاها، وقوله: {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} [الأعراف: 189] يعني النطفة والمني، فمرت به بذلك الحمل الخفيف أي: قامت وقعدت، لم يثقلها، فلما أثقلت: صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها، {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] يعني حواء وآدم: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف: 189] بشرا سويا مثلنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] لك على ذلك. {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] قال المفسرون: لما حملت حواء أتاها إبليس في غير صورته التي عرفته، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك؟ أم ينشق بطنك؟ فخافت

حواء فذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاهما، وقال لها: إن سألت الله أن يجعله خلقا آخر سويا مثلك، ويسهل عليك خروجه حتى تلقيه من بطنك سهلا أتسمينه: عبد الحارث، ولم يزل بها حتى غرها، فلما ولدت ولدا سوى الخلق سمته: عبد الحارث، برضا آدم وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ} [الأعراف: 190] أي: لله شركاء يعني: إبليس، فأوقع الجميع موقع الواحد، أراد: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله. وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض» . قال قتادة: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة. ويعني أنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وقرأ نافع: شِركا بكسر الشين ووجهه: أنه حذف المضاف بتقدير: جعلا له ذا شرك، أي: شريكا، وتم الكلام ثم عاد إلى الخبر عن الكفار، ونزه نفسه عن إشراكهم فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] قال ابن عباس: يريد: أهل مكة. وهذا قول مقاتل، والسدي، ثم أنكر عليهم فقال: أيشركون بالله في العبادة، {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: 191] يعني: الأصنام، وهم يخلقون يريد: وهم مخلوقون. {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف: 192] قال ابن عباس: إن الأصنام لا تنصر من أطاعها، {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 192] قال الحسن: لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بشر أو نحوه، ثم خاطب المؤمنين فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} [الأعراف: 193] وإن تدعوا المشركين إلى الإسلام، لا يتبعوكم، وقرأ نافع بالتخفيف، وهما لغتان: اتبعه وتبعه تبعا. {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} [الأعراف: 193] إلى الدين وعبادة الله، {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] أي: صمتُّم عن ذلك الدعاء، لتركهم الانقياد للحق، وهذا كقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [يس: 10] .

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ {195} إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ {196} وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ {197} وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ {198} } [الأعراف: 194-198] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 194] قال المفسرون: يعني الأصنام، عباد أمثالكم: قال الكلبي: مملوكون. وقال الأخفش: عباد أمثالكم في التسخير. أي: إنهم مسخرون مذللون لأمر الله، {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [الأعراف: 194] قال ابن عباس: فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] إن لكم عندهم منفعة وثوابا، أو شفاعة ونصرة، ثم فضل بني آدم عليهم، وقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] مشي بني آدم، {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} [الأعراف: 195] كما لبني آدم، يبطشون يأخذون بها ومعنى البطش: التناول والأخذ بشدة، عرفهم الله تعالى أنهم مفضلون عليهم بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين البصيرة والآذان السامعة فكيف يعبدون من هم أفضل منه؟ وفي هذا بيان جهالتهم، قل لهم يا محمد: ادعوا شركاءكم الذين تعبدون من دون الله، ثم كيدون أنتم وشركاؤكم فلا تنظرون لا تمهلوني واعجلوا في كيدي، قال الحسن: إنهم كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال: الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [الأعراف: 195] الآية. ثم ذكر أن الله يتولى حفظه ونصرته، فقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196] أي: القرآن، أي: إنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] قال ابن عباس: يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا، أي: إن الله يتولاهم بنصره، فلا يضرهم عداوة من عاداهم. وقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] قال الحسن: يعني المشركين. والمعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا، أي: لا يعقلوا ذلك بقلوبهم فلا يجيبونكم، {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 198] بأعينهم، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] بقلوبهم. والمفسرون على أن الآية في صفة الأصنام وبيان ما هي عليه من النقص، ومعنى: ينظرون إليك: قال ابن الأنباري: يخيل إليك أنهم مبصرون لأن لها أعينا مصنوعة مركبة بالجواهر، وهم غير مبصرين في الحقيقة. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {199} وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {200} إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {201}

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ {202} وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {203} } [الأعراف: 199-203] قوله تعالى: خذ العفو الآية: 378 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ وَكِيعٍ العفو: ما أُتي بغير كلفة، ذكرنا ذلك عند قوله: {مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] ، قال مجاهد، والحسن: أمر أن يأخذ عفو أخلاق الناس. والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فيتولد منه البغضاء، وأمر بالعرف العرف، والعارفة، والمعروف: ما يعرف كل أحد صوابه، وتستحسنه النفوس، قال مقاتل، وعروة، والضحاك: وأمر بالمعروف، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] صن نفسك عن مقابلتهم، على سفههم، قال قتادة: في هذه الآية أخلاق أمر الله بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودله عليها: «وهذه الآية أجمع لمكارم الأخلاق» . 379 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ،

أنا أَبُو الْيَمَانِ، نا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قال ابن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كيف يا رب والغضب؟» فنزل قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200] نزغ الشيطان: وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي. قال ابن عباس: يريد: يعرض لك من الشيطان عارض. وقال الزجاج: إن نالك من الشيطان أدنى وسوسة. فاستعذ بالله: اطلب النجاة من تلك الوسوسة بالله، أي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه سميع: لدعائك، {عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] بما عرض لك. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الأعراف: 201] قال ابن عباس: يريد المؤمنين الذين اتقوا الكفر والشرك والفواحش. {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] ، وقرئ: طيف، قال الليث: طائف الشيطان، وطيف الشيطان: ما يغشى الإنسان من وساوسه. وقال الفراء: الطائف والطيف سواء وهو ما كان كالخيال، والشيء يلم بك. وقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيء، وهو هنا ما يطوف به من وسوسة الشيطان، والطيف اللمة والوسوسة. قال ابن عباس: إذا مسهم عارض من وسوسة الشيطان. وقال مجاهد، وسعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يغضب الغضبة، فيذكر الله فيكظم الغيظ. وروى ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه، وهو قوله: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] أي: يبصرون مواقع خطئهم بالتذكر والتفكر، قال السدي: إذا زلوا زلة

تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية، فأبصرها فنزع من مخالفة الله. وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ} [الأعراف: 202] يعني: إخوان المشركين من الشياطين، قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين. {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} [الأعراف: 202] يطولون لهم الإغواء حتى يستمروا عليه، كقوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] ، ومن قرأ: بضم الياء من الإمداد فقد استعمل ما هو للخير في ضده، وذلك أن الإمداد إنما جاء فيما يحمد، كقوله: وأمددناهم بفاكهة، {نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] أتمدونني بمال. وقوله: {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] الإقصار: الكف عن الشيء، يقال: أقصر عن الشيء. إذا كف عنه وانتهى، قال الضحاك، ومقاتل: يعني المشركين، لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها بخلاف ما قال في المؤمنين: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، وروي عن ابن عباس أنه قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم، وعلى هذا قوله: {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] من فعل المشركين والشياطين جميعا. قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 203] قال الفراء: العرب تقول: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته. إذا افتعلته من قبل نفسك. قال الكلبي: إن أهل مكة كانوا يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا اجتبيتها أي: هلا أحدثتها وأنشأتها. وقال قتادة: هلا افتعلتها من قبل نفسك؟ وقال ابن زيد: لولا تقولتها وجئت بها من قبل نفسك؟ فأعلمهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الآيات من قبل الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203] أي: ليس الأمر إلي إنما أتّبع الوحي من الله تعالى. قوله: هذا أي: هذا القرآن الذي أتيت به، {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 203] دلائل تقود إلى الحق، وقال المفسرون: حجج وبرهان من ربكم.

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {204} وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ {205} إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ {206} } [الأعراف: 204-206] قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ} [الأعراف: 204] الآية نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر بالاستماع إلى قراءة القرآن والسكوت للاستماع، وهو قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام. 380 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أنا الأَوْزَاعِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: نَزَلَتْ فِي رَفْعِ الأَصْوَاتِ وَهُوَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ ولا تدل الآية على ترك القراءة خلف الإمام لأن هذا الإنصات المأمور به إنما هو نهي عن الكلام في الصلاة أو عن الجهر كما ذكرنا، وعلى هذا فحكم الظاهر ممتثل عند الشافعي لأن السنة عنده أن يسكت الإمام بعد فراغه من الفاتحة فيقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام على أن قراءة الفاتحة مخصوصة بالسنة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإن لا صلاة إلا بها» . وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205] قال ابن عباس: يعني: بالذكر القراءة في الصلاة. تضرعا وخيفة قال ابن زيد:

يريد يتضرع إلي ويخاف مني. أمر في صلاة الإسرار أن يقرأ في نفسه، وفيما يرفع فيه الصوت بالقراءة أمر أن يقرأ دون الجهر، وهو قوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] ، والمسنون دون الجهر لقوله في آية أخرى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] الآية. وقوله: بالغدو والآصال الغدو جمع غدوة، والآصال واحدها أصل، وواحد الأصل أصيل، قال الزجاج: الآصال العشيات جمع الجمع. قال ابن عباس: يريد بكرة وعشيا، يعني الصلوات. قال قتادة: أمر الله بذكره، ونهى عن الغفلة. وهو قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] . قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] يعني: الملائكة، قال الزجاج: يعني أنهم بالقرب من رحمة الله تعالى ومن فضله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] أي: لا يتعظمون عن عبادته، {وَيُسَبِّحُونَهُ} [الأعراف: 206] يذكرونه بالتسبيح، كأنه قيل: من هو أكبر منك شأنا أيها الإنسان لا يستكبرون عن عبادة الله وتسبيحه والصلاة له، وهو قوله: وله يسجدون. 381 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهْ أُمِرَ هَذَا بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِي النَّارُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ 382 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، نا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: " سَلْنِي، فَقُلْتُ: مُرَافَقَتُكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعْنِي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنْ هِقْلٍ

383 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَائِينِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِي، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنِي كَثِيرٌ الأَعْرَجُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا فَاطِمَةَ، يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرْ مِنَ السُّجُودِ فَإِنَّهُ لا يَسْجُدُ عَبْدٌ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِه خَطِيئَةً»

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية وآياتها خمس وسبعون 384 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْفَالِ وَبَرَاءَةً فَأَنَا لَهُ شَفِيعٌ وَشَاهِدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَيُرْفَعُ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ الْعَرْشُ وَحَمَلَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا» بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {1} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {3} أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {4} } [الأنفال: 1-4] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية: النفل: الغنيمة وجمعه أنفال، قال المفسرون: اختلف أهل بدر في الغنائم، فقال الشبان: لنا الغنائم لأنا أبلينا. وقالت الأشياخ: كنا ردءا لكم، ولو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا بها دوننا. فأنزل الله هذه الآية، ومعنى يسألونك عن الأنفال أي: عن حكمها وعلمها سؤال استفتاء، قال الزجاج: إنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم. وقال صاحب النظم: معناه: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ يدل على هذا قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] يحكمان فيها على ما أرادا ويضعانها حيث شاءا، فلما نزلت هذه الآية قسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بين أهل بدر على السواء. وقوله: فاتقوا الله أي: بطاعته واجتناب معاصيه، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] أي: المنازعة الواقعة بينكم في الأنفال، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] قال الزجاج: اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] يعني: أن الإيمان يوجب القبول من الله ورسوله، وهذه الآية منسوخة بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية، وكانت الغنائم يومئذ خاصة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنسخها الله بالخمس. قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] تأويله: إذا ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم، يقال: وجل يوجل فهو وجل. إذا خاف، يقول: إنما المؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه، وانقاد لأمره خوفا من عقابه، وفيه إشارة إلى إلزام أصحاب بدر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى من قسمة الغنائم. وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] قال ابن عباس: تصديقا ويقينا. والمعنى: أنهم يصدقون بالأولى والثانية والثالثة، وكل ما يأتي من عند الله فيزيد تصديقهم، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] قال ابن عباس: يتقون لا يرجون غيره. ثم زاد في وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال: 3] الآية، ثم حقق لهم الإيمان فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] قال ابن عباس: برئوا من الكفر. وقال مقاتل: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين. {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4] قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. ورزق كريم يعني: ما أعد الله لهم في الجنة. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ {5} يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ {6} وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ {7} لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ {8} } [الأنفال: 5-8] قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الأنفال: 5] أي: أمرك بالخروج ودعاك إليه، من بيتك يعني المدينة، {بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] أي: بالوحي ذلك أن جبريل أتاه وأمره بالخروج، قال المفسرون: إن الله تعالى أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخروج من المدينة

لطلب عير قريش، وكره ذلك طائفة من المؤمنين لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالعير عفوا دون قتال، فذلك قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] يعني: كراهة الطبع التي تلحق في السفر والقتال، ومعنى الكاف في كما قال الفراء، والزجاج: أي: امض لأمر الله في الغنائم كما مضيت لأمره في الخروج وهم له كارهون. قال الزجاج: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] ويكون التأويل نفل من شئت وإن كرهوا، كما أخرجك ربك من بيتك وإن كرهوا. قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: 6] قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه خرجوا لطلب عير قريش، فمنعت قريش عيرها بالنفير فالتقوا وأمروا بالقتال، ولم يكونوا أعدوا له أهبة فشق ذلك عليهم، وقالوا: هلا أخبرتنا فكنا نعد له. وجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال، إذ كانوا رجالة ولم يكن فيهم إلا فارسان فخافوا، فذلك قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] أي: لشدة كراهتهم للقتال كأنهم يساقون إلى الموت عيانا. قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] يعني: العير والنفير، وقال قتادة: الطائفتان إحداهما: أبو سفيان أقبل بالعير من الشام، والطائفة الأخرى: أبو جهل معه نفير قريش، وقوله: أنها لكم يدل على إحدى، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] أي: تودون أن الطائفة التي ليس فيها حرب ولا سلاح وهي العير تكون لكم، والمراد بالشوكة: السلاح، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال: 7] يظهره ويعليه، {بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال: 7] بعِدَاتِهِ التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد، يعني كفار العرب. ليحق الحق أي: يقطع دابرهم ليحق الحق بإظهاره وإعلائه أمره، ويبطل الباطل بإهلاكه وافنائه على كره من المشركين، وهو قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8] . {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {10} إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ {11} إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ {12} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {13} ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ {14} } [الأنفال: 9-14] قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] أي: تطلبون منه المعونة والغوث، قال المفسرون: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه بالنصر عليهم.

385 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّيْنَبِيُّ، نا بُنْدَارٌ، نا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الآيَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] متتابعين بعضهم في إثر بعض، وقال أبو حاتم: ومعناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم. يقال: ردفه وأردفه. إذا جاء بعده، ومن قرأ بفتح الدال

فمعناه بألف أردف الله المسلمين بهم. قال مجاهد: الإرداف إمداد المسلمين بهم. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} [الأنفال: 10] الآية مفسرة في { [آل عمران. وقوله:] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [سورة الأنفال: 11] ذكرنا تفسيره عند قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] الآية، والمعنى: أن الله أمنهم أمنا حتى غشيهم النعاس ومن قرأ: يُغْشيكم أو يُغَشيكم، أسند الفعل في هذا إلى الله، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] قال الوالبي، عن ابن عباس: إن المسلمين لما بايتوا المشركين ببدر أصابت منهم جماعة جنابات، وكان المشركون سبقوهم إلى الماء وغلبوهم عليه، فساءهم عدم الماء عند حاجتهم إليه، فأنزل الله تعالى مطرا سال منه الوادي حتى اغتسلوا وتطهروا. وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] يعني: وسوسته التي تكسب عذاب الله، وذلك أن الشيطان وسوس إليهم، وقال لهم: كيف ترجون الظفر وقد غلبوكم على الماء. وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم نبيه؟ وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] الربط معناه: الشد، يقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه. وعلى صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل الله من الماء فتثبت ولا تضطرب بوسوسة الشيطان، وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11] وذلك أن المسلمين كانوا قد نزلوا على كثيب تغوص فيه أرجلهم فلبده المطر حتى تثبت عليه الأقدام. {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ} [الأنفال: 12] يعني: الذين أمد بهم المسلمين، أني معكم بالعون والنصرة، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] قال مقاتل: يعني: بشروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم، وقال الزجاج: جائز

أن يكونوا يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها. وقال الحسن: «فثبتوا الذين آمنوا بقتالكم المشركين» . وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق، قال عطاء: يريد كل هامة وجمجمة. وجائز أن يكون هذا أمر للمؤمنين، وجائز أن يكون أمرا للملائكة وهو الظاهر، قال ابن الأنباري: إن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس، فعلمهم الله تعالى أن يضربوا الرءوس , وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] قال ابن عباس، وابن جريج، والسدي: يعني الأطراف من اليدين والرجلين. وقال الفراء: يعني الأيدي والأرجل. قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع فاكتفى الله به من جملة اليد والرجل. ذلك بأنهم أي: ذلك الضرب بأنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] قال ابن عباس: حاربوا الله ورسوله. والمعنى: خالفوا أمر الله ورسوله، ثم أوعد المخالف لهما بباقي الآية، ذلكم أي ذلك الضرب، {فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] وعيد للكفار بعذاب النار بعد ما نزل بهم من ضرب الأعناق وكل بنان. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16} فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {17} ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ {18} } [الأنفال: 15-18] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] أي متدانين لقتالكم، قال الليث: الزحف: جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة فهو الزحف وجمعه الزحوف. قال الزجاج: إذا واقفتموهم للقتال فلا تنهزموا. وهو قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] أي: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} [الأنفال: 16] يعني: يوم لقاء الكفار، {دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16] أي: منعطفا كأنه يطلب عودة يمكنه إصابتها، ينحرف عن وجهه ويرى أنه منهزم، ثم يكر، أو متحيزا أي: متنحيا منضما إلى فئة جماعة من المسلمين يريدون العودة إلى القتال، ومعنى الآية: النهي عن الانهزام بين يدي الكفار إلا أن يكون متحرفا لقتال أو

منضما إلى جماعة يعودون للقتال، فإذا انهزم ونوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال لم يلحقه هذا الوعيد، وهو قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص فيمن انهزم يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. وهذا قول أبي سعيد الخدري، وابن عباس في رواية الكلبي، والحسن، وقتادة، والضحاك. 386 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُونُسَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ فَتَخَبَّأْنَا بِهَا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، قَالَ: «بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ» . رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ

وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ إِذَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ وقوله: ومأواه جهنم لا يدل على التخليد، ومعناه: أن مرجعه إليها إلى وقت الرحمة والشفاعة، قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] قال الكلبي: بالملائكة: جبريل ومن معه. وقال أهل المعاني: لأن الله تعالى تولى نصرهم بأن شجع قلوبهم، وألقى الرعب في قلوب المشركين. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال المفسرون: إن جبريل قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرش فأخذ قبضة من حصبة الوادي، فرمى بها وجه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل عينه منها شيء وشغل بعينه فكان ذلك سبب هزيمتهم. قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن كفا من حصباء لا يملأ عيون ذلك الجيش الكبير برمية بشر، وأنه تعالى تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم فقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] . {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17] ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والمثوبة، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الأنفال: 17] لدعائكم، عليم بنياتكم. قوله: ذلكم أي: الأمر ذلكم الذي ذكرت، {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] بإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم، قال ابن عباس: يقول: إني قد أوهنت كيد عدوكم حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم. {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] قال ابن عباس: إن أبا جهل قال يوم بدر قبل القتال: اللهم انصر أفضل الفريقين وأكرم الدينين، وأرضاهما عندك فنزلت هذه الآية. قال عبد الله بن ثعلبة: كان المستفتح أبا جهل، وإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف، فافتح عليه الغداة، فأنزل الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] إن تستنصروا لأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، والضحاك.

وقوله: وإن تنتهوا أي: عن الشرك بالله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا} [الأنفال: 19] لقتال محمد، نعد عليكم بالقتل والهزيمة، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} [الأنفال: 19] جماعتكم {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} [الأنفال: 19] في العدد، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] بالعون والنصر، فمن كسر إن فهو منقطع عما قبله، ومن فتح كان وجهه: ولأن الله مع المؤمنين أي لذلك لن تغني عنكم فئتكم شيئا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ {20} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {21} إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ {22} وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ {23} } [الأنفال: 20-23] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] ولا تعرضوا عنه، وأنتم تسمعون موعظتي وما أعددت لأوليائي وأعدائي من الثواب والعقاب، وقال ابن عباس: لا تولوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم تسمعون ما نزل من القرآن. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] قال ابن عباس: يعني اليهود قريظة، والنضير. قال الزجاج: معنى قوله: {سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] أنهم سمعوا سماع عداوة وبغضاء، فلم يتفقهوا ولم يتفكروا فيما سمعوا، فكانوا بمنزلة من لم يسمع. وقال مقاتل: يعني المنافقين الذين يقولون سمعنا سماع قابل وليسوا كذلك. قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل: يريد نفرا من بني عبد الدار كانوا صما عن الحق فلا يسمعونه بكما عن التكلم به. فكل ما دب على الأرض فهو من جملة الدواب، بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار شر ما دب على وجه الأرض من الحيوان، وقوله: {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] أي: الذين لا يقبلون القرآن ولا يعقلون الموعظة. قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] لو علم أنهم يصلحون بما يورده عليهم من حججه وآياته

لأسمعهم إياها سماع تفهم وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، و {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {25} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {26} } [الأنفال: 24-26] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] أجيبوهما بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم قال السدي: هو الإيمان وهو حياة القلب، والكفر موته. وقال قتادة: يعني القرآن، وفيه الحياة والنجاة والعصمة، والقرآن سبب الحياة بالعلم. والأكثرون على أن معنى قوله: لما يحييكم الجهاد، قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بالجهاد لأن أمرهم إنما يقوى به. وقال الزجاج: أي: لما يكون سببا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة وهو الجهاد. وقال ابن قتيبة: يعني: الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم وسبب الشهادة الجهاد. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. وهذا قول ابن عباس، وسعد بن جبير، وعطاء، وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه. وقوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] أي: للجزاء على الأعمال. قوله: واتقوا فتنة قال الزبير بن العوام: نزلت هذه الآية ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وما أرانا من أهلها، وإذا نحن المعنيون بها. يعني: ما كان يوم الجمل، قال السدي، ومقاتل، والضحاك، والحسن، وقتادة: هذا في قوم مخصوصين من أصحاب

محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابتهم الفتنة يوم الجمل، أمر الله تعالى باتقاء الفتنة التي تتعدى المظالم، فتصيب الصالح والطالح جميعا، ولا تقتصر على الذين ظلموا دون غيرهم. قال الكلبي: تصيب الظالم والمظلوم، ولا تكون للظلمة وحدهم خاصة دون غيرهم ولكنها عامة. وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضا. قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] قال المفسرون: يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه حين كانوا بمكة في ابتداء الإسلام قبل الهجرة مستضعفين، في الأرض قال ابن عباس: في أرض مكة، تخافون إن خرجتم منها {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26] يستلبكم المشركون من العرب، فآواكم يعني: جعل لكم مأوى ترجعون إليه، يعني: المدينة دار الهجرة، وأيدكم بنصره وقواكم بالأنصار، وقال الكلبي: يعني يوم بدر قواكم بالملائكة، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال: 26] أحل لكم الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم، والمعنى: قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحالة المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة وتشكروا عليه، وهو قوله: لعلكم تشكرون {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {27} وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {28} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {29} } [الأنفال: 27-29] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قريظة لما حاصرهم وكان أهله وولده فيهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي: إنه الذبح فلا تفعلوا، فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله، قال أبو لبابة: ما زالت قدماي من مكاني حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله. وقوله: وتخونوا أماناتكم عطف على النهي، المعنى: ولا تخونوا أماناتكم، قال ابن عباس في رواية الوالبي: الأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. يقول: لا تنقصوها. يقول الكلبي: أما خيانة الله ورسوله فمعصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه، إن شاء خانها وإن شاء أداها، لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى. وقوله: وأنتم

تعلمون أي: تعلمون أنها أمانة من غير شبهة، وقال صاحب النظم: وأنتم تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الخلق خيانة لله ورسوله. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] أي: محنة يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه، وكان لأبي لبابة مال وولد وأهل في قريظة، لذلك مال إليهم في إطلاعهم على أن حكم سعد فيهم القتل، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] قال ابن عباس: يريد: لمن نصح لله ولرسوله وأدى أمانته، وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] إن تتقوه باجتناب المعاصي {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم بنصره إياكم عليهم. وهذا قول مقاتل، وقال عكرمة، والسدي: فرقانا نجاة، يعني: أن الله يفرق بينكم وبين من تخافون، فتنجون. والفرقان مصدر لفرق، {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] أي: أنه يملك الفضل العظيم فاكتفوا بالطلب من عنده دون غيره. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة في المكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون. وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه. وقال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل، فيضربون بأسيافهم ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وأمره بالخروج إلى المدينة، فخرج إلى الغار، فذلك قوله: ليثبتوك أي: ليوثقوك ويشدوك وكل من شُدَّ فقد أُثبت لأنه لا يقدر على الحركة في الذهاب والمجيء، وقال السدي: ليحبسوك في بيت. أو يقتلوك كما قال اللعين أبو جهل، أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] قال الزجاج: ومكر الله بهم إنما هو مجازاة ونصر للمؤمنين. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] : لأنه أهلك هؤلاء الذين دبروا لنبيه الكيد، وخلصه منهم، وذكرنا معنى هذا عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] الآية.

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأنفال: 31] الآية: قال المفسرون: كان النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم، فلما قص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، إن هذا إلا ما سطر الأولون في كتبهم. فذمهم الله تعالى بدفعهم الحق كذبا وافتراء، وإدعائهم الباطل بعد ما أبان التحدي إفكهم، وأنهم عجزوا عن إتيان { [مثله، وذكرنا معنى الأساطير في سورة الأنعام. ] وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {32} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {33} وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {34} وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {35} } [سورة الأنفال: 32-35] وقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية: قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقا من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] كما أمطرتها على قوم لوط، {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] أي: ببعض ما عذبت به الأمم. وإنما قالوا هذا لشبهة تمكنت من نفوسهم، ولو عرفوا بطلان ما هم عليه ما قالوا مثل هذا القول مع علمهم بأن الله قادر على ذلك، فطلبوا إمطار الحجارة من السماء إعلاما أنهم في غاية الثقة في أن أمر محمد ليس بحق، وإذا لم يكن حقا لم يصبهم هذا البلاء الذي طلبوه من عند أنفسهم، لأنهم شرطوا كونه حقا. أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا الحسن بن

محمد بن إسحاق، نا محمد بن زكريا الغلابي، نا العباس بن بكار، نا عامر بن عبد الله، عن أبي الزناد، قال: قال معاوية لرجل من أهل اليمن: أجهل قومك حيث قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] ، وحيث ملكوا أمرهم امرأة؟ ! فقال: أجهل من قومي قومك، حيث قالوا حين دعاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ

السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] ، ألا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له؟ ! وجميع المفسرين على أن هذا من قول النضر بن الحارث، وروي في الصحيحين أن هذا من قول أبي جهل لعنه الله. 387 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاكِمِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، نا أَبِي، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ قال المفسرون: ما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم المؤمنون يستغفرون، قال ابن عباس: وهم يستغفرون يعني المؤمنين. قال ابن الأنباري: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33] والمؤمنون بين أظهرهم يستغفرون، فأوقع العموم على الخصوص ووصفوا بصفة بعضهم. وقال ابن عباس في رواية الوالبي، وعطاء: وهم يستغفرون أي: وفيهم من قد سبق لهم من الله الدخول في الإيمان. يريد: أن كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا، منهم: أبو سفيان بن حرب أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وهذا القول اختيار الزجاج قال: وما كان الله معذبهم وفيهم من يئول أمره

إلى الإسلام، والمراد بالتعذيب في هذه الآية تعذيب الاستئصال، ثم ذكر المشركين خاصة وأنه معذبهم بالسيف غير عذاب الاستئصال، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] أي: لم لا يعذبهم الله بالسيف، {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 34] يعني: المؤمنين يمنعونهم أن يطوفوا بالبيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال: 34] قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام. فرد الله عليهم وقال: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ليس أولياء المسجد إلا المتقين الكفرَ والشركَ والفواحشَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34] ذلك. قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مكوا ومكاء. إذا جمع يديه ثم صفر فيهما، والتصدية: التصفيق وهو ضرب اليد على اليد، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون. فقال الزجاج: أعلم الله أنهم كانوا مع صدهم أولياء المسجد الحرام وكان تقربهم إلى الله بالصفير والتصفيق. قال ابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك أعظم الأوزار. وقوله: فذوقوا العذاب يعني: عذاب السيف يوم بدر، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] تجحدون توحيد الله. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {37} } [الأنفال: 36-37] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] الآية، قال مقاتل، والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل بن هشام، وأخوه الحارث بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وعتبة،

وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه، ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والعباس بن عبد المطلب. قوله: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] أي: ليمنعوا الناس عن الإيمان بتوهين الدين والطعن في الإسلام، ثم أخبر بباقي الآية أن عاقبة إنفاقهم الحسرة، وكونهم مغلوبين، والحشر إلى النار، وهو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 36-37] أي: إنما يحشرون إليها ليميز بين الكافر والمؤمن بأن يجعل الكفار في جهنم، وهو قوله: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37] يعني: في جهنم يضيقها عليهم، فيركمه جميعا الركم جمعك شيئا فوق شيء حتى يصير مركوما ركاما كالرمل والسحاب، أي: يجمع الخبيث حتى يصير كالسحاب المركوم، وهو أن بعضهم يكون فوق بعض في النار مجتمعين فيها، وهو قوله: {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ {38} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {39} وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {40} } [الأنفال: 38-40] قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 38] يعني: أبا سفيان وأصحابه: إن ينتهوا عن تكذيب محمد وقتاله والشرك بالله، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] تقدم منهم من الزنا والربا والشرك والقتل، وإذا أسلم الكافر الحربي كان كيوم ولدته أمه لا ذنب له، قال يحيى بن معاذ في هذه الآية: إن توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. وإن يعودوا لقتالك، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] بنصر الله رسله ومن آمن على من كفر. وقاتلوهم يقول: قاتلوا كفار مكة، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] شرك بالله وكفر، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] ويكون الدين خالصا لله وليس فيه شرك بالله تعالى، يعني في جزيرة العرب لا يعبد غير الله، فإن انتهوا عن الشرك والقتال، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] عالم بأعمالهم يجازيهم مجازاة البصير. وإن تولوا عن الإيمان وأبوا أن يدعوا الشرك، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال: 40] ناصركم، وهذا تطييب لنفوس المؤمنين عند إعراض الكافرين بأن العاقبة لهم لأن الله ناصرهم ومعينهم، وهو قوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] {

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {41} إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {42} إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {43} وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {44} } [الأنفال: 41-44] قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] أي: أخذتموه من أموال المشركين قسرا، {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] هذا افتتاح كلام لأن الأشياء كلها لله، وقوله: وللرسول كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس الخمس من الغنيمة يصنع فيها ما شاء، وأما اليوم فإنه يصرف إلى مصالح المسلمين والأهم السلاح والكراع، وقوله: ولذي القربى هم: بنو هاشم وبنو المطلب خاصة دون سائر قريش، يقسم بينهم خمس الخمس حيث كانوا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وهم الذين حرمت عليهم الصدقة المفروضة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى أغناكم عن أوساخ الناس بهذا الخمس» . 388 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مُطَرِّفُ بْنُ

مَازِنٍ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَتَيْنَاهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ فِيهِمْ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا قُرُبَاتُهُمْ وَقُرُبَاتُنَا وَاحِدَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» قوله: واليتامى هم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم، والمساكين قال ابن عباس: يريد: المحتاجين وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل المنقطع في سفره فلا يُترك صنف من هذه الأصناف بغير حظ في قسمة الخمس، ويجوز تفضيل بعضهم على بعض بمقدار الحاجة، هذا الذي ذكرناه كيفية قسمة الخمس من الغنيمة وهي المذكورة في القرآن، والباقي في أربعة أخماس، وهي للغانمين الذين باشروا القتال: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم عند الشافعي، وعند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم. 389 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا

خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ، عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْمَالِ؟ قَالَ: " لِلَّهِ خُمُسُهُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِهَؤُلاءِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: فَهَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لا وَلَوِ انْتَزَعْتَ سَهْمًا مِنْ جَنْبِكَ لَمْ تَكُنْ بِهِ أَحَقَّ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ " وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] قال الزجاج: المعنى: اعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر أن فيه ما يريد، {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] ، أي: فاقبلوا ما أمرتم في الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله يعني قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] ، لأن هذا نزل عليه يوم بدر حين اختلفوا في الغنائم، وإذا آمنوا بهذا صدروا في أمر الغنيمة عن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا صدروا عن أمره عملوا فيها بموجب هذه الآية. وقوله: يوم الفرقان قال الوالبي عن ابن عباس: يعني: يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل، وهو: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] حزب الله وحزب الشيطان. أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، نا أحمد بن الحسين الجنيد، نا زياد بن أيوب، نا هشيم، نا إسماعيل بن سالم، سمعت الشعبي، يقول: ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان. وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] قال ابن عباس: قدير على نصركم وأنتم أقلة أذلة. وقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال: 42] قال ابن السكيت: عدوة الوادي، وعدوته جانبه، والجمع عدى وعدى، والدنيا تأنيث الأدنى، وضدها

القصوى وهي تأنيث الأقصى، وما كان من النعوت على فعلي من بنات الواو فإن العرب تحوله إلى الياء، نحو الدنيا من دنوت، والعليا من علوت لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى فأظهروا الواو، وهو نادر وغيرهم يقولون القصيا، قال المفسرون: إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأدنى في المدينة، وعدوكم نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة، وكان الجمعان قد نزلا الوادي الذي ببدر على هذه الصفة. والركب جمع راكب يعني: العير، أبا سفيان وأصحابه، أسفل منكم في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر، ولو تواعدتم للقتال، {لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] لكثرتهم وقلتكم، ولكن جمعكم الله من غير ميعاد، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} [الأنفال: 42] أي: في علمه وحكمه، وهو أنه أراد أن يعز الإسلام وأهله ويذل الشرك وأهله. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] أكثر أهل العلم على أن المراد بالهلاك ههنا الكفر والضلال، وبالحياة الاهتداء والدين، والمعنى: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه فقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، وهو قوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} [الأنفال: 42] لدعائكم، {عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] بنياتكم. قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا} [الأنفال: 43] أي: في عينك التي هي موضع النوم، قال ابن عباس: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا} [الأنفال: 43] أي: لتحتكرهم وتجترئ عليهم، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] لجبنتم وتأخرتم عن حربهم، {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [الأنفال: 43] اختلفتم فيما بينكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] سلمكم من المخالفة والفشل، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43] قال ابن عباس: علم ما في صدوركم من الحب لله. {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا} [الأنفال: 44] قال مقاتل: لما التقوا قلل الله المشركين في أعين المسلمين. قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا ببدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، وأسرنا رجلا، فقلنا: كم أنتم؟ قال: ألف. وقوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] قال ابن عباس: ليجترئوا عليكم بالقتال ولا تنهزموا. وقال الكلبي: استقل المؤمنون المشركين ليجترئ يعضهم على بعض. {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} [الأنفال: 44] من نصر المسلمين على المشركين، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44] قال ابن عباس: وبعد هذا مصيركم إلي، فأكرم أوليائي وأعاقب أعدائي. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {45} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47} وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48} إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {49} } [الأنفال: 45-49] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] قال الكلبي: إذا لقيتم جماعة العدو فاثبتوا لعدوكم. واذكروا الله قال قتادة: أمر الله بذكره، وهم أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيف. وقال غيره: أراد بالذكر ههنا الدعاء بالنصر والظفر. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46] فيما يأمركم به، ولا تنازعوا لا تختلفوا فيما بينكم، فتفشلوا فتجبنوا عن عدوكم، وتذهب ريحكم جلدكم وجدكم، وقال مجاهد: نصرتكم. وقال السدي: جرأتكم، وقال الأخفش: دولتكم. والريح ههنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، والعرب تقول: هبت ريح فلان. إذا أقبل أمره على ما يريد، وركدت ريحه. إذا أدبر أمره، وقال ابن زيد، وقتادة: يعني: ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا ريح يبعثها الله يضرب بها وجوه العدو، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» . قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال: 47] الآية: قال جماعة المفسرين: يعني: قريشا خرجوا من مكة ليحموا غيرهم، فخرجوا معهم القيان والمعازف يشربون الخمور وتعزف عليهم القيان، فذلك قوله: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] قال الزجاج: البطر: الطغيان في النعمة وترك شكرها، والرياء: إظهار الجميل ليرى مع إبطان القبيح، يقال: راءى يرائي رياء ومراءاة، قال قتادة: هؤلاء

أهل مكة خرجوا ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادك ورسولك» . فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصرة الدين، وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] أي: بمعاداة المسلمين، وتكذيب الداعي إليها، قال ابن عباس: يضلون عن دين الله. {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47] أي: أنه عالم بما يعملون فهو يجازيهم. قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] قال الكلبي: يعني مسيرهم إلى بدر، {وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48] وذلك أنهم لما أجمعوا السير خافوا بني كنانة لأنهم كانوا يطلبونهم بدم، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني، وقال: أنا جار لكم على بني كنانة، وذلك قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] أي: حافظ لكم منهم فلا يصل إليكم من جهتهم مكروه، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال: 48] التقى الجمعان من المسلمين والمشركين، وصارتا بحيث رأى أحدهما الآخر، رأى إبليس جبريل ينزل ومعه الملائكة، فولى مدبرا، وهو قوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] يقال: نكص ينكص نكوصا. إذا تأخر عن الشيء وجبن، قال ابن عباس: رجع موليا. وقال ابن قتيبة: رجع القهقرى. وقال الكلبي: كان إبليس لعنه الله في صف المشركين على صورة سراقة آخذا بيد الحارث بن هشام، فرأى الملائكة حين نزلت من السماء فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة أفرارا من غير قتال؟ فقال له: يا حارث، {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] ، ودفع في صدر الحارث، وانطلق وانهزم الناس. قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] ، وكذب في قوله: {إِنِّي

أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] ، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له، فأوردهم وأسلمهم، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه. وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك. قوله {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأنفال: 49] قال ابن عباس: من الأوس والخزرج وأهل المدينة. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] قوم من قريش كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا، فخرجوا مع من خرج من مكة لقتال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، فلما رأوا قلة عدد المسلمين، قالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] إذ خرجوا مع قلة عددهم لحرب قريش مع كثرتهم، ولا يشكون في أن قريشا تغلبهم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به وبقضائه فإن الله قوي عزيز، يفعل بأعدائه ما شاء، حكيم في خلقه. {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {51} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {52} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {53} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ {54} } [الأنفال: 50-54] قوله: ولو ترى يا محمد، {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50] يعني الذين قتلوا ببدر، يضربون وجوههم إذا أقبلوا على المسلمين، وأدبارهم إذا ولوا، وذوقوا ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق: قال ابن عباس: يقولون لهم ذلك بعد الموت. وقال الحسن: كان مع الملائكة مقامع كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ} [الأنفال: 50-51] أي: ذلك العذاب الذي وقع بكم، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51] بما كسبتم وجنيتم من قبائح أعمالكم، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51] لا يظلم عباده بعقوبتهم على كفرهم، وإن كان كفرهم مخلوقا له، لأن له أن يتصرف في مملوكه كما شاء فيستحيل نسبة الظلم إليه. قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 52] قال الزجاج: معناه: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم. قال ابن عباس: هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصدق والدين فكذبوه، وجحدوا نبوته، فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون. وذلك قوله: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} [الأنفال: 52] قادر لا يغلبه شيء، شديد العقاب لمن كفر به وكذب رسله، قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} [الأنفال: 53] أي: ذلك الأخذ والعقاب لأن الله لا يغير ما أنعم به على قوم لو لم يغيروا هم بالكفران وترك الشكر، فإذا غيروا هم غيّر اللهُ ما بهم فسلبهم النعمة وأخذهم بالعقاب، قال السدي:

والنعمة التي أنعم الله عليهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنعم الله به على قريش فكفروا به وكذبوه، فنقله إلى الأنصار كدأب أي: كصنيع آل فرعون كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، يعني: أهل مكة كذبوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، كما كذبوا هم بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة، فأهلكناهم بذنوبهم يعني أهل مكة، أهلكهم الله ببدر، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 54] ذكر عقوبة الفريقين لما شبه فعل أحدهما بفعل الآخر، وكل من الفريقين، كانوا ظالمين، ثم ذكر اليهود. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {55} الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ {56} فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {57} وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ {58} وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ {59} وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ {60} وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61} وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {63} } [الأنفال: 55-63] فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنفال: 55] أراد بالدواب الإنس خاصة، كأنه قال: إن شر الناس عند الله الذين كفروا قال مقاتل: يعني يهود قريظة منهم: كعب بن الأشرف وأصحابه، وهم الذين قال الله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 56] أي: من اليهود، {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56] أي: كلما عاهدتهم نقضوا العهد ولم يفوا به، {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] نقض العهد. {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] قال الليث: يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا. أي أخذناه. قال الزجاج: ومعناه الإدراك بسرعة. قال الكلبي: أي: أسرتهم في الحرب. وقال مقاتل: إن أدركتهم في القتال وأسرتهم. {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] التشريد: التنفير والتفريق، والمعنى: فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يفرق عنك من خلفهم من أهل مكة، وأهل اليمن، قال ابن عباس: نكل بهم تنكيلا، يشرد غيرهم من ناقضي العهد. لعلهم يذكرون النكال فلا ينقضون العهد، والتأويل: فشرد بقتلهم والاتكاء فيهم مَن بعدهم يكن ذلك تخويفا لهم من نقض العهد فلا ينقضوا. قوله: وإما تخافن قال ابن عباس: تعلمن. {مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] نقضا للعهد، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] انبذ عهودهم التي عاهدتهم عليها إليهم، يقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم ليكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد

بنصب الحرب، وهذا معنى قوله: {عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] الذين يخونون في عهودهم وغيرها. قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} [الأنفال: 59] قال ابن الأنباري: معنى الآية أن أولئك الذين انهزموا يوم بدر، أشفقوا من هلكة تنزل بهم، فلما لم تنزل طغوا وبغوا، فقال الله: لا تحسبن أنهم سبقوا بسلامتهم الآن، فإنهم لا يعجزوننا فيما يستقبل من الأوقات، ومن قرأ لا يحسبن بالياء، فقال الأخفش: ولا يحسبن النبي الذين كفروا سبقوا. وقرأ ابن عامر: أنهم بفتح الألف على تقدير: لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون. قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد فهو مما عنى الله بقوله: من قوة والمفسرون يقولون: يعني السلاح من السيف والرماح والقسي والنشاب. 390 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَوَّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] يعني: ربطها واقتناءها للغزو، وهي من أقوى عدد الجهاد، ترهبون به تخيفون به، {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] يعني: مشركي مكة وكفار العرب {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] قال مجاهد، ومقاتل: يعني قريظة. قال السدي: هم فارس،

وقال الحسن، وابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 60] من آلة وسلاح وصفراء وبيضاء في طاعة الله، يوف إليكم يوفر لكم أجره، {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] لا تنقصون من الثواب. قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] قال المفسرون: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه. قال الكلبي: يعني قريظة. وقال الحسن: يعني المشركين. وأكثر المفسرين على أن هذا منسوخ بآية السيف، قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] أي: ثق به، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الأنفال: 61] لقولكم، {الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] بما في قلوبكم. {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} [الأنفال: 62] بالصلح لتكف عنهم، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] فإن الذي يتولى كفايتك الله، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] يوم بدر، وبالمؤمنين يعني الأنصار، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] يعني بين قلوب الأوس والخزرج، وهم الأنصار، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] للعداوة التي كانت بينهم في الجاهلية، {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] لأن قلوبهم بيده يؤلفها كيف يشاء، قال الزجاج: وهذا من الآيات العظام، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، ونصرة بعضهم لبعض بحيث لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، فألف الإيمان بين قلوبهم حتى قتل الرجل أخاه وابنه وأباه. قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64] أي: في كفاية كل ما تحتاج إليه، {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] يعني المهاجرين والأنصار. 391 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا صَفْوَانُ بْنُ الْمُغَلِّسِ، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، نا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرَّمَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلا وَامْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ فَصَارُوا أَرْبَعِينَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَوْلِهِ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {64} يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {65} الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {66} } [الأنفال: 64-66] {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] قال الفراء: المعنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين. قال: وإن شئت جعلت من في موضع رفع وهو أحب إلي. قال الزجاج: ومن رفع فعلى العطف على الله، والمعنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين. قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] التحريض: الحث على الشيء، قال ابن عباس: حضهم على نصر دين الله، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] يريد الرجل من المسلمين بعشرة من الكفار في القتال، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ} [الأنفال: 65] أيها المؤمنون مئة رجل {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 65] قرئ يكن بالياء، والتاء: فمن قرأ بالياء فلأنه يراد بالمائة المذكر لأنهم رجال في المعنى، يدل على ذلك قوله: يغلبوا، ومن قرأ بالتاء فللتأنيث في لفظ المائة، وكان أبو عمرو يقرأ هذا، قوله: فإن يكن منكم مائة صابرة بالتاء لأن التأنيث ههنا أشد مبالغة، حيث وصفت المائة بالصابرة، ولم يقل: صابرون. وهناك قال: يغلبوا فكان إلى التذكير أقرب، وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] أي: أن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال لأنهم يقاتلون على جهالة، قال الوالبي، عن ابن عباس: أمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك عليهم فرحمهم وأنزل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] . قال الكلبي: هون الله عليكم وعلم أن فيكم ضعفا، وقرئ: ضُعْفًا وهما لغتان مثل الفقر والفُقْر، {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] قال ابن عباس: صار الرجل برجلين، كان كتب عليهم ألا يفر رجل من عشرة، ثم قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين. وقوله: بإذن الله بيان أن لا تقع الغلبة، إلا أن يريد الله ذلك، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] قال ابن عباس: يريد الذين صبروا على دينهم وعلى طاعة الله.

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {67} لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68} فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {69} } [الأنفال: 67-69] قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية: 392 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاوُسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأَسْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأَسْرَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَصْلُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ عُمَرُ: كَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ بِدَمِهِمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَارًا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُجِبْهُمْ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى، قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الآيَةَ، وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ، قال {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، فَلا يُمْتَلَكَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى آخِرِ الآيَاتِ الثَّلاثِ 393 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، نا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَؤُلاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ

عُنُقَهُ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ، فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنَ الْفِدَاءِ لَقَدْ عُرِضَ عَلَى عَذَابِكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى إِلَى قَوْلِهِ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 67 - 68] . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قال المفسرون: يقول: ما كان لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه من عبدة الأوثان للفداء وللمن قبل الإثخان في الأرض. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف، ولعمري، ما كان أثخن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين، ومعنى: {يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] قال الزجاج: يبالغ في قتل أعدائه. وقال الفراء: حتى يغلب على كثير من الأرض. وقال ابن الأعرابي: أثخن إذا غلب وقهر. {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] تريدون الفداء، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67] قال ابن عباس: يريد لكم الجنة. {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أن الغنائم لك ولأمتك حلال، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء، عذاب عظيم. هذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ورواية الوالبي، وأبي الجوزاء عن ابن عباس، وقال الحسن: إنهم أخذوا الفداء قبل أن يؤمروا به فعاب الله ذلك عليهم. وقال محمد بن إسحاق: لولا كتاب من الله سبق أني لا أعذب إلا بعد النهي، ولم يكن نهاهم، لعذبتكم. وهذا قول ابن مسعود، ومجاهد، وقال ابن زيد، وجماعة: سبق من الله العفو عنهم وألا يعذب أحدا منهم شهد بدرا، ولم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر إلا أحب الغنائم غير عمر جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو عذبنا في هذا الأمر ما نجا غير عمر» .

وقال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر» . وقال مجاهد: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: «كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء» . ولما نزل هذا أمسكوا أيديهم عن الغنائم، فنزل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] قال ابن عباس: غفر لكم ما أخذتم من الفداء، ورحمكم لأنكم أولياؤه. {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {70} وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {71} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {72} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ {73} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {74} وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {75} } [الأنفال: 70-75] قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال: 70] صدقا وإسلاما، {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] من الفداء، نزلت في العباس، وكان أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب كان خرج بها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر، ولم يكن بلغتْه النَّوْبَةُ حتى أُسر، فأُخذتْ معه، فأخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، قال: فكلمتُهُ أن يجعل ذلك في فدائي، فأبى علي، وقال: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» ، قال: فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، وأدناهم يضرب عشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي. وهو قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] . قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] الآية: نزلت في العباس وأصحابه من الأسارى، قال ابن جريج: أراد بالخيانة ههنا الخيانة في الدين وهو الكفر، يعني: إن كفروا بك، {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأنفال: 71] أي: كفروا بالله، فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى القتال ومعاداة المؤمنين، والله عليم بخيانة إن خانوها، حكيم في تدبيره عليهم ومجازاتهم أياهم. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72] يعني: المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم

وقومهم في نصرة الدين، {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم على أعدائهم، {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] قال المفسرون: يعني في الميراث كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر، وهو قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، وقرئ من ولايتهم بكسر الواو وفتحه، وهما لغتان من الولي والوالي كالوكالة والوكالة وبابهما، والفتح أجود لأنه أكثر في الدين، والكسر في السلطان، قال ابن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين المهاجرين إخوانُهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم أخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] . وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الأنفال: 72] أي: وإن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم، وانصروهم، إلا أن يستنصروكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] عهد فلا تغدروا ولا تنقضوا العهد. قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] حض الله المؤمنين على التواصل فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إلا تفعلوه قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به. وقال ابن جريج: يقول: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين. {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 73] يعني: الشرك، وفساد كبير وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره، أدى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين، فإذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام، وترك الكفر لأقاربه الكفار. وقوله: والذين آمنوا، إلى قوله: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74] أي: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة خلاف من أقام بدار الشرك، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية، وهي الهجرة الثانية. وقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] قال جماعة المفسرين: هذا نسخ للميراث بالهجرة، ورد للمواريث إلى أولي الأرحام، وذلك أنهم كانوا لا يتوارثون بالرحم، إنما يتوارثون بالهجرة، كان الأخوان إذا أسلما فهاجر أحدهما فمات لم يرثه الذي لم يهاجر حتى فتحت مكة فرد الله الميراث إلى أولي الأرحام. روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخا بين أصحابه فكانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، فتوارثوا بالنسب. وقوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] قال الزجاج: في حكم الله. ويجوز أن يعني بالكتاب ههنا القرآن، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنفال: 75] مما خلق وفرض وحدّ، عليم.

سورة التوبة

سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة 394 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا عَوْفٌ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَهِدْتُمْ إِلَى الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٍ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَالِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ، يَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذا، وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقُبِضَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَالِ 395 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {1} فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ {2} وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3} إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {4} فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ {6} } [التوبة: 1-6] قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 1] الآية: قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بينها وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره الله أن ينقض عهودهم. قال الزجاج: أي: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا. والخطاب في: عاهدتم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمتولي للعقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكنهم أدخلوا في الخطاب، لأنهم راضون بفعله. وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] يقال: ساح يسيح سياحة وسيوحا. قال الزجاج: معناه: اذهبوا فيها وأقبلوا وأدبروا. وقال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة رفعه إلى الأربعة. قال الزهري: الأربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال. قال ابن عباس في رواية الوالبي: حد الله للذين عاهدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث ما شاءوا، وأحل من ليس له عهد عند انسلاخ الأشهر الحرم، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيهم حتى يدخلوا في الإسلام. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 2] قال ابن عباس: حيثما كنتم وحيثما توجهتم لا يعجز الله عن نقمته فيكم. وقال الزجاج: أي: وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله. {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2] بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والإخزاء: الإذلال بما فيه من الفضيحة والعار، قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] الأذان: الإعلام وهو اسم من الإيذان، يقال: آذن إيذانا، وأذانا. وقوله: إلى الناس أي: للناس، يقال: هذا إعلام لك، وإليك. وأراد بالناس: المؤمن والمشرك والكافر لأن الكل داخلون في هذا الإعلام، قوله: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] اختلفوا فيه: فقال عمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد: إنه يوم عرفة. ونحو هذا روى المسور بن مخرمة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا. 396 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا

مُحَمَّدُ بْنُ حَيُّوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالا: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْعَيْشِيُّ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وقال ابن عباس في رواية عطاء: يوم الحج الأكبر يوم النحر. وهو قول الشعبي، والنخعي، والسدي، وسعيد بن جبير، ورواية ابن أبي أوفى، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 397 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ شَاهِينَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَاضِي حَلَبَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الأَضْحَى: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ» ومعنى الحج الأكبر: الحج بجميع أعماله، والحج الأصغر العمرة، وقال قوم: يوم الحج الأكبر حين الحج أيامه كلها، كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بعاث لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 3] أي: من عهد المشركين فحذف المضاف، ورسوله

رفع بالابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضا برئ، قال المفسرون: لما فتح الله مكة سنة ثمان من الهجرة، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك، وأرجف المنافقون الأراجيف، جعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلقاء عهودهم إليهم، فلما كانت سنة تسع بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميرا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا فقال: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا. فخرج علي على ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة، فرجع أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميرا على الحج وعلي ليؤذن ب براءة. وذكر الزجاج: السبب في تولية علي تلاوة براءة قال: إن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منها، وكان جائزا أن يقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من الرسول مَن هو مِن غير رهطه: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود. فأزاح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلة في ذلك، وشرح عمرو بن بحر الجاحظ هذه القصة فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا بكر أميرا على الحجاج وولاه الموسم، وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة وكان أبو بكر الإمام، وعلي المؤتم به، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الرافع الموسم ولم يكن لعلي أن يرفع حتى يرفع أبو بكر، وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبلغ عني إلا رجل مني فإن هذا ليس بتفضيل منه لعلي على غيره، ولكن عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعارفه من بعض كعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، كان لا يتولى ذاك إلا السيد منهم أو رجل من رهطه دينا، كأخ أو عم، فلذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا القول. ويدل على هذا ما لجملة الحديث الصحيح الذي 398 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى، أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِ بَرَاءَةٍ وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وقوله: فإن تبتم رجع إلى خطاب المشركين، يريد: فإن رجعتم عن الشرك إلى توحيد الله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الأنفال: 19] من الإقامة على الشرك وإن توليتم عن الإيمان، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ

غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 3] لا تعجزونه عن تعذيبكم ولا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] . قوله: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4] قال المفسرون: استثنى الله طائفة وهم بنو ضمرة، حي من كنانة، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتمام عهودهم، وكان قد بقى لهم من مدة عهدهم تسعة أشهر، وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ} [التوبة: 4] أي: من شروط العهد، {شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة: 4] لم يعاونوا عليكم عدوا، {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] أي: إلى انقضاء مدتهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] يحب من اتقاه بطاعته واجتناب معاصيه. قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] أي: مضى وذهب، وذهابها بانسلاخ المحرم، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] أي: في الحل والحرم، وخذوهم بالأسر، واحصروهم قال ابن عباس: يريد: إن تحصنوا فاحصروهم، والحصر ههنا المنع عن الخروج من محيط، {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] أي: على كل طريق يأخذون فيه، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، فإن تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة من الأموال العين والمواشي والثمار، فخلوا سبيلهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [التوبة: 5] لمن تاب وآمن، رحيم به، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 6] الذين أمرتك بقتلهم استجارك طلب منك الأمان والجوار، فأجره من القتل، {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] القرآن وما أمر به ونهى عنه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] الموضع الذي يأمن فيه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] أي: الأمر ذلك، وهو أن يعرفوا ويجاروا لجهلهم، فربما يعرفون فيسلمون، ثم قال على وجه الإنكار: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {7} كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ {8} اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {9} لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ {10} فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {11} وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ {12} } [التوبة: 7-12] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد وهم يغدرون وينقضون، {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وهم بنو ضمرة الذين ذكرنا، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} [التوبة: 7] في وفاء العهد فاستقيموا لهم على الوفاء بإتمام أجلهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] من اتقى الله في أداء فرائضه والوفاء بعهده لمن عاهده. قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة: 8] أي: كيف يكون للمشركين عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم: يقدروا عليكم، ويظفروا بكم، {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} [التوبة: 8] لا يحفظوا فيكم، إلًّا قرابة، ولا ذمة عهدا، يرضونكم بأفواههم يقولون كلاما حلوا، وتأبى قلوبهم الوفاء بما يقولون، وأكثرهم فاسقون كاذبون ناقضون للعهد. {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [التوبة: 9] استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [التوبة: 9] فأعرضوا عن طاعته، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] من اشترائهم الكفر بالإيمان، ثم ذمهم بترك المراقبة للعهد والذمة للمؤمنين بقوله: {

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10] المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد، فإن تابوا من الشرك، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 11] قال ابن مسعود: أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن لم يزك فلا صلاة له. وقال ابن زيد: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه، أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال المفسرون: المآخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة مع الشهادة، لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] أي: فهم إخوانكم في الدين، ونفصل الآيات نبينها، لقوم يعلمون أنها من عند الله. قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12] جمع يمين بمعنى القسم، يعني مشركي قريش، يقول: إن نقضوا عهودهم، يقال: نكث العهد إذا نقضه، ونكث يمينه إذا خالف موجبها، وقوله: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} [التوبة: 12] أي: عابوا دينكم، قال الزجاج: وهذه الآية توجب قتل الذمي إذا طعن في الإسلام لأن العهد معقود عليه ألا يطعن فإن طعن فقد نكث. وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] يعني رءوس قريش وقادتهم وهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، والأصل في أيِمَّة: أَأْمِمَة لأنها جمع إمام مثل: مثال وأمثلة، ولكن لما اجتمعت الميمان أدغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة فصارت أئمة، فأبدل من الهمزة المك { [ياء، كراهة لاجتماع الهمزتين، وهذا هو الاختيار عند جميع النحويين، ومن قرأ بهمزتين راعى الأصل وليس بالوجه، وقوله:] إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 12] قال الفراء: لا عهود لهم، والمعنى: لا إيمان لهم صادقة لأنه قد أثبت لهم الأيمان في قوله: نكثوا إيمانهم، فالمنفي غير المثبت، ومن قرأ بالكسر، فقال الفراء: يريد أنهم كفرة لا إسلام لهم، قال: وقد يكون المعنى لا تؤمنوهم فيكون مصدر قولك: أمّنتُه إيمانا. وهذا هو الوجه، لأن المشرك

لا يقر على دينه فلا يؤمن كما يؤمن أهل الذمة، فالإيمان ههنا يراد به الذي هو ضد التخويف، فإن جعلته الذي هو ضد الكفر كان تكريرا، لأن قوله: أئمة الكفر يدل على أنه لا إيمان لهم، وقوله: لعلهم ينتهون قال ابن عباس: كي ينتهوا عن الشرك بالله، ثم حض المؤمنين على قتالهم، فقال: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {13} قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {15} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16} مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ {17} إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ {18} } [التوبة: 13-18] {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجرا لغيرهم عن النكث، وأراد بنكث اليمين ههنا أنهم نقضوا عهد الصلح بالحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة، وهم كانوا حلفاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13] يعني: حين اجتمعوا في دار الندوة للمكر به {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] يعني بالقتال يوم بدر، وذلك أنهم قالوا حين سلم العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه، وقال جماعة من المفسرين: أراد أنهم قاتلوا حلفاءك خزاعة، فبدأوا بنقض العهد، وقوله: أتخشونهم أي: أتخافون أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم، {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13] فمكروه عذاب الله أحق أن يخشى في ترك قتالهم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] مصدقين بعقاب الله وثوابه، ثم وعدهم النصر بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] أي: بقتلهم بسيوفكم ورماحكم، ويخزهم يذلهم بالقهر والأسر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد: يعني: بني خزاعة، وذلك أن قريشا أعانت بني بكر عليهم حتى نكأوا فيهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبي والمؤمنين، وذلك أن الصريخ أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وأنشده: إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وبيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا

فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نصرت إن لم أنصركم» . وغضب لهم، وخرج إلى مكة، ونصر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشفى صدور خزاعة، وهو قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15] يعني كربها ووجدها بمعونة قريش بكرا عليهم، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] يعني من المشركين كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، تاب الله عليهم وهداهم للإسلام، والله عليم بنيات المؤمنين، حكيم فيما قضى، ثم رجع إلى خطاب المنافقين، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] أي: العلم الذي يجازي عليه وهو العلم بالشيء بعد وجوده، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] قال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم، ووليجة الرجل من يختص بدَخْلَة أمره دون الناس، الواحد والجمع فيه سواء، قال ابن عباس: ولم يتخذوا أولياء من المشركين. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] الآية: لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فقال: إنا لنعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فرد الله ذلك عليه بهذه الآية، ومعنى ما كان لهم ذلك أنه أوجب على المسلمين منعهم من ذلك، وأكثر المفسرين: حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام والقعود فيه، قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام. وذهب آخرون إلى العمارة المعروفة من بناء المسجد ورمه عند الخراب، وهذا أيضا محذور على الكافر، يمنع منه حتى لو أوصى به لم تقبل وصيته، وقرأ أبو عمرو: مسجد الله على التوحيد، لقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] وقال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، وقوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم

بالكفر سجودهم لأصنامهم. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 17] لأنها لغير الله، وقال الزجاج: كفرهم أذهب ثواب أعمالهم. ثم ذكر أهل عمارة المسجد فقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] الآية. 399 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَبُو عُتْبَةَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، نا بَقِيَّةُ، نا ابْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] " 400 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» 401 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَلْمَانُ بْنُ جَابِرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْعَلاءِ الْقُشَيْرِيُّ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْمَسَاجِدُ سُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِ الآخِرَةِ فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ ضَيْفًا لِلَّهِ، فَجَزَاؤُهُ الْمَغْفِرَةُ وَتَحِيَّتُهُ الْكَرَامَةُ، عَلَيْكُمْ بِالإِرْتَاعِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الإِرْتَاعُ؟ ، قَالَ: الدُّعَاءُ وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ " 402 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا عَبْدُ

الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ 403 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا سُلَيْمَانُ الشُّرَحْبِيلِيُّ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا كَثِيرٌ الْمُؤَذِّنُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ قَدْرَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بِطُرُقِ مَكَّةَ؟ قَالَ: وَتِلْكَ " قال أهل المعاني في هذه الآية: من كان بهذه الصفة التي ذكرها من الإيمان بالله وإقامة الصلاة وما بعدها كان من أهل عمارة المسجد، وليس المعنى أن من عمرها كان بهذه الصفة، غير أنه قلّ من يعمرها إلا وقد جمع هذه الصفات، وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: 18] أي: لم يخف في باب الدين إلا الله، ولم يترك أمرا لله لخشية غيره، {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] أي: فأولئك من المهتدون، وعسى من الله واجبة، والمهتدون: المتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {19} الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {20} يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ {21} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {22} } [التوبة: 19-22]

قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: 19] الآية: 404 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ الإِسْفَرَائِينِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا أَبُو تَوْبَةَ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلا بَعْدَ الإِسْلامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلا بَعْدَ الإِسْلامِ إِلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ لَكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآيَةَ إِلَى آخِرِهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية. والسقاية مصدر كالسقي وسقاية الحاج سقيهم الشراب.

قال الحسن: وكان نبيذ ذبيب يسقون الحاج في الموسم، وقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] قال ابن عباس: يريد تدبيره وتخليقه، {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] أي: كإيمان من آمن بالله، يقول الله منكرا عليهم: أسويتم بين سقي الحاج وعمارة المسجد، وبين إيمان المؤمنين بالله، {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] في الثواب، قال ابن عباس: أخبر أن عمارتهم المسجد وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيه خير مما هم عليه. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] سماهم الله ظالمين بشركهم، ثم نعت المهاجرين فقال: الذين آمنوا إلى قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 20] أي: من الذين افتخروا بعمارة البيت، وسقي الحاج، ومن كل أحد، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] الذين ظفروا بأمنيتهم من الخير، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21] قال الزجاج: يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الرحمة والرضوان، والجنات التي {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] النعيم نقيض البؤس، وهو لين العيش، والمقيم: الدائم لا يزول. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24} } [التوبة: 23-24] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} [التوبة: 23] الآية: قال ابن عباس: كان قبل فتح مكة من آمن ولم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يهجر أقاربه الكفار. والمعنى: لا تتخذوهم أصدقاء تؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام، إن استحبوا أي: اختاروا، وكان الكفر أحب إليهم من الإيمان، ثم أوعدهم على ذلك فقال {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] قال ابن عباس: مشركون مثلهم. فلما نزلت هذه الآية قال: يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين نقطع أبناءنا وعشيرتنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} [التوبة: 24] الآية، وقوله: وعشيرتكم عشيرة الرجل: أهله الأدنون، وقرئ: وعشيراتكم وهو رديء، قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع من عشيرة عشيرات إنما يجمعونها عشائر، وقوله: وأموال اقترفتموها أي: كسبتموها، والاقتراف الكسب ومنه قوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} [الشورى: 23] ، يقول: إن كانت هذه

الأشياء أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا قال ابن عباس: فتربصوا بما تحبون فليس لكم عند الله ثواب في إيمانكم. وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] الأكثرون قالوا: يعني فتح مكة. يقول: بأن كنتم تؤثرون المقام في دوركم وأهليكم، وتتركون الهجرة فأقيموا غير مثابين، حتى يفتح الله مكة فيسقط فرض الهجرة، والأمر بالتربص أمر تهديد، قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {27} } [التوبة: 25-27] {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] أي: في أمكنة ومقامات، يخاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ويوم حنين أي: وفي يوم حنين، وهو واد بين مكة والطائف، قاتل عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوازن، وثقيفا بعد فتح مكة، {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] قال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا. وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمس مائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وقال عطاء، عن ابن عباس: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى حنين في ستة عشر ألفا وكان معه رجل من الأنصار يقال له: سلمة بن سلامة بن وقش، فعجب لكثرة الناس فقال: لن نغلب اليوم من قلة. فساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. فذلك قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] لم تنفعكم كثرتكم ولم تدفع عنكم شيئا، {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] أي: برحبها وسعتها ضاقت عليكم، فلم تجدوا فيها موضع يصلح لفراركم، وهو قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] قال الزجاج: أعلم الله أنهم ليس بكثرتهم يغلبون، إنما يغلبون بنصر الله إياهم، ووكلوا ذلك اليوم إلى كثرتهم فانهزموا، ثم تداركهم الله بنصره حتى ظفروا، وذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26] يعني: الأمنة والطمأنينة. 405 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ، وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ قال الزجاج: أنزل الله عليهم السكينة، حتى عادوا وظفروا وأراهم في ذلك اليوم من آياته ما زادهم يقينا في الدين، وهو قوله: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] قال ابن عباس: يعني: الملائكة. وقال سعيد بن جبير: أمد الله نبيه عليه السلام بخمسة آلاف من الملائكة. وقال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. فرجعنا، وركبوا أكتافنا. وذلك قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] بالقتل والأسر وسبي الأولاد، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 26-27] من عباده فيهديهم إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف منه، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] بمن آمن، قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال الليث: النجس: القذر من الناس ومن كل شيء، يقال: رجل نجس، وقوم أنجاس. ولغة أخرى رجل نجس، وقوم نجس، ورجلان نجس، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: يريد لا يغتسلون من الجنابة، ولا يتوضئون لله تعالى، ولا يصلون لله. {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] أي: لا يدخلوا الحرم بعد سنة تسع، أمر المسلمون بمنع المشركين من الحج ودخول الحرم، ولما منعوا من دخول الحرم، قال المسلمون: إنهم كانوا يأتون بالميرة ويتبايعون، فالآن تنقطع المتاجر ويضيق العيش. فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: يتفضل عليكم بما هو أوسع وأكثر. قال مقاتل: ثم أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم من المشركين. قوله: {

قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومعنى لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أي: كإيمان الموحدين لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، فإذا كان ذلك فإيمانهم غير إيمان من يقر بالحشر، وإعادة الأرواح، وحشر الأجساد. {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] من الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، قال قتادة: الحق هو الله ودينه الإسلام. وقال أبو عبيدة: لا يطيعون طاعة أهل الإسلام والدين الطاعة. وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] يعني: أهل الكتابين، {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وهي ما يعطيه المعاهد على عهده، عن يد قال ابن عباس: هو أنهم يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا، ولا يرسلون بها، وهو قوله: وهم صاغرون أي: ذليلون مقهورون يجرون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدوها من يدهم. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31} يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33} } [التوبة: 30-33] قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] قال ابن عباس في رواية العوفي: إن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فنسخها الله من صدورهم ورفع التابوت عنهم، فدعا اللهَ عزيرٌ وابتهل إليه أن يرد الذي نسخ من صدورهم، فنزل نور من السماء فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فنادى في قومه، قد رد الله إلي التوراة. وطفق يعلمهم، فقالوا: والله ما أوتي عزير إلا لأنه ابن الله. واختلف القراء في عزير فقرئ بالتنوين، وبغيره،

قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين لأن ابن خبر، وإنما يحذف التنوين في الصفة نحو قولك: جاءني زيد بن عمرو. فيحذف التنوين لالتقاء الساكنين، فإذا كان خبرا فالتنوين، وقد يجوز حذفه على ضعف لالتقاء الساكنين. وقد قرئت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} } [الإخلاص: 1-2] بحذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وقوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] هذا كقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] أي: ليس فيه برهان ولا بيان إنما هو قول بالفم لا معنى تحته، يضاهون قول الذين كفروا من قبل: المضاهاة المشابهة، وقرأ عاصم بالهمز وهو لغة، يقال: ضاهيت وضاهأت، قال مجاهد: يضاهون قول المشركين حين قالوا: اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى. وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال قتادة، والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل فقالت النصاري: المسيح ابن الله. كما قالت اليهود: عزير ابن الله. وقوله: قاتلهم الله قال المفسرون: معناه لعنهم الله. قال ابن الأنباري: المقاتلة أصلها من القتل، فإذا أخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك، وقوله: أنى يؤفكون الإفك: الصرف، يقال: أفك الرجل عن الخير أي: قلب وصرف، يقول: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله الولد؟ وفي هذا تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تركهم الحق وإتيانهم الباطل. قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] الأحبار الفقهاء والعلماء، واحدها حبر وحبر، والرهبان جمع راهب، وهو متمسك النصارى، وقال ابن عباس: فقهاؤهم وعبادهم. وقال الضحاك: علماؤهم وقرّاؤهم. 406 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَصْفِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ،

نا مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، نا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: " يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، قَالَ: فَطَرَحْتُهُ، ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ بَرَاءَةً فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ " وهذا بيان أن مخالف أمر الله في التحليل والتحريم كالمشرك في عبادة الله لأن استحلال ما حرم الله كفر بالإجماع. وقوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] قال ابن عباس: اتخذوه ربا. وما أمروا في التوراة والإنجيل، {إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] ، وهو الذي {لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] تنزيها له عن شركهم. قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32] قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم، يعني أنهم يكذبون به، ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] إلا أن يظهر دينه، أي: لا يفعل إلا ذلك، ولو كرهوا ذلك، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [التوبة: 33] محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالهدى أي: بالقرآن، ودين الحق الحنيفية وهي الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ليعليه على جميع الأديان، وذلك عند نزول عيسى عليه السلام، وقال أهل المعاني: أي: بالحجة والغلبة. وحجة هذا الدين أقوى الحجج، والغلبة لهذا الدين على سائر الأديان. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ {35} } [التوبة: 34-35] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} [التوبة: 34] قال السدي: أما الأحبار فمن اليهود، وأما الرهبان فمن النصارى، وقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34] يعني: ما كانوا يأخذونه من الرشى

في الحكم وما كانوا يصيبونه من المأكل من سفلتهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ويصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] أكثر المفسرين على أنه مستأنف نازل في هذه الأمة، وقال قوم: إنا لفينا وفيهم. ومعنى الكنز في كلام العرب الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز، والمراد بهذا الكنز جميع المال الذي لا تؤدى زكاته، قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قال ابن عباس: لا يؤدون زكاتها، وما أدي زكاته فليس بكنز. قال ابن عمر: كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونا. والكناية في: ولا ينفقونها تعود إلى الفضة وترك الذهب لأنه داخل في الفضة فاكتفي بذكر أحدهما عن صاحبه، وقال ابن الأنباري: لأن الفضة أقرب إلى العائد وأعم وأغلب. وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] أي: اجعل الوعيد لهم بالعذاب موضع البشرى والنعيم. 407 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ تَرَكَ كَنْزًا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضَمُهَا، ثُمَّ يُتْبِعَهُ سَائِرَ جَسَدِهِ " وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] يقال: أحميت الحديدة في النار إحماء، حتى حميت حميا. وذلك إذا أوقدت عليها، وقال ابن عباس: يحمى عليها، أي: على الكنوز، لأن المراد بالذهب والفضة الكنوز. {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} [التوبة: 35] قال المفسرون: من كان له مال في الدنيا لم يؤد زكاته أحمى على دراهمه ودنانيره في نار

جهنم، وكويت بها هذه المواضع، لا يوضع دينار مكان دينار ولا درهم مكان درهم، ولكن يوسع جلده فيوضع بكل دينار ودرهم كية على جلده. وكان أبو ذر، رضي الله عنه يقول: بشر الكانزين بكي في الجباه، وبكي في الجنوب، وبكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم. ولهذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوفا بخلاف اليد والرجل، وكان أبو بكر الوراق يقول: خصت هذه المواضع لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه، وطوى عنه كشحه وولاه ظهره. 408 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ لَهُ مَالٌ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا جُمِعَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبَاهُ وَظَهْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ بَزِيغٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ قوله: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 35] أي: يقال لهم: هذا الذي تكون به هو ما جمعتم لأنفسكم، وبخلتم به عن حق الله، {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] أي: ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {36} إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ

الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {37} } [التوبة: 36-37] قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] الآية: قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن عدة شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنى عشر شهرا على منازل القمر واستهلال الأهلة. وقوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] يعني: اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ومعنى الحرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد مما يعظم في غيرها، وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] ومعنى الدين ههنا الحساب، ومنه يقال: الكيس من دان نفسه. أي: حاسبها، والقيم معناه: المستقيم. قال المفسرون: ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي، وقوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] قال ابن عباس: يريد: تحفظوا على أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها تضاعف والسيئات فيها تضاعف. وقال قتادة: الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما. وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] قال ابن عباس: جميعا، يريد قاتلوهم كلهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، وهو قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] قال الزجاج: كافة نصب على الحال، وهو مصدر على فاعله كما قالوا: العافية، والعاقبة. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] قال: تأويله: أنه ضامن لهم النصر، قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] النسيء في الشهور تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، وهو مصدر بمعنى الإنساء كالنذير بمعنى الإنذار، والنكير بمعنى الإنكار، والإنساء: التأخير وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة، وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل وهم كانوا أصحاب حروب وغارات، وربما كان يشق عليهم أن ينكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه، ويستحلون المحرم إلى صفر فيحرمونه، ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يردون التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، فينادي

مناد: أن افعلوا ذلك لحرب أو لحاجة، قال ابن عباس: ومعنى زيادة الكفر: أنهم أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله. قوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] هذه قراءة العامة، وقراءة أهل الكوفة يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد، والمعنى: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على التأخير، وروي عن أبي عمرو يضِل به الذين كفروا أي: يضلون بذلك تابعهم والآخذين بذلك، وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] قال ابن عباس: إذا قاتلوا فيه أحلوه وحرموا مكانه صفرا، وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] وهو أنه لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد. فتلك المواطأة وهي الموافقة، يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته، وقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37] قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان هذا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ {38} إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40} انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {41} } [التوبة: 38-41] وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} [التوبة: 38] هذه الآية حث لمن تثاقل عن غزوة تبوك، وذلك كان في زمان عسرة من الناس، وجدب في البلاد وشدة من الحر، فشق على الناس الخروج إلى القتال، فأنزل الله هذه الآية، وحرض المسلمين على ذلك، وقوله: ما لكم استفهام معناه التوبيخ، وقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] إذا قيل لكم اخرجوا إلى قتال العدو تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم وأحببتم المقام بها، يقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا. إذا خرجوا إلى مكان لأمر أوجب الخروج، وقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة: 38] قال ابن عباس: يريد قدمتم الدنيا على الجنة. {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 38] قال: يريد الدنيا كلها، {فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . 409 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ طَاهِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسْتَوْرِدَ أَخَا بَنِي فِهْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَيَنْظُرُ بِمَا يَرْجِعُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ثم توعدهم على ترك الخروج فقال: إلا تنفروا قال مقاتل: إلا تخرجوا مع نبيكم إلى الجهاد. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] قال الزجاج: هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد. قال المفسرون: هذه الآية خاصة فيمن استنفره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينفر، وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] هذا استعتاب من الله تعالى لأولئك القوم، ووعيد لهم أنهم إن تركوا الغزو من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى الله بقوم آخرين ينصر بهم رسوله، وهو قوله: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] لأنه لا يخذله إن تثاقلتم، ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره فلن يضره ذلك شيئا كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة، وهم به الكفار فتولى الله نصره وهو قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] أي: أعانه الله على أعدائه، {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] حين قصدوا إهلاكه كما ذكرنا في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] ، وقوله: ثاني اثنين قال الزجاج: هو نصب على الحال، المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر. وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر. وقال المفسرون: ثاني اثنين

هو وأبو بكر. {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] الغار ثقب في الجبل عظيم، قال قتادة: هو غار في جبل مكة يقال له ثور. وقال مجاهد: مكثا في الغار ثلاثا. 410 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوْفِيُّ، نا هَمَّامٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حِبَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ 411 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَمْرُو بْنُ زِيَادٍ، نا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَرْقَسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: «هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟ قُلْ حَتَّى أَسْمَعَ» قَالَ: قُلْتُ: وَثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ ... طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إِذْ صَاعد الْجَبَلا وَكَانَ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْخَلائِقِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ بَدَلا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] يعني: يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .

412 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا يُونُسُ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ سُورَةَ التَّوْبَةِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَلَمَّا بَلَغَ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبُهُ 413 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِرُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ الأَزْرَقِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ نُبَيْطٍ يَعْنِي ابْنَ شَرِيطٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ: سَيْفَانِ فِي غِمْدٍ لا يَصْطَلِحَانِ، ثُمَّ قَالَ: مَنِ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الثَّلاثُ؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] مَنْ هُمَا؟ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] مَنْ صَاحِبُهُ {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] مَعَ مَنْ؟ قَالَ: فَبَسَطَ يَدَ أَبِي بَكْرٍ وَضَرَبَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: بَايِعُوا، فَبَايَعَ النَّاسُ أَحْسَنَ بَيْعَةٍ قال المفسرون: قال أبو بكر لما خاف الطلب: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة. فكان حزن أبي بكر شفقة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخوفا أن يطلع عليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحزن إن الله معنا» . قال الزجاج: لما أصبح المشركون اجتازوا بالغار، فبكى أبو بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يبكيك؟» قال: أخاف أن تقتل فلا يعبد الله بعد اليوم. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحزن إن الله معنا، إن الله يمنعهم منا وينصرنا.

قال: هكذا يا رسول الله؟ قال: نعم ". فرقأ دمع أبي بكر وسكن. روى جابر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذا خليلا لأتخذت أبا بكر خليلا، ولكن قولوا كما قال الله: صاحبي "، وقال الحسين بن فضل: من أنكر أن يكون عمر أو عثمان أو أحد من الصحابة كان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كذاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كافرا لأنه رد نص القرآن ". وقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: على أبي بكر: فأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت السكينة عليه قبل ذلك، وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] قال ابن عباس: وقواه بالملائكة يدعون الله له. والهاء عائدة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال الزجاج: أيده بملائكة يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه. وقال مجاهد، والكلبي: قواه وأعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر الله أنه صرف عنه كيد أعدائه وهو في الغار، ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر، وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] يعني كلمة الشرك، السفلى لأنها سفلت فبطلت، وكلمة الله وهي لا إله إلا الله، كلمة التوحيد هي العليا لأنها علت وظهرت يوم بدر. وهذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن كيسان: كلمة الذين كفروا: ما قدر بينهم في الكيد به ليقتلوه، فلم ينالوا أملهم، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر، حكيم في تدبيره. وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] قال أكثر المفسرين: شبابا وكهولا، وروى عطاء، عن ابن عباس: رجالا وركبانا. وروى عنه أيضا: خفافا قال: أهل الميسرة من المال، وثقالا أهل العسرة. وهو اختيار الزجاج قال: موسرين ومعسرين. وعلى العكس من هذا، قال أبو صالح: خفافا من المال أي: فقراء، وثقالا منه أي: أغنياء، واختاره الفراء فقال: الخفاف ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال ذوو العيال والميسرة. وقال أهل المعاني: هذا عام في كل أحد لأنه ما من أحد إلا وهو ممن تخف عليه الحركة، أو تثقل، فهو ممن أمر في هذه الآية بالنفير. وقال عطاء الخرساني عن ابن عباس: نسخت هذه الآية

بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . وقال السدي: لما نزلت اشتد شأنها على الناس، فنسخها الله وأنزل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] الآية، قوله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] هذا يدل على أن الموسر يجب عليه الجهاد بالمال إذا عجز عن الجهاد بالبدن لزمانة أو علة، فوجوب الجهاد بالمال كوجوبه بالبدن على الكفاية، وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة: 41] أي: من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ما لكم من الجزاء والثواب. {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {42} عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ {43} لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {44} إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ {45} وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ {46} لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {47} لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ {48} } [التوبة: 42-48] قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} [التوبة: 42] نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، والمعنى: لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا غنيمة قريبة، وَسَفَرًا قَاصِدًا قريبا هينا، لاتَّبَعُوكَ طمعا في المال، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42] المسافة، وقال الكلبي: يعني السفر إلى الشام. والشقة السفر البعيد لأنه يشق على الإنسان، وَسَيَحْلِفُونَ بِالله يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] لو قدرنا وكان لنا سعة في المال، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالكذب والنفاق، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] لأنهم كانوا يستطيعون الخروج وكانوا مياسير، ذوي زاد وسلاح وعدة، قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، قال عمرو بن ميمون الأودي: اثنان فعلهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون. قال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف: بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. قال قتادة: ثم أنزل بعده نسخ هذه الآية: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . وقوله: {

لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أي: في التخلف عنك، قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعرف يومئذ المنافقين. قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [التوبة: 43] الآية، أي: حتى تعرف من له العذر في التخلف، ومن لا عذر له، فيكون إذنك لمن أذنت له على عذر. قوله: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 44] الآية. قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في القعود عن الجهاد. وقال الزجاج: أعلم الله نبيه أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان، وإلا فالاستئذان من الإمام في القعود عن الجهاد غير مذموم. والمعنى: في أن يجاهدوا، حذف في. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ أي: في القعود عن الجهاد، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 45] قال ابن عباس: شكوا في دينهم. {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] في شكهم يتمادون، {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة: 46] يعني: هؤلاء المنافقين لو أرادوا أن يخرجوا معك، {لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] من الزاد والماء والظهر، لأن سفرهم بعيد، فترْكهم العدة دليل على إرادتهم التخلف، والمعنى: أنهم كانوا مياسير قادرين على أخذ العدة لو أرادوا الخروج، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] انطلاقهم وخروجهم معك، يقال: بعثته لأمر كذا فانبعث. أي: نفذ فيه، وقوله: {فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] التثبيط: ردك الإنسان عن الشيء يفعله، قال ابن عباس: فخذلهم وكسلهم عن الخروج. {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] قال مقاتل: وحيا إلى قلوبهم، يعني: أن الله ألهمهم أسباب الخذلان وأوحى إلى قلوبهم أن اقعدوا مع القاعدين، ويجوز أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض. ثم أعلم الله لم كره خروجهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} [التوبة: 47] أي: فيما بينكم، يعني معكم، {مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] الخبال: الفساد والشر في كل شيء، قال ابن عباس: يريد عجزا وجبنا، أي: أنهم كانوا يجبنونكم عن لقاء العدو بتهويل الأمر عليكم، وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي: لأسرعوا في الدخول بينكم بالتضريب والإفساد بالنميمة، والإيضاع: الإسراع، وخلال الشيء وسطه، وقوله: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: يطلبون لكم العنت، قال الضحاك: يخوفونكم بالعدو ويخبرونكم أنكم مهزومون، وأن عدوكم سيظهر عليكم، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47] قال ابن عباس: يريد المنافقين، ثم ذكر قبيح ما فعلوا قبل هذا فقال: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 48] طلبوا لك العنت والشر من قبل تبوك وهو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا

على طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفتكوا به فسلمه الله منهم. وقال جماعة من المفسرين: طلبوا صد أصحابك عن الدين، وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا. {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} [التوبة: 48] ، واجتهدوا في الحيلة عليك، والكيد بك وأداروا الأمور ليردوا أمرك، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} [التوبة: 48] حتى أخزاهم الله بإظهار الحق وإعزاز الدين على رغم منهم وكره، وهو قوله: {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48] . {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ {49} إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ {50} قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {51} قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ {52} } [التوبة: 49-52] قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] نزلت في الجد بن قيس المنافق، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل لك في جهاد بني الأصفر؟ يعني الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء. فقال: ائذن لي في القعود عنك، ولا تفتني بذكر النساء فقد علم قومي أني مغرم بهن، وأني أخشى أن لا أصبر عنهن. قال ابن عباس: اعتل جد بن قيس بقوله: ولا تفتني. ولم يكن له علة إلا النفاق. قال الله عز وجل: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] أي: في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن كيسان: أراد اعتلالهم بالباطل هو الفتنة لأنه الشرك والكفر. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] قال يمان: وهي محدقة بمن كفر بالله جامعة لهم. وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} [التوبة: 50] نصر وغنيمة، تَسُؤْهُمْ، وتحزنهم، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50] من القتل والهزيمة، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50] أي: قد عملنا بالحزم حين تخلفنا، فسلمنا مما وقعوا فيها، وَيَتَوَلَّوْا يعرضوا عن الإيمان، وَهُمْ فَرِحُونَ معجبون بما فعلوا. قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا} [التوبة: 51] قل لهم يا محمد لن يصيبنا خير وشر وشدة ورخاء {إِلا

مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] قضى الله لنا، وكتب في اللوح المحفوظ، هُوَ مَوْلانَا ناصرنا والذي يتولى حياطتنا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم على الرضا بتدبيره. 414 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عُتْبَةَ، سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ حَلْبَسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لا يَبْلُغُ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة: 52] أي: قل للمنافقين هل تنتظرون أن يقع بنا، {إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] إما الغنيمة والفتح، أو الشهادة والمغفرة. 415 - وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، أنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يَخْرُجُ إِلَّا إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} [التوبة: 52] قال ابن عباس: ننتظر بكم، {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة: 52] بقارعة من السماء كما أصاب الأمم الخالية، أَوْ بِأَيْدِينَا يأذن لنا ربنا في قتلكم فنقتلكم، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] فانتظروا مواعيد الشيطان إنا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه، قال الزجاج: يقول: أنتم تربصون بنا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم إحدى الشرين. {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ {53} وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا

وَهُمْ كَارِهُونَ {54} فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ {55} وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ {56} لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ {57} } قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53] نزلت في جد بن قيس حين قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائذن لي بالقعود وهذا مالي أعينك به. قال الزجاج، والفراء: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طائعين أو كارهين لن يتقبل منكم. قال ابن عباس: يريد أنه لا يتقبل من أعدائه صدقاتهم ونفقاتهم. {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] عاصين لله، على غير طريقة الإسلام. وقوله: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ: ويقبل بالياء لأن النفقة بمعنى الإنفاق فيكون كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، التقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله، وهذا يدل على أن الكافر لا يقبل منه عمل، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] جمع كسلان مثل سكران وسكارى، وذلك أنهم لا يرجون لها ثوابا وإن تركوها لم يخافون عليها عقابا، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] لأنهم يعدون الإنفاق مغرما. قوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} [التوبة: 55] يعني بالإعجاب السرور بما يتعجب منه، يقول: لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد فإن العبد إذا كان مستدرجا كثر ماله وولده. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] الكناية تعود إلى الأموال دون الأولاد، والمعنى: ليعذبهم بها، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله، والمصايب فيها، والتعب في جمعها، والوجل في حفظها، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] قال الزجاج: وتخرج أنفسهم وهم على الكفر. {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: 56] يحلفون بالله أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمنون، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] لأنهم يبطنون الكفر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] يخافون أن يظهر ما هم عليه، {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: 57] مكانا يتحصن فيه، قال ابن عباس: مهربا. أَوْ مَغَارَاتٍ وهو المكان الذي تغور فيه أن تستتر، من قولهم: غار الماء في الأرض. قال ابن عباس: يعني سراديب. أَوْ مُدَّخَلا أصله: مدتخل، فأبدلت التاء دالا وأدغم فيه الأول، قال قتادة: سربا. وقال الحسن: وجها يدخلونه. لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لرجعوا إليه وأدبروا إليه، وَهُمْ يَجْمَحُونَ مثل ما يجمح الفرس، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لا بصيرة لهم في الدين ولا احتساب، وإنما هم

كالمسخرين، حتى ولو وجدوا أحد هذه الأشياء لأسرعوا إليه طلبا للفرار. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ {58} وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ {59} إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {60} } [التوبة: 58-60] قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] يقال: لمزت الرجل ألمزه وألمزه. إذا عبته، وكذلك هَمَزْتُهُ، والهمزة واللمزة الذي يغتاب الناس ويغضّهم، أي: يعيبك في أمر الصدقات وتفريقها، ويطعن عليك فيها، يعني: المنافقين كانوا يقولون: لا يعطيها محمد إلا من أحب. 416 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ قَسْمًا، إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ وَهُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟» فَنَزَلَتْ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] الآيَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قال الضحاك: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، فكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه، وأما المنافقون فإن أعطوا كثيرا فرحوا، وإن أعطوا قليلا سخطوا، وذلك قوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة: 58] الآية. {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] أي: قنعوا بما قسم لهم رسول الله، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] ما نحتاج إليه، {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] في الزيادة، لكان خيرا لهم وأعود عليهم. وهذا جواب لو، وهو محذوف في اللفظ. ثم بين لمن الصدقات فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ يعني صدقات الأموال، لِلْفُقَرَاءِ

وَالْمَسَاكِينِ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن زيد: الفقير المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. وقال الأصمعي: الفقير الذي له ما يأكل، والمسكين الذي لا شيء له. وقال الشافعي، رضي الله عنه: الفقراء: الزمني الضعاف الذين لا حرفة لهم، وأهل الحرف الضعيفة الذين لا تقع حرفتهم من حاجتهم موقعا، والمساكين: السؤّال ممن لهم حرفة، فالفقير أشدهما حالا. وهذا قول قتادة، قال: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج، والفقير والمسكين الذي يجوز دفع الزكاة إليه: هو من لا يفي دخله بخرجه. قوله: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا يعني: السعاة، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أمثالهم، وقوله: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم قوم من أشراف العرب استألفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليردوا عنه قومهم، ويعينوه على عدوه، منهم: عباس بن مرداس، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كان يعطيهم سهما من الزكاة، وقد أغنى الله المسلمين عن ذلك، قوله: وَفِي الرِّقَابِ يعني: وفي فك الرقاب قال ابن عباس: يريد: المكاتبين. وسهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، وقوله: وَالْغَارِمِينَ وهم الذين لزمهم الديون في غير معصية ولا إسراف، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] يعني: الغزاة والمرابطين، ويجوز أن يعطى الغازي من الزكاة وإن كان غنيا إذا طلب، وقوله: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر المنقطع يأخذ من الصدقات وإن كان غنيا في بلده، قوله: فَرِيضَةً مِنَ الله يعني: أن الله افترض هذا على الأغنياء في أموالهم لهؤلاء وَالله عَلِيمٌ بخلقه، حَكِيمٌ فيما حكم فيهم. {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {61} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ {62} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ {63} يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ {64} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ {65} لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {66} } [التوبة: 61-66] وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] الآية: نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبلغون حديثه إلى المنافقين، ويقولون: نقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف ما قلنا فيصدقنا، لأنه أذن. فأنزل الله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] يعني من المنافقين من يؤذيه بنقل حديثه وعيبته، {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] يسمع من كل أحد ما

يقوله، قال الحسن: قالوا: ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه كيف شاء، ليست له عزيمة، فقال الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أي: مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد، وروى البرجمي: أذنٌ خير لكم بالتنوين على وصف الأذن بخير، ومعناه: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] أي: يسمع ما ينزله الله، فيصدقه، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه، أي: إنما يصدق المؤمنين لا المنافقين. قوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61] أي: وهو رحمة الله لأنه كان سبب إيمان المؤمنين، وقرأ حمزة: ورحمة بالجر عطفا على خير كأنه أذن خير ورحمة، أي: مستمع رحمة، ثم أوعد هؤلاء المنافقين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] . قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] أي: يحلف هؤلاء المنافقون فيما يبلغكم عنهم من أذى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن عليه أنهم ما قالوا ذلك، قال الزجاج: حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، ليرضوا المؤمنين بيمينهم. {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] أي: إن كانوا على ما قالوا من الإيمان كان ترك عيبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن عليه أولى ليكونوا مؤمنين بقبول قوله وترك عيبه، ثم أوعدهم بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63] قال ابن عباس: من يخالف الله ورسوله بتكذيب نبيه، والإظهار باللسان خلاف ما في القلب. والمحادة كالمجانبة والمخالفة، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن من عادى الله ورسوله استحق العذاب؟ وهو قوله: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] الآية. قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ الآية: قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بينهم، ويقولون: عسى الله ألا يفشي علينا سرنا، فأنزل الله هذه الآية. ومعنى يحذر المنافقون الإخبار عنهم بما كانوا يخافون من هتكهم وفضيحتهم، وهو قوله: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 64] أي: على المؤمنين {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64] بما في قلوب المنافقين من الحسد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعداوة للمؤمنين، وقوله: قُلِ اسْتَهْزِئُوا أمر وعيد، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} [التوبة: 64] مظهر مَا تَحْذَرُونَ ظهوره، ثم فعل ذلك بأن ألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرفتهم فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] . قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} [التوبة: 65] الآية: قال الكلبي، ومقاتل: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعا من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر يسيرون فجعل رجلان منهم يستهزئان بالقرآن، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثالث يضحك، فأطلع الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} [التوبة: 65] أي: في الباطل من الكلام كما يخوض الركب نقطع به الطريق، وَنَلْعَبُ، فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] . 417 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْزَقِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا أَبُو جَعْفَر بْن مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ الْمِخْرَاقِيُّ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَسِيرُ قُدَّامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحِجَارَةُ تَنْكِيهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]

قوله: لا تَعْتَذِرُوا أي: لا تأتون بعذر مما قلتم، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] قال الزجاج: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان. {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} [التوبة: 66] يعني الذي ضحك، قال محمد بن إسحاق: الذي عفا عنه رجل واحد يقال له مخشي بن حمير الأشجعي، أنكر عليهم بعض ما سمع، وجعل يسير مجانبا لهم، فلما نزلت هذه الآية برئ من النفاق. ويجوز أن يسمى الواحد طائفة كما يسمى الواحد باسم الجماعة، وقوله: نُعَذِّبْ طَائِفَةً يعني: الهازئين، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] بالاستهزاء. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {67} وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ {68} كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {69} أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {70} } [التوبة: 67-70] وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] قال ابن عباس: أي: على دين بعض. والمعنى: بعضهم مضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، وأن أمرهم واحد، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] عن اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان به، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن النفقة في سبيل الله تعالى، نَسُوا الله: تركوا ما أمرهم الله به من طاعته، فَنَسِيَهُمْ فتركهم من كل خير، وخذلهم في الشك، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] الخارجون عن أمر الله وطاعته، ثم ذكر ما وعدهم في الآخرة فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [التوبة: 68] الآية ظاهرة إلى قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة: 69] رجع من الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبههم في العدول عن أمر الله، والاشتغال بالدنيا، بمن قبلهم، والمعنى: أنتم كالذين من قبلكم، يعني الأمم الخالية، ثم وصفهم بقوله: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] يقول: رضوا بنصيبهم في الدنيا من أنصابهم في الآخرة، وفعلتم أيضا مثل ما فعلوه، وهو قوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كما فعلوا هم وَخُضْتُمْ في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا هم في الطعن على أنبيائهم، {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا} [التوبة: 69] لأنها لم تقبل منهم، وفي الآخِرَةِ لأنهم لا يثابون عليها، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] بفوت المثوبة والمصير إلى العقوبة، ثم خوفهم الله بإهلاك من كان قبلهم من الأمم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة: 70] من الأمم، قال الزجاج: ألم يأتهم خبر الذين أهلكوا في الدنيا بذنوبهم فيتعظوا، ثم ذكرهم إلى قوله: وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ قال ابن عباس: يريد: نمروذ بن كنعان. وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ يعني: قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، ومدين اسم بلدهم، وَالْمُؤْتَفِكَاتِ يعني قرى قوم لوط، جمع مؤتفكة، وهي المنقلبة، وتلك القرى انقلبت فصار أعلاها أسفلها، يقال: أفكه فائتفك. أي: قلبه فانقلب، أتت هؤلاء الأمم، رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ: فكذبوا بها {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [التوبة: 70] قال ابن عباس: ليهلكهم حتى يبعث إليهم نبيا لينذرهم. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] قال الزجاج: أخبر الله أن تعذيبهم كان باستحقاقهم. قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {72} } [التوبة: 71-72] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] قال ابن عباس: في الرحمة والمحبة. والمعنى: بعضهم يوالي بعضا، فهم يد واحدة في النصرة، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بكلمة: لا إله إلا الله، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] عن الشرك بالله، ثم ذكر سائر أوصافهم فقال وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إلى آخر الآية. قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [التوبة: 72] ، إلى قوله: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً قال ابن عباس: يريد: قصور الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام. 418 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْوَاعِظُ الصَّابُونِيُّ إِمْلاءً، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْفَقِيهُ، أنا أَبُو حَامِدٍ

مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، نا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] قال: «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَرِيرٌ، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْمَعَ» وقوله: جنات عدن يقال: عدن بالمكان يعدن عدونا. إذا أقام به، ومعنى جنات عدن: جنات إقامة، قال عطاء، عن ابن عباس: هي قصبة في الجنة، وسقفها عرش الرحمن. وقال الضحاك: هي مدينة الجنة، وفيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم، والجنات حولها. وقال مقاتل، والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله تعالى، حتى ينزلها أهل الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. 419 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ؟ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ خَمْسَةُ آلافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ وَهَنِيئًا لِصَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صِدِّيقٍ، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أَوْ شَهِيدٌ، وَأَنَّى لِعُمَرَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْ هَذَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسُوقَ إِلَيَّ الشَّهَادَةَ

وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم. وإنما صار الرضوان أكبر من الثواب لأنه لا يوجد شيء من الثواب إلا بالرضوان إذ هو الموجب له، وقال الحسن: لأن ما يصل إلى قلب المؤمن من السرور برضوان الله أكبر من جميع ذلك. 420 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَمِينُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةَ الْجَنَّةَ قَالَ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: رِضْوَانِي 421 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاسَرْجَسَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: لأَعْطِيَنَّكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ بَعْدَهُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ كِلاهُمَا، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ

{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {73} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {74} } [التوبة: 73-74] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] قال ابن عباس: أمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان. وقال ابن مسعود: يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وقوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد: شدة الانتهار، والنظر بالبغضة والمقت. وقال ابن مسعود: هو أن يكفهر في وجوههم. قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] لما بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المنافقين يسيئون فيه القول، ويطعنون فيه وفي القرآن، أنكر عليهم، فحلفوا: ما قالوا، فكذبهم الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74] يعني سبهم الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطعنهم في الدين، وقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] يعني: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجه يباهي به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم ينالوا ما هموا به، وقال الكلبي، والضحاك: هموا أن يفتكوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلا في مسيره في غزوة تبوك، فاعلمه الله ذلك، فأمر من نحاهم عن طريقه، وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74] قال ابن عباس: يريد: مما كانوا غنموا حتى صارت لهم العقد والأموال، وكانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضنك من عيشهم، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغنوا بالغنائم، وذكرنا معنى: نقم، عند قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] ، وقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية قام الجلاس بن سويد وكان ممن طعن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما قلته، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توبته. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا: يعرضوا عن الإيمان، قال ابن عباس: كما تولى عبد الله بن أبيّ. {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} [التوبة: 74] بالقتل وَفي الآخِرَةِ: بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] لا يتولاهم أحد من الأنصار، قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {77} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {78} } [التوبة: 75-78] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الآية:

422 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْجَوْنِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلامِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الأَنْصَارِيَّ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالا، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتَ أَنْ تَسِيلَ مَعِي الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَالَتْ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالا لأُوتِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالا فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودَ فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ غَنَمًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِ، فَقَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ ثَلاثًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآيَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلانٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلاهُ الصَّدَقَةَ وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا، ثُمَّ تَعُودَانِ إِلَيَّ، فَانْطَلَقَا وَأَخْبَرَا السُّلَمِيَّ فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالا: مَا يَجِبُ هَذَا عَلَيْكَ وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ هَذَا مِنْكَ، قَالَ: بَلْ خُذُوهُ فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا أَنْظُرُ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ انْطَلِقَا حَتَّى أُرَى رَأْيٌ فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُمَا، قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلْمُسْلِمِينَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إِلَى قَوْلِهِ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ، فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ وَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ "، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعِي فِي الأَنْصَارِ فَاقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقْبَلُهَا؟ فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَبُو بَكْرٍ، فَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَقُبِضَ عُمَرُ ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ عُثْمَانُ، وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ

قوله: ومنهم أي: من المنافقين، {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] أي قال: على عهد الله، {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] مالا لنصدقن لنعطين الصدقة، {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير، {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 76] ما طلبوه من المال بَخِلُوا بِهِ ولم يفوا بما عاهدوا، وهو قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي: عن عهدهم مع الله بالصدقة والإنفاق، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] صير عاقبة أمرهم النفاق، يقال: أعقبت فلانا ندامة. أي: صيرت عاقبة أمره ذلك، وقال مجاهد: أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس. وقوله: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] دليل على أنه مات منافقا، بإخلافه وعد الله، وكذبه في عهده، وهو قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، ثم ذكر أنه مطلع على سرائرهم فقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] الآية. {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {79} اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {80} } [التوبة: 79-80] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة: 79] الآية: قال قتادة: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله يتقرب به إلى الله، فقال: يا نبي الله، هذا نصف مالي قد آتيتك به، وتركت نصفه لعيالي. فدعا الله له أن يبارك له فيما أمسك وفيما أعطى، فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى هذا إلا رياء وسمعة. وأقبل رجل من المسلمين يقال له: الحبحاب أبو عقيل، فقال: يا رسول الله، بت أجر بالجرير على صاعين من تمر، فأما صاع فأمسكته لأهلي وأما صاع فهو ذا. فلمزه المنافقون وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل. فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي: يعيبون ويغتابون، المطوعين الذين يعطون ما ليس بواجب عليهم تطوعا، {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] يعني: أبا عقيل، والجهد الطاقة، قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المُقِلُّ، وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] أي: جازاهم جزاء سخريتهم حيث صاروا إلى النار.

423 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ، حَدَّثَنِي سُوَيْدٌ أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا " قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قد خيرني في الاستغفار للمنافقين، وسأزيد على السبعين لعل الله أن يغفر لهم» . فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية، وذكر السبعين حصر لهذا العدد، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «والله لأزيدنهم على السبعين؟» . {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ {81} فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {82} فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ {83} وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ {84} وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ {85} } [التوبة: 81-85] قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فالمخلف المتروك خلف من مضى، وقوله: بِمَقْعَدِهِمْ أي: بقعودهم، والمقعد ههنا مصدر بمعنى القعود، خلاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الزجاج، وقطرب، والمؤرج: مخالفة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سار، وأقاموا. وقال أبو عبيدة، والأخفش: خِلافَ رسول

الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: بعده. {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك، {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] يعلمون أن مصيرهم إليها، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا في الدنيا لأن الدنيا تفنى وتنقطع، وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا في النار بكاء لا انقطاع له، قال الحسن: هذا وعيد من الله لهم. وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا، فلا يرقأ لهم دمع، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت. وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] أي: في الدنيا من النفاق والتكذيب، {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83] قال ابن عباس: إن ردك الله إلى المدينة. {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] يعني المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى الغزو، {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83] إلى غزاة، {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] من أهل الكتاب، {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} [التوبة: 83] عني، أَوَّلَ مَرَّةٍ حين لم تخرجوا إلى تبوك، {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83] قال الحسن، والضحاك، وقتادة: يعني: النساء والصبيان، وهم الذين يخلفون الذاهبين إلى السفر، يقال: خلفه يخلفه. إذا قام بعده. قوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] 424 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَخُو ابْنِ اللَّيْثِ، نا السَّكُونِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ " قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] الآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قال الزجاج: إنما أجاز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة عليه لأن ظاهره كان الإسلام، فأعلمه الله أنه إذا علم منه النفاق فلا صلاة عليه. وقوله: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له، فنهى عن ذلك في حق المنافقين لأنهم كفرة، وهو قوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84] الآية. {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} [التوبة: 85] تقدم تفسيره في هذه ال { [.

] وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ {87} لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {88} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {89} } [سورة التوبة: 86-89] قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 86] أي: بأن آمنوا، ومعناه بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله، اسْتَأْذَنَكَ في التخلف عنك، {أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86] يعني أهل الغنى والسعة في المال، يعني: الذين لا عذر لهم في التخلف، {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 86-87] قال المفسرون: يعني النساء اللاتي يخلفن في البيوت فلا يبرحن. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87] قال ابن عباس: بالنفاق كقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] ، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87] لا يعلمون أمر الله، ثم أثنى على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين الذين جاهدوا معه بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 88] ، إلى قوله: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} [التوبة: 88] قال الأخفش، وأبو عبيدة، والمبرد: الخيرات جمع خيرة، وهن الجواري الفاضلات الحسان. وذكر في الآية الثانية ما وعدهم، فقال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [التوبة: 89] الآية. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90] وقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 90] قال الفراء، والزجاج، وابن الأنباري: أراد: المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال. قال محمد بن إسحاق: هم أعراب من بني غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله. وقال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئا: جاء قوم فعذروا، وجنح آخرون فقعدوا. يرد أن قوما تكلفوا عذرا بالباطل، فهم الذين عناهم الله بقوله: وجاء المعذرون، وتخلف آخرون من غير تكلف عذر وإظهار علة، جرأة على الله ورسوله، وهو قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] يعني: لم يصدقوا في إيمانهم، وهم المنافقون ثم أوعدهم بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 90] الآية. {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {91} وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ

قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ {92} } [التوبة: 91-92] قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} [التوبة: 91] يعني الزمني والمشايخ والعجزة، {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] جمع مريض، {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91] يعني المقلين، {حَرَجٌ} [التوبة: 91] ضيق في القعود عن الغزو، {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] إذا أخلصوا إيمانهم وأعمالهم من الغش والنفاق، ولم يغتنموا عذرهم بل يتمنون أن لم يكن لهم عذر، فيتمكنوا من الجهاد، وهم الذين أرادهم الله بقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] أي: طريق بالعقوبة لأنه قد سد بإحسانه طريق العذاب على نفسه، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] لمن كان محسنا. قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] هؤلاء نفر من قبائل شتى سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحملهم على الخفاف والنعال ليغزوا، وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أجد ما أحملكم عليه» . لأن الشقة بعيدة والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه، وبعير يحمل ماءه وزاده، فانصرفوا وهم يبكون، وهو قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] أي: جرت أعينهم عن امتلاء من حزن في قلوبهم لعدم النفقة. {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {91} وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ {92} } [التوبة: 91-92] قوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقوبة، {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] في التخلف، وَهُمْ أَغْنِيَاءُ موسرون، وباقي الآية فسرناه آنفا، قوله: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ بالأباطيل، {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94] من غزوة تبوك، {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94] لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] فيما تستأنفون من النفاق تبتم أم أقمتم عليه، ثُمَّ تُرَدُّونَ للجزاء، {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة: 94] إلى من يعلم ما غاب عنا من ضمائركم، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] فيخبركم بما كنتم تكتمون من النفاق. قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} [التوبة: 95] رجعتم، إِلَيْهِمْ أي: أنهم ما قدروا على الخروج لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم، وتتركوا لومهم، فقال الله تعالى: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ اتركوا كلامهم وسلامهم، إِنَّهُمْ رِجْسٌ إن عملهم قبيح من عمل الشيطان، يَحْلِفُونَ لَكُمْ يعني المنافقين، لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ وذلك أن عبد الله بن أبيّ حلف ألا يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطلب أن يرضى عنه، وحلف

ابن أبي سرح لعمر بن الخطاب، وطلب أن يرضى عنه، فقال الله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] بحلفهم، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96] قال ابن عباس: يريد الذين ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم. {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {97} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {98} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {99} } [التوبة: 97-99] قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد، وغطفان، وأعراب من حول المدينة. أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر، وَأَجْدَرُ وأولى، {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] يعني: الحلال والحرام والفرائض، وَالله عَلِيمٌ بما في قلوب خلقه، حَكِيمٌ فيما يفرض من فرائضه. قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ} [التوبة: 98] في الجهاد، مَغْرَمًا لأنه لا يرجو له ثوابا، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت أو قتل، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] يدور عليهم البلاء والحزن فلا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم، والسوء بالفتح: الرداءة والفساد، وبالضم: الضرر والمكروه، وَالله سَمِيعٌ لقولهم، عَلِيمٌ بنياتهم. قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 99] قال ابن عباس: يعني: من أسلم من أعراب أسد، وجهينة، وغفار. {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 99] يتقرب بإنفاقه إلى الله، وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ يعني: دعاءه بالخير والبركة، قال عطاء: يرغبون في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة: 99] قال ابن عباس: يريد: نور لهم ومكرمة عند الله. يعني صلوات الرسول، والقربة: ما يدني من رحمة الله، وقرأ نافع بضم الراء وهو الأصل، ثم خفف كالكتب والرسل، ولا يجوز أن يكون الأصل التخفيف، ثم يثقل، {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} [التوبة: 99] في جنته، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [التوبة: 99] لذنوبهم، {رَحِيمٌ} [التوبة: 99] بأوليائه وأهل طاعته. {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] قال أبو موسى، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وابن

سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال عطاء: هم الذين شهدوا بدرا. وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان. وقد فسرت الآية على أن المراد بها جميع الصحابة الذين أدركوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصل لهم السبق بإدراكه وصحبته. وذلك ما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد التميمي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، نا الوليد بن أبان، نا الفضل بن حماد، نا عبد الله بن صالح، حدثني خالد بن حميد، عن أبي صخر حميد بن زياد، قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي يوما: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كان من رأيهم؟ وإنما أريد الفتن. فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم، ومسيئهم. قلت: في أي موضع أوجب لهم الجنة في كتابه؟ فقال: سبحان الله، ألا تقرأ قوله تعالى: والسابقون الأولون إلى آخر الآية، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه عليهم. قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بأعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم اقرأها قط، وما عرفت تفسيرها حتى قرأ علي محمد بن كعب. 425 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن الأَشَجِّ، عَنْ وَكِيعٍ 426 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، نا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، نا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ يَزِيدَ الْبَهِيِّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «

اللَّهُمَّ إِنَّكَ بَارَكْتَ لأُمَّتِي فِي صَحَابَتِي فَلا تَسْلِبْهُمُ الْبَرَكَةَ، وَبَارَكْتَ لأَصْحَابِي فِي أَبِي بَكْرٍ فَلا تَسْلِبْهُ الْبَرَكَةَ، وَاجْمَعْهُمْ عَلَيْهِ وَلا تَنْشُرْ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُؤْثِرُ أَمْرَكَ عَلَى أَمْرِهِ، اللَّهُمَّ وَأَعِزَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَصَبِّرْ عُثْمَانَ، وَوَفِّقْ عَلِيًّا، وَاغْفِرْ لِطَلْحَةَ، وَثَبِّتِ الزُّبَيْرَ، وَسَلِّمْ سَعْدًا، وَوَفِّقْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأَلْحِقْ بِي السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ» وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] قال ابن عباس: والذين اتبعوهم على دينهم من أهل الإيمان إلى أن تقوم الساعة. وقال عطاء: يريد: يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم، ويذكرون محاسنهم. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100] أعمالهم، وَرَضُوا ثواب الله، قال الزجاج: رضي أفعالهم، ورضوا بما جازاهم به. {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة: 101] يعني مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفارا، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] من الأوس والخزرج منافقون، {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] يقال: مرد يمرد مردا فهو مارد ومريد. إذا أعتى وطغى، وقال الفراء: يريد: مرنوا عليه. وقال محمد بن إسحاق: لجوا فيه، وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه، ولم يتوبوا. لا تَعْلَمُهُمْ أنت يا محمد، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] قال السدي، والكلبي: أول العذاب أنه أخرجهم من المسجد، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطيبا يوم الجمعة، فقال: «يا فلان، أخرج فإنك منافق» . فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم، والعذاب الثاني: عذاب القبر. وقال مجاهد: بالقتل والسبي وعذاب القبر. وروى خصيف عنه قال: عذبوا بالجزع مرتين. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] قال: عذاب جهنم. {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {102} خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {103} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {104} وَقُلِ اعْمَلُوا

فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {105} } [التوبة: 102-105] قوله: وَآخَرُونَ أي: ومن أهل المدينة آخرون اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أقروا بها عن معرفة، نزلت في قوم من المؤمنين كانوا تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك وتذمموا، وقوله: {خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] يعني: غزوهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقاعدهم عن غزوة تبوك، عَسَى الله واجب من الله، {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] قال أبو عثمان النهدي: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية. 427 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أنا أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، نا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَوْفٌ، نا أَبُو رَجَاءٍ، نا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقِعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا، فَذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالا لِي: إِنَّ هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ " قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] قال المفسرون: لما عذر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هؤلاء، قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفَتْنا عنك فتصدق بها عنا، وطهرنا، واستغفر لنا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» . فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلث أموالهم. قال الحسن: هذه الصدقة هي كفارة الذنوب التي أصابوها، وليست بالزكاة المفروضة. وقال عكرمة: هي صدقة الفرض. وقوله: تُطَهِّرُهُمْ قال ابن عباس: تطهرهم من الذنوب. وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ترفعهم بهذه الصدقة، من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي: أدع لهم، {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] إن دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه، وقال الكلبي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، وَالله سَمِيعٌ لقولهم، عَلِيمٌ بندامتهم. 428 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ مَطَر، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ» فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَوْضِي، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ وَكِيع كِلاهُمَا، عَنْ شُعْبَة

ولما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] يقبلها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104] يرجع إلى من رجع إليه بالرحمة والمغفرة. 429 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا كَمِثْلِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ» ثُمَّ قَرَأَ {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: يا معشر عبادي المحسن والمسيء، {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] يريد: إن الله يطلع المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشر، إن كان خيرا أوقع في قلوبهم لهم المحبة، وإن كان شرا أوقع في قلوبهم لهم البغضة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» . وقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] قال ابن عباس، رضي الله عنه: يقفكم على أعمالكم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106] قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] نزلت في كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، كانوا مياسير تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل غيرهم، فوقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم، ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم حتى نزل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية، وسنذكر قصتهم هناك، ومعنى {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] مؤخرون ليقضي الله فيهم ما هو قاض، وهو قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] قال الزجاج: إما لأحد الشيئين، والله عز وجل عالم بما يصير إليه أمرهم إلا أنه خاطب العباد بما يعلمون. والمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء، فقال ناس: إنهم هلكوا إذ لم ينزل لهم عذر. وقال آخرون: عسى الله أن يغفر لهم. قوله: وَالله عَلِيمٌ أي: بما يئول إليه حالهم، حَكِيمٌ فيما يفعله بهم.

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {107} لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109} لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {110} } [التوبة: 107-110] وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] قال المفسرون: هؤلاء كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء، منهم: وديعة بن ثابت، وخزام بن خالد، وجارية بن عامر، ونبتل بن الحارث، وزيد بن جارية، وعثمان بن حنيف، وجارية بن عامر مجمع بن جارية، وبجاد بن عثمان، والضرار: محاولة الضر، قال الزجاج: وانتصب ضرارا لأنه مفعول له، والمعنى: اتخذوه للضرار. قال ابن عباس: ضرارا للمؤمنين، وكفرا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به. وذلك أنهم اتخذوا ذلك المسجد ليكفروا فيه بالطعن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإسلام، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الافتراق واختلاف الكلمة، وقوله: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] يعني: أبا عامر الراهب، وكان قد خرج إلى الشام ليأتي بجند من عند قيصر ليحارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجدا، فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، قال الزجاج: والإرصاد: الانتظار. وقوله: مِنْ قَبْلُ يعني: من قبل بناء مسجد الضرار، {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} [التوبة: 107] يحلف المنافقون ما أردنا ببنيانه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن السير إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنهم قالوا: إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] فيما قالوا وحلفوا، ولما فرغوا من بناء المسجد قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحب أن تأتينا وتصلي لنا فيه، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقميصه ليأتيهم، فأنزل الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] قال ابن عباس: لا تصل فيه أبدا. ثم بين أي المسجدين أحق بالقيام فيه، فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108] بني على الطاعة وبناه المتقون، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وهو مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة في قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو مسجد قباء، وهو قول قتادة، وسعيد بن

المسيب، وقوله: فِيهِ رِجَالٌ يعني من الأنصار، {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قال جميع المفسرين: يعني: غسل الأدبار بالماء. 430 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي عُتْبَةُ ابْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَتَوَضَّأُ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ؟ قَالُوا: لا غَيْرَ أَنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، وَقَالَ: هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ " قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] أي: من الشرك والأنجاس والأقذار والنفاق، وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 109] البنيان: مصدر يراد به المبنى ههنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أُسس بضم الألف بنيانُه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خَيْرٌ؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا، وهار مقلوب من هاير، يقال: هار الجرف يهور. إذا انشق من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه فهو هاير، ثم يقلب فيقال: هار، قال الزجاج: المعنى: أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أسس بنيانه على الكفر. يعني: أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارا كبناء على حرف جهنم يتهور بأهله فيها، وهو قوله: فَانْهَارَ بِهِ أي: بالباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109] قال ابن عباس: يريد: صيرهم النفاق إلى النار. وقوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] قال الضحاك: يقول: لا يزالون في شك منه إلى الموت. والمعنى: أنهم لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين إلى الممات، وهو قوله: {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] أي: حتى تقطع

وتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة: تقطع بفتح التاء بمعنى تتقطع، وهذا يدل على أنهم يموتون على النفاق، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان وأخذوا به من الكفر. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112} } [التوبة: 111-112] قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية: قال القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة بمكة، وهم سبعون نفسا، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية، ومعنى هذا: أن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه، أو أنفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل، فجعل هذا اشتراء، هذا معنى قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] قال ابن عباس: يريد: بالجنة. قال الحسن: اسعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن. وقال قتادة: ثامنهم فأغلى ثمنهم. وقوله: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال ابن عباس: يقتلون أعدائي ويقتلون في طاعتي. وقرأ حمزة: فَيُقْتُلُونَ وَيَقْتَلُونَ وهذا كالذي تقدم لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} [التوبة: 111] يعني: أن الله وعدهم هذا الوعد، وبين ذلك في هذه الكتب التي أنزلها، ثم قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] فافرحوا بهذا البيع أيها المؤمنون وهو أنكم إذا بذلتم أنفسكم وأموالكم في الجهاد أخذتم من الله الجنة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] . قوله: التَّائِبُونَ قال الفراء: استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام فحسن الاستئناف. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر، المعنى: التائبون إلى آخر الآية لهم الجنة

أيضا، أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنة أيضا. وهذا الذي قاله الزجاج حسن: لأنه وعد لجميع المؤمنين بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، قال ابن عباس: التائبون: الراجعون عن الشرك. وقال قتادة: التائبون من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام. الْعَابِدُونَ الذين يرون عبادة الله تعالى واجبة عليهم، الْحَامِدُونَ الله على كل حال، السَّائِحُونَ قال عامة المفسرين: الصائمون، قال الوالبي، عن ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سياحة أمتي الصيام» . قال الحسن: هذا صوم الفرض. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ قال ابن عباس: الذين يصلون لله بنية صادقة. الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإسلام وفرائض الله وحدوده، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] عن ترك حدود الله وفرائضه، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] قال الزجاج: القائمون بأمر الله. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {113} وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ {114} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {115} إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {116} } [التوبة: 113-116] قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113] الآية: 431 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: " أَيْ عَمِّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى

قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَسْتَغْفِرَنَّ عَنْكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ كِلاهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ 432 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ فِي الْمَقَابِرِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلا، ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاكِيًا، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟ فَقَدْ أَبْكَانَا وَأَفْزَعَنَا فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ: " أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فِيهِ وَنَزَلَ عَلَيَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا فَأَخَذَنِي مَا أَخَذَ الْوَلَدُ لِلْوَالِدَةِ مِنَ الرِّقَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي " ومعنى قوله: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] من بعد ما بان لهم أنهم ماتوا كافرين، ثم أعلم الله تعالى كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] قال عطاء عن ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله فترك الدعاء له. وعلى هذا القول الكناية في إياه تعود إلى إبراهيم، والواعد أبوه، ويجوز أن يعود إلى أب إبراهيم، ويكون الواعد إبراهيم، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وأن ينقل الله أباه باستغفاره له من الكفر إلى الإسلام، فلما مات مشركا، ويئس من مراجعته الحق، تبرأ منه وقطع الاستغفار له، والدليل على صحة هذا قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء وهذا الوعد من إبراهيم ظاهر في قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] ، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} [التوبة: 114] قال ابن عباس: الأواه: الدعاء الكثير الدعاء والبكاء. قال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، يقال: تأوه الرجل تأوها، وأوه تأويها إذا قال آه. للتوجع. ومنه قول المثقب العبدي:

إذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين وقوله: حَلِيمٌ قال ابن عباس: لم يعاقب أحدا إلا في الله، ولم يقتص من أحد إلا لله. قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115] أي: ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، وذلك أنه لما حرم الاستغفار للمشركين على المؤمنين، بين أنه لم يكن الله ليأخذهم به قبل أن يبين تحريمه، فإذا لم يحرموه عند ذلك يستحقون الإضلال، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {117} وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {118} } [التوبة: 117-118] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة: 117] يعني: من إذنه للمنافقين في التخلف، وذكرنا ذلك عند قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] ، وقوله: وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يعني من هم منهم بالتخلف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ساروا معه إلى تبوك، {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] يعني: عسرة الظَّهْر وعسرة الماء وعسرة الزاد، كان العشرة يخرجون على بعير يتعقبونه وربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها بينهم، وكانوا يعصرون الفرث ويشربونه من العطش، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] يميل بعضهم إلى التخلف والعصيان، قال الكلبي: هَمَّ ناس من المسلمين بالتخلف ثم لحقوه. وقال الزجاج: من بعد ما كادوا ينصرفون عن غزوتهم للشدة، ليس أنه زائغ عن الإيمان. وقرأ حمزة يزيغ بالياء، قال الفراء: الفعل المسند إلى المؤنث إذا تقدم عليه جاز تذكيره وتأنيثه، فذكر يزيغ كما ذكر كاد لتشابه الفعلين، وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 117] كرر ذكر التوبة لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم الله تعالى ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة. وقوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قال ابن عباس، ومجاهد: خلفوا عن التوبة عليهم. وهؤلاء هم المعنيون بقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] . 433 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قَالَ: هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ

وأما قصة توبة الله على هؤلاء فهي ما 434 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعَرُوضِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْبَيْهَقِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يَعْقُوبُ، نا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، وأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ السَّقَطِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذَرٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، نا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا صَالِحُ بْنُ أَبِي الأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وأَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: " لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ إِلَّا بَدْرًا، وَلَمْ يُعَاتِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغِيثِينَ لِعِيرِهِمْ فَالْتَقَوْا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلَى

الإِسْلامِ ثُمَّ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الظِّلالُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَقَلَّ مَا أَرَادَ غَزْوًا، إِلَّا وَارَى خَبَرَهَا وَيَقُولُ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ النَّاسُ أُهْبَتَهُمْ، وَأَنَا أَيْسَرُ مَا كُنْتُ قَدْ جَمَعْتُ رَاحِلَتَيْنِ، وَأَنَا أَقْدَرُ شَيْءٍ فِي نَفْسِي عَلَى الْجِهَادِ وَخِفَّةِ الْحَاذ ِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ أَصْغُو إِلَى الظِّلالِ وَطِيبِ الثِّمَارِ فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَادِيًا بِالْغَدَاةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَأَصْبَحَ غَادِيًا، قُلْتُ: أَنْطَلِقُ غَدًا إِلَى السُّوقِ فَأَشْتَرِي جِهَازِي ثَمَّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَانْطَلَقْتُ إِلَى السُّوقِ مِنَ الْغَدِ فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَلْحَقُ بِهِمْ فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي أَيْضًا فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى الْتَبَسَ بِي الذَّنْبُ وَتَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَأَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ فَيُحْزِنُنِي أَنَّنِي لا أَرَى أَحَدًا إِلَّا رَجُلا مَغْمُوضًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ وَكَأَنَّ لَيْسَ أَحَدٌ تَخَلَّفَ إِلَّا رَأَى أَنَّ ذَلِكَ سَيُغْفَرُ لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ كَثِيرًا لا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَثَمَانِينَ رَجُلا، وَلَمْ يَذْكُرْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ قَالَ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي: خَلَّفَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بُرْدَاهُ وَالَّنَظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ هُمْ بِرَجُلٍ يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلْتُ أَتَذَكَّرُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي حَتَّى إِذَا قِيلَ: هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَبِّحُكُمْ بِالْغَدَاةِ زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لا أَنْجُو إِلَّا بِالصِّدْقِ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ مِنْ سَفَرٍ فَعَلَ ذَلِكَ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ يَأْتِيهِ مَنْ تَخَلَّفَ فَيَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، وَيَقْبَلُ عَلانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَآنِي تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرًا؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَمَا خَلَّفَكَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ بَيْنَ يَدَيَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرَكَ جَلَسْتُ لَخَرَجْتُ مِنْ سَخَطِهِ عَلَيَّ بِعُذْرٍ لَقَدْ أُوتِيتُ جَدَلا وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَنِّي إِنْ أُخْبِرْكَ الْيَوْمَ بِقَوْلٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ وَهُوَ حَقٌّ فَإِنِّي أَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثًا تَرْضَى عَنِّي فِيهِ وَهُوَ كَذِبٌ، أَوْشَكَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَيْسَرُ وَلا أَخَفُّ حَاذًا مِنِّي حَيْثُ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمُ الْحَدِيثَ قُمْ عَنِّي حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ فَثَارَ عَلَى أَثَرِي نَاسٌ مِنْ قَوْمِي يُؤَنِّبُونَنِي فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا فَهَلَّا اعْتَذَرْتَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُذْرٍ يَرْضَى عَنْكَ فِيهِ؟ وَكَانَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَأْتِي مِنْ وَرَاءِ ذَنْبِكَ، وَلَمْ تُقِفْ نَفْسَكَ مَوْقِفًا لا تَدْرِي مَاذَا يَقْضِي لَكَ فِيهِ فَلَمْ يَزَالُوا يُؤَنِّبُونِي، حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي فَقُلْتُ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، فَذَكَرُوا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدُوا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا أَبَدًا وَلا أُكَذِّبُ نَفْسِي، قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلامِ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلامَنَا، وَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونُ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلا يُصَلِّي عَلَيَّ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ حَتَّى مَا هُمْ بِالَّذِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الأَرْضُ حَتَّى مَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَكُنْتُ أَقْوَى أَصْحَابِي فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَآتِي الْمَسْجِدَ فَأَدْخُلُ وَآتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالسَّلامِ؟ فَإِذَا قُمْتُ أُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ نَظَرَ إِلَيَّ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ أَعْرَضَ عَنِّي وَاسْتَكَانَ صَاحِبَايَ فَجَعَلا يَبْكِيَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يُطْلِعَانِ رُءُوسَهُمَا. قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ بِالسُّوقِ إِذَا بِرَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ

مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ فَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ وَلَسْتَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ وَلا هَوَانٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ وَالشَّرِّ فَسَجَرْتُ التَّنُّورَ وَأَحْرَقْتُهَا فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَقَالَ: اعْتَزِلِ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا؟ قَالَ: لا وَلَكِنْ لا تَقْرَبَنَّهَا فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَعِيفٌ فَهَلْ تَأْذَنْ لِي أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ لِشَيْءٍ مَا زَالَ مُكِبًّا يَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْبَلاءُ اقْتَحَمْتُ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ حَائِطَهُ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى قُلْتُ ثَلاثًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ ثُمَّ اقْتَحَمْتُ مِنَ الْحَائِطِ خَارِجًا حَتَّى مَضَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا فَصَلَّيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا صَلاةَ الْفَجْرِ ثُمَّ جَلَسْتُ وَأَنَا بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْنَا أَنْفُسُنَا إِذْ سَمِعْتُ نِدَاءً مِنْ ذَرْوَةِ سَلْعٍ أَنْ أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِالْفَرَجِ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسٍ يُبَشِّرُنِي فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعُ مِنْ فَرَسِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبِي بِشَارَةً وَلَبِسْتُ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ، قَالَ: وَكَانَتْ تَوْبَتُنَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُبَشِّرُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ؟ فَقَالَ: إِذَنْ يُحَطِّمُكُمُ النَّاسُ وَيَمْنَعُوكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلِ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي تَحْزَنُ لأَمْرِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ بِالأَمْرِ اسْتَنَارَ فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِكَ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 117] الآيات، وفينا أنزلت أيضا {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أَمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ قَالَ: فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ نِعْمَةً بَعْدَ الإِسْلامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ، وَأَلَّا نَكُونَ كَذَبْنَا فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ اللَّهُ أَبْلَى أَحَدًا فِي الصِّدْقِ مِثْلَ الَّذِي أَبْلانِي، مَا تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَةَ بَعْدُ وَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ " قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] قال المفسرون: ضيق الأرض عليهم بأن المؤمنين

منعوا من كلامهم ومعاملاتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرضا عنهم. وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118] يعني: ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها، وَظَنُّوا أيقنوا، {أَنْ لا مَلْجَأَ} [التوبة: 118] لا معتصم مِنَ الله من عذاب الله، إِلا إِلَيْهِ الآية، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] إعادة للتوكيد لأن ذكر التوبة على هؤلاء قد مضى في قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ، ومعنى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] لطف لهم في التوبة ووفقهم لها. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {119} مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {120} وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {121} وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {122} } [التوبة: 119-122] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] روينا أن هذه الآية نازلة في كعب بن مالك وصاحبيه، وقال الكلبي، ومقاتل: يعني: مؤمني أهل الكتاب يأمرهم بالجهاد وأن يكونوا مع المهاجرين، وسمى الله المهاجرين في هذه السورة صادقين. وقال نافع: يريد بالصادقين محمدا والأنبياء. وقال الزجاج: والمعنى: على أنهم أمروا بأن يكونوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشدة والرخاء. 435 - أَخْبَرَنَا أَحَمْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَرَّاقُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ الْكَذِبَ لا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلا هَزْلٌ وَلا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا، ثُمَّ لا يُنْجِزَهُ لَهُ اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ رُخْصَةً فِي الْكَذِبِ؟

وقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 120] قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار. {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة يغزوها، {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] ولا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحر والمشقة، يقال: رغبت بنفسي عن هذا الأمر. أي: ترفعت عنه، ذَلِكَ أي: ذلك النهي عن التخلف، {بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] وهو شدة العطش، وَلا نَصَبٌ إعياء وتعب، {وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] مجاعة في طاعة الله، {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] ولا يقفون موقفا ولا يضعون قدما في موضع يغضب الكفار، {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا} [التوبة: 120] أسرا وقتلا وهزيمة، قليلا ولا كثيرا إلا كان ذلك قربى لهم عند الله، وهو قوله: {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] قال عطية العوفي: في الآية من الفقه أن من قصد طاعة كان قيامه وقعوده ونصبه ومشيه وحركاته كلها حسنات مكتوبة له وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية. وقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [التوبة: 121] قال ابن عباس: تمرة فما فوقها. وَلا يَقْطَعُونَ ولا يجاوزون وَادِيًا في مسيرهم مقبلين ولا مدبرين، {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] آثارهم وخطاهم، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ} [التوبة: 121] أي: بأحسن {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] . قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] قال المفسرون: لما عيب من تخلف عن غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن سرية أبدا. فلما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسراية إلى العدو نفر المسلمون جميعا إلى الغزو، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وحده، فأنزل الله هذه الآية، وهذا نفي معناه: النهي لهم عن الخروج إلى العدو جميعا. وقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] يعني: الفرقة القاعدين يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم: إن الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه فتتعلمه السرايا، فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فلا يعملون بخلافه. وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {123} وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ {125} أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ {126} وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {127} } [التوبة: 123-127] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] يريد الذين يقربون منكم، قال ابن

عباس: أمروا أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوهم مثل قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك. {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] قال ابن عباس: شجاعة. وقال مجاهد: شدة. وقال الحسن: صبرا منكم على الجهاد. وقال الضحاك: عنفا. {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} [التوبة: 124] من المنافقين {مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزوا، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] قال ابن عباس: تصديقا ويقينا وقربة من الله. وذلك إنهم إذا أقروا بال { [عن ثقة ازدادوا تصديقا إلى ما كانوا عليه من التصديق، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول السورة،] وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة التوبة: 125] شك ونفاق، {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] كفرا إلى كفرهم لأنهم كلما كفروا ب { [ازداد كفرهم، قوله: أَوَلا يَرَوْنَ من قرأ بالتاء فهو خطاب للمؤمنين، ومن قرأ بالياء فهو تقريع للمنافقين بالإعراض عن التوبة، وقوله:] أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} [سورة التوبة: 126] الآية، أي: يمتحنون بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت، {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} [التوبة: 126] من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض، وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} [التوبة: 127] الآية: قال ابن عباس: كان إذا أنزلت { [فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم فنظر بعضهم إلى بعض يريدون الهروب من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: هل يراكم من أحد من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وذلك قوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا، قال الحسن: ثم انصرفوا على عدم التكذيب بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به. وقال الزجاج: وجائز أن يكونوا ينصرفون عن المكان الذي استمعوا فيه. ] صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة التوبة: 127] عن كل خير ورشد وهدى، ذلك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] عن الله دينه، قال الزجاج: أي: أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {128} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} } [التوبة: 128-129] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال ابن عباس: يريد محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدته وله

فيهم نسب. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] شديد عليه عنتكم وهو لقاء الشدة والمشقة بدخول النار، والمعنى: شديد عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان، يقال: عنت الرجل يعنت عنتا. إذا وقع في مشقة، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ على إيمانكم، على أن تؤمنوا، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] قال ابن عباس: سماه الله باسمين من أسمائه. فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان بك، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] خص العرش بالذكر لأنه الأعظم فيدخل فيه الأصغر. 436 - نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيُّ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قَرَأَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ الأَصَمِّ، عَنْ بَكَّارِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْعقَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ

سورة يونس

سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة 437 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ الزَّاهِدُ الْعَدْلُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا الْمَدِينِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يُونُسَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِيُونُسَ وَكَذَّبَ بِهِ وَبِعَدَدِ مَنْ غَرِقَ مَعَ فِرْعَوْنَ» {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {1} أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ {2} إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {3} إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ {4} هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5} إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ {6} } بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر} [يونس: 1] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أنا الله الرحمن. وعنه أيضا: أنا الله أرى. {تِلْكَ

آيَاتُ الْكِتَابِ} [يونس: 1] قال: يريد: هذه الآيات التي أنزلت على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات الكتاب الْحَكِيمِ يعني: القرآن المحكم من الباطل، أي: الممنوع من الفساد لا كذب فيه ولا اختلاف، قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} [يونس: 2] الآية: قال المفسرون: عجبت قريش من إرسال الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى العباد، وقالوا: أما وجد الله من يرسله إلينا إلا يتيم أبي طالب؟ فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} [يونس: 2] والألف في أكان للتوبيخ والإنكار، {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2] يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفون أباه وأمه، {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2] يعني: أهل مكة، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] قال مجاهد، والحسن: يعني: الأعمال الصالحة يقدمون عليها. وقال الوالبي، عن ابن عباس: يقول: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول. أخبرنا نصر بن أبي نصر الواعظ، أنا عبد الله بن محمد بن نصير، أنا محمد بن أيوب، أنا عبد الله بن عمران، نا يحيى بن الضريس، عن خالد بن صبيح البلخي، عن مقاتل بن حيان، في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] قال: شفيع صدق، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2] قال ابن عباس: أخرجوا محمدا من علمهم فيه بالأمانة والصدق، إلى غير علمهم فكفروا وأرادوا بالساحر محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرأ: لسحر أراد: الذي أوحي إليه سحر، قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [يونس: 3] مفسر فيما سبق إلى قوله: يُدَبِّرُ الأَمْرَ قال ابن عباس: يخلق ما يكون. وقال مجاهد: يقضي الأمر. {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] قال الكلبي: ما من شفيع من الملائكة والنبيين إلا من بعد أمره في الشفاعة. ذَلِكُمُ الله الذي فعل هذه الأشياء، {رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] أفلا تتعظون يا أهل مكة بالقرآن ومواعظه. {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: 4] إلى الله مصيركم يوم القيامة، وَعْدَ الله وعدكم الله ذلكم وعدا حقا، {

إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4] رد على المشركين الذين أنكروا البعث {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4] قال ابن عباس: بالعدل. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4] وهو الماء الحار. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس: 5] أي: ذات ضياء، وَالْقَمَرَ نُورًا أي: ذا نور، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ أي: قدر له، فحذف الجار، والمعنى: هيأ ويسر له منازل، {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] يعني: حساب الشهور والسنين والأيام والساعات، {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} [يونس: 5] يعني ما تقدم من الشمس والقمر ومنازله، إِلا بِالْحَقِّ إلا للحق من إظهار صنعه، وقدرته والدلالة على وحدانيته، يُفَصِّلُ الآيَاتِ يبينها، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يستدلون بالأمارات على قدرة الله. {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [يونس: 6] في تعاقبهما ومجيئهما وذهابهما، {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [يونس: 6] من الشمس والقمر والنجوم والبروج والأفلاك وَفي الأَرْضِ من الجبال والبحار، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] الشركَ، فيستدلون بهذه الآيات على وحدانية الله وقدرته. {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ} [يونس: 7-10] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] قال ابن عباس، ومقاتل: لا يخافون البعث لأنهم لا يؤمنون به. والرجاء ههنا بمعنى الخوف كقوله: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] ، {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 7] بدلا من الآخرة، وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ركنوا إليها لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7] يعني: آيات القرآن وما فيها من الفرائض والأحكام. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] قال المفسرون: يهديهم ربهم إلى الجنة ثوابا لهم بإيمانهم. وقال مجاهد: يكون لهم نور يمشون به. وقال مقاتل: يهديهم بالنور على الصراط إلى الجنة. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [يونس: 9] أي: بين أيديهم وهم يرونها من أسرتهم وقصورهم، وقوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الدعوى مصدر كالدعاء، ذكرنا ذلك في قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: 5] ، قال ابن عباس: كلما اشتهى أهل الجنة شيئا قالوا: سبحانك اللهم. فجاء ما يشتهون فإذا طعموا مما يشتهون قالوا: الحمد لله رب العالمين. فذلك قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] . وقوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] يحيي بعضهم بعضا بالسلام وتحية الملائكة إياهم، وتحية الله سلام، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] قال الزجاج: أعلم الله أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 11-14] قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس: 11] التعجيل: تقديم الشيء قبل وقته، والاستعجال: طلب العجلة، قال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له. وقال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء، كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوا بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] . قال عامة المفسرين: لماتوا وهلكوا جميعا وفرغ من هلاكهم. وتحقيق التأويل: لو أجيبوا إلى ما يدعون به من الشر والعذاب لفرغ إليهم من أجلهم بأن ينقضي الأجل فيموتوا ويحصلوا في العذاب والبلاء، وقرأ ابن عامر لقَضى إليهم أجلهم بفتح القاف على إسناد الفعل إلى الله لأن ذكره قد تقدم، وذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] الآية، يدل على صحة هذا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11] يعني: الكفار الذين لا يخافون البعث، قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12] أي: مضطجعا على جنبه، قال ابن عباس: إذا أصاب الكافر ما يكره من فقر أو مرض أو بلاء أو شدة أخلص في الدعاء مضطجعا كان أو قائما أو قاعدا. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} [يونس: 12] طاغيا على ترك الشكر ولم يتعظ بما ناله، {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] قال الحسن: نسي ما دعا الله فيه وما صنع الله به فيما كشف عنه من البلاء، {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] أي: كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زين للمسرفين عملهم، يريد المشركين، قال ابن كيسان: أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن. قال عطاء: نزلت الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة. قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 13] بالمعجزات الظاهرة، {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [يونس: 13] قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق وإيثارهم الباطل. وقال الزجاج: أعلم الله أنهم لا يؤمنون ولو بقاهم أبدا، لأنه جعل جزاءهم بكفرهم الطبع على قلوبهم. كما

قال: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] الآية، وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13] أي: نعاقب ونهلك المكذبين بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فعلنا بمن قبلهم، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس: 14] قال ابن عباس: يريد أهل مكة، والمعنى: استخلفكم في الأرض من بعد القرون الماضية، {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] قال ابن عباس: لنختبركم ونختبر أعمالكم. وقال قتادة: ما جعلنا الله خلائف إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {15} قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {16} فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ {17} } [يونس: 15-17] قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} [يونس: 15] أي: على مشركي مكة، آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ يعني: القرآن، {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 15] لا يخافون البعث، {ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] أي: بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا، وذكر البعث والنشور، أَوْ بَدِّلْهُ أي: تكلم به من ذات نفسك، فبدِّل منه ما نكره، {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] ما ينبغي لي أن أبدله غيره من قبل نفسي، قال الزجاج: أي: الذي أتيت به من عند الله لا من عند نفسي فأبدله. وهو قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] قال ابن عباس: يريد: ما أخبركم إلا ما أخبرني الله به، وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16] قال ابن عباس: يقول: لو شاء الله ما قرأت عليكم القرآن. {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] ولا أعلمكم الله بالقرآن وأدراني الله به، والمعنى: لو شاء الله ألا ينزل القرآن ما أعلمكم به ولا أمرني بتلاوته عليكم، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] قال ابن عباس: أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم بشيء من القرآن ولا آتيكم به، أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قِبَلِي. قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] أي: لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم الكفر فيزعم أن لله ولدا وشريكا، قال ابن عباس: يريد: أني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا وعبدتم الأوثان وكذبتم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من عند الله تعالى. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17] لا يسعد من كذب أنبياء الله. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {18} وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ {19} وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {20} } [يونس: 18-20] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ} [يونس: 18] إن لم يعبدوه، وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] قال الحسن: شفعاء في إصلاح معاشهم في الدنيا، لأنهم لا يقرون بالبعث. {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] قال الضحاك: أتخبرون الله أن له شريكا ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض. والمعنى: أتخبرون الله بالكذب فيما يعلم أنه ليس بموجود؟ ثم نزه نفسه عما افتروه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} [يونس: 19] أي: مجمعة على دين واحد يعني: من لدن إبراهيم عليه السلام إلى أن غير الدين عمرو بن لحي، فَاخْتَلَفُوا. قاله ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية الكلبي: يعني: أمة كافرة على عهد إبراهيم، فاختلفوا فآمن بعضهم وكفر بعضهم. وقال مجاهد، والسدي: كانوا على ملة الإسلام إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه، وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19] بتأخير هذه الأمة، وأنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بنزول العذاب، وتعجيل العقوبة للمكذبين، فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون، قوله: وَيَقُولُونَ يعني: أهل مكة: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] مثل العصا واليد، {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20] يعني أن قولكم: هلا أنزل عليه آية غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، فَانْتَظِرُوا نزول الآية، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20] لنزولها، قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ {21} هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {22} فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {23} } [يونس: 21-23] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} [يونس: 21] يعني مطرا وخصبا وغنى، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} [يونس: 21] من بعد قحط وبؤس وفقر، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21] سعي في دفع القرآن والتكذيب به، أي: إذا أخصبوا بطروا فكذبوا بالقرآن، {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] أي: أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر في إبطال القرآن، قال مقاتل: فقتلهم الله يوم بدر وجازى

مكرهم في آياته بعقاب ذلك اليوم، فكان أسرع في إهلاكهم من كيدهم في إهلاك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبطال آياته، ثم أوعدهم بالجزاء في الآخرة بقوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس: 21] يعني: بالرسل الحفظة. قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ} [يونس: 22] على الدواب، وَفي الْبَحْرِ على السفن، يقال: سيرته من مكان إلى مكان. أي: شخصته وقرأ ابن عامر: ينشركم من النشر بعد الطي، وحجته قوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22] يعني السفن، وَجَرَيْنَ بِهِمْ عاد بعد المخاطبة إلى الإخبار عنهم، وقوله: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي: رخاء لينة، وَفَرِحُوا بِهَا بتلك الريح للينها واستوائها، جَاءَتْهَا جاءت الفلك، رِيحٌ عَاصِفٌ، شديد الهبوب وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما ارتفع من الماء، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22] من البحر، وَظَنُّوا أيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] دنوا من الهلاك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22] قال ابن عباس: تركوا الشرك وأخلصوا لله الربوبية، وقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} [يونس: 22] الريح العاصف، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] الموحدين الطائعين. {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 23] يعملون فيها بالفساد والمعاصي والجرأة على الله، يَأَيُّهَا النَّاسُ يعني: أهل مكة، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] أي: بغي بعضكم على بعض، وما تنالونه، إنما تتمتعون به في الحياة الدنيا، فهو متاع في الدنيا، ومن نصب فعلى المصدر، والمعنى: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويدل انتصاب المصدر على المحذوف، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 23] في الآخرة، {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23] نخبركم في الآخرة بأعمالكم لأنا أثبتناها عليكم. {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {24} وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {25} } [يونس: 24-25] قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24] ضرب الله تعالى مثلا للحياة في هذه الدار الفانية، فشبهها بمطر، وهو قوله: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} [يونس: 24] يعني: التف وكثر وتداخل بذلك الماء من كل نوع من المرعى والكلأ والبقول والحبوب والثمار، وهو قوله: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] قال ابن عباس: زينتها وحسنها وخصبها. يعني: حسن ألوان الزهر الذي يروق البصر، قال الزجاج: الزخرف كمال حسن الشيء. وهو قوله: وَازَّيَّنَتْ أي: تزينت، وَظَنَّ أَهْلُهَا أي: أهل تلك الأرض، {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24] أي: على نباتها الذي أنبتته، قال ابن عباس: على حصادها وجذاذها وقطعها. {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24] قال ابن عباس: عذابنا. والمعنى: أمرنا بهلاكها، فَجَعَلْنَاهَا

حَصِيدًا محصودا لا شيء فيها، والحصيد: المقطوع المستأصل، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24] خلت كأن لم تكن أمس، ولم تقم على الصفة التي كانت فيما قبل، من قولهم: غني القوم بالمكان. إذا أقاموا به، والمراد: الغلة التي أخرجتها الأرض، وما سبق من الكلام يدل على الغلة، وقال الزجاج: كأن لم تعمر بالأمس. قال: والمغاني: المنازل التي يعمرها أهلها بالنزول بها. ونحو هذا قال ابن قتيبة: كأن لم تكن عامرة بالأمس. وعلى هذا المراد به الأرض وتأويل الآية: أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وزهرة الدنيا مما يروق ويعجب حتى إذا استتم ذلك وكثر عند صاحبه وظن أنه ممتع به، سلب ذلك بموته أو بحادثة تهلكه كما أن الماء سبب لالتفاف النبات، وكثرته حتى تتزين به الأرض وتظهر بهجتها، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك أهلكها الله وردها إلى الفناء حتى كأن لم تكن، قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أي: يبعث الرسول، ونصب الأدلة يدعو إلى الجنة، ذكرنا ذلك عند قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] ، وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] عم بالدعوة وخص بالهداية من شاء، لأن الحكم له في خلقه يفعل ما يشاء. 438 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنِي طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى الْبَيْهَقِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلا، فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مَأْدُبَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلامَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِنْهَا " {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {26} وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {27} } [يونس: 26-27] قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] قال ابن عباس: للذين قالوا لا إله إلا الله الجنة. وَزِيَادَةٌ وهي النظر إلى

وجه الله في قول أبي بكر الصديق، وأبي موسى الأشعري، وحذيفة، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ونحو ذلك فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح الذي 439 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَعْلَى، وَعَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: وحَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَ مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ تُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا؟ وَتُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ، فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا مِنْ شَيْءٍ أُعْطَوْهُ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ ". هَذَا حَدِيثُ هُدْبَةَ، وَفِي حَدِيثِ حَوْثَرَةَ، قَالَ: الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] بعد نظرهم إليه عز وجل. قال حوثرة في أثر هذا الحديث: كنا نسمع حمادا يحدث بهذه الأحاديث على رءوس الناس فلا ينكرونها حتى جاء قوم يزعمون أن الله عز وجل لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وكذبوا. رواه مسلم، عن هدبة بن خالد. وقوله: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} [يونس: 26] أي: لا يغشاها، يقال: رهقه ما يكره. أي: غشيه ومصدره الرهق، قال ابن عباس: ولا يصيب وجوههم قتر يعني: سواد الوجوه من الكآبة. قال عطاء: يريد دخان جهنم. وَلا ذِلَّةٌ كما تصيب أهل جهنم. قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس: 27] قال ابن عباس: عملوا الشرك. {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] قال الفراء: فلهم جزاء السيئة بمثلها. والمعنى: أنهم يجزون بمثل ما عملوا، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يصيبهم الذل والخزي والهوان، {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس: 27] ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ ألبست، {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ} [يونس: 27] طائفة من الليل وبعضا منه، مُظْلِمًا قال الفراء، والزجاج: هو نعت لقوله قطعا، والمعنى: وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سوادا من الليل، ومن قرأ: قطَعا مفتوحة الطاء فهي جمع قطعة، ومظلما على هذه القراءة حال من الليل، المعنى: أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ {28} فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ {29} هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {30} } [يونس: 28-30] قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 28] قال ابن عباس، ومقاتل: ويوم نجمع المشركين وشركاءهم، والكفار وآلهتهم، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] ، قال الزجاج: مكانكم منصوب على الأمر، كأنهم قيل لهم: الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم حتى نفصل بينكم. ومعنى وشركاؤكم أي: الذين جعلتموهم شركاء في العبادة، فَزَيَّلْنَا فرقنا وميزنا بينهم، قال المفسرون: فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده. وهو قوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] قال ابن عباس: أنكروا عبادتهم. وذلك أن الله تعالى ينطق الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون. فَكَفَى بِالله الآية، هذا كلام معبوديهم لما تبرأوا منهم قالوا: يشهد الله على علمه فينا، ما كنا عن عبادتهم إلا غافلين، لأنه لم تكن فينا روح وما كنا نسمع ولا نبصر. هُنَالِكَ أي: في ذلك الوقت، تَبْلُو تختبر، {كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] قدمت من خير أو شر، وذلك أن من قدم خيرا أو شرا جوزي عليه، فيختبر الخير ويجد ثوابه، ويختبر الشر ويجد عقابه، وقرئ: تتلو بتاءين، ومعناه: تقرأ كتابها، وما كتب من أعمالها التي قدمتها، {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [يونس: 30] إلى حكمه، فينفرد فيهم بالحكم، مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الذي يتولى ويملك أمرهم، وَضَلَّ أي: وزال وبطل، {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] في الدنيا من التكذيب. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {31} فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {32} كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {33} قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {34} قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {35} وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ {36} } [يونس: 31-36] قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس: 31] يريد: من ينزل القطر من السماء ويخرج النبات من الأرض؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [يونس: 31] أي: من يملك خلق السمع والأبصار، {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [يونس: 31] أي: المؤمن من الكافر، والنبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحب، والنخلة من النواة،

وعلى الضد من ذلك، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 31] أمر الدنيا والآخرة، فَسَيَقُولُونَ الله أي: الله الذي يفعل هذه الأشياء، وذلك أنهم علموا أن الرزاق والمدبر هو الله، فإذا أقروا بعد الاحتجاج {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] قال ابن عباس: أفلا تخافون الله فلا تشركوا به شيئا. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 32] قال ابن عباس: يريد هذا الذي كله فعله هو الحق، ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء لا يملكون شيئا من هذا. وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] قال مقاتل: يعني: بعد عبادة الله إلا الضلال يعني عبادة الشيطان. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قال ابن عباس: كيف تصرف عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق، ولا يحيي ولا يميت. وقوله: كَذَلِكَ أي: مثل ذلك الصرف، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} [يونس: 33] يعني: خرجوا في الكفر إلى أفحشه، {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] وهو قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} [السجدة: 20] الآية، وغيرها من آي الوعيد للكفا، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 34] الذين تعبدونهم مع الله، {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] يخلق أولا ثم يعيده ثانيا، {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34] فكيف تصرفون عن الحق؟ {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 35] يعني: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، {مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [يونس: 35] يرشد إلى دين الإسلام؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] أي: إلى الحق، {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي} [يونس: 35] أي: إن الله الذي يهدي ويرشد إلى الحق أهل الحق أحق أن يتبع أمره، أم الصنم الذي لا يهدي أحدا، ولا يهتدي إلى الخير، وقرئ يهدي، ويهدي، ويهدي، ويهدي، وكلها يفتعل وإن اختلفت ألفاظها، وأصلها يهتدي، فأدغمت التاء في الدال، فمن فتح الهاء ألقى عليه حركة التاء المدغم، ومن كسر الهاء فلأنها كانت ساكنة واجتمعت مع الحرف المدغم الساكن، فحرك الهاء بالكسر لالتقاء ساكنين، ومن سكن الهاء جمع بين الساكنين، ومن كسر الياء والهاء أتبع الياء ما بعدها من الكسر، قال الزجاج: وهو رديء لثقل الكسر في الياء. فأما معنى: لا يهتدي إلا أن يهدي، فالأصنام وإن هديت لا تهتدي لأنهم موات من حجارة، ولكن الكلام يدل على أنها إن هديت اهتدت لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل، ووصفت صفة من يعقل، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك، قوله: فَمَا لَكُمْ قال الزجاج: ما لكم كلام تام، كأنهم قيل لهم: أي: شيء لكم في عبادة الأصنام. ثم قيل لهم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] قال مقاتل: كيف تقضون حين زعمتم أن مع الله شريكا؟ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} [يونس: 36] ما يستيقنون أنها آلهة، بل يظنون شيئا، فيتبعون ظنا لأنهم لم يأتهم بذلك كتاب ولا رسول، {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] لا يدفع من عذاب الله شيئا، أي: ظنهم أن الأصنام آلهة، وأنها تشفع لهم لا يغني عنهم شيئا، قال عطاء: يريد: ليس الظن كاليقين، يعني: يقوم مقام العلم. {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {37} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ

صَادِقِينَ {38} بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ {39} وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ {40} وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ {41} وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ {42} وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ {43} إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {44} وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {45} } [يونس: 37-45] قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37] هذا جواب لقولهم: {ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] وأن مع يفترى بمنزلة المصدر يعني: وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: 37] ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب، وأخبار الأمم والأنبياء الماضين، وهذا احتجاج عليهم بأن القرآن من عند الله بتصديقه الذي بين يديه، وقوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام، ثم احتج عليهم بأن يأتوا بمثله إن كان مفترى، فقال: أَمْ يَقُولُونَ بل: أيقولون يعني المشركين: {افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 38] ادعوا إلى معاونتكم من المعارضة كل من تقدرون عليه، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] في أنه افتراء، وهذا كقوله في { [البقرة:] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [سورة البقرة: 23] . قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] أي: بما في القرآن من الجنة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] لم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب مما يئول إليه أمرهم من العقوبة، {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 39] أي: بالبعث والقيامة، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] يعني: كان عاقبتهم العذاب والهلاك بتكذيبهم. قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40] وهذا إخبار عما سبق في علم الله تعالى، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] قال عطاء: يريد المكذبين وهذا تهديد لهم. {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: 41] الآية: قال مقاتل، والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد. قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للاستهزاء والتكذيب، فلم ينتفعوا باستماعهم. قال الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: 42] قال الزجاج: أي: ظاهرهم ظاهر من يستمع، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم. {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] يريد: أنهم أشد من الصم لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم. أخبر الله تعالى أن هؤلاء بمنزلة الصم الجهال، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا. قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] قال ابن عباس: يريد: متعجبين منك، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] يريد: أن الله تعالى قد أعمى قلوبهم، فلا يبصرون شيئا من الهدى، كما قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج: 46] الآية، قال الزجاج: ومنهم من يقبل عليك بالنظر وهو

كالأعمى من بغضه لك، وكراهية ما يراه من آياتك. قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] لما ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين فريقين ووصفهما بالشقوة، ينظرون، ولا يسمعون ولا يعقلون ولا يؤمنون، وذلك للقضاء السابق عليهم، أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه لأنه يتصرف في ملكة كيف يشاء وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم، وهو قوله: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] وذلك أن الفعل منسوب إليهم، وإن كان القضاء من الله سبحانه، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45] قال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار. وقال الضحاك: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم فصار كالساعة من النهار، لهول ما استقبلوا من أمر البعث والقيامة. يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ بتوبيخ بعضهم بعضا، يقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وأنت كسبتني دخل النار بما علمتني وزينته لي. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [يونس: 45] خسر ثواب الجنة الذين كذبوا بالبعث. {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ {46} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {47} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {48} قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {49} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ {50} أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ {51} ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {52} } قوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46] قال المفسرون: كانت وقعة بدر ما أراه الله حال حياته مما وعد المشركين من العذاب. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك، فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ بعد الموت فنجزيهم بأعمالهم، قال الزجاج: أعلم الله أنه إن لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل. وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] أي: من محاربتك وتكذيبك. قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47] قال ابن الأنباري: رسول يرسله الله إليهم سفيرا بينه وبينهم مبشرا ومنذرا. فإذا جاءهم الرسول في الدنيا، {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 47] حكم عليهم عند اتباع المؤمنين وعناد الكافرين بالمعصية والطاعة، والضلالة والهدى، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] قال عطاء: لا ينقص الذين صدقوا من ثوابهم، ولا يزاد الذين كذبوا من مساوئ أعمالهم. ولما أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46] قالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا؟ وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] أنت واتباعك؟ {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} [يونس: 49] هذه الآية إلى آخرها مفسرة في آيتين من { [الأعراف. قوله:] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [سورة يونس: 50] قال الزجاج: البيات كل ما كان بليل. يقول: أعلمتم

أيها المستعجلون للعذاب إن أتاكم العذاب ليلا أو نهارا، {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] أي: ماذا يستعجلون منه؟ وهو استفهام معناه: التفظيع والتهويل، كما يقول لمن هو في أمر يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك؟ وهو جواب لقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] ؟ وقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] كان المشركون يقولون: نكذب العذاب ونستعجله، ثم إذا ما وقع آمنا به، فقال الله تعالى موبخا لهم: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51] العذاب وحل بكم آمنتم به؟ فلا يقبل منكم الإيمان، ويقال لكم: الآنَ تؤمنون، {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51] مستهزئين معاندين للحق، وهو قوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [يونس: 52] الآية: وذلك: أن العذاب إذا لحق الكافرين أفضوا منه إلى عذاب الآخرة. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {53} وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {54} أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {55} هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {56} } [يونس: 53-56] قوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] أي: البعث والعذاب، أي: يستخبرونك عن ذلك، {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] قال الزجاج: نعم وربي، إِنَّهُ لَحَقٌّ إن العذاب نازل بكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] بعد الموت، قال ابن عباس: يريد أن الله لا يعجزه شيء ولا يفوته. {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] أشركت، {مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] لبذلته لدفع العذاب عنها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54] أي: أخفى الرؤساء في الكفر الندامة من الذين أضلوهم، وستروها عنهم. هذا قول عامة المفسرين وأهل التأويل، وقال أبو عبيدة: الإسرار من الأضداد، يقال: أسررت الشيء. أخفيته، وأسررته. أعلنته، قال: ومن الإعلان قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54] أي: أظهروها. واختار المفضل هذا القول، وقال: ليس ذلك اليوم يوم تصبر ولا تصنع. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 54] أي: بين الرؤساء، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] لأنهم يجازون بشركهم. قوله: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] قال ابن عباس: يريد: ما وعد لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 55] يريد المشركين. {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {57} قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {58} } [يونس: 57-58] يَأَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشا. {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] يعني القرآن، وما فيه من المواعظ التي تدعو إلى الصلاح، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] أي: دواء لداء الجهل، والقرآن مزيل للجهل وكاشف لعمى القلب، وَهُدًى وبيان للضلالة، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] ونعمة من الله تعالى لأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ

فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. وهذا قول عامة المفسرين. 440 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وهو خير مما يجمع الكفار من الدنيا، ثم أمره أن يخاطب كفار مكة بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ {59} وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ {60} وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {61} أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {64} وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {65} أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {66} هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {67} } [يونس: 59-67] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} [يونس: 59] يعني: ما خلق وأنشأ، {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] يعني: ما حرموا من الحرث والأنعام لآلهتهم، {قُلْءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] في هذا التحريم والتحليل، {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] بل تقولون على الله الكذب وذلك أنهم كانوا يقولون: الله أمرنا بها. قوله: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 60] قال مقاتل: وما ظن الذين يتقولون على الله الكذب، بأن الله أمرهم بتحريم ما حرموا يوم القيامة إذا لقوه. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [يونس: 60] حين لم يعجل بعقوبة افترائهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60] تأخير العذاب عنهم. قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] قال الحسن:

في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ} [يونس: 61] أي: من الله تعالى، أي: نازل منه مِنْ قُرْآنٍ والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمته داخلون في هذا الخطاب لأن خطاب الرئيس خطاب له ولأتباعه يدل على هذا قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61] قال ابن الأنباري: جمع في هذا ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين. {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس: 61] قال الفراء: يقول: الله شاهد على كل شيء. والمعنى: إلا نعلمه فنجازيكم به، {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] الإفاضة: الدخول في العمل، قال ابن الأنباري: إذ تندفعون فيه. وقال ابن عباس: إذ تأخذون فيه. {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} [يونس: 61] والعزوب: البعد والذهاب، يقال: عزب عنه الشيء. إذا غاب وذهب، {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أي: وزن ذرة، ومثقال الشيء ما وازنه، والذر صغار النمل، الواحدة ذرة، {فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} [يونس: 61] قال الفراء: من نصبها فإنما يريد الخفض، يتبعها المثقال والذرة، ومن رفعها أتبعها معنى المثقال لأنك لو ألقيت من المثقال من كان رفعا، وهو كقولك: ما أتاني أحد عاقل، وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ، وغيره، {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] قال ابن عباس: يريد: اللوح المحفوظ. قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] : 441 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذْكَرُ اللَّهُ لِرُؤْيَتِهِمْ» 442 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ هَيْثَمٍ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ الصَّائِغُ، نا أَبُو غَسَّانَ، وَعَاصِمٌ، قَالا: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، نا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنِ ابْنِ زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ وَمَا أَعْمَالُهُمْ؟ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ، قَالَ: " قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ بِغَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا بَيْنَهُمْ، وَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] قال ابن عباس: يريد: الذين صدقوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخافوا مقامهم بين يدي الله تعالى. قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] : 443 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 63-64] مَا هَذِهِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي قَبْلَكَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ» 444 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُبَشَّرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ فَلْيُخْبِرْ بِهَا، وَمَنْ رَأَى سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا وَلْيَسْكُتْ، وَلا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا " وقال عطاء، عن ابن عباس: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] يريد: عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله، وفي الآخرة عند خروج نفْس المؤمن يبشر برضوان الله. وهذا قول قتادة، والضحاك، والزهري، قالوا: البشارة عند الموت. وقال الحسن: ما بشر الله عز وجل في كتابه من جنته وكريم ثوابه في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ

آمَنُوا} [يونس: 2] ، وبشر المؤمنين، وأبشروا بالجنة. وهذا اختيار الفراء، والزجاج قالا: ويدل على صحة هذا قوله: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64] . قال ابن عباس: لا خلف لمواعيده، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدل كلماته لم تبدل مواعيده. قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] ولا يحزنك إنكارهم وتكذيبهم وتظاهرهم عليك في العداوة، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] أي: الغلبة له، وهو ناصرك وناصر دينك، والمعنى: أنه الذي يعزك حتى تصير أعز ممن ناوأك، {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] يسمع قولهم، ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما يقتضيه حالهم، {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس: 66] أي: إنه يفعل بهم وفيهم ما يشاء، {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة لأنهم يعدونها شركاء لله، شفعاء لهم، وليست على ما يظنون، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [يونس: 66] يعني: ظنهم أنها تشفع لهم يوم القيامة، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] ما هم إلا كاذبون فيما يزعمون. قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] أي: ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وَجعل النَّهَارَ مُبْصِرًا، مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [يونس: 67] الذي فعل، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] سماع اعتبار أنه مما لا يقدر عليه إلا عالم قادر. {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {69} مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ {70} } [يونس: 68-70] {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس: 68] يعني: زعم المشركون أن الملائكة بنات الله، سُبْحَانَهُ تنزيها له عما قالوا، هُوَ الْغَنِيُّ أن تكون له زوجة وولد، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 68] عبيدا أو ملكا، {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] ما عندكم من حجة بما تقولون، ثم أنكر عليهم ذلك، فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس: 68-69] لا يسعدون في العاقبة وإن اغتروا بطول السلامة، {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} [يونس: 70] أي: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما يسيرة، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70] في الآخرة، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} [يونس: 70] الغليظ الذي لا ينقطع، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] . {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ {71} فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ {73}

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ {74} ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ {75} فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ {76} قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ {77} } [يونس: 71-77] قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71] أي: اقرأ واقصص على قومك خبر نوح وقصته مع قومه، وذلك لما فيه من الدليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبوته، ولقومه من الاعتبار بقوم نوح وما حل بهم من العقوبة والتكذيب، وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس: 71] يعني: نوح، {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] عظم وثقل وشق عليكم إقامتي بين أظهركم ولبثي فيكم {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} [يونس: 71] قال ابن عباس: وعظي وتخويفي إياكم عقوبة الله، {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] في نصرتي ودفع شركم عني فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ: معنى الإجماع: العزم على أمر محكم لا يخالف، وقوله: وَشُرَكَاءَكُمْ قال الفراء: وادعوا شركاءكم دعاء استغاثة بهم. وكذلك في قراءة عبد الله، وقال الزجاج: الواو بمعنى مع، والمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] أي: مبهما، ليكن أمركم ظاهرا منكشفا لا تسترون معاداتي، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} [يونس: 71] ثم امضوا إلي بمكروهكم، وما توعدونني به، ومعنى قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، وهذا إخبار عن نوح أنه كان ينصر الله واثقا من كيد قومه غير خائف، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} [يونس: 72] أي: لم يكن دعائي إياكم طمعا في مالكم، إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي {إِلا عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72] . قوله: وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ جعل الله الذين نجوا مع نوح من الغرق خلفا ممن هلك، كما قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وذلك أن الناس كانوا من ذريته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعا بتكذيبهم لنوح عليه السلام سوى ذريته الذين نجوا معه، وذلك قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] الآية، قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [يونس: 74] أي: من بعد نوح {رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74] قال ابن عباس: يريد: إبراهيم، وهودا، وصالحا، ولوطا، وشعيبا، فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ بأنهم رسل الله فَمَا كَانُوا: أولئك الأقوام الذين بعث إليهم الرسل {لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] يعني: قوم نوح، أي: لم يصدقوا بما كذب به قوم نوح، وكانوا مثلهم في الكفر والعتو {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74] قال ابن عباس: يريد: أن الله طبع على قلوبهم فأعماها، فلا يبصرون سبيل الهدى، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] اللفت: الصرف عن الشيء، يقال: لفته عن رأيه. أي: لواه وصرفه عنه، والمعنى: لتصرفنا عن دين آبائنا، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس: 78] قال المفسرون: أي: الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى، وهارون، أي: إنما تطلبان التملك علينا، {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] ثم طلب فرعون السحرة ليعارضوا بسحرهم موسى، وهو قوله: {

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {79} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ {80} فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ {81} وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ {82} } [يونس: 79-82] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {79} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [يونس: 79-80] إلى قوله: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} [يونس: 81] أي: الذي جئتم به من الحبال والعصي سحر {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] فيهلكه وتظهر فضيحتكم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] لا يجعل عملهم ينفعهم، وَيُحِقُّ الله الْحَقَّ ويظهره ويمكنه بِكَلِمَاتِهِ بما سبق من وعده بذلك. {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ {83} وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ {84} فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {85} وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {86} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {87} } [يونس: 83-87] قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} [يونس: 83] أي: ما صدقه {إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] يعني: ذرية يعقوب وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} [يونس: 83] قال ابن عباس: متطاول في أرض مصر، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] حين كان عبدا فادعى الربوبية، ثم أمر موسى: من آمن من قومه بالتوكل على الله في دفع شر فرعون، وهو قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [يونس: 84] الآية، {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] أي: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا، قال مجاهد: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا تسلطنا عليهم فيفتنوا. {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 86] وذلك أنهم كانوا يستعبدونهم ويأمرونهم بالأعمال الشاقة فسأل الله النجاة منهم. قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} [يونس: 87] الآية، قال المفسرون: لما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة، فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون. وذلك قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] قال الزجاج: صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف. وقال عكرمة، عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم مساجد.

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {88} قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {89} } [يونس: 88-89] قوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 88] قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88] أي: إنك جعلت هذه الأموال سببا لضلالهم لأنهم بطروا بها فاستكبروا عن الإيمان، وطغوا في الأرض، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] قال الزجاج: تأويل طمس الشيء إذهابه عن صورته، والانتفاع به على الحالة الأولى التي كانت عليها. قال المفسرون: صارت أموالهم حجارة، الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة صحاحا وأثلاثا وأنصافا. قال القرظي: جعل سكرهم حجارة. وقال قتادة: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة. وقال عطاء: لم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد. وقوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] قال ابن عباس: امنعهم عن الإيمان بك، والمعنى: اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، وهذا دليل على أن الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك ما حسن من موسى هذا السؤال، وقوله: فَلا يُؤْمِنُوا قال الفراء، والزجاج: فلا يؤمنوا دعاء عليهم أيضا. والتأويل: فلا آمنوا {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88] يعني: الغرق. {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] قال المفسرون: كان موسى يدعو وهارون يؤمن ولذلك قال دعوتكما. فَاسْتَقِيمَا على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب، {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] لا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، وخفف ابن عامر نون تتبعان للتضعيف. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92} } [يونس: 90-92] قوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [يونس: 90] أي: عبرنا بهم {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90] أي: لحقوه، كما قال

فأتبعه الشيطان، بَغْيًا وَعَدْوًا ظلما وعدوانا {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب فلم ينفعه ذلك وقيل له {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] أي: الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها؟ قال المفسرون: خاطبه جبريل بهذا. 445 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنَ حَالِ الْبَحْرِ أَحْشُو فِي فِيهِ يَعْنِي فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ " وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم عند الشدة، وإن يونس كان عبدا صالحا، وإنه كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله تعالى، فقال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} } [الصافات: 143-144] ، وإن فرعون كان عبدا طاغيا، ناسيا لذكر الله فلما {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] ، فقال الله تعالى {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وقال السدي: بلغنا أن جبريل قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أبغضت عبدا من عباد الله، ما أبغضت عبدين أحدهما من الجن والآخر من الإنس، أما الذي من الجن فإبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الذي من الإنس ففرعون حين قال: «أنا ربكم العلى» . ولو رأيتني يا محمد وأنا آخذ من البحر فأدسه في فيه مخافة أن يقول كلمة ينجو بها. وقوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] قال ابن عباس والمفسرون: لما أغرق الله فرعون وقومه أنكر بعض بني إسرائيل غرق فرعون، وقال: هو أعظم شيئا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه، فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] أن نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع ومعنى ببدنك بجسدك بغير روح، وذلك أنه طفى عريانا، وذهب قوم إلى أن معنى البدن هنا الدرع، قال ابن عباس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها وهو البدن. والمعنى: أنا نرفع فرعون فوق الماء بدرعه المشهور ليعرفوه بها، وذلك قوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] قال

الكلبي: لتكون نكالا لمن خلفك، فلا يقولوا مثل مقالتك. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه كان يدعي أنه رب، وكان يعبده قومه فبين الله تعالى أمره وأنه عبد. وفيه من الآية أنه غرق مع قومه وأخرج هو من بينهم فكان ذلك آية. {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [يونس: 93] قال ابن عباس: يريد: قريظة، والنضير. يريد أنزلناهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ ما بين المدينة والشام في أرض يثرب {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس: 93] من النخل وما فيها من الرطب والتمر فَمَا اخْتَلَفُوا في تصديق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه نبي {حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [يونس: 93] قال ابن عباس: يريد: القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الفراء: العلم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان معلوما بنعته، وذلك أنه لما جاءهم اختلفوا فيه وفي تصديقه، فكفر به أكثرهم. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] من أمرك يعني: أنه يدخل المصدقين به الجنة، والمكذبين به النار. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {94} وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ {95} } [يونس: 94-95] قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] قال أكثر أهل العلم: هذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره من الشكاك، والقرآن نزل بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشي يريدون غيره مثل هذا قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1] الآية، الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره، يدل على ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] ولم يقل: بما تعمل. وقال الزجاج: إن الله يخاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك الخطاب شامل للخلق، والمعنى: فإن كنتم في شك فاسألوا، والدليل على ذلك، قوله في آخر ال { [:] قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ} [سورة يونس: 104] الآية. وهذا مذهب ابن عباس، والحسن، وأكثر أهل التأويل، قال ابن عباس: لم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لم يشك في الله ولا في ما أوحي إليه، ولكن يريد من آمن به وصدقه، أمرهم أن يسألوا لئلا ينافقوا كما شك المنافقون.

قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال ابن عباس، والضحاك، ومجاهد: يعني: من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه، فسيشهدون على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبرونك بنبوته، وبما قدم الله من ذكره في الكتب، وباقي الآية والتي تليها حكمه على ما ذكرنا من أنه خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به غيره من الشاكين. {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ {96} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {97} فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {98} وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {99} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ {100} } [يونس: 96-100] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس: 96] قال ابن عباس: قول ربك بالسخط عليهم. وقال قتادة: سخط ربك بما عصوه. وقال مقاتل: وجبت عليهم كلمة العذاب. {لا يُؤْمِنُونَ {101} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97-101] كانوا يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا، قال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ {101} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 97-101] ، فلا ينفعهم حينئذ إيمانهم كما لم ينفع إيمان فرعون حيث أدركه الغرق. قوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98] الآية: لولا معناها ههنا النفي، قال ابن عباس في رواية عطاء: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس. فقال: يريد: لم أفعل هذا بأمة قط، إلا قوم يونس لما آمنوا عند نزول العذاب كشفنا عنهم. وقال قتادة: لم يكن هذا معروفا لأمة من الأمم كفرت، ثم آمنت عند نزول العذاب، فكشف عنهم إلا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم. وهو قوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [يونس: 98] قال ابن عباس: يريد: سخط الله عليهم في الحياة الدنيا، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] يريد: حين آجالهم. قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} [يونس: 99] الآية، قال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة من الله، وأنه لو شاء لآمن الناس كلهم. ثم أنكر عليه إكراه الناس على الإيمان فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99] الآية، وهذا منسوخ بآية القتال، قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] قال ابن عباس: إلا بما سبق لها في قضاء الله وقدره. وقال عطاء: بمشيئة الله. وقال الزجاج: وما كان لنفس الوصلة إلى الإيمان إلا بتوفيق الله، وهو إذنه. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ قال ابن عباس: السخط. وقال

الحسن: العذاب. {عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] قال ابن عباس: لا يؤمنون. والمعنى: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ {101} فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {102} ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ {103} } [يونس: 101-103] قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] قال المفسرون: قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله: انظروا بالتفكير والاعتبار ماذا في خلق السموات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانية الله، ونفاذ قدرته كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر، وكل هذا يقتضي مدبرا لا يشبه الأشياء ولا تشبهه. ثم قال: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] أي: ما تنفع الآيات، ولا تدفع عمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن. قوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ يعني: المشركين والمكذبين {إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] إلا أياما مثل أيام الأمم الماضية المكذبة في وقوع العذاب؟ أي: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك إلا العذاب، {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 103] هذا إخبار عما كان الله يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرسل والمصدقين لهم عما يعذب به من كفر، كَذَلِكَ مثل ذلك الإنجاء حَقًّا عَلَيْنَا واجبا علينا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عذابي. {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {105} وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ {106} وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {107} } [يونس: 104-107]

قوله: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 104] يريد: أهل مكة {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] أي: من توحيد الله الذي جئت به، والحنيفية التي بعثت بها فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله بشككم في ديني، {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104] أي: يقدر على إماتتكم، وهذا يتضمن تهديدا لهم لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم، قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [يونس: 105] أي: استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك، {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ} [يونس: 106] إن دعوته، وَلا يَضُرُّكَ إن تركت عبادته، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [يونس: 107] قال ابن عباس: يريد بمرض وفقر. {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [يونس: 107] لا مزيل لما أصابك من ضر إلا هو {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} [يونس: 107] أي: وإن يرد بك خيرا {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] لا مانع لما تفضل به عليك من رخاء ونعمة يُصِيبُ بِهِ بكل واحد مما ذكر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] . {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ {108} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {109} } [يونس: 108-109] {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 108] يعني: أهل مكة {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 108] يعني: القرآن {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس: 108] قال ابن عباس: من صدق محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما يحتاط لنفسه. {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] أي: إنما يكون وبال ضلاله على نفسه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] في منعكم من اعتقاد الباطل، والمعنى: بحفظكم من الهلاك، كما يحفظ الوكيل المناع من الهلاك، قال ابن عباس: نسختها آية القتال والتي بعدها. وهي قوله: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب.

سورة هود

سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة 446 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ هُودٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِهُودٍ وَكَذَّبَ بِهِ وَنُوحٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ السُّعَدَاءِ» بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {1} أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ {2} وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ {3} إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {4} } [هود: 1-4] الر قال ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن. كِتَابٌ قال الفراء، والزجاج: هذا كتاب. أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ قال الكلبي: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها. ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت بالأحكام من الحلال والحرام والوعد والوعيد {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] قال ابن عباس: من عند حكيم في خلقه، خبير بمن يصدق بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبمن يكذب به. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 2] قال الزجاج: المعنى: أمر ألا تعبدوا إلا الله. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] من ذنوبكم السالفة {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] من المستأنفة متى وقعت {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] قال ابن عباس: يتفضل عليكم بالرزق والسعة إلى أجل الموت. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] نعطي كل ذي عمل صالح أجره وثوابه، وقال ابن عباس، وابن مسعود: يؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته فضله، يعني الجنة، وهي فضل الله. يعني: أن من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا عن الإسلام {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [هود: 3] في الآخرة {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وهو يوم القيامة.

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {5} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {6} } [هود: 5-6] قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5] يقال: ثنيت الشيء ثنيا إذا عطفته وطويته، وكان طائفة من المشركين يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يعلم به؟ فأخبر الله عز وجل عما كتموه. ومعنى يثنون صدورهم: يطوونها على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال قتادة: كذلك أخفى ما يكون من ابن آدم إذا حنا ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همه في نفسه. قوله: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي: ليتواروا عنه ويكتموا عداوته، فقال الله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5] قال ابن الأنباري: أعلم الله أن سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهراتهم. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] قال ابن عباس: يريد: بما في النفوس. والمعنى: تحقيقه ما في القلوب من المضمرات. قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [هود: 6] الآية، يعني: ما من حيوان يدب، قال الزجاج: الدابة: اسم لكل حيوان مميز وغيره، بني على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى. قوله: {إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] قال المفسرون: فضلا لا وجوبا والله تكفل بذلك بفضله. 447 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ ابْنِ مَنِيعٍ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: نا الأَعْمَشُ، عَنْ سَلامِ بْنِ سَلامِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ حَبَّةَ، وَسَوَاءً ابْنَيْ خَالِدٍ يَقُولانِ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلا يَبْنِي بِنَاءً، فَأَعَنَّاهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا لَنَا وَقَالَ: «لا تَيْأَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَهْمَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا، فَإِنَّ الإِنْسَانَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ وَيَرْزُقُهُ» وقال أهل المعاني: على ههنا بمعنى من، المعنى من الله رزقها، ويدل على صحة هذا قول مجاهد: ما

جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا. قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا حين تأوي إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا حيث تموت. وهو قول ابن عباس. وقال قتادة، ومجاهد: أما مستقرها ففي الرحم، وأما مستودعها ففي الصلب. كُلٌّ ذلك عند الله {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] يعني: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن ذلك ثابت في علم الله. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [هود: 7] تقدم تفسيره، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] يعني: قبل أن يخلق السماء والأرض، قيل لابن عباس: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وفي وقوف العرش على الماء، والماء على غير قرار أعظم الاعتبار لأهل الإنكار، وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] قال ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله. قال ابن الأنباري: معناه ليختبركم. فيعلم وقوع الفعل منكم الذي به تستحقون الثواب والعقاب، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض، ويعاقب أهل العناد، قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [هود: 7] بعد ان شاهدوا خلق السموات والأرض {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] قال الزجاج: السحر باطل عندهم فكأنهم قالوا: إن هذا إلا باطل مبين. يعني: هذا القول الذي يقول لنا: أنا نبعث بعد الموت، قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [هود: 8] يعني: عن المشركين {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] قال ابن عباس، ومجاهد: إلى أجل وحين معلوم. والأمّة ههنا المدة من أوقات الزمان {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] أي: ما يحبس العذاب عنا؟ يقولون ذلك تكذيبا واستهزاء، قال الله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] يقول: إذا أخذتهم سيوف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم تغمد عنهم، حتى يباد أهل الكفر، وتعلو كلمة الإخلاص وَحَاقَ ونزل وأحاط {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8] وهو العذاب.

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ {9} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ {10} إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {11} } [هود: 9-11] وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9] قال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال غيره: في عبد الله ابن أبي أمية المخزومي. والمراد بالرحمة ههنا الرزق. وقوله: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} [هود: 9] شديد اليأس من رحمة الله وسعة رزقه كَفُورٌ لنعمته، وهذا بيان عما يوجبه الخلق السوء من القنوط من الرحمة عند نزول الشدة، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} [هود: 10] قال ابن عباس: صحة وسعة في الرزق. {بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [هود: 10] بعد مرض وفقر {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [هود: 10] يريد الضر والفقر إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر فَخُورٌ قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما وسعت عليه. {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} [هود: 11] هذا استثناء منقطع ليس من الأول، معناه: لكن الذين صبروا، يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، مدحهم الله بالصبر على الشدة والمكاره، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: في الشدة والرخاء {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] . {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {12} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {13} فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {14} } [هود: 12-14] قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12] قال أهل التفسير: قال المشركون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك. وقال بعضهم: هل ينزل عليك ملك فيشهد لك بالصدق، أو تعطى كنزا تستغني به أنت وأتباعك. فهمَّ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدع سب آلهتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12] أي: لعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] الضائق بمعنى: الضيق، قال ابن الأنباري: أن في موضع خفض بالرد على الباء في به. يريد: وضائق به صدرك بأن يقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12] يستغني به {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] يشهد له بالنبوة {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] قال الزجاج: إنما عليك أن تنذرهم وليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون عليك من الآيات. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] أي: حافظ لكل شيء. قوله: أَمْ يَقُولُونَ معناه: بل أيقولون: افترى القرآن وأتى به من عند نفسه قُلْ لهم فَأْتُوا أنتم في معارضتي {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] مثل القرآن من البلاغة

مُفْتَرَيَاتٍ بزعمكم ودعواكم {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود: 13] إلى المعاونة على المعارضة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] في قولكم: افتراه. {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هود: 14] من تدعونهم إلى المعاونة، ولم يتهيأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] أي: أنزل والله أعلم بإنزاله وعالم أنه حق من عنده، وَاعلموا أَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] استفهام معناه الأمر. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {16} } [هود: 15-16] قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود: 15] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: من كان يريد عاجل الدنيا فلا يؤمن بالبعث والثواب والعقاب. وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله في الدنيا بحسناته، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، وأما المؤمن فيجزى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة. وذلك قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] قال سعيد بن جبير: ثواب ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار، فإذا جاء هذا الكافر الآخرة ورد منها على عاجل الحسرة إذ لا حسنة له هناك {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] لا ينقصون، أي: يعطوا فيها أجر ما عملوا في الدنيا، ثم أخبر ما لهم في الآخرة فقال {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] ما عملوا في الدنيا من حسنة لأنهم لم يروا لها ثوابا {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] من خير. {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {17} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {18} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {19} أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ {20} أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {21} لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ {22} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {23} مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ {24} } [هود: 17-24]

قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول عامة المفسرين، قال ابن عباس: يريد على يقين وبيان. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] وهو جبريل عليه السلام في قول أكثر المفسرين، قال ابن قتيبة: والشاهد من الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ مُوسَى. يعني: التوراة، يتلوه أيضا في التصديق لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر به موسى في التوراة إِمَامًا نصب على الحال وَرَحْمَةً أي: ذا رحمة يعني التوراة فإنها كانت إماما في ذلك الوقت وسبب الرحمة لمن آمن بها، وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17] يعني: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن صدقه، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] يعني: ومن كفر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصناف الكفار واليهود والنصارى وغيرهم. 448 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا أَبُو كَامِلٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ لا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ: فَقُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ فِي الْكِتَابِ فَوَجَدْتُهُ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] وقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 17] قال الكلبي، عن ابن عباس: فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار وذلك هو الحق من ربك. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] يعني: أهل مكة، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [هود: 18] فزعم أن له ولدا وشريكا {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] يعني: بعد الحشر يوم القيامة وَيَقُولُ الأَشْهَادُ قال ابن عباس، ومجاهد: هم الملائكة والأنبياء. وقال قتادة: يعني: الخلائق. ونحو هذا قول مقاتل. الأشهاد: الناس كما يقال على رءوس الأشهاد، أي: رءوس الناس، والأشهاد جمع شاهد مثل ناصر وأنصار، وصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف، وقوله: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] قال ابن عباس: زعموا أن لله ولدا وشريكا. {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] قال: يريد المشركين.

449 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَنَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ عَارَضَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُدْنِي الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ كَتِفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَسْأَلُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَسْأَلَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْكُفَّارُ فُيَنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سُوَيْدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ، كِلاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [هود: 19] تقدم تفسيره. {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [هود: 20] قال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 20] أي: لا ولي لهم ممن يعبدون يمنعهم مني {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} [هود: 20] قال ابن الأنباري: لإضلالهم الأتباع واقتداء غيرهم بهم. {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] قال قتادة: لأنهم صم عن الحق عمي فلا يبصرون ولا يهتدون. وقال الوالبي، عن ابن عباس: حال الله بين أهل الكفر وبين أهل الطاعة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ففي قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] ، وأما في الآخرة ففي قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] . قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 21] قال ابن عباس: أي: صاروا إلى النار. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [هود: 21] بطل افتراؤهم في الدنيا فلم ينفعهم في الآخرة شيئا، {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود: 22] قال ابن عباس: يريد حقا أنهم هم الأخسرون. قال الفراء: لا جرم كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد، ولا محالة، فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينك. فتراها بمنزلة اليمين؟ كذلك فسرها المفسرون في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ} [هود: 22] حقا أنهم، وقال الزجاج: لا جرم لا: نفي لما ظنوا أنه ينفعهم كأنه قال: لا ينفعهم ذلك. و {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود: 22] ، أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وجرم معناه: كسب، ذكرنا ذلك في قوله: لا يجرمنكم قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] الإخبات: الخشوع والتواضع والطمأنينة، قال مجاهد: اطمأنوا. قال قتادة: وأنابوا إلى ربهم. وهذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما

قبلها نازلة في المشركين، ثم ضرب مثلا للفريقين، فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} [هود: 24] يريد الكفار، {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24] يريد المؤمنين لأنهم سمعوا الحق وأبصروه واتبعوه، وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [هود: 24] استفهام، أي: في المشابهة أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون يأهل مكة؟ قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {25} أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ {26} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ {27} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ {28} وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {29} وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {30} وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {31} قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {32} قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {33} وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {34} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ {35} } [هود: 25-35] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي} [هود: 25] من فتح الألف كان التقدير: أرسلنا نوحا بأني لكم نذير مبين، وكان الوجه بأنه لهم نذير ولكنه على الرجوع من الغيبة إلى خطاب نوح قومه، ومن كسر الألف كان التقدير: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال لهم: إني نَذِيرٌ مُبِينٌ {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 26] قال الزجاج: المعنى: قد أرسلنا نوحا إلى قومه بالإنذار. {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 26] إني أنذرتكم لتوحدوا الله وتتركوا عبادة غيره، {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قِوْمِهِ} [هود: 27] قال ابن عباس: يعني: الأشراف ورؤساء القوم. {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] أي: إنسانا مثلنا لا فضل لك علينا {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] أي: لم يتبعك لم يتبعك الملأ منا وإنما اتبعك أخساؤنا، قال ابن عباس: يريد المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال. والرذل: الدون من كل شيء والجمع أرذل، ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب وأكلب وأكالب. وقوله: بَادِيَ الرَّأْيِ البادي: الظاهر من قولك: بدأ الشيء. إذا ظهر، وقال الزجاج: المعنى: اتبعوك في الظاهر وباطنهم على خلاف ذلك، ويجوز أن يكون اتبعوك في ظاهر الرأي

ولم يتدبروا ما قلت، ولم يتفكروا. ومن قرأ: بادئ بالهمز فالمعنى: أنهم اتبعوك ابتداء الرأي، أي: حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] قال ابن عباس: يريدون التكذيب له ولما جاء به من النبوة وهل الفضل كله إلا في النبوة. {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] ليس ما جئت به من الله، وجمعت بالكاف، لأنهم ذهبوا إلى مخاطبة نوح وأصحابه. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28] قال ابن عباس: على يقين وبصيرة ومعرفة من ربوبية ربي وعظمته {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] يعني النبوة، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28] فخفيت عليكم نبوتي لأن الله سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحق، وقرأ أهل الكوفة: فعُمّيت مشددة مضمومة العين، قال ابن الأنباري: معناه: فعماها الله عليكم إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء. أَنُلْزِمُكُمُوهَا أنلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، يقول: لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا ما أنتم له كارهون. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك. {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [هود: 29] على تبليغ الرسالة {مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 29] قال ابن جريج: إنهم سألوه طرد الذين آمنوا ليؤمنوا به أنفة من أن يكونوا معهم على السواء، فقال نوح: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم، وصغر شئونهم. وهو قوله: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29] قال ابن عباس: تجهلون ربوبية ربكم وعظمته. {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 30] من يمنعني من عذاب الله إن طردت المؤمنين؟ والمعنى: إن طردتهم كان ذنبا ارتكبته، فمن يدفع عني عذاب الله. قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] لما قالوا لنوح: إن هؤلاء الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما نرى منهم. قال نوح مجيبا لهم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] غيوب الله التي يعلم منها ما يضمر الناس {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] فأعلم ما يسترونه في نفوسهم، أي: فسبيلي قبول إيمانهم الذي ظهر لي، ومضمراتهم لا يعلمها إلا الله {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] هذا جواب لقولهم {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] ، {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] قال ابن عباس: تحتقر وتستصغر. يعني المؤمنين، يقال: ازدراه. إذا احتقره، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، فقال نوح: لا أقول إن الله لن يؤتيهم خيرا إذ ليس علي أن أطلع على ما في نفوسهم {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31] مني {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] إن طردتهم تكذيبا لظاهر إيمانهم، {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} [هود: 32] خاصمتنا في الدين {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32] من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] في وعد العذاب، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ} [هود: 33] بالعذاب {اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33] لا تعجزون الله ولا تفوتونه إن أراد أن ينزل بكم العذاب، {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] قال ابن عباس في رواية عطاء: يضلكم. والمعنى: يوقع الغي في قلوبكم لما سبق لكم من الشقاء، قال ابن الأنباري: وقال بعضهم: يهلككم. وليس هذا من كلام العرب إذ المعروف عندهم: أغويت فلانا. إذا

أضللته بشر دعوته إليه وحسنته له. ودلت هذه الآية على أن الإغواء بإرادة الله، وذكر نوح دليل المسألة فقال: هُوَ رَبُّكُمْ قال ابن عباس: هو إلهكم وسيدكم وخالقكم. وتأويله: إنه إنما يتصرف في ملكه فله التصرف كيف يشاء، قوله: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقولون يعني قوم نوح: افْتَرَاهُ اختلق الوحي وأتى به من عند نفسه {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود: 35] أي: إثم إجرامي وعقوبة إجرامي، فحذف المضاف، والإجرام، معناه: اكتساب السيئة، يقال: أجرم فهو مجرم. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] من الكفر والتكذيب. {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ {37} وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ {38} فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ {39} حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ {40} وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {41} وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {43} } [هود: 36-43] قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] قال المفسرون: لما جاء هذا دعا على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ قال الفراء، والزجاج: لا تحزن. وقال ابن عباس: لا تغتم. يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكره، فحزن له، قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] قال ابن عباس: بمرأى منا. وقال الضحاك: بمنظر منا. وقال الربيع: بحفظنا. والتأويل: بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، {وَوَحْيِنَا} [هود: 37] قال ابن عباس: وذلك انه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر، ويجوز أن يكون

المعنى بوحينا إليك أن اصنعها وَلا تُخَاطِبْنِي لا تراجعني ولا تسألني {فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 37] أي: في مآلهم، وترك تعذيبهم، ويراد بالذين ظلموا قومه، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يعني: نوح {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38] قال محمد بن إسحاق: قالوا: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. وقال عامة المفسرين: إنهم رأوه ينجر الخشب ويهيئ شبه البيت العظيم، فإذا سألوه عن ذلك قال: أعمل سفينة تجري في الماء. ولم يكونوا رأوا قبل ذلك سفينة، ولا ماء هناك فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله لها، فقال نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] قال ابن الأنباري: إن تسخروا منا لما ترون من صنعة الفلك فإنا نعجب من غفلتكم عما أظلكم من العذاب. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 39] هذا وعيد وتهديد، أي: فسوف تعلمون من أحق بالسخرية منكم وهو الذي يأتيه عذاب يخزيه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ} [هود: 39] أي: يجب عليه عذاب مُقِيمٌ دائم، يعني: عذاب الآخرة. قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40] بعذابهم وهلاكهم {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] ظهر الماء على وجه الأرض، وقيل لنوح: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت وأصحابك في السفينة. هذا قول عكرمة، والزهري، ورواية الوالبي عن ابن عباس، قال قتادة: ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها. وقال ابن عباس في رواية عطاء، وعطية: يريد التنور الذي يخبز فيه. قال الحسن: كان تنورا من حجارة قيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] في السفينة مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الذكر زوج والأنثى زوج. وهو قول الحسن، وقتادة قالوا: ذكر وأنثى، وقرأ حفص: من كلٍّ بالتنوين، أراد من كل شيء، ومن كل زوج زوجين اثنين، فحذف المضاف إليه، وقوله: وَأَهْلَكَ أي: واحمل أهلك، قال المفسرون: يعني ولده وعياله. {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] يعني: امرأته واعلة، وابنه كنعان، وَمَنْ آمَنَ واحمل من صدقك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود: 40] أي: إلا نفر قليل وهم ثمانون إنسانا، وَقَالَ نوح لقومه الذين أمر بحملهم ارْكَبُوا فِيهَا أي: اركبوا الماء في السفينة {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] أي: أجراها ومن قرأ بفتح الميم فالمجرى مصدر الجري وَمُرْسَاهَا أي: إرساؤها، والإرساء: الإثبات، يقال: رسا الشيء يرسو. إذا ثبت، وأرساه غيره. قال ابن عباس: تجري باسم الله وترسو باسم الله. وقال الضحاك: كان إذا أراد أن ترسو قال: بسم الله. فرست وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله. فجرت.

450 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَانٌ لأُمَّتِي إِذَا رَكِبُوا السُّفُنَ أَوِ الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْمَلِكِ " {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] إلخ الآيات، {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] . قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42] يعني الفلك {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه بالجبال في عظمته وارتفاعه على الماء {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] قال محمد بن إسحاق: كان كافرا واسمه كنعان. {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42] أي: في مكان منقطع بعيد من السفينة، ومعنى العزل: التنحية والإبعاد، يقال: هو بمعزل من هذا الأمر. أي: بموضع قد عزل منه، {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] ومن قرأ يكسر الياء أراد: يا بنيي، فحذف ياء الإضافة وترك الكسرة دلالة عليها، كما يقال: يا غلامِ أقبل. ومن فتح الياء أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار: يا بنييا، ثم حذف الألف لسكونها وسكون راء اركب، والمعنى: أن نوحا دعا ابنه إلى أن يركب معه في السفينة ليسلم من الغرق، فقال ابنه: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] يقول: أنضم إلى جبل يمنعني من الماء فلا أغرق. فقال نوح: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] لا مانع اليوم من عذاب الله {إِلا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] هذا استثناء منقطع، المعنى: لكل من رحم، فإنه معصوم {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود: 43] منع الماء بين ابن نوح وبين الجبل {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] . {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {44} وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ

الْجَاهِلِينَ {46} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {47} قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {48} } [هود: 44-48] وَقِيلَ بعد ما تناهى أمر الطوفان {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] اشربي ما فوقك من الماء، يقال: بلعت الماء أبلعه بلعا. {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] أي: عن إنزال الماء، يقال: أقلعت السماء بعد ما أمطرت. إذا أمسكت، {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] أي: نقص، يقال: غاض الماء يغيض غيضا. إذا نقص، وغضته أنا. {وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود: 44] أهلك قوم نوح وفرغ من هلاكهم وَاسْتَوَتْ يعني السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] هو جبل بالجزيرة، وكان استواؤها دلالة على نفاد الماء. 451 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءِ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ نُوحٍ ثَمَانُونَ رَجُلا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَإِنَّ اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ وَجَّهَهَا اللَّهُ إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ، فَبَعَثَ نُوحٌ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الأَرْضِ فَذَهَبَ فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ، فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً وَأَسْمَاهَا ثَمَانِينَ، وَيُرْوَى أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ رَكِبَ السَّفِينَةَ فِي رَجَبٍ فَجَرَتْ بِهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَمَرَّتْ بِالْبَيْتِ فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَأُرْسِيَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ نُوحٌ وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ فَصَامُوا شُكْرًا لِلَّهِ. {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْقَوْمِ الْمُتَّخِذِينَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] قال عكرمة، عن ابن عباس: إنه لابنُه ولكنه خالفه في النية والعمل. ونحو هذا قال الكلبي، ومحمد بن إسحاق، ومقاتل، قالوا: هو ابنه من صلبه، وقال قوم: إن هذا الذي خالف نوحا كان ابن امرأته، ولكم يكن من صلبه. وهو قول علي، وأبي جعفر الباقر، ومجاهد، والحسن. قوله: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] يعني: وعدتني أن تنجيني وأهلي، وفي هذا سؤال النجاة لابنه، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45] قال ابن عباس: أعدل العادلين. {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك،

وقال هشيم: سألت أبا بشر عن هذه الآية، فقال: معناه أنه ليس من أهل دينه. وكان نوح يظن أنه من أهل دينه، وروي أنه كان يظهر الإيمان ويستر الكفر، وقوله {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] إن سؤالك إياي أن أنجي كافرا عمل غير صالح، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ: عَمِلَ غيرَ صالح واختاره الكسائي. 452 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ هَارُونَ الْقَارِي، نا ثَابِتٌ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ كَيْفَ تَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ ابْنَكَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ يَعْنِي الشِّرْكَ {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] بجواب مسألتك من إنجاء الكافر من العذاب إِنِّي أَعِظُكَ أنهاك {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] قال ابن عباس: يريد الآثمين، لأن ذنب المؤمن جهل ليس بكفر. ثم اعتذر نوح أجمل الاعتذار فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] قال ابن عباس: يريد: إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني. {وَإِلا تَغْفِرْ لِي} [هود: 47] جهلي {وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] . قوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} [هود: 48] قال ابن عباس: يريد من السفينة إلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا أي: سلامة وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ قال المفسرون: معنى البركات على نوح أنه صار أبا البشر والأنبياء لأن جميع من بقى كانوا من نسله. قال ابن عباس: يريد أنك آدم الأصغر. قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] قال ابن عباس: يريد من ولدك. قال ابن الأنباري: من ذراري من معك. ولم يكن الذين كانوا مع نوح أمما، وأراد المؤمنين وأهل السعادة من ذريته. ثم ذكر الكفار من ذريته فقال وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يعني في الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] يعني في الآخرة، قال محمد بن كعب القرظي: لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إلى أن تقومك الساعة إلا دخل في ذلك السلام والبركات، ولم يبق كافر إلا دخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم.

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] قوله: تِلْكَ يعني ما ذكر من قصة نوح {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [هود: 49] من أخبار ما غاب عنك وعن قومك {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] قال قتادة: من قبل هذا القرآن. وما كان علم محمد وقومه بما صنع نوح لولا أن الله بين له ذلك، فَاصْبِرْ أي: كما صبر نوح على أذى قومه {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] إن آخر الأمر بالظفر والتمكين لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ {50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ {51} وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ {52} قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ

بِمُؤْمِنِينَ {53} إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {54} مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {56} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ {57} وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ {58} } [هود: 50-58] قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود: 50] هذا عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] كأنه قال: أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وكان أخاهم في النسب لا في الدين، قال ابن عباس: يريد ابن أبيهم. وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} [هود: 50] أي: ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم مع الله الأوثان، وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] قال المفسرون: إن الله تعالى حبس المطر عن قوم عاد ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هود: إن أنتم آمنتم أحيى الله بلادكم ورزقكم المال والولد. وذلك قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] ، وقد تقدم تفسيره في أول { [النعام] وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [سورة هود: 52] فسرت القوة ههنا بالمال والولد والشدة وكل هذا مما يقوي به الإنسان، قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومقاتل: يعني العدد وكثرة الأولاد. وقوله: {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] لا تتركوا الإيمان بالله، ولا تعرضوا عنه، {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] أي: بحجة واضحة {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] أي: بقولك، والباء وعن تتعاقبان {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] بمصدقين. {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] أي: ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بالجنون فأفسد عقلك وأجنك، فالذي تُظهر من عيبها لما لحق عقلك من التغيير، يقال: عراه أمر كذا، واعتراه. إذا غشيه وأصابه، فقال نبي الله عند ذلك: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ} [هود: 54] الآية، يعني: إن كان عندكم أنها عاقبتي ليطغى عليها، فإني على بصيرة في البراءة منها والعيب لها، وقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعًا أي: احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي وغيظي {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] لا تمهلوني، قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الأنبياء، أي: يقبل النبي على قومه مع كثرة عددهم فيقول لهم هذا القول، وذلك للثقة بنصر الله تعالى. ثم ذكر ذلك فقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] أي: إلا هي في قبضته وتنالها قدرته كيف شاء، والعرب إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: «ما ناصيته إلا بيد فلان» ، أي: إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء، لأن من أخذته بناصيته وهو شعر مقدم الرأس فقد قهرته، قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] قال الزجاج، وابن الأنباري: أي: أنه وإن كان قادرا عليهم فهو لا يظلمهم ولا يلحقهم بقدرته عليهم إلا ما يوجب الحق وقوعه بهم. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن الذي بعثني الله به دين مستقيم. والمعنى على هذا: إن دين ربي على صراط مستقيم فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا بمعنى تعرضوا عما دعوتكم إليه من الإيمان بالله وعبادته {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57] قال الزجاج، وابن الأنباري: معناه: فقد ثبتت الحجة عليكم، وظهر فساد مذهبكم. {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57] قال ابن عباس: ويخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم. {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود: 57] قال: يريد هلاككم لا ينقص من ملك ربي شيئا. وقال غيره: لا تضرونه شيئا بإعراضكم، إنما تضرون أنفسكم لأن ضرر كفركم عائد عليكم. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [هود: 57] من أعمال العباد حَفِيظٌ حتى يجازيهم عليها. قوله {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 58] بهلاك عاد {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 58] قال ابن عباس: يريد حيث هديتهم للإيمان وعصمتهم من أن يكفروا بي. فمعنى الرحمة ههنا ما أراهم من الهدى والبيان {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] يعني: ما عذب به الذين كفروا، ثم ذكر عادا فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ {59} وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ {60} وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ {61} قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {62} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةً مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ {63} وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا

تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ {64} فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ {65} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {66} وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {67} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ {68} } [هود: 59-68] وَتِلْكَ عَادٌ يعني القبيلة {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] قال ابن عباس: كذبوا أنبياء الله. وَعَصَوْا رُسُلَهُ إنما جمع الرسل وكان قد بعث إليهم هودا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] واتبع السفلة والسقاط الرؤساء، والعنيد: الذي لا يقبل الحق، من قولهم: عند الرجل يعند عنودا. إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه، {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [هود: 60] أي: أردفوا لعنة تلحقهم وتتصرف معهم وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: وفي يوم القيامة، كما قال: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23] ، {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود: 60] أي: بربهم، فحذف الياء، كما تقول: أمرتك الخير. {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] يريد: بعدوا من رحمة الله. قوله: وَإِلَى ثَمُودَ ظاهر إلى قوله {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [هود: 61] يعني: خلقكم من آدم، وآدم خلق من الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا جعلكم عمارا لها، أي: أورثكم الأرض فصرتم عمرتها بعد من مضوا {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62] قال المفسرون: كان صالح يعدل عن دين قومه، ويبغض أصنامهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دين أبيه وعشيرته، فلما أظهر دعاءهم إلى الله وترك عبادة الأصنام، زعموا أن رجاءهم انقطع منه ويئسوا من دخوله في ملتهم، وأنكروا عليه نهيه إياهم عن عبادة الأصنام. فقالوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [هود: 62] من توحيد الله وعبادته مُرِيبٍ موقع للريبة. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةً مِنْ رَبِّي} [هود: 63] الآية، يقول: يا قوم أعلمتم من {يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] ؟ من يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ بعد بينة من ربي ونعمة؟ قوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63] لم يكن صالح في خسارة حين قال لهم هذا، وإنما المعنى ما تزيدونني بما تقولون، يعني قولهم {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62] إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة، والتخسير مثل التفسيق والتفجير، قال ابن الأعرابي: يريد: غير تخسير لكم لا لي، ومعنى التخسير: التضليل والإبعاد من الخير. {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [هود: 64] الآية مشروحة في { [الأعراف، وقوله:] تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ} [سورة هود: 65] يعني: عيشوا في بلدكم، وعبر عن الحياة بالتمتع لأن الحي يكون متمتعا بالحواس، وقوله ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قال المفسرون: لما عقرت الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا رغوة ثلاثا، فقال صالح: لكل رغوة أجل معلوم فاصفر ألوانهم أول يوم، ثم أحمر من الغد، ثم اسود اليوم الثالث، وهو قوله: ذَلِكَ وَعْدٌ أي: العذاب غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير كذب.

453 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّجْزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، أنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ جَابِرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ لا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمُ الآيَاتِ، هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا، فَيَحْلِبُونَ مِنْ لَبَنِهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِهَا يَوْمَ غِبِّهَا، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَقَالَ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَكَانَتْ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ غَيْرِ مَكْذُوبٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو رِغَالٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبُو رِغَالٍ؟ قَالَ: أَبُو ثَقِيفٍ " قوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 66] تقدم تفسيره في قصة عاد إلى قوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] قال ابن الأنباري: هذا عطف على محذوف بتقدير: نجيناهم من العذاب، ومن خزي يومئذ. من الخزي الذي لزمهم ذلك اليوم، وبقى عاره مأثورا عنهم، وفي يومئذ قراءتان: الفتح، والكسر، فمن كسر فإن الاسم معرب فانجر بالإضافة، ومن فتح الميم مع أنه في موضع جر فلأنه مضاف إلى مبني غير متمكن، والمضاف إلى المبني يجوز بناؤه. كقول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] قال ابن الأنباري: إنما ذكر أخذ لأن الصيحة محمولة على الصياح. قال المفسرون: لما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {67} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 67-68] هذه الأحرف مفسرة في { [الأعراف،] أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [سورة هود: 68] قرئ بالإجراء، وتركه فمن أجراه فلأنه اسم مذكر سمي به مذكر، وهو الحي فصار كثقيف وقريش، ومن ترك إجراءه جعله اسما للقبيلة فلم يصرفه لاجتماع التعريف والتأنيث، وهو ثمود بن عاتي بن إرم بن سام بن نوح، قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام. قوله: {

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ {69} فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ {70} وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ {71} قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ {72} قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ {73} فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ {74} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ {75} يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ {76} } [هود: 69-76] {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود: 69] يعني الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف، قال ابن عباس: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال السدي: كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء. قَالُوا سَلامًا أي: سلموا سلاما قَالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام، وقرأ حمزة: سِلم بكسر السين، قال الفراء: وهو في معنى سلام كما قالوا: حل وحلال، وحرم حرام لأن التفسير جاء بأنهم سلموا عليه فرد عليهم. وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] قال عبيد بن عمير: مكث إبراهيم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك، فلما جاءته الملائكة رأى أضيافا لم ير مثلهم فجاءهم بعجل حنيذ، أي: محنوذ، أي: مشوي، قال ابن عباس: الحنيذ: النضيج. وهو قول مجاهد، وقتادة، والحنذ: اشتواء اللحم بالحجارة المحماة في شق من الأرض، يقال: حنذته حنذا. وهو فعل أهل البادية، فَلَمَّا رَأَى إبراهيم {أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ} [هود: 70] إلى العجل لأنهم كانوا ملائكة لا يأكلون ولا يشربون نَكِرَهُمْ إبراهيم، أي: أنكرهم وخاف امتناعهم من طعامه، وهو قوله: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] قال أبو عبيدة، والزجاج: أضمر منهم خوفا. لأنه لم يكن يأمن أن يكونوا جاءوا لبلاء أو شر، لما لم يتحرموا بطعامه، ورأوا علامة ذلك في وجهه قَالُوا لا تَخَفْ فإنا ملائكة الله {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] بالعذاب. وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ من وراء الستور يعني: سارة بنت هاران بن ناحور بنت عم إبراهيم، وكانت تتسمع إلى الرسل، وقوله: فَضَحِكَتْ أي: سرورا بما زال عنها من الخوف لأنها كانت خافت كما خاف إبراهيم عليه السلام، ويجوز أن يكون هذا على التقديم والتأخير، والتقدير: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فضحكت سرورا بالتبشير، وذلك أن الملائكة قالوا لها: أيتها الضاحكة ستلدين غلاما. والقولان في ضحكت ذكرهما الفراء، وقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] قال المفسرون: كان

إبراهيم قد ولد له من هاجر إسماعيل وكبر وشب فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست من ذلك لكبر سنها، فبشرت على كبر السن بولد يكون نبيا ويلد نبيا. وهو قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] قال الزجاج: بشروها بأنها تلد إسحاق وأنها ستعيش إلى أن ترى ولد ولده. ووراء ههنا بمعنى بعد، قال ابن عباس، ومقاتل: ومن بعد إسحاق يعقوب، ويعقوب رفع لأنه ابتداء مؤخر معناه التقديم، المعنى: ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق، ومن نصب يعقوب نصبه بفعل يشاكل معناه معنى التبشير على تقدير: من وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب، كما تقول العرب: مررت بأخيك وأباك. يريدون بمررت: جزت كأنه قيل: جزت أخاك وأباك كما قال رؤبة: يهوين في نجد وغورا غائرا أراد يدخلن نجدا، قوله: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا} [هود: 72] الأصل: يا ويلتي، فأبدل من الياء الألف لأنه أخف من الياء والكسرة، وهذه الكلمة إنما تقال عند الإيذان بورود الأمر العظيم الفظيع، وقوله: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] استفهام تعجب، قال محمد بن إسحاق: كانت ابنة تسعين سنة وكان زوجها ابن عشرين ومائة سنة. وهو قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا} [هود: 72] الذي تذكرونه من أمر الولد بيننا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ معجب، قَالُوا لها {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] من قضاء الله وقدرته؟ {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} [هود: 73] يحتمل أن يكون هذا من دعاء الملائكة لهم بالرحمة والبركة، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا عن ثبوت ذلك لهم، وقوله: أَهْلَ الْبَيْتِ يعني: بيت إبراهيم عليه السلام، ومن تلك البركات أن الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة، إِنَّهُ حَمِيدٌ تحمد فعاله، وهو بمعنى المحمود مَجِيدٌ المجيد الماجد، وهو ذو الشرف والمجد والكرم. قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74] يعني: الفزع الذي أصابه لما لم يأكلوا العجل وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بإسحاق ويعقوب {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] أي: أقبل وأخذ يجادل رسلنا من الملائكة، قال المفسرون: إن الرسل لما قالوا لإبراهيم: إنا مهلكو أهل هذه القرية، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. فما زال ينقص، ويقولون: لا. حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا. فاحتج عليهم بلوط فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فهذا معنى جدال إبراهيم في قوم لوط، وما بعد هذا مفسر في { [التوبة، قالت الرسل عند ذلك. ] يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة هود: 76] الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 76] بعذابهم {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76] أي: لا يرد عنهم ما يأتيهم من العذاب لأن الله تعالى قد قضى بذلك. قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ {77} وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي

أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ {78} قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ {79} قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ {80} قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ {81} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ {82} مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ {83} } [هود: 77-83] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} [هود: 77] يعني الملائكة، {لُوطًا} [هود: 77] في قريته {سِيءَ بِهِمْ} [هود: 77] حزن بمجيئهم لأنهم أتوه في صورة غلمان جرد، فلما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هود: 77] ضاق صدره وعظم المكروه عليه، قال الزجاج: يقال: ضاق زيد بأمره ذرعا. إذا لم يجد من المكروه فيه مخلصا. {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] شديد، قال أبو عبيدة: إنما قيل له عصيب لأنه يعصب الناس بالشر أي يشدهم. قوله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] قال المفسرون: لما أضافهم لوط مضت امرأته عجوز السوء، فقالت لقومه: لقد استضاف لوطا قوم لم أر أحسن وجوها منهم. فجاءه قومه يهرعون إليه. قال الكسائي، وأبو زيد: أهرع الرجل إهراعا. إذا أسرع. قال عامة المفسرين: يهرعون: يسرعون وَمِنْ قَبْلُ أي: ومن قبل مجيئهم إلى لوط {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78] يعني: فعلهم المنكر قَالَ لوط {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] يعني: أنا أزوجكموهن، فهن أطهر لكم من نكاح الرجال، أراد أن يقي أضيافه ببناته فعرضهن عليهم، وقال سعيد بن جبير: دعاهم إلى نسائهم. يعني أن قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أي: نساؤكم أطهر لكم فجعلهن بناته لأنه نبيهم، وكل نبي أبو أمته، وقوله: فَاتَّقُوا الله أي: اتقوا عقابه {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] لا تسوءوني فيهم، ولا تفعلوا بهم فعلا يلزمني الاستحياء منهم، والضيف يراد به الجمع، قال ابن عباس: لا تفضحوني في أضيافي. يريد: أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ وهذا معنى قول ابن عباس: رجل رشيد يقول الحق ويرد هؤلاء عن أضيافي. ورشيد ههنا بمعنى مرشد. {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79] لسن لنا بأزواج فنستحقهن {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] قال عطاء: إنك لتعلم أنا نريد الرجال لا النساء يعنون عملهم الخبيث. {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80] جماعة أقوى بها عليكم {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أو أنضم إلى عشيرة تنصرني، وشيعة تمنعني، وجواب لو

محذوف على تقدير: لحلت بينكم وبين المعصية. قال قتادة: ذكر لنا أن الله لم يبعث نبيا بعد لوط إلا في عز من قومه، ومنعة من عشيرته. ولما رأت الملائكة ما لقي لوط من قومه. {قَالُوا يَا لُوطُ} [هود: 81] إن ركنك لشديد و {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81] بسوء، فافتح الباب ودعنا وإياهم. ففتح الباب فدخلوا، فضرب جبريل بجناحه وجوههم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] وقوله: فأسر بأهلك، وقرئ بقطع الألف وهما لغتان، يقال: سريت بليل وأسريت. ومنه قوله: أسرى بعبده قال السدي، عن ابن مالك: لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه: الكبرى اسمها رية، والصغرى اسمها عروبة، والمراد بالأهل ههنا: ابنتاه، وقوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81] قال ابن عباس: يريد: في ظلمة الليل. وقال قتادة: بعد طائفة من الليل. {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81] نهى من معه من الالتفات إذا خرجوا من قريتهم، وقوله: إِلا امْرَأَتكَ من نصبها جعلها مستثناة من الأهل على معنى: فأسر بأهلك إلا امرأتَك، ومن رفع فكأن المعنى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك، قال قتادة: ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هدة العذاب التفتت فقالت: واقوماه!! فأصابها حجر فأهلكها. وهو قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} [هود: 81] للعذاب الصُّبْحُ فقال لوط: أريد أعجل من ذلك، بل الساعة يا جبريل، قال له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ {81} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 81-82] الملائكة بالعذاب {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] الكناية تعود إلى المؤتفكات وهي مذكورة قبل هذه ال { [، قال المفسرون: أدخل جبريل جناحه تحت مدائن قوم لوط حتى قلعها، وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار ونباح الكلاب وصياح الديوك، لم تسقط لهم جرة ولم ينكسر لهم إناء، وكان الطير يخرج في الهواء لا يدري أين يذهب ثم قلبها عليهم مكانها، وأنزلت عليهم الحجارة، فذلك قوله:] وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [سورة هود: 82] وهو معرب عن سَنْك وكِلْ، وهذا قول ابن عباس، ووهب، وقتادة، وسعيد بن جبير، والعرب لا تعرف هذا، قال الزجاج: ومن كلام الفرس ما لا يحصى مما عربته العرب نحو جاموس وديباج. وقد أعاد الله ذكر هذه الحجارة فقال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33] فبين للعرب ما عنى بالسجيل، وهذا القول اختيار الفراء، وابن قتيبة، قالا: من طين قد طبخ حتى صار كالآجر فهو سنك كل بالفارسية. قوله: مَنْضُودٍ هو مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض، ومعناه في قول أكثر المفسرين: الذي يتلو بعضه بعضا. مُسَوَّمَةً من نعت قوله:

حجارة قال الزجاج: معلمة بعلامة تعرف بها أنها ليست من حجارة أهل الدنيا. وهذا قول ابن جريج، قال: كانت عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الحسن، والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم. وقال قتادة، وعكرمة: كان بها نضخ من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجذع. وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ أي: في خزائنه التي لا يتصرف في شيء منها إلا بإذنه، وقوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] قال قتادة: والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا على حذر. وأكثر المفسرين على أن المراد بالظالمين ههنا كفار قريش يرهبهم الله بها. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ {84} وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {85} بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ {86} قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ {87} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {88} وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ {89} وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ {90} قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ {91} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {92} وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ {93} وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {94} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ {95} } قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ مفسر إلى قوله: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] أي: لا تطففوا ولا تبخسوا حق الناس

بالمكيال، وهو ما يكال به، ونقص المكيال أن يجعل على حد أنقص مما هو عليه المعهود، ونقص الميزان أن تجعل الصنجات أخف، وما يوزن به فهو ميزان والصنجات يوزن بها، وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] يعني: الخصب والنعمة، والمعنى: أنه حذرهم غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا، وقال الفراء: لا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة وأسعاركم رخيصة يعني: أيّ حاجة بكم إلى سوء الكيل والوزن بعد أن أنعم الله تعالى عليكم برخص السعر وكثرة المال، وقوله: {وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] يوعدهم بعذاب محيط بهم فلا يفلت منهم أحد. {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [هود: 85] أي: أتموهما بالعدل والإيفاء الإتمام {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85] ولا تنقصوا الناس ما يستحقون عليكم، قال ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين هلك بهما من كان قبلكم من الأمم: المكيال والميزان. وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله أوف الكيل أوف الوزن. وقوله: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86] قال ابن عباس: يعني: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير لكم من البخس والتطفيف. يعني: من تعجل النفع بالبخس في المكيال والميزان، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86] شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة ما يقول، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] أي: لم أؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإيمان. {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 87] قال عطاء: يريد: دينك يأمرك فكنى عن الدين بالصلاة لأنها من أمر الدين. وكان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا كأنهم قالوا: في دينك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من البخس والظلم {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي: السفيه الجاهل، وإنما قالوا هذا على طريق الاستهزاء، وجميع الآية إخبار عن استهزائهم بنبيهم حيث أنكروا عليه أمرهم بالمعروف، {قَالَ يَا قَوْمِ} [هود: 88] تقدم تفسيره في هذه ال { [، وقوله:] وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [سورة هود: 88] يعني: حلالا، كان شعيب كثير المال، قال الزجاج: جواب إن محذوف، والمعنى: إن كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال أأتبع الضلال فأبخس وأطفف. يريد: أن الله قد أغناه بالمال الحلال {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] قال ابن عباس: وما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه. وقال قتادة: لم أكن أنهاكم عن أمر أرتكبه. وقال الزجاج: لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه. {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ} [هود: 88] ما أريد إلا الإصلاح فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده، وتفعلوا كما يفعل من يخاف الله، وقوله: مَا اسْتَطَعْتُ أي: بقدر طاقتي، وطاقته البلاغ والإنذار، ثم أعلم أنه لا يقدر أحد على الطاعة إلا بتوفيق الله فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] أرجع في المعاد. قوله: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} [هود: 89] لا يكسبنكم شِقَاقِي خلافي ومعاداتي أَنْ

يُصِيبَكُمْ عذاب العاجلة {مِثْلُ مَا أَصَابَ} [هود: 89] من قبلكم، والمعنى: لا تخالفوني فتستحقوا العذاب والهلاك كما استحق غيركم من الأمم بمخالفتهم أنبياءهم، وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] قال قتادة: أي: في الزمان الذي بينكم وبينهم. قال الزجاج: وكان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها فكأنه قال لهم: العظة في قوم لوط قريبة منكم. وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه المغفرة وتوسلوا إليه بالتوبة، وهو قوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} [هود: 90] بمن تاب إليه وَدُودٌ قال ابن الأنباري: الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده من قولهم: وددت أود ودا وودودا وودادة. وقال الأزهري حاكيا عن بعض أهل اللغة: إن الودود يجوز أن يكون بمعنى المودود، ومعناه: أن عبادة المؤمنين يودونه ويحبونه لما عرفوا من فضله وإحسانه إليهم. قوله: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} [هود: 91] ما نفهم {كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] قال ابن الأنباري: معناه: ما نفقه صحة كثير مما تقول، يعنون من التوحيد والبعث وما يأمرهم به من الزكاة وترك البخس {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] قال سعيد بن جبير، وقتادة: أعمى. وهو قول ابن عباس، قال الزجاج: لغة حمير تسمى الضرير ضعيفا، لأنه ضعف بذهاب بصره. قوله: وَلَوْلا رَهْطُكَ عشيرتك وقومك لَرَجَمْنَاكَ قتلناك، قال الزجاج: والرجم من شر القتلات، وكان رهط شعيب من أهل ملتهم، فلذلك أظهروا إليهم. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أي: لست بممتنع علينا من أن نقتلك لولا ما نراعي من حق عشيرتك، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] يقول: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله عز وجل أولى بأن يتبع أمره، كأنه يقول: حفظكم إياي في الله أولى منه في رهطي. قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] الظهري: الشيء الذي تنساه وتغفل عنه، قال ابن عباس: يريد ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي والله أعز وأكبر من جميع خلقه. وقال الفراء: يعني: تعظمون أمر رهطي وتتركون أن تعظموا الله وتخافوه. {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92] عالم بأعمالكم وهو يجازيكم بها، وما بعد هذا تقدم تفسيره إلى قوله: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] قال ابن عباس: ارتقبوا العذاب إني مرتقب من الله الرحمة والثواب. قوله: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] صاح بهم جبريل صيحة فماتوا في أمكنتهم، {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} [هود: 95] أي: بعدوا من رحمة الله {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] قال ابن الأنباري: العرب تقول: بعد الطريق يبعد، وبعد الميت يبعد. إذا هلك والمصدر فيها البعد.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {96} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ {97} يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ {98} وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ {99} } [هود: 96-99] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [هود: 96] قال الزجاج: أي: بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته. وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ حجة بينة يتسلط بها على من خالفه، قال ابن عباس: يعني: عصاه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إلها {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] بمرشد إلى خير، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98] يقال: قدمه قدما. إذا تقدمه، والمعنى: أنه يقدمهم إلى النار، يدل على هذا قوله: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ قال قتادة: يمضي بين أيديهم حتى يهجم على النار. 454 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا الْفَضْلُ بْنُ الْخَصِيبِ، نا سَلَمَةُ بْنُ شُهَيْبٍ، نا أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ، نا أَبُو الدَّهْمَاءِ الْبَصْرِيُّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْخَلائِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ رَفَعَ لِكُلِّ قَوْمٍ آلِهَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَيُورِدُونَهُمُ النَّارَ وَيَبْقَى الْمُوَحِّدُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا كُنَّا نَعْبُدُهُ بِالْغَيْبِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَوَتَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنْ شَاءَ عَرَّفَنَا نَفْسَهُ فَيَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " وقوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98] الموضع أو الشيء الذي يرده، قال المفسرون: الورد المورود المدخل المدخول، قال ابن الأنباري: وتلخيص المعنى: بئس الشيء الذي يدخل النار. {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ} [هود: 99] يعني: في

الدنيا لَعْنَةً ألحقوا في الدنيا لعنة وهي الغرق وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني: ولعنة يوم القيامة وهي عذاب الآخرة، {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] قال قتادة: ترافدت عليهم لعنتان من الله لعنة الدنيا ولعنة الآخرة. وقال مجاهد: رفدوا يوم القيامة بلعنة أخرى زيدوها، فتانك لعنتان. وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] قال: هو اللعنة بعد اللعنة. قال الزجاج: وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته. قال الضحاك: اللعنتان اللتان أصابتهم رفدت إحداهما الأخرى. قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ {100} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ {101} وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ {102} } [هود: 100-102] ذَلِكَ يعني ما تقدم من الخبر {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} [هود: 100] من أخبار القرى الهالكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ نخبرك بها مِنْهَا قَائِمٌ بقيت حيطانه وَحَصِيدٌ أي: ومنها حصيد مخسوف به قد انمحى أثره، وقال ابن عباس: قائم ينظرون إليه وإلى ما بقى من أثره، وحصيد قد خرب ولم يبق له أثر، شبهه بالزرع إذا حصد. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بالعذاب والإهلاك {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] بالكفر والمعصية {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} [هود: 101] أي: ما نفعتهم وما دفعت عنهم شيئا {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] بالهلاك والعذاب {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] غير خسار وهلاك، قال ابن الأنباري: إنهم ادعوا أن عبادتها تنفعهم عند الله، فلما جرى الأمر بخلاف ما قدروا وصفها الله تعالى بأنها زادتهم بلاء وهلاكا. قوله: وَكَذَلِكَ أي: وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] ومعنى أخذ القرى أخذ أهلها، وهو أن ينقلهم إلى العقوبة والهلاك، وقوله: وَهِيَ ظَالِمَةٌ من صفة القرى وهو في الحقيقة لأهلها وسكانها، ونحو هذا قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] . 455 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ". رَوَاه مُسْلِم، عَنِ ابْنِ نُمَيْر، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ كِلاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ {103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ {104} يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ {105} فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ {106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {107} وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ {108} } [هود: 103-108] قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [هود: 103] يعني ما ذكر من عذاب الأمم وأخذهم لآيَةً لعبرة وموعظة {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود: 103] ذلك يوم القيامة وقد سبق ذكره {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103] لأن الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] شهده البر والفاجر، وأهل السماء وأهل الأرض، وَمَا نُؤَخِّرُهُ أي: ذلك اليوم {إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104] لوقت معلوم لا يعلمه غير الله، يَوْمَ يَأْتِي، وقرئ بحذف الياء التي هي لام الفعل، قال الفراء: كل ياء ساكنة ما قبلها مكسور فإن العرب تجيز حذفها وتكتفي بالكسرة من الياء. وقد حكى سيبويه، والخليل أن العرب تقول: لا أدر. فتحذف الياء وتكتفي بالكسرة. وقوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} [هود: 105] وذلك أن الخلق في ذلك اليوم كلهم ساكتون إلا من أذن الله له في الكلام كقوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: 108] وقوله: فَمِنْهُمْ أي: من الأنفس أي: في ذلك اليوم شَقِيٌّ قال ابن عباس: كتبت عليه الشقاوة. وَسَعِيدٌ كتبت عليه السعادة. 456 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ الْقَطِيعِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْنِيُّ، نا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، نا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ أُفَاقَ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ فَظَّانِ غَلِيظَانِ فَقَالا: انْطَلِقْ بِنَا نُحَاكِمُكَ إِلَى الْعَزِيزِ الأَمِينِ، فَقَالَ: خَلِّيَا عَنْهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] قال الزجاج: هما من أصوات المحزونين. وحكي عن أهل اللغة جميعا أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته. ونحو هذا قال المفسرون، قال الضحاك، ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه. والمعنى ما رواه ابن عباس في رواية عطاء قال: يريد ندامة، ونفسا عاليا، وبكاء لا ينقطع. قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107] قال الضحاك: ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض. والأكثرون على أن المراد بهذا التأبيد، كأنه قال: خالدين فيها أبدا. قال ابن قتيبة، وابن الأنباري: للعرب في معنى الأبد ألفاظ، تقول: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السموات والأرض، وما اختلفت الجرة والدرة، وما أطت الإبل، وفي أشباه كثيرة لهذا ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم، قوله: {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال الفراء: هذا استثناء استثناه الله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك. وعزيمتك على ضربه. كذلك قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] ولا يشاؤه، وقال ابن الأنباري: وقع الاستثناء على معنى: لو شاء ألا يخلدهم لقدر. وقال الزجاج، وابن كيسان، وابن قتيبة: الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب كأنه قال: خالدين فيها إلا هذه المدة ثم يصيرون إلى النار أبدا. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قال ابن عباس: يعني: من إخراج أهل التوحيد من النار. وأما الذين سَعِدُوا وقرأ أهل الكوفة سُعدوا بضم السين، قال الفراء: كلام العرب: سَعدوا، يقال: سَعد الرجل وأسعده الله، إلا هذيلة فإنهم يقولون: سُعد الرجل بالضم، وبذلك قرأ أصحاب عبد الله، وقال الكسائي: سعد وأسعد لغتان، قوله: عَطَاءً نصب بما دل عليه الكلام كأنه قال: أعطاهم النعيم عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، والجذ القطع. {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ

مَنْقُوصٍ {109} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {110} وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {111} } [هود: 109-111] فَلا تَكُ يا محمد فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ أي: من حال ما يعبد هؤلاء في أنها لا تضر ولا تنفع {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} [هود: 109] إلا كعبادة آبائهم مِنْ قَبْلُ يريد: أنهم على طريق التقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [هود: 109] من العذاب {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] لا ينقصهم من عذاب آبائهم، قال ابن عباس: يريد: ما وعدوا من خير وشر. وقال أبو العالية: يعني من الرزق. ثم عزى نبيه فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود: 110] أي: إن كذبوا بالكتاب الذي آتيناك فقد كذب من قبلهم بالكتاب الذي آتينا موسى، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110] قال ابن عباس: يريد إني أي أخرت أمتك إلى يوم القيامة، ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [هود: 110] أي: من القرآن مُرِيبٍ موقع للريبة. قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] قرأ أبو عمر، والكسائي، إن وشددت النون، لمَا خفيفة، واللام في لما: لام التأكيد دخلت في خبر إن، واللام في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] اللام التي يتلقى بها القسم كما تقول: والله لأفعلن. والتقدير: والله ليوفينهم، دخلت ما للفصل بين اللامين، وقرأ ابن كثير: وإن بالتخفيف وكذلك لما، قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إنْ عمرا لمنطلق. فيخففون إنّ ويعملونها، وأنشد: ووجه حسن النحر ... كأنْ ثدييه حقان ومن قرأ: لما مشددة كانت بمعنى: إلا، كما تقول: سألتك لما فعلت، وإلا فعلت. ومثله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] معناه: إلا، معنى {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] أي: جزاء أعمالهم، أخبر الله تعالى أنه يوفى العباد جزاء أعمالهم {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] قال ابن عباس: خبير بطاعة أوليائه، وبمعصية أعدائه. قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {112} وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ {113} وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ

وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114} وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {115} } [هود: 112-115] {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] قال قتادة: أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره. والمعنى: استقم على العمل بأمر ربك والدعاء إليه كما أمرت في القرآن، {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] قال ابن عباس: يريد: الصحابة الذين تابوا من الشرك. والمعنى: فليستقيموا هم أيضا. 457 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ، نا حَاتِمٌ الأَصَمُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالأَوْتَادِ ثُمَّ كَانَ الاثْنَانِ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْوَاحِدِ لَمْ تَبْلُغُوا حَدَّ الاسْتِقَامَةِ» وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ قَدِ اجْتَمَعَ فِي إِسْنَادِهِ زُهَّادُ هَذِهِ الأُمَّةِ، حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ، عَنْ شَيْخٍ لَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وقوله: وَلا تَطْغَوْا معناه: ولا تجاوزوا بأمري {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] الركون: السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة، قال ابن عباس: لا تميلوا، يريد: في المحبة ولبس الكلام والمودة. قال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة. وقال عكرمة: هو أن تطيعهم أو تودهم. وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم فتمسكم النار فيصيبكم لفحها {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 113] قال

ابن عباس: من مانع يمنعكم من عذاب الله، {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] تمنعون من عذابه، قوله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] 458 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُنِيبٍ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ مِنَ امْرَأَةٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ آتِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ 459 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ فَلا يَدَعُ شَيْئًا يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَّا قَدْ أَصَابَهُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا، فَقَالَ: تَوَضَّأْ وُضُوءًا حَسَنًا، ثُمَّ قُمْ فَصَلِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: أَهِيَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً قال ابن عباس في قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] يريد: الصبح والظهر والعصر. وهو قول مجاهد، ومحمد بن كعب، قال الزجاج: وصلاة طرفي النهار: الغداة والظهر والعصر. وقوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] أول ساعات الليل، واحدها زلفة، قال ابن عباس: يريد: المغرب والعشاء قرب أول الليل. وهذا قول عامة المفسرين، والمراد بهذا: إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] قال ابن عباس، وعامة المفسرين: يريد أن الصلوات الخمس يكفرن ما بينها من الذنوب. 460 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا مُسْلِمٌ، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، نا شَدَّادٌ، نا أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ

وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «هَلْ شَهِدْتَ الصَّلاةَ مَعَنَا؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ: ذَنْبَكَ " 461 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، نا حَيْوَةُ، نا أَبُو عُقَيْلٍ الْمُقْرِئُ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ: جَلَسَ عُثْمَانُ يَوْمًا وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ أَظُنُّهُ سَيَكُونُ فِيهِ مُدٌّ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى صَلاةَ الْعَصْرِ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يَبِيتُ يَتَمَرَّغُ لَيْلَتَهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، وَهُنَّ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» 462 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُعَيْمٍ الإِشْكِيبِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: كَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا " 463 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ اللَّخْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ الأَصْبَهَانِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى الْمَدَنِيُّ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ نَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ قَامَ الرَّجُلُ فَأَعَادَ الْقَوْلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَيْسَ قَدْ أَصَبْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ وَأَحْسَنْتَ لَهَا الطُّهُورَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهَا كَفَّارَةُ ذَنْبِكَ " 464 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا

يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي يَا أَبَا عُثْمَانَ لِمَ أَفْعَلُ هَذَا؟ قُلْتُ: وَلِمَ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا تَسْأَلُنِي يَا سَلْمَانُ لِمَ أَفْعَلُ هَذَا؟ فَقُلْتُ: وَلِمَ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَحَاتَتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ هَذَا الْوَرَقُ " ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِ الآيَةِ 465 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُؤَدِّبُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، نا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] يعني: القرآن عظة لمن ذكره، قوله: وَاصْبِرْ أي: على الصلاة كما قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] قال ابن عباس: يعني المصلين. قوله: {

فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ {116} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {117} وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119} } [هود: 116-119] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} [هود: 116] قال ابن عباس: يريد: ما كان. ومعنى لولا ههنا نفي عند المفسرين، قال الفراء: لم يكن منهم أحد. يعني من القرون المهلكة أُولُو بَقِيَّةٍ قال ابن عباس: أولو دين. وقال ابن قتيبة: أي: أولو بقية من دين، يقال: قوم لهم بقية، وفيهم بقية. إذا كانت فيهم مسكة خير. وقوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود: 116] عن الشرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية {إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] يعني: اتباع الأنبياء وأهل الحق {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116] المترف: الذي أبطرته النعمة وسعة العيش، قال الفراء: اتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم، وإيثار اللذات على أمر الآخرة، وركنوا إلى الدنيا والأموال واللذات، وما أعطوا من نعيمها. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117] الآية: يريد وما كان ربك ليهلك أهل القرى بشركهم وظلمهم لأنفسهم وهم مُصْلِحُونَ يتعاطون الحق فيما بينهم، أي: ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة، وتركوا الظلم، أن ينزل الله بهم عذابا يهلكهم. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود: 117] يريد الرجال، بظلم بشرك، وأهلها مصلحون يريد: فيما بينهم، كقوم لوط عذبهم الله باللواط، وقوم شعيب عذبوا ببخس المكيال. قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] قال ابن عباس: يريد: على دينك الذي بعثت به. وقال قتادة: يجعل الناس أمة واحدة بأن يجعلهم مسلمين. {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] في الدين من بين يهودي ونصراني ومجوسي وغيرها من الملل، {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] يعني: أهل الحق وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال الضحاك، ومجاهد، وقتادة: وللرحمة خلقهم، يعني: الذين رحمهم. وقال الحسن، ومقاتل: للاختلاف خلقهم، يعني المختلفين، وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف. وهذا اختيار الفراء، والزجاج، قال أبو عبيد: الذي أختاره في تفسير هذه الآية قول من قال خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه لأنه موافق للسنة. قال الزجاج: ويدل على صحة هذا قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] . قال الكلبي: يريد من كفار الجن وكفار الإنس.

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120} وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ {121} وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ {122} وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {123} } [هود: 120-123] قوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ} [هود: 120] أي: كل الذي يُحتاج إليه {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود: 120] من أخبارهم وأخبار أممهم نقص عليك {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] قال ابن عباس: ليزيدك يقينا ويقوي قلبك. وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمعها كان تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120] قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: في هذه ال { [، يعني ما فيها من أقاصيص الأنبياء والمواعظ وذكر الجنة والنار. وخصت هذه السورة بمجيء الحق فيها تشريفا للسورة ورفعا لمنزلتها، وقوله:] وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة هود: 120] يريد: أنهم يتعظون إذا سمعوا هذه ال { [وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم ويتذكرون الخير والشر، قوله:] وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [سورة هود: 121] تهديد ووعيد، يقول: اعملوا ما أنتم عاملون، فستعلمون عاقبة أمركم وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعدنا ربنا من النصر والعلو، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود: 123] أي: علم ما غاب عن العباد فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] في المعاد {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] أي: إنه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرئ بالتاء على معنى: قل لهم ذلك، والله أعلم.

سورة يوسف

سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة 466 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو ابْنُ مَطَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيفٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمُوا أَرِقَّاءَكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ فَإِنَّهُ أَيُّمَا مُسْلِمٍ تَلاهَا وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَأَعْطَاهُ الْقُوَّةَ أَلَّا يَحْسُدَ مُسْلِمًا» بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {1} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2} نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ {3} } [يوسف: 1-3] {الر} [يوسف: 1] قال ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن، تِلْكَ يعني: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] يعني: القرآن لأنه يبين الهدى والرشد، قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] 467 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَآبَاذِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ مَحْمُودٍ الْمِهْرِجَانِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، نا هِشَامُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، نا يَعْلَى بْنُ الأَشْرَفِ بْنِ جَرَادٍ وَكَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَةِ أَعْرَبِ الْعَرَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الْعَرَبِ أَعْرَبُ؟» فَقِيلَ: هَوَازِنُ أَعْرَبُ النَّاسِ قَوْمٌ لا يَلْحَنُونَ، قَالَ: فَانْتُقِيَ عَرَبُ هَوَازِنَ، فَوُجِدَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ أَعْرَبَ هَوَازِنَ، فَنَزَل الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ حَضَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ آوَوْهُ 468 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ بُرَيْدٍ الأَشْعَرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ " وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال ابن عباس: كي تفهموا، لو لم يكن عربيا لما فهموه. قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ

أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] قال الزجاج: نبين لك أحسن البيان. {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [يوسف: 3] أي: بوحينا إليك {هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف: 3] القرآن لَمِنَ الْغَافِلِينَ أي: لمن الغافلين عما أوحينا إليك من أخبار الأنبياء، ثم ذكر قصة يوسف فقال: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ {4} قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ {5} وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {6} } [يوسف: 4-6] {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [يوسف: 4] قال الفراء: التاء في يا أبت هاء، وأصل دخولها للسكت وهو قولهم: يا أباه. ثم سقطت الألف لدلالة فتحة الباء عليها، وانصرفت الهاء إلى لفظ التاء لكثرة الاستعمال، تشبيها بتاء التأنيث، وكسرت تقديرا أن بعدها ياء الإضافة، ولم تستعمل في غير النداء، لأن هاء السكت مع الألف لا يدخلان إلا في النداء، والاختيار كسر التاء في هذه القراءة لأنها أجريت مجرى تاء التأنيث وكسرت على الإضافة إلى نفس المتكلم على معنى: يا أبتي، ثم حذفت الياء لأن ياء الإضافة تحذف في النداء، ومن فتح التاء أبدل الياء بالألف فقال: يا أبتا ثم حذف الألف وأبقى الفتحة دالة عليها كقول الأعشى: ويا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم وقال رؤبة: يا أبتا علك أو عساكا وقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] قال المفسرون: رأى يوسف عليه السلام وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سجدن له، فكانت الكواكب في التأويل إخوته، والشمس أمه والقمر أباه، فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته له فقال له: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] ، وذلك أن يوسف عليه السلام كان نبيا في علم الله مذ كان، ورؤيا الأنبياء وحي، وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويخافون علو يوسف عليهم فيعملون عملا يكون فيه هلاكه، وهو قوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] أي: فيحتالوا في هلاكك {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] ظاهر العداوة، يزين له الباطل. قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] قال الزجاج، وابن الأنباري: ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك. {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ

الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] قال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: يريد والتأويل تعبير الأحلام، والتأويل: ما يئول إليه المعنى في الرؤية، والأحاديث هي أحاديث الناس عما يرونه في منامهم. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] بالنبوة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] يعني: المختصين بالنبوة منهم كَمَا أَتَمَّهَا بالنبوة عَلَى أَبَوَيْكَ قال قتادة: كل ذلك فعل الله به، اجتباه واصطفاه وعلمه من تأويل الأحاديث، فكان أعبر الناس للرؤيا وأتم النعمة عليه. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} [يوسف: 6] حيث يضع النبوة حَكِيمٌ في خلقه، قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ {7} إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {8} اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ {9} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {10} } [يوسف: 7-10] {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف: 7] أي: في خبر يوسف وقصة إخوته آيَاتٌ عبر وعجائب، وقرأ ابن كثير: آية كأنه جعل شأنهم كلهم آية لِلسَّائِلِينَ، سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا من ذلك، وكان في ذلك أعجب دلالة للسائلين على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه شرح أخبار قوم لم يشاهدهم، ولم ينظر في الكتب لأنه كان أميا. قوله: إِذْ قَالُوا يعني: إخوة يوسف، قالوا فيما بينهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وكان أخاه لأمه، والباقون كانوا إخوته لأبيه دون أمه، {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف: 8] أي: إنه أشد لهما حبا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ قال الفراء: العصبة: العشرة فما زاد، والمعنى: نحن جماعة رجال {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] قال ابن الأنباري: ضل بإيثارهما علينا ضلال خطأ يلحقه ضرره في دنياه، إذ كنا أنفع له في القيام بمواشيه من يوسف وأخيه. وقال أهل المعاني: إن أبانا في ذهاب عن طريق الثواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة. ثم قالوا أيضا فيما بينهم {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] في أرض يبعد فيها عن أبيه {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] يقبل بكليته عليكم ويخلص لكم عن شغله بيوسف، يعنون: أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة، وأخطأوا في هذا التدبير لأنه لما فقد يوسف أعرض عنهم بالكلية، قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ، وقوله: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] قال ابن عباس: تحدثوا توبة بعد ذلك يقبلها الله منكم. وهذا قول عامة المفسرين، والمعنى: قوما صالحين بإحداث التوبة، عزموا على التوبة قبل إحداث الجناية، وكذا المؤمن لا ينسى التوبة وإن كان مرتكبا للذنوب، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [يوسف: 10] يعني من إخوة يوسف، وهو يهوذا أكبر ولد يعقوب وأعقلهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 10] وقال قتادة: هو روبيل نهى عن قتله فقال: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] الغيابة: كل ما غيب شيئا وستره، والغيابة: حفرة القبر لأنها

تغيب المدفون، والجب: الركية التي لم تطو، قال الحسن: غيابة الجب قعر الجب. وقال قتادة: أسفل الجب. والمعنى: اطرحوه في موضع مظلم من البئر لا يلحقه نظر الناظرين، وقرأ أهل المدينة غيابات الجب بالجمع على معنى أن للجب أقطارا ونواحي ويكون فيه غيابات، فآثروا الجمع لذلك، واختلفوا في هذا الجب فقال قتادة: في بئر بيت المقدس. وقال وهب: هو بأرض الأردن. وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. قوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] يعني: مارة الطريق، وهم الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] قال ابن عباس: يريد: إن أضمرتم ما تريدون ولما عزموا على الكيد بيوسف. {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ {11} أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {12} قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ {13} قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ {14} } [يوسف: 11-14] قَالُوا لأبيهم {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] أنكروا عليه خوفه إياهم على يوسف، فقالوا: لم لا تأمننا عليه فترسله معنا؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] قال ابن عباس: يريد الرحمة والبر. والمعنى: وإنا طالبون ما يعود إلى مصلحة أمره، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} [يوسف: 12] أي: إلى الصحراء نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ قال الكلبي: نذهب ونجيء وننشط ونلهو، ومن قرأ بكسر العين هو افتعال من الرعاية بمعنى الحفظ يعني بعضنا بعضا، ومن قرأ بجزم العين فهو من قولهم: رتع الماء. إذا أرعى ما شاء، وأرتعتها أنا. وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] قال ابن عباس: أي: من كل ما تخافه عليه. {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13] أي: يحزنني ذهابكم به لأنه يفارقني فلا أراه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] قال المفسرون: إن يعقوب رأى في المنام ذئبا عدا على يوسف فكان حذرا عليه خائفا من تناول الذئب إياه لرؤياه التي رآها. وقال آخرون: إنما خاف عليه الذئب لأن أرضهم كانت مذئبة. وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] أي: مشتغلون برعيتكم، {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] أي: إن أكله الذئب ونحن جماعة نرى الذئب قد قصده فلا نرده عنه إنا إذا لعاجزون، فمعنى الخسران ههنا: العجز.

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {15} وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ {16} قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ {17} وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {18} } [يوسف: 15-18] قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} [يوسف: 15] في الكلام اختصار وإضمار، التقدير: فأرسله معهم فلما ذهبوا به وأجمعوا أي عزموا على {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] قال السدي: خرجوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أحدهم يضربه، فيستغيث بالآخر، فيضربه فلا يرى منهم رحيما، وضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه، يا يعقوب، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء، فلما كادوا يقتلونه قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، وجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه ردوا علي القميص، فأتوا به فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يؤنسونك، ودلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة في البئر فقام عليها وجعل يبكي، فناداه إخوته فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. قال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن اثنتي عشرة سنة ولقى أباه بعد ثلاثين سنة. وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما ألقي يوسف في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوبا، اجعل لي فرجا مما أنا فيه. قال: فما بات فيه. قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} [يوسف: 15] الآية، قال المفسرون: أوحى الله تعالى إلى يوسف تقوية لقلبه في البئر لتصدقن رؤياك، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد اليوم. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] بأنك يوسف في وقت إخبارك إياهم بأمرهم، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، قال ابن عباس: ثم إنهم ذبحوا سخلة، وجعلوا دمها على قميص يوسف {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] ليكون أجرا في الظلمة على الاعتذار لكذبهم ليدلسوا على أبيهم، فلما سمع صوتهم فزع، وقال: ما لكم يا بني؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] قال أكثر المفسرين: يسابق بعضنا بعضا في الرمي ليتبين أينا أسبق سهما. وقال مقاتل: نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا. {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف: 17] ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] لاتهمتنا في يوسف لمحبتك إياه، وأروه قميصه ملطخا بدم، فذلك قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] أي: مكذوب فيه لأنه لم يكن دم يوسف فسمي

بالمصدر كما تقول: ضرب الأمير ونسج اليمن، فقال يعقوب: كذبتم ما عهدي بالذئب حليما، لو أكله لخرق قميصه {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} [يوسف: 18] زينت لكم أَمْرًا غير ما تصفون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فشأني صبر جميل، وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] أي: به أستعين على ما تقولون من الكذب، ثم إن يوسف مكث في الجب ثلاثة أيام ثم جاءت. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {19} وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ {20} } [يوسف: 19-20] {سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19] أي: رفقة تسير في السفر {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19] وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلَى دَلْوَهُ أرسلها في البئر فتشبث يوسف بالرشاء فأخرجه الوارد، فقال: يَا بُشْرَاي يا فرحتي، وقرأ أهل الكوفة: يا بشرى وهذه القراءة كالأولى إلا أنها غير مضافة، وقال السدي: نادى صاحبه وكان اسمه بشرى، فقال: يا بشرى هذا غلام، وذلك أن الوارد، واسمه مالك بن ذعر لما أرسل الدلو في البئر تعلق يوسف بالحبل فأخرجه مالك وهو يظن أنه يستقي الماء، فإذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان، ففرح بذلك فقال: يا بشراي أو: يا بشرى. قال كعب: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين، مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار، وكان يشبه آدم يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن. وقوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً أسره الوارد ومن كان معه من التجار الذين كانوا معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة دفعها إلينا بعض أهل الماء إلى مصر، وقالوا فيما بينهم: إن قلنا التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] قال ابن عباس: يريد بيوسف. وقوله: {وَشَرَوْهُ} [يوسف: 20] قال وهب: كان يهوذا منتدبا ينظر ما يطرأ على يوسف، فلما أخرجوه من البئر أخبر إخوته، فأتوا مالك بن ذعر وقالوا: هذا عبدنا. وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك بن ذعر: أنا اشتريته منكم. فباعوه منه، وذلك قوله: وشروه يقال: شريت. إذا بعت، وإذا اشتريت، وقوله: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: حرام لأن ثمن الحر حرام، وسمي الحرام بخسا لأنه لا بركة فيه فهو منقوص البركة. قال الكلبي: باعوه باثنين وعشرين درهما. وهذا قول مجاهد، وقال الزجاج: أخذ كل واحد من إخوته درهمين. قال عطاء، عن ابن عباس: بعشرين درهما فأخذ كل

واحد منهم إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. فذلك قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أي: قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] والزهد والزهادة: قلة الرغبة في الشيء، يريد: أن إخوة يوسف كانوا من الزاهدين في يوسف لأنهم لم يعرفوا موضعه من الله ولا كرامته عليه، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا زاهدين في ذلك الثمن إما لرداءته، وإما لأن قصدهم كان تبعيد يوسف لا الثمن، ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه فإنه آبق سارق كاذب وقد برئنا إليكم من عيوبه، فحمله مالك على ناقة وصار به نحو مصر، وكان طريقهم على قبر أمه، فلما بلغ قبر أمه أسقط نفسه من الناقة على القبر وهو يبكي ويقول: يا أمي ارفعي رأسك من الثرى وانظري إلى ولدك يوسف وما لقي بعدك من البلاء، يا أماه لو رأيت ضعفي وذلي لرحمتيني، يا أماه لو رأيتيني وقد نزعوا قميصي وشدوني وفي الجب ألقوني، وعلى خد وجهي لطموني، وبالحجارة رجموني. وفقده مالك فصاح في القافلة: ألا إن الغلام قد رجع إلى أهله. فطلبه القوم فرأوه، فأقبل إليه رجل منهم وقال: يا غلام قد أخبرنا مواليك أنك آبق سارق فلم نصدق حتى رأيناك تفعل ذلك. فقال: والله ما أبقت ولكنكم مررتم على قبر أمي فلم أتمالك أن رميت بنفسي على قبرها. قال: فرفع يديه ولطم وجهه وجره حتى حمله على ناقته، وذهبوا به حتى قدموا مصر فأمره مالك بن ذعر حتى اغتسل، ولبس ثوبا حسنا، وعرضه على البيع فاشتراه قطفير بن روحيب وهو العزيز بمصر، وكان على خزائن الملك الأعظم وصاحب أمره. قال مقاتل بن سليمان: اشتراه بعشرين دينارا وحلة ونعلين. وقال وهب: ترافع الناس في ثمنه وتزايدوا حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا، فابتاعه قطفير بهذا الثمن فلما اشتراه وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راعيل: أكرمي مثواه. فذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {21} وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {22} } [يوسف: 21-22] {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] قال ابن عباس: أكرميه ما كان عندك. وقال الزجاج: أحسني إليه في طول مقامه عندنا. يقال: ثوى يثوي ثوى ومثوى. {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [يوسف: 21] أي: يكفينا إذا بلغ وفهم الأمور، يقضي بعض شئوننا. 469 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: الْعَزِيزُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَتْ مُوسَى فَقَالَتْ لأَبِيهَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] أي: نتبناه وكان العزيز عقيما أو حصورا لا يولد له، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي

الأَرْضِ} [يوسف: 21] يعني: وكما أنجيناه من إخوته حين هموا بإهلاكه، وأخرجناه من ظلمة البئر، مكنا له في الأرض، ملكناه في أرض مصر حتى بلغ {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 21] تقدم تفسيره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] قال ابن عباس: على ما أراد من قضائه، أي: لا يغلبه على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير مانع {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] ذلك وهم المشركون والذين لا يعلمون أن قدر الله غالب، وأن مشيئته نافذة. قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] العرب تقول: بلغ فلان أشده. إذا بلغ منتهاه في شبابه وقوته، قال أكثر المفسرين: ثلاثا وثلاثين سنة. وقال عطاء: يريد الحلم. وقال الضحاك: عشرين سنة. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] عقلا وفهما، وقال الكلبي: الحكم النبوة والعلم علم الدين. وقال الزجاج: جعلناه حكيما عالما. وليس كل عالم حكيما، والحكيم: العالم المستعمل علمه الممتنع من استعمال ما يجهل فيه وَكَذَلِكَ ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {23} وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {24} وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {25} قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ {27} فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ {28} يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ {29} } [يوسف: 23-29] قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] يعني امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها، طلبت منه أن يواقعها، والمراودة: المطالبة بأمر للعمل به، قال الزجاج: طالبته بما تريد النساء من الرجال. وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ قال المفسرون: غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] معناه في

قول جميع أهل اللغة والتفسير: هلم. قال الفراء، وابن الأنباري: لا مصدر له، ولا تصرف، ولا تثنية ولا جمع ولا تأنيث يقال للاثنين: هيت لكما. وللجمع هيت لكم. قال الأخفش: يجوز كسر التاء ورفعه، وكسر بعضهم الهاء، وفتح التاء كل ذلك بمعنى واحد، قال أبو زيد: هيت لك بالعبرانية: هنيا لخ، أي: تعال، أعربه القرآن، أما ما روى هشام، عن ابن عامر: هئت لك بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فإنها فعلت من الهيئة، قال أبو زيد: هئت للأمر هيئة، وتهيأت له. ويجوز تخفيف الهمزة كما يخفف من جيت وشيت، وأنكر أبو عمرو، والكسائي هذه القراءة وقالا: هيت بمعنى تهيأت، باطل ولم تحك عن العرب. والله أعلم، قَالَ يوسف مَعَاذَ الله أعوذ بالله أن أفعل هذا، والمعنى: أعتصم بالله من هذا إِنَّهُ رَبِّي إن الذي اشتراني هو سيدي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: أنعم علي بإكرامي فلا أخونه في حرمته، إني إن فعلت ذلك كنت ظالما، و {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] قال ابن عباس: لا يسعد الزناة العاصون. قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] قال أهل التفسير: السدي، وابن إسحاق، والضحاك، ومقاتل فيما ذكروا، عن ابن عباس: إنها لما راودت يوسف جعلت تذكر محاسن يوسف فقالت: يا يوسف، ما أحسن شعرك. قال: هو أول ما ينتشر من جسدي. قالت: ما أحسن عينيك. قال: هي أول ما يسيل على الأرض من جسدي. قالت: ما أحسن وجهك. قال: هو للتراب يأكله. قالت: ما أحسن صورتك. قال: ربي صورني في الرحم. قالت: يا يوسف، صورة وجهك أنحلت جسمي. قال: الشيطان يعينك على ذلك. قالت: بساط الحرير قد بسطته، قم فاقض حاجتي. قال: إذن يذهب نصيبي من الجنة. قالت: ادخل الستر معي. قال: ليس شيء يسترني من ربي. فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة ويوسف شاب يجد من شبق الشباب ما يجده حتى جرى الشيطان فيما بينهما، فضرب إحدى يديه إلى جيب يوسف وبيده الأخرى إلى جيب المرأة، فجمع بينهما حتى خلوا في بعض البيوت، فذلك قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] أي: أرادته وقصدته، وأما هم يوسف فذكر ابن عباس، وجلة أهل التفسير: أنه حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن. وسئل ابن عباس: ما بلغ من هم يوسف؟ قال: استلقت المرأة وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وهذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، ومجاهد، وابن أبي بزة، والأعمش، والحسن، هذا قول المتقدمين، وذكر المتأخرون فرقا بين الهمين: فقال أبو العباس

أحمد بن يحيى: همت المرأة بالمعصية مصرة على ذلك وهم يوسف بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها، فبين الهمين فرق، وشرحه ابن الأنباري، فقال: همت المرأة عازمة على الزنا، ويوسف عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس فلم يلزمه هذا الهم ذنبا، إذ الرجل الصالح يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب كان غير مؤاخذ بما هجس في نفسه. قال الزجاج: والذي عليه المفسرون أنه هم بها وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته إلا أن الله تفضل بأن أراه البرهان، ألا ترى أنه قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] الآية، وقال ابن الأنباري: والذي نذهب إليه في هذه الآية ما يروى عن الصحابة والتابعين من إثبات الهم ليوسف غير عائبين له، بل نقول: إن انصرافه بعد إثبات الهم ونهيه نفسه عن هواها تعظيما لله ومعرفة بحقه أدل على وفور الثواب وتكامل الأجر. والذين أثبتوا الهم ليوسف من علي، وابن عباس، ووهب، وابن سيرين، وغيرهم كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه، وقد قال الحسن: إن الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكنه قصها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته. وقال أبو عبيد: يذهب الحسن إلى أن الحجة من الله على أنبيائه أوكد، وهي لهم ألزم، فإذا كان يقبل التوبة منهم فهي إلى قبولها منكم أسرع. وقوله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] قال ابن عباس، وعامة المفسرين: مثل له يعقوب فرأى صورته عاضا على إصبعيه يقول: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فاستحيا منه. قال الحسن: مثل له جبريل في صورة يعقوب. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: مثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقال السدي: رأى يعقوب قائما في البيت يقول: يا يوسف لا تواقعها فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثله إذا مات فوقع بالأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك إذا لم تواقعها كمثل الثور الصعب الذي لم يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصل قرنيه فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه. 470 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ السُّكَّرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْبَصْرِيِّ، نا أَبُو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَصْرِيُّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] قَالَ: قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَامًا كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ {12} } [الانفطار: 10-12] ، فَقَامَ هَارِبًا، وَقَامَتْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] ، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآيَةَ فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرَّوْعُ عَادَ وَعَادَتْ،

فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: أَدْرِكْ عَبْدِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْخَطِيئَةَ فَانْحَطَّ جِبْرِيلُ عَاضًّا عَلَى إِصْبَعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا يُوسُفُ أَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَنْبِيَاءِ فذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] قال الزجاج: السوء: خيانة صاحبه، والفحشاء: ركوب الفاحشة. والمخلصين: الذين اخلصوا دينهم لله، فمن فتح اللام أراد الذين أخلصهم الله من الأسواء، قوله: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ أي: تبادرا إلى الباب يجتهد كل واحد أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف المرأة فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج فلم تصل إلا إلى دبر قميصه فقدته، وذلك قوله: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25] أي: قطعته من خلف وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا وجدا وصادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقة بالقول ومبرئة نفسها من الأمر وملزمة يوسف بالذنب: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف: 25] قال ابن عباس: يريد الزنا. {إِلا أَنْ يُسْجَنَ} [يوسف: 25] يحبس في السجن {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] يعني: الضرب بالسياط فلما سبقت هي بطرح الجرم على يوسف غضب يوسف وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] أي: أعلم معلم وأبين مبين وكان رجلا حكيما من أقارب المرأة، قال الكلبي: كان ابن عمها وكان رجلا حكيما وكان مع زوجها، فقال: قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب وشق القميص، فلا ندري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه كانت المرأة صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق. وقوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] إلى {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} [يوسف: 28] من حكم الشاهد وبيانه عما يوجب الاستدلال به على تمييز الكاذب من الصادق، وقوله: فلما رأى أي: زوج المرأة قميص يوسف {قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف: 28] أي: إن قولك: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا من كيدكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] ، ثم قال ليوسف يُوسُفُ أي: يا يوسف {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76] أي: اترك هذا الأمر ولا تذكره وَاسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ قال لامرأته: توبي أنت من ذنبك {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] إنك قد أثمت بمراودتك شابا عن نفسه وإرادته على الزنا، ثم شاع ما جرى بينهما وانتشر في مدينة مصر حتى تحدثت بذلك النساء وخضن فيه، وهو قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {30} فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ {31} قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ {32} قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ {33} فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {34} } [يوسف: 30-34] {

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] قال ابن عباس: يريد نسوة من أشراف النساء، وأراد بالنسوة الجمع لذلك ذكر فعلهن حملا على المعنى، وإذا أنث حمل على اللفظ، وقوله: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ يعني: زليخا، والعزيز بلغتهم: الملك تُرَاوِدُ فَتَاهَا غلامها {عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] قال ابن عباس: قد دخل حبه شغاف قلبها. وهو موضع الدم الذي يكون داخل القلب، وقال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ} [يوسف: 30] عن طريق الرشد بحبها إياه مُبِينٍ ظاهر. فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ قال ابن إسحاق: يعني: كيدهن وذلك أنهن إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف، لما كان بلغهن من حسنه وجماله، اتخذت مأدبة فدعت أربعين امرأة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها، فذلك قوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ} [يوسف: 31] وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً مجلسا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، وقال ابن عباس في رواية عطاء، ومجاهد: هو الأترج. وقال جماعة من المفسرين: يعني طعاما يحز بالسكين. وقال الأزهري: وقيل للطعام متكأ لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكأوا، ونهيت هذه الأمة عن ذلك. وقوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف: 31] قال السدي: أعطيت كل واحدة منهن أترجة وسكينا وأمرت يوسف بالبروز لهن، ليرينه فيعذرنها في حبها إياه، وهو قوله: {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أعظمنه، وهالهن أمره، وبهتن بالنظر إليه وذهب عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين تعجبا من حسنه وجماله، وهو قوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ قال قتادة: أبنَّ أيديهن. وقال مجاهد: لم يحسسن إلا بالدم، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف. {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف: 31] حاش وحاشا يستعملان في الاستثناء والتبرئة، والأصل حاشا لأنه من فاعل المحاشاة، يقال: حاشى يحاشي. والحشاء: الناحية، ومعنى حاش لله صار يوسف في حشا أي: في ناحية مما قذف به أي: لم يلابسه، كأن المعنى: بعد يوسف عن هذا الذي رمي به، أي: لخوفه ومراقبته أمره، وهذا قول أكثر المفسرين، قالوا: هذا تنزيه ليوسف عما رمته به امرأة العزيز. وقال آخرون: هذا تنزيه له من تهمة البشر، لفرط جماله، يدل على هذا سياق الآية. ومن قرأ حاش بغير ألف

فهو على حذف آخر الفعل كقولهم: لم يك، ولا أدر، وقد قال رؤبة: وصاني العجاج فيما وصني وقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أي: ليس هذا بآدمي {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] على ربه. 471 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ» 472 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ السَّعْدِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ بَحْرٍ، نا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْخَرَشِيِّ، قَالَ: قُسِمَ الْحُسْنُ نِصْفَيْنِ نِصْفٌ لِيُوسُفَ وَسَارَّةُ وَنِصْفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَصِفُ يُوسُفَ حِينَ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: " رَأَيْتُ رَجُلا صُورَتُهُ صُورَةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَخُوكَ يُوسُفُ " 473 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ الْحَرْبِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، أنا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " هَبَطَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: حَبِيبِي إِنِّي كَسَوْتُ حُسْنَ يُوسُفَ مِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، وَكَسَوْتُ حُسْنَ وَجْهِكَ مِنْ نُورِ عَرْشِي، وَمَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَحْسَنَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ " قَالَتْ المرأة عند ذلك للنسوة: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] قال ابن الأنباري: أشارت بذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس، قال المفسرون: أرادت إظهار عذرها عند النسوة بما شهدن من جمال يوسف، بهتن بالنظر إليه، وذهبت عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن، قالت لهن هذا القول، ومعنى {لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] ، أي: في حبه والشغف به، ثم أقرت عندهن فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] امتنع وأبى، ثم توعدته بإيقاع المكروه به إن لم يطعها فيما تدعوه إليه، فقالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] من الإذلال بالسجن والحبس، قَالَ يوسف {

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] مما يطالبنني به من معصيتك، وذلك أن النسوة قلن له: إنك الظالم وهي المظلومة، وأمرنه بمطاوعتها وقضاء حاجتها {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 33] كيد جميع النسوة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] أمل إليهن وأتابعهن، يقال: صبا إلى اللهو، يصبو صبوا. إذا مال إليه {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] من يستحق صفة الذم بالجهل، قال ابن عباس: يريد المذنبين الآثمين. فَاسْتَجَابَ الله ليوسف دعاءه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] بأن عصمه منهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [يوسف: 34] لدعائه الْعَلِيمُ بما خاف من الإثم، وقال وهب، والسدي: إن امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس، يخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أقدر أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف، فذلك قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ {35} وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {36} قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {40} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ {41} وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ {42} وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ {43} قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ {44} وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ {45} } [يوسف: 35-45] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} [يوسف: 35] يعني: آيات براءة يوسف لَيَسْجُنُنَّهُ ليحبسنه في السجن حَتَّى حِينٍ الحين من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل، قال عطاء: يريد إلى انقطاع المقالة. وقال الكلبي: الحين ههنا

خمس سنين. وقال عكرمة: سبع سنين. وقال مقاتل: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة. قال السدي: ثم إن الملك غضب على خباز بلغه أنه يريد أن يسمه، وأن صاحب شرابه مالأه على ذلك فحبسهما جميعا، وذلك قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] وكان يوسف لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام. فقال أحد الفتيين: هلم نجرب هذا العبد العبراني نتراءى له شيئا فسألا من غير أن يكونا رأيا شيئا، فذلك قوله: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قال له الساقي: إني رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها، ومعنى أعصر خمرا: أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمرا، فحذف المضاف، وقال الزجاج، وابن الأنباري: العرب تسمي الشيء باسم ما يئول إليه الشيء إذا انكشف المعنى ولم يلتبس، يقولون: فلان يطبخ الأُجُرَّ ويطبخ الدبس وإنما يطبخ اللبِن والعصير. وقوم يقولون: إن بعض العرب يسمون العنب خمرا، حكى الأصمعي، عن المعتمر أنه لقي أعرابيا معه عنب، قال: ما معك؟ فقال: خمر. وقال صاحب الطعام: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه، فذلك قوله: {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أخبرنا بتفسيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] تؤثر الإحسان، وتأتي الأفعال الجميلة، قال سلمة بن نبيط: كنت بخراسان جالسا عند الضحاك فسأله رجل عن قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] ما كان إحسان يوسف؟ قال: كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع عليه، وإن احتاج جمع له، وإن مرض قام عليه. وقال الفراء: من المحسنين العالمين. ونحو هذا قال الزجاج: ممن يحسن التأويل. ثم ذكر لهما يوسف ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا فقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف: 37] في منامكما {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] في اليقظة {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] التأويل ذَلِكُمَا التأويل {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] أي: لست أقوله على جهة التكهن والتنجم، وإنما أخبركما بوحي من الله وعلم، ثم أخبر أنه تارك ملة الكفر فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 37] الآية {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف: 38] إلى قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38] قال ابن عباس: يريد: أن الله عصمنا من أن نشرك به. {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} [يوسف: 38] أي: اتباعنا الإيمان بتوفيق الله لنا وبفضله علينا وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] الله على نعمته فيوحدونه، ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] يعني: الأصنام من صغير وكبير خَيْرٌ أعظم في صفة المدح {أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] يعني: أنه أحق بالإلهية من الأصنام، ثم خاطبهم ومن على مثل حالهم في الكفر فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} [يوسف: 40] من دون الله {إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} [يوسف: 40] يعني: الأرباب والآلهة ولا تصح معانيها للأصنام فكأنها أسماء فارغة، وكأنهم يعبدون الأسماء لأنها لا معاني تصح لها {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] من حجة بعبادتها {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 40] أي: الفضل بالأمر والنهي إلا لله {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40] أي: الذي أمر به من {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] وهو الدين المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] قال ابن عباس: لا يعلمون ما للمطيعين من الثواب، وللعاصين من العقاب. قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} [يوسف: 41] الآية، قال الكلبي: لما قص الساقي رؤياه على يوسف قال له: ما

أحسن ما رأيت: أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتعود كأحسن ما كنت فيه. وقال للخباز لما قص عليه: بئس ما رأيت: السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيقتلك ويصلبك وتأكل الطير من رأسك. فقالا: ما رأينا شيئا. قال: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي: فرغ منه، سيقع بكما ما عبرت لكما صدقتما أو كذبتما، وإنما حلم يوسف بوقوع الأمر بهما من قبل، وحي أتاه من الله تعالى. {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42] أي: أيقن وعلم، وهو الساقي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] أي: عند الملك صاحبك، وقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] قال مجاهد: أنسى الشيطان يوسف الاستعانة بربه، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك، فعوقب بأن لبث في السجن بضع سنين. وهذا قول ابن عباس، واختيار الزجاج وذهب القوم إلى أن الكناية راجعة إلى الساقي على معنى: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] قال الأصمعي: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وعامة المفسرين على أن المراد بالبضع ههنا سبع سنين، وقالوا: عاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين بعد الخمس التي حبسها إلى وقت قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، قال ابن عباس: لما تضرع يوسف إلى مخلوق وكان قد اقترب خروجه أنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين. 474 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا زُهَيْرُ بْنُ سَلامٍ، نا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ، حَيْثُ يَبْتَغِي الْمَخْرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» وروى الحسن، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رحم الله يوسف لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» . قال: ثم يبكي الحسن ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس، ويروى أن جبريل دخل على يوسف السجن، فلما رآه يوسف عرفه، فقال له يوسف: يا أخا المنذرين، ما لي أراك بين الخاطئين، فقال له جبريل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربُّ العالمين ويقول لك: أما استحييت مني إذ استشفعت بالآدميين؟ فبعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين. قال

يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم. قال: إذن لا أبالي. قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} [يوسف: 43] الآية، قال المفسرون: لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان وسبعا عجاف، فابتلعت العجاف السمان فدخلت في بطونهن فلم ير منهن شيئا، ورأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبها وَسبعا أُخَرَ يَابِسَاتٍ قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، فجمع الملك الكهنة وقصها عليهم. فذلك قوله: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف: 43] والعجاف ضد السمان، وأحدها أعجف وعجفاء، والعجف: ذهاب السمن، فمعنى العجاف: الهزلى التي لا لحم عليها، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] يقال: عبرت الرؤيا أعبرها عبرا وعبارة، وعبرتها تعبيرا. إذا فسرتها، {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف: 44] أي: أحلام مختلطة لا تأويل لها، قال أبو عبيدة: ونراه مأخوذا من الحشيش الذي يجمع، ويقبض عليه بالكف فيقال له: ضغث. وقال الكلبي: أباطيل أحلام. وقال قتادة: أخلاط أحلام. قال ابن الأنباري: إنهم قالوا هذه منامات كاذبة لا يصح تأويلها. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ} [يوسف: 44] التي هذا وصفها بِعَالِمِينَ إذ كنا نعلم تأويل ما يصح، وهذا معنى قول أكثر المفسرين، واختيار الزجاج قال: إنهم قالوا له: رؤياك هذه أخلاط وليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. قال الكلبي: لما سأل الملك عن رؤياه جثا الساقي بين يديه بعد انقضاء جواب الملأ، فقال للملك: إني قصصت أنا والخباز على رجل في السجن منامين فخبرنا بتأويلهما، فصدق في جميع ما وصف، ولم يسقط من تأويله شيء، فإن أذنت مضيت إليه واتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا. فذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} [يوسف: 45] يعني الساقي {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: تذكر شأن يوسف وما وصاه به بعد حين من الدهر. قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والأمة: زمان من الدهر طويل، قال عطاء، عن ابن عباس: بعد سنين. وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] أي: أن أخبركم به فَأَرْسِلُونِ فأرسل، فأتى يوسف فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ {46} قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ

إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ {47} ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ {48} ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ {49} } [يوسف: 46-49] يُوسُفُ يعني يا يوسف {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46] الكثير الصدق فيما يخبر به، وما بعد ذلك ظاهر إلى قوله تعالى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} [يوسف: 46] يعني: الملك، وأصحابه، والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ كي يعرفوا ذلك، وقيل: لعلهم يعلمون فضلك وعلمك. قال له يوسف: أما السبع بقرات السمان فإنهم سبع سنين مخصبات وذوات نعمة، وأنتم تزرعون فيها، وهو قوله قَالَ تَزْرَعُونَ أي: فازرعوا {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف: 47] قال ابن عباس: متوالية. والدأب: استمرار الشيء على عادة، وهو دائب يفعل كذا، أي: استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا ودأبا، والمعنى: زراعة متوالية في هذه السنين على عادتكم فَمَا حَصَدْتُمْ مما زرعتم {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] يعني: ما أردتم أكله فدوسوه، ودعوا الباقي في السنبل، لأنه أبقى له وأبعد عن الفساد {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف: 48] يعني: سبع سنين مجدبات، والشداد: الصعاب التي تشتد على الناس يَأْكُلْنَ يذهبن ويفنين {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} [يوسف: 48] في السنين المخصبة {إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] تحرزون وتدخرون، والإحصان: إحراز الشيء، قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} [يوسف: 49] الآية، قال قتادة: زاده الله علم عام لم يسألوه عنه. وقوله: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف: 49] يقال: غاث الله البلاد يغيثها غيثا. إذا أنزل بها الغيث، ومعنى يغاث الناس: يمطرون ويسقون الغيث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ من السمسم دهنا، ومن العنب عصيرا، ومن الزيتون زيتا للخصب الذي آتاهم كما كانوا يعصرون أيام الخصب، فلما رجع الرسول إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف عرف الملك أن ذلك التأويل صحيح، فقال: ائتوني الذي عبر رؤياي، فهو قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] فجاء الرسول يوسف قال له: أجب الملك، فأبى أن يخرج مع الرسول حتى تبين براءته مما قذف به، فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] يعني: الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] ما حالهن وشأنهن؟ والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ويسأل ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، قال المفسرون: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره، متهم بفاحشة، فأحب أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه. وقد استحسن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزم يوسف وصبره حين دعاه الملك فلم يبادر، وهو ما روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] الآية، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن طول ما لبثت لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، وما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة ". 475 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْمُزَكِّي، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا

خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لأَجَبْتُ» قال الزجاج: ولم يفرد يوسف امرأة العزيز لحسن عشرة منه وأدب، فخلطها بالنسوة، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] أي: أنه عالم بذلك وقادر على إظهار براءتي، قال المفسرون: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {51} ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ {52} وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ {53} } [يوسف: 51-53] مَا خَطْبُكُنَّ ما شأنكن وقصتكن {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] قال ابن الأنباري: جمعهن في السؤال ليعلم عين المراودة. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] من زنا، أعلمنه براءة يوسف من الزنا، فقالت {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] أي: ظهر وتبين ووضح وانكشف، قال الفراء: لما دعا النسوة فبرأنه، قالت: لم يبق إلا أن يقبل علي بالتقرير. فأقرت. فذلك قولها: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] في قوله {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] فقال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] يقول: ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] لا يرشد كيد من خان أمانته، يعني: أنه يتضح في العاقبة بحرمان الهداية، ولما قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] قال ابن عباس: وما أزكي نفسي، خاف على نفسه التزكية، وتزكية النفس مما يذم وينهى عنه. {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] بالقبيح وما لا يحب الله، وذلك لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه {إِلا مَا رَحِمَ} [يوسف: 53] أي: من رحم رَبِّيَ فعصمه مما تدعوه إليه نفسه من القبيح، وما: يقع بمعنى مَن، قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، ولما تبين للملك عذر يوسف، وعرف أمانته وكفايته وعلمه وعقله قال: {

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ {54} قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55} وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {56} وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {57} } [يوسف: 54-57] {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] أجعله خالصا لي لا يشركني فيه أحد فَلَمَّا كَلَّمَهُ قال الكلبي: لما صار يوسف إلى الملك، وكان في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للساقي: أهذا يعلم من تأويل رؤياي ما لم يعلمه السحرة ولا الكهنة؟ قال: نعم. فأقبل على يوسف، وقال: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاها، فأجابه يوسف بما شفاه وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قَالَ له الملك {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] قال ابن عباس: يريد مكنتك في ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني، وائتمنتك فيه. وقال الزجاج: أي: قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما قذفت به. ولما عبر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، وتبني الأهرام وتجمع فيها الطعام ليأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك لحكمك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ ومن يجمعه، ويكفي الشغل فيه؟ فقال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55] يعني: أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لما وليت عَلِيمٌ بأمره. قاله قتادة، وقال السدي: حفيظ للحساب عالم بالألسن. وذلك أن الناس كانوا يفدون على الملك من كل ناحية، ويتكلمون بلغات مختلفة، فقال له الملك: ومن أحق به منك؟ فولاه ذلك كله. 476 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ، لَوْ لَمْ يَقُلِ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ لَوَلَّاهُ مِنْ سَاعِتِه، وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ سَنَةً "

قال أصحاب الأخبار: فأقام في بيت الملك سنة، فلما انصرفت السنة من يوم أن سأل الإمارة دعاه الملك، وتوجه، ورداه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كلة من إستبرق مكللة بالدر والياقوت، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته، وفوض أمره إليه، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف براعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق، لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في صورتك فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فأصابها، فولدت له ابنين: أفرايم، وميشا ابني يوسف، واستوثق ليوسف ملك مصر. فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 56] أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56] هذا تفسير التمكين، وقرأ ابن كثير: نشاء بالنون وذلك أن مشيئة يوسف لما كانت بمشيئة الله وإقداره عليها جاز أن ينسب إلى الله تعالى، وإن كان في المعنى ليوسف {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 56] قال ابن عباس: أتفضل على من أشاء برحمتي. {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] ثواب الموحدين. {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [يوسف: 57] أي: ما يعطي الله تعالى من ثواب الآخرة خير للذين آمنوا، أي: خير مما يعطي الله المؤمنين في الدنيا، والمعنى: أن ما يعطي الله يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا، وكذلك غيره ممن يسلك طريقه في الصبر على المكاره، وقال أصحاب الأخبار: لما اطمأن يوسف في ملكه، وخلت السنون المخصبة ودخلت سِنُو الجدب، جاءت بهول لم يعهد الناس مثله، وأصاب الناس الجوع، ولما كان بدو القحط بينما الملك نائم أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع. فقال يوسف: هذا أوان القحط. وكان يوسف لا يمتلئ شبعا من الطعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف إن شبعت أنسى الجائع. وقصد الناس مصر يمتارون، وأصاب أرض كنعان، وبلاد الشام من القحط والشدة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب من ذلك ما نزل بالناس، فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، وأمسك بنيامين عنده فلما دخلوا عليه عرفهم يوسف وأنكروه فذلك قوله: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {58} وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ {59} فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ {60} قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ {61} وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {62} فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ

مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {63} قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {64} } [يوسف: 58-64] {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58] قال ابن عباس: كان بين أن قذفوه في الجب وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلذلك أنكروه. وقال الكلبي: إنه كان متزينا بزي فرعون مصر، عليه ثياب حرير، جالسا على حرير في، عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج فلذلك لم يعرفوه. وقال عطاء: لم يثبتوه وعليه تاج الملك وحجاب الملك، وعلى هذا إنما لم يعرفوه لأنهم رأوه من وراء ستر. وقال السدي: لما نظر إليهم يوسف قال لهم: أخبروني ما أمركم؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام جئنا نمتار طعاما. قال: كم أنتم؟ قالوا: عشرة. قال: أخبروني خبركم. قالوا: إنا إخوة بنو رجل صديق وإنا كنا اثنى عشر، فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا. قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه. فذلك قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف: 59] يقال: جهزت القوم تجهيزا. إذا هيأت لهم جهازهم للسفر وما يحتاجون إليه، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرا. {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [يوسف: 59] أتمه ولا أبخسه {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59] خير المضيفين، قال الزجاج: لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ بمنع الطعام، وهو قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] لا تقربوا بابي ولا بلادي. {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} [يوسف: 61] نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ لضامنون لك المجيء به. وَقَالَ يوسف لفتيته، قال ابن عباس: لغلمانه. وقرئ لفتيانه، قال الزجاج: الفتيان والفتية في هذا الموضع المماليك {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62] وقال عطاء: يريد: الدراهم والدنانير التي جاءوا بها. في رحالهم في أوعيتهم، والرحل: كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن، وقال الضحاك، عن ابن عباس: كانت بضاعتهم النعال والأدم، وإنما أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم لأنهم متى فتحوا أوعيتهم فوجدوا بضاعتهم علموا كرم يوسف وسخاءه فيبعثهم على العود إليه، وقال الكلبي: لخوف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى. وقيل: رأى لو ما أخذه ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إلى الطعام. وقال الفراء: لأنهم إذا رأوا بضاعتهم في رحالهم ردوها على يوسف ولم يستحلوا إمساكها ويرجعون. وذلك قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا لكي يعرفوا بضاعتهم إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا {إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] لكي يرجعوا إلينا {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا} [يوسف: 63] إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته. وقالوا: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63] أي: فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا لقوله: {

فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} [يوسف: 60] ، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} [يوسف: 63] بنيامين نَكْتَلْ نأخذ الطعام بالكيل، وقال الزجاج: أي: إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل. وقرئ بالياء على معنى: يأخذ أخونا بنيامين وقر بعير يكال له {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 63] من أن يصيبه سوء أو مكروه. قَالَ يعقوب {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] يقول: لا آمنكم على بنيامين إلا كأمني على يوسف، يريد: أنه لم ينفعه ذلك الأمن، وأنهم خانوه، فهو وإن أمنهم في هذا خاف خيانتهم أيضا، ثم قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [يوسف: 64] أي: من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم، والمعنى: حفظ الله خير من حفظكم ومن قرأ {حَافِظًا} [يوسف: 64] فالمعنى: حافظ الله خير من حافظكم لأن الله سبحانه له حفظه فحافظه خير من حافظكم، كما أن حفظه خير من حفظكم، قال كعب: لما قال يعقوب: فالله خير حافظا. قال الله عز وجل: وعزتي لأردن عليك كليهما بعد ما توكلت علي. قوله: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ {65} قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ {66} } [يوسف: 65-66] {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} [يوسف: 65] يعني: أوعية الطعام وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ التي حملوها لثمن الطعام {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف: 65] ، ما استفهام، والمعنى: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا؟ ويجوز أن يكون نفيا كأنهم قالوا: ما نبغي شيئا {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] أي: لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إليه، بل تكفينا في الرجوع إليه بضاعتنا هذه، وأرادوا بهذا الكلام أن يطيبوا نفس أبيهم على الإذن لهم بالمعاودة، وقوله: وَنَمِيرُ أَهْلَنَا أي: نجلب إليهم الطعام، يقال: مار أهله يميرهم ميرا. إذا أتاهم بطعام وَنَحْفَظُ أَخَانَا بنيامين {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف: 65] على هذا الرجل الذي نأتيه لسخائه وحرصه على البذل، قَالَ يعقوب لهم: لن أرسل بنيامين معكم {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 66] حتى تعطوني عهدا موثوقا به من جهة إشهاد الله والقسم به، والمعنى: حتى تحلفوا بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ لتردنه إلي {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلكم. قال ابن إسحاق: إلا أن يصيبكم أمر يذهب بكم جميعا فيكون ذلك عذرا لكم عندي. والعرب تقول: أحيط بفلان. إذا دنا هلاكه، ومنه قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} [يوسف: 66] فلما أعطوه اليمين والعهد قَالَ يعقوب: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] قال ابن عباس: شهيد. وذلك أن الشهيد وكيل بمعنى: أنه موكول إليه القيام بما أشهد عليه، ولما تجهز بنوه للمسير، قال يعقوب: {

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {67} وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {68} وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {69} } [يوسف: 67-69] {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا} [يوسف: 67] يعني مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] وإنما قال ذلك حذرا من العين عليهم إذ كانت العين حقا، وكانوا أولي جمال وكمال وأبناء رجل واحد يجتمعون في الحسن والظاهرة والقامات الممتدة، ثم قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] يعني: أن الله إن شاء أهلكهم متفرقين، والمعنى: لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 67] ما الحكم فيما يقضي ويريد إلا لله، ثم ذكر أنه متوكل عليه بباقي الآية. {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف: 68] كان لمصر أربعة أبواب، فدخلوا من أبوابها كلها كما أمرهم أبوهم {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 68] قال ابن عباس: ما كان ذلك ليرد قضاء قضاه الله تعالى. يعني: أن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين، وهذا تصديق ليعقوب في قوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] ، قوله: {إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] يعني: أن ذلك الدخول من الأبواب المتفرقة قضى حاجة في نفس يعقوب وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم وخوفا من العين {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} [يوسف: 68] وإن يعقوب لذو يقين ومعرفة بالله لِمَا عَلَّمْنَاهُ من أجل تعليمنا إياه، مدحه الله بالعلم لقوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] علم أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقدور كائن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] قال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه، ولما أقدموا أخاهم عليه، قالوا له: قد امتثلنا أمرك، وأقدمنا عليك أخانا الذي أحببت حضوره، فأمر صاحب ضيافته أن ينزل كل اثنين منهم في منزل، فبقى أخوه منفردا، فأنزله معه فذلك قوله {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] قال الحسن، وقتادة: ضمه إليه وأنزله معه. ولما خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: ما اسم أمك؟ قال: راحيل، قال: هل لك أخ من أمك؟ قال: كان لي أخ من أمي هلك قال: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: أيها الملك ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69] يوسف {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] لا تحزن ولا تغتم بما عملوا من حسدنا، والحرص على صرف وجه أبينا عنا، وعلى ما أدخلوا عليك من الحزن بما فعلوا بي، فقد جمع الله بيني وبينك وأرجو أن يجمع الله بيننا وبين يعقوب، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا وحمل لبنيامين بعيرا باسمه، كما حمل لهم وأمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين فذلك قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ {70} قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ {71} قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ

زَعِيمٌ {72} قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ {73} قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ {74} قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {75} فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ {76} قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ {77} قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {78} قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ {79} } [يوسف: 70-79] {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] والسقاية: الصواع الذي كان يشرب فيه الملك، قال ابن عباس: كان قدحا من زبرجد. وقال ابن زيد: كان كأسا من ذهب. وقال عكرمة: كان مشربة من فضة مرصعة بالجواهر. قال أصحاب الأخبار: لما قال يوسف لبنيامين: إني أنا أخوك، قال: فأنا لا أفارقك بعد هذا. قال يوسف: قد علمت اغتمام الوالد بي وأنا إن حبستك عنه ازداد غمه ولا يمكنني حبسك إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع. قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي هذا في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك. فذلك قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] وكان مشربة يشرب منها الملك جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، ثم ارتحلوا، وأمهلهم يوسف حتى أمعنوا في الطلب، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [يوسف: 70] نادى مناد وأعلم معلم: أَيَّتُهَا الْعِيرُ قال الزجاج: معناه: يا أصحاب العير وكل ما أشير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ناداهم المنادي وعنده: أنهم قد سرقوا السقايا، ولم يعلم أن يوسف أمر بوضعها في رحل أخيه. قَالُوا يعني: أصحاب العير وهم إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا على أصحاب يوسف: مَاذَا تَفْقِدُونَ ما الذي فقدتموه من متاعكم {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] قال الزجاج: الصواع: هو الصاع بعينه وهو يذكر ويؤنث وهو السقاية. وقال الحسن: الصواع والسقاية شيء واحد. {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ} [يوسف: 72]

الصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] كفيل، يقول المؤذن وقد ضمن حمل بعير لمن رد إليه الصواع، {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 73] حلفوا على علم قوم يوسف لأنهم غير قاصدين لفساد لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يظلمون أحدا، وذلك أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم لم يستحلوا أخذها، وبادروا بردها وذلك قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] ومن رد ما وجد كيف يكون سارقا. {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] أي: ما جزاء الَّسِرِق {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] في قولكم: وما كنا سارقين؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] قال المفسرون: كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان ذلك لهم كالقطع في شرعنا. لذلك {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] أي: جزاء السَّرِقِ السارق، وهو الإنسان الذي وجد المسروق في رحله، وقوله: فَهُوَ جَزَاؤُهُ زيادة في الإبانة كَذَلِكَ مثل ما ذكرنا من الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني: إذا سرق استرقّ، فقال لهم المؤذن: لا بد من تفتيش أمتعتكم. وانصرف بهم إلى يوسف، فَبَدَأَ يوسف في التفتيش {بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] لإزالة التهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا يعني السقاية {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] قال المفسرون: ولما فتش أوعيتهم ولم يبق إلا رحل بنيامين، قال يوسف: ما أظن هذا أخذ شيئا. فقال إخوته: والله لا نبرح حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك. فلما فتحوا متاعه استخرجوا الصاع منه، فأقبلوا على بنيامين، وقالوا: إيش الذي صنعت؟ فضحتنا وسودت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. وقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] أي: دبرنا له بأن ألهمناه أن يجعل السقاية في رحل أخيه ليتوصل به إلى حبسه مَا كَانَ يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] قال ابن عباس وقتادة: في حكم الملك وقضائه، وذلك أن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفا، حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجرى على السنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فأقروا به وكان ذلك مراده وهو معنى قوله: {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] فكان ذلك بمشيئة الله، وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] أي: بضروب الإعطاء والكرامات وأبواب العلوم كما رفعنا درجة يوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} [يوسف: 76] ممن رفعه الله عَلِيمٌ قد رفعه الله بالعلم فهو أعلم منه، قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى. قَالُوا أي: الإخوة ليوسف إِنْ يَسْرِقْ بنيامين الصواع {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] قال ابن عباس: يريدون يوسف، وكان يوسف يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا فيتصدق به. وقال سعيد بن جبير، وقتادة: سرق صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه، وقال محمد بن إسحاق، ومجاهد: إن جدته خبأت في ثيابه منطقة كانت لإسحاق يتوارثونها بالكبر لتملكه بالسرق محبة لمقامه عندها. وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77] أي: أسر إجابة

هذا الكلام وأضمرها في نفسه ولم يظهرها، وقَالَ لهم {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] شر صنيعا بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، فأنتم شر مكانا عند الله منه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] قال الزجاج: أعلم أسرق أخ له أم لا. {قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] في السن {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78] واحدا منا تستعبده بدله {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] أي: إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 79] اعتصاما بالله {أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] أي: استعيذ بالله من أن آخذ بريئا بسقيم {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 79] إن استعبدت غير الذي سرقَنا. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {80} ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ {81} وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {82} } [يوسف: 80-82] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80] يئس واستيئس واحد مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر، وقال ابن عباس: يئسوا أن يخلى سبيله معهم. خَلَصُوا نَجِيًّا انفردوا من غير أن يكون معهم من ليس منهم، والنجي فعيل بمعنى المناجي، يقع على الواحد كقوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] ، وعلى الجمع كقوله: خلصوا نجيا قال الزجاج: انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يفعلون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم قَالَ كَبِيرُهُمْ وهو يهوذا في قول عطاء، والكلبي، وقال مقاتل: لم يكن أكبرهم سنا ولكن كان أكبرهم في صحة الرأي. وقال مجاهد: هو شمعون، وكان أكبرهم في العقل والعلم. وقال قتادة، والسدي: هو روبيل، وكان أكبرهم سنا، قال {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 80] في حفظ الأخ ورده إليه {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف: 80] : ما لغو معناه: ومن قبل هذا ضيعتم يوسف {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} [يوسف: 80] يقال: برح الرجل براحا. إذا تنحى عن موضعه، ويريد بالأرض أرض مصر، يقول: لن أخرج من أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] قال ابن عباس: حتى يبعث لي أبي أن آتيه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف: 80] يقضي في أمري شيئا {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80] أعدلهم

وأفضلهم. ارْجِعُوا أنتم {إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ} [يوسف: 81] بنيامين سَرَقَ صواع الملك وَمَا شَهِدْنَا بأنه سرق {إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] لأنه وجد المسروق في رحله ونحن ننظر {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] قال ابن عباس: لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره. والمعنى: ما كنا لغيب ابنك حافظين، أي: إنا كنا نحفظه في محضره فإذا غاب عنا ذهب عن حفظنا، وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق ويصير الأمر إلى هذا، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به، وقال ابن إسحاق: معناه: قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه. قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] أي: قولوا لأبيكم سل أهل القرية ليتبين لك صدقنا {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] يعني: أهل الرفقة التي كنا فيها، وهم الذين امتاروا معهم، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فيما قلنا ثم رجعوا إلى يعقوب، وقالوا ما لقنهم كبيرهم فقال يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {83} وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {84} قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85} قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {86} يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87} } [يوسف: 83-87] {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83] قال ابن الأنباري: يعني خروجهم بأخيهم بنيامين إلى مصر رجاء منفعة فعاد من ذلك شر وضرر. وقال غيره: معنى قوله ههنا: {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83] خيلت لكم أنفسكم أنه سرق، وما سرق. أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل، أنا محمد بن عبد الله الضبي، أنا أبو بكر بن أبي نصر الداربردي، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا سليمان بن منصور بن عمار، حدثني أبي، نا يوسف بن صباح الفزاري، عن عبد الله بن يونس بن أبي فروة، قال: لما كان من الإخوة ما كان كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف بن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بالبلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت

عيناي، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره. وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] يعني: يوسف، وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} [يوسف: 100] بشدة حزني الْحَكِيمُ فيما حكم علي بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن، قوله: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ قال ابن عباس: أعرض عنهم. وذلك أنه لما بلغه خبر حبس بنيامين تنامى حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به، فعند ذلك أعرض عنهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف. أخبرني أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي في كتابه، أنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفي على يوسف. وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} [يوسف: 84] أي: انقلبت إلى حال البياض، قال مقاتل: لم يبصر بها ست سنين حتى كشفه الله بقميص يوسف. وقوله: {مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] قال ابن عباس: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه والحزن لما كان سببا للبكاء سمي البكاء حزنا. أخبرنا أبو منصور بن أبي نصر المذكر، أنا أبو سعيد بن نصير الصوفي، أنا محمد بن أيوب، أنا أبو غسان، نا جرير، عن ليث، عن ثابت البناني قال: دخل جبريل على يوسف فقال: أيها الملك الطيب ريحه الطاهر ثيابه الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه. قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى. قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد عند الله. أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى الرازي، نا سهل بن عثمان، نا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة وما جفت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. وقوله: فَهُوَ كَظِيمٌ الكظيم ههنا بمعنى: الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه، قال قتادة: فلا يقول بأسا. وقال ابن عباس: مغموم مكروب. وقال الزجاج: محزون. {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] يقال:

ما زلت أفعل كذا وما فتئت أفعله أفتؤ فتأ. وحرف النفي ههنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضا، وقال الفراء: يقال رجل حرض وحارض. وهو الفاسد في جسمه وعقله. وقال الأصمعي: الحرض الهالك. قال ابن عباس: حتى تكون كالشيخ الفاني. وقال الضحاك: كالشن البالي. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] قال قتادة: من الميتين. والمعنى أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بالغم، فلما رأى غلظتهم وعنفهم به {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا إليكم. 477 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَصْفَهَانِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عُمَرَ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ لِيَعْقُوبَ أَخٌ مُؤَاخٍ فَقَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا يَعْقُوبُ مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ؟ وَمَا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ قَالَ: أَمَّا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي فَالْبُكَاءُ عَلَى يُوسُفَ، وَأَمَّا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرِي فَالْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَمَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَ إِلَى غَيْرِي؟ فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَشْكُو يَا يَعْقُوبُ، ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ: أَيْ رَبِّ أَمَا تَرْحَمُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ؟ أَذْهَبْتَ بَصَرِي وَقَوَّسْتَ ظَهْرِي فَارْدُدْ عَلَيَّ رَيْحَانَتِي أَشُمُّهُ شَمَّةً قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ اصْنَعْ بِي يَا رَبِّ مَا شِئْتَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ: أَبْشِرْ وَلْيَفْرَحْ قَلْبُكَ فَوَعِزَّتِي لَوْ كَانَ مَيِّتَيْنِ لَنَشَرْتُهُمَا لَكَ، اصْنَعْ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ الْمَسَاكِينُ، وَتَدْرِي لِمَ أَذْهَبْتُ بَصَرَكَ وَقَوَّسْتُ ظَهْرَكَ وَصَنَعَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِيُوسُفَ مَا صَنَعُوا؟ لأَنَّكُمْ ذَبَحْتُمْ شَاةً فَأَتَاكُمْ فُلانٌ الْمِسْكِينُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمْ تُطْعِمُوهُ مِنْهَا، فَكَانَ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْغَدَاءَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلَا مَنْ أَرَادَ الْغَدَاءَ مِنَ الْمَسَاكِينِ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وَإِذَا كَانَ صَائِمًا أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ مَعَ يَعْقُوبَ ". رَوَاهُ الْحَاكِم فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ

وقال حبيب بن أبي ثابت: إن يعقوب كبر وضعف حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقال له بعض جيرانه: قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب، تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. قال: غفرت لك. فكان بعد ذلك إذا سئل قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] . وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى يعقوب أتدري لما عاقبت وحبست يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا. قال: لأنك شويت وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه. ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب أنه كانت له بقرة ولها عجل فذبح عجلها بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها يعقوب فأخذه الله به وابتلاه بأعز ولده، والبث أشد الحزن وهو ما يبديه الإنسان ويظهره لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، من قولهم: بث الحديث. إذا نشره. وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] أنتم، قال الكلبي: وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال: لا يا نبي الله. وقال ابن عباس: وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له. وقال عطاء: وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون. قال السدي: لما أخبر يعقوب بنوه بسيرة ملك مصر طمع أن يكون يوسف فلذلك قال لبنيه {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] . قال أبو عبيد: تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأجده. وقال ابن عباس: ابحثوا عن يوسف. {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] قال الأصمعي: الروح الاستراحة من غم القلب. وقال أبو عمرو: الروح الفرح. قال ابن عباس: يريد من رحمة الله. وهو قول قتادة، والضحاك، وقال أبو زيد: فرج الله. والمعنى: لا تيئسوا من الروح الذي يأتي به الله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] قال ابن عباس: يريد: أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء، وأن الكافر ليس كذلك، قال المفسرون: لما قال أبوهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف فخرجوا إلى مصر، {

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ {88} قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ {89} قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {90} قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ {91} قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {92} اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأَتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ {93} } [يوسف: 88-93] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} [يوسف: 88] أي: على يوسف {قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88] أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88] الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] قال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام. وقال الحسن، والكلبي، ومجاهد: كانت خلق الغيار والحبل والأقط، وقال مقاتل: وكانت حبة الخضراء. والمعنى: جئنا ببضاعة تتدافع بها الأيام وتتقوت ليست مما يتسع به، وقال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها. ثم سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطى بالجياد، وهو قوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] أتمه ولا تنقصه بسبب رداءة دراهمنا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا سامحنا بما بين النقدين وسعر لنا بالرديء كما تسعر بالجيد {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] بالثواب فلما قالوا ليوسف: مسنا وأهلنا الضر رحمهم، وأدركته الرقة فدمعت عينه وقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [يوسف: 89] قال ابن الأنباري: هذا الاستفهام يعني به تعظيم القصة وتوبيخهم عليها، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أتيتم من قطيعة رحمه وتضييع حقه كما تقول: هل تدري من عصيت؟ وهذه الآية تصديق قوله: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} [يوسف: 15] ، وقوله: وَأَخِيهِ يعني: ما فعلوه به بإدخال الهم والجزع بإفراده عن أخيه، ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيما ورفعا من قدره، وعلما أن ذلك كان له بلاء من الله ليزيد في درجته عنده، وقوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89] أي: بعقوق أبيكم وقطع رحم أخيكم، يعني فعلتم ذلك جهلا منكم، وروي عن ابن عباس: إذ أنتم صبيان. وعن الحسن: شبان. وعلى هذا يراد جهالة الصبي فالشاب، قال الضحاك: لما قال لهم يوسف: هل علمتم الآية، تبسم فلما أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له: {أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ

أَنَا يُوسُفُ} [يوسف: 90] قال ابن الأنباري: أظهر الاسم ولم يقل: أنا هو تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني. ولهذا قال: وَهَذَا أَخِي وهم يعرفونه لأن قصده: وهذا المظلوم كظلمي {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 90] قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة. قال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] قال ابن عباس: من يتق الله ويصبر على المصائب وعن المعاصي. وقال مقاتل: من يتق الزنا ويصبر على الأذى. {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] أجر من كان هذا حاله. {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] بالعلم والحلم والعقل والحسن والملك {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] لا تعيير ولا توبيخ، يقال: ثربه. إذا عيره، وروى ابن الأنباري، عن ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه. قال ابن عباس: يريد لا لوم عليكم. وقال الكلبي: لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا. وقال ابن الأنباري: أي: قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. ويجوز الوقف عند الأخفش على قوله: عليكم ثم يقول: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فيعلق اليوم بالغفران، وذكره ابن الأنباري أيضا، قال ابن عباس: جعلهم في حل وسأل الله لهم المغفرة، وأخبرنا أن الله أرحم بأوليائه من الوالدين بولدهما. وهو قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه. فأعطاهم قميصه، فهو قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] الآية. وكان من شأن ذلك القميص ما 478 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، نا عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ، نا شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَمَّا قَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَإِنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارَ نَزَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطِنْفِسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَكُسِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ إِسْحَاقَ، وَكَسَاهُ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ، وَكَسَاهُ يَعْقُوبُ يُوسُفَ فَجَعَلَهُ فِي قَصَبَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، فَأُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَالْقَمِيصُ فِي عُنُقِهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} [يوسف: 93] الآية ونحو هذا قال عامة المفسرين، قال ابن عباس: أخرج لهم قصبة من فضة كانت في عنقه لم يعلم بها إخوته

فيها قميص، وهو الذي نزل به جبريل على إبراهيم. وذكر القصة، وقال مجاهد: أمره جبريل أن أرسل إليه قميصك فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا صح وعوفي، وقال الحسن: لولا أن الله أعلمه لم يدر أنه يرجع إليه بصره. فذلك قوله: {يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93] . قال ابن عباس: يرتد بصيرا ويذهب البياض الذي على عينيه. وقال السدي: يعد بصيرا. وقال الفراء: يرجع بصيرا. وقوله: {وَأَتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] قال الكلبي: وكان أهله نحوا من سبعين إنسانا، وقال مسروق: دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من رجل وامرأة. {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ {94} قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ {95} فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {96} قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ {97} قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {98} } [يوسف: 94-98] قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] يقال: فصل فلان من عند فلان فصولا. إذا خرج من عنده، قال المفسرون: لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قَالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده وأولاده كانوا غائبين عنه {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت قميص يوسف إلى يعقوب وبينهما مسيرة ثماني ليال، وقال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] وذكر في القصة: أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها، فأتته بها ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا، ويتنسمها المكربون فيجدون لها روحا، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم، وهي تأتي من ناحية الشرق، وفيها لين إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأحباب، والحنين إلى الأوطان، قال أبو صخر الهذلي:

إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر وقال آخر: أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على نفس مهموم تجلت همومها وقال آخر: ولقد تهب لي الصبا من أرضها ... فيلذ مس هبوبها ويطيب لي يندي على كبدي وينقح غلتي ... ويبل حر فؤادي المشتعل 479 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ، نا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي الْهُذَيْلِ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] ، قَالَ: وَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وقوله: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] الفند: ذهاب العقل من الهرم، يقال: أفند الرجل. إذا خرف وتغير عقله، وفنده إذا نسبه إلى الجهل والخرق، قال أبو عبيدة: لولا أن تسفهوني. وقال الزجاج: لولا أن تجهلوني. وقال مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك. {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] قال مقاتل، وغيره: معنى الضلال ههنا الشقاء. يعنون: شقاء الدنيا وهو ما يكابد من الأحزان على يوسف، وقال قتادة: في حبك ليوسف ما تنساه ولا تسلاه. وهذا كقوله: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] وقد مر، وقال الحسن: إنما قالوا هذا لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وأن يعقوب بولوعه بذكره ذاهب عن الصواب. قوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] الآية، قال المفسرون: البشير كان يهوذا بن

يعقوب، قال: إني جئته بالقميص ملطخا بالدم فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي فأفرحه كما أحزنته، فحمل القميص وخرج حاسرا حافيا يعدو، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى بلغ كنعان، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، فلما أتى أباه {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف: 96] قال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن. وقال ابن عباس: في قوله فارتد بصيرا انجلى البياض وذهبت الظلمة. ومعنى الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حال البصر. أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الأصبهاني، أنا عبد الله بن محمد بن حيان، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل العسكري، نا يحيى بن يمان، عن سفيان، قال: لما جاء البشير يعقوب قال: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] تقدم تفسيره، ثم سألوا أباهم أن يستغفر الله لهم ما آتوا إليه من إدخال الحزن عليه، وهو قوله: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف: 97] الآية، قَالَ يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ} [يوسف: 98] قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والسدي، وقال في رواية الكلبي، وعكرمة: يقول حتى تأتي يوم الجمعة. قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وجه السحر في الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء، لا لأنه ضن عليهم بالاستغفار. 480 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: لِمَ أَخَّرَ يَعْقُوبُ عَنْ بَنِيهِ الاسْتِغْفَارَ؟ قَالَ: «أَخَّرَهُمْ إِلَى السَّحَرِ لأَنَّ دُعَاءَ السَّحَرِ مُسْتَجَابٌ» قالوا: وكان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الأكبر الذي فوقه، فخرج يوسف في أربعة من الجند، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فلما نظر يعقوب إلى الخيل قال لابنه يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك. فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قصد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، وكان يعقوب أفضل وأحق بذلك منه، فابتدأ يعقوب بالسلام، فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان. 481 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّوفِيُّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ

بْنِ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُسْتَمْلِي، نا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ يُوسُفَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ أَقْبَلَ يُوسُفُ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ حَزِنْتَ عَلَيَّ حَتَّى انْحَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: بَكَيْتَ عَلَيَّ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُسْلَبَ دِينُكَ فَلا نَجْتَمِعُ {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ {99} وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {100} } [يوسف: 99-100] وذلك قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 99] ضمهما إليه وأنزلهما عنده؟ قال عامة المفسرين: يعني أباه وخالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها ببنيامين، فقال لهم قبل دخولهم مصر {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] والاستثناء يعود إلى الأمن، وإنما قال: آمنين لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوارهم. قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] أي: أجلسهما معه على سرير الملك {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] كان تحية الناس يومئذ بعضهم لبعض السجود والانحناء والتواضع، وكأنهم لم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله تعالى في شريعتهم، فلما رأى ذلك يوسف قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: 100] أي: إلي، يقال: أحسن بي وإلي. قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يذكر إخراجه من البئر كرما لئلا يذكر إخوته صنيعهم به بعد قوله: {لا تَثْرِيبَ

عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] ، {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] والبدو البسيط من الأرض يقال: بدو وحضر، قال قتادة: كان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، وقال ابن عباس: دخل بيننا بالحسد. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100] قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان، يلطف. إذا رفق به لطفا. وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك إربك في رفق. قال أهل التفسير: إن ربي عالم بدقائق الأمور. {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} [يوسف: 100] بخلقه الْحَكِيمُ فيهم بما يشاء، ثم إن يعقوب أقام بمصر بعد موافاته بأهله وولده أربعا وعشرين سنة بأغبط حال، وأهنأ عيش إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة حتى يدفنه عند أبيه وجده، ففعل ذلك يوسف، وكان عمر يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، ولما جمع الله ليوسف شمله، وأقر له عينه، وأتم تأويل رؤياه دعا ربه وشكره وحمده، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101] قال الباقر: آتى الله يوسف ملك الأرض المقدسة فملك اثنتين وسبعين سنة {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] يعني: تفسير الأحلام {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف: 101] قال ابن عباس: يريد: خالق السموات والأرض، ومن هذا قوله: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] أي: خلقني {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف: 101] أنت الذي تلي أمري تَوَفَّنِي مُسْلِمًا قال ابن عباس: يريد: لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه. وقال قتادة: سأل ربه اللحوق به. قال: ولم يتمن نبي قبله الموت. وقوله وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يعني: بالنبيين من آبائه، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، ثم مات يوسف وأوصى إلى أخيه يهوذا، ودفن في نيل مصر في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه كل يحب أن يدفن في محلته لما يرجون من بركته، فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل إلى جميع مصر، فيكون كلهم فيه شركاء، فكان قبره في النيل إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان، قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ {102} وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {103} وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {104} وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {105} وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ

مُشْرِكُونَ {106} أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {107} } [يوسف: 102-107] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [يوسف: 102] أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك فأنزلته عليك دلالة على إثبات نبوتك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} [يوسف: 102] عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] عزموا على أمرهم وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف. قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [يوسف: 103] الآية، قال ابن الأنباري: وإن قريشا واليهود سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصة يوسف وإخوته فشرحها شرحا وافيا وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فعزاه الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] قال الزجاج: معناه: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم لأنك {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: 104] على القرآن وتلاوته عليهم وهدايتك إياهم من مال يعطونك إِنْ هُوَ ما هو {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] تذكرة لهم بما هو صلاحهم ونجاتهم من النار. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ} [يوسف: 105] وكم من آية {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف: 105] تدلهم على توحيد الله من: أمر السماء وأنها بغير عمد، فيها أعظم البرهان على أن لها خالقا، وكذلك فيما يشاهد في الأرض من جبالها ونباتها وبحارها يَمُرُّونَ عَلَيْهَا يتجاوزونها غير مفكرين ولا معتبرين بها، ولما سمع المشركون هذا قالوا: إنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء، فأنزل الله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} [يوسف: 106] أي: إقرار بأن الله خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن، والمعنى: أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويجعلون له شركاء من الأصنام، وهو قوله: {إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ليس يراد بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} [يوسف: 106] حقيقة الإيمان ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون، ثم خوفهم فقال: أَفَأَمِنُوا يعني المشركين {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف: 107] عقوبة تغشاهم وتتسلط عليهم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} [يوسف: 107] القيامة بَغْتَةً فجأة، يقال: بغتهم الأمر بغتا وبغتة. إذا فاجأهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107] بإتيانها. قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ {109} حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} } [يوسف: 108-110] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعوا إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي، سنتي ومنهاجي وديني {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف: 108] على دين ويقين، والبصيرة المعرفة التي يميز بها الحق من الباطل وَمَنِ اتَّبَعَنِي قال الفراء: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وهذا قول الكلبي قال: حق على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: الله ثم ابتدأ فقال: على بصيرة أنا ومن اتبعني، وهذا معنى قول ابن عباس، قال: يعني أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا على أحسن طريقة، وقوله: وَسُبْحَانَ الله أي: قل هذه سبيلي، وقل سبحان الله تنزيها لله عما أشركوا {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] الذين اتخذوا مع الله ندا وكفؤا وولدا، قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا} [يوسف: 109] هذا رد لإنكارهم نبوته، يقول: لم نبعث قبلك إلا

رجالا فكيف تعجبوا من إرسالنا إياك ومن قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك؟ وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] قال ابن عباس: يريد أهل المدائن لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من بادية. قال الحسن: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء. وذلك أن أهل البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء، وأهل الأمصار أهل فطنة، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [يوسف: 109] يعني المشركين المنكرين نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: أفلم يسيروا فينظروا إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بها وَلَدَارُ الآخِرَةِ يعني الجنة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109] من الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ هذا فتؤمنوا وتتقوا الشرك؟ 482 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَشِبْرٌ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] قال ابن عباس: يريد من قومهم أن يؤمنوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أيقنوا أن قومهم قد كذبوهم. وهذا قول عطاء، وقتادة، والحسن، وقرأ أهل الكوفة: كذِبوا مخففة ومعناه: ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، والضمير في قوله: وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم، التقدير: ظن المرسل إليهم أن الرسل أخبروهم بالكذب من أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب، وإنما ظنوا ذلك لما رأوا من إمهال الله إياهم، وقوله: جَاءَهُمْ نَصْرُنَا قال ابن عباس: يريد: نصر النبيين، والمعنى: أن نصر الرسل على قومهم تأخر عنهم حتى ظن قومهم الظنون، ثم نصروا فأهلك المكذب وأنجي المصدق، وهو قوله: فَنُنْجيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ وقرأ عاصم، وابن عامر: فنجِّي من شاء بنون واحدة، وتشديد الجيم وفتح الياء جعلاه ماضيا على ما لم يسم فاعله كقوله: ولا يرد لأنهما طلبا موافقة المصحف فإن فيه نونا واحدة، وذلك لاجتماع النونين وأعان على ذلك خفاء النون عند الجيم ولا يرد ولا يمنع عذابنا عن المشركين إذا بلغوا الأجل، قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} [يوسف: 111] يعني إخوة يوسف عِبْرَةٌ فكرة وبصيرة من الجهل والحيرة {لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] لذوي

العقول السليمة الذين يستعملون العقل فيعتبرون، وذلك أن من اعتبر وتذكر علم أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كونه أميا لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة من قبل نفسه، وعلم أيضا أن من قدر على إعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد إلقائه في الجب، وكونه في حكم العبيد، قادر على أن يعز محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعلي كلمته، وينصره على من عاداه، قوله: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] أي: ما كان هذا القرآن حديثا يتقوله بشر، وَلَكِنْ كان {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف: 111] من الكتب، أي: يصدق ما قبله من التوراة والإنجيل بموافقة الأخبار، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] يحتاج إليه من أمور الدين وَهُدًى بيانا {وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] يصدقون بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

سورة الرعد

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرعد مدنية وآياتها ثلاث وأربعون. 483 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبُيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرَّعْدِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ سَحَابٍ مَضَى، وَكُلِّ سَحَابٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِ اللَّهِ» {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {1} اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ {2} وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {3} وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {4} } [الرعد: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم المر قال ابن عباس: أنا الله أعلم وأرى. وقال في رواية عطاء: أنا الله الملك الرحمن. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد: 1] يجوز أن يكون تلك إشارة إلى ما مضى من ذكر الأخبار والقصص التي أنزلت، ويجوز أن يكون تلك بمعنى هذه، ويراد بالكتاب القرآن، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1] قال الفراء: الذي رفع بالاستئناف، وخبره الحق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] قال ابن عباس: يريد أهل مكة. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون، عرف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق. فقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] وهي الأساطين، جمع عماد، ترونها كذلك مرفوعة بلا عمد، قال مقاتل: هي قائمات بغير عمد. وقال الضحاك: يعني ليس من دونها دعامة، ولا فوقها علامة. وهو قول قتادة، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] ثم أقبل على خلق العرش بالاستيلاء والاقتدار ونفوذ السلطان، وأصل

الاستواء التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير، والمعنى ثم استوى على العرش بالتدبير للأجسام التي خلقها، وثم تدل على حدوث التدبير، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد: 2] ذللهما لما يراد منهما {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2] إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا، يدبر الأمر يصرفه بحكمته، {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الرعد: 2] يبين الآيات التي تدل على قدرته على البعث، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] قال ابن عباس: لكي توقنوا بالبعث، وتتعلموا أنه لا إله غيري. {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} [الرعد: 3] قال الفراء: بسطها طولا وعرضا. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} [الرعد: 3] جبالا ثوابت، قال ابن عباس: أوتدها بالجبال. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] لونين: حلوا، وحامضا. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] ذكرناه في { [الأعراف،] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الرعد: 3] أعلم الله أن ما ذكر من هذه الأشياء فيه برهان وعلامات لمن تفكر في قدرة الله، ثم زاد، فقال: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] أي: متدانية متقاربة، {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} [الرعد: 4] يعني بساتين فيها نخيل وكروم، ومن قرأ وزرع ونخيل بالضم حملها على قوله: وفي الأرض، ولم يحملها على الجنات، وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4] من صفة النخيل، قال أبو عبيدة: الصنوان جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدا ثم يتفرع، فيصير نخيلا ثم يحملن. وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير، قال ابن عباس: صنوان ما كان من نخلتين، أو ثلاث أو أكثر، أصلهن واحد، وغير صنوان: يريد المتفرق الذي لا يجمعه أصل واحد. 484 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، أنا الْوَلِيدُ، وَالْحَوْضِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالُوا:، نا شُعْبَةُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: الصِّنْوَانُ: النَّخْلَةُ يَكُونُ حَوْلَهَا النَّخْلاتِ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ: النَّخْلُ الْمُتَفَرِّقُ وروى القواس، عن حفص صنوان بضم الصاد جعله مثل

ذوب وذوبان، وربما تعاقب فعلان وفعلان على البناء الواحد نحو حش وحُشَّان وحِشَّان. وقوله: تسقى بماء واحد أي: تسقى هذه الأشياء الذي ذكرها من القطع المتجاورات، والجنات، والنخيل المختلفة، ومن قرأ {يُسْقَى} [الرعد: 4] بالياء كان التقدير يسقى ما قصصناه وما ذكرناه. قال ابن عباس: يريد البئر واحدة، والشرب واحد، والجنس واحد. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد: 4] يعني اختلاف الطعم الحلو والحامض، يخبر بعجائبه وقدرته في خلقه، قال ابن الأنباري: يعني أن القطع المتجاورة تنبت نباتا مختلفا، منه الحلو والحامض، وشربها واحد، ومكانها مجتمع، وفي هذا أوضح آية على نفاذ قدرة الله، والأكل الثمر الذي يؤكل. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] قال ابن عباس: يريد أهل الإيمان، وهم أهل العقل الذين لم يجعلوا لله ندا. {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {5} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ {6} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {7} اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ {8} } [الرعد: 5-8] قوله: وإن تعجب أي: من عبادتهم ما لا يملك نفعا ولا ضرا، بعدما رأوا من قدرة الله تعالى في خلقه الأشياء التي ذكرها، فعجب قولهم الآية، قال الزجاج: إن هذا موضع عجب أيضا، أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة. ثم أخبر أن هؤلاء الذين أنكروا البعث بعد الموت كافرون، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد: 5] الأغلال جمل الغل، وهو طوق يقيد به اليد إلى العنق، يقال منه: غل الرجل فهو مغلول. قوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ

بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [الرعد: 6] يعني مشركي مكة، سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بذلك، فالمراد بالسيئة ههنا العقوبة المهلكة، والحسنة هي العاقبة والرخاء، والله تعالى صرف عمن بعث إليهم محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوبة الاصطلام، وأخر تعذيب مكذبيه إلى يوم القيامة، فذلك التأخير هو الحسنة، وهؤلاء الكفار استعجلوا العذاب قبل إحسان الله معهم بالإنظار، وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد: 6] يقال للعقوبة: مثلة ومثلة. قال ابن الأنباري: المثلة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه، من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وأذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه. قال ابن عباس، وقتادة: المثلات العقوبات، وما مثل الله بالمكذبين قبلهم. قال الأزهري: يقول: يستعجلونك بالعذاب الذي لم أعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، فلم يعتبروا بها، وكان ينبغي أن يردعهم ذلك عن الكفر خوفا أن ينزل بهم مثل الذي نزل بمن كفر قبلهم. قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] قال ابن عباس: لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وصدقوا، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6] للمصرين على الشرك، وتلا مطرف يوما هذه الآية، فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة الله ومغفرة الله وعفو الله وتجاوز الله لَقَرَّتْ أعينهم، ولو يعلم الناس قدر عذاب الله، وبأس الله ونكال الله ونقمة الله، ما رَقَأَ لهم دمع، ولا قَرَّتْ أعينهم بشيء. 485 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6] ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ أَحَدًا الْعَيْشُ، وَلَوْلا وَعِيدُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7] قال ابن عباس: يريد مثل الناقة والعصا وما جاء به النبيون. وقال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى. فقال الله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] أي: نبي وداع إلى الله يدعوهم بما يعطى من الآيات، لا بما يريدون ويتحكمون، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقال سعيد بن جبير، وعطية، والضحاك: الهادي هو الله عز وجل. والمعنى أنت منذر تنذر، والله هادي كل قوم يهدي من شاء. قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 8] يعلم ما في بطن كل حامل من علقة، أو مضغة، أو زائد، أو ناقص، على اختلاف في

جميع أحواله، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد ذكر أم أنثى، واحد أم اثنين أم أكثر. وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] الغيض النقصان، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] قال أكثر المفسرين: يعلم الوقت الذي تنقصه الأرحام من المدة التي هي تسعة أشهر. وما تزداد على ذلك، قال الضحاك: الغيض النقصان من الأجل، والزيادة ما يزداد على الأجل، وذلك أن النساء لا يلدن لأجل واحد. وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] قال ابن عباس: علم كل شيء فقدره تقديرا مما يكون قبل أن يكون، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ {9} سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ {10} لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ {11} } [الرعد: 9-11] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9] علم ما غاب عن جميع خلقه، وما شهده خلقه وعلموه، الكبير بمعنى العظيم، ومعناه يعود إلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلو، وهو أكبر من كل كبير، لأن كل كبير يصغر بالإضافة إليه، وقوله المتعال قال الحسن: المتعالي عما يقول المشركون. وقوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10] أي: أخفاه وكتمه، {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10] أعلنه وأظهره، قال مجاهد: السر والجهر عنده سواء. وقوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] الظاهر، يقال: سربت الإبل تسرب سروبا، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت. قال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات عِلْمُ الله فيهم جميعا سواء. قوله: له معقبات المعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلا منه، وهم الملائكة الحفظة في قول عامة المفسرين. قال شمر: هي الكائنات يأتي بعضها بعد ذهاب بعض. قال الزجاج: المعقبات الملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض. قال الفراء: المعقبات ذكر أن

جمع ملائكة معقبة، ثم جمعت معقبة معقبات، والذي يدل على التذكير قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] . قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد: المعقبات الملائكة الحفظة. يدل على صحة هذا ما: 486 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلامٍ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ قَتَادَةُ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسَأْلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: «تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ، وَمَعْنَى الآيَةِ: لِلَّهِ مَلائِكَةٌ حَفَظَةٌ تَتَعَاقَبُ فِي النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الإِنْسَانِ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ذكر الفراء في هذا قولين، أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، وتقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثاني: إن هذا على إضمار أن ذلك الحفظ من أمر الله، أي: مما أمر الله به، ونحو هذا قال الزجاج، قال: المعنى حفظهم إياه من أمر الله، أي: مما أمرهم الله به، لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله. وقال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو: أن من بمعنى الباء، والتأويل: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول مجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، قالوا: يحفظونه بأمر الله. وقال السدي: يحفظونه من أمر الله إلى أمر الله، مما لم يُقَدِّرِ اللهُ إلى ما قَدَّرَ اللهُ، وقال كعب: لولا أن الله وَكَّلَ بهم ملائكة يَذُبُّونَ عنكم، لتخطفتكم الجن. 487 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنَامُ إلا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ وُكَلاءَ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْهَوَامِّ، فَإِذَا أَرَادُوهُ بِشَيْءٍ، قَالُوا: وَرَاءَكَ وَرَاءَكَ، إلا شَيْئًا قَدْ قَضَى لَهُ أَنْ يُصِيبَهُ. 488 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَهُمْ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ بِصِفِّينَ فَأَقْبَلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مُتَوَكِّئًا عَلَى عَنْزَةٍ لَهُ، بَعْدَ مَا اخْتَلَطَ الظَّلامُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَغْتَالَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَمَعَهُ مِنَ اللَّهِ حَفَظَةٌ مِنْ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ يَخُرَّ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ يُصِيبَهُ حَجَرٌ، أَوْ تُصِيبَهُ دَابَّةٌ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] أي: لا يسلب قوما نعمة حتى يعلموا معصية. قال ابن عباس: يريد العذر فيما بينه وبين خلقه، ويعني بهذا أهل مكة. {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} [الرعد: 11] عذابا، {فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11] قال عطاء: يريد لا رادَّ لعذابي، ولا ناقض لحكمي. {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ {12} وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {14} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ {15} } [الرعد: 12-15] قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12] قال قتادة: خوفا للمسافر، وطمعا للمقيم. قال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب. وينشئ يخلق، {السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] بالماء. {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] قال ابن عباس: سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: «الرعد ملك من ملائكة الله عز وجل، موكل بالسحاب، معه مخاريق، يسوق بها السحاب حيث يشاء الله» . قالوا: فما الصوت الذي يسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث ما أمر» . وقال مجاهد: الرعد صوت ملك يسبح. وكان عبد الله بن الزبير جالسا يحدث أصحابه، فسمع صوت الرعد، فترك الحديث، وقال: سبحان من سبحت له، وقال: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " إن ربكم تبارك وتعالى يقول: لو أن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس

بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد ". وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته، قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله وليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقوله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] قال المفسرون: نزلت في أربد، وعامر بن الطفيل، أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاصمانه ويريدان الفتك به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اكفنيهما بما شئت» . فأرسل الله عز وجل صاعقة على أربد في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربا. وقوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} [الرعد: 13] قال ابن عباس: يكذبون بعظمة الله. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] قال مجاهد، والسدي: المحال القوة. أي: شديد القوة. وقال الزجاج: يقال: ماحلته محالا إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحل في اللغة الشدة. قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] المراد بدعوة الحق ههنا كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه الدعوة الحق، وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف اللفظين. 489 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُصَيْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ،

قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ الْحَقُّ، فَمَنْ دَعَاهُ دَعَا الْحَقَّ وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الرعد: 14] يعني الأصنام يدعونها المشركون من دون الله، {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد: 14] قال الزجاج: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب. أعلم الله أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان الماء إلى بلوغ فمه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14] وما الماء ببالغ فاه بدعوته إياه، قال الكلبي: كماد يده إلى الماء من مكان بعيد، فلا يبلغه، ولا يبلغ الماء فاه. وقال عطاء: كالرجل العطشان الجالس على شفير البئر، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر، والماء لا يرتفع إلى يده. قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} [الرعد: 14] قال ابن عباس: يريد عبادة الكافرين الأصنام. {إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] بطلان وزوال. قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا} [الرعد: 15] يعني الملائكة والمؤمنين، وكرها يعني من أُكْرِهَ على السجود من الكافرين والمنافقين، هذا قول المفسرين. وقال أهل المعاني: سجود الكاره تذلّله وانقياده لما يريده الله منه من عاقبة ومرض، وغنى وفقر، وحياة وموت، فالكافر في حكم الساجد لله من هذا الوجه. ومعنى السجود في اللغة التذلل والخضوع، وهذا كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، وقوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] قال المفسرون: كل شخص مؤمن أو كافر، فإن ظله يسجد لله تعالى. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره. وقال أهل المعاني: سجود الظلال تمايلها من جانب إلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطول والقصر. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {16} أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ {17} لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {18} } [الرعد: 16-18] قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16] السؤال والجواب جاء من جهة واحدة، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض والمخلوقات كلها، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] فإذا أجاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:

الله، لم ينكروا، ويصيروا كأنهم قالوا ذلك، ثم ألزمهم الحجة، فقال: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الرعد: 16] قال ابن عباس: توليتم غير رب السماء والأرض أصناما. لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم؟ ثم ضرب مثلا للذي يعبد الأصنام، وللذي يعبد الله، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الرعد: 16] يعني المشرك والمؤمن، {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] يعني الشرك والإيمان، وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم؟ وهذا استفهام إنكار، أي: ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون خلقا يتشابه بخلق الله، وقوله: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] قال الزجاج: قل ذلك وبينه بما أخبرت به من الدلالة في هذه ال { [مما يدل على أنه خالق كل شيء. والمعنى: أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكن مخلوقا، ألا ترى أنه هو شيء وهو غير مخلوق؟ قوله:] أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سورة الرعد: 17] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد قرآنا، وهو مَثَلٌ ضربه الله تعالى. {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] أودية جمع واد، وهو كل منفرج بين جبلين، يجتمع إليه ماء المطر فيسيل، والقدر والقدر مبلغ الشيء. والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع كثر، قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر إذ نفع نزول القرآن يعم، كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب، إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، وقوله {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] طافيا عاليا فوق الماء، قال ابن عباس: هو الشك والكفر. ثم ضرب مثلا آخر، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} [الرعد: 17] يعني: ما يذاب من الجواهر فيدخل النار ويوقد عليها، {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} [الرعد: 17] يعني: الذهب والفضة، أو متاع يعني: الحديد والصفر والنحاس والرصاص، تتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، وقوله: زبد مثله أي: زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل، كَذَلِكَ كما ذكر من هذه الأشياء، يضرب الله مثل، {الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17] والجفاء ما جافاه الوادي، أي: رمى به، قال الفراء: الجفاء الرمي، يقال: جفا الوادي غثاء جفاء إذا رماه، والجفاء بمنزلة الغثاء. وهذان مثلان ضربهما الله للحق والباطل، يقول: الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل، وكخبث هذه الجواهر يقذفه الكير، وهذا مثل الباطل، وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المرعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو من الجواهر يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق. قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان، كمثل هذا الماء المستنفع به من نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر،

لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره، كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد، وما يخرجه الناس من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} [الرعد: 18] أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده وشريعته، الحسنى الجنة، {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} [الرعد: 18] إلى قوله: {لافْتَدَوْا بِهِ} [الرعد: 18] أي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب، وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد: 18] قال المفسرون: هو ألا يقبل منهم حسنة، ولا يتجاوز عن سيئة. 490 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَا فَرْقَدُ، أَتَدْرِي مَا سُوءُ الْحِسَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا. قَالَ: هُوَ أَنْ يُحَاسَبَ الْرَجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ، لا يُغْفَرُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ {19} الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ {20} وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ {21} وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {22} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ {24} وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {25} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ {26} } [الرعد: 19-26] قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] قال ابن عباس: نزلت في حمزة، وأبي جهل. يعني: أن أبا جهل أعمى القلب، لا يهتدي إلى طريق الرشد، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} [الرعد: 19] يتعظ ويتذكر ما رغب فيه من الجنة، أولو الألباب قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار. ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20] قال: يريد الذين عاهدهم عليه في صلب آدم. {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] يعني: الأرحام، وقال ابن عباس: يعني الإيمان بجميع الرسل. وهو أن يصل بينهم بالإيمان بالجميع، كما أخبر عن المؤمنين في قولهم: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] .

{وَالَّذِينَ صَبَرُوا} [الرعد: 22] أي: على دينهم، وما أمروا به من الطاعة، {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] طلب تعظيم الله، وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22] قال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح الشر من العمل. كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيئة فاعمل بجانبها حسنة تمحها» . وقال ابن كيسان: هو أنهم كلما أذنبوا تابوا، ليدفعوا بالتوبة معرة الذنب. {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] قال ابن عباس: يريد عقابهم الجنة. أي: تصير الجنة لهم آخر أمرهم، ثم بين ذلك، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} [الرعد: 23] قال ابن عباس: ومن صدق بما صدقوا به. وقال مجاهد: ومن آمن منهم، وذلك أن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله من إلحاقهم به في الجنة كرامة له كما قال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] . {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] قال ابن عباس: بالتحية من الله، والتحفة، والهدايا. ويقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] أي: سلمكم الله من أهوال القيامة وشرها بصبركم في الدنيا على طاعته، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] ما أنتم فيه من الكرامة، أي: نعم عقبى الدار التي عملتم فيها ما أعقبكم هذه الكرامة. قوله {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [الرعد: 25] مفسر إلى آخر الآية فيما سبق. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] يضيق ويقتر، كقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] ، {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 26] قال ابن عباس: يريد مشركي مكة فرحوا بما نالوا من الدنيا، فطغوا وكذبوا الرسول. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} [الرعد: 26] أي: بالقياس إليها، إلا متاع أي: قليل ذاهب، كالشيء الذي يتمتع به ثم يفنى. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ {27} الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28} الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ {29} كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {31} وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ {32} أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ

شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {33} لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ {34} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ {35} } [الرعد: 27-35] قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 27] نزلت في أهل مكة حين طالبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالآيات، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] قال ابن عباس: يريد عن دينه. يعني: كما أضلكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] رجع إلى الحق، وإنما يرجع إلى الحق من يشاء الله، فكأنه قال: ويهدي إليه من يشاء. كما قال في آيات: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 25] . قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد: 28] بدل من قوله: من أناب المعنى: يهدي إليه الذين آمنوا، {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] إذا سمعوا ذكر الله أحبوه، واستأنسوا به، وقال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين. بخلاف من وُصِفَ بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر: 45] . وقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] يعني: قلوب المؤمنين، لأن الكافر غير مطمئن القلب. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29] أكثر المفسرين على أن طوبى اسم شجرة في الجنة، وهو قول أبي هريرة، ومغيث بن سمي، وشهر بن حوشب، ومجاهد، ومقاتل، وابن عباس في رواية الكلبي وعطاء. وروي ذلك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 491 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عُمَارَةَ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَنْبَسَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29] فَقَالَ: " أَمَّا طُوبَى، فَشَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَيْسَتْ دَارٌ مِنْ دُورِ الْجَنَّةِ إِلا وَفِيهَا غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا، لَوْ أَنَّ طَائِرًا طَارَ فِي غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا لَقَتَلَهُ الْهَرَمُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَرْعَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلا عَمَّرَ أَعْمَارَ الأَوَّلِينَ رَكِبَ حِقَّةً، أَوْ جَذَعَةً، ثُمَّ طَافَ بِسَاقِهَا،

لَقَتَلُه الْهَرَمُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، لَيْسَ مِنْهَا وَرَقَةٌ إِلا تُظِلُّ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، وَلَيْسَتْ مِنْهَا وَرَقَةٌ إِلا عَلَيْهَا مَلَكٌ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ، وَلَيْسَ مِنْهَا وَرَقَةٌ لَوْ جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلا طَمَسَتْ ضَوْءَهُمَا، مِنْهَا كِسْوَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحُلِيُّهُمْ، وَرَقُهَا حُلَلٌ، وَأَغْصَانُهَا حُلِيٌّ، وَوَحْلُهَا الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ، وَتُرَابُهَا الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ، وَحَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتَ، وَهِيَ مَجْلِسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ. 492 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهَا: تَفَتَّقِي لِعَبْدِي عَمَّا يَشَاءُ، فَتَفَتَّقُ لَهُ عَنِ: الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا، وَعَنِ الإِبِلِ بِرِحَالِهَا وَأَزِمَّتِهَا، وَعَمَّا شَاءَ مِنَ الْكِسْوَةِ ". وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: طوبى اسم الجنة بالحبشة. هو قول مجاهد في رواية شبل، قال: طوبى اسم الجنة. وقال أبو عبيدة، والزجاج، وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري: تأويلها الحال المستطابة لهم. وقوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} [الرعد: 30] أي: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك، {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} [الرعد: 30] قال ابن عباس: في قرون قد مضت من قبلها قرون. {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الرعد: 30] يعني القرآن، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في الحجر يدعو، وأبو جهل يستمع إليه وهو يقول: «يا رحمن» . فلما سمعه يذكر الرحمن وَلَّى مدبرا إلى المشركين، وقال لهم: إن محمدا كان ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، يدعو الله ويدعو إلها آخر يقال له الرحمن. فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد: 30] أي: قل لهم: إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيدي، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [الرعد: 30] . قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا} [الرعد: 31] الآية، قالت قريش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كنت كما تقول فادع الله يسير عنا هذه الجبال، فإن أرضنا ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا حتى نغرس ونزرع، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي. فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] أي: جعلت تسير، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} [الرعد: 31] أي: شققت فجعلت أنهارا وعيونا، {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] أي: أحيوا حتى كلموا، وجواب لو محذوف، قال الفراء: تقديره لكان هذا القرآن، والمعنى: لو أن قرآنا فعل به ما التمسوا لكان هذا القرآن. وقال الزجاج: جوابه لما آمنوا. وهو قول ابن عباس، قال: يريد لو قضيت ألا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت، ولا على الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا أحيوا

وتكلموا، ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي. ونظير هذه الآية قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] إلى قوله {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111] ، {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] يقول: دع ذاك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره، فالأمر لله جميعا، ولو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ لا ينفع تسيير الجبال وما اقترحوا من الآيات، ثم أكد هذا المعنى بقوله: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31] قال ابن عباس: أفلم يعلم. وقال الكلبي: ييأس يعلم في لغة النخع. وهذا قول مجاهد، والحسن، وقتادة. وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] أي: بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم الخبيثة داهية تقرعهم، ومصيبة شديدة من الأسر والقتل والحرب والجدب. وقال مجاهد، وأبو سعيد الخدري: هي السرايا التي كان يبعثها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. أو تحل تنزل أنت يا محمد قريبا من دارهم، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] يعني فتح مكة، وعده الله أن يفتحها له، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31] ثم عزى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد: 32] أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] قال ابن عباس: يريد كيف رأيت ما صنعت بهم، كذلك أصنع بمشركي قومك. قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: كذلك أمتنع، يريد نفسه تبارك وتعالى. ومعنى القيام ههنا التولي لأمور خلقه، والتدبير للأرزاق والآجال، وإحصاء الأعمال للجزاء، كقوله: قائما بالقسط أي: واليا لذلك، والمعنى ههنا: أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس بجزاء ما كسبت، وتلخيصه: أفمن هو مجاز كل نفس بما كسبت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد: 33] قال الفراء:

كأنه في المعنى، قال: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم. قل سموهم بما يسحقون من الصفات وإضافة الأفعال إليهم إن كانوا شركاء لله، كما يوصف الله بالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، والمعنى يعود إلى أن الصنم لو كان إلها لتصور منه أن يخلق ويرزق، ولحسن حينئذ أن يسمى بالخالق والرزاق. قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 33] هذا استفهام منقطع مما قبله، وتأويل الآية: فإن سموهم بصفات الله، قل: أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض، أتخبرون الله بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه؟ على معنى: أنه ليس، ولو كان لعلم، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] يعني: أم يقولون مجازا من القول وباطلا لا حقيقة له، أي: إنه كلام ظاهر، وليس له في الحقيقة باطن ومعنى، فهو كلام باللسان، بل دع ذكر ما كنا فيه، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: زين الشيطان لهم الكفر، وذلك أن مكرهم بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر منهم، {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: وصدهم الله عن سبيل الهدى. وضم الصاد قراءة أهل الكوفة، ومن قرأ بفتح الصاد فالمعنى: أنهم صدوا غيرهم عن الإيمان. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] يهديه إلى الخير والإيمان، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 34] يعني الأسقام والقتل والأسر، هي لهم في الدنيا عذاب، وللمؤمن كفارة، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد: 34] أشد وأغلظ، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الرعد: 34] من عذاب الله، من واق مانع يمنعهم. قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35] أي: صفتها، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير المعنى صورة الشيء وصفته، يقال: مثلت لك كذا، أي: صورته ووصفه. أراد الله بقوله: مثل الجنة أي: صورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] قال الحسن: يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا، وظلها لأنه لا يزول، ولا تنسخه الشمس، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الرعد: 35] أي: عاقبة أمرهم المصير إليها، وعاقبة الكافرين المصير إلى النار. قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ {36} وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ {37} } [الرعد: 36-37] . {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] قال المفسرون: إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب، ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] ففرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب، وكفر المشركون بالرحمن، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله: {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعاداة، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] يعني ذكر الرحمن، وهذا

كقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] إلى آخره. قوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} [الرعد: 37] أي: وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء الذين تقدموا، أنزلنا إليك القرآن، {حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37] قال ابن عباس: يريد ما حكم من الفرائض في القرآن، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [الرعد: 37] بوحدانية الله تعالى، وذلك أن المشركين دعوه إلى ملة آبائه، فتوعده الله على اتباع أهواءهم بقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37] أي: ما لك من عذاب الله مانع يمنعك. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ {38} يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {39} وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ {40} } [الرعد: 38-40] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ} [الرعد: 38] قال الكلبي: عيرت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت: ما نرى للرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء. فأنزل الله هذه الآية، يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ} [الرعد: 38] وجعلناهم بشرا لهم أزواج فنكحوهن، وأولاد أنسلوهم، وذلك قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] . 493 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نا حُسَيْنُ بْنُ رَافِعٍ الْعَنْبَرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ، قَالَتْ: فَلا تَفْعَلْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] فَلا تَتَبَتَّلْ. وقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38] هذا جواب للذين تحكموا عليه في طلب الآيات، والمعنى: أن حال محمد كحال الرسل الذين تقدموا في أنهم كانوا لا يأتون بآية إلا بإذن ربهم، لا على تحكم العباد بأهوائهم، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] لكل أجل قدره الله، ولكل أمر قضاه كتاب أثبت فيه، فلا تكون آية إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، وكذلك كل أمر. قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ذهب قوم إلى أن هذا عام في كل شيء، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة، وهو مذهب عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، وقتادة، والضحاك، وابن جريج، قالوا: أم الكتاب عند الله يمحو الله ما يشاء منه ويثبت. ونحو هذا روى أبو الدرداء، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله سبحانه في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر

فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء» . ومعنى أم الكتاب: أصل الكتاب الذي أثبت فيه الكائنات والحادثات. وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء. وهذه رواية عمران بن حصين، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قوم: إن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة، والموت والحياة والرزق والأجل. ويدل على صحة هذا ما: 494 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الطُّفَيْلِ، يَقُولُ: قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا مَضَتْ عَلَى النُّطْفَةِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، يَقُولُ الْمَلَكُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ فَيَقُولُ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَيَقُولُ: عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ مِنْهَا "، رَوَاهُ مُسْلِم، عَنِ ابْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وقال سعيد بن جبير، وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وهذا القول اختيار أبي علي الفارسي، قال: هذا والله أعلم فيما يحتمل النسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات، فأما ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدل. وقال الكلبي، والضحاك: إن الذي يمحوه الله ويثبته ما تصعد به الحفظة مكتوبا على بني آدم، فيأمر الله أن يثبت ما فيه ثواب وعقاب، ويمحي عنه ما لا ثواب فيه ولا عقاب. وقوله: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [الرعد: 40] من العذاب، أي نعدهم وأنت حي، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [الرعد: 40] أي: فليس عليك إلا أن تبلغ، كفروا أو آمنوا، وعلينا الحساب وعلينا أن نجازيهم. قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {41} وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ {42} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ {43} } [الرعد: 41-43] أولم يروا يعني كفار مكة، {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} [الرعد: 41] نقصد أرض مكة، {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] بالفتوح على المسلمين منها، يريد ما دخل في الإسلام من بلاد الشرك، قال الضحاك: أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد ما حوله من

القرى. وقال مقاتل: الأرض مكة، ونقصها من أطرافها غلبة المؤمنين عليها. وهذا قول الحسن. وقال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركون من قهرهم قد ظهر، يقول: ولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] قال ابن عباس: لا ناقض لحكمه. وقال الفراء: لا راد لحكمه. والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد على حكم الله، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] أي: المجازاة بالخير والشر. قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الرعد: 42] يعني كفار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم، {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42] يعني أن مكر الماكرين مخلوق له، فلا يضر إلا بإرادته، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمان له من مكرهم كأن قيل: قد فعل من قبلهم من الكفار مثل فعلهم، فلا ضرر عليك من مكرهم. {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} [الرعد: 42] يريد أن جميع الاكتساب معلوم له، فلا يقع ضرر إلا بإذنه، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} [الرعد: 42] قال ابن عباس: يريد أبا جهل. وقال الزجاج: الكافر ههنا اسم الجنس كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس. ومن قرأ الكفار أراد جميع الكفار {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42] لمن الجنة آخر الأمر {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد: 43] يعني مشركي مكة، لست مرسلا إلينا بالنبوة، قل لهم، كفى بالله كفى الله، والباء أدخلت للتأكيد، شهيدا شاهدا، بيني وبينكم أي: بما أظهر من الآيات، وأبان من الأدلة على نبوتي، {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] قال الحسن، ومجاهد: هو الله عز وجل. وأختاره الزجاج، فقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره. وقال عكرمة، وقتادة: يعني علماء أهل الكتاب، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري. قال ابن الأنباري: جعل قول هؤلاء وشهادتهم قاطعة لقول الخصوم، لأنهم العالمون بالكتب القديمة، فقيل: كفى بهؤلاء شهودا عليكم، وهم شاهدون لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة والصدق. والله أعلم.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم مكية وآياتها اثنتان وخمسون. 495 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ الْحِيرِيُّ بِهَا، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشُّرُوطِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا» . {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {1} اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {2} الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {3} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {4} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {5} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {6} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {7} وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {8} } [إبراهيم: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم الر قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنا الله أرى. وقال في رواية عطاء: أنا الله الرحمن. كتاب أي: هذا كتاب يعني القرآن، {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1] قال ابن عباس: من الشرك إلى الإيمان. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] قال الزجاج: بما أذن الله لك في تعليمهم، ودعائهم إلى الإيمان. ثم بين ما ذلك النور، فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] وهو دين الإسلام الذي من سلكه أدَّاه إلى الجنة. {اللَّهِ الَّذِي} [إبراهيم: 2]

من رفعه قطعه مما قبله وابتدأ به، وخبره الذي، ومن خفضه جعله بدلا من الحميد، وتفسير الآية ظاهر، قوله: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم: 3] أي: يؤثرونها ويختارونها، قال ابن عباس: ما تجعل لهم من الدنيا يأخذونه تهاونا بأمر الآخرة واستبعادا لها. كقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27] . {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [إبراهيم: 3] يمنعون الناس عن دين الله تعالى وطاعته، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [إبراهيم: 3] ذكرنا تفسيره، {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] قال الكلبي: في خطأ بعيد عن الحق. قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] بلغتهم ليفهموا عنه ويعقلوا، وهو قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] قال ابن عباس: جعل المشيئة إليه وحده لا شريك له. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [إبراهيم: 5] أي: بالبراهين التي دلت على صحة نبوته مثل العصا واليد وغيرهما، {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] الأيام يعبر بها عن النعم والنقم، لأنها كلها تقع فيها، قال ابن السكيت: العرب تقول: الأيام في معنى الوقائع يقال: فلان عالم بأيام العرب أي: بوقائعها. قال ابن عباس: يريد بنعم الله. وهو قول مجاهد، وقتادة. وأبي بن كعب رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية. 496 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضرِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ صَالِحٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] ، قَالَ: أَيَّامُهُ: نُعَمُهُ وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. قال الزجاج: أي: ذكرهم بنعم الله عليهم، وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود. والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، إِنَّ فِي ذَلِكَ التذكير، لآيَاتٍ لدلالات على قدرة الله تعالى، لكل صبار على طاعة الله وعن معاصيه، شكور لأنعم الله، وما بعدها مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} [سورة إبراهيم: 7] وهذا عطف على قوله: {إِذْ أَنْجَاكُمْ} [إبراهيم: 6] كأنه قال: اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم، وإذ تأذن ربكم، وهو إخبار عما قال

موسى لقومه، ومعنى تأذن: أعلم، قال الفراء: تأذن وآذن بمعنى واحد. وذكرنا هذا في { [الأعراف. وقوله] لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [سورة إبراهيم: 7] أي: مما يجب الشكر عليه، وهو النعمة، قال ابن عباس: لئن وحدتموني، وأطعتموني لأزيدنكم طاعتي التي تقود إلى جنتي. وقال قتادة في هذه الآية: حق على الله أن يعطي من سأله، ويزيد من شكره، والله منعم بحب الشاكرين فاشكروا الله على نعمه. ومعنى شكر النعمة: الاعتراف بحق المنعم، والاعتراف بحق الله تعالى هو التوحيد والطاعة، ولئن كفرتم جحدتم حقي، وحق نعمتي، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] تهديد على كفران النعمة. {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} [إبراهيم: 8] عن خلقه، لا يزيده طاعتكم ملكا، ولا ينقص كفركم ملكوت الله شيئا، حميد في أفعاله، لأنه إما متفضل بفعله، أو عادل. ثم أخبرهم، عن القرون الماضية، وعما قالت لهم الرسل، وما ردوا عليهم، فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {9} قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {10} قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11} وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {12} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ {13} وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ {14} وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ {15} مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ {17} } [إبراهيم: 9-17] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [إبراهيم: 9] إلى قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 9] أي: من بعد هؤلاء الذين ذكرهم، {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] لا يحصي عددهم إلا الله، قال ابن عباس: لا يعلمهم إلا الله لكثرتهم. قال ابن الأنباري: إن الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفت آثارهم: فليس يعرفهم أحد

إلا الله، {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] قال ابن مسعود: عضوا عليها غيظا. والمعنى أنهم ثقل عليهم مكان الرسل، فعضوا على أصابعهم من شدة الغيظ، وقال الكلبي: وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا. {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [إبراهيم: 9] أي: على زعمكم بالإرسال لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. قالت لهم، {رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] وهذا استفهام إنكار، أي: لا شك في الله، والمعنى: في توحيد الله، ثم ذكر ما يدل على وحدانيته، فقال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ} [إبراهيم: 10] بالرسل والكتب، {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] قال أبو عبيدة: من زائدة. {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10] لا يعالجكم بالعذاب، بل يؤخركم ويمتعكم في الدنيا إلى الأجل المسمى لكم، وهو الموت، قالوا للرسل، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] ما أنتم إلا مخلوقون مثلنا، ليس لكم علينا فضل، {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا} [إبراهيم: 10] على ما تقولون، بسلطان مبين بحجة ظاهرة. {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] اعترفوا لهم بأنهم آدميون مخلوقون مثلهم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] يعنون بالنبوة والرسالة، {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [إبراهيم: 11] ليس لنا أن نأتيكم ببرهان وحجة ومعجزة إلا أن يشاء الله ذلك، أي: ليس لنا ذلك من قبل أنفسنا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11] وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم. {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] أي: أيُّ شيء لنا إذا لم نتوكل على الله ولم نفوض إليه أمورنا، يعني أن العبد، وإن لم يتوكل، لم يدرك بجهده شيئا لم يقضه الله، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] عرفنا طرق التوكل، {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] وإنما قص هذا وأمثاله في القرآن على نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقتدي بمن قبله من النبيين، ويعلم أنهم أوذوا في سبيل الله، فصبروا وتوكلوا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا دَاوُدُ، نا ابْنُ الْحَسَنِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخُوَارِزْمِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَذَاكَ الْبَرَاغِيثُ فَخُذْ قَدَحًا مِنْ مَاءٍ، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] الآيَةَ، وَتَقُولُ: فَإِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ؛ فَكُفُّوا شَرَّكُمْ وَأَذَاكُمْ عَنَّا، ثُمَّ تَرُشُّ الْمَاءَ حَوْلَ فِرَاشِكَ، فَإِنَّكَ تَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ آمِنًا مِنْ شَرِّهَا "

قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم: 13] أي: ولا نساكنكم على مخالفتكم ديننا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] ذكرنا معناه في قصة شعيب في { [الأعراف،] فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [سورة إبراهيم: 13] يعني الذين كفروا بالرسل، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 14] لنعطينكم سكناها بعد هلاكهم، ذَلِكَ الإسكان، {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] . قال ابن عباس: خاف مقامه بين يدي. وقال الكلبي: مقامه بين يدي رب العالمين. وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول، كما تقول: ندمت على ضربك، {وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] قال ابن عباس: خاف مما أوعدت من العذاب. يعني أن العاقبة بالنصر تكون لمن خاف الله. واستفتحوا يعني: الرسل، استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما يئسوا من إيمانهم، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} [إبراهيم: 15] متكبر عن طاعة الله، عنيد قال قتادة: العنيد المعرض عن طاعة الله. وقال مجاهد: هو المجانب للحق. وقال الزجاج: الذي يعدل عن القصد، والمعنى: فاز الرسل بالنصرة، وخاب كل من كفر. {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] قال ابن عباس، والمفسرون: يريد أمامه جهنم، فهي بين يديه. يعني: أنه يردها ويدخلها، ووراء، يكون لخلف وقدام، ومنه قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامهم. {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] الصديد: ماء الجرح المختلط بالدم والقيح. قال المفسرون: يريد صديد القيح والدم الذي يخرج من فروج الزناة. 498 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ،

عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16-17] قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَيَتَكَرَّهُهُ فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ هَوَى وَجْهُهُ، وَوَقَعَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَ؛ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، وَيَقُولُ اللَّهِ، تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] . قَوْلُهُ: {يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] التَّجَرُّعُ: تَنَاوُلُ الشَّرَابِ جَرْعَةً جَرْعَةً قال ابن عباس: يريد بالكره. {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] يقال: ساغ الشراب في الحلق سوغا وأساغه الله، قال المفسرون: يتحساه ويشربه بالجرع، لا بمرة واحدة، لمرارته، ولا يسيغه إلا بعد إبطاء، لكراهته للذلك الشراب. وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} [إبراهيم: 17] أي: همُّ الموت، وألمه، وكربه، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم: 17] قال ابن عباس: من كل شعرة في جسده. وقال الثوري: من كل عرق في جسده. {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] موتا تنقطع معه الحياة، ومن ورائه ومن بعد هذا العذاب، وقال الكلبي: ومن بعد هذا الصديد. {عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] متصل الآلام، وقال إبراهيم التيمي: يعني الخلود في النار. {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} [إبراهيم: 18] قال الفراء: تقدير الآية مثل أعمال الذين كفروا بربهم، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه. وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] أراد عاصف الريح، فحذف الريح لأنها ذكرت في أول الكلام، ويقال: عصفت الريح عصوفا إذا اشتد هبوبها. ومعنى الآية أن كل ما تقرب به الذين كفروا إلى الله، فمحبط غير منتفع به، لأنهم أشركوا فيها غير الله، كالرماد الذي ذّرَّتْهُ الريح وصار هباء لا ينتفع به، وذلك قوله: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا} [إبراهيم: 18] أي في الدنيا، على شيء

في الآخرة، قال ابن عباس: لا يجدون ثواب ما عملوا. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] يعني: ضلال أعمالهم وذهابها كذهاب الرماد في عصوف الريح. قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {19} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ {20} وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ {21} وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {22} وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ {23} } [إبراهيم: 19-23] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [إبراهيم: 19] معنى ألم تر ههنا التنبيه على خلق السموات والأرض، وقرأ حمزة والكسائي خالق السموات على فاعل، كقوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ومعنى قوله: بالحق كقوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] وقد تقدم، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] قال ابن عباس: يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع. وهذا خطاب لأهل مكة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] قال ابن عباس: لا يعز على الله شيء يريده. وقال الكلبي: ليس يعز على الله شيء أن يميتكم ويأتي بغيركم. قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] خرجوا من قبورهم للبعث، قال الزجاج: جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع. فقال الضعفاء وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [إبراهيم: 21] والأكابر هم الذين استكبروا عن عبادة الله، إنا كنا في الدنيا، لكم تبعا جمع تابع، مثل خادم وخدم، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [إبراهيم: 21] فهل أنتم دافعون عنا من عذاب الله؟ {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] لو أرشدنا الله لأرشدناكم، يريدون أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، ولو هداهم الله لدعوهم إلى الهدى. {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة، وصبروا مائة سنة، فلم ينفعهم أحدهم، فقالوا هذا. وقوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] أي: معدل عن العذاب. قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم: 22] أي: فرغ منه، وقضى الله بين العباد، قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في

النار، اجتمع أهل النار على إبليس، فيقوم فيما بينهم خطيبا، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] أي: كون هذا اليوم، فصدقكم وعده، ووعدتكم أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، فأخلفتكم الوعد، {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] ما أظهرت لكم حجة أحتج بها عليكم، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] هذا من الاستثناء المنقطع، أي: لكن دعوتكم {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] فصدقتموني وقبلتم مقالتي، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] حيث أجبتموني وصدقتموني من غير برهان، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم: 22] بمغيثكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] بمغيثين لي، أي: لا أنجيكم مما أنتم فيه، ولا تنجوني مما أنا فيه، قال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام إبليس خطيبا على منبر من نار، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] الآية. والقراءة الصحيحة فتح الياء في مصرخي، وهو الأصل، لأن ياء الإضافة إذا كان قبلها ساكن، حركت إلى الفتح لا غير، نحو هداي وعصاي، وقرأ حمزة بكسر الياء، قال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، لا وجه لها إلا وجه ضعيف، وهو ما أجازه الفراء من الكسر على أصل التقاء الساكنين، وأنشد: قلت لها هل لك يَا تَا فيَّ قالت لنا ما أنت بالمرضي وزعم قطرب أن هذه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء، نحو هل لك يا تافي؟ وكان الأصل مصرخي، ثم حذفت الياء الزائدة، وأقرت الكسرة على ما كانت عليه، وقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] أي: كفرت بإشراككم إياي مع الله في الطاعة، والمعنى: جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني، إن الظالمين يريد المشركين، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] ، وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] ذكرنا تفسيره في { [يونس. قوله:] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ {26} يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ {27} } [سورة إبراهيم: 24-27] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [إبراهيم: 24] بين الله شبها، ثم فسر ذلك المثل، فقال: كلمة طيبة قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله، وهو قول الجميع. {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] قالوا: يريد النخلة. والمعنى: كشجرة طيبة الثمرة. أصلها أي:

أصل هذه الشجرة، ثابت في الثرى، وفرعها أعلاها عال، {فِي السَّمَاءِ {24} تُؤْتِي} [إبراهيم: 24-25] تعطي هذه الشجرة، أكلها ثمرها وما يؤكل منها، كل حين قال ابن عباس: يريد ستة أشهر. وهو قول سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، قالوا: ما بين صرامها إلى حملها ستة أشهر. وقال مجاهد، وابن زيد، وعكرمة: كل سنة. شبه الله تعالى الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن، كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة، وشبه ما اكتسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان، بما ينال من ثمر النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والتمر، {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 25] قال ابن عباس: يريد أهل مكة. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] لكي يتعظوا. {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] يعني الشرك بالله، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد الثوم. وقال الضحاك عنه: هي الكشوث. وقال أنس بن مالك: هي الحنظل. فكما أنها أخبث الأشجار، فكذلك الشرك أخبث الكلمات، اجتثت انتزعت واقتلعت، {مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم: 26] قال ابن عباس: يريد ليس لها أصل تام، فهي فوق الأرض، لم تضرب فيها بعرق. وهو قوله: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] من أصل في الأرض، وكما أنها أخبث الأشجار، كذلك الشرك بالله أخبث الكلمات، ليس لها حجة ولا ثبات ولا شيء. قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] الذين صدقوا محمدا، {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وهو لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] يثبتهم بها على الحق، {وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] يعني في القبر، قال المفسرون: هذه الآية وردت في فتنة القبر، وسؤال الملكين، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، وتثبيته إياه بها على الحق. 499 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سُئِلَ فِي قَبْرِهِ؛ قَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] . 500 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ شَاذَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي

أَبِي، أنا أَبُو عَامِرٍ، نا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جِنَازَةً، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ، فَهَذَا مَنْزِلُكَ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ مُنَافِقًا، يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَقُلْتُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا هُدِيتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: هَذَا لَكَ لَوْ آمَنْتَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ، فَإِنَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُقْمِعُهُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً، يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مَطْرَقَةٌ، إِلا هِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ» وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] يعني: لا يلقن الله المشركين والكافرين حتى إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري. قال الفراء: يضلهم عن هذه الكلمة. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] من تثبيت المؤمن وتلقينه الصواب، وإضلال الكافر، قال الفراء: أي لا تكون له قدرة، ولا يسأل عما يفعل. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ {28} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ {29} وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ {30} } [إبراهيم: 28-30] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] قال جماعة المفسرين: هم مشركو مكة كفار قريش، أنعم الله عليهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكفروا به، ودعوا قومهم إلى الكفر به، وذلك قوله: وأحلوا قومهم يعني الذين اتبعوهم، {دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] أي الهلاك، يعني جهنم، ألا ترى أنه فسرها، فقال: جهنم يصلونها يقاسون حرها، وبئس القرار بئس المقر هي. 501 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، عَنِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا؛ قَالَ: هُمُ الأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ؛ فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس:

من الحجارة والخشب وغير ذلك، ليضلوا الناس عن دين الله، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد، ولم يتخذوها إلا ليزيغوا عن الطريق المستقيم، وهذه لام العاقبة، ثم أوعدهم، فقال: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] قال ابن عباس في هذه الآية: لو صار الكافر مريضا سقيما لا ينام ليلا ولا نهارا، جائعا لا يجد ما يأكل ويشرب، لكان هذا كله نعيما يتمتع به القياس إلى ما يصير إليه من شدة العذاب، ولو كان المؤمن في الدنيا في أنعم عيشه، لكان بؤسا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة. قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] معناه: قل لهم أقيموا الصلاة، فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر، وجعل كالجواب للأمر، وهذه الآية أمر للمؤمنين بعبادة الله من الصلاة والإنفاق في وجوه البر قبل يوم القيامة، وهو قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] قال أبو عبيدة: البيع ههنا الفداء، والخلال: المخالة. قال مقاتل: ذلك يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، إنما هي أعمال، يثاب بها قوم، ويعاقب عليها آخرون. والخلال: فعال من المخالة، وهو مصدر الخليل، هذا قول جميع أهل اللغة. وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون جمع خلة، مثل برمة وبرام، وعلبة وعلاب. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ {32} وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ {33} وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {34} } [إبراهيم: 32-34] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32] أي: ذللها لكم بالركوب والإجراء إلى حيث تريدون. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [إبراهيم: 33] لتنتفعوا بهما، وتستضيئوا بضوئهما، {دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران، ومعنى الدءوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [إبراهيم: 33] لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، والنهار لتبتغوا فيه من فضله. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] مفعول الإيتاء محذزف بتقدير من كل ما سألتموه مسئولا أو شيئا، ويجوز أن يكون من زيادة، والمعنى: وآتاكم كل ما سألتموه، وقال ابن الأنباري: تقدير الآية وأتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، لأنا لم نسأله شمسا ولا قمرا، ولا كثير من نعمة التي ابتدأنا بها. وكان قتادة يقرأ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] قال: لم تسألوه كل الذي آتاكم. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: 34] أي: إنعامه، والنعمة ههنا

اسم أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع، لا تحصوها أي: لا تأتوا على جميعها بالعدد لكثرتها، قال الكلبي: لا تحفظوها. وقال أبو العالية: لا تطيقون عدها. إن الإنسان قال ابن عباس: يريد أبا جهل. لظلوم لنفسه، كفار بنعمة ربه، قال الزجاج: الإنسان اسم الجنس، يقصد به الكافر خاصة. كما قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ومعنى ظلوم: شاكر غير من أنعم عليه، كفار جحود لنعم الله. قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {36} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37} رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ {38} الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ {39} رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ {40} رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ {41} وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} } [إبراهيم: 35-42] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] سبق تفسيره في { [البقرة، وقوله:] وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35] يقال: جنبته كذا، وأجنبته وجنبته، أي: باعدته عنه، وجعلته ناحية منه، والمعنى: ثبتني على اجتناب عبادتها، لأنه غير عابد لها، وهذه الدعوة مخصوصة بأبنائه من صلبه، فقد كان من نسله من عبد الصنم، وكان إبراهيم التيمي يقص ويقول: من يأمن البلاء بعد إبراهيم خليل الرحمن؟ يقرأ هذه الآية {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] أي: ضلوا بسببها، لأن الأصنام لا تفعل شيئا، ولكن لما ضلوا بسببها صارت كأنها أضلتهم، فمن تبعني على ديني بالتوحيد، فإنه مني أي من المتدينين بديني، {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] قال السدي: معناه من عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم. وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم، قال ابن الأنباري: ويحتمل أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه. قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 37] قال ابن الأنباري: من دخلت للتوكيد، والمعنى: أسكنت ذريتي. وعند الفراء: دخلت من التبعيض. أي: أسكنت بعض ذريتي، وذلك أنه أنزل إسماعيل وأمه بمكة، وإسماعيل بعض ذرية إبراهيم، يدل على هذا قول ابن عباس في هذه الآية يريد إسماعيل، {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] قال: يريد واد من مكة، ومكة كلها واد.

أخبرنا أبو حسان محمد بن أحمد بن جعفر، أنا هارون بن محمد بن هارون، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، حدثني جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، أخبرني محمد بن إسحاق، أنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن إبراهيم خرج من الشام، وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل يرضع، وحملوا على البراق ومعه جبريل حتى قدم مكة، وكانت هي إذ ذاك عضاه من سلم وسمر، وبها ناس يقال لهم العماليق، خارجا من مكة، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل عليهما السلام: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] الآية. والمعنى: عند بيتك المحرم الذي يحدث في هذا الوادي، لأن إسكان الخليل إسماعيل مكة كان قبل بنائهما البيت، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: ليعبدوك. {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] تريدهم وتسرع إليهم، قال عطاء: تحن إليهم. وقال قتادة: تنزع إليهم. وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: أفئدة من الناس. فهم المسلمون. قال عكرمة: هو أنهم يحجون إلى مكة. {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] هذا كقوله في { [البقرة:] وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [سورة البقرة: 126] . {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] قال ابن عباس: كي يوحدوك ويعظموك. قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم، وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد إسحاق، وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] قال الزجاج: أي اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة. {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40] قال ابن عباس: يريد عبادتي. {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41] قال ابن الأنباري: استغفر

لأبويه وهما حيان طمعا في أن يهديا إلى الإسلام، ويسعدا بالدين. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41] قال ابن عباس: يريد من لقيك مؤمنا مصدقا فتجاوز عنه. {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] يظهر الجزاء على الأعمال. قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] . 502 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ حَبَشٍ الدِّينَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ الْمِصِّيصِيُّ، نا أَبُو الْمَلِيحِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] ، قَالَ: وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ، وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} [إبراهيم: 42] أَيْ: يُؤَخِّرُ جَزَاءَهُمْ وَلا يَأْخُذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ، {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ الْخَلائِقِ إِلَى الْهَوَاءِ؛ لِعَجَائِبِ مَا يَرَوْنَ، وَلِشِدَّةِ الْحِيرَةِ وَالدَّهْشَةِ لا يُغْمِضُونَ {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] مهطعين قال سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة: مسرعين. وقال الضحاك، والكلبي، والعوفي، عن ابن عباس: مديمي النظر من غير أن يطرفوا. ومعنى الإهطاع: الإسراع مع إدامة النظر، وقوله: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] يقال: أقنع رأسه إذا رفعه. قال المفسرون: رافعي رءوسهم. قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة، وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد خرجت القلوب من مواضعها، فصارت في الحناجر. وقال قتادة: انْتُزِعَتْ حتى صارت في حناجرهم. فعلى هذا أريد بالأفئدة مواضع القلوب، وأنها خلت عن القلوب فصارت هواء، وقال آخرون: معنى الآية أن قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الفزع، فهي خالية عن العقل للدهشة والحيرة، ثم عاد إلى خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره بالإنذار. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ {44} وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45} } [إبراهيم: 44-45] فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} [إبراهيم: 44] قال ابن عباس: يعني أهل مكة، {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} [إبراهيم: 44] يعني يوم القيامة، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [إبراهيم: 44] أشركوا بالله، {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] استمهلوه مدة يسيرة لكي يجيبوا الدعوة، ويتبعوا الرسل، وهو قوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ

الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44] فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة. {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] يعني الأمم الكافرة قبلهم، ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية يقول: كان ينبغي أن يرتجعوا ويرتدعوا عن الكفر، اعتبارا بمساكنهم بعد ما تبين {لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45] قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن. {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ {46} فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {47} يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {48} وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ {50} لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {51} } [إبراهيم: 46-51] قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [إبراهيم: 46] يعني مكرهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هموا بقتله ونفيه، {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] أي: جزاء مكرهم، {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] وما كان مكرهم، {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] يعني: أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أتى به من دين الإسلام، وضرب الجبال مثلا له على معنى أن ثبوته كثبوت الجبال، قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال. وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام الأولى وضم الثانية، وإن على هذه القراءة لا يكون نفيا، بل يكون بمعنى قد، والمعنى: قد كادت الجبال تزول من مكرهم، وهذه مبالغة في وصف مكرهم بالعظم على مذهب العرب في المبالغة، قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله تعالى ينصر دينه. يدل على هذا قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] قال ابن عباس: يريد النصر والفتح وإظهار الدين، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [إبراهيم: 47] منيع، {ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] من الكافرين، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم. قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأرض هي تلك الأرض، وإنما تبدل آكامها، وجبالها، وأشجارها. ونحو هذا روى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " يبدل الله الأرض غير الأرض، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] ". وأما تبديل السموات فقال ابن الأنباري: باختلاف هيئتها كما ذكر الله

أنها تكون مرة كالمهل، ومرة كالدهان. قال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وهذا قول الكلبي، وعطاء، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين. {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] كقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] . وترى المجرمين قال ابن عباس: يريد الذين أجرموا، زعموا أن لله ولدا وشريكا. {يَوْمَئِذٍ} [إبراهيم: 49] يوم القيامة، مقرنين يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا وصلته به، وجاء ههنا على التشديد، لكثرة أولئك القوم، قوله: في الأصفاد جمع الصفد، وهو القيد، قال عطاء: يريد سلاسل الحديد والأغلال. وقال الكلبي: كل كافر مع شيطان في غل. وقال ابن زيد: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. سرابيلهم جمع سربال، وهو القميص، وقال الزجاج: هو كل ما لبس من قطران، وهو هناء الإبل، وهو شيء يتحلب من شجر، وجعلت سرابيلهم من قطران، لأنه أبلغ في اشتعال النار في جلودهم، {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] أي تعلوها. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [إبراهيم: 51] ليقع لهم الجزاء من الله بما كسبوا، يعني الكفار. هَذَا يعني القرآن {بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52] أي أنزل، ليبلغوا، {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] قال ابن عباس: ولتنذر قومك يا محمد، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 52] أي: بما فيه من الحجج التي تدل على وحدانيته، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] وليتعظ أهل العقول والبصائر.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون. 503 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ الْحِيرِيِّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْحِجْرَ، أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ» . {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {3} وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ {4} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ {5} } [الحجر: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم الر قال أبو الضحى، عن ابن عباس: أنا الله أرى. وقال عكرمة عنه: الر، وحم، وق حروف الرحمن مقطعة. تلك هذه، {آيَاتُ الْكِتَابِ} [الحجر: 1] يعني القرآن، ثم ذكره، فقال: وقرءان مبين فجمع بين الوصفين لموصوف واحد، قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] وقرئ بالتخفيف لما فيه من التضعيف، والحروف المضاعفة قد تخفف نحو: إن وأن ولكن، وقد خفف كل واحد من هذه الحروف، قال الزجاج: العرب تقول: رب رجل جاءني. ويخففون فيقولون: رب رجل. قال المفسرون: نزلت الآية في تمني الكفار الإسلام عند خروج من يخرج من النار من أهل الإسلام. وهذا تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما: 504 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا

مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا أَبُو الشَّعْثَاءِ، نا خَالِدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلامُكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخْذِنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْكُفَّارُ؛ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَمَا أُخْرِجُوا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ {1} رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {2} } [الحجر: 1-2] . 505 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا عَبِيدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَشْفَعُ وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَيَرْحَمُ، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] . قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] يقول: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك خلاقهم. وهذا كقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ، {وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر: 3] يشغلهم ما يأملون في دنياهم عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، يقال: ألهاه الشيء أي شغله وأنساه. فسوف يعلمون وعيد وتهديد، أي: فسوف يعلمون إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا. {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الحجر: 4] قال ابن عباس: يريد من أهل القرية. {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أجل ينتهون إليه، يعني أن لأهل كل قرية أجلا مؤقتا لا يهلكهم حتى يبلغوه، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} [الحجر: 5] من زائدة، كقولك: ما جاءني من. أجلها ما ضرب لها من الوقت، وما يستأخرون لا يتأخرون عنه، وهذا كقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] . قوله: {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ {6} لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {7} مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ {8} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9} وَلَقَدْ

أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ {10} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {11} كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {12} لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ {13} وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ {14} لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ {15} } [الحجر: 6-15] {وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6] أي القرآن، قال عطاء، عن ابن عباس: هذا استهزاء منهم، لو أيقنوا أنه أنزل عليه الذكر ما قالوا: إنك لمجنون. {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر: 7] قال الفراء: لولا ولوما لغتان، معناهما هلا. قال ابن عباس: أفلا جئتنا بالملائكة حتى نصدقك؟ قال الله تعالى جوابا لهم: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8] أي: إذا نزل الملائكة وجب العذاب من غير تأخير ولا إنظار. قال ابن عباس: إذا نزلت الملائكة، لم ينظروا، ولم يمهلوا. وهو قوله: {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8] . قوله: إنا نحن هذا من كلام الملوك، الواحد منهم إذا فعل شيئا قال: نحن فعلنا. يريد نفسه وأتباعه، ثم صار هذا عادة الملك في خطابه، وإن انفرد بفعل الشيء قال: نحن فعلنا. فخوطبت العرب بما يعقل من كلامها، وقوله: {نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] يعني القرآن، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا، حفظه الله من ذلك. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الحجر: 10] أي رسلا، فحذفت المفعول الدلالة الإرسال عليه، {فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 10] قال الحسن، والكلبي: في فرق الأولين. وقال عطاء، عن ابن عباس: في الأمم الأولين. قال الفراء: الشيعة الأمة لمتابعة بعضهم بعضها فيما يجتمعون عليه من أمر. {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11] يعني كما استهزأ به قومك، وهذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلالة أن كل واحد من الرسل كان مبتلى بقومه. {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12] قال الزجاج: كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا، نسلك الضلال في قلوب المجرمين. والسلك: إدخال الشيء في الشيء. قال ابن عباس، والحسن: نسلك الشرك في قلوب المكذبين. ثم أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم لا يؤمنون، فقال: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 13] بالرسول وبالقرآن، {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر: 13] مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسول في القرون الماضية، وهذا تهديد لكفار مكة، ثم أخبر أنهم إذا وردت عليهم الآية بالمعجزة قالوا سحر، فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14] يقال: ظل كذا

إذا فعله بالنهار، والعروج الصعود. يقال: عرج يعرج عروجا. يقول: لو كشف لهؤلاء عن أبصارهم حتى يعاينوا بابا في السماء مفتوحا تصعد فيه الملائكة لصرفوا ذلك إلى أنهم سحروا، وهو قوله: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] قال مجاهد: سدت بالسحر، فيخايل لأبصارنا غير ما نرى. وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن الأبصار منعت من النظر كما يمنع الماء من الجري، والتشديد لذكر الأبصار، {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] سحرنا محمد، فنحن نرى ما لا حقيقة له. {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16} وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ {17} إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ {18} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ {20} وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ {21} وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ {22} وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ {23} وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ {24} وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {25} } [الحجر: 16-25] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر: 16] قال ابن عباس: يريد بروج الشمس والقمر، يعني منازلهما. وزيناها بالشمس والقمر والنجوم، للناظرين للمعتبرين بها والمستدلين على توحيد صانعها. {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة، ثم قيل للعنِ والطردِ والإبعادِ رَجْمٌ، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني، والرجيم: الملعون المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة: الرجيم المرجوم بالنجوم. بيانه قوله: رجوما للشياطين قال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، وكانوا يدخلونها ويتحرون أخبارها، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب. فذلك قوله: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وذلك أن المارد من الشياطين يعلو لاستراق السمع، فيرمى بالشهاب، وهو قوله: فأتبعه أي لحقه، شهاب مبين شعلة نار ظاهرة

لأهل الأرض، ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون النجوم، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أنهم يرمون بشعلة نار من الهواء، ولكن لبعده عنا يخيل إلينا أنه نجم. والأرض مددناها بسطناها على وجه الماء، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [الحجر: 19] وهي الجبال الثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الثمار مما يكال أو يوزن. وقال الكلبي: وأنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والكحل، والزرنيخ، وكل شيء يوزن وزنا. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] من الثمار والحبوب، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] يعني: العبيد والدواب والأنعام، يرزقهم الله ولا ترزقونهم. وقال الكلبي: يعني الوحش والطير. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الحجر: 21] أي من المطر في قول عامة المفسرين، وذلك أنه سبب الرزق والمعاش، ولما ذكر أنه يعطيهم المعاش، بَيَّنَ أن خزائن المطر الذي هو سبب المعاش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، ولا ينقصه ولا يزيده، غير أنه يصرفه إلى من شاء حيث شاء، يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر. قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] قال ابن عباس، والمفسرون: يعني للشجر والسحاب. قال ابن مسعود: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب، فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم تمر به، فتدر كما تدر اللقحة، ولواقح ههنا بمعنى ملاقح، جمع ملقحة، فحذفت الميم وَرُدَّتْ إلى الأصل الثلاثي، كما يقال: أبقل النبت فهو باقل، يجعلونه بدلا من مبقل. وقال ابن الأنباري: الريح اللاقح التي تحمل الماء والسحاب. وهذا قول الفراء، وابن قتيبة، واختيار الأزهري، قالوا: جعل الله الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح. وقال رجل: كنت جالسا عند ابن مسعود فهاجت ريح، فقال رجل: اللهم العنها. فقال عبد الله: لا، مَه، فإنها نذور مبشرات ولواقح، ولكن سَلِ اللهَ من خيرها، وتعوذ به من شرها. وقوله: فأسقيناكموه يقال: سقيته حتى روي، وأسقيته نهرا جعلته شربا له. ومعنى فأسقيناكموه جعلناه سقيا لكم، {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} [الحجر: 22] لذلك الماء المنزل من السماء، بخازنين بحافظين، يقول: ليست خزانته بأيديكم. {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] إذا مات جميع

الخلائق لم يبق حيا سواه، كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ} [مريم: 40] الآية. {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] استقدم أي تقدم، وضده استأخر أي تأخر. 506 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ نَصْرُ بْنُ بَكْرٍ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، نا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ تُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فِي آخِرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لِئَلا يَرَاهَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّفِّ، فَإِذَا رَكَعَ؛ قَالَ هَكَذَا وَنَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي الصَّلاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْقَوْلَ وقال: معنى ولقد علمنا أي: وإنا نعلم جميعهم، فنجزيهم على نياتهم. وقال الحسن، وعطاء: يعني المتقدمين في طاعة الله والمتأخرين عنها. وقال قتادة، ومجاهد: يعني من مضى من الأمم السالفة ومن بقي، وهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يدل على هذا قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} [الحجر: 25] . يجمعهم للحساب، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الحجر: 25] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {26} وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ {27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {29} فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {30} إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {31} قَالَ

يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ {32} قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ {33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {35} قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {37} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {38} قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {40} قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ {41} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ {42} وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ {43} لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ {44} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنْينَ {46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {47} لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ {48} } [الحجر: 26-48] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الحجر: 26] يعني آدم، من صلصال وهو طين يصلصل إذا نقر عليه، يقال: صل الحديد وصلصل إذا صوت. قال ابن عباس في رواية الوالبي: الصلصال الطين اليابس. وقال في رواية إسرائيل: الصلصال الذي إذا قرع صوت. 507 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، فَأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى صَارَ طِينًا لازِبًا، وَهُوَ الطِّينُ الْمُلْتَزِقُ، ثُمَّ تُرِكَ، حَتَّى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، وَهُوَ الْمُنْتِنُ، ثُمَّ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَكَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُصَوَّرًا، حَتَّى يَبِسَ فَصَارَ صَلْصَالا كَالْفُخَّارِ إِذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ صَلْصَلَ، فَذَلِكَ الصَّلْصَالُ وَالْفُخَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ وقوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] الحمأ الطين الأسود المنتن، والمسنون المتغير الرائحة، يقال: سن الماء فهو مسنون، أي تغير. وقال سيبويه: المسنون المصور على صورة، ومثال من سنة الوجه وهي صورته. قوله: والجان خلقناه قال عطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل: يريد إبليس. وقال عامة المفسرين: الجان أبو الجن، سمي جانا لتوريته عن الأعين، يقال: جن الشيء إذا ستره. فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، وقوله: من قبل يعني من قبل خلق آدم، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] قال الكلبي: هي نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها. قال ابن مسعود: من نار الريح الحارة،

قال: وهذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. ومعنى السموم في اللغة: الريح الحارة وفيها نار، وفي الخبر: «إنها من لفح جهنم» . وقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [الحجر: 29] أي: عدلت صورته وسويته بالصورة الإنسانية، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] النفخ إجراء الريح في الشيء، والروح جسم رقيق يحيا به البدن، ولما أجرى الله الروح في بدن آدم على صفة إجراء الريح، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إليه إكراما وتشريفا، وهي إضافة الملك، وقوله: فقعوا أمر من الوقوع، قال الكلبي: فَخَرُّوا له ساجدين سجود، تحية، ولم تكن سجدة طاعة. {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] قال سيبويه: توكيد بعد توكيد. وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] قال الكلبي: يلعنك أهل السماء وأهل الأرض إلى يوم الحساب، لأنه أول من عصى الله. قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حين يجازى العباد بأعمالهم. فاستنظر إبليس إلى يوم القيامة لئلا يموت إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد، فلم يجب إلى ذلك. وقيل له: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 38] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى حين تموت الخلائق كلهم. قال الكلبي: إذا نفخت النفخة الأولى مات الخلائق كلهم، ومات إبليس معهم، وإنما سمي الوقت المعلوم لأنه يموت فيه الخلائق وإبليس. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] قال أبو عبيدة: معنى الباء ههنا القسم. وقال غيره: هي بمعنى السبب، أي بكوني غاويا لأزينن، كما تقول: بطاعته ليدخلن الجنة، وبمعصيته ليدخلن النار. ومعنى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحجر: 39] يعني لأولاد آدم، ومفعول التزيين محذوف على تقدير لأزينن لهم الباطل حتى يقعوا فيه. {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، فقال الله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] يعني الإخلاص والإيمان، طريق عليَّ وإليَّ، أي أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي، فهو طريق عليَّ، وهذا معنى قول مجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء. {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] قال ابن عباس: اختار الله عبادا فأخبر إبليس أنه ليس له عليهم سلطان، أي قوة وحجة في إغوائهم ودعائهم إلى الشرك والضلال. ثم أوعد من اتبعه فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] قال ابن عباس: يريد إبليس ومن اتبعه من الغاوين. {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قال: سبعة أطباق، طبق

فوق طبق. وقال عليٌّ بن أبي طالب: إن الله وضع النيران بعضها فوق بعض، فأبوابها كإطباق اليد على اليد. {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} [الحجر: 44] من أتباع إبليس، جزء مقسوم والجزء بعض الشيء والجمع أجزاء، قال الضحاك: هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض، وأعلاها فيه أهل التوحيد، يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون، والثاني فيه للنصارى، والثالث فيه اليهود، والرابع فيه الصائبون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون. قوله: إن المتقين قال الكلبي: إن المتقين للفواحش والكبائر. {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] يعني عيون الماء والخمر، ويقال لهم: ادخلوها بسلام أي بسلامة، قال ابن عباس: سلموا من سخط الله. {آمِنْينَ} [الحجر: 46] أمنوا عذاب الله والموت. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] مفسر في { [الأعراف، إخوانا متوادين على سرر جمع سرير، قال ابن عباس: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة. متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض، حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله. ] لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [سورة الحجر: 48] لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب، قال ابن عباس: مثل نصب الدنيا إذا مشى نصب، وإذا جامع نصب، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] يريد خلودا لا زوال فيه. {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ {50} وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53} قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ {54} قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ {55} قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ {56} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {57} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ {58} إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 49-60] نبئ عبادي أخبرهم، {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} [الحجر: 49] لأوليائي، الرحيم بهم. {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 50] لأعدائي. 508 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أنا مَرْوَانُ الْعُثْمَانِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ

الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِه أَبَدًا، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَبَدًا» 509 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا قُتَيْبَةُ، نا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ؛ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} [الحجر: 51] هذه القصة مضى ذكرها في { [هود، والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد في اللفظ، وإن كانوا جماعة. ] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} [سورة الحجر: 52] أي سلموا سلاما، فقال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] الوجل الفزع، وجل يوجل وجلا فهو وجل. {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] . {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} [الحجر: 54] أي: على حالة الكبر والهرم، فبم تبشرون استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كبره، وقرأ نافع تبشرون بكسر النون، أراد تبشرونني، فحذف النون الثانية وأبقى الكسرة التي تدل على الياء، وابن كثير أدغم ولم يحذف. {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 55] بما قضاه الله أنه كائن، {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55] من الآيسين، والقنوط: اليأس من الخير. {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} [الحجر: 56] وقرئ يقنط بفتح النون، وهما لغتان: قنط يقنط، وقنط يقنط قنوطا وقنطا. قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون. وهذا يدل على أن إبراهيم لم يكن قانطا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطا، فنفى ذلك عن نفسه وأخبر أن القانط من رحمة الله ضال. {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57] قال الكلبي: فما بالكم؟ وما الذي جئتم به؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] يعنون قوم لوط، {إِلا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] استثناء ليس من الأول، وآل لوط هم أتباعه والذين كانوا على دينه، {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} } [الحجر: 59-60] قضينا أنها تبقى مع من يبقى ويتخلف حتى تهلك كما يهلكون، وقرأ عاصم قدرنا

مخففة، يقال: قدرت الشيء وقدرته، ونحو هذا قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] قرئ بالوجهين، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ {61} قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ {62} قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ {63} وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {64} فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ {66} } [الحجر: 61-66] {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [الحجر: 63] أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله. وأتيناك بالحق أي بالأمر الثابت الذي لا شك فيه من عذاب قومك. فأسر بأهلك مفسر في { [هود، إلى قوله:] وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [سورة الحجر: 65] قال ابن عباس: يعني الشام. وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وقال الكلبي: أمرهم جبريل أن يمضوا إلى صفر إحدى قرى قوم لوط. وقضينا إليه أي: أوحينا إليه وألهمناه، وقال ابن قتيبة: أخبرناه، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي أخبرناهم. وقوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] أي الأمر بهلاك قومه، قال الزجاج: موضع أن نصب، وهو بدل من قوله: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66] لأنه فسر الأمر بقوله: أن دابر. والمعنى: وقضينا إليه، {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] أي: آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح، وهو قوله: مصبحين أي: داخلين في وقت الصبح. {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ {67} قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ {68} وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ {69} قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ {70} قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {71} لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ {72} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ {73} فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ {74} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ {75} وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقيمٍ {76} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {77} } [الحجر: 67-77] قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} [الحجر: 67] يعني مدينة قوم لوط، وهي سذوم، يستبشرون يفرحون بعملهم الخبيث طمعا منهم في ركوب الفاحشة، فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} [الحجر: 68] .

يقال: فضحه يفضحه إذ أبان من أمره ما يلزمه به العار. والمعنى: لا يفضحون بقصدكم إياهم بالسوء، فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} [الحجر: 69] مذكور في { [هود، فقالوا له:] أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة الحجر: 70] أي: عن ضيافة العالمين، والمعنى: أولم ننهك عن أن تدخل أحدا بيتك، لأنا نريد منه الفاحشة، فقال لهم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71] أي: إن كنتم فاعلين لهذا الشأن، فعليكم بالتزوج ببناتي، ومضى الكلام في هذا. قوله لعمرك العَمر والعُمر واحد، فإذا أقسموا فتحوا العين لا غير، قال الزجاج: لأن الفتح أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمري، فلزموا الأخف. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وعيشك يا محمد. 510 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، نا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلا ذَرَأَ وَلا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلا بِحَيَاتِهِ، قَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] قال عطاء: يريد أن قومك في ضلالتهم يتمادون. وقال عامة المفسرين: يعني قوم لوط. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73] يعني صيحة العذاب. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة أهلكتهم. وقوله: {مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73] يقال: أشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، مثل أصبحوا وأمسوا. والمعنى أن العذاب أتاهم في شروق الشمس، يقال: إن أول العذاب كان مع طلوع الصبح، ثم امتد إلى شروق الشمس، لذلك قال: مصبحين، ثم قال: مشرقين. {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: 74] مفسر في { [هود. ] إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سورة الحجر: 75] يعني فيما فعل بقوم لوط، {لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] يقال: توسمت في فلان خيرا إذا رأيت أثره فيه. والمتوسم: الناظر في السمة الدالة على الشيء. قال عطاء، عن ابن عباس: للمتفرسين. وقال الضحاك: للناظرين. قال مقاتل: للمتفكرين. وقال قتادة: للمعتبرين.

511 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، نا أَبُو بِشْرٍ الْمُزَلِّقُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» قوله: وإنها يعني مدينة قوم لوط، لبسبيل مقيم بطريق واضح لا يندر ولا يخفى، قال ابن عباس: على طريق قومك إلى الشام. والمعنى أن الاعتبار بها ممكن. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77] لعبرة للمصدقين، يعني أن المؤمنين اعتبروا وصدقوا. {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ {78} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ {79} وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ {80} وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {81} وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ {82} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ {83} فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {84} } [الحجر: 78-84] قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} [الحجر: 78] معنى إن واللام التوكيد، وإن ههنا مخففة من الثقيلة، والأيكة والأيك: الشجر الملتف، قال المفسرون: قوم شعيب كانوا أصحاب غياض، فكذبوا شعيبا، فأهلكوا بعذاب يوم الظلة. وهو قوله: فانتقمنا منهم قال المفسرون: أخذهم الحر أياما، ثم اضطرم عليهم المكان نارا فهلكوا. وقوله: وإنهما يعني الأيكة ومدينة قوم لوط، لبإمام مبين بطريق واضح، وسمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع. قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80] يعني ثمود، وكانت مساكنهم تسمى الحجر. {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} [الحجر: 81] قال ابن عباس: يريد الناقة، وكان في آيات خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظم خلقها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا. {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الحجر: 81] لم يتفكروا فيها، ولم يستدلوا بها. {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الحجر: 82] ذكرنا

ذلك في { [الأعراف، وقوله:] آمِنِينَ} [سورة الحجر: 82] قال الفراء: آمنين من أن تقع عليهم. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 83] أتتهم صيحة عظيمة، فماتوا عن آخرهم في وقت الصبح. وهذا مما قد تقدم في { [الأعراف. وقوله:] فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} [سورة الحجر: 84] أي: ما دفع عنهم العذاب، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 84] من الأموال والأنعام. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {85} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {86} وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ {87} لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ {88} وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ {89} كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ {90} الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ {91} فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {94} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ {95} الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {96} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99} } [الحجر: 85-99] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] أي: للحق وإظهار الحق، وهو الثواب للمصدق، والعقاب للمكذب، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} [الحجر: 85] وإن القيامة لتأتي، فيجازى المشركون بقبح أعمالهم، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] أعرض عنهم إعراضا بغير جزع، وهذا منسوخ بآية القتال. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ} [الحجر: 86] خالق كل شيء، العليم بما خلق. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] واحد المثاني مثناة، وهي كل شيء يثنى، أي يجعل اثنين، وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالسبع المثاني فاتحة الكتاب، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والكلبي، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 512 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ، نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، وَإِنَّمَا

سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ؛ لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهِيَ تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلاةٍ بِإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وقال الزجاج: ويجوز أن يكون من المثاني مما أثني به على الله، لأن فيها حمد الله وتوحيده، وذكر ملكه يوم الدين، المعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله. وهذه الآية تدل على فضيلة الفاتحة لأن الله تعالى امتن على رسوله بهذه ال { [، كما امتن عليه بجميع القرآن، حيث فصل هذا من القرآن بالذكر، ثم ذكر القرآن بعده، فقال: والقرءان العظيم أي: العظيم القدر، لأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، ولما ذكر منته عليه بالقرآن، نهاه عن النظر إلى الدنيا، فقال:] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [سورة الحجر: 88] أي: أصنافا من المشركين واليهود، قال ابن عباس: «نهى اللهُ رسولَه عن الرغبة في الدنيا، فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا» . {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] قال الكلبي: على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] ألن لهم جانبك، قال ابن عباس: ارفق بهم، ولا تغلظ عليهم. والعرب تقول: فلان خافض الجناح إذا كان وقورا ساكنا. {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال ابن عباس: أنذركم بسخط الله وعذابه، وأبين لكم ما يقربكم إلى الله. كما أنزلنا ويجوز أن يكون المعنى أني أنذركم ما أنزلنا، وتكون الكاف زائدة، وقوله: على المقتسمين يعني الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإيمان به، قال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فإنه مجنون. فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة. ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} [الحجر: 91] قال ابن عباس: جزءوه أجزاء، فقالوا: سحر. وقالوا: أساطير الأولين. وقالوا: مفترى. وعضين جمع عضة، مثل عزة وعزين من عضيت الشيء إذا مزقته، وكل قطعة عضة، والمعنى أنهم فرقوا القول في القرآن، حيث اختلفت في وصفة أقوالهم. قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {93} } [الحجر: 92-93] قال الكلبي: عن ترك لا إله إلا الله والإيمان برسله، وهذا السؤال سؤال توبيخ، يسألون يوم القيامة، فيقال لهم: لم عصيتم الرسل، وتركتم الإيمان؟ فيظهر خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب. وقال أبو العالية:

يسأل العباد كلهم يوم القيامة، عن خلتين عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين. وأما قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} [الرحمن: 39] الآية، أي: لا يسألون سؤال استفهام ليعلم ذلك من جهتهم. قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح. وقال المفسرون: اجهر بالأمر أي بأمرك، يعني إظهار الدعوة، وما زال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستخفيا حتى نزلت هذه الآية، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] الذين كانوا يستهزئون بك وبالقرآن، وكانوا جماعة يؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، وهو الأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عدي، فأومأ جبريل بإصبعه إلى ساق الوليد، وإلى عيني أبي زمعة، وإلى رأس الأسود، وإلى بطن الحارث، وقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفيت أمرهم» . فمر الوليد على قين لخزاعة، وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعل يضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى قطع إنسياه، فلم يزل حتى مات، ووطئ العاص على شبرقة، فحكت رجله، فلم يزل يحكها حتى مات، وعمي أبو زمعة، وأخذت الأكلة في رأس الأسود، وأخذ الحارث الماء في بطنه فمات خبثا، يعني استسقاء. ثم وصفهم بالشرك، فقال: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96] وعيد لهم وتهديد. ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] من تكذيبك والاستهزاء بك. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] قال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده. {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] قال ابن عباس: من المصلين. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قال جماعة المفسرين: يعني الموت، وسمي الموت

يقينا لأنه موقن به. قال قتادة: اليقين الموت، وعند الموت والله يقين من الخير والشر. قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبدا، لأنه لو قيل: اعبد ربك بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا، فإذا قال: حتى يأتيك اليقين، فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا. 513 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، نا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّوَّافُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الأَزْدِيُّ، نا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}

سورة النحل

سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة. 514 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النَّحْلِ لَمْ يُحَاسِبْهُ اللَّهُ بِالنَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَالَّذِي مَاتَ فَأَحْسَنَ الْوَصِيَّةَ " {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {1} يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ {2} } [النحل: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي: عذابه لمن أقام على الشرك، وتكذيب رسوله، وهو الأمر بالسيف، {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] لا تطلبوه قبل حينه، وهذا كما تقول لمن يطلب أمرا يستعجل فيه: أتاك الأمر فلا تستعجل. وقال جماعة من المفسرين: أمر الله ههنا الساعة. وذلك أنهم استبطأوا أمر الساعة، فأعلم الله أن ذلك عنده في القرب بمنزلة ما قد أتى، كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] . سبحانه تنزيها له وبراءة من السوء، وتعالى ارتفع بصفات المدح، {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] به من الأصنام، أي أنها ليست شركاء لهم لأنهم لا يخلقون شيئا. قوله: ينزل الملائكة قال ابن عباس: يريد جبريل وحده، {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] بالوحي، وهو كلام الله، سمي روحا لأنه حياة من موت الكفر، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ

مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] يريد النبيين الذين يختارهم بالرسالة، وقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل: 2] أي أهل الكفر بأنه {لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [النحل: 2] أي: مروهم بتوحيدي، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم لو لم يقروا. ثم ذكر ما يدل على توحيده فقال: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {3} خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ {4} وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ {8} } [النحل: 3-8] {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [النحل: 3] الآية. {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [النحل: 4] يعني أبي بن خلف، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} [النحل: 4] مخاصم، مبين ظاهر الخصومة، وذلك أنه خاصم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إنكار البعث. والمعنى: أنه مخلوق من نطفة، ومع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وأن من قدر على خلقه أولا، قادر على إعادته. والأنعام خلقها يعني الإبل والبقر والغنم، ثم ابتدأ فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: لكم ثم يبتدئ فيقول: فيها دفء. وهو ما يستدفأ به من الأكسية والأبنية من أوبارها وأشعارها وأصوافها، قال الأصمعي: الدف السخونة. وقال الفراء: يقال: دفيت يدفأ دفاء ودفأ. قوله: ومنافع يعني النسل والدر والركوب، ومنها تأكلون يريد من لحومها. {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6] زينة، {حِينَ تُرِيحُونَ} [النحل: 6] تردونها إلى مراحها، وهو حيث تأوي إليه ليلا، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ترسلونها بالغداة إلى مراعيها، يقال: سرح القوم إبلهم سرحا. قال قتادة: وأحسن ما تكون إذا راحت عظاما ضروعها، طوالا أسنمتها. {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] جمع ثقل، وهو متاع المسافر، {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} [النحل: 7] قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإلى مصر. هذا قوله، والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير الإبل شق عليكم، وخص ابن عباس اليمن والشام، لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه الوجوه، والشق المشقة، معناه: إلا بجهد الأنفس، {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] بكم إذ من عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق. قوله: والخيل أي وخلق الخيل، {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] قال الزجاج: نصبها على أنها مفعول لها. والمعنى: وخلقها للزينة، والآية لا تدل على تحريم لحوم الخيل وإن ذكرته مع البغال والحمير، لأن القصد بهذه الآية إظهار المنة، بأن خلق لنا من الحيوان ما نركبه ونتجمل به، ولحوم الخيل حلال بالسنة:

515 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْحَافِظُ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَكَلْنَا لَحْمَ الْفَرَسِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ 516 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» وقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] قال ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع، يدخل جبريل في كل بحر، فيغتسل، فيزداد نورا إلى نوره، وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقال آخرون: يعني ما أعد في الجنة لأهلها، وما أعد في النار لأهلها. {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ {9} هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {12} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {13} } [النحل: 9-13] قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا قصد بك إلى ما تريد. وقصد السبيل الإسلام، والمعنى أن قصد السبيل الذي هو الإسلام على الله أن يؤدي إلى رضا الله

وثوابه وجزائه، قال مجاهد: وطريق الحق على الله. وهذا كقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] . قوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] أي مائل عادل عن الحق، قال الكلبي: يعني اليهودية والنصرانية والمجوسية. وقال ابن المبارك: يعني الأهواء والبدع. ثم بين أن المشيئة إليه، فقال: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] قال ابن عباس: لو شاء لأرشدكم كلكم حتى لا يختلف عليك يا محمد أحد. قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10] تشربونه، ومنه شجر قال الزجاج: كل ما نبت على الأرض فهو شجر. وقال ابن قتيبة: يعني الكلأ. والمعنى أنه ينبت بالماء الذي ينزل من السماء ما ترعاه الرعية من دق الشجر وجلها، لأن الإبل ترعى جل الشجر، قوله: فيه أي في الشجر، {تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي إذا رعت، فهي سائمة. قوله: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ} [النحل: 11] قال ابن عباس: يريد الحبوب. والزيتون جمع زيتونة، يقال للشجرة نفسها: زيتونة، وباقي الآية وما بعدها ظاهر تقدم تفسيره، وأكثر القراء على نصب الشمس والقمر والنجوم، وهو الوجه لاستقامتها مع ما قبلها في المعنى، وإذا استقامت في معنى واحد استقامت في إعراب واحد. وقوله: مسخرات حال مؤكدة، لأن تسخيرها قد عرف بقوله: وسخر. وقرأها ابن عامر بالرفع، فابتدأ الشمس والقمر، وجعل مسخرات خبرا عنها، وقرأ حفص مسخرات بالرفع وحدها وجعلها خبر ابتداء محذوف كأنه قال: مسخرات. قوله {وَمَا ذَرَأَ} [النحل: 13] أي: وسخر لكم ما خلق، لكم أي لأجلكم، يعني الدواب والشجر وغيرها، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل: 13] أي هيئته ومناظره. {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {14} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {15} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ {16} } [النحل: 14-16] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} [النحل: 14] ذلك للركوب والغوص، {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] يعني السمك، {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] يريد الدر واللؤلؤ والمرجان، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] شواق الماء بدفعه بصدرها، ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14] يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله. {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [النحل: 15] جبالا ثوابت، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] الميد الحركة والاضطراب، ماد يميد ميدا، قال ابن عباس: أوتدها بالجبال لئلا تميد بأهلها. وأنهارا وجعل فيها أنهارا، النيل، والفرات، ودجلة،

وسيحان، وجيحان، وسبلا طرقا إلى كل البلاد، لعلكم تهتدون لكي تهتدوا إلى مقاصدكم من البلاد، فلا تضلون. وعلامات يعني الجبال، وهي علامات للطرق بالنهار كالنجوم بالليل، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] أراد جميع النجوم، لأن بها يهتدون، وإلى الطرق والقبلة والبر والبحر. ثم دل بهذه الأشياء التي خلقها على نفسه، فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {17} وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {18} وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {19} وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ {20} أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {21} } [النحل: 17-21] أفمن يخلق يعني ما ذكر في هذه ال { [،] كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل: 17] يعني الأوثان وهي لا تخلق شيئا، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] يعني المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون؟ قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] تقدم تفسيره، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} [النحل: 18] لما كان منكم من تقصير شكر نعمه، رحيم بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها، وهي موات لا روح لها، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] الأصنام متى تبعث، قال ابن عباس: وذلك أن الله يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها، فيتبرءون من عابديهم، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار. ثم ذكر وحدانيته فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ {22} لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ {23} } [النحل: 22-23] {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 22] وقد مضى بيانه في { [البقرة،] فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [سورة النحل: 22] يعني بالبعث والثواب والعقاب، {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22] جاحدة غير عارفة توحيد الله ولا القرآن، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] ممتنعون من قبول الحق. لا جرم حقا، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النحل: 23] أي أنه يجازيهم بذلك، لأنه يعلمه، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] لا يثيبهم، ولا يرضى عنهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {24} لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {25} قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {26} ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ {27} الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {28} فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {29} } [النحل: 24-29] {

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [النحل: 24] لهؤلاء المنكرين، {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] ما الذي أنزل ربكم على محمد؟ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النحل: 24] أي: الذي يذكرون أنه منزل أساطير الأولين، أي: أكاذيبهم وما سطروه في كتبهم من الأخبار والقصص. ليحملوا أوزارهم هذه لام العاقبة، لأنهم لم يقولوا للقرآن: أساطير الأولين ليحملوا الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك جاز أن يقال: فعلوا ذلك له، كقوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] . وقوله: {كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 25] لأنهم لم يكفر عنهم شيء من ذنوبهم بما يصيبهم في الدنيا من نكبة وبلية كما يكفر عن المؤمنين ومن أوزار الذين يضلونهم لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلال، فحمل عليهم من أوزار من اتبعهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . وقوله: بغير علم يعني أنهم يفعلون ذلك جهلا منهم بما يكتسبون من أوزارهم، ومثل أوزار من اتبعهم، ثم ذم صنيعهم، فقال: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] بئس ما حملوا على ظهورهم. قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 26] يعني نمرود بن كنعان، بنى صرحا طويلا ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه، ومعنى المكر ههنا التدبير الفاسد، قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} [النحل: 26] أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي خربتها وحركتها، وقال المفسرون: أرسل الله ريحا، فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي. وقوله: من القواعد قال الزجاج: من أساطير البناء التي تعمده. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] سقط أعلى البيوت على أصحاب نمرود، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] من حيث ظنوا أنهم في أمان منه. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} [النحل: 27] يذلهم ويهينهم بالعذاب، {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل: 27] قال الزجاج: هذه حكاية لقولهم، والله لا شريك له. والمعنى: أين الذين في دعواكم أنهم شركائي؟ أي: أين هم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب؟ {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] تخالفون المسلمين فيهم فتعبدونهم وهم يعبدون الله، وقرأ نافع بكسر النون أراد تشاقونني، فحذف إحدى النونين كما ذكرنا في قوله: فبم تبشرون، والمعنى: تنازعونني فيهم وتتخذونهم أولياء من دوني، ومعنى مخالفتهم الله في الشركاء: مخالفتهم أمر الله لأجلها، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [النحل: 27] قال ابن عباس: يريد الملائكة. وقال غيره: هم المؤمنون، يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة. {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ} [النحل: 27] أي: الفضيحة والعذاب، على

الكافرين لا علينا. ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] تقدم تفسيره، فألقوا السلم انقادوا وأقروا لله بالربوبية، أخبر الله عنهم بالمشاقة في الدنيا، وأخبر أنهم عند الموت ينقادون ويتبرءون من الشرك، وهو قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] فقال الملائكة ردا عليهم: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] من التكذيب والشرك. ثم يقال لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] مقام المتكبرين عن توحيد الله وعبادته. {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ {30} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ {31} الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {32} } [النحل: 30-32] {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 30] قال المفسرون: كان هذا في أيام الموسم، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر، وكاهن، وكذاب. فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وأمره، وما أنزل الله عليه، فيقولون: خيرا. أي أنزل خيرا، ثم فسر ذلك الخير فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} [النحل: 30] قالوا: لا إله إلا الله. حسنة قال ابن عباس: يريد مضعفة بعشر. {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [النحل: 30] يعني الجنة، {خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ {30} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [النحل: 30-31] هذا كما يقول: نعم الدار دار تنزلها. قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] قال الكلبي: طيبين من الشرك. وقال مجاهد: زاكية أفعالهم وأقوالهم. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {33} فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {34} } [النحل: 33-34] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النحل: 33] نظير هذه الآية في { [البقرة، وآخر سورة الأنعام، وقد تقدم، وقوله] كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل: 33] يريد كفار الأمم الماضية، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [النحل: 33] بتعذيبهم، {وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] بإقامتهم على الشرك. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [النحل: 34] أي جزاؤها، قال ابن عباس: جزاء ما عملوا من الشرك. وحاق أحاط بهم، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [النحل: 34] من العذاب. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ

شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {35} وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {36} إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {37} } [النحل: 35-37] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [النحل: 35] يعني أهل مكة، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] أي: لو شاء الله ما أشركنا، ولكنه شاءه لنا، {وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] من البحيرة، والسائبة، قال الزجاج: إنهم قالوا هذا على جهة الهزء، ولو قالوا هذا معتقدين لكانوا مؤمنين، ولكنهم قالوا مستهزئين. ونظير هذه الآية قد تقدم في { [الأنعام، وقوله:] كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل: 35] أي: من تكذيب الرسل، وتحريم ما أحل الله، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] يعني ليس عليهم إلا التبليغ، فأما الهداية فهي إلى الله، يهدي من يشاء ويضل من يشاء. وقد حقق هذا فيما بعد، وهو قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا} [النحل: 36] يعني كما بعثناك في هؤلاء، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] أي بعبادة الله، واجتنبوا الطاغوت الشيطان وكل من يدعو إلى الضلالة، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل: 36] أرشده، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] قال ابن عباس: يريد في سابق علمي. قال الزجاج: أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء الإضلال والهداية. ومعنى حقت عليهم الضلالة وجب عليهم الكفر، كما قال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] ، ثم قال: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [النحل: 36] أي: معتبرين بآثار الأمم المكذبة، وهو قوله: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي. فقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] أي: إن تطلب بجهدك ذلك، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] أي من يضله، وهذا كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء، والمعنى: فإن الله لا يرشد من أضله. قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {38} لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ {39} إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {40} وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {42} } [النحل: 38-42] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النحل: 38] قال ابن عباس: أغلظوا في الإيمان، تكذيبا منهم بقدرة الله على البعث بعد الموت. وهو قوله: {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] فقال الله ردا عليهم: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38] أي: بلى ليبعثنهم وعدا

للبعث حقا، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 38] يعني المشركين. ليبين لهم بالبعث، {الَّذِي} [النحل: 39] اختلفوا، فيه مع المؤمنين وذهبوا فيه إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] فيما أقسموا من أنه لا بعث. ثم أخبر بقوته وقدرته على البعث فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] الآية، قال الزجاج: أعلمهم الله سهولة خلق الأشياء عليه، فأخبر أنه متى أراد الشيء كان. وهذا كقوله: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر: 68] وقد تقدم تفسيره، وقراءة أكثر القراء فيكون بالرفع على معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر فيكون نصبا، عطفا على أن يقول فيكون. قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ} [النحل: 41] نزلت في قوم أذاهم المشركون وعذبوهم بمكة، منهم صهيب، وبلال، وخباب، ومعنى هاجروا في الله هاجروا في رضا الله وطلب ثوابه. وقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] أي دارا حسنة، أو بلدة حسنة، وهي المدينة في قول مجاهد، والشعبي، والحسن، وقتادة، {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أن أمر الجنة أكبر وأعظم من أن يعلمه أحد ويقدر على صفته أحد. ثم أثنى عليهم ومدحهم بالصبر، فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا} [النحل: 42] أي: على دينهم لم يتركوه بمشقة وجهد أصابهم، وهم في ذلك واثقون بربهم متوكلون عليه، وهو قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42] . قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {43} بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {44} } [النحل: 43-44] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] قال المفسرون: إن مشركي مكة أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؟ فقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 43] أي إلى الأمم الماضية إلا رجالا آدميين لا ملائكة، أعلم الله أن الرسل كانوا بشرا، إلا أنهم يوحى إليهم، وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] يعني أهل الكتاب، قال الزجاج: فاسألوا أهل الكتاب. وذلك أن أهل الكتب يعترفون أن الأنبياء بشر كلهم. وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 44] أي أرسلناهم، يعني الأنبياء بالحجج الواضحة والكتب، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل: 44] يعني القرآن، {لِتُبَيِّنَ

لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] في هذا الكتاب من الحلال والحرام، والوعد والوعيد، لعلهم يتفكرون في ذلك فيعتبرون. قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ {46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {47} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ {48} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {49} يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {50} } [النحل: 45-50] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل: 45] قال ابن عباس: يريد المشركين، أهل مكة وما حول المدينة، ومعنى مكروا السيئات قال ابن عباس: عملوا السيئات يعني عبادة غير الله. وقال قتادة: يعني الشرك. وسمى عبادتهم غير الله مكرا لأن المكر في اللغة السعي بالفساد، {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} [النحل: 45] كما خسف بقارون، ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار، أي: يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين من قبلهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45] قال ابن عباس: يعني يوم بدر. يريد أنهم أهلكوا يوم بدر، وما كانوا يقدرون ذلك ولا يشعرونه. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل: 46] في أسفارهم وتجارتهم، وقال مقاتل: يريد في تقلبهم في كل حال من الأحوال ليلا ونهارا، فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل: 46] بممتنعين ولا فائتين. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] قال عامة المفسرين: على تنقص، إما بقتل أو بموت. يعني تنقص من أطرافهم ونواحيهم، يأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم، والتخوف: التنقص، يقال: هو يتخوف المال، أي: يتنقصه ويأخذ من أطرافه، {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47] إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة والإهلاك، قال الزجاج: أي من رأفته أمهل وجعل فسحة للتوبة. قوله: أولم يروا قراءة العامة بالياء لأن ما قبله غيبة، وهو قوله: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 45] ، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ} [النحل: 46] كذلك أولم يروا وقرأ حمزة بالتاء على أن الخطاب لجميع الناس، قوله: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 48] أراد من

شيء له ظل من جبل، وشجر، وبناء، وجسم قائم، يتفيأ يتفعل من الفيء، يقال: فاء الظل يفيء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه. وتفيؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاب النهار، وقوله: ظلاله جمع ظل، وجمع هو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة، ومثله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] ومعنى تفيؤ الظلال عن اليمين والشمائل، قال الكلبي: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان يسارك، فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل، أي تميله عن جانب إلى جانب. ووحد اليمين والمراد به الجمع إيجازا في اللفظ كقوله: يولون الدبر ودلت الشمائل على أن المراد به الجميع، وقوله: سجدا لله دورانه من جانب إلى جانب هو سجوده لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتسخير، وهذه الآية كقوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وقد مر بيانه، قوله: وهم داخرون أي صاغرون، يقال: دخر يدخر دخورا، فهو داخر، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أو أبى، قال الزجاج: يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النحل: 49] السجود على نوعين: سجود عبادة وطاعة كسجود المسلمين، وسجود هو خضوع وتذلل وهو سجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات، وهذه الأشياء بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى مدبر وصانع ساجدة، أي خاضعة متذللة، وقوله: من دابة قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض. والملائكة أخرجهم بالذكر لخروجهم عن صفة الدبيب بما جعل لهم من الأجنحة، {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] يريد عن عبادة الله، وهذا من صفة الملائكة خاصة لقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وفي هذه الآية قولان: أحدهما أن الآية من باب حذف المضاف على تقدير يخافون من عقاب ربهم من فوقهم، لأن أكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق، والآخر: أن الله تعالى لما كان موصوفا بأنه علي متعال علو الرتبة في القدرة، حسن أن يقال: من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد، قال: ذلك مخافة الإجلال. واختاره الزجاج، فقال: يخافون ربهم خوف مجلين. ويدل على صحة هذا المعنى قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقوله إخبارا عن فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وذهب بعض الناس إلى أن قوله: من فوقهم من صفة الملائكة، والمعنى أن الملائكة الذين هم فوق بني آدم، وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم، فلأن يخاف من دونهم أولى، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] يعني الملائكة، وهذا كقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] . قوله: {

وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {51} وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ {52} وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ {53} ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ {54} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {55} } [النحل: 51-55] {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51] أي لا تعبدوا معه غيره، {إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] ليس له ثان، ثم حذرهم نفسه، فقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] . {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52] الدين الطاعة، والوصوب الدوام، وصب الشيء يصب وصوبا فهو واصب إذا دام، قال الزجاج: أي طاعته واجبة أبدا. وقال ابن قتيبة ليس من أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال، أو هلكة غير الله، فإن الطاعة تدوم له. ثم قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 52] أي: أفغير الله الذي قد أبان لكم أنه واحد خالق كل شيء وأمر أن لا يتخذ معه إله تتقون. {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] أي: ما أعطاكم من صحة جسم، أو سعة في رزق، أو إمتاع بمال وولد فكل ذلك من الله عز وجل. 517 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، نا أَبُو سَلَمَةَ، نا هِشَامُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مَسَّتْ عَبْدًا نِعْمَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ إِلا كُتِبَ لَهُ شُكْرُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ» وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة. فإليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون بالدعاء، يقال: جأر يجأر جؤارا إذا رفع صوته في تضرع. {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} [النحل: 54] الآية، قال ابن عباس: يريد أهل النفاق. وقال الكلبي: يعني الكفار. قال الزجاج: هذا خاص فيمن كفر وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل: 55] ليجحدوا نعمة الله في كشف الضر عنهم، ثم أوعدهم بقوله: {فَتَمَتَّعُوا} [النحل: 55] أي بدنياكم الفانية، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من العذاب. قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ {56} وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ {57} وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {59} } [النحل: 56-59] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 56] يعني الأوثان لا يعلمون لها ضرا ولا نفعا، ومفعول العلم محذوف، وتقديره

ما ذكرنا، وهذا قول مجاهد، وقتادة. وقال أهل المعاني: هذا من صفة الأوثان، والمعنى: ويجعلون للشركاء والأصنام الذين لا يعلمون شيئا ولا معرفة لهم ولا حسنا، {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56] قال المفسرون: هم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم كقوله: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] . ثم خاطبهم بعد الخبر عنهم، فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ} [النحل: 56] سؤال توبيخ، {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56] تتقولونه على الله من أنه أمركم بذلك. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] قال المفسرون: يعني خزاعة، وكنانة زعموا أن الملائكة بنات الله. سبحانه تنزيها له عما زعموا، {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] يعني البنين، فهذا كقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] . ثم ذكر كراهيتهم البنات، فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} [النحل: 58] أخبر بولادة بنت، والتبشير ههنا بمعنى الإخبار كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] تغير وجهه تغير مغتم، قال قتادة: هذا صنيع مشركي العرب، أخبر الله بخبث صنيعهم، فأما المؤمن، فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله للمرء خير مما قضى المرء لنفسه، وما قضى لك يا ابن آدم فيما تكره خير مما قضى لك فيما تحب فاتق الله، وارض بقضائه، فإنه رب جارية خير لأهلها من غلام، ورب غلام لا يأتي أهله بخير، وقوله: وهو كظيم أي: ممتلئ غما. يتوارى يختفي ويتغيب، {مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 59] كان الرجل في الجاهلية إذا ضرب امرأته المخاض توارى إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا سر به وابتهج، وإن كانت أنثى اكتأب لها وحزن، ولم يظهر للناس أياما، يدبر كيف يصنع في أمرها، وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] أي يحبسه، والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] والكناية تعود إلى ما في قوله: {مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 59] والهون الهوان يقال: إنه ليهون عليّ هونا وهوانا. قال المفسرون: كان أحدهم في الجاهلية إذا ولدت له بنت ضاق بها ذرعا فلم يدر ما يصنع بها، أيدسها تحت التراب، أو يتهاون بها فيلقيها. والدس: إخفاء الشيء في الشيء، يعني ما كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية، قوله: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59] قال ابن عباس: بئس ما حكموا إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهن منهم هذا المحل، ونسبوه إلى اتخاذ الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين. وهذا كقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} } [النجم: 21-22] . قوله: {

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {61} وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ {62} تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {63} وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {64} } [النحل: 60-64] {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] أي: صفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهيتهم الإناث خوف العيلة والعار، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] الصفة العليا من تنزهه عن الولد. قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} [النحل: 61] قال ابن عباس: يريد المشركين. بظلمهم بافترائهم على الله، {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} [النحل: 61] على الأرض، من دابة يعني دواب الأرض، قال السدي: يقول لأقحط المطر، فلم يبق في الأرض دابة إلا هلكت. وروي عن ابن مسعود، أنه قرأ هذه الآية، فقال: كاد أن يهلك الجعل في جحره بذنب ابن آدم. والمعنى أن شؤم ذنوب المشركين كاد أن يصيب دواب الأرض حتى تهلك بسبب ذلك لولا حلم الله وتأخيره العقوبة، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل: 61] يعني منتهى آجالهم، وانقضاء أعمارهم، وباقي الآية تقدم تفسيره. ويجعلون يعني المشركين، {لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] يعني البنات، والمعنى: يحكمون لله بما يكرهون هم لأنفسهم، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62] أي: تقول الكذب، ثم فسر ذلك الكذب، فقال: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62] يعني الجنة، قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبيح قولهم من الله الجزاء الحسن، فرد الله عليهم قولهم، وأثبت لهم النار، فقال: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62] ، لا ردٌ لقولهم، أي: ليس الأمر على ما وصفوا جرم فعلهم وقولهم، أي: كسب لهم النار، والمفسرون يقولون: حقا إن لهم النار، {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62] قال مجاهد، والكلبي، والضحاك: متركون منسيون في النار. وقال الكسائي: يقال: ما أفرطت

من القوم أحدا، أي ما تركت. وقال الفراء: تقول العرب: أفرطت من القوم ناسا، أي خلقتهم ونسيتهم. وقال قتادة: معجلون إلى النار، يقال: أفرط القوم الفارط إذا قدموا إلى الماء ليصلح لهم شأنهم. وهذا اختيار الزجاج، قال: معنى مفرطون مقدمون إلى النار. وقرأ نافع بكسر الراء على معنى أنهم أفرطوا في الذنوب فكانوا مفرطين على أنفسهم في معصية الله، وقال ابن عباس: أفرطوا في الافتراء على الله. قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63] قال ابن عباس يعزي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا. يقول: لقد أرسلنا إلى أمم، يعني رسلا وأنبياء من قبلك، فزين لهم الشيطان حتى عصوا وكذبوهم، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل: 63] يعني يوم القيامة، يقول: فهو ولي أولئك الذين زين لهم سوء أعمالهم يوم القيامة، ومن كان الشيطان وليه ذلك اليوم دخل النار. {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النحل: 64] يعني القرآن وما فيه من أخبار الأمم الماضية، {إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64] إلا لتبين لهؤلاء الكفار ما اختلف فيه الأمم من الدين والأحكام، فذهبوا فيه إلى خلاف ما ذهب إليه المسلمون، فتقوم الحجة عليهم بدعائك وبيانك، وهدى ورحمة وللهدى والرحمة، لقوم يؤمنون. وما بعده ظاهر إلى قوله: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ {66} وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {67} وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {69} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {70} } [النحل: 65-70] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} [النحل: 66] يعني الإبل والبقرة والغنم، لعبرة لدلالة على قدرة الله، ثم ذكرها، فقال: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] من فتح النون فحجته ظاهرة لأنه يقال: سقيته ماء ولبنا، وما كان للشفة فهو بفتح

النون. ومن ضم النون، فهو من قولهم: أسقاه إذا جعل له شربا، كقوله: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] وذكر الكناية في بطونه لأن النعم والأنعام شيء واحد، فرجع التذكير إلى النعم إذ كان يؤدي عن معنى الأنعام، وهذا قول الفراء، وأنشد: وطاب ألبان اللقاح وبرد فرجع إلى اللبن، لأن اللبن والألبان بمعنى واحد، وقال الكسائي: أراد مما في بطون ما ذكرنا. قال الفراء: وهو الصواب. وقال المبرد: هذا فاش في القرآن مثل قوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] . يعني هذا الشيء الطالع، وكذلك {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] ولم يقل: جاءت، لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا، وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66] الفرث سرجين الكرش، قال ابن عباس في رواية الكلبي: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا، وأعلاه دما، وأوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق، والبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو. فذلك قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] لا يشوبه الدم ولا الفرث، سائغا للشاربين جائزا في حلوقهم، يقال: ساغ الشراب في الحق وأساغه صاحبه. ومنه قوله: {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17] قال أصحابنا: وهذه الآية تدل على أن مني الآدمي طاهر وإن كان في باطنه مجاورا للنجاسات، كاللبن الطاهر يخرج من بين نجسين. قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ} [النحل: 67] الآية، قال صاحب النظم: تقدير الآية ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا. والعرب تضمر ما، كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، والأعناب عطف على الثمرات، أي: ومن الأعناب، {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] وكل ما يسكر، والرزق الحسن ما أحل منهما كالزبيب، والخل، والتمر. 518 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أنا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُعَاذٍ، أنا أَبُو حُذَيْفَةَ

مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، أنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ؛ قَالَ: السَّكَرُ: مَا حُرِّم مِنْ ثَمَرِهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ ثَمَرِهَا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ الْفَقِيهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ نَجْدَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهَذِهِ الآيَةُ نَازِلَةٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَّا السَّكَرُ؛ فَهِيَ الْخَمْرُ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ، وَأَمَّا الرِّزْقُ الْحَسَنُ؛ فَالتَّمْرُ، وَالْعِنَبِ، وَالزَّبِيبُ، وَشَبَهُهُ 519 - حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ حَاتِمٍ، نا مَسْعُودُ بْنُ مُشْكَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي الْعِنَبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ حَلالٌ: تَأْكُلُونَهُ عِنَبًا، وَعَصِيرًا مَا لَمْ يُنَشَّ، وَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ زَبِيبًا، وَرُبًّا، وَخَلا " قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] قال: المفسرون قذف في أنفسها وألهمها، {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} [النحل: 68] قال ابن عباس: هي تتخذ من الجبال لأنفسها بيوتا إذا كانت لا أصحاب لها. وقوله: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] قرئ بضم الراء وكسرها، وهما لغتان مثل يعكفون ويعكفون، ومعناه: يبنون ويسقفون، يعني ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعمل فيها النحل، ولولا التسخير وإلهام الله ما كانت تأوي إلى ما يبنى لها من بيوتها. {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] مما تثمره الأشجار {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} [النحل: 69] قال ابن عباس: طرق ربك تطلب فيها الرعي. {ذُلُلا} [النحل: 69] جمع ذلول وهو المنقاد اللين المسخر، ويجوز أن يكون من نعت النحل، يعني مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطنها، وهذا قول قتادة، واختيار ابن قتيبة. ويجوز أن يكون من نعت السبل، وهو قول مجاهد، قال: لا يتوعر عليها مكان سلكته، وهي ترعى الأماكن البعيدة ذوات

الغياض. واختاره الزجاج، لأنه قال: قد ذللها الله لك وسهل عليك مسالكها. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل: 69] قال ابن عباس: منه أحمر، وأبيض، وأصفر. وقال الزجاج: هي تأكل الحامض والمر، فيحيل الله ذلك عسلا، يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم. وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] قال السدي: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه. وقال قتادة: فيه شفاء للناس من الأدواء. 520 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَخِي قَدِ اسْتُطْلِقَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ عَسَلا، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا، ثُمَّ قَالَ: اسْقِهِ عَسَلا، قَالَ: فَشُفِيَ إِمَّا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِمَّا فِي الرَّابِعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: صَدَقَ اللَّهُ؛ أَيْ: فِي قَوْلِهِ {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} 521 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ الدَّقَّاقِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْوَرَّاقُ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ 522 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا الْحَكَمُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُتِيَ بِرَجُلٍ سَقِيمٍ، فَقَالُوا: إِنَّا عَالَجْنَاهُ فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لِيَأْخُذَنَّ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَيَشْتَرِي بِهَا عَسَلا فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَلْيَشْرَبْ بِهِ، قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} 523 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْكُمْ بِشِفَاءَيْنِ: الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ وقوله: {

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69] أي: في عظمة الله وقدرته. قوله: والله خلقكم الآية، قال المفسرون: خلقكم ولم تكونوا شيئا. ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] وهو أرداه وأوضعه، يقال: رذل يرذل رذالة. قال السدي: أرذل العمر الخوف. وقال قتادة. تسعون سنة. وروي عن علي رضي الله عنه، قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. قوله: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70] قال ابن عباس: كي يصير كالصبي الذي لا عقل له. قال عطاء، عن ابن عباس: ليس هذا في المسلمين، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله، وعقلا، ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئا. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} [النحل: 70] بما صنع بأوليائه وأعدائه، قدير على ما يريد. {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {71} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ {72} وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ {73} فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {74} } [النحل: 71-74] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] يعني كثر وقلل، وبسط وقبض، ووسع وضيق، {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} [النحل: 71] في الرزق، وأعطوا الفضل، {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71] يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما زرق شيئا حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء. وهذا مثل ضربه الله للمشركين في تصييرهم عبادا له شركاء له، فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ قال السدي: يقول: فكما لا يرد أحدكم على مملوكه مما رزقه حتى يكون مثله، فكذلك لا يكون الله والصنم الذي هو من خلقه وملكه سواء. {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71] حيث أشركوا به غيره، ومن قرأ بالتاء كان التقدير قل لهم يا محمد أفبنعمة الله تجحدون بالإشراك به؟ فقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] قال المفسرون: يعني النساء،

خلق حواء من ضلع آدم. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] الحفدة جمع حافد، يقال: حفد يحفد حفدا وحفودا إذا أسرع، ومنه الدعاء: وإليك نسعى ونحفد. وكل من خف في الخدمة، وأسرع في العمل بالطاعة، فهو حافد، قال ابن عباس في رواية الوالبي: هم أختان الرجل على بناته. وقال السدي، وعكرمة: هم ولد الرجل الذين يعينونه. وقال مجاهد: ولد الولد. وقال عطية العوفي: هم بنو امرأة الرجل ليسوا منه. قوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] قال ابن عباس: يريد من أنواع الثمار والحبوب والحيوان. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 72] قال: يعني الأصنام. وقال مقاتل: يعني الشيطان. وقال عطاء: يصدقون أن لي شريكا وصاحبة وولدا. {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] قال ابن عباس: يعني التوحيد، وما أنعم عليهم من القرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ} [النحل: 73] يعني الأصنام لا تملك أن ترزقهم من السموات المطر، ولا من الأرض النبات والثمار التي تخرج منها، وقوله: شيئا قال الأخفش: جعل شيئا بدلا من الرزق. وهو في معنى: لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا، ولا يستطيعون لا يقدرون على شيء، وليست لهم استطاعة. {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74] أي ولا تشبهوه بخلقه لأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [النحل: 74] قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] قدر عظمتي، حيث أشركتم بي، وعجزتموني أن أبعث خلقي. قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {75} وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {76} } [النحل: 75-76] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [النحل: 75] بين الله شبها فيه بيان المقصود، ثم ذكر ذلك المثل، فقال: عبدا مملوكا إلى قوله: سرا وجهرا قال

السدي: هذا مثل ضربه الله للآلهة، يقول: كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء، ورجل حر فقد رزق رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا لا يخاف من أحد، فكذلك أنا، وهذه الآلهة التي تدعون ليست تملك شيئا، وأنا الذي أملك وأرزق من شئت. وقوله: هل يستوون جمع الفعل لأن المراد بقوله: عبد مملوكا وبقوله: ومن رزقناه الشيوع في الجنس لا التخصيص، وقوله: الحمد لله أنه المستحق للحمد، لأنه المنعم ولا نعمة للأصنام عندهم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] يعني أن المشركين لا يعلمون أن الحمد لي لأن جميع النعمة مني، وذكر الأكثر وهو يريد الجميع. ثم ذكر مثلا آخر، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} [النحل: 76] لا يقدر على شيء، وهو العييُّ الأقطع اللسان، {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 76] من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل: 76] ثقل ووبال على صاحبه وقريبه وابن عمه، والكَلُّ الذي هو عيال وثقل على صاحبه، أينما يوجهه أينما يرسله، والتوجيه: الإرسال في وجه الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. وقوله: {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل: 76] لأنه عاجز لا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} [النحل: 76] أي: هذا الأبكم الذي هو بهذا الوصف، {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 76] وهو قادر تام التمييز متكلم، ناطق بالحق، آمر بالعدل، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] دين مستقيم، وهذا مثل للمؤمن والكافر. 524 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا عَفَّانُ، نا وُهَيْبٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ؛ فَالأَبْكَمُ مِنْهُمَا الْكَلُّ عَلَى مَوْلاهُ: هُوَ السَّيِّدُ ابْنُ أَبِي الْعَيْصِ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {77} وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {78} أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {79} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ {80} } [النحل: 77-80] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النحل: 77] تقدم تفسيره، قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} [النحل: 77] يعني القيامة، {إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77] اللمح النظر بسرعة، يقال: لمحه ببصر، قال السدي: يقول: هو كلمح العين من السرعة. {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] من ذلك إذا أردنا، وقال الزجاج: أعلم الله أن البعث والإحياء في قدرته ومشيئته كلمح البصر أو هو أقرب، ليس يريد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء. يدل على هذا قوله: {

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77] . قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] أي: أخرجكم جاهلين غير عالمين، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] خلق لكم الحواس التي بها تعلمون وتقفون على ما تجهلون، لعلكم تشكرون لكي تشكروا خالق هذه الحواس، فتعرفوا نعمته وقدرته. ثم ذكر الدليل عليها، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} [النحل: 79] مذللات، {فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] وهو الهواء، ما يمسكهن حتى لا يسقطن على الأرض، إلا الله وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] ، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80] موضعا تسكنون فيه، قال ابن عباس، ومجاهد: يعني المساكن من الحجر والمدر. يستر عوراتكم وحرمكم، وذلك أن الله خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن تسقيف البيوت وبناؤها، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ} [النحل: 80] يعني الأنطاع والأدم، بيوتا يعني القباب والخيام، {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [النحل: 80] يخف عليكم حملها في أسفاركم، وفيه قراءتان: تسكين العين، وتحريكها، وهما لغتان كالشعر والشعر، والنهر والنهر، ومعنى الظعن سير أهل البوادي لنجعة، أو حضور ماء، أو طلب مرتع، ويوم إقامتكم قال مقاتل: لا تثقل عليكم في الحالتين، ومن أصوافها وهي للضأن، وأوبارها وهي للإبل، وأشعارها وهي للمعز، أثاثا الأثاث أنواع المتاع من متاع البيت من الفرش، والأكسية، قال ابن عباس: يريد طنافس، وبسطا، وثيابا، وكسوة، ومتاعا يتمتعون به، إلى حين البلى. قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا} [النحل: 81] قال ابن عباس: يريد ظلال الغمام. كما قال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] وقال الكلبي: يعني ظلال البيوت تقيكم من الشمس. وقال قتادة: ظلالا هي الشجر. واختاره الزجاج، فقال: جعل لكم من الشجر ما يستظل به. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81] يعني الغيران والأسراب، واحدها كن، وهو كل شيء وقى شيئا وستره، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} [النحل: 81] وهي القمص، واحدها سربال. قال ابن عباس، وقتادة: هي القمص من الكتان، والقطن، والصوف. وقوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يقل البرد،

لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للعلم به، وقوله: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] يعني دروع الحديد تقيكم شدة الطعن والضرب والرمي، كَذَلِكَ مثل ما جعل لكم هذه الأشياء وأنعم بها عليكم، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [النحل: 81] يريد نعمة الدنيا، لأن الخطاب لأهل مكة، يدل على هذا قوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تعلمون أنه لا يقدر على هذا غيره فتوحدوه وتصدقوا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ {82} يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ {83} وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {84} وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {85} وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ {86} وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {87} الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ {88} } [النحل: 82-88] فإن تولوا أعرضوا عن الإيمان، فإنما عليك يا محمد، البلاغ المبين عليك أن تبلغ الرسالة وتبين الدلالة، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] قال السدي: يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختاره الزجاج، فقال: يعرفون أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق ثم ينكرون ذلك. وقال الكلبي: قروا بأن ما ذكر من النعم في هذه ال { [كلها من الله، ولكنهم قالوا بشفاعة آلهتنا. واختاره الفراء، فقال: وإذا قيل لهم: من رزقكم. قالوا: الله. ثم يقولون بشفاعة آلهتنا فيشركون، فذلك إنكارهم نعمته، وأكثرهم الكافرون قال الحسن: وجميعهم كفار. فذكر الأكثر والمراد به الجميع. قوله:] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [سورة النحل: 84] يعني يوم القيامة نبعث الأنبياء ليشهدوا على الأمم بما فعلوا من التصديق والتكذيب، {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل: 84] في الكلام والاعتذار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84] ولا يطلب منهم أن يرجعوا

إلى ما أمر الله ويرضاه، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [النحل: 85] أشركوا بالله، الْعَذَابِ يعني النار، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل: 85] العذاب، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [النحل: 85] لا يؤخرون ولا يمهلون. {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} [النحل: 86] يعني الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله تعالى يبعث كل ما كان يعبد من دون الله، {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} [النحل: 86] أي أجابوهم، وقالوا لهم: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86] كذبوهم في عبادتهم إياهم، لأن الشركاء كانت جمادا أمواتا ما كانت تعرف عبادة عابديها، فظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا من لم يشعر بالعبادة، وهذا كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] ، {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87] استسلموا وأقروا لله بالربوبية، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل: 87] زال وبطل، وذهب ما زين لهم الشيطان أن لله شريكا وولدا. قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 88] قال ابن عباس: منعوا الناس من طاعة الله والإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] . 525 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أنا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} ، قَالَ: زِيدُوا عَقَارِبَ، أَنْيَابُهَا كَالنَّخِيلِ الطِّوَالِ 526 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: زِيدُوا حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ الْفِيَلَةِ وَعَقَارِبِ الْبِغَالِ الدُّلْمِ، وَقَالَ أَبُو الْمِنْهَالِ: إِنَّهُمْ يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّارِ فِرَارًا مِنْ تِلْكَ الأَفَاعِي وَالْعَقَارِبِ وَهَرَبًا مِنْهُمَا. قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 89] يريد الأنبياء، وكل نبي شاهد على أمته، والأنبياء شهداء على أممهم بما فعلوا وهم من أنفسهم، لأن كل نبي يبعث من قومه، وجئنا بك يا محمد، {شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل: 89] قال ابن

عباس: يريد على قومك. وتم الكلام، ثم قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قال مجاهد: يعني ما أمر به وما نهى عنه. وقال أهل المعاني: يعني لكل شيء من أمور الدين، إما بالنص عليه، أو الإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع المسلمين. فالكتاب هو الأصل والمفتاح لعلوم الدين، قال الزجاج: تبيان اسم في معنى البيان. قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90} وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91} وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {92} وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {93} } [النحل: 90-93] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] يعني بالعدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال، فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن، قال ابن عباس في رواية الوالبي: العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] وصلة الأرحام، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} [النحل: 90] الزنا، والمنكر الشرك، والبغي الكبر والظلم، يعظكم ينهاكم عن هذا كله، ويأمركم أن تتحاضوا على ما فيه لله رضا لكي تتعظوا، قال قتادة في هذه الآية: إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويعظمونه ويحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وقدم فيه. 527 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جَاءَ شُتَيْرٌ، وَمَسْرُوقٌ، فَقَالَ شُتَيْرٌ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَ مَا سَمِعْتَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَأُصَدِّقَكَ، وَإِمَّا أَنْ أَتَحَدَّثَ فَتُصَدِّقَنِي، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: لا بَلْ حَدِّثْ فَأُصَدِّقَكَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ آيَةٌ فِي النَّحْلِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ، قَالَ مَسْرُوقٌ: صَدَقْتَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مَنْصُورٍ قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد يجب الوفاء به. قال ابن عباس في هذه الآية: والوعد من العهد. {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] بعد تغليظها، وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] قال ابن عباس: لا يخفى عليه شيء. {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92] هي امرأة من قريش يقال لها: ريطة. كانت حمقاء، تغزل الغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] أي: من بعد إبرام وفتل للغزل، أنكاثا جمع نكث، وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج، فإذا أخلقت النسيجة قطعت ونكثت خيوطها، ثم غزلت ثانية. ومعنى الآية لا تكونوا في نقض الأيمان بعد توكيدها كهذه المرأة غزلت غزلا وقوت مرته، ثم نقضته فجعلته أنكاثا، وقوله: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92] الدخل والدغل: الغش والخيانة، قال الزجاج: غشا ودغلا. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر، يقال: ربا الشيء يربو إذا كثر. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز منهم، فنهوا عن ذلك. وتلخيص التأويل: النهي عن أن يخلف على ما هو منطو على خلافه، وأن يغر غيره بيمينه، وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ} [النحل: 92] أي بالأمر بالوفاء {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92] في الدنيا من شأن البعث والقرآن، وكل ما وقع الاختلاف فيه، قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [النحل: 93] قال ابن عباس: على ملة واحدة ودين واحد، {وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وهذا صريح في تكذيب القدرية حيث أضاف الضلالة والهداية إلى نفسه وجعلهما لمن شاء من خلقه بالمشيئة الأزلية، ثم أخبر أنهم يسألون عن أعمالهم، فقال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] فبان أن الأمر على ما أخبر الله به من قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . ثم استأنف نهيا عن إيمان الخديعة والمكر، توكيدا للمنع عنها، وأوعد عليها، فقال: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل: 94] قال ابن عباس: تزل عن الإيمان بعد المعرفة

بالله. قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نقض عهده على الإسلام ونصرة الدين، يدل على هذا قوله: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} [النحل: 94] أي العذاب، بما صددتم بصدكم، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94] يريد أنهم إذا نقضوا العهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام فاستحقوا العذاب، فنهوا عن ذلك بذكر الوعيد عليه، قوله: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] قال ابن عباس: يريد في الآخرة. ثم زاد توكيدا، فقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {95} مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {96} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {97} } [النحل: 95-97] {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [النحل: 95] يقول: لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضا من الدنيا. {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} [النحل: 95] من الثواب على الوفاء، {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95] ذلك قوله. {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} [النحل: 96] أي: يفنى وينقطع، يعني الدنيا، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} [النحل: 96] من الثواب والكرامة، باق دائم لا ينقطع، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [النحل: 96] على عهودهم، وعلى طاعة ربهم، {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] يعني الطاعات، ومن جزاه الله بأحسن عمله، غفر له ذنوبه. قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هي القناعة. قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه» . 528 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: الْقَنَاعَةُ، وَرِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَوَهْبٍ، وَالْقَرَظِيِّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعَطَاءٍ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلالُ، وَأَكْلُ الْحَلالِ.

أخبرنا الفضيل بن أحمد الصوفي، أنا زاهر بن أحمد، أنا زيد بن الهيثم القاضي، نا أحمد بن عثمان الأودي، نا عون بن سلام، نا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: يلبس حلالا، ويأكل حلالا. وروي عن أبي نجيح، عن مجاهد: {حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: الجنة. وهو قول الحسن، قال: لا يطيب لأحد الحياة إلا في الجنة. أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أنا أبو عمرو محمد بن أحمد الحيري، نا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدة الوبري، نا يوسف بن سعيد بن مسلم، نا علي بن بكار، عن أبي العوام، عن قتادة في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: رزق يوم بيوم. قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ {100} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {102} } [النحل: 98-102] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] قال الزجاج، وجميع أصحاب المعاني: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، ليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله إذا أكلت فقل بسم الله. وهذا إجماع من الفقهاء

أن الاستعاذة قبل القراءة، إلا ما روي عن أبي هريرة، وداود، ومالك، أنهم قالوا: الاستعاذة بعد القراءة. ذهبوا إلى ظاهر الآية، والأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لنص القرآن، وللخبر المتصل المسلسل، وهو أني قرأت على الأستاذ أبي إسحاق الثعالبي رحمه الله، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، هكذا. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد، بالبصرة، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي محمد عبد الله بن عجلان الزنجاني، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على محمد بن عبد الله بن بسطام، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على روح بن عبد المؤمن، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإني قرأت على يعقوب الحضرمي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على سلام بن أبي المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود، فقلت: أعوذ

بالسميع العليم. فقال لي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أعوذ بالسميع العليم. فقال لي: " يا ابن أم عبد، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل، عن القلم، عن اللوح المحفوظ ". قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 99] يعني به سلطان الإغواء، وهو معنى قول المفسرين: ليس له حجة. أي: لا حجة له على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] قال ابن عباس: يطيعونه. يقال: توليته، أي أطعته وواليته. ومنه قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 56] . قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] قال مجاهد: يعدلونه برب العالمين. قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] قال الكلبي، وغيره: كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها، قال كفار قريش: إن محمدا يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وغدا بأمور، وإنه ليتكذبه ويأتيهم به من عند نفسه، فأنزل الله {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] . قال مجاهد: نسخناها وأنزلنا غيرها. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] من ناسخ ومنسوخ، وتغليظ وتخفيف، هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، فما بالهم ينسبون محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] حقيقة القرآن وفائدة النسخ. قل نزله يعني نزل بالقرآن، روح القدس جبريل، من ربك من كلام ربك، بالحق بالأمر الحق الصحيح الثابت، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 102] بما فيه من الحجج والآيات، فيزدادوا تصديقا ويقينا، وقوله: وهدى أي: وهو هدى، فهو خبر ابتداء محذوف. قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ {103} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ {105} } [النحل: 103-105] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] قال مجاهد، وقتادة: قالت قريش: إنما يعلم محمدا عبد لبني الحضرمي، رومي، يقال له يعيش، صاحب كتاب. وقال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار،

والآخر جبر، وكانا صيقلين، يقرآن كتابا لهما بلسانهما، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر عليهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما. فأكذبهم الله، فقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] . الإلحاد معناه الميل، يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد. وقراءة العامة بضم الياء، وقرئ بفتح الياء من لحد، والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن، يدل عليه قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] ويكون الإلحاد بمعنى الإمالة، وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين، فقال الفراء: يميلون من الميل. وقال الزجاج: لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي. وقال ابن قتيبة: أي يؤمنون إليه، ويزعمون أن يعلمك أعجمي لا يفصح ولا يتكلم بالعربية، فكيف يتعلم منه ما هو في أعلى طبقات البيان. وهو قوله: هَذَا يعني القرآن، {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] قال ابن عباس: أفصح ما يكون من العربية، وأبينه لسان سعد بن بكر بن هوازن. ثم جعل المشركين هم الذين يفترون، فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] قال الزجاج: إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها، فهؤلاء أكذب الكذبة. ثم سماهم الكاذبين، وحصر فيهم الكذب، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] أي أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب، فيكون قولك: وأنت، زيادة في الوصف بالكذب. وفي الآية أبلغ زجر عن الكذب، حيث أخبر الله أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن. 529 - أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوزي، أنا جدي محمد بن عمر بن حفص الزاهد، أنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، نا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، نا أبو زياد يزيد بن عبد الله، نا يعلى بن الأشدق، عن عبد الله بن جراد، قال: قلت: يا رسول الله، المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: يا رسول الله، المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك. قال: قلت: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: لا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] .

530 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّزَّازُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا جَدِّي، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {107} أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {108} لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ {109} } [النحل: 106-109] {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون، فلم يتركوه حتى سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ما وراءك» . قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ". قال ابن عباس في رواية الوالبي: أخبر الله سبحانه أنه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، ولهم عذاب عظيم، فأما من أكره، فتكلم بلسانه، وخالف قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] أي: فتحه ووسعه لقبول الكفر، قال الكلبي: والمراد بقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] من ارتد عن الدين وطابت نفسه

بالكفر. يدل على هذا قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107] أي: ذلك الشرح، وذلك الكفر بأنهم أحبوا الدنيا، واختاروها على الآخرة، وبأن الله لا يريد هدايتهم. ثم وصفهم بأنهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} [النحل: 108] الآية، وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108] قال ابن عباس: غافلون عما يراد بهم. ثم حكم لهم بالخسارة وأكد ذلك، فقال: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [النحل: 109] قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {110} يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {111} } [النحل: 110-111] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110] نزلت في المستعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة، عذبوا في الله، وأريدوا على الكفر، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، وهاجروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعدما فتنوا، وقال ابن عباس: من بعد ما عذبوا. ثم جاهدوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبروا على الدين والجهاد، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النحل: 110] من بعد تلك الفتنة، وتلك الفعلة التي فعلوها من التلفظ بكلمة الكفر، لغفور رحيم وقرأ ابن عامر فتنوا بفتح الفاء، والمعنى: من بعدما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية، وجعل ذلك فتنة، لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد. قوله: يوم تأتي أي: ذكرهم يا محمد يوم تأتي، {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] هذا يوم القيامة كل أحد لا يهمه إلا نفسه، فهو مخاصم ومحتج عن نفسه، لا يتفرغ إلى غيره. 531 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، نا عَيَّادُ بْنُ كُلَيْبٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: يَا كَعْبُ، خَوِّفْنَا، حَدِّثْنَا حَدِيثًا تُنَبِّهُنَا بِهِ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لأَتَتْ عَلَيْكَ تَارَاتٍ، وَأَنْتَ لا يُهِمُّكَ إِلا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلا وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَيُدْلِي بِالْخُلَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ، لا أَسْأَلُكَ إِلا نَفْسِي. وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، أَمَا سَمِعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] . وَقَوْلِهِ: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] لا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. قوله: {

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {112} وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {113} } [النحل: 112-113] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً} [النحل: 112] الآية، نزلت في أهل مكة، وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله: قرية يعني مكة، {كَانَتْ آمِنَةً} [النحل: 112] ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، مطمئنة قارة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق، وهو قوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112] يأتيهم رزقهم في بلدهم، يجلب إليها من كل بلد، كما قال الله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] حيث كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخالفوا أمره، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] قال المفسرون: عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة. قال ابن قتيبة: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] ما ظهر عليهم من سوء آثارهم بالضمر والشحوب، وتغير الحال. ومعنى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] عرفها سوء أثرهما، وقد يستعمل الذوق في المعرفة، يقال: ذقت ما عند فلان إذا جربته وعرفته. ويقال: اركب هذا الفرس تذقه أي: تعرف ما عنده من الجري، ومنه قول الشماخ يصف قوسا: فذاق فأعطته من اللين جانبا ... كفاف لها أن يعزق السهم حاجزا والمراد بالخوف خوفهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن السرايا التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم. وروي عن أبي عمرو بنصب الخوف حملا على الإذاقة، والكلام في الآية خرج على القرية، والمراد أهلها، يدل على هذا قوله: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] فعاد الكلام إلى أهل القرية، قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كذبوه، وأخرجوه من مكة، وما هموا به من قتله. ولقد جاءهم يعني أهل مكة، رسول منهم من نسبهم، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 113] يعني الجوع في قول ابن عباس، وقال مجاهد: يعني القتل ببدر. ثم خاطب المؤمنين، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {114} إِنَّمَا

حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {115} وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {116} مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {117} } [النحل: 114-117] فكلوا يا معشر المؤمنين، {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [النحل: 114] من الغنائم، حلالا طيبا وهذه الآية والتي بعدها مفسرة في { [البقرة. قوله:] وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [سورة النحل: 116] أي: لأجل وصفكم الكذب، والمعنى أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره، فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى إلا الكذب فقط، والمعنى: لا تفعلوا ذلك، والإشارة بقوله: {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] إلى ما كانوا يحلونه ويحرمونه، قال ابن عباس: يعني قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] . وقوله: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] هو أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله، ويقولون إنه أمرنا بذلك، ثم أوعد المفتري، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . وبين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قرب، فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [النحل: 117] قال الزجاج: متاعهم متاع قليل. يعني ما يتمتعون به، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] في الآخرة. قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {118} ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {119} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {120} شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {121} وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {122} ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {123} إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {124} } [النحل: 118-124] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] تقدم ذكره في { [الأنعام في قوله:] وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام: 146] الآية، وما ظلمناهم بتحريم ما حرمنا عليهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] بالبغي والمعاصي. ثم ذكر المغفرة لمن تاب بعد المعصية، فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النحل: 119] قال مجاهد: كل من عمل بمعصية الله فذلك منه جهل حتى يرجع. وقال السدي: كل من عصى الله فهو جاهل. وهذا كقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قال ابن عباس: يريد بالسوء الشرك. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النحل: 119] السوء، وأصلحوا قال: آمنوا، وصدقوا، وقاموا لله تعالى بفرائضه. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ

بَعْدِهَا} [النحل: 119] من بعد تلك الجهالة، لغفور رحيم. قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] قال أكثر أهل التفسير: معلما للخير. قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم أمة، والأمة الرجل الجامع للخير. قانتا مطيعا لله، حنيفا قال ابن عباس: إنه أول من اختتن وأقام المناسك وضحى، فهذه صفة الحنيفية. 532 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، نا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، نا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغُدَانِيُّ، نا الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} ، قَالَ: فَأَعَادَهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الأَمْرَ تَعَمُّدًا فَسَكَتُّ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا الأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] : أخلص لله التوحيد صبيا وكبيرا. {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} [النحل: 121] انتصب على البدل من قوله: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] والأنعم جمع نعمة، اجتباه اختاره للنبوة، {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] وهو دين الحنيفية. {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 122] قال الوالبي، عن ابن عباس: يعني الذكر الحسن. وقال الحسن: هي النبوة. وقال مجاهد: لسان صدق في الآخرين. وقال مقاتل: يعني عليه مقرونة بالصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قتادة: هي أنه ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه. {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] ترغيب في الصلاح ليكون صاحبه في جنبة إبراهيم، وهذا أكمل مدح لإبراهيم حيث شرف جملة هو منها. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: 123] يا محمد، {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ

حَنِيفًا} [النحل: 123] هذا يدل على أن دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين إبراهيم، حيث أمر باتباعه لسبقه إلى القول بالحق والعمل به، وقال عبد الله بن عمر: وأمر باتباعه فِي مناسك الحج كما علم جبريل إبراهيم. وقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] قال عطاء، عن ابن عباس: تهاونوا وصادوا فِيهِ وتعدوا. وقال قتادة: استحله بعضهم، وحرمه بعضهم. واختلافهم استحلالهم الصيد زمن داود يعني أهل أيلة، فجعل السبت عليهم، حيث عوقبوا بترك تحريمه، وهم الذين خالفوا أهل الحق فِي استحلال السبت، ثم ذكر بباقي الآية أنه يحكم بينهم يوم القيامة. قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125} وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ {128} } [النحل: 125-128] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] قال ابن عباس: دين ربك. بالحكمة يعني النبوة، والموعظة الحسنة يعني مواعظ القرآن، وجادلهم أقبل على المشركين، واصرفهم عما هم عليه من الشرك، {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] أي: ألن لهم جانبك، ولا تكن فظا عليهم، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [النحل: 125] إلى آخرها، أي: الله أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فِيهمَا بما فِيهِ الصلاح. قوله: وإن عاقبتم الآية، 533 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، نا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى حَمْزَةَ فَرَآهُ صَرِيعًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ بِكَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ» ، فَنَزَلَتْ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الآيَةَ وهذا قول عامة المفسرين، قالوا: نزلت لما نظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حمزة يوم أحد، وقد مثل به، فقال: والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزل جبريل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقف بعد، بخواتيم { [النحل، فصبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمسك عما أراد، وكفر عن يمينه. ثم أمره بالصبر عزما، فقال:] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} [سورة النحل: 127] أي بتوفيقه ومعونته، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127] على قتلى أحد، فإنهم أفضوا إلى رحمة الله، ويقال: ولا تحزن على المشركين بإعراضهم عنك، {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] قال الفراء: الضيق ما ضاق عنه صدرك، والضيق ما يكون فِي الذي يتسع مثل الدار

والثوب. والمعنى: لا يضيق صدرك من مكرهم، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، قال الأخفش: يقال: ضاق يضيق ضيقا وضيقا فِي المصدر. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] الفواحش والكبائر وما حرم عليهم، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] فِي العمل، وفيما افترض عليهم، قال الزجاج: ومعنى أن الله معهم أي أنه ناصرهم.

سورة الإسراء

سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة. 534 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَقَّ قَلْبُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَالِدَيْنِ، أُعْطِيَ قِنْطَارَيْنِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الأَجْرِ، وَالْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، الأُوقِيَّةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] أي: البراءة له، والتنزيه عما ينفى عنه مما لا يليق به، قال ابن عباس: نزه نفسه. 535 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَائِشَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ تَفْسِيرِهِ سُورَةِ سُبْحَانَ؛ قَالَ: «تَنْزِيهُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ كُلِّ سُوءٍ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ» وقوله: أسرى بعبده قال الزجاج: معناه سير عبده يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلا. قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة. {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] قال الحسن، وقتادة: يعني نفس المسجد. وقال عامة المفسرين: أسرى

برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دار أم هانئ، وأراد بالمسجد الحرام مكة، ومكة الحرم كلها مساجد. {إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] يعني بيت المقدس، وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين، قال مجاهد: لأنه مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة. {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] يعني ما رأى فِي تلك الليلة من العجائب التي أخبر بها الناس، والأخبار فِي قصة الإسراء كثيرة نقتصر منها على حديث أنس الذي أجمع الشيخان على صحته، وهو ما: 536 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا عُثْمَانُ، نا هَمَّامٌ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُ، عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ، وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شَعْرَتِهِ، قَالَ: فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، وَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: أَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرَفِهِ، قَالَ: فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِيَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحُوا لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى، ابْنَيِ الْخَالَةِ، فَقُلْتُ: يَا جِبرِيلُ، مَنْ هَذَانِ؟ قَالَ: عِيسَى وَيَحْيَى، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، قَالا:

مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحُوا لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحُوا لَنَا، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِدْرِيسُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى هَارُونَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي، وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، أَوْ أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَتْ لَنَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نَبَقَهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ، وَأَنَّ وَرَقَهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجْنَ مِنْ أَصْلِهَا. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ، أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَأُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قِلْتِ: بِخَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ: إِنِّي بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى مُوسَى، قَالَ، بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَمَا زِلْتُ أَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى يَحُطُّ عَنِّي خَمْسًا حَتَّى رَجَعْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَنُودِيتُ: أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي، وَجَعَلْتُ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، قَالَ: فَانْتَهَى حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى هَذَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ كِلاهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ

537 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلابِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَفُتِنُوا بِذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ وَرَوْحَةٍ، قَالَتْ: فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا {2} ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا {3} وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا {4} فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا {5} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا {6} إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا {7} عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا {8} } [الإسراء: 2-8] {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2] ذكر الله فِي الآية الأولى إكرام محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أسرى به، ثم ذكر أنه أكرم موسى أيضا قبله، فقال: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء: 2] يعني التوراة، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 2] دللناهم به على الهدى، {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا} [الإسراء: 2] وقرأ أبو عمرو بالياء، لأن المعنى: هديناهم لئلا يتخذوا من دوني وكيلا، ومن قرأ بالتاء فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة مثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] قال الزجاج: أي لا تتوكلوا على غيري، ولا تتخذوا من دوني ربا. قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] قال مجاهد: هذا نداء، والناس كلهم ذرية نوح، لأن من حمل مع نوح فِي السفينة كانوا أبناءه وذريته. ثم أثنى على نوح فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] قال المفسرون: كان نوح إذا أكل طعاما، أو

لبس ثوبا حمد الله، فسمي عبد شكورا. قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أعلمناهم وأوحينا إليهم فِي التوراة، {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} [الإسراء: 4] بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة فِي الأرض، يعني أرض مصر، {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] لتتعظمن على الطاعة، ولتبلغن. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء: 5] أولى المرتين، بعثنا عليكم خلينا بينكم وبينهم، عبادا لنا يعني جالوت وجنوده، {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] ذوي عدد وقوة فِي القتال، فجاسوا فطافوا وترددوا، خلال الديار والخلال: الانفراج بين الشيئين، قال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال: والجوس طلب الشيء باستقصاء. {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا} [الإسراء: 5] قال قتادة: قضاء الله على القوم كما تسمعون. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] قال ابن عباس: وقتل داود جالوت، وعاد ملكهم كما كان. والكرة معناها الرجعة والدولة، {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] وأعطيناكم، وأكثرنا أموالكم وأولادكم، {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6] عددا وأنصارا منهم، قال أبو عبيدة: النفير العدد من الرجال. قوله: إن أحسنتم أي: وقلنا لهم إن أحسنتم، أحسنتم لأنفسكم قال ابن عباس: إن أطعتم الله، عفا عنك المساوئ. وإن أسأتم بالفساد وعصيان الأنبياء، فلها قال: يريد فعلى أنفسكم يقع الوبال. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء: 7] وعد المرة الآخرة من إفسادكم، قال المفسرون: فأفسدوا المرة الثانية، فقتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، فبعث الله عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه، فسبى، وقتل، وخرب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب. وجواب فَإِذَا محذوف، تقديره فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] يقال: ساءه يسوؤه، أي أحزنه، والمعنى: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم وتخريب بلادكم، وعديت

المساءة إلى الوجوه، والمراد بها أصحابها، لما يبدوا فِيها من أثر الحزن والكآبة، وقرأ حمزة ليسوءَ على واحد، أي: ليسوء الله، أو ليسوء البعث وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون كقوله: بعثنا وأمددنا. وقوله: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] يقال: تبره أي أهلكه، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتنته فقد تبرته. والمعنى: ليدمروا ويخربوا ما علو عليه. قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء: 8] هذا ما أخبر الله به بني إسرائيل فِي كتابهم، والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل، ثم عاد الله عليهم برحمته حتى كثروا وانتشروا، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] قال الحسن: وإن عدتم بالمعصية عدنا بالعقوبة. قال إبراهيم: ثم عادوا فأعاد الله بالعرب. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] قال ابن عباس، وغيره: سجنا ومحبسا. وقال مجاهد: يحصرون فِيها. وهذا ابتداء إخبار عن الله فِي عقاب جميع الكافرين. {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {10} } [الإسراء: 9-10] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] أي: يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات، أي أعدلها وأصوبها، هي كلمة التوحيد. قال الزجاج: يهدي للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله تعالى، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام، والعمل بطاعته. ويبشر المؤمنين بالجنة، وهو قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الإسراء: 9-10] أي: ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا فِي أذى من المشركين، فعجل الله لهم البشرى فِي الدنيا بعقاب الكافرين، وهو قوله: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 10] قوله: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] هو أن الإنسان ربما يدعو فِي حال الضجر والغضب على نفسه وأهله وولده بما لا يحب أن يستجاب له، كما يدعو لنفسه بالخير، {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] يعجل بالدعاء فِي الشر عجلته بالدعاء بالخير. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا {12} وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا {13} اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {14} } [الإسراء: 12-14] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] علامتين تدلان على قدرة خالقهما، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] أي: طمسنا نورها بما جعلنا فِيها من السواد، يروي أن الشمس والقمر كانا سواء فِي النور والضوء، فأرسل الله عز وجل

جبريل، فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] مضيئة يبصر فِيها، {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء: 12] لتبصروا كيف تتصرفون فِي أعمالكم، وتطلبون رزقكم، {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12] بمحو آية الليل، ولولا ذلك ما كان يعرف الليل من النهار، وكان لا يتبين العدد، وكل شيء مما يحتاج إليه، فصلناه تفصيلا بيناه تبيينا لا يلتبس معه بغيره. قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] قال مجاهد: عمله من خير وشر. قال السدي: ما كتب له من خير وشر. وقال الحسن، وقتادة: سعادته وشقاوته بعمله. وقال مجاهد فِي رواية الحكم: مكتوب فِي ورقة معلقة فِي عنقه شقي أم سعيد. ومعنى الطائر ما طار له من خير أو شر، أي: صار له عند قسمته، من قولهم: أمرت المال وطيرته من القوم فطار له سهمه، ذكرنا ذلك عند قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] قال الأزهري: والأصل فِي هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علم منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعا، وشقاوة من علمه عاصيا، فصار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أي: ما طار له فِي علم الله بدءا، و {فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس. وقد روي فِي هذه الآية حديث مشروح، وهو ما: 538 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَلَّى، نا عَمْرُو بْنُ صُبْحٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ أَسِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تُخْلَقُ مِنْهَا النَّسَمَةُ، تَصِيرُ فِي الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلا يَبْقَى مِنْهَا شَعْرٌ وَلا بَشَرٌ وَلا عِرْقٌ وَلا عَصَبٌ إِلا دَخَلَتْ فِيهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَدْخُلُ بَيْنَ الظُّفْرِ وَاللَّحْمِ، فَإِذَا مَضَى لَهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، أَهْبَطَهَا اللَّهُ إِلَى الرَّحِمِ، فَكَانَتْ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَإِذَا تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُونَ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكُ الأَرْحَامِ، فَيَخْلُقُ عَلَى يَدِهِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا وَشَعْرَهَا وَبَشَرَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: صَوِّرْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا

أُصَوِّرُ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَجَمِيلٌ أَمْ دَمِيمٌ؟ أَجَعْدٌ أَمْ سَبْطٌ؟ أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيلٌ؟ أَبْيَضٌ أَمْ آدَمُ؟ زَائِدٌ أَمْ نَاقِصٌ؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُه اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَإِنْ كَانَ سَعِيدًا نَفَخَ فِيهِ بِالسَّعَادَةِ فِي آخِرِ أَجَلِهِ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا نَفَخَ فِيهِ بِالشَّقَاوَةِ فِي آخِرِ أَجَلِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اكْتُبْ أَثَرَهَا وَرِزْقَهَا وَمُصِيبَتَهَا وَعَمَلَهَا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَسَيَكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبِّ، مَا أَصْنَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَيَقُولُ: عَلِّقْهُ فِي عُنُقِهِ إِلَى قَضَائِي عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُظْهِرَ لَهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَابْنَ آدَمَ، بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَةً وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ، فَهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ؛ فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وهو قوله: {كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] كقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] وقرأ ابن عامر يلقاه من قولهم: لقيت فلانا، أي استقبلته به، قال الله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] . قوله: اقرأ كتابك أي يقال له: اقرأ، والقول ههنا مضمر، قال الحسن: يقرأه أميا كان أو غير أمي. وقال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا. {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] الحسيب المحاسب كالشريك والجليس، قال الحسن: عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. والمعنى أن الإنسان يفوض إليه حسابه ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ثم إن كان مؤمنا دخل الجنة بفضل الله لا بعلمه، وإن كان كافرا استوجب النار بكفره. قوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا {15} وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا {16} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {17} } [الإسراء: 15-17] {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء: 15] أي: ثواب اهتدائه لنفسه {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15] على نفسه عقوبة ضلاله، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] قال ابن عباس: إن الوليد بن المغيرة قال: اتبعوني، وأنا أحمل أوزاركم. فقال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] قال الزجاج: أي أن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] قال قتادة: إن الله ليس معذبا أحدا حتى يبين له

ما به يعذب. وهذه الآية تدل على أن الواجبات إنما تجب بالشرع لا بالعقل، ولا يجب شيء على أحد قبل بعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] قال مجاهد: أكثرنا فساقها. وهو قول عكرمة، وسعيد بن جبير. يقال: أمر القوم إذا اكثروا، وأمرهم الله أي كثرهم. وروى حماد بن سلمة، عن ابن كثير، آمرنا بالمد، وهي اللغة العالية، يقال: أمر القوم وأمرهم الله، أي: أكثرهم، ونحو هذا روى خارجة، عن نافع، والمترف المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون فِي تفسير المترفين: الجبارين والمتسلطين والملوك. وقوله: ففسقوا فيها أي تمردوا فِي كفرهم إذ الفسق فِي الكفر الخروج إلى أفحشه، فحق عليها قال ابن عباس: استوجبت العذاب. يعني قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . فدمرناها تدميرا أهلكناها إهلاك الاستئصال، ثم ذكر سنته فِي إهلاك القرون الماضية، تخويفا لكفار مكة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] الآية. قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا {18} وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا {19} كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا {20} انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا {21} } [الإسراء: 18-21] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء: 18] يعني الدنيا عجلت فكانت قبل الآخرة، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] أي: القدر الذي نشاء نعجل له فِي الدنيا، لا الذي يشاء هو، لمن نريد أن نعجل له شيئا قدرناه، وهذا ذم لمن أراد بعمله وطاعته وإسلامه الدنيا، ومنفعتها، وعروضها، وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قد له، إن قدر، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} [الإسراء: 18] ثم يدخل النار فِي الآخرة، لأنه لم يرد الله تعالى بعمله، {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] مباعدا من رحمة الله. {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء: 19] يعني الجنة، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] عمل بفرائض الله، وهو مؤمن فإن الله لا يقبل حسنة إلا من مصدق، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] يضعف لهم الحسنات، ويمحو عنهم السيئات، ويرفع لهم الدرجات. كلا نمد قال الحسن: كلا نعطي من الدنيا: البر والفاجر. وقال الزجاج: أعلم

الله أنه يعطي المسلم والكافر، وأنه يرزقهما جميعا. ثم فصل الفريقين فقال: {هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ممنوعا، يقال: حظره يحظره حظرا، وكل من حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك. انظر يا محمد، {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21] يعني فِي الرزق، فمن مقل ومن مكثر، وموسع عليه، ومقتر عليه هذا فِي الدنيا، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 21] من الدنيا، قال ابن عباس: إذا دخلوا الجنان اقتسموا المنازل والدرجات على قدر أعمالهم. وقال قتادة: للمؤمنين فِي الجنة منازل ولهم فضائل بأعمالهم. 539 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ» {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا {22} وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {24} رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا {25} } [الإسراء: 22-25] قوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 22] لا تعبد معه غيره، ولا تتخذ دونه إلها، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى عام لجميع المكلفين على نحو {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا} [الإسراء: 22] لا ناصر لك. قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] قال ابن عباس: يريد وأمر ربك ليس هو قضاء حكم. وهو قول مجاهد، والحسن، وقتادة، وعامة المفسرين. قال الفراء: العرب تقول: تركته يقضي أمور الناس، أي يأمر فِيها فينفذ أمره. قال الزجاج: وقضى ربك معناه أمر، لأنه أمر قاطع حتم. قوله: وبالوالدين إحسانا أي: أمر أن تحسنوا بالوالدين. 540 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو الْقَبَّابُ، نا

الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ؛ يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاةُ لِمِيقَاتِهَا، قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي " 541 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ زَيَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ، وَزَادَ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ» 542 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَسِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ، مَوْلَى بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَسِيدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء: 23] يعني الكبر فِي السن إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا، وقرأ حمزة يبلغان قال الفراء: ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله فصار الفعل على عددهما. ثم قال: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء: 23] على الاستئناف، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] قال ابن عباس: يريد بالأف الرديء من الكلام، أن تقول لهما: أماتكما الله، أراحني

الله منكما. وقال مجاهد: يبلغان أن يخريا أو يبولا، فلا تقل لهما أف، ولا تأذيهما كما لم يكونا يتأذيان به منك. وقال ابن قتيبة: لا تستثقل شيئا من أمرهما، الناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون أف له. 543 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا جَرِيرٌ، أنا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدُهُمَا، أَوْ كِلاهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَرِيرٍ وقوله: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال ابن عباس: يريد الجواب بالغلظة. وقال الزجاج: لا تكلمهما ضجرا صائحا فِي وجوههما. {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] لينا لطيفا أحسن ما تجد من القول. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما وشفقتك عليهما، وخفض الجناح من السكون وترك التعصب والإباء عليهما، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] أي: مثل رحمتهما إياي فِي صغري حتى ربياني، وقال قتادة: هكذا علمتم، وبهذا أمرتم، فخذوا بتعليم الله وأدبه. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء: 25] أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر عقوقا، غفر الله له ذلك، وهو قوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25] طائعين لله تعالى، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ} [الإسراء: 25] الراجعين عن المعاصي، النادمين على الزلات، غفورا يغفر لهم ما بدر منهم. ثم حض على صلة القرابة وبر الأقارب، فقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا {27} وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا {28} } [الإسراء: 26-28] {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] قال الحسن: هو أن تؤتيهم وإن كان يسيرا. {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] قال ابن مسعود: التبذير النفقة فِي غير حق. قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قبيس، فقال: لو

أن رجلا أنفق مثل هذا فِي طاعة الله، لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحد فِي معصية الله كان من المسرفين. {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} [الإسراء: 27] المنفقين فِي غير طاعة الله، {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه، وهو كل من أجاب الشيطان إلى ما سول له، فهو من إخوان الشياطين، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] قال ابن عباس: جاحدا لأنعمه. وهذا يتضمن أن المنفق فِي السرف كفور لربه فيما أنعم عليه. قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء: 28] عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم من ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 28] انتظار رزق يأتيك من الله، والمعنى أن تعرض عن السائل إضافة وإعسارا، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] أي: عدهم عدة حسنة، قاله الفراء، ومجاهد، والكلبي. وقال ابن زيد: قولا جميلا، رزقك الله بارك الله فيك. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل، وليس عنده ما يعطي، أمسك، انتظار الرزق يأتي الله به، ويكره الرد، فلما نزلت هذه الآية، كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: «يرزقنا الله وإياكم من فضله» . ومعنى الميسور اللين والسهل. قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {30} وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا {31} وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا {32} وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا {33} } [الإسراء: 29-33] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الآية، روى أبو حفص، عن عبد الله بن مسعود، قال: جاء غلام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن أمي تسألك كذا. فقال: «ما عندنا اليوم شيء» . قال: فيقول لك اكسني قميصا. قال: فخلع قميصه ودفعه إليه وجلس فِي البيت ". فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضه إلى عنقك لا تبسط الخير، {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] قال ابن عباس: أي فِي النفقة والعطية، كأنه نهي عن بذل جميع ما عنده حتى لا يبقى له شيء. وقال مجاهد:

يعني التبذير والإنفاق فيما لا يصلح. وقوله: فتقعد ملوما قال السدي: تلوم نفسك وتلام محسورا. قال ابن عباس: ليس عندك شيء. يقال: حسرت الرجل بالمسألة أحسره إذا أفنيت جميع ما عنده. {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] حيث أجرى رزقهم على ما علم فِيهِ صلاحهم. قوله {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] مفسر فِي { [الأنعام إلى قوله:] إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 31] أي: إثما كبيرا، يقال: خطئ يخطأ خطأ، أي أثم، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح، وهو اسم من أخطأ، وقد جاء أخطأ بمعنى خطئ، أي أثم، وإذا كان كذلك كان خطئا بمعنى خطأ، وقرأ ابن كثير خطأ بكسر الخاء ممدودا، وهو بعيد لا وجه له. قوله {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] الآية، 544 - سَمِعْتُ الأُسْتَاذَ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَوَ عُثْمَانَ بْنَ الْخَطَّابِ، الْمَعْرُوفَ بِأَبِي الدُّنْيَا، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: فِي الزِّنَا سِتُّ خِصَالٍ؛ ثَلاثٌ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاثٌ فِي الآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ، وَيُسْرِعُ الْفَنَاءَ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الآخِرَةِ: فَغَضَبُ الرَّبِّ، وَسُوءُ الْحِسَابِ، وَالدُّخُولُ فِي النَّارِ " قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] قال المفسرون: حقها الذي تقتل به كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس مؤمنة بتعمد. {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] يعني بغير إحدى هذه الخصال، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} [الإسراء: 33] يعني لوارثه الذي له المطالبة بدمه، سلطانا قال مجاهد: سلطانه حجته التي جعلت له أن يقتل قاتله. وقال الضحاك: هو أنه

إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. {فَلا يُسْرِفْ} [الإسراء: 33] الولي، {فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] قال ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل. وقال مجاهد: هو أن يقتل بالواحد الاثنين والثلاثة. والمعنى: فلا يسرف الولي فِي القتل، أي لا يتجاوز ما حد له إنه الولي، {كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه، وقرأ حمزة فلا تسرف بالتاء على مخاطبة الولي. وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا {34} وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا {35} } [الإسراء: 34-35] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] مفسر فِي { [الأنعام، قوله: وأوفوا بالعهد قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. ] إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [سورة الإسراء: 34] عنه. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] أتموه ولا تبخسوا منه شيئا، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] قال ابن عباس، والحسن: هو القبان. وقال: هو بالرومية. وقال الزجاج: هو ميزان العدل. أيّ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف وكسرها، {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الإسراء: 35] قال عطاء: أقرب إلى الله. وقال قتادة: خير ثوابا. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35] عاقبة فِي الجزاء. {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا {36} وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا {37} كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا {38} } [الإسراء: 36-38] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] يقال: قفا يقفو قفوا إذا اتبع الأثر. قال الكلبي: لا تقل ما ليس لك به علم. وقال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ورأيت ولم تر، وعلمت ولم تعلم. والمعنى: لا تقولن فِي شيء مما لا تعلم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] قال الوالبي، عن ابن عباس:

يسأل الله العباد فيم استعملوها. فِي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، وإرادة ما لا يجوز. قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] المرح شدة الفرح، قال ابن عباس: يريد بالكبرياء والعظمة. وقال الزجاج: ولا تمش فِي الأرض مختالا فخورا. {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} [الإسراء: 37] الخرق الشق، يقال: خرق ثوبه إذا شقه. قال ابن عباس: لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] بعظمتك وإنما أنت مخلوق عبد ذليل، والمعنى: أنك لا تقدر أن تثقب الأرض حتى تبلغ آخرها، ولا أن تطول الجبال، فلا تستحق الكبر والبذخ، {كُلُّ ذَلِكَ} [الإسراء: 38] إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه، كان سيئه قرئ بالإضافة والتنوين، قال الزجاج: والإضافة أحسن، لأن فيما تقدم من الآيات سيئا وحسنا، سيئه هو المكروه، ويقوى ذلك التذكير فِي المكروه. ومن قرأ بالتنوين جعل كلا إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئه فكان مكروها، والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة، وليس بنعت. قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} [الإسراء: 39] يعني ما تقدم ذكره من الفرائض والسنن، من الحكمة من القرآن ومواعظه، {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 39] هذا خطاب لكل واحد من المؤمنين، كأنه قال: ولا تجعل أيها الإنسان. ثم خاطب المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله منكرا عليهم، فقال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا {40} وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا {41} قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا {42} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {43} تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {44} } [الإسراء: 40-44] {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] يقال: أصفاه بالشيء إذا آثره به. قال أبو عبيدة: أفأصفاكم خصكم. وقال المفضل: أخلصكم. وهذا توبيخ للكفار، يقال: اختار لكم ربكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينه وبينكم، فاختصكم بالأجل، وجعل لنفسه الأدون؟ إنكم لتقولون بهذا الزعم الباطل، قولا عظيما يعظم خطؤه وإثمه. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 41] أي: صرفنا ضروب القول فِيهِ من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به، ومعنى التصريف ههنا التبيين، لأنه إنما يصرف القول ليبين، وقوله: {لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء: 41] ليتعظوا، ويتدبروه بعقولهم، ويتفكروا فِيهِ، وقراءة حمزة بالتخفيف بهذا المعنى كقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وقوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا} [الإسراء: 41] قال ابن عباس: ينفرون من الحق، ويتعبون الباطل.

والمعنى: وما يزيدهم تصريف الآيات إلا نفورا، كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} [فاطر: 42] وذلك أنهم اعتقدوا أن القرآن شبه وحيل، فنفروا منها أشد النفور. قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42] وقرأ ابن كثير بالياء على معنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة، {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42] إذا لابتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش، والمعنى لابتغوا سبيلا إلى ممانعته ومضادته، وهذا قول الحسن، والكلبي، وسعيد بن جبير. ثم نزه نفسه، فقال: سبحانه وتعالى الآية. ثم ذكر أن كل ما خلق مسبح له، فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ} [الإسراء: 44] الآية، المراد بالتسبيح ههنا الدلالة على أن الله عز وجل خالق حكيم مبرأ من الأسوأ، والمخلوقون والمخلوقات كلها تدل على أن الله خالقها، كما قال ابن عباس فِي قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: يخشع ويخضع. قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] مخاطبة للكفار لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون. قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا {45} وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا {46} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا {47} انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا {48} وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا {49} قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا {50} أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا {51} يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا {52} وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا {53} رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا {54} وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا {55} } [الإسراء: 45-55] {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] نزلت فِي قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن، قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب. حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه. 545 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو مُوسَى إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَرَوِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ؛ جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا، وَدِينَهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» ، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لا، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الصَّبَغِيِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ وقوله: حجابا مستورا قال الأخفش: أراد ساترا، والفاعل قد يكون فِي لفظ المفعول، كما تقول: إنه لمشئوم وميمون، وإنما هو شائم ويامن. فقال غيره: حجابا مستورا عن الأعين لا يبصر، إنما هو قدرة من قدرة الله تعالى، حجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أعين أعدائه حجاب لا يرونه ولا يراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أن الله منعهم من فهم القرآن بقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الإسراء: 46] وقد تقدم تفسيره فِي { [الأنعام، وقوله:] وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ} [سورة الإسراء: 46] يعني قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] قال ابن عباس: كارهين أن يوحدوا الله. وقال قتادة: إن

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون، وكبر عليهم. والمعنى: انصرفوا هاربين عنك كراهية لما يسمعونه من توحيد الله. قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} [الإسراء: 47] قال المفسرون: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك عليٌّ، ودخل عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، فكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحر، وهو مسحور. فأخبر الله نبيه بذلك، وأنزل عليه {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ} [الإسراء: 47] أي يستمعونه، والباء زائدة، أخبر الله أنه عالم بتلك الحالة، وبذلك الذي كانوا يستمعونه، إذ يستمعون إلى الرسول، {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] قال ابن عباس: يتناجون فيما بينهم بالتكذيب والاستهزاء، {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} [الإسراء: 47] يعني أولئك المشركون، إن تتبعون ما تتبعون، {إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] مخدوعا، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه أمره، قال ابن الأعرابي: المسحور الذاهب العقل، المفسد أمره. و {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء: 48] بينوا لك الأشياء حين شبهوك بالكاهن، والساحر، والشاعر، والمعلم، والمجنون، فضلوا عن الحق {فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا} [الإسراء: 48] مخرجا عن الضلال إلى الهدى. ثم ذكر إنكارهم البعث بقوله: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} [الإسراء: 49] قال الفراء: الرفات التراب لا واحد له، وهو مثل الرقاق، والحطام. والرفت كسر الشيء بيدك، مثل المدر والعظم البالي، وما كسر فهو رفات، مثل الفتات، قال ابن عباس رضي الله عنه: أي إذا ذهب اللحم والعروق، وبقيت عظام قد بليت، فإذا مسكته بين أصبعيك انسحق، فهو رفات. {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] أي: أنبعث إذا صرنا ترابا؟ وهذا استفهام إنكار وتعجب، قال الله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] قال الزجاج: إنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم، وينكرون أنه يعيدهم. فقيل لهم استشعروا أنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 51] الأكثرون قالوا: يعني الموت، وليس أكبر فِي صدور بني آدم من الموت، يقول: لو كنتم الموت، لأماتكم الله، ثم أحياكم، لأن القدرة التي بها أنشأكم، بها يعيدكم، هذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] وقال مجاهد: ما شئتم فكونوا حجارة، أو حديدا، أو سماء، أو أرضا، أو جبلا سيعيدكم الله كما كنتم، وقوله: فسينغضون يقال: أنغض رأسه ينغضه إنغاضا إذا حركه. والمعنى: يحركون رءوسهم تكذيبا لهذا القول واستبعادا له، {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسراء: 51] أي البعث والإعادة، {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51] يعني هو قريب، وعسى من الله واجب. ثم ذكر أنه متى يكون، فقال: يوم يدعوكم أي: بالنداء الذي يسمعكم، وهو النفخة الأخيرة كما قال: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] .

{فَتَسْتَجِيبُونَ} [الإسراء: 52] تجيبون، {بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم، ويقولون: سبحانك وبحمدك، ولا ينفعهم فِي ذلك اليوم لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 52] وتعلمون ما لبثتم فِي الدنيا إلا قليلا، قال الحسن، وقتادة: استقصروا مدة لبثهم مع ما يعلمون من طول لبثهم فِي الآخرة. ومن المفسرين من يذهب إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يستجيبون الله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة لبثهم فِي البرزخ لأنهم كانوا غير معذبين. وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] قال الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فيقولون: يا رسول الله، ائذن لنا فِي قتالهم. فيقول لهم: إني لم أومر فيهم بشيء. فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: قل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين الكلمة التي هي أحسن، قال الحسن: يقولون له: يهديك الله. إن الشيطان هو الذي يفسد بينهم لأنه عدو للإنسان ظاهر العداوة. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54] بالإنجاء من كفار مكة، وينصركم عليهم، {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54] بتسليطهم عليكم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [الإسراء: 54] حافظا وكفيلا، أي وما وكل إليهم إيمانهم، إن شاء هداهم وإن شاء خذلهم. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء: 55] قال ابن عباس: لأنه خلقهم، فهدى بعضهم وأضل بعضهم على علم منه بهم، وكذلك تفضيل النبيين بعضهم على بعض، كان عن حكمة وعلم، وهو قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] قال قتادة: اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وجعل عيسى كلمته وروحه، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، وغفر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] قال الزجاج: أي فلا تنكروا تفضيل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعطاءه القرآن، فقد أعطى الله داود الزبور. وقال قتادة: كنا نحدث أنه تحميد وتمجيد لله، ليس فِيهِ حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا {56} أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا {57} } [الإسراء: 56-57] قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء: 56] الآية، قال المفسرون: ابتلى الله قريشا وأهل مكة بالقحط سنين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: قل للمشركين ادعوا الذين ادعيتم كذبا أنهم آلهة، ثم أخبر عن الآلهة، فقال: {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} [الإسراء: 56] يعني البؤس والشدة، ولا تحويلا التحويل النقل من حال إلى حال، ومن

مكان إلى مكان، قال ابن عباس: يريد من السقم والفقر إلى الصحة والغنى. وفي هذا احتجاج عليهم أنهم فِي عبادتهم على الباطل، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: ثم ذكر أولياءه، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: يتضرعون إلى الله فِي طلب الجنة، والوسيلة الدرجة العليا، وقد تكون الوسيلة القربة إلى الله تعالى وما يقربك من رحمته. ذكرنا ذلك فِي قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قال الزجاج: المعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح، قال ابن عباس: يتقربون إلى الله بصالح الأعمال، فيرجون رحمته، ويريدون جنته، ويخافون عذابه. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] يحذره المؤمنون المتقون، فيطيعون الله خوفا منه. {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {58} وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا {59} وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا {60} } [الإسراء: 58-60] قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: 58] قال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا فِي أهل قرية، أذن الله فِي إهلاكها. وقال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال الزجاج: أي ما من أهل قرية إلا وسيهلك، إما بموت أو بعذاب يستأصلهم. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58] قال قتادة: قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بد. قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ} [الإسراء: 59] قال المفسرون: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم، فيزرعوا. فأتاه جبريل، فقال: إن شئت، كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت، استأنيت بهم. قال: «لا، بل أستأني بهم» . فأنزل الله هذه الآية، وتقدير الكلام: وما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، ويعني أنهم سألوا الآيات التي استوجب بها الأولون العذاب لما كذبوا بها، والمعنى: أنا لم نرسل بالآيات لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب من قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة، وسنة الله فِي الأمم، إذا سألوا الآيات، فأتتهم، ثم لم يؤمنوا، أن يعذبهم، ولا يمهلهم، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] قال قتادة: بينة.

والمبصرة البينة، أراد آية مبصرة، أي مضيئة. وهذا كقوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ، وقوله فظلموا بها أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها، وقد يكون الظلم الجحد كقوله: {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] أي يجحدون، {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ} [الإسراء: 59] أي: العبر والدلالات، إلا تخويفا للعباد ليتعظوا ويخافوا. قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60] أي: فهم فِي قبضته وهو محيط بهم بالعلم والقدرة، قال قتادة: يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك. وقال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوك كما قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] يعني ما أراه الله ليلة الإسراء، وكانت رؤيا يقظة، لا رؤيا منام، وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي مالك، والسدي، ومجاهد، وقتادة، والحسن، والضحاك، وابن زيد، وابن عباس فِي رواية عكرمة، قال: هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به فِي بيت المقدس، وذلك أنه ارتد بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء، فأنكروا وكذبوا، وازداد المؤمنون المخلصون إيمانا، وكانت تلك الرؤيا فتنة للناس. وقوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 60] هذا على التقديم والتأخير، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة فِي القرآن إلا فتنة للناس، وهي شجرة الزقوم، وكانت الفتنة فِيها ما قال قتادة: خوف الله تعالى بها عباده، ففتنوا بذلك حتى قال أبو جهل: زعم صاحبكم أن فِي النار شجرا، والنار تأكل الشجر. وقال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد. قال الزجاج: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار:

ملعون. يدل على هذا ما روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة المذمومة. ومعنى فِي القرآن أي التي ذكرت فِي القرآن. 546 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الطَّبَرِيُّ، أنا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ، نا مَحْمُودُ بْنُ آدَمَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ وقوله: ونخوفهم أي بالآيات والدلالات، فما يزيدهم التخويف، {إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] لأنهم لا يرجعون عن غيهم. قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا {62} قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا {63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا {65} } [الإسراء: 61-65] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الإسراء: 61] الآية مفسرة فيما تقدم إلى قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طينا، وهو منصوب على الحال. والمعنى أنك أنشأته فِي حال كونه من طين، واعتقد إبليس، لعنه الله، أن النار أكرم أصلا من الطين، وأنه أكرم ممن خلق من الطين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها من جنس واحد، وأن الله عز وجل يصرفها بالإعراض كيف شاء، مع كرم جوهر الطين بكثرة ما فِيهِ من المنافع. قال إبليس، {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] أي: أرأيت هذا الذي فضلته عليَّ، يعني آدم، والكاف فِي أرأيتك لا موضع لها، لأنها ذكرت فِي الخاطبة توكيدا، {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء: 62] أي: أخرت أجل موتي، {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] لأستأصلنهم، ولأستولين عليهم بالإغواء والإضلال، وأصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تأكله وتستأصله بأحناكها وتفسده، وهذا هو الأصل، ثم يسمى الاستيلاء على الشيء وأخذ كله احتناكا، وقوله: إلا قليلا يعني المعصومين، قال ابن عباس: هم أولياء الله الذين عصمهم، وهم الذين استثنى الله فِي قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] . قال الله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ} [الإسراء: 63] وهذا اللفظ يتضمن معنى إنظاره وتأخير أجله، فمن تبعك أي: أطاعك واتبع أمرك، منهم من ذرية آدم، {

فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء: 63] قال الزجاج: موفرا، يقال وفرته أفره وفرا، وهو موفور، وأنشد لزهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم واستفزز أي أزعج واستخف، من استطعت من بني آدم، يقال: أفره واستفزه، أي أزعجه واستخفه، ومعنى الأمر ههنا التهديد، كما يقال للإنسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله: بصوتك قال مجاهد، وعكرمة: يعني الغناء والمزامير. وقال الوالبي، عن ابن عباس: صوته دعاء كل داع إلى معصية الله. وقال عطاء عنه: كل متكلم فِي غير ذات الله، فهو صوت الشيطان. وقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 64] يقال: أجلبوا وجلبوا إذا صاحوا. يقول: صح بخيلك ورجلك، واحثثهم عليهم بالإغواء. وقال الزجاج: يقال: أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول. والمعنى على هذا: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك، ويكون الباء في بخيلك زائدة على هذا القول، وكل راكب، أو راجل فِي معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده، والرجل جمع راجل، وقرأ حفص بكسر الجيم، قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] وهي كل ما أصيب من حرام، وأخذ بغير حقه، وكل ولد زنا، قال قتادة: أما فِي الأموال فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة، وأما فِي أولادهم فأنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم. وقوله: وعدهم قال الفراء: أي قل لهم لا جنة ولا نار. وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون. قال الله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 64-65] قال ابن عباس: إن أوليائي ليس لك عليهم حجة فِي الشرك. وقال قتادة: عبادة الذين لا سلطان له عليهم المؤمنون. {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65] لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس. قوله: {

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {66} وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا {67} أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا {68} أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا {69} } [الإسراء: 66-69] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} [الإسراء: 66] أي: يسوق ويسير حالا بعد حال، {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66] فِي طلب التجارة، {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66] قال ابن عباس: يريد بأوليائه وأهل طاعته. وهذا الخطاب خاص للمؤمنين. ثم خاطب المشركين، فقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} [الإسراء: 67] يعني خوف الغرق، {فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] أي زال وبطل من تدعون من الآلهة إلا الله تعالى، قال ابن عباس: نسيتم اتخاذ الأنداد والشركاء وتركتموهم وأخلصتم لله، فلما نجاكم من الغرق والبحر، {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67] عن الإيمان والإخلاص وكان الإنسان يعني الكافر، كفورا لنعمة ربه. ثم بين أنه قادر أن يهلكهم فِي البر، فقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء: 68] أي: يغيبكم ويذهبكم فِي جانب البر، وهو الأرض، يقال: خسف به الأرض، أي: غاب به فِيها، أخبر الله تعالى أنه كما قدر أن يغيبهم فِي الماء قادر أن يغيبهم فِي الأرض، وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء: 68] عذابا يحصبكم، أي: يرميكم بالحجارة، والحصب الرمي، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصاء: حاصب. {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} [الإسراء: 68] قال قتادة: مانعا ولا ناصرا. {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ} [الإسراء: 69] فِي البحر، تارة مرة أخرى، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا} [الإسراء: 69] كاسرا، من الريح والقصف الكسر بشدة، وأراد ههنا ريحا شديدة تقصف الفلك، وهو قوله: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء: 69] بكفركم، حيث سلمتم ونجوتم فِي المرة الأولى، ويقرأ قوله: أن يخسف وأخواته من الأفعال بالياء والنون، والمعنى واحد، وكل حسن، وتؤكد النون قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم. وهذا معنى قول المفسرين: لا برا ولا ناصرا، وتبع بمعنى تابع. قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا {70} يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا {71} وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا {72} } [الإسراء: 70-72] {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] قال ابن عباس: فضلنا كقوله: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] والمعنى: فضلناهم بالعقل والنطق والتمييز. وقال عطاء: بامتداد القامة. وروى ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: ليس من دابة إلا وهي

تأكل بفيها إلا ابن آدم، فإنه يأكل بيديه. وروى جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تفسيره هذه الآية: قال: «الكرامة الأكل بالأصابع» . {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} [الإسراء: 70] على الإبل والخيل والبغال والحمير، وفي البحر على السفن، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء: 70] يعني الثمار والحبوب والمواشي، والسمن والزبد والحلاوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70] قال السدي: فضلوا على البهائم والدواب والوحوش، وهم الكثير. 547 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْهَرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ " مَنْ رَأَى رَجُلا بِهِ بَلاءً قَدْ عُوفِيَ مِنْهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلا، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْبَلاءِ " قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ} [الإسراء: 71] قال الزجاج: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى اذكر يوم ندعو. وقوله: {بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] قال مجاهد، وقتادة: نبيهم. ويكون المعنى على هذا: أن ينادي يوم القيامة، فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى وعيسى، هاتوا متبعي محمد عليهم السلام. فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء، فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي رؤساء الضلالة. وهذا معنى قول ابن عباس فِي رواية سعيد بن جبير: إمام هدى، أو إمام ضلالة. ونحو هذا، روى الوالبي، قال: بأئمتهم فِي الخير والشر. وقال الضحاك، وابن زيد: يعني فِي كتابهم الذي أنزل عليهم. والمعنى على هذا أن يقال: يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. 548 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نا أَبُو قُرَّةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، نا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجُمِعَتِ الأُمَمُ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذِهِ الأُمَّةُ؟ وَيَتَشَرَّفُ إِلَيْهَا النَّاسُ، فَيُقَالُ: هَذَا مُحَمَّدٌ فِي أُمَّتِهِ، فَيُنَادِي الْمُنَادِي: لِيَكُنِ الآخِرُونَ هُمُ الأَوَّلِينَ، فَتَأْتِي فَتَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةً، ثُمَّ يُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْيَهُودُ، فَيُقَالُ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: التَّوْرَاةُ، فَيُقَالُ: مَنْ نَبِيُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَبِيُّنَا مُوسَى، فَيُقَالُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ عُزَيْرًا، نَعْبُد اللَّهَ، فَيُقَالُ: اسْلُكُوا بِهؤُلاءِ فِي جَهَنَّمَ، وَيُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: الإِنْجِيلُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ نَبِيُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَبِيُّنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيُقَالُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ عِيسَى وَأُمَّهُ وَاللَّهَ، فَيُقَالُ: اسْلُكُوا بِهَؤُلاءِ فِي

جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَدْعُونَ بَشَرًا كَثِيرًا بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ آلِهَتِهِمْ، مِنْهَا الْحِجَارَةُ، وَمِنْهَا الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ إِلَهًا، فَلْيَتَّبِعْهُ، تَقَدَّمُهُمْ آلِهَتُهُمْ، ثُمَّ يَبْقَى الْمُسْلِمُونَ، فَيَقِفُ بِهِمْ رَبُّهُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: مَا أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُولُ: خَيْرُ اسْمٍ، وَخَيْرُ دَاعِيَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ نَبِيِّكُمْ؟ قَالُوا: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: مَا كِتَابُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ، فَيَقُولُ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَتَجَلَّى الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، جَلَّ جَلالُكَ، ثُمَّ يَمْضِي النُّورِ بِأَهْلِهِ " وقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [الإسراء: 71] أي: لا ينقصون من ثوابهم بمقدار فتيل، وهو القشرة التي فِي شق النواة، ويضرب مثلا للشيء الحقير. قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} [الإسراء: 72] يعني فِي الدنيا، أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى فِي خلق السموات والأرض، والبحار والجبال، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} [الإسراء: 72] أي: فِي أمرها مما لم يعاينه، {أَعْمَى} [الإسراء: 72] أشد عمى، وكلاهما من عمى القلب لا من عمى العين، قال قتادة: من عاين الشمس والقمر، فلم يؤمن، فهو أعمى عما يغيب عنه، أن يؤمن به هذا الذي ذكرنا قول عامة المفسرين. وقال الحسن: من كان فِي الدنيا ضالا كافرا، فهو فِي الآخرة أعمى وأضل سبيلا، لأنه فِي الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل توبته. اختار أبو إسحاق الزجاج هذا القول، فقال: تأويله إنه إذا عمي فِي الدنيا، وقد عرفه الله الهدى، وجعل له إلى التوبة وصلة، فعمي عن رشده، ولم يتب، فهو فِي الآخرة أعمى، أي: أشد عمى وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية. واختاره أبو علي الفارسي أيضا، فقال: معنى قوله: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] أي: أشد عمى فِي الدنيا، كان ممكنا من الخروج عن عماه بالاستدلال، ولا سبيل له فِي الآخرة إلى الخروج من عماه، لأنه قد حصل على عمله. وكذلك قوله: وأضل سبيلا لأن ضلاله فِي الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه، وقرأ أبو عمرو فِي هذه أعمِي بكسر الميم، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] بفتح الميم، أراد أن يفرق بين ما هو اسم، وبين ما هو أفعل منه، فغاير بينهما بالإمالة، وتركها لأن معنى قوله: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] أي: أعمى منه فِي الدنيا، ومعنى العمى فِي الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب. {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا {73} وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا {74} إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {75} وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا {76} سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا {77} } [الإسراء: 73-77] قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أي: هموا وقاربوا أن يزيلوك ويصرفوك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] يعني القرآن، والمعنى عن حكمه نزلت الآية فِي وفد ثقيف، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: متعنا باللات سنة، وحرم وادينا كما حرمت مكة، فإنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول، وخشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعط غيرهم، فقل: الله أمرني بذلك. فأمسك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم، وداخلهم الطمع، وقد هم أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله

هذه الآية. وكان فِي إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن، لذلك قال: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك. {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا} [الإسراء: 73] لو فعلت ما أرادوا. {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] على الحق بعصمتنا إياك، لقد كدت هممت وقاربت، تركن إليهم أي: تميل شيئا قليلا، عبارة عن المصدر، أي: ركونا، قال ابن عباس: يريد حيث سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته. ثم توعده على ذلك لو فعله {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، أي: ضعف ما يعذب به غيره، قال ابن عباس: ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم، ولكن هذا تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين فِي شيء من أحكام الله وشرائعه. قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ} [الإسراء: 76] قال قتادة: هم أهل مكة بإخراج نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا، ولكن الله كفهم عن ذلك حتى أمره بالخروج. والمعنى أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} [الإسراء: 76] وخلفك أي: بعدك، يعني بعد خروجك، وخلافك بمعنى خلفك، كقوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81] وقوله: إلا قليلا أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بمدة يسيرة، كسنتنا فِي من قبلهم، وهو قوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77] قال سفيان بن عيينة: يقول: لم نرسل قبلك رسولا فأخرجه قومه إلا أهلكوا. وقال الزجاج: إن سنتنا هذه السنة فِي من أرسلنا قبلك إليهم، أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم، أو قتلوه، أن ينزل العذاب بهم. وقوله: {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} [الإسراء: 77] أي: ما أجرى الله به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقبلها، قال ابن عباس: لا خلف لسنتي ولا لقضائي ولا لموعدي. قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا {78} وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا {79} وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا {80} وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا {81} وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا {82} } [الإسراء: 78-82] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] دلوك الشمس زوالها وميلها فِي وقت الظهر، وكذلك ميلها للغروب هو دلوكها أيضا، قال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب. والمفسرون مختلفون فِيهِ، فقوم يقولون: دلوكها زوالها، وهو قول الحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة. وقال قوم: دلوكها غروبها، وهو قول ابن مسعود، وعلي، والسدي، وابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير. قال الأزهري: معنى الدلوك

فِي كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة، لأنها فِي الحالتين زائلة. قال: والقول عندي: إن زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس. والمعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فتدخل فِيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فهذه خمس صلوات، ومعنى غسق الليل سواده وظلمته، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال: أوله حين يدخل. وقال ابن مسعود: غسق الليل إظلامه. قال الفراء، والزجاج: يقال: غسق الليل أغسق إذا أقبل ظلامه. وقوله: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] قال ابن عباس، والمفسرون: يريد صلاة الصبح. قال الزجاج: أي وأقم قرآن الفجر، قال: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون بقراءة حيث سميت الصلاة قرآنا. وقوله: {إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] كلهم قالوا: صلاة الفجر، تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. 549 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خميرَوَيْهِ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمَاعَةِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، قَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُصِلَ بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ، قَالَ اللَّيْثُ: تَهَجَّدَ إِذَا اسْتَيْقَظَ لِلصَّلاةِ، وَقَالَ الأَزْهَرِيُّ: الْمُتَهَجِّدُ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلاةِ مِنَ النَّوْمِ، وَقِيلَ لَهُ: مُتَهَّجِدٌ لإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ: تَخَرَّجَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَوَّبَ

وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] معنى النافلة فِي اللغة ما كان زيادة على الأصل، وصلاة الليل كانت زيادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، لرفع الدرجات لا للكفارات، لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست لنا بنافلة. وهذا قول جميع المفسرين، قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال ابن عباس: عسى من الله واجبة، يريد أعطاك الله يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك فِيهِ الأولون والآخرون، تشرف على جميع الخلائق، وتسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، وليس أحد إلا تحت لوائك. وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، ومعنى يبعثك ربك مقاما: يقيمك فِي ذلك المقام. 550 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ إِدْرِيسَ الأَوْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الشَّفَاعَةُ 551 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا الْفَضْلُ بْنُ الْخَصِيبِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّازِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ الأَوْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، قَالَ: هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أُشَفَّعُ فِيهِ لأُمَّتِي قوله {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] روى قابوس بن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية. والمعنى: ادخلني المدينة، وأخرجني من مكة، والمدخل والمخرج بمعنى المصدر، وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح، نحو قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] ، {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] ، {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] حجة بينة تنصرني بها على جميع من خالفني. قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] قال السدي: الحق الإسلام، والباطل الشرك. وقال قتادة: الحق القرآن، والباطل الشيطان. ومعنى زهق: بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق. 552 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاتُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا، وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،

عَنْ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ وقوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] قال ابن عباس: يريد كل ما كان عن الشيطان، كان خارجا عن الحق. وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 82] من هذا الجنس الذي هو القرآن، {مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه. وعلى هذا معنى كونه شفاء، أنه ببيانه يزيل عمى الجهل وحيرة الشك، فهو شفاء من داء الجهل، وقال ابن عباس: يريد شفاء من كل داء، وعلى هذا معناه أن يتبرك به، فيدفع الله به كثيرا من المكاره والمضار. ويؤكد هذا ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» . وقوله: ورحمة للمؤمنين قال ابن عباس: يريد ثوابا لا انقطاع له، يعني فِي تلاوته يرحمهم الله بها، ويثيبهم عليها، ولا يزيد القرآن، الظالمين المشركين، إلا خسارا لأنهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه، فالقرآن سبب لهداية المؤمنين، وزيادة لخسارة الكافرين. 553 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، قَالَ: لَمْ يُجَالِسْ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قَضَاءً مِنَ اللَّهِ الَّذِي قَضَى {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] . قوله: {

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا {83} قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا {84} } [الإسراء: 83-84] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ} [الإسراء: 83] قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، أعرض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله فِي حال البلوى والمحنة. ونأى بجانبه، وتعظم، وتكبر، وبعد نفسه عن القائم بحقوق النعم، ونأى معناه بعد، ونأى بالشيء معناه أبعده، وقرأ ابن عامر وناء مثل ناع، وهذا على القلب مثل رأى وراء، وقرأ حمزة نأى بإمالة الفتحتين، أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة عن الياء التي فِي النأي، أراد أن ينحو نحوها، وأمال فتحة النون لإمالة فتحة الهمزة، وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83] قال ابن عباس: إذا أصابه مرض أو فقر يئس من رحمة الله. وهذا من صفة الجاهل بالله، وذم له بأنه لا يثق بتفضل الله على عباده. قوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] قال الليث: الشاكلة من الأمور ما يوافق فاعله. والمعنى أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند الإنعام واليأس عند الشدة، والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، يدل على هذا قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} [الإسراء: 84] أي: بالمؤمن الذي لا يعرض عند النعمة، ولا ييئس عند المحنة. قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا {85} وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا {86} إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا {87} } [الإسراء: 85-87] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85] الآية. 554 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ فَيَسْتَقْبِلُكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ، فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ

الأَعْمَشِ وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: قالت اليهود لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث، فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: سلوه عن فتيه فقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح. فسألوه عنها، ففسر لهم أمر الفتية فِي { [الكهف وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، وذلك أنه ليس فِي التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكر اسم الروح، وأنزل قوله:] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [سورة الإسراء: 85] . واختلف العلماء فِي ماهية الروح، فقال قوم: إن الروح هو الدم، ألا ترى أن من نزف دمه مات؟ والميت لا يفقد من جسمه إلا الدم. وزعمت طائفة أن الروح هو استنشاق الهواء، ألا ترى أن المخنوق ومن منع من نسيم الهواء يموت. وقال عامة المعتزلة، والنجارية: الروح عرض. إلا ابن الراوندي، فإنه قال: الروح جسم لطيف أسكن البدن. وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى خلق الأرواح من ستة أشياء: من جوهر النور، والطيب، والبقاء، والحياة، والعلم، والعلو ألا ترى أنه ما دام فِي الجسم كان الجسد نورانيا، تبصر العينان، وتسمع الأذنان، ويكون طيبا، فإذا خرج أنتن الجسد ويكون باقيا، فإذا زايله الروح صار فانيا، ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا، ويكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا، ويكون الجسد علويا لطيفا ما دام فِيهِ الروح، فإذا خرج صار سفليا كثيفا، والاختيار من هذه الأقوال أنه جسم لطيف توجد به الحياة، يدل على هذا قوله تعالى فِي صفة الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ} [آل عمران: 169-170] والارتزاق والفرح من صفات الأجسام، والمراد بهذا أرواحهم، لأن أجسامهم بليت فِي التراب، وكذلك ما روي أن أرواح الشهداء تعلق من شجر الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وهذا الفعل لا يتأتى من العرض. 555 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أُبَيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ طُفَيْلٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي طُفَيْلُ بْنُ زَيْدٍ، نا أَبُو عُمَيْرٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَعَّابُ، نا نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، نا سُلَيْمَانُ بْنُ رَافِعٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الإِنْسَانِ؛ مَاتَ الْجَسَدُ، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى، فَلا يُطِيقُ الْكَلامَ؛ لأَنَّ الْجَسَدَ جِرْمٌ، وَالرُّوحُ يُصَوِّتُ مِنْ جَوْفِهِ وَيَتَكَلَّمُ، فَإِذَا فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ؛ صَارَ الْجَسَدُ صُفْرًا، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ، يَبْكُونَهُ، وَيُغَسِّلُونَهُ وَيَدْفِنُونَهُ، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أَنَّ الرِّيحَ إِذَا دَخَلَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ سَمِعْتَ لَهُ دَوِيًّا، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ تَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا، وَكَذَلِكَ الْمَزَامِيرُ، فَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ

رِيحَهَا، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، حَتَّى إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةُ الأُولَى؛ رُفِعَ الْعَذَابُ وَكَانَتِ الأَرْوَاحُ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ، وَرُفِعَ الْعَذَابُ عَنِ الْكُفَّارِ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فَأَشْيَاءُ تَفْنَى وَيَبْقَى وَجْهُ اللَّهِ الْكَرِيمِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ضَرْبٌ مِنَ التَّكَلُّفِ؛ لأَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، أَبْهَمَ عِلْمَ ذَلِكَ قال عبد الله بن بريدة: ما يبلغ الجن والإنس والملائكة والشياطين علم الروح، ولقد مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدري الروح. وقال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله به أحدا من خلقه، ولم يعط علمه أحدا من عباده. فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي: من علم ربي، أي أنكم لا تعلمونه، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] أي: بالأضافة إلى علم الله تعالى، وذلك أن اليهود تذكر كل شيء بما فِي كتبهم، فقال الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] وقال الزجاج: ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، وذلك حين لم يعرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يبين الله له ذلك، قال له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] يدل على هذا قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] أي: إني أقدر أن آخذ ما أعطيتك، كأنه يقول: لم تؤت إلا قليلا من العلم، ولو شئت أن آخذ ذلك قدرت، قال الزجاج: لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر. 556 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الأَزْدِيُّ، نا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْهُ الصَّلاةُ، وَلَيُصَلِّيَنَّ أَقْوَامٌ لا خَلاقَ لَهُمْ، وَسَيُرْفَعُ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وقوله: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} [الإسراء: 86] أي: لا تجد من تتكل عليه فِي رد شيء منه. {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 87] لكن الله رحمك، فأثبت ذلك فِي قلبك وقلوب المؤمنين، {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء: 87] قال ابن عباس: يريد حيث جعلتك سيد ولد آدم، وختمت بك النبيين، وأعطيتك المقام المحمود. ثم احتج على المشركين بإعجاز القرآن، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {88} وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا {89} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا {90} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ

خِلالَهَا تَفْجِيرًا {91} أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا {92} أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا {93} } [الإسراء: 88-93] {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88] الآية، قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث، حيث قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا. وقال مقاتل: وإن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحداهم أولا، فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] فعجزوا عن ذلك، فتحداهم، فقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فعجزوا، فآيسهم الله عن معارضته بمثل ما أتى به فِي هذه الآية، والمثل الذي طلب منهم كلام له نظم كنظم القرآن فِي أعلى طبقات البلاغة، وقوله: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] الظهير: المعين المظاهر لك. قال ابن عباس: يريد معينا مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الإسراء: 89] تقدم تفسيره فِي هذه ال { [، وقوله:] مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [سورة الإسراء: 89] أي: من الأمثال التي يجب بها الاعتبار، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} [الإسراء: 89] يعني أكثر أهل مكة، إلا كفورا جحودا للحق وإنكارا، وذلك أنهم أنكروا القرآن بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وهو قوله: وقالوا يعني رؤساء مكة، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90] لن نصدقك، {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} [الإسراء: 90] وقرى تفجر بالتخفيف، يقال: فجرت الماء فجرا، وفجرته تفجيرا، والينبوع عين ينبع منها الماء، وذلك أنهم سألوا أن يجري لهم نهرا كأنهار الشام والعراق. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: 91] هذا أيضا كان فيما اقترحوا عليه، {فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ} [الإسراء: 91] تفتحها وتجريها، خلالها وسط تلك الجنة. {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ} [الإسراء: 92] قالوا له: أسقط السماء علينا. قال ابن عباس: يعنون العذاب. كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، وقوله: كسفا جمع كسفة، وهي القطعة، والكسف القطع، ويجوز أن يكون الكسف الشيء المقطوع، كقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الطور: 44] ومن فتح السين فهو جمع كسفة أيضا مثل قطعة وقطع، قال ابن عباس: كسفا قطعا. ومن سكن السين، فمعناه: أسقط السماء علينا قطعة واحدة، وقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] قال قتادة، والضحاك: عيانا. والمعنى: تأتي بهم حتى نراهم

مقابلة، واختاره أبو علي الفارسي، فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرا كالنذير والنكير، ويدل على صحة هذا المعنى قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] . وقال عطاء، ومجاهد: فوجا فوجا. وكل جنس من الناس قبيل، ذكرنا ذلك فِي قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27] . وقوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: من ذهب. قال الزجاج: أصل الزخرف فِي اللغة الزينة، ولا شيء فِي تحسين البيت وتزيينه كالذهب، وكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له قصور من ذهب. وقوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] يقال: رقيت أرقى رقيا ورقيا. قال عبد الله بن أبي أمية: لا أومن بك يا محمد حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فِيهِ، وأنا أنظر، حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وهو قوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93] قال ابن عباس: كتابا من عند رب العالمين إلى فلان وفلان، يصبح عند كل رجل منا يقرؤه. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان ربي وقرئ {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: 93] على الأمر له بأن يقول سبحان ربي، قال ابن عباس: عظم وكرم. {هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: 93] أي أن هذه الأشياء ليست فِي قوى البشر أن يأتوا بها، فلا وجه لطلبكم مني مع أني بشر. قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا {94} قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا {95} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا {96} وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا {97} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا {98} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا {99} } [الإسراء: 94-99] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [الإسراء: 94] قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أن يؤمنوا أي: الإيمان والتصديق، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الإسراء: 94]

البيان والرشاد من الله على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو القرآن، {إِلا أَنْ قَالُوا} [الإسراء: 94] أي: إلا قولهم فِي التعجب والإنكار، {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: 94] وهو أنهم قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وفي إنكارهم كون البشر رسولا اقتضاء أن يبعث إليهم ملك. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} [الإسراء: 95] قال الحسن: قانطين. وقال الكلبي: مقيمين. وقال الزجاج: مستوطنين فِي الأرض. ومعنى الطمأنينة السكون، والمراد ههنا المقام والاستيطان، لأنه يقال: سكن فلان بلد كذا إذا استوطن، وإن كان ماشيا متقلبا فِي حاجاته، وليس يراد السكون الذي هو ضد الحركة، وقوله: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا} [الإسراء: 95] أعلمهم الله تعالى أن الأعدل والأبلغ فِي الأداء إليهم بشر مثلهم، ولو كان فِي الأرض بدل الآدميين ملائكة لنزلنا عليهم ملكا رسولا، وما بعد هذا مفسر فِي آخر { [الرعد. قوله:] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} [سورة الإسراء: 97] قال ابن عباس: من يرد الله هداه، {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ} [الإسراء: 97] قال: ومن يخذله، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء: 97] . يهدونهم من دون الله، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] 557 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ، نا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاه الْبُخَارِيّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد، وَرَوَاه مُسْلِم، عَن عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلاهُمَا، عَن يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ وقوله: {عُمْيًا} [الإسراء: 97] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: لا يرون شيئا يسرهم، {وَبُكْمًا} [الإسراء: 97] لا ينطقون بحجة، {وَصُمًّا} [الإسراء: 97] لا يسمعون شيئا يسرهم. وقال فِي رواية عطاء: يريد عميا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله تعالى، وصما عما مدح الله به أولياءه. وقال مقاتل: هذا حين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فيصيرون عميا بكما صما، لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك. وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء: 97] يقال: خبت النار، تخبو خبوا إذا سكن لهيبها. {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] قال ابن عباس: سعر العذاب عليهم بأشد مما كان. وما بعد هذا مفسر فِي هذه ال { [. ثم

أجابهم على إنكارهم البعث بقوله:] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ} [سورة الإسراء: 99] الآية، المعنى: ألم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض فِي عظمها، قادر على أن يخلق مثلهم، أي: على أن يخلقهم ثانيا، وأراد بمثلهم إياهم، وذلك أن مثل الشيء مساو له فِي حالته، فجاز أن يعبر به عن الشيء نفسه، يقال: مثلك لا يفعل هذا، أي: أنت لا تفعله، ذكرنا هذا عند قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] ونحو هذا قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تم الكلام، ثم قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء: 99] قال ابن عباس: يريد أجل الموت وأجل القيامة. فأبى الظالمون المشركون، إلا كفورا جحودا بذلك الأجل، وهو البعث والقيامة. قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100] قال ابن عباس: لو أنتم، يا معشر المشركين، تملكون خزائن الرزق. {إِذًا لأَمْسَكْتُمْ} [الإسراء: 100] لبخلتم، قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحا وبخلا، وهو خشية الإنفاق. وقال ابن عباس، وقتادة: خشية الفقر والفاقة. وقال السدي: خشية أن تنفقوا فتفتقروا. {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] بخيلا مسيكا، يقال: قتر يقتر، ويقتر قترا، وأقتر إقتارا، وقتر تقتيرا، إذا قصر فِي الإنفاق. ثم ذكر إنكار فرعون آيات موسى عليه السلام، تشبيها بحال هؤلاء المشركين بحاله، وتسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا {101} قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا {102} فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا {103} وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا {104} } [الإسراء: 101-104] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] قال المفسرون: هي الطوفان والجراد والقمل، والضفادع والدم، والعصا، ويده والسنون، ونقص من الثمرات. وقال القرظي بدل السنين والنقص: قلق البحر والطمس. 558 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِه: تَعَالَ، حَتَّى

نَسْأَلَ هَذَا النَّبِيَّ، قَالَ: فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فَقَالَ: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلا تَسْحِرُوا، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ، وَلا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ، خَاصَّةَ يَهُودَ، أَلا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، قَالَ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، دَعَا أَنْ لا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ قوله: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 101] قال ابن عباس: يريد المؤمنين من قريظة والنضير. وإنما أمر بأن يسألهم ليكشف لعامة اليهود، يقول علمائهم: صدق ما أتى به، وأخبر عنه. فيكون ذلك حجة عليهم، وقوله: {إِذْ جَاءَهُمْ} [الإسراء: 101] يعني موسى، {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] قال أبو عبيد، والفراء: هو بمعنى الساحر، كالمشئوم والميمون. ويجوز أن يكون مفعولا من السحر، أي: إنك قد سحرت، فعمل فيك السحر. فقال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء: 102] الآيات، {إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] عبرا ودلالات، وقراءة العامة بفتح التاء، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وكان يقول: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم. فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى. قال الزجاج: الأجود فِي القراءة فتح التاء، لأن علم فرعون بأنها آيات من عند الله أوكد فِي الحجة، فموسى يحتج بما علم هو لا بما علم موسى. وقوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ} [الإسراء: 102] أي أعلمك، مثبورا قال ابن عباس: ملعونا. قال الفراء: المثبور الملعون المحبوس عن الخير، تقول العرب: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك منه، وما صرفك. وقال قتادة: مهلكا. وقال مجاهد: هالكا. وقال أبو عبيدة: المعروف فِي الثبور والهلاك والملعون، هالك. قوله: فأراد يعني فرعون، أن يستفزهم يزعجهم ويخرجهم، يعني موسى وبني إسرائيل، من الأرض أرض مصر، قال الزجاج: أراد إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية، فأغرقه الله وقومه، وأورث بني إسرائيل مساكنهم وديارهم. وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه يفعل به وبالمشركين ما فعل بموسى وعدوه، ثم فعل ذلك، أظهر نبيه على المشركين ورده إلى مكة ظاهرا عليها. وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء: 104] يعني القيامة، {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] قال مجاهد

وقتادة، جميعا: اللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى. والمعنى: جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا، يعني جميع الخلق، المسلم والكافر، والبر والفاجر. قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {105} وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا {106} قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا {108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {109} } [الإسراء: 105-109] {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} [الإسراء: 105] أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين القائم، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ومع الحق نزل، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا} [الإسراء: 105] لمن أطاع بالجنة، {وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105] منذرا مخوفا لمن عصى بالنار. {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] قال الوالبي: فصلناه. وقال السدي: قطعناه آية آية، و { [سورة، ولم ينزله جملة. قال قتادة: كان بين أول القرآن وآخره عشرون سنة. وهو معنى قوله:] لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [سورة الإسراء: 106] قال مجاهد: على تؤدة وترسل. وقال الزجاج: فرقه الله فِي التنزيل ليفهمه الناس. {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} [الإسراء: 106] نجوما بعد نجوم، وشيئا بعد شيء. قل لأهل مكة، آمَنُوا بالقرآن، {أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107] وهذا تهديد، أي: فقد أنذر الله، وبلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاختاروا ما تريدون، {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء: 107] من قبل نزول القرآن، يعني طلاب الدين مثل أبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو. {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 107] القرآن، {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] قال ابن عباس رضي الله عنه: للوجوه، يريد يسجدون بوجوههم وجباههم وأذقانهم. واللام ههنا بمعنى على. ويقولون فِي سجودهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} [الإسراء: 108] بإنزال القرآن، وبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {لَمَفْعُولا} [الإسراء: 108] وذلك أن هؤلاء كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه الكتاب، فلما سمعوا القرآن، سجدوا لله وحمدوه على إنجاز الوعد ببعث الرسول والكتاب. {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] كرر القول، دلالة على تكرر الفعل منهم، وقال عبد الأعلى التيمي: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 107] تلا إلى قوله: {يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] أي: يزيدهم القرآن تواضعا. قوله: {

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا {110} وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا {111} } [الإسراء: 110-111] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] قال ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال وهو ساجد ذات ليلة: ياالله، يا رحمن، فسمعه أبو جهل، وهم لا يعرفون الرحمن، فقال: إن محمدا ينهانا أن نعبد إلهين، وهو يدعو إلها آخر مع الله، يقال له: الرحمن، فأنزل الله {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} [الإسراء: 110] أي: قل يا محمد: ادعوا الله يا معشر المؤمنين، أو ادعوا الرحمن، أي: إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن، قال الزجاج: أعلمهم الله أن دعاءهم الله، ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى واحد، فقال: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الإسراء: 110] . المعنى: أيُّ أسماء الله تعالى تدعوا {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] المخافته الإخفاء، يقال: خفت صوته يخفت خفوتا إذا ضعف، وصوت خفيف، والرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت، والجهر رفع الصوت، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جهر بالقرآن، سب المشركون القرآن، فأمره الله ألا يعرض القرآن لسبهم، ولا يخافت مخافتة لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه، فقال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110] أي: اسلك طريقا بين الجهر والمخافتة. 559 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بُن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: نا وَالِدِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ حَكَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ؛ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِنَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} ، عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا يَسْمَعُونَ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، كِلاهُمَا، عَنْ هُشَيْمٍ

560 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ الْبَكَّائِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخَافِتُ إِذَا قَرَأَ، وَكَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ، وَكَانَ عَمَّارٌ يَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ: لِمَ تُخَافِتُ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي، وَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ تَجْهَرُ؟ فَقَالَ: أُفْزِعُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: لِمَ تَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ؟ قَالَ: تَسْمَعُنِي أَخْلِطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَكُلُّهُ طَيِّبٌ قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] قال قتادة: كذب الله بهذه الآية اليهود والنصارى وأهل القرى عليه. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] ليس له من يشاركه فِي ملكه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] قال مجاهد: لم يخالف أحدا، ولم يبتغ نصر أحد. والمعنى أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير، وهذا معنى قول الزجاج: لم يحتج أن ينتصر بغيره. {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] عظمه عظمة تامة.

سورة الكهف

سورة الكهف مكية، وآياتها عشر ومائة. 561 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْكَهْفِ؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» 562 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلَفٍ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ؛ عُصِمَ مِنْهُ» {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا {1} قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا {3} وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا {4} مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا {5} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا {7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا {8} } [الكهف: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] يعني القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] أي: لم يجعله ملتبسا لا يفهم، ومعوجا لا يستقيم، وهذا معنى قول ابن عباس فِي رواية الوالبي، قال الزجاج: لم يجعل فِيهِ اختلافا، كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . يدل على هذا قوله: قيما قال ابن عباس: مستقيما عدلا. وهذا من التقديم والتأخير، والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا،

وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] قال ابن عباس: لينذر عذابا شديدا. والمعنى: لينذر الكافرين بعذاب شديد، من لدنه من عنده، ومن قبله، وروى أبو بكر، عن عاصم من لدنه بشد الدال إلى الضمة، وبكسر النون والهاء، وهو لغة الكلابيين، وروى أبو زيد، عنهم أجمعين هذا من لدنه فتحوا اللام، وضموا الدال، وكسروا النون، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2] ثوابا عظيما، وهو الجنة. {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 3] مقيمين فِي ذلك الأجر، خالدين فِيهِ. {وَيُنْذِرَ} [الكهف: 4] بعذاب الله، {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] قال الكلبي، والسدي: يعني اليهود والنصارى. وقال محمد بن إسحاق: يعني قريشا فِي قولهم الملائكة بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ} [الكهف: 5] بذلك القول، من علم لأنهم قالوا جهلا وافتراء على الله، {وَلا لآبَائِهِمْ} [الكهف: 5] الذين قالوا ذلك، {كَبُرَتْ كَلِمَةً} [الكهف: 5] قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة. وكلمة منصوب على التمييز. وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] أي أنها قول بالفم، لا صحة له، ولا دليل عليه، {إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] ما يقولون بذلك القول إلا كذبا. ثم عاتبه على حزنه بفوت ما كان يرجو من إسلامهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] قال جماعة المفسرين: قاتل نفسك. يقال: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدة وجده بالشيء. وقوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] أي: من بعدهم، أي: من بعد توليهم وإعراضهم عنك، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} [الكهف: 6] يعني القرآن، {أَسَفًا} [الكهف: 6] قال ابن عباس: غيظا وحزنا. وفي هذا إشارة إلى نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كثرة الحرص على إيمان قومه حتى يؤدي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف. قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7] بما عليها من الماء والنبات والأشجار، والمعادن من الذهب والفضة وأنواع الجواهر، ويدخل فِي هذا كله ما على الأرض من ذي الروح والجماد، وقوله: لنبلوهم لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى، {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7] هذا أم هذا؟ قال الحسن: أيهم أزهد فِي الدنيا، وأترك لها. وقال مقاتل: أيهم أصلح فِيها: من أوتي من المال فأحسن العمل، أمَّن زهد فيما زين له من الدنيا. ثم أعلم الله عز وجل أنه مبيد ومفن

ذلك كله بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] الصعيد: المستوي من الأرض، والجزر: التي لا نبات فِيها، وقال مجاهد: بلاقع ليس فِيها نبات. وقال عطاء: يريد يوم القيامة، يجعل الله الأرض جرزا ليس فِيها ماء ولا نبات. وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا {12} } [الكهف: 9-12] أم حسبت معناه بل أحسبت، {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} [الكهف: 9] يعني الفتية الذين سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصتهم، والكهف مغارة فِي الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار وقوله: والرقيم زعم كعب، والسدي أن الرقيم اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف. وقال سعيد بن جبير، وابن عباس فِي رواية عطاء: الرقيم الكتاب، وهو لوح كانت فِيهِ أسماؤهم. قال الفراء: ونرى أنه إنما سمي رقيما لأن أسماءهم كانت مرقومة فِيهِ، والرقيم الكتابة. وقوله: {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] قال مجاهد: لم يكونوا بأعجب آياتنا. وقال قتادة: يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. قال الزجاج: أعلم الله أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهم مما شاهد أعجب من قصة أصحاب الكهف. قوله: {إِذْ أَوَى} [الكهف: 10] أي: اذكر لقومك إذا أوى، الفتية يعني: أولئك الشبان، صاروا إلى الكهف، وجعلوه مأواهم، {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف: 10] أي: أعطنا من عندك مغفرة ورزقا، وهيئ لنا وأصلح لنا، من قوله: هيأت الأمر، فتهيأ، {مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] الرُّشْدُ والرَّشدُ والرَّشَادُ نقيض الضلال، أي: أرشدنا إلى ما يقرب منك، والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد. قوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11] قال المفسرون: أنمناهم. والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها. وقوله: {سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] أي: ذات عدد، يعني سنين كثيرة، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف: 12] أيقظناهم بعد نومهم، لنعلم قال المفسرون: لنرى. وذكرنا وجه علم الله فيما يستقبل فِي مواضع. {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] قال قتادة، ومجاهد: أيِ

الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف أحصى عد مدة لبثهم، وعلم ذلك. وكأنه وقع بينهم تنازع فِي مدة لبثهم فِي الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليتبين ذلك ويظهر. قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا {14} هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15} وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا {16} وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا {17} وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا {18} } [الكهف: 13-18] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} [الكهف: 13] خبر الفتية بالحق بالصدق، إنهم فتية أحداث وشباب، {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ثبتناهم على الإيمان. {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: 14] ألهمناهم الصبر، {إِذْ قَامُوا} [الكهف: 14] بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار الذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم، فربط الله على قلوبهم بالصبر واليقين حين قالوا بين يديه: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 14] الآية. وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية، وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى وحده، وأنهم إن دعوا غيره وعبدوه كان ذلك شططا، وهو قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] كذبا وجورا، وأصل الشطط مجاوزة القدر. {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا} [الكهف: 15] هذا من قول الفتية، يعنون الذين كانوا فِي زمان دقيانوس، {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف: 15] عبدوا الأصنام لولا هلا، {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} [الكهف: 15] على عبادتهم، {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] بحجة بينه {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15] فزعم أن له شريك فِي العبادة. قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف: 16] قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا من قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف. قال لهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف: 16] أي: فارقتموهم، وتنحيتم عنهم جانبا، يعني عبدة الأصنام، وما يعبدون أي: اعتزلتم ما يعبدون، إلا الله فإنكم لن تتركوا عبادته، وذلك أنهم كانوا يشركون بالله، فقال: اعتزلتم الأصنام، ولم تعتزلوا الله ولا عبادته. {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16] صيروا إليه، واجعلوه مأواكم، {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف: 16] يبسطها عليكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16] قال ابن عباس: يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر وبالرفق واللطف. وكل ما ارتفقت به فهو مرفق، ويقال فِيهِ أيضا: مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، كقراءة أهل المدينة، وهما لغتان في مرفق اليد والأمر، قال الفراء: وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر، ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب أيضا الميم فِيهمَا لغتان، وكأن الذين فتحوا الميم أرادوا أن يفرقوا بين

المرفق، والأمر المرفق من الإنسان. قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} [الكهف: 17] أي: لو رأيتها، لرأيت كما ذكر الله تعالى {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17] تنتحي وتميل عنهم، ومعنى التزاور التمايل، من الزور والأزور، وقراءة أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر تزور، وقال الأخفش: لا يوضع الازورار فِي هذا المعنى، وإنما يقال: هذا مزرو عني، أي منقبض. وقوله: {ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف: 17] أي: ناحية اليمين، {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} [الكهف: 17] قال الأخفش، والزجاج، وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم. تقول لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول المجيب: إنما قرضته ذات الشمال، إذ مر به وتجاوز عنه. قال الكلبي: يقول: إذا طلعت الشمس مالت عن كهفهم ذات اليمين، يعني يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، يعني شمال الكهف، لا تصيبه. وكان كهفهم نحو بنات نعش، فِي أرض الروم، أعلم الله تعالى أنه بوأهم فِي مقناة من الكهف، مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا فِي متسع من الكهف، ينالهم فِيهِ برد الريح ونسيم الهواء، فقال: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17] أي: من الكهف، والفجوة متسع فِي مكان، ذَلِكَ أي: ذلك التزاور والقرض، {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 17] من دلائل قدرة الله ولطفه بأصحاب الكهف، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17] أشار إلى أن الله تعالى هو الذي تولى هداية أصحاب الكهف، ولولا ذلك لم يهتدوا، فالمهتدي من هداه الله تعالى كهؤلاء، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا {17} } [الكهف: 17-17] كدقيانوس الكافر وأصحابه. قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا} [الكهف: 18] أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا، جمع يقظ ويقظان، {وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] نائمون، مصدر سمي به، كما يقال: قوم ركوع وسجود. قال الكلبي: إنما يحسبون أيقاظا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن لهم فِي كل عام تقليبتين. وقوله: وكلبهم قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: أنهم هربوا من ملكهم ليلا، فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم، ومعه كلبه. قال كعب: مروا بكلب، فتبعهم، فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي، أنا أحب أولياء الله، فناموا حتى أحرسكم. وقال أبو عبيد بن عمير: كان ذلك كلب صيدهم. وقوله: {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وهو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين، كافتراش السبع، وقوله: {بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18] قال ابن عباس،

والمفسرون: يعني فناء الكهف. قال أبو عبيدة، وأبو عبيد: الوصيد فناء البيت. {لَوِ اطَّلَعْتَ} [الكهف: 18] أي أشرفت، {عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] لأدبرت وانقلبت، {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18] فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل عليهم أحد. 563 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، تَعَالَى، فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلاءِ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فَبَعَثَ رِجَالا، فَقَالَ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْكَهْفَ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ وفي قوله: ولملئت قراءتان: التشديد والتخفيف، والاختيار التخفيف، لأنهم يقولون: ملأني رعبا. ولا يكادون يقولون: ملَّأني. قوله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا {19} إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا {20} وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا {21} } [الكهف: 19-21] وَكَذَلِكَ أي: وكما فعلنا بهم ما ذكر، بعثناهم أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، ليتساءلوا بينهم ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف فِي مدة لبثهم، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله تعالى فِي آخر النهار. ولذلك قالوا: يوما، فلما رأوا الشمس قالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] ، وكان قد بقي من النهار بقية، {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] قال ابن عباس: هو تمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله. {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف: 19] الورق الفضة، مضروبة وغير مضروبة. يقال: وَرِقٌ وَوَرْقٌ، وإنما قال هذه لأنه عنى بالورق الدراهم أو الفضة، قال ابن عباس: وكانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان فِي زمانهم.

وقوله: إلى المدينة يعني دقسوس، وهي مدينتهم، ويقال: هي اليوم طرسوس، {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] قال عطاء، وسعيد بن جبير: أحل الذبائح، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا، وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم لا تتبع طعاما فِيهِ ظلم ولا غصب. {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] بما تأكلونه، وليتلطف وليدقق النظر، وليحتل حتى لا يطلع عليه، {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] قال ابن عباس: لا يخبرن بكم، ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة. قوله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف: 20] يشرفوا ويطلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم، يرجموكم يقتلوكم بالرجم، وهو من أخبث القتل، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20] قال ابن عباس: يردوكم إلى دينهم، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] أي: إن رجعتم إلى دينهم لم تسعدوا فِي الدنيا ولا فِي الآخرة. قوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] قال المفسرون: إن الفتية لما هربوا من ملكهم، ودخلوا الكهف، أمر الملك أن يسد عليهم باب الكهف، ويدعوهم كما هم فِي الكهف ليموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم فِي لوح من رصاص، وجعلاه فِي تابوت من نحاس، وجعلا التابوت فِي البنيان الذي بنوا على باب الكهف، وقالوا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلموا خبرهم حين يقرأون هذا الكتاب. ثم انقرض أهل ذلك الزمان، وخلفت بعدهم قرون، وملوك كثيرة، وملك أهل تلك البلاد رجل صالح، يقال له: تندوسيس. وتحزب الناس فِي ملكه أحزابا، منهم من يؤمن بالله تعالى، ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب، فكبر ذلك على الملك الصالح، وشكا إلى الله تعالى، وتضرع، وقال: أي رب، اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم أن البعث حق، وأن الساعة آتية {لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] . فألقى الله فِي نفس الرجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف، فيبني منه حظيرة لغنمه، ففعل ذلك، وبعث الله الفتية من نومهم، فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما، فاطلع الناس على أمرهم، وبعثوا إلى الملك الصالح يعلمونه الخبر ليعجل القدوم عليهم، وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله فِي ملكه آية للعالمين، فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاث مائة سنة، فلما بلغه الخبر، حمد الله، وركب، وركب معه أهل مدينته حتى أتوا مدينة أصحاب الكهف، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] أي: وكما أنمناهم وبعثناهم أعثرنا أطلعنا وأظهرنا، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الكهف: 21] بالبعث والثواب والعقاب، حق وأن القيامة لا شك فيها {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف: 21] تنازع أهل ذلك الزمان فِي قدر مكثهم فِي الكهف، وفي عددهم، وفيما يفعلون بعد أن اطلعوا عليهم، فقال الله تعالى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21] بشأنهم وعددهم، وقال مشركو ذلك الوقت: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف: 21] يعني: استروهم من الناس بأن تجعلوه وراء ذلك البنيان، كما يقال: بني عليه جدارا، إذا حوطه وجعله وراء الجدار. {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف: 21] وهم المؤمنون الذين لم يشكوا فِي البعث، الملك وأصحابه: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] ذكر فِي القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا، وجعل عنده عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة، قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم، غلب المؤمنون بالبعث والنشور، لأن المساجد للمؤمنين. قوله: {

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22] {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] أخبر الله تعالى أنه سيقع نزاع فِي عددهم، ثم وقع ذلك لما وفد نصارى نجران إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية منهم: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] الرجم: القول بالظن والحدس، وذلك أنه رمى الظن إلى ذلك الشيء، والمعنى: ظنا من غير يقين، كأنهم يرجمون القول فيهم بالغيبة عنهم، وإنما حذفت الواو من الجملتين المتقدمتين، لأن الذي فِيهمَا من الضمير يعقدهما بما قبلهما عقد الاتباع، لا سيما وقد ظهرت الواو فِي الجملة الثالثة، فدل ذلك على أنها مرادة فِي الجملتين المتقدمتين. قال أبو على الفارسي، قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، و {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، جملتان استغني عن حرف العطف فِيهمَا بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى، وهو قوله: ثلاثة، والتقدير هم ثلاثة. وهذا معنى قول الزجاج: دخول الواو في {وَثَامِنْهُمْ} [الكهف: 22] وإخراجها من الأول واحد. وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل. 564 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْشَاذَ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْمُذَكِّرُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الأَرْغِيَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ شِبْلٍ الْبَاهِلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} قَالَ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، وَهُمْ: مَكْسَلْمِينَا، وَتَمْلِيخَا، وَمَرْطُونَسَ، وَبَنْيُونَسَ، وَسَارَيُونَسَ، ودَنْوَانَسَ، وَكينشيطيونسَ، وَهُوَ الرَّاعِي، وَالْكَلْبُ اسْمُهُ قِطْمِيرٌ، كَلْبٌ أَنْمَرُ فَوْقَ الْقَلَطِيِّ وَدُونَ الْكُرْدِيِّ قَالَ

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلَطِيُّ كَلْبٌ زَيْتِيٌّ، وَقَالَ: مَا بَقِيَ بِنَيْسَابُورَ مُحَدِّثٌ إِلا كَتَبَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ إِلا مَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ، قَالَ: وَكَتَبَ عَنِّي أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ، قَالَ الشَّيْخُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَصَدَقَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، فَقَدْ رَأَيْتُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَمْرٍو الْحِيرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْوِيًّا، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ 565 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، عَدَّهُمْ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّبْعَةِ، وَأَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَهُمْ، هُمْ سَبْعَةٌ؛ يَعْنِي: أَصْحَابَ الْكَهْفِ وقوله: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] المراء فِي اللغة الجدال، يقال: مارى يماري مماراة ومراء، أي جادل، والمعنى: لا تقل فِي أمرهم بغير ما أوحي إليك من أنه لا يعلم عددهم إلا القليل، {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} [الكهف: 22] فِي أصحاب الكهف، منهم من اليهود وأهل الكتاب، أحدا قال الفراء: هم فريقان أتوه من نجران: يعقوبي، ونسطوري، فسألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عددهم فنهي. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا {24} } [الكهف: 23-24] وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] قال المفسرون: لما سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن خبر الفتية، قال: غدا. ولم يقل: إن شاء الله. فحبس عنه الوحي حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية، يأمره بالاستثناء بمشيئة الله تعالى، يقول: إذا قلت لشيء إني فاعله غدا، فقل إن شاء الله. قال الأخفش، والمبرد: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله. فأضمر القول، ولما حذف، تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال، وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] الاستثناء بمشيئة الله تعالى، فاذكره وقله إذا تذكرت. قال سعيد بن جبير: إذا قلت لشيء إني فاعله غدا، فنسيت الاستثناء، ثم تذكرت، فقل: إن شاء الله، وإن كان بعد يوم، أو شهر، أو سنة. وقال عمرو بن دينار: له أن يستثني متى ذكر. {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} [الكهف: 24] الآية، قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب إلى الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف. ثم إن الله تعالى فعل به ذلك، حيث أتاه من علم غيوب المرسلين، وخبرهم ما كان أوضح فِي الحجة، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. ثم أخبر عن قدر مدة لبثهم، فقال: {

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا {25} قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا {26} وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا {27} } [الكهف: 25-27] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} [الكهف: 25] يعني من يوم دخلوا الكهف إلى أن بعثهم الله تعالى، وأطلع عليهم الخلق، {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25] قال الفراء، والزجاج، وأبو عبيدة، والكسائي: التقدير سنين ثلاث مائة. وقال أبو علي الفارسي: سنين، بدل من قوله: {ثَلاثَ مِائَةٍ} [الكهف: 25] كما تقول: أعطيته ألفا دراهم، ومائة أثوابا. وقرأ حمزة ثلاث مائة سنين مضافة غير منونة، وهذه قراءة غير جيدة. قال الأخفش: ولا يحسن إضافة المائة إلى السنين، ولا تكاد العرب تقول: مائة سنين. قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين فِي موضع سنة. وقوله: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] يعني تسع سنين، فاستغني عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها. ثم أخبر أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فِيها، فقال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] وقال الكلبي: قالت نصارى نجران: أما الثلاث مائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 26] أي: علم ما غاب فيهما عن العباد، {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] هذا لفظ التعجب، كقولك: ما أبصره وأسمعه! والمعنى: ما أبصر الله بكل موجود! وأسمعه لكل مسموع! وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [الكهف: 26] ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر، ولا يشرك الله، {فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] فلا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم الله به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا لله فِي حكمه، وقرأ ابن عامر ولا تشرك على معنى ولا تشرك أنت أيها الإنسان فِي حكمه أحدا، على النهي عن الإشراك فِي حكمه. {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27] معناه: اتبع القرآن، واعمل به، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] قال ابن عباس: لمواعيده. وقال الزجاج: أي ما أخبر الله به، وما أمر به، فلا مبدل له. وعلى هذا يكون التقدير: لا مبدل لحكم كلماته، {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] قال مجاهد، والفراء: ملجأ. وقال الزجاج: لن تجد معدلا عن أمره ونهيه. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28} وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ

كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا {29} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا {30} أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا {31} } [الكهف: 28-31] قوله: واصبر نفسك الآية،،: 566 - قال أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، إملاء فِي دار السنة يوم الجمعة بعد الصلاة، فِي شهور سنة ست عشرة وأربع مائةأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُسَرِّحِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَذَوُوهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَسْجِدِ، وَنَحَّيْتَ عَنَّا هَؤُلاءِ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ؛ يَعْنُونَ: سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جِبَابُ الصُّفُوفِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا؛ جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأَخَذْنَا عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حَتَّى بَلَغَ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} يَتَهَدَّدُهُمْ بِالنَّارِ فَقَامَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَلْتَمِسُهُمْ، حَتَّى إِذَا أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَعَالَى، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَ رِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَاتُ وهذه الآية مفسرة فِي { [الأنعام إلى قوله:] وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [سورة الكهف: 28] . قال الوالبي، عن ابن عباس: لا تتعداهم إلى غيرهم. وقال الفراء: لا تنصرف عيناك عنهم. وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة. وقوله: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] يعني مجالسة أهل الشرف والغنى، وتريد ههنا فِي موضع الحال، أي مريدا، نهي أن يرفع بصره عن ضعفاء المؤمنين، مريدا مجالسة الأشراف، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا على إيمان الرؤساء، طمعا فِي إيمان أتباعهم، ولم ينسب إلى إرادة زينة الحياة الدنيا، لأنه لم يمل إلى الدنيا قط، ولا إلى أهلها، وإنما كان يلين فِي بعض الأحيان للرؤساء، طمعا فِي إيمانهم، فعوتب بهذه الآية، وأمر بأن يجعل إقباله على فقراء المسلمين، وألا يلتفت إلى غيرهم، وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] قال ابن عباس: يريد عيينة وأشباهه. أي: لا تطعهم فِي تنحية الفقراء عنك ليجلسوا إليك، ومعنى {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]

جعلناه غافلا عن القرآن والإسلام وكلمة التوحيد والإسلام، وروى الضحاك، عن ابن عباس فِي قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} [الكهف: 28] قال: نزلت فِي أميه بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمر كرهه الله من طردا الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله تعالى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد، واتبع هواه قال: يعني الشرك. {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] قال مجاهد: ضياعا. وقال السدي: هلاكا. وأمر فرط: متهاون به، مضيع أصله من التفريط، وهو تقديم العجز. قال الزجاج: ومن قدم العجر فِي أمره أضاعه الله وأهلكه. ومعنى هذا أنه ترك الإيمان والاستدلال بآيات الله واتبع الهوى، وقال الليث: الفرط الأمر الذي يفرط فِيهِ، تقول: كان أمر فلان فرط. ثم أمره بما يقول لهؤلاء الذين أمروه بتنحية الفقراء، وإدناء مجلسهم، ليؤمنوا به، فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف: 29] أي: هذا الحق من ربكم، قال قتادة: يعني القرآن. وقال الزجاج: أي الذي أتيتكم به الحق من ربكم. يعني لم آت به من قبل نفسي، وإنما أتيتكم به من عند الله، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] قال مجاهد، والسدي: هذا وعيد من الله تعالى، وإنذار. وقد بين بعده ما لكل فريق من مؤمن وكافر، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] أي: هيأنا وأعددنا لمن عبد غير الله نارا، {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] السرادق كل ما أحاط بالشيء واشتمل عليه من ثوب أو حائط. 567 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، نا زُهَيْرٌ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا دَرَّاجٌ أَبُو السَّمْحِ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَرَاءَ هَذِهِ الْجُدُرِ، وَهِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ: كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما: 568 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ؛ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ وروى قتادة، والحسن، عن ابن مسعود، " أنه

سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فخلطهما، فأذيبا، حتى إذا أزبدا وانماعا، قال: هذا أشبه شيء فِي الدنيا بالمهل الذي هو شراب أهل النار ". وهذا القول اختيار الزجاج، فقال: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب، أو الصفر، أو الفضة. وقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] قال ابن عباس: يشويها حتى يسقط لحمها فِيهِ. ثم ذمه، فقال: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ} [الكهف: 29] النار، {مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] أي: منزلا ومقرا ومجلسا، ومعنى المرتفق فِي اللغة ما يرتفق به، ثم يسمى الدار والمنزل مرتفقا لأنه مما يرتفق به. ثم ذكر ما وعد المؤمنين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف: 30] أي: لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا، بل نجازيهم بالأعمال الصالحة. قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] قال الزجاج: أساور جمع أ { [، وأسورة جمع سوار، هو زينة تلبس فِي الزند من اليد، وهو من زينة الملوك، يسور فِي اليد ويتوج على الرأس. قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت. وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لو أن أدنى أهل الجنة حلية، عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا، لكان ما يحليه الله به فِي الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» . وقوله:] وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [سورة الكهف: 31] قال المفسرون: السندس نمارق من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وهو اسم أعجمي، أصله الفارسية استبر، فنقل إلى العربية، وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف: 31] الاتكاء التحامل على الشيء، نحو التوكؤ، ومنه قوله تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] والأرائك جمع أريكة، وهو سرير فِي حجلة، قال ابن عباس، ومجاهد: الأرائك السرر فِي الحجال، وهي من ذهب مكللة بالدر والياقوت. {نِعْمَ الثَّوَابُ} [الكهف: 31] قال ابن عباس: طاب ثوابهم وعظم. {وَحَسُنَتْ} [الكهف: 31] الأرائك، {مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31] موضع ارتفاق، بمعنى اتكاء. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا {33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا {34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا {36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا {37} لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي

أَحَدًا {38} وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا {39} فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا {40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا {41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا {42} وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا {43} هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا {44} } [الكهف: 32-44] قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد ابني ملك كان فِي بني إسرائيل، توفي وترك ابنين، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، والآخر كان زاهدا فِي الدنيا، راغبا فِي الآخرة، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، وأخذ به عند الله الجنان والقصور، حتى نفذ ماله، فضربهما الله تعالى مثلا للمؤمن والكافر الذي ابطرته النعمة. وهو قوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 32] الحق الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] . يقال: جعلنا النخل مطيفا بهما، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} [الكهف: 32] بين الجنتين، {زَرْعًا} [الكهف: 32] . ثم أخبر أنهما كانا يؤديان حملهما من نخلهما وأعنابهما، والزرع الذي كان بينهما، قال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] أي: آتت صاحبها أكلها، وهو ما يؤكل منها من الريع، {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] لم تنقص، يقال: ظلمه حقه أي نقصه، وفجرنا خلالهما أنبطنا وأخرجنا وسط الجنتين، {نَهَرًا {33} وَكَانَ لَهُ} [الكهف: 33-34] للأخ الكافر، ثمر قال الوالبي: مال. وقال مجاهد: ذهب وفضة. وقال قتادة: من كل المال. وقرئ ثمر وثمر بضم الثاء وسكون الميم. قال الليث: الثمر حمل الشجر، والثمر أنواع المال، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله، وثمر الله مال فلان كثره. والثمر تخفيف الثمر، مثل عنق وعنق، المفسرون على أن الثمر ههنا الأموال. {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} [الكهف: 34] لأخيه، {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] يراجعه الكلام، ويجاوبه، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] النفر والقوم والرهط معناها الجمع، لا واحد لها من لفظها، قال ابن عباس: يريد كثرة العبيد، وعزه فيهم. وقال قتادة: وتلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر، وهم الخدم والحشم. وقال غيره: يعني عشيرة ورهطا. قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف: 35] قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته، يطوف به فِيها، ويريه إياها، ويعجبه

منها. {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف: 35] بالكفر بالله، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35] أنكر فناء الدنيا، وفناء جنته. وأنكر البعث، والثواب والعقاب، بقوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا، وقيام الساعة، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] الآية، قال ابن عباس: يريد إن كان البعث حقا. {لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] أي: كما أعطاني هذه فِي الدنيا، سيعطيني فِي الآخرة أفضل منه، لكرامتي عليه، ومن قرأ منهما رد الكناية إلى الجنتين اللتين تقدم ذكرهما. فأجابه صاحبه مكفرا له بمال قال {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف: 37] يعني أصل الخلقة، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} [الكهف: 37] أكملك وجعلك معتدل الخلق والقامة. ثم أعلمه أنه موحد، فقال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] وأصله لكن أنا، فخففت الهمزة، وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها، فصار لكن، فأدغموا النون الأولى فِي الثانية، فصار لكن، ومن قرأ لكنا بإثبات ألف أنا، فإنه أثبت الألف فِي الوصل، كما ثبت فِي الوقف على لغة من يقول: أنا قمت، وهو غير مختار فِي القراءة. ثم أقبل على أخيه يلومه، قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39] بمعنى هلا، وتأويله التوبيخ، {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 39] قال الفراء، والزجاج: ما فِي موضع رفع على معنى الأمر {مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 39] . أي: هلا قلت حين دخلتها: الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان، يعني إن شاء إخراب هذه الجنة وإهلاكها، كان ذلك بمشيئته، {لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] قال الزجاج: لا يقوى أحد على ما فِي يديه من ملك ونعمة إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله. ثم رجع إلى نفسه، فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39] أَنَا عماد، وأقل مفعول ثان لترى. {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} [الكهف: 40] قال ابن عباس: فِي الآخرة. {خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف: 40] الحسبان المرامي يرمى بها، قال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمي بها الرجل فِي جوف قصبة، ينزع فِي القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة. والمعنى: يرسل عليها مرامي من عذابه، إما بردا، وإما حجارة، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب، {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أرضا لا نبات فِيها، والزلق المكان المزلقة، والمعنى أنها تصير جرداء لا نبات فِيها. {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا} [الكهف: 41] يعني: النهر الذي فِي خلالها، غورا غائرا ذاهبا فِي الأرض، {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] لا يبقى له أثر بطلبه به. {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] يعني أهلك، وأحيط العذاب بأشجاره ونخيله، فأصبح الكافر، {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] قال ابن عباس: يضرب يديه واحدة على الأخرى. وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا، فصار عبارة عن الندم، {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] فِي جنته، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} [الكهف: 42] ساقطة، {عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] سقوفها، وما عرش بكرومها، {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42] أخبر الله أنه سلبه ما أنعم عليه فِي الدنيا، فندم حين لم تنفعه الندامة، وتمنى أنه كان موحدا غير مشرك. قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف: 43] قال ابن عباس: لم ينصره النصر الذين افتخر بهم فِي قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] . {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 43] بأن يسترد بدل ما ذهب منه،

وضربت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر، فالكافر تغره دنياه، ويتبجح بها، ويظن أنها تبقى له، والمؤمن من صبر على نوائبها، احتسابا بها جميل الآخرة، ولا يركن إليها، لما يعلم من فنائها، وسرعة انقضائها، وقبل ذكر قصة الأخوين، ذكر الله ما أعد للكافرين والمؤمنين. ثم عاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: هنالك قال الكلبي: يقول عند ذلك، وهو يوم القيامة. {الْوَلايَةُ} [الكهف: 44] أكثر القراء على فتح الواو، والولاية نقيض العداوة، ويجوز الكسر فِيها، ذكرنا ذلك فِي { [الأنفال، وقوله: لله الحق من كسر القاف، جعله من وصف الله تعالى، ويدل على صحة هذه القراءة قوله:] وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [سورة النور: 25] وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] ومن ضم القاف، جعله من وصف الولاية، وحجته قراءة أُبَيٍّ هنالك الولاية الحق لله قال ابن قتيبة: يريد يومئذ يتولون الله تعالى ويؤمنون به، ويتبرءون مما كانوا يعبدون. وذهب آخرون إلى أن الولاية ههنا بمعنى تولى الأمر، لا إلى معنى الموالاة، فقالوا: معنى الآية فِي ذلك الموطن الذي هو موطن الجزاء، لا يتمكن أحد من نصر أحد، بل الله تعالى يتولى ذلك، فينصر المؤمنين، ويخذل الكافرين، لا يملك ذلك أحد من العباد، فالولاية يومئذ تخلص له، كما قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] . وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} [الكهف: 44] يقول: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، على تقدير لو كان يثيب غيره، هو خير ثوابا، وخير عقبا أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير عقب طاعة وإثابة، ثم حذف المضاف إليه. قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا {45} الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا {46} } [الكهف: 45-46] واضرب لهم يعني قومك، {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] وهذا مفسر فِي { [يونس إلى قوله:] فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} [سورة الكهف: 45] وهو الكسير المتفتت، والهشم الكسر، والهشيم ما تكسر وتحطم من يبس النبات، {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] الذرو: حمل الريح الشيء، ثم تنشره وتفرقه، يقال: ذرته الريح تذروه. قال المفسرون: ترفعه وتفرقه. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الكهف: 45] من الإنشاء والإفناء، {مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] قادرا على إنشاء النبات ولم يكن، ثم أفناه. قوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46] الآية، هذا رد على

الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء، أخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به فِي الحياة الدنيا، لا مما ينفع فِي الآخرة، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] يعني ما يأتي به سلمان، وصهيب، وفقراء المسلمين، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهذا قول ابن عباس فِي رواية عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. 569 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، نا كَثِيرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: خُذُوا جُنَّتَكُمْ، قَالُوا: أَحَضَرَ عَدُوٌّ؟ قَالَ: خُذُوا جُنَّتَكُمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلا إِلَهَ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُقَدِّمَاتُ وَهُنَّ الْمُنْجِيَاتُ وَهُنَّ الْمُعَقِّبَاتُ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ 570 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْوَرَّاقُ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ، نا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، نا عِكْرِمَةُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ اللَّيْلِ أَنْ تُكَابِدُوهُ، وَعَنِ الْعَدُوِّ أَنْ تُجَاهِدُوهُ فَلا تَعْجَزُوا عَنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَتَوَلُّوهَا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: هِيَ الأَعْمَالُ الصَّالِحَاتِ وَجَمِيعُ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ: كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ؛ فَقَالَ: هِيَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَبْقَى ثَوَابُهُ وقوله: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} [الكهف: 46] قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد أفضل ثوابا، وأفضل أملا من المال والبنين. قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا {47} وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا {48} وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا {49} } [الكهف: 47-49]

ويوم أي: وأذكر يوم تسير الجبال من وجه الأرض كما يسير السحاب فِي الدنيا، ثم يكسر، فيعود فِي الأرض، كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا {5} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا {6} } [الواقعة: 5-6] وقرئ نسير الجبال على بناء الفعل للفاعل، وهذه القراءة أشبه بما بعده من قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ} [الكهف: 47] ، وقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي: ظاهرة ليس عليها شيء من جبل أو بناء أو شجر، وحشرناهم يعني المؤمنين والكافرين، فلم نغادر لم نترك ولم نخلف، {مِنْهُمْ أَحَدًا {47} وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} [الكهف: 47-48] يعني المحشورين، صفا مصفوفين، كل زمرة وأمة صف، لقد جئتمونا أي: فيقال لهم: لقد جئتمونا، {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] قال ابن عباس: حفاة عراة. وقال الزجاج: أي بعثناكم وأعدناكم ثانيا كما خلقناكم، لأن قوله: لقد جئتمونا معناه بعثناكم. بل زعمتم خطاب لمنكري البعث خاص، معناه: بل زعمتم فِي الدنيا، {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 48] للبعث والجزاء. ووضع الكتاب يعني كتاب أعمال الخلق، والكتاب اسم الجنس فيعم، والمعنى: وضع كتاب كل امرئ فِي يمينه أو شماله، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} [الكهف: 49] يريد المشركين، {مُشْفِقِينَ} [الكهف: 49] خائفين، مما فيه من الأعمال السيئة، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف: 49] لوقوعهم فِي الهلكة، يدعون بالويل على أنفسهم، {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [الكهف: 49] قال ابن عباس فِي رواية عكرمة: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللحم، والكبيرة الزنا. إلا أحصاها عدها وأثبتها وكتبها، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49] مكتوبا مثبتا ذكره فِي الكتاب، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] لا يعاقبه بغير جرم. ثم أمر نبيه أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء، قصة إبليس، وما أورثه الكبر، فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا {50} مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا {51} وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا {52} وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا {53} } [الكهف: 50-53] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [الكهف: 50] إلى قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] قال ابن عباس فِي رواية عطاء: إن ملائكة السماء الدنيا يقال لهم الجن. مثل قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] يعني حين قالوا: الملائكة بنات الله تعالى. وقال شهر بن حوشب: قال ابن عباس: كان إبليس من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن. وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] خرج من طاعة ربه إلى معصيته فِي ترك السجود، قال الفراء: والعرب تقول:

فسقت الرطبة من قشرها لخروجها منه. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 50] قال قتادة، والحسن: يعني أولاده، يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وكان مجاهد يذكر من ذريته: زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق، وثبر صاحب المصائب، والأعور صاحب أبواب الزنا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس لا يوجد لها أصل، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسم ولم يذكر الله تعالى، يضره من المتاع ما لم يرفع ولم يوضع فِي موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله تعالى، أكل معه، فهؤلاء ذريته. وروى ليث، عن مجاهد، قال: ذريته الشياطين. وقوله {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] قال الكلبي: ليس يصلون له، ولا يصومون، ولكن من أطاع شيئا فقد عبده. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50] قال الحسن: بئس ما استبدلوا نعمة ربهم، إذا أطاعوا إبليس، فبئس ذلك بدلا لهم. قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} [الكهف: 51] أي: ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته، {خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 51] يعني أنه لم يشاورهم فِي خلقهم، بل خلقهما وخلقهم على ما أراد وقدر من غير مشاورة لهم، وهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، يدل على هذا قوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] أي: الشياطين الذين يضلون الناس عضدا، قال قتادة: أعوانا يعضدونني عليه. والعضد كثيرا ما يستعمل فِي معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي سنعينك ونقويك به، ووحد العضد، لوفاق الفواصل. قوله: ويوم يقول قال ابن عباس: يريد يوم القيامة، يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي. وهو قوله: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: 52] فلم يجيبوهم، لأنهم كانوا جمادا، وجعلنا بينهم بين المؤمنين والكافرين، {مَوْبِقًا} [الكهف: 52] ذكر فِي التفسير أنه اسم واد عميق، فَرَّقَ الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وهو قول مجاهد، وقتادة، ونوف البكالي. قال ابن الأعرابي: وكل حاجز بين الشيئين فهو موبق. قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: مهلكا. قال الفراء: يقول: جعلنا تواصلهم فِي الدنيا موبقا، أي مهلكا لهم فِي الآخرة. والبين على هذا القول معناه التواصل، كقوله: لقد تقطع بينكم فِي قراءة من قرأ

بالرفع، والمعنى: أن تواصلهم وتعاونهم ومخالتهم فِي الكفر واجتماعهم على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسبب هلاكهم فِي الآخرة، يقال: وبق وبقا يوبق فهو وبق، ذكره الفراء فِي المصادر، قال: وحكى الكسائي وبق يبق وبوقا فهو وابق، قال ولم أسمعها. قوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53] قال ابن عباس: يريد المشركين، رأوها وهي تتلظى حنقا عليهم. فظنوا علموا وأيقنوا، {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] واردوها وداخلوها، ومعنى الواقعة الملابسة للشيء بشدة، {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] لأنها أحاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على العرب، ولا على الرجوع عنها، المصرف الموضع الذي يصرف إليه. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا {54} وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا {55} وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا {56} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا {57} وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا {58} وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا {59} } [الكهف: 54-59] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54] مفسر فِي { [بني إسرائيل، وقوله:] وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} [سورة الكهف: 54] قال ابن عباس: يريد النضر بن الحارث وجداله فِي القرآن. وقال الكلبي: يعني أبي بن خلف. وقال الزجاج: معناه كان الكافر يدل عليه قوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56] . قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [الكهف: 55] يعني أهل مكة، أن يؤمنوا أي الإيمان، {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الكهف: 55] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءهم من الله تعالى بالرشاد والبيان، ويستغفروا ربهم عطف على أن يؤمنوا، {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف: 55] وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا، يقول: لقد قدرت على هؤلاء العذاب، فذلك الذي يمنعهم عن الإيمان، وهذه الآية فيمن قتلوا من المشركين ببدرٍ وأحدٍ، وهو قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} [الكهف: 55] أي: عيانا مقابلة، وقرأ أهل الكوفة قبلا جمع قبيل، أي: صنفا صنفا. وقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56] قال ابن عباس: يريد المستهزئين والمقتسمين. وأتباعهم وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم على ما كانوا يقترحون، {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] ليبطلوا به ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقال: دحضت

حجته، أي بطلت، وأدحضت حجته إذا أبطلتها. وقوله: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} [الكهف: 56] يعني القرآن، {وَمَا أُنْذِرُوا} [الكهف: 56] وما خوفوا به من النار والقيامة، هزوا مهزوا به. قوله: ومن أظلم استفهام معناه التقرير، أي: لا أحدا ظلم، {مِمَّنْ ذُكِّرَ} [الكهف: 57] وعظ، {بِآيَاتِ رَبِّهِ} [الكهف: 57] بالقرآن وما فِيهِ من الوعيد، فأعرض عنها تهاونا بها، {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] يعني ما سلف من ذنوبه، وما بعد هذا مفسر فِي { [الأنعام،] وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} [سورة الكهف: 57] إلى الإيمان والقرآن، {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57] قال الزجاج: أخبر الله تعالى أن هؤلاء أهل الطبع على قلوبهم. {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} [الكهف: 58] الغافر الساتر على عباده، {ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] حين لم يعاجلهم بالعقوبة، وهو قوله: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} [الكهف: 58] للبعث والحساب، {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا} [الكهف: 58] منجى وملجأ، قال: وأل يئل وألا، إذا نجا. قوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} [الكهف: 59] يعني أهلها، ولذلك قال: أهلكناهم قال ابن عباس: يريد ما أهلك بالشام واليمن. لما ظلموا أشركوا، وكذبوا الأنبياء، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ} [الكهف: 59] يجوز أن يكون المهلك ههنا مصدرا، ويجوز أن يكون وقتا، والمعنى: جعلنا لإهلاكهم، أو لوقت إهلاكهم، ومن قرأ لمهلكهم بفتح الميم وكسر اللام كان المعنى لوقت هلاكهم، ومن قرأ بفتحها، فهو مصدر مثل الهلاك، وقوله: موعدا أي: وقتا وأجلا. قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا {60} فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا {61} فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا {62} قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا {63} قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا {64} فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {66} قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا {68} قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا {69} قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا {70} } [الكهف: 60-70] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] الآية. 571 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَّالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ

مُوسَى: يَا رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ، فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ، وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ، قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ، حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحَرِ عَجَبًا} ، قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرِبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} ، قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنِّي بِأَرْضِكَ السَّلامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، تَعَالَى، لا تَعْلَمُه، عَلَّمَنِيهِ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَ لا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، {فَانْطَلَقَا} يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ قَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، لَمْ يُفَاجَأْ إِلا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} ، قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ؟ قَالَ: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيت وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلا مِثْلُ مَا نَقَرَ هَذَا الْعُصْفُورِ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى، قَالَ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ فَلا إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، قَالَ: مَائِلا، فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} الآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ، حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ كِلاهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ وقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] معناه: واذكر ذلك، لما فِي تلك القصة من العبرة، قوله: لفتاه أجمعوا على أنه يوشع بن نون، قال الفراء: إنما سمي فتى موسى، لأنه كان ملازما له، يأخذ عنه العلم ويخدمه. لا أبرح لا أزال، ومنه قوله: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، قال قتادة: يعني بحر

فارس وبحر الروم، وكان ذلك الموضع الذي وعد موسى للقاء الخضر. وقوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] أي: أسير حقبا، قال الوالبي: دهرا. والحقب عند أهل اللغة ثمانون سنة، والمعنى: لا أزال أسير، وإن احتجت إلى أن أسير حقبا، حتى أبلغ مجمع البحرين. {فَلَمَّا بَلَغَا} [الكهف: 61] يعني موسى وصاحبه، {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] بين البحرين، وهو حيث وعد للقاء الخضر، وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] قال المفسرين: كانا فيما تزودا حوت مملح فِي زبيل، فكانا يصيبان منه الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت ندى البحر، فتحرك فِي المكتل، فانسرب فِي البحر، وقد كان قيل لموسى: تزود معك حوتا مالحا، فحيث تفقد الحوت ثم تجد الرجل العالم، فلما انتهيا إلى الصخرة، قال لفتاه: امكث حتى آتيك، وانطلق موسى لحاجته، فجرى الحوت حتى وقع فِي البحر، فقال قتادة: إذا جاء نبي الله حدثته، فأنساه الشيطان، فذلك قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما نسيه يوشع أن يذكر قصته لموسى، فأضيف النسيان إليهما توسعا، لأنهما جميعا تزودانه، فصار كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم. وقوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] قال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا. وقال الربيع بن أنس: انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار كوة لم يلتئم. والسرب معناه فِي اللغة المحفور فِي الأرض، لا نفاذ له، شبه مسلك الحوت فِي الماء، والماء منجاب عنه بالسرب، كما قال الفراء: لما وقع فِي الماء جمد مذهبه فِي البحر، فكان كالسرب. {فَلَمَّا جَاوَزَا} [الكهف: 62] ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة، وذهب الحوت، انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز الموضع الذي يريده، فدعا بالطعام ليأكل، وهو قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] وهو الطعام الذي يؤكل بالغداء، {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وهو الإعياء من العناء، والفعل نصب ينصب. فلما قال له موسى ذلك، تذكر قصة الحوت، فقال لموسى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] يعني: حين نزلا هناك، {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] أن أحدثكه، ثم اعتذر فقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وذلك أنه لو ذكر لموسى قصة الحوت عند الصخرة، ما جاوزها موسى، وما ناله النصب الذي اشتكاه، واتخذ الحوت {سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 63] أي: سبيلا عجبا، وهو أن الماء انجاب عنه، وبقي كالكوة لم يلتئم، فلما قال هذا يوشع، ذكر موسى ما كان عهد إليه أنه يدلك عليه بعض زادك. {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] أي: نطلب ونريد من العلامة، {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} [الكهف: 64] رجعا وعادا عودهما على بدئهما فِي الطريق الذي جاءا منه، قصصا يقصان آثارهما قصصا، والقصص اتباع الأثر، ومنه قوله: {قُصِّيهِ} [القصص: 11] . قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف: 65] أي: أدركا الخضر، واسمه بليا بن ملكان، وإنما سمي الخضر

لأنه إذا صلى فِي مكان اخضر ما حوله، {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65] يعني نبوة، {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعطيناه علما من علم الغيب. فقال: {لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي: علما ذا رشد، والرشد والرشد لغتان كالنخل والنخل، قال قتادة: لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجي الله موسى، ولكنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف: 66] الآية. وقال الزجاج: وفيما فعل موسى، وهو من جلة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة فِي ذلك، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه. فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67] قال ابن عباس: لن تصبر على صنيعي، لأني علمت غيب علم ربي. ثم أعلمه العلة فِي ترك الصبر فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] أي: لم تعلمه، والخبر علمك بالشيء، يقول: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر، وأنت لا تعلم باطنه؟ قال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] أصبر على ما أرى منك، {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] لا أخالفك فِي شيء. قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} [الكهف: 70] أي: صحبتني، {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف: 70] مما أفعل مما تنكره، {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] حتى أكون أنا الذي أفسره لك، لأنه قد غاب علمه عنك. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فحملوهما بغير أجرة، فذلك قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {71} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا {73} } [الكهف: 71-73] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف: 71] أي: شقها، قيل: إنه قلع لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وقال منكرا عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] منكرا عظيما، ويقال: أمر الأمر إذا كبر إمرا، والإمر: الاسم منه. فقال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ} [الكهف: 72-73] موسى: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] أي: عقلت عن التسليم لك، وترك الإنكار عليك، ونسيت ذلك. وقال الكلبي: يقول: بما تركت من وصيتك، وعلى هذا القول النسيان بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة. {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] لا تكلفني مشقة، قال أبو زيد: أرهقته عسرا إذا كلفته ذلك. والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر، ولا تضيق علي الأمر فِي صحبتي إياك. قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا {74} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {75} قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا {76} } [الكهف: 74-76] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74] روي فِي حديث أبي بن كعب، أنهما خرجا، حتى لقيا غلاما يلعب مع

الصبيان، فقال به هكذا، كأنه اجتذب رأسه، فقلعه، وأشار عبد الرزاق حين روى هذا الحديث بأصابعه الثلاثة: السبابة، والوسطى، والإبهام وفتحها. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك الغلام كان من أحسن أولئك الغلمان وأصحهم. قال موسى حين رأى ذلك: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] قال ابن عباس، ومجاهد: لم يبلغ الحلم. ومعنى الزكية الطاهرة من الذنوب، وذلك لأنه كان صغيرا لم يبلغ حد التكليف، وقرئ زاكية وهي البريئة من الذنوب، قال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية. وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] يعني: بغير قتل نفس، يعني القود، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] فظيعا منكرا، لا يعرف فِي شرع. فقال الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75] . قال موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ} [الكهف: 76] يعني: سؤال توبيخ وإنكار، بعدها بعد النفس المقتولة، {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] قال ابن عباس: يريد أنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا، وهذا إقرار من موسى بأن الخضر قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده فلا يلزمه ما انكره. وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية، فقال: «لقد استحى نبي الله موسى عندها، ولو صبر، لرأى ألفا من العجائب» . وقراءة العامة بتشديد النون من لدن والأصل لدن، ثم يزاد مع الياء، نحو مني، وعني، ثم يدغم النون الساكنة فِي التي تزاد مع الضمير فيصير لدني مشددا، ومن خفف فإنه لم يلحق النون التي تلحق علامة الضمير فِي نحو ضربني، وقد جمع الشاعر بين اللغتين فِي قوله: قدني من نثر الخبيبين قدني {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا {77} قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {78} أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا {79} وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا {80} فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا

رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا {81} وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {82} } [الكهف: 77-82] قوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77] قال ابن عباس: هي انطاكية. وقال ابن سيرين: الأبلة. استطعما أهلها سألاهم الطعام، {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] روى أبي بن كعب، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «كانوا أهل قرية لئاما» . والتضييف والإضافة بمعنى واحد، فوجدا فيها فِي تلك القرية، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] الإرادة فِي صفة الجدار مجاز، ومعناه: قرب أن ينقض، وذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل، قال الزجاج: والجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئته فِي التهيؤ للسقوط قد ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين. فوصف الإرادة إذ كانت الصورتان واحدة، وأنشد الراعي يصف إبلا: فِي مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفئوس إذا أردن نصولا ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة، يقال: انقض الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء، وقوله: {فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] أي سواه، لأنه وجده مائلا، وفي حديث أبي بن كعب: انتهيا إلى جدار مائل، فدفعه بيده فقام، فقال موسى: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} [الكهف: 77] أي: على إقامته وإصلاحه، أجرا قال الفراء: لو شئت لم تقمه حتى يقرونا، فهو الأجر. وقرأ أبو عمرو لتخذت يقال: تخذ فلان، يتخذ تخذا مثل اتخذ، ألزمت التاء الحرف كأنها أصلية، لما رأوا التاء فِي اتخذ ظنوها أصلية، فقالوا فِي الثلاثي تخذ، كما قالوا: تقي من اتقى. قال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] أي: هذا الكلام والإنكاء علي بترك الأجر، هو المفرق بيننا، قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا، أي هذا فراق اتصالنا، وكرر بين تأكيدا. ولما قال الخضر هذا، أخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدثني بتأويل ما صنعت. فقال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {78} أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 78-79] يعني أن أصحابها كانوا مساكين، لم يكن لهم مال غير تلك السفينة، فكانوا يعملون عليها، يأخذون أجرتها، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] أجعلها ذات عيب، قال مجاهد: أخرقها. {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] قال المفسرون: يعني أمامهم، وراء يكون

بمعنى أمام، كقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] ، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] قال عباد بن صهيب: قدمت الكوفة لأسمع من إسماعيل بن أبي خالد، فمررت بشيخ جالس، فقلت: يا شيخ، كيف أمر إلى منزل إسماعيل بن أبي خالد؟ فقال لي: وراءك. فقلت: أرجع؟ قال: أقول وراءك وترجع؟ فقلت: أليس ورائي خلفي؟ قال: لا. ثم قال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] قال: لو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ولكن كان بين أيديهم. والمعنى: كل سفينة صالحة، وكذا كان يقرأ ابن عباس، وأبي، وحذفت للعلم بها، قال الخضر: إنما خرقتها، لأن الملك إذا رآها متخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها. {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف: 80] وابن عباس، وأبي كانا يقرآن: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] أي: يرهق الغلام أبويه، {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] لذلك قتلناه، قال المفسرون: خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه ويدينا بدينه. 572 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَنِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّجَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا الْقَعْنَبِيُّ، نا الْمُعْتِمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مَصْقَلَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، طُبِعَ كَافِرًا وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي (الصَّحِيحِ) ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ مُطَرِّفٌ: أَيْمُ اللَّهِ، إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّهُمَا فَرِحَا بِهِ يَوْمَ وَلَدَاهُ، وَحَزِنَا عَلَيْهِ يَوْمَ قُتِلَ، وَلَوْ عَاشَ كَانَ فِيهِ مَهْلَكَتُهُمَا، فَالْمُؤْمِنُ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ، تَعَالَى، لِلْمُؤْمِنِ، خَيْرٌ مِنْ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَمَا قُضِيَ لَكَ، يَابْنَ آدَمَ، فِيمَا تَكْرَهُ خَيْرٌ مِمَّا قُضِيَ لَكَ فِيمَا تُحِبُّ، فَاسْتَخِرِ اللَّهَ، تَعَالَى، وَارْضَ بِقَضَائِهِ وقوله: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] يعطيهما الله ولدا بدلا منه، خيرا منه دينا، قاله سعيد بن جبير، وقتادة: وقال الكلبي: خيرا منه صلاحا. والزكاة الصلاح، والزاكي الصالح، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] الرحم والرحم العطف والرحمة، قال ابن عباس، وقتادة: وأوصل للرحم، وأبر بوالديه. قال عطاء، عن ابن عباس: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيا. {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف: 82] يعني القرية المذكورة فِي قوله: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77] ، {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف: 82] قال قتادة: كان ذهبا وفضة. وهو تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما: 573 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

عَبْدُوسٍ الطَّرَائِفِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا يَزِيدُ بْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ، قَالَ: كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ، عَنْ حُسَامِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: كان لوحا من ذهب فِيهِ مكتوبا: عجبا لمن أيقن بالقدر! ثم ينصب عجبا لمن أيقن بالنار! ثم يضحك عجبا لمن يؤمن بالموت! كيف يفرح؟ عجبا لمن يوقن بالرزق! كيف يتعب؟ عجبا لمن يؤمن بالحساب! كيف يغفل؟ عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها! كيف يطمئن إليها؟ أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، وفي الشق الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، وفي الشق الآخر، أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه. وهو قول أكثر أهل التفسير. 574 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّصْرُوِيُّ، أنا أَبُو الْعَلاءِ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الأَهْوَازِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، نا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، نا أَبَانٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ، قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَكْتُوبٌ فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ كَيْفَ يَفْرَحُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ بِزَوَالِ الدُّنْيَا، وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا، ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قال الزجاج: المعروف فِي اللغة أن الكنز إذا أفرد، فمعناه المال المدفون، فإذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز ههنا بالمال أشبه، قال: وجائز أن يكون الكنز مالا، مكتوب فِيهِ علم على ما روي، فهو مال وعلم عظيم من توحيد الله تعالى، وإعلام أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث. وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما

صلاحا. وقال جعفر بن محمد: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. أخبرنا عمرو بن أحمد بن عمر الزاهد، أنا عبد الرحمن بن أحمد بن حمدويه، نا زنجويه بن محمد، نا إسحاق بن منصور المروزي، نا الحسين بن علي، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، قال: إن الله عز وجل ليحفظ بصلاح العبد ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون فِي حفظ الله تعالى ما دام فيهم. وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] قال ابن عباس: أن يكبرا ويعقلا. {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82] وذلك أن الخضر لو لم يقم الجدار لكان ينقض، ويؤخذ ذلك الكنز الذي تحته قبل بلوغ الغلامين الأشد، فأمر الخضر، حتى أقام الجدار، وهو قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] أي: رحمهما الله بذلك رحمة، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] قال ابن عباس: انكشف لي من الله تعالى علم، فعلمت به. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} [الكهف: 82] قال: يريد هذا تفسير {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] . قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا {83} إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا {84} فَأَتْبَعَ سَبَبًا {85} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا {86} قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا {87} وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا {88} ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا {89} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا {90} كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا {91} } [الكهف: 83-91] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83] الآية، ذكرنا أن اليهود سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجل طواف، بلغ شرق الأرض وغربها، هذه الآية من جوابهم، واختلفوا فِي ذي القرنين، فقال: مجاهد: كان نبيا. وهو قول عبد الله بن عمرو، وقال علي رضي الله عنه: كان عبدا صالحا، أحب الله، فأحبه الله تعالى، وناصح الله تعالى، فنصحه الله تعالى. وروي ذلك مرفوعا: أنه كان غلاما من الروم، أعطي ملكا، قال الزهري: وإنما سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها، وقرنها من مطلعها. واختار الزجاج هذا القول، فقال: يجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قطري الأرض، مشرق الأرض ومغربها. وقال أبو الطفيل: أمر قومه بتقوى الله تعالى، فضربوه على قرنه فمات، فبعثه الله، ثم أمرهم بتقوى الله، فضربوه على قرنه الآخر فمات، ثم بعثه الله تعالى، فسمي ذا القرنين. وهذا القول يرويه أبو الطفيل،

عن علي رضي الله عنه. وقوله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] أي: خبرا يتضمن ذكره. قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 84] قال علي: سخر الله له السحاب، فحمله عليها، ومد له فِي الأسباب، وبسط النور له، فكان الليل والنهار عليه سواء. وهذا معنى تمكينه فِي الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فِيها، وذلل له طرقها وحزونها، حتى تمكن منها إن شاء، {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] قال قتادة، والوالبي، عن ابن عباس: علما يتسبب به إلى ما يريد. وكل ما وصل شيئا إلى شيء فهو سبب. وقوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] قال المفسرون: طريقا. والمعنى: طريقا يؤديه إلى مغرب الشمس، وقال الزجاج: فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي، وذلك أنه أوتي من كل شيء سببا، فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي سببا فِي المسير إلى المغرب. والقراءة الجيدة فاتبع وقرئ فأتبع بقطع الألف، ومعناه لحق، كقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] . قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود المنتن، وهذه قراءة ابن عباس، وقراءة ابن الزبير، وابن مسعود حامية من غير همز، وهي فاعلة من حميت، فهي حامية، أي حارة. 575 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَادِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَعْدٍ، سَمِعَ ابْنَ حَاضِرٍ يَقُولُ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، وَقَالَ عَمْرٌو: فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ، فَسَأَلُوا كَعْبًا فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: تَغْرُبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَلا أُعِينُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: قَالَ تُبَّعٌ: قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَمْرٌو مُسْلِمًا ... مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَسْجُدُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ

فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَغِيبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ قوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف: 86] أي: عند العين، {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 86] قال ابن الأنباري: إن كان ذو القرنين نبيا، فإن الله قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي، ومن قال: لم يكن نبيا، قال: معنى قلنا ألهمنا، لأن الإلهام ينوب عن الوحي كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7] أي ألهمناها. وقوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} [الكهف: 86] الآية، قال المفسرون: يريد إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه، وإما أن تأسرهم، فتعلمهم الهدي، وتبصرهم الرشاد. قال قتادة: قضى فيهم بقضاء الله، وكان عالما بالسياسة. فقال: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} [الكهف: 87] قال ابن عباس: أشرك. {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف: 87] نقتله إذا لم يرجع عن الشرك، {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} [الكهف: 87] بعد قتلي إياه، {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف: 87] يعني فِي النار. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 88] قال الفراء: الحسنى الجنة. وأضيف الجزاء إليها، وهي الجزاء، كما يقال: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] ، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109] وقرأ أهل الكوفة فله جزاء نصبا، وهو مصدر وقع موقع الحال، المعنى: فله الحسنى جزاء مجزيا بها، وقال ابن الأنباري: جزاء نصب على المصدر. المعنى: فيجزى الحسنى جزاء، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88] قولا جميلا. قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا {92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا {93} قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا {94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا {95} آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا {96} فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا {97} قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا {98} } [الكهف: 92-98] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89] إخبار عن ذي القرنين أنه سلك طريقا يوصله إلى المشرق. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90] قال الحسن، وقتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، لأنهم كانوا فِي مكان لا يستقر عليه البناء. وقال الكلبي: كانوا حفاة عراة، يفرش أحدهم أذنه، ويلبس الأخرى. وقوله:

كَذَلِكَ أي: وجد قوما كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس، وأن حكمهم حكم أولئك، {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف: 91] علمنا ما كان عنده من الجيوش والعدة. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 92] ثالثا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض. وهو قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدينِ وقرئ بفتح السين، قال ابن الأعرابي: كل ما قبلك فسد ما وراءه فهو سد وسد، نحو الضعف والضعف، والفقر والفقر. قال ابن عباس: وهما جبلان، سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن سواهم. {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} [الكهف: 93] يعني: أمام السدين، {قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} [الكهف: 93] لا يعلمونه، لأنهم لا يعرفون غير لغتهم، وقرئ بضم الياء، والمعنى: لا يكادون يفقهون أحدا قولا، فحذف أحد المفعولين، قال ابن عباس: لا يفهمون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم. {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} [الكهف: 94] أكثر أهل العلم على أن هذين اسمان أعجميان، مثل: طالوت وجالوت، وهاروت وماروت، لا ينصرفان للتعريف والعجمة، والقراءة فِيهمَا بترك الهمز وقرأ عاصم بالهمز، قال الليث: الهمز لغة رديئة. وقال ابن الأنباري: وجه همزه، وإن لم يعرف له أصل، أن العرب قد همزت حروفا لا يعرف للهمز فِيها أصل، مثل: لبأت ورثأت، واسنشأت الريح، وإذا كان هذا معروفا فِي أبنية العرب، كان مقبولا فِي الألفاظ التي أصلها للعجم. 576 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ الْمُسْتَفَاضِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ: يَأْجُوجُ أُمَّةٌ، وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُ مِائَةِ أُمَّةٍ، لا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ، كُلٌّ قَدْ حَمَلَ السِّلاحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ ثَلاثُ أَصْنَافٍ، صِنْفٌ مِنْهُمْ أَمْثَالُ الأَرُزِّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الأَرُزُّ؟ قَالَ: شَجَرٌ بِالشَّامِ، طُولُ الشَّجَرَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ فِي السَّمَاءِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ؛ عِشْرُونَ وَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ لا يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ، وَلا حَدِيدٌ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ أُذُنَهُ وَيَلْتَحِفُ بِالأُخْرَى، وَلا يَمُرُّونَ بِفِيلٍ وَلا وَحْشٍ وَلا جَمَلٍ وَلا خِنْزِيرٍ إِلا أَكَلُوهُ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَكَلُوهُ، مُقَدَّمِتَهُمْ بِالشَّامِ، وَسَاقَتُهُمْ بِخُرَاسَانَ، يَشْرَبُونَ أَنْهَارَ الْمَشْرِقِ، وَبُحَيرة طَبَرِيَّةَ وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: منهم من طوله شبر، ومنهم من طوله مفرط فِي الطول، ولهم مخالب فِي الأظفار من أيدينا، وأنياب كأنياب السباع، ولهم هلب من الشعر فِي أجسادهم، يواريهم من الحر والبرد.

وقال وهب: هم من ولد يافث بن نوح أبو الترك. وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت تغير، فجاء ذو القرنين، فضرب السد فبقيت خارجه. وقال قتادة: إن ذو القرنين بنى السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد، فهم الترك. وقال كعب: هم نادرة فِي ولد آدم، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم. وقال ابن عباس رضي الله عنه فِي رواية عطاء: هم عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء. قوله: {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 94] قال قتادة: هما حيان حياة سوء، كانا أهل بغي وظلم على من جاورهما. وقال الكلبي: كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين أيام الربيع، فلا يدعون فِيها شيئا أخضر إلا أكلوه. {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الكهف: 94] وقرئ خراجا قال ابن عباس: يريد جعلا. قال الليث: الخرج والخراج واحد، وهو شيء يخرجه القوم من مالهم بقدر معلوم. والمعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك؟ {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا {94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] قراءة العامة بنون واحدة مشددة، فأدغموا الأولى فِي الثانية لاجتماعهما كقوله: {لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] وقرأ ابن كثير بنونين من غير ادغام، لأنهما من كلمتين، والنون الثانية غير لازمة، لأنك تقول: مكنتك، والمعنى أن ذا القرنين قال: ما مكني الله فِيهِ من الاتساع فِي الدنيا، خير من خرجكم الذي تبذلونه لي، قال ابن عباس: يريد ما أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم. وقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] قال: يريد بقوة الأبدان. قال الزجاج: بعمل تعملونه معي. {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95] سدا وحاجزا، والردم سد الباب والثلمة. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] قال ابن عباس: احملوها إليّ. وقال الفراء: معناه إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف. {زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96] قطعة واحدتها زبرة، قال ابن عباس: وهي قطع على قدر الحجارة التي يبنى بها. ومعنى الآية أنه يأمرهم أن ينقلوا إليه زبر الحديد ليعمل بها الردم فِي وجوه يأجوج ومأجوج، فأتوه بها، فبناه، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96] سوى بينهما بأن وضع بعضها على بعض، والصدفان جانبا الجبل، قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما، أي تلاقيهما. وقرئ الصدفين بفتح الصاد والدال، والصُدْفين بضم الصاد وسكون الدال، وكلها لغات فِي هذه الكلمة

فاشية، وقوله: {قَالَ انْفُخُوا} [الكهف: 96] قال ابن عباس: على زبر الحديد بالكير. {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] حتى إذا صارت النار، والحديد إذا حمي بالفحم والمنافخ، صار كالنار، {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] قال المفسرون: أذاب النحاس، ثم أفرغه على زبر الحديد، فاختلط، ولصق بعضه ببعض، حتى صار جبلا صلدا من حديد والنحاس. قال قتادة: هو كالبرد الحبير: طريقة سوداء، وطريقة حمراء. والقطر النحاس الذائب، والإفراغ الصب، ومنه قوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] . قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97] أصله استطاعوا، فلما اجتمع المتقاربان، وهما التاء والطاء، أحبوا التخفيف بالحذف، قال ابن السكيت: يقال: ما استطيع، وما أسطيع، وما استتيع، وما استيع أربع لغات. وقرأ حمزة فما اسطاعوا مشددة الطاء، أدغم تاء الافتعال فِي الطاء، وقوله: {أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يصعدوه ويعلوه، يقال: ظهرت السطح إذا صرت فوقه. {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] يقال: نقبت الحائط إذا خرقت فِيهِ خرقا يخلص إلى ما وراءه. قال الزجاج: ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله، لشدته وصلابته. 577 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو زَيْدٍ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ؛ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا، فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ، تَعَالَى، كَمَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ؛ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا، فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتَثْنَى، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ، حِينَ تَرَكُوهُ بِالأَمْسِ، فَيَحْفِرُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَتَتَحَصَّنُ النَّاسَ فِي حُصُونِهِمْ مِنْهُمْ فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ وَفِيهَا كَهَيْئَةِ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَدْ قَهَرْنَا أَهْلَ الأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الأَرْضِ لَتُسَمَّنُ، وَتَشْكُرُ مِنْ لُحُومِهِمْ شُكْرًا، وَلَمَّا فَرَغَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ بِنَائِهِ {قَالَ هَذَا} أَيْ: هَذَا التَّمْكِينُ الَّذِي أَدْرَكْتُ بِهِ السَّدَّ {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98] قال ابن عباس:

معونة من ربي، حيث ألهمني وقواني، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف: 98] يعني: القيامة، وقال الكلبي: أجل ربي أن يخرجوا منه. جعله دكا أي: دكه دكا، ومن قرأه دكاء كان التقدير: جعله مثل دكاء، وهي الناقة التي لا سنام لها، وتقدم الكلام فِي هذا فِي { [الأعراف،] وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [سورة الكهف: 98] يعني بالثواب والعقاب فِي القيامة، وقال الكلبي: وكان أجل ربي بخروجهم حقا كائنا. {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا {99} وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا {100} الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا {101} أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا {102} } [الكهف: 99-102] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99] يقول: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد يموجون فِي الدنيا مختلطين لكثرتهم. يقال: ماج الناس إذا دخل بعضهم فِي بعض حيارى كموج الماء. ثم ذكر نفخ الصور، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة، {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 99] حشرنا الخلق كلهم. {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] أظهرنا لهم جهنم، حتى شاهدوها. {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] الغطاء ما غطى الشيء وستره، وهذا كقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وصف الله الكفار بأنهم عمي عن آيات الله تعالى، وأدلة توحيده، لما سبق لهم من الشقاوة. وقوله: {عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101] قال ابن عباس: عما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البينات والهدى. {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] لعداوتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوه عليهم، كما تقول للكاره لقولك: ما تقدر أن تسمع كلامي. قوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102] يقول: أفظنوا أنهم يتخذونهم أربابا من دوني؟ وعني بالعباد المسيح والملائكة، وقال ابن عباس: يعني الشياطين، تولوهم، وأطاعوهم من دون الله تعالى. وقال مقاتل: يعني الأصنام، سماها عبادا، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] . وجواب هذا الاستفهام محذوف، قال ابن عباس: يريد أني لا أغضب لنفسي. والمعنى: أفحسبوا أن تتخذوهم أولياء فلا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا} [الكهف: 102] قال الزجاج: يعني منزلا. وهو معنى قول ابن عباس: يرد هي مثواهم ومصيرهم. وقال غيره: النزل ما يهيأ للضيف إذا نزل. والمعنى أن جهنم معدة لهم عندنا، كما يهيأ النزل للضيف.

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا {105} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا {106} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا {107} خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا {108} } [الكهف: 103-108] قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] يعني بالقوم الذين هم أخسر الخلق فيما عملوا، وهم كفار أهل الكتاب: اليهود والنصارى. {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 104] بطل عملهم واجتهادهم فِي الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] يظنون أنهم بفعلهم محسنون. {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] جحدوا دلائل توحيده وقدرته، {وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] وكفروا بالبعث والثواب والعقاب، وذلك أنهم بكفرهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء، وقوله: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] أي: بطل اجتهادهم، {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] قال ابن الأعرابي فِي هذه الآية: العرب تقول: ما لفلان وزن عندنا، أي: قدر لخسته، ويوصف الجاهل بأنه لا وزن له، لخفته، وسرعة طيشه، وقلة تثبته. والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله تعالى قدر ولا منزلة. 578 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ جَعْفَرٍ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، نا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كِلاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ 579 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو زُرْعَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، أنا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ صَالِحٍ، مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الطَّوِيلِ الأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ". وقوله: ذَلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} [الكهف: 106] أي: بكفرهم واتخاذهم، آيَاتِي يعني القرآن، {هُزُوًا} [الكهف: 106] مهزوا به. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107] أي منزلا، ويجوز أن يراد بالنزل ما يقام للنازل، ويقدر المضاف على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس، أو نعيمهما نزلا، ومعنى كانت لهم قال ابن الأنباري: أي فِي علم الله تعالى قبل أن يخلقوا. والفردوس فِي اللغة جنة ذات

كروم، قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب. وقال مجاهد: هو البستان بالرومية. واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية. 580 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، الْفِرْدَوْسُ أَعْلاهَا دَرَجَةً، مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، تَعَالَى، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» 581 - وَأَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أنا عَبْدُ اللَّهِ، أنا مُحَمَّدٌ، أنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، نا أَبُو قُدَامَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ؛ اثْنَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، حُلِيُّهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، حُلِيُّهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةٍ عَدْنٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} [الكهف: 108] والحول اسم بمعنى التحويل، يقوم مقام المصدر، يقال: حولوا عنه تحويلا وحولا. قال ذلك الليث، وابن الأعرابي، وابن قتيبة، والأزهري. وقال أبو عبيدة: حولا تحولا. وهو قول الفراء، وقال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى، والجنة ليست هكذا. قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ} [الكهف: 109] الآية. روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، وأتينا التوراة، وفيها علم كل شيء. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] قال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد، وقال مجاهد: لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. وقال ابن عباس: يريد أن كلماته أعظم من أن يكون لها أمد.

وكلام القديم سبحانه وتعالى صفة من صفات ذاته، فلا يجوز أن يكون لكلامه غاية ومنتهى، كما ليس له غياية وحد، وأوصاف ذاته غير محدودة أيضا، وهذا رد على اليهود حين ادعوا أنهم أوتوا العلم الكثير، وكأنه قيل لهم: أي شيء الذي أوتيتم فِي علم الله تعالى، وكلماته التي لا تنفذ لو كتبت بماء البحر. {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} [الكهف: 109] بمثل البحر فِي كثرة مائه، مددا زيادة له، والمدد كل شيء زاد فِي شيء. قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] قال ابن عباس: عَلَّمَ اللهُ تعالى رسولَه التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره بأن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] لا شريك له، وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه، فيسرني ذلك، وأعجب به. فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى فيه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] يخاف البعث والمصير إلى الله تعالى، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110] خالصا لا يرائي به، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] قال سعيد بن جبير: لا يرائي. قال عطاء، عن ابن عباس: قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} [الكهف: 110] ولم يقل: ولا يشرك به، لأنه أراد العمل الذي يعمل لله ويحب أن يحمد عليه. قال: ولذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كي لا يعظمه من يصله بها. وقال الحسن: هذا فيمن أشرك بعمله يريد الله به والناس. 582 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَارِثُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا زِيَادٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى صَلاةً يُرَائِي بِهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ صَوْمًا يُرَائِي بِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 583 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرِّ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ رَوْحٍ

584 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِينَا، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ؛ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمَلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

سورة مريم

سورة مريم مكية وآياتها ثمان وتسعون. 585 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِزَكَرِيَّا وَكَذَّبَ بِهِ وَيَحْيَى وَعِيسَى وَمِوسَى وَهَارُونَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ؛ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَبِعَدِدِ مَنْ دَعَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَدًا {كهيعص {1} ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا {3} قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا {4} وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي

وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا {5} يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا {6} يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا {7} } [مريم: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص 586 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، مِنْ أَصْلِهِ الْعَتِيقِ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ يَحْيَى، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، قَالَ: سُئِلَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ كهعيص فَحَدَّثَنَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ: كَافٌ مِنْ كَرِيمٍ، وَهَاءٌ مِنْ هَادٍ، وَيَاءٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مِنْ صَادِقٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ: مَعْنَاهُ: كَافٌّ لِخَلْقِهِ، هَادٍ لِعِبَادِهِ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عَالِمٌ بِبَرِيَّتِهِ، صَادِقٌ فِي وَعْدِهِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِن صِفَاتِ اللَّهِ وقرئ هايا بالتفخيم والإمالة، وإمالة هذه الحروف لا تمتنع، لأنها ليست بحروف معنى وإنما هي أسماء ما يتهجى به، فلما كانت أسماء غير حروف جاز فِيهِ الإمالة، ويدلك على أنها أسماء أنك إذا أخبرت عنها أعربتها، كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء كذلك هذه الحروف. قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: 2] قال الزجاج: ذكر مرتفع بمضمر. المعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمت ربك، {عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] يعني: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] خافيا يخفي ذلك في نفسه لا يريد رياء، وهذا يدل على أن المستحب فِي الدعاء الإخفاء. {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] وهن يهن وهنا ووهنا إذا ضعف، أراد أن عظامه فترت وذهبت قوته لكبره، وقال قتادة: شكا ذهاب أضراسه. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] انتشر فِيهِ الشيب كما ينتشر شعاع النار فِي الحطب، وهذا من أحسن الاستعارة، إذ شبه بياض الشيب وانتشاره فِي الرأس بشعاع النار فِي الحطب وانتشارها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأسه فلان، وأنشد لبيد: إن ترى رأس أمس واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} [مريم: 4] أي: بدعائي إياك، {رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] قال ابن عباس: لم تكن تخيب دعائي، يقال: شقي فلان بكذا إذا تعب بسببه، ولم يحصل مطلوبه، يقول: لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب. قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] يعني: الذين يلونه فِي النسب، وهم العصبة وبنو العم وورثته،

والمعنى أنه خاف تضييع بني عمه الدين، ونبذهم إياه، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه، لئلا يضيع الدين، وحمله على هذه المسألة ما شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين، وقتل الأنبياء، وهذا معنى قول عطاء، عن ابن عباس: يريد بالموالي بني إسرائيل، وكانوا يبدلون الدين، ويقتلون الأنبياء. {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5] عقيما لا تلد، وهذا إخبار عن خوفه فيما مضى من الزمان حين كانت امرأته لا تلد، وكان هو آيسا من الولد، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] ابنا صالحا تتولاه. {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} [مريم: 6] بالرفع من صفة الولي كأنه سأل وليا وارثا علمه ونبوته، والجزم على جواب الأمر، فصح الشرط بأن يقول: إن وهبت ورث. قال ابن عباس: يريد النبوة، فيكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء. وقال الكلبي: يريد مكاني وحبورتي. وقال قتادة: يرث نبوتي وعلمي. وقال ابن قتيبة: لم يرد يرثني مالي. وأيّ مال كان لزكريا حتى يسأل الله أن يهب له ولدا يرثه، لقد جل هذا المال إذا وعظم قدره، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا، وإنما كان زكريا نجارا، وكان حبرا، وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له. 587 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] النبوة، فقال مجاهد: كان زكريا من ذرية يعقوب. {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] قال ابن عباس: يكون عندي مرضيا فِي الصلاح والعقاب والنبوة. فاستجاب الله دعاءه، فقال: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] تقدم تفسيره فِي { [آل عمران. ] لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [سورة مريم: 7] أكثر المفسرين على أن معناه لم يسم أحدا قبله يحيى، ويثبت فِي هذا له فضيلتان: أحدهما أن الله تولى تسميته، ولم يكلها إلى الأبوين، والثانية أنه سماه باسم لم يسبق إليه، يدل ذلك الاسم على فضله. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها. وقال ابن عباس فِي رواية عطاء: يريد لم يكن له فِي سابق علمي نظير ولا شبيه. وقال فِي رواية الوالبي: يقول: لم تلد العواقر مثله ولدا. وهو قول مجاهد، قال: يعني لم يجعل له مثلا فِي الفضل.

والمراد بالسمي: المثل والنظير، كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي: مثلا وعدلا، ولم يكن ليحيى مثل من البشر من حيث إنه لم يعص، ولم يهم بمعصية قط. 588 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْجُذَامِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ سِنَانٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنَبٌ إِلا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدَهُ فَأَخَذَ عُودًا صَغِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ إِلا مِثْلُ هَذَا الْعُودِ؛ لِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا {8} قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} } [مريم: 8-9] قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم: 8] مفسر فِي { [آل عمران إلى قوله:] وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [سورة مريم: 8] يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات وعاث إذا صار إلى حال اليبس والجفاف. قال قتادة، ومجاهد: هو نحول العظم. وسأل نافع بن الأزرق بن عباس عن قوله: عتيا فقال: المعنى اليبوس من الكبر. وقرئ عتيا بالكسر، وكذلك صليا وبكيا وجثيا يجوز فِيها الكسر أيضا، وذكرنا هذا فِي قوله: من حليهم، وحليهم. قال الله، كَذَلِكَ أي: الأمر كما قيل لك، هبة الولد على الكبر، {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] قال ابن عباس: يريد أن أرد عليك قوتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} [مريم: 9] من قبل يحيى، وقرئ خلقناك لكثرة ما جاء من لفظ الخلق مضافا إلى لفظ الجمع، كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الحجر: 26] فِي

مواضع، ولقد خلقناكم، وقوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] يريد أنه كان عدما فأوجده بقدرته، قال الزجاج: أي يخلق الولد لك كخلقك. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا {10} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا {11} } [مريم: 10-11] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [مريم: 10] قال قتادة: سأل نبي الله آية على حمل امرأته بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة. قال ابن الأنباري: ووجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر. فسأل الله آية يستدل على قرب ما مَنَّ به عليه، قال الله، {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ} [مريم: 10] أي: تمنع الكلام، فلا تقدر عليه ثلاث ليال، سويا صحيحا من غير بأس ولا خرس، قال مجاهد: أي لا يمنعك من الكلام مرض. وسويا: منصوب على الحال، وقد مضى مثل هذا فِي { [آل عمران. ] فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [سورة مريم: 11] قال ابن زيد: من مصلاه. فأوحى إليهم قال ابن عبا وقتادة: أومأ إليهم وأشار. وقال مجاهد: كتب لهم فِي الأرض، أن سبحوا صلوا لله، {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] والمعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته، ومنع الكلام خرج عليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا {12} وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا {13} وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا {14} وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا {15} } [مريم: 12-15] قوله: يا يحيى قال الزجاج: المعنى فوهبنا له، وقلنا له يا يحيى. {خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] يريد التوراة، بقوة قال مجاهد: بجد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قال ابن عباس: آتيناه النبوة فِي صباه، وهو ابن ثلاث سنين. وقال مجاهد: الحكم الفهم. وهو أنه أعطي فهم الكتاب حتى حصل له عظيم الفائدة. {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم: 13] الحنان: العطف والرحمة. قال الوالبي، عن ابن عباس: يقول: رحمة من عندنا، وهو قول جماعة المفسرين. وزكاة قال ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص. وقال قتادة: هي العمل الصالح. وهو قول الضحاك، وابن جريج. معنى الآية: وآتيناه رحمة من عندنا، وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم، وعملا صالحا فِي الإخلاص، {وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13] قال ابن عباس: جعلته يتقيني ولا يعدل بي غيري. قال المفسرون: وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها. 589 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَالٍ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنْ

عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَنْبَغِي لِخَلْقٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا " قوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم: 14] البر يعني البار، كالصب والطب، فعل بمعنى فاعل، والمعنى لطيفا بهما محسنا إليهما، {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} [مريم: 14] قال ابن عباس: هو الذي يقتل ويضرب على الغضب، والعصي العاصي. قال: يريد لا يرتكب لي معصية. {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] الآية، قال عطاء: يريد سلام عليه مني فِي الأيام. وقال الكلبي: سلام له منا. وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق فِي ثلاث مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا عما كان فِيهِ، ويوم يموت فيرى أحكاما ليس له بها عهد، ويوم يبعث فيرى نفسه فِي محشر لم يره. فخص الله يحيى بن زكريا بالكرامة والسلام فِي المواطن الثلاثة. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا {16} فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنْ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي

غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا {21} } [مريم: 16-21] قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16] قال: واذكر من أمر مريم لأهل مكة. {إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] قال: الكلبي: تنحت من أهلها، ممن كانوا معها فِي الدار. يقال: انتبذ فحل ناحية، أي تنحى ناحية. وقال قتادة: انفردت. قال ابن قتيبة: اعتزلت مكانا شرقيا. أي: إلى مكان فِي جانب الشرق. قال عطاء: إن مريم تمنت أن تجد خلوة، فتفلي رأسها، فخرجت فِي يوم شديد البرد، فجلست فِي مشرقة للشمس. وقال عكرمة: أرادت الغسل من الحيض، فتحولت إلى مشرقة دارهم للغسل. {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ} [مريم: 17] من دون أهلها، لئلا يروها، حجابا سترا وحاجزا، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] بينما هي تغتسل من الحيض، إذ عرض لها جبريل فِي صورة شاب أجرد مضيء الوجه، وهو قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا} [مريم: 17] أي: تصور لها، {بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] معتدلا تاما. قال ابن عباس: فلما رأت جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنْ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] أي: مخلصا مطيعا، فستنتهي بتعوذي بالله منك إن كنت تقيا. قال جبريل: إنما أنا رسول ربك ليهب لك أي: أرسلني ليهب لك، ومن قرأ لأهب أسند الفعل إلى جبريل، والهبة من الله، ولكن أسند إلى الرسول، وقوله: غلاما زكيا قال ابن عباس: يريد نبيا. وقال الضحاك: صالحا طاهرا من الذنوب. قالت مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] ولم يقربني زوج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] فاجرة زانية، وإنما لم تقل بغية لأنه مصروف عن وجهه، وهو فعيل بمعنى فاعل، يقال: المرأة تبغي بغاء إذا فجرت. قال ابن عباس: قالت مريم: ليس لي زوج، ولست بزانية، ولا يكون الولد إلا من الزوج أو من الزنا. {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] مفسر فِي هذه ال { [، قال ابن عباس: يريد يسير، أن أهب لك غلاما من غير محل. ] وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [سورة مريم: 21] دلالة على قدرتنا، كون غلام ليس له أب، ورحمة منا لمن تبعه وصدقه، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا فِي علم الله أن يقع. {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا {22} فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا {23} } [مريم: 22-23] قوله: فحملته قال ابن عباس: دنا منها جبريل، فأخذ ردئي قميصها بأصبعيه، فنفخ فِيهِ، فحملت مريم من ساعتها بعيسى عليه السلام، ووجدت حس الحمل. فذلك قوله: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 22] أي: تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس: أقصى الوادي، وهو بيت لحم، فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج. {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم: 23] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: ألجأها. يقال: جاءها وأجاءها بمعنى واحد، والمخاض وجع الولادة، واختلفوا فِي مدة حملها، فقال بعضهم: تسعة أشهر على ما جرت العادة به. وقيل: ثمانية أشهر، ليكون أيضا آية، لأنه إذا جاء لثمانية أشهر لا يعيش. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل: ساعة واحدة. وقوله: {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] قال ابن عباس: نظرت مريم إلى أكمة، فصعدت مسرعة، وإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس لها سعف، والجذع ساق النخلة، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] اليوم، وهذا الأمر، استحياء من الناس، وخوف الفضيحة، وكنت نِسْيًا منسيا النسي ما أغفل من شيء حقير ونسي، قال ابن عباس، وقتادة: شيئا متروكا لا يذكر. وقال عكرمة، ومجاهد: حيضة ملقاة، والمنسي المتروك الذي لا يذكر. تقول: يا ليتني كنت ذلك النسي الذي لا يذكر ولا يطلب. وقرئ نسيا بالفتح، قال الفراء: هما لغتان، مثل الجسر والجسر، والوتر والوتر. والنسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. قال ابن عباس: فسمع جبريل كلامها، وعرف جزعها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا

جَنِيًّا {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا {26} } [مريم: 24-26] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم: 24] وكان أسفل منها تحت الأكمة، ألا تحزني وهذا قول السدي، وقتادة، والضحاك: أن المنادي جبريل، ناداها من سفح الوادي. ومن قرأ فناداها مَنْ تَحْتَهَا قال: هو عيسى، وهو قول مجاهد، والحسن بَيَّنَ اللهُ لها الآية فِي عيسى، فكلمها ليزول ما عندها من الوحشة والجزع، {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} [مريم: 24] أي: تحت قدميك، سريا وهو النهر، وكان نهرا قد انقطع الماء عنه، فأرسل الله الماء فِيهِ لمريم. وأحيا ذلك الجذع حتى أورق، وهو قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ} [مريم: 25] الهز التحريك، يقال: هزه فاهتز. والمعنى: اجذبي إليك، {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] والباء فِيهِ زائدة، قال الفراء: العرب تقول: هزه وهز به. ومنه قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [الحج: 15] معناه: فليمدد سببا، وقوله: تساقط عليك أي: تتساقط، فأدغمت التاء فِي السين، ومعناه: تسقط عليك النخلة، {رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] ، وقرا حمزة تساقط مخففا، حذف التاء التي أدغمها غيره، وروى حفص، عن عاصم {تُسَاقِطْ} [مريم: 25] على وزن تفاعل، وساقط بمعنى أسقط، والمساقطة والتساقط على ما ذكرنا بمعنى الإسقاط، والرطب: النضيج من البسر، والجني: بمعنى المجني، يقال: جنيت الثمرة واجتنيتها. قوله: {فَكُلِي} [مريم: 26] أي: من الرطب، {وَاشْرَبِي} [مريم: 26] من السري، {وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 26] بولدك عيسى، يقال: قررت به عينا أقر قرة، بعضهم يقول: قررت أقر، وجاء فِي التفسير: طيبي نفسا. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} [مريم: 26] أصله إما ترى، ثم دخله نون التوكيد، فكسر الياء لالتقاء الساكنين، كما تقول للمرأة: أخشين زيدا. والمعنى: فإما ترين، {مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26] فسألك عن ولدك، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] قال ابن عباس: صمتا. والمعنى: أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلم. قال قتادة: صامت من الكلام والطعام. وقال السدي، وابن زيد: كان فِي بني إسرائيل من أراد أن يجتهد، صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام، فلا يتكلم الصائم حتى يمسي.

يدل على هذا قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] أي: إني صائمة فلا أكلم اليوم أحدا، وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر، ثم تسكت ولا تتكلم بشيء آخر. قال ابن مسعود: ووهب أمرت بالصمت لأنها لم تكن لها حجة عند الناس فِي شأن ولدها، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ ساحتها. {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا {27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {31} وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا {32} وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {33} } [مريم: 27-33] قوله: {فَأَتَتْ بِهِ} [مريم: 27] يعني بعيسى، {قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] قال الكلبي: إنها ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملت عيسى إلى قومها، فلما دخلت عليهم بكوا وخافوا، وكانوا أهل بيت صالحين، فقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] عظيما منكرا، لا يعرف منك ولا من أهل بيتك، والفري الأمر العظيم. {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] قال ابن عباس، وقتادة: هارون رجل صالح من بني إسرائيل، ينسب إليه من عرف بالصلاح، والمعنى: يا شبيهته فِي العفة، وعلى هذا يدل حديث المغيرة بن شعبة، وهو ما: 590 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا وَالِدِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، أنا أَبِي، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَلَسْتُمْ تَقْرَءُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى، فَلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَلا أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الأَشَجِّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ هَارُونُ أَخَا مَرْيَمَ مِنْ أَبِيهَا، لَيْسَ مِنْ أُمِّهَا، وَكَانَ أَمْثَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنَوْا هَارُونَ أَخَا مُوسَى، وَنُسِبَتْ مَرْيَمُ إِلَى أَنَّهَا أُخْتُهُ؛ لأَنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28] قال ابن عباس: يريد زانيا. {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] زانية، أي: لم يكونا زانيين، فمن أين لك هذا الولد. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] أي: إلى عيسى وهو يرضع بأن كلموه، فتعجبوا من ذلك، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] فِي الحجر رضيعا، قال أبو عبيدة: كان ههنا حشو زائد. والمعنى: كيف نكلم صبيا فِي المهد. وبهذا قال كثير من أهل التفسير، وقال الزجاج: الأجوز أن

يكون من فِي معنى الشرط والجزاء. المعنى: من يكن فِي المهد صبيا، فكيف نكلمه. واختاره ابن الأنباري، وقال: هذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟ معناه: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل فِي باب الجزاء. قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه، و {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] قال ابن عباس: أقر بالعبودية على نفسه، وبربوبية الله أول ما تكلم. {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] أي: حكم لي بإيتاء الكتب، والنبوة فيما قضى، وهذا إخبار عما سبق له مما هو كائن. قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] روى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] قال: «نفاعا حيث ما توجهت» . وقال مجاهد: معلما للخير. وقال عطاء: لأني أدعو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته. {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} [مريم: 31] أمرني بإقامتها، والزكاة يعني: زكاة الأموال. {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم: 32] قال ابن عباس: لما قال: بوالدتي، ولم يقل: بوالدي، علموا أنه نبي من الله. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} [مريم: 32] متعظما يقتل ويضرب على الغضب، شقيا عاصيا لربه. {وَالسَّلامُ عَلَيَّ} [مريم: 33] قال المفسرون: السلامة عليَّ من الله، {يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] حتى لم يضرني شيطان، والآية مفسرة فِي هذه ال { [، قالوا لما كلمهم عيسى بهذا، علموا براءة مريم، ثم سكت عيسى فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فِيها الصبيان. ] ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ {34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {36} فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ {37} } [سورة مريم: 34-37] قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 34] قال الزجاج: ذلك الذي قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] عيسى ابن مريم، لا ما يقوله النصارى من أنه ابن الله، وأنه إله. {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34] أي: القول الحق، فأضيف القول إلى الحق، كما قيل حق اليقين، ووعد الصدق، والمعنى: هذا الكلام قول الحق، يعني: ما ذكر من صنعته وأنه ابن مريم قول الحق، من نصب قول الحق فهو نصب على المصدر، أي: قال قول الحق. {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34] الذي من نقب عيسى، ويمترون يشكون ويختلفون، فيقول قائل: هو ابن الله. ويقول آخر: هو الله. ثم نفى عن نفسه اتخاذ الولد، فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] قال ابن الأنباري: ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد. أي: ما يصلح له ولا يستقيم، فنابت اللام عن الفعل، وذلك أن الولد مجانس للوالد، وكذلك من اتخذ ولدا بما يتخذه من جنسه، والله تعالى ليس كمثله شيء فلا يكون له ولد، ولا يتخذ ولدا، قال الزجاج: من فِي قوله: من ولد مؤكدة تدل على نفس الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا، ولا أكثر. ثم نزه نفسه عن مقالتهم بقوله: سبحانه ثم بين السبب فِي كون عيسى من غير أب، فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مريم: 35] إذا أراد أن يحدث شيئا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] لا يتعذر عليه إيجاده على الوجه الذي أراده. {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [مريم: 36] هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك المعنى: ولأن الله ربي وربكم، ويجوز أن يرجع إلى قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31]

وبان الله ربي وربكم، ومن كسر جعله معطوفا على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] ، ويجوز أن يكون استنئافا من غير عطف، وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 36] أي: الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة. قوله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم: 37] يعني بينهم، ومن زائد. قال المفسرون: كانوا أحزابا متفرقين بينهم فِي أمر عيسى، فقال بعضهم: هو الله. وقال بعضهم: ابن الله. وقال بعضهم: بالثلاثة. فويل فشدة عذاب، {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [مريم: 37] بالله، بقولهم فِي المسيح {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: 37] من حضورهم ذلك اليوم للجزاء والحساب. {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {38} وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {39} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ {40} } [مريم: 38-40] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] قال قتادة: ذلك والله يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال الحسن: لئن كانوا فِي الدنيا صما عميا عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة. {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38] يعني: الكافرين والمشركين، ضلوا فِي الدنيا وعموا عن الحق، وآثروا الهوى على الهدى. قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] خوف يا محمد كفار مكة يوم يتحسر المسيء، فلا أحسن العمل، والمحسن هلا ازداد من الإحسان، وقال أكثر المفسرين: يعني الحسرة حين يذبح الموت بين الفريقين. فلو مات أحد فرحا لمات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا لمات أهل النار. 591 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَشَّابُ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِبرِيُّ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ، نا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ؛ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَقِيلَ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: تَعْرِفُونَ الْمَوْتَ، فَيَقُولُونَ: هَذَا هَذَا، وَكُلُّهُمْ قَدْ عَرَفَهُ، قَالَ: فَيَقْدَمُ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وقوله: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم: 39] قال مقاتل بن سليمان: قضي لهم العذاب فِي الآخرة. وهم فِي الدنيا، {فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] وقال ابن جريج، والسدي: إذ قضي الأمر إذ ذبح الموت، وهو

فِي غفلة فِي الدنيا عما يصنع بالموت ذلك اليوم، {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] بما يصنع بالموت فِي ذلك اليوم. {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ} [مريم: 40] نميت سكانها فنرثها، ومن عليها لأنا نميتهم ونهلكم، وهذا كقوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23] ، {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] يردون بعد الموت. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا {43} يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا {45} } [مريم: 41-45] قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41] اذكر لقومك قصته، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} [مريم: 41] كثير الصدق. {نَبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 41-42] وبخه على عبادته شيئا لا سمع له ولا بصر، {وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] لا يدفع عنك ضرا. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} [مريم: 43] بالله والمعرفة، {مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] على ما جاءني من ربي لأرشدك إلى دين مستقيم. {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] لا تطعه فيما يزن لك من الكفر والمعاصي، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44] عاصيا. {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] أخشى أن يصيبك عذاب الله بطاعتك للشيطان، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] قرينا فِي النار. فقال أبوه مجبها له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا {46} قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا {47} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا {48} } [مريم: 46-48] {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم: 46] أتاركها أنت، وتارك عبادتها، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [مريم: 46] عن شتمها وعيبها، لأرجمنك لارمينك بالقول القبيح، وأشتمنك، {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] تباعد عني مليا حينا وزمانا طويلا، والملي من الدهر حين طويل، يقال: أقام بموضع كذا مليا، أي: حينا وزمانا طويلا. قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] وذلك أنه لما أعياه، أمره وعده أن يراجع الله فِي أبيه، فيسأله أن يرزقه التوحيد، ويغفر له، والمعنى: سأسأل لك التوبة تنال بها مغفرته، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] بارا لطيفا، يقال: حفى به حفوة إذا بره وألطفه. وأعتزلكم أتنحى عنكم وأفارقكم، {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] وأعتزل ما تعبدون من دون

الله يعني الأصنام، {وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم: 48] أعبده، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] أرجو لا أشقى بعبادته، يعني: كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم. {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا {49} وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا {50} } [مريم: 49-50] {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 49] هجرهم فخرج إلى ناحية الشام، {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49] آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله، وكلا من هذين، {جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49] . {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 50] المال والولد، وهذا قول الأكثرين، قالوا: يعني ما بسط لهم فِي الدنيا من سعة الرزق. وقال آخرون: يعني الكتاب والنبوة، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ} [مريم: 50] ثناء حسنا فِي الناس، عليا مرتفعا سايرا فِي الناس، فكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته، ويثنون عليهم. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا {51} وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا {52} وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا {53} } [مريم: 51-53] قوله: واذكر فِي الكتاب موسى إنه كان مُخْلِصًا أخلص العبادة والتوحيد لله، ومن قرأ {مُخْلَصًا} [مريم: 51] فهو الذي أخلصه الله من الدنس. {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 52] قال ابن عباس: يريد حين أقبل من مدين، ورأى النار فِي الشجرة، وهو قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30] . {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم: 52] من ناحية الجبل، وهو جبل بين مصر ومدين، واسمه زبير، {الأَيْمَنِ} [مريم: 52] يعني: الذي يلي يمين موسى، {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] مناجيا، والنجي بمعنى المناجي، كالجليس والنديم، قال ابن عباس: قربه الله وكلمه. ومعنى هذا التقريب أن أسمعه كلامه، قال الزجاج: قربه منه فِي المنزلة حتى سمع مناجاة الله. {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 53] من نعمتنا، {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] قال ابن عباس: يريد حين سألني، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] . {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا {54} وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا {55} } [مريم: 54-55] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال مجاهد: لم يعد شيئا إلا وَفَّىَ بِهِ. وقال مقاتل:

أقام ينتظر إنسانا لميعاد ثلاثة أيام. وقال الكلبي: أقام حتى حال عليه الحول. {وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} [مريم: 54] إلى جرهم. {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} [مريم: 55] قال ابن عباس: يريد قومه. قال الزجاج: أهله جميع أمته. قال مقاتل: نظيره {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] أي: قومك. وقوله: بالصلاة والزكاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله عليهم، وهي الحنيفية التي فرضت علينا. {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] قال: يريد قام لله بطاعته. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا {56} وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا {57} } [مريم: 56-57] وقوله: فِي ذكر إدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى. قال المفسرون: رفع إلى السماء الرابعة. 592 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ أَبُو بَكْرٍ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58] يعني الذين ذكرهم من الأنبياء فِي هذه ال { [، ثم بين مراتبهم فِي شرف النسب، فقال:] مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [سورة مريم: 58] يعني: إدريس ونوحا، {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] يعني: فِي السفينة، ويريد إبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح، {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 58] يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: وإسرائيل يعني: ومن ذريته، وهم: موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولما تباعدوا من آدم حصل لهم الشرف بإبراهيم، {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58] أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] قال ابن عباس: سجدا لله متضرعين إليه. قال الزجاج: قد بَيَّنَ اللهُ أن الأنبياء كانوا إذا أسمعوا آيات الله سجدوا وبكوا. {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا {60} } [مريم: 59-60] قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59] قال السدي: هم اليهود والنصارى. وقال مجاهد، وقتادة: هم من هذه الأمة، عند

قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة، قوم يتنابزون بالزنا، ينزو بعضهم على بعض فِي الأزقة، زناة. {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] قال الأكثرون: أخروها عن وقتها. قال إبراهيم: أضاعوا الوقت. وقال عمر بن عبد العزيز: شربوا الخمر فأضاعوها. وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس. {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] المعاصي وشرب الخمر، والمعنى: آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] قال ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، عن ابن عباس: وهو واد فِي جهنم. 593 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ، قَالَ: نَهْرٌ فِي جَهَنَّمَ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، خَبِيثُ الطَّعْمِ، وَلَيْسَ مَعْنَى يَلْقَوْنَ يَرِدُونَ فَقَطْ؛ لأَنَّ اللِّقَاءَ مَعْنَاهُ الاجْتِمَاعُ وَالْمُلابَسَةُ مَعَ الرُّؤْيَةِ {إِلا مَنْ تَابَ} [مريم: 60] من التقصير فِي الصلاة، {وَآمَنَ} [مريم: 60] من اليهود والنصارى، وعمل صالحا بطاعة الله، {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60] قال ابن عباس: لا ينقصون ثوابا. {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا {61} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا {62} تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا {63} } [مريم: 61-63] {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61] قال ابن عباس: يريد أنهم عابوا عما فِيها مما لا عين رأت. والمعنى: أنهم لم يروها، فهي غيب لهم، {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] قال الفراء: لم يقل آتيا، لأن كل ما أتاك فقد أتيته. ونحو هذا قال الزجاج. وقال ابن جريج: وعده فِي هذه الآية موعود وهو الجنة، و {مَأْتِيًّا} [مريم: 61] يأتيه أولياؤه وأهل طاعته. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم: 62] وهو الهذر وما يلغى من الكلام، إلا سلاما لكن يسمعون سلاما، وهو أن بعضهم يحيي بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب الملائكة بالسلام، قال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه متضمن السلام. والمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤذيهم، وإنما يسمعون ما يسلمهم، {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] قال المفسرون: ليس فِي الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون برزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء. قال قتادة: كانت العرب إذا أصاب أحدهم

الغداء والعشاء أعجب به، فأخبر الله أن لهم فِي الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت، وليس ثم دليل ولا نهار، إنما هو ضوء ونور. وقال الحسن: كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله جنته، فقال: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] . قوله: تلك الجنة يعني الجنة التي ذكرها في قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [مريم: 60] ، {الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} [مريم: 63] . وذلك أن الله تعالى يورث عباده المؤمنين من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا، وجوز أن يكون معنى يورث تعظيم ذلك، وننزلهم إياها، وتكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف، وقوله: {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أي: من اتقى معصية الله وعقابه بالطاعة والإيمان. {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا {64} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} } [مريم: 64-65] قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] 594 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الرَّسْعَنِيُّ، نا جَدِّي، نا الْمُغِيرَةُ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا، فَنَزَلَ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ: وَكَانَ هَذَا جَوَابًا لِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اسْتَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جِبْرِيلَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي كُنْتُ لَمُشْتَاقًا إِلَيْكَ، قَالَ: وَأَنَا، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتُ إِلَيْكَ مُشْتَاقًا، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ، إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم: 64] أي: من أمر الآخرة والثواب والعقاب، {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] ما مضى من الدنيا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم: 64] ما يكون هذا الوقت إلى يوم القيامة، وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل، واختيار الزجاج. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] قال ابن عباس: تاركا لك منذ أبطأ عنك الوحي. والنسي بمعنى الناسي، وهو التارك. {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم: 65] مالكها، وما بينهما ومالك ما بينها، فاعبده وحده، لأن عبادته بالشرك كلا عبادة، {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] أصبر على أمره ونهيه، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: هل تعلم للرب مثلا أو شبها؟ وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال فِي رواية عكرمة: هل تعلم أحدا اسمه الرحمن غيره؟ وقال فِي رواية عطاء: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره؟ وقال الزجاج: تأويله، والله أعلم، هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون؟ وعلى هذا لا سَمِيّ لله فِي جميع أسمائه، لأن غيره، وإن سُمِّيَ بشيء من أسمائه، فلله حقيقة ذلك الوصف.

{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا {66} أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا {67} فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا {68} ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا {69} ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا {70} } [مريم: 66-70] وقوله: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ} [مريم: 66] معناه: الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] يقولُ ذلكَ استهزاء وتكذيبا منه بالبعث، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: يعني الوليد بن المغيرة. وقال فِي رواية الكلبي: نزلت فِي أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية يفتها بيده، ويقول: زعم محمد أن الله يبعثنا بعد ما نموت. فقال الله مجيبا لذلك الكافر: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ} [مريم: 67] أولا يتذكر هذا الجاحد أول خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة، وهو قوله: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] . ثم أقسم أنه يحشرهم، فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] أي: لنجمعنهم فِي المعاد، والشياطين وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه فِي سلسلة، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68] يعني: فِي جهنم، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخله، يقال: جلس القوم حول البيت إذا جلسوا داخله مطيفين به، وقوله: جثيا قال مجاهد: مستوقرين على الركب، جمع جاث، من قولهم: جثا على ركبته يجثوا جثوا. وقال ابن عباس: جثيا جماعات. وهو قول مقاتل، وهو جمع جثوة وجثوة، وهي المجموع من التراث والحجارة. {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} [مريم: 69] لنأخذن ولنخرجن، {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] من كل فرقة وجماعة، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] أي: الأعتى فالأعتى منهم، قال الأحوص: بدئ بالأكابر جرما. وقال قتادة: لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤسائهم فِي الشر. والعتي ههنا مصدر كالعتو، وهو التمرد فِي العصيان، وأما رفع أيهم، فقال الزجاج: فِيهِ ثلاثة أقوال: أحدها أنه على الاستئناف ولننزعن يعمل فِي موضع {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] . هذا قول يونس، وقال الخليل: أنه على معنى الذين يقال لهم: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] . وقال سيبويه: أيهم ههنا مبني على الضم، تقول: اضرب أيهم أفضل، تريد أيهم هو أفضل. {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 70] يقال: صلى النار يصلاها صليا، أي: دخلها وقاسى حرها، يعني أن الأولى بها صليا الذين هم أشد على الرحمن عتيا على معنى الابتداء بهم دون أتباعهم، لأنهم كانوا رؤساء فِي الضلالة. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا {71} ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا {72} } [مريم: 71-72] قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وما منكم أحد إلا وارد جهنم، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} [مريم: 71] كان ورودكم جهنم، {حَتْمًا} [مريم: 71] الحتم: إيجاب القضاء والقطع بالأمر، يقال: كان ذلك حتما، أي موجبا، {مَقْضِيًّا} [مريم: 71] قضاه الله عليكم، وأكثر

الناس على الحكم بظاهر الآية، وهو أن الخلق كلهم يردون النار، ثم ينجي الله المؤمنين. 595 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَمْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ، عَنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فَحَدَّثَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَرِدُ النَّاسَ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَحَضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَأَخَذَ بِيَدِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، وَخَاصَّةً نَافِعُ بْنُ الأَزْرَقِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْءَ رُبَّمَا وَرَدَ الشَّيْءَ، وَلَكِنْ لا يَدْخُلُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَابْنَ الأَزْرَقِ، أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ يُنْجِينَا اللَّهُ مِنْهَا أَمْ لا؟ وَكَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ؛ قَالَ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، ثُمَّ يَبْكِي، قَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا، وَلَمْ نُخْبَر أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ يُنَبِّئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ وَلَمْ يُنَبِّئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَيْفَ لا يَحْزَنُ الْمُؤْمِنُ؟ وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ وَارِدٌ جَهَنَّمَ، وَلَمْ يَأْتِهِ أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، قَادِرٌ بِلُطْفِهِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا إِذَا وَرَدُوهَا حَتَّى يَعْبُرُوا بِهَا وَيَخْرُجُوا مِنْهَا سَالِمِينَ 596 - فَقَدْ أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا صَالِحُ بْنُ غَالِبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: لا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ، فَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: الْوُرُودُ: الدُّخُولُ لا يَبْقَى بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ إِلا دَخَلَهَا فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ، أَوْ قَالَ: لِجَهَنَّمَ، ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهَا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل بن عثمان، عن ثور، عن خالد بن معدان، قال: إذا

دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار. فيقال لهم: بلى، ولكن مررتهم بها وهي خامدة. 597 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَحَامِلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الدُّرَيْكِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " تَقُولُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي " وروى عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار. ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها، لأن الحمى من فيح جهنم، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمى كير من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار» . ويدل على صحة هذا التأويل ما: 598 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْخَلالِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا عُبَيْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، نا أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، نا عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا مِنْ وَعَكٍ كَانَ بِهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ: الْعُبُورُ عَلَى الْجِسْرِ، وَوَرُودُ الْكَافِرِينَ: أَنْ يَدْخُلُوهَا قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] قال ابن عباس: اتقوا الشرك وصدقوا. {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} [مريم: 72] قال: المشركين والكفار. {فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] قالوا: على الركب. وقالوا: جميعا كما فسرنا فيما قبل. قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا {73} وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا {74} } [مريم: 73-74] {

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} [مريم: 73] يعني: على المشركين، آياتنا بينات يريد القرآن، قال الذين كفروا مشركو قريش للذين آمنوا لفقراء المؤمنين، {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} [مريم: 73] أنحن أم أنتم، {خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] وقرئ مقاما بضم الميم، وهما المنزل والمسكن، {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] الندي والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] والمعنى: إن المشركين قالوا للفقراء المؤمنين: أنحن أم أنتم أعظم شأنا وأعز مجلسا؟ افتخروا عليهم بمساكنهم ومجالسهم. فقال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] الأثاث المال، أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، قال ابن عباس، والسدي: الأثاث المال. وقال قتادة: {أَحْسَنُ أَثَاثًا} [مريم: 74] أكثر أموالا. الحسن: الأثاث اللباس. والرئي: المنظر، فعل من رأيت، والمصدر الرأي والرؤية، كالطحن والرعي، والمفسرون يقولون: الرأي: المنظر. وقال الحسن: الصور. وقرئ ريا بغير همز. قال الزجاج: وله تفسيران: أحدهما أن الأول بطرح الهمز، الثاني أنه من الري الذي هو ضد العطن. والمراد به أن منظرهم مرتو من النعمة، كأن النعيم بين فيهم، لأن الري يتبعه الطراوة كما أن العطش يتبعه الذبول، والمعنى: إن الله قد أهلك قبلهم أقواما كانوا أكثر متاعا وأحسن منظرا فأهلك أموالهم، وأفسد عليهم جوهم، فليخافوا نقمة الله بالإهلاك كسنة من قبلهم من الكفار. {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا {75} وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا {76} } [مريم: 75-76] قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} [مريم: 75] قال ابن عباس: قل لهم يا محمد: من كان فِي العماية عن التوحيد ودين الله، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] هذا لفظ الأمر ومعناه الخبر، أي: مده الرحمن مدا، وكذا فسره ابن عباس، فقال: يريد فإن الله يمد له فِيها حتى يستدرجه. وقال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فِيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كأن المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي، ومعنى مده الله فِي ضلالته: أمهله وطول عمره فِيها، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [مريم: 75] يعني: الذين مدهم الله فِي الضلالة، وأخبر عن الجماعة لأن لفظ مَنْ يصلح للجماعة، ثم ذكر ما يوعدون فقال: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم: 75] يعني القتل والأسر، أو القيامة والخلود فِي النار، فسيعلمون حينئذ، {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75] أهم أم المؤمنون، لأن مكانهم جهنم، ومكان المؤمنين الجنة، وأضعف جندا وهذا رد عليهم فِي قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] . قوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} [مريم: 76] قال الربيع بن أنس: يريد أنه يزيد الذين اهتدوا بكتابه. هدى بما ينزل عليهم من الآيات فيصدقون بها، وقال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا كما جعل جزاء الكافر أن يمده فِي ضلالته. {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم: 76] الأذكار والأعمال الحسنة من الطاعات التي تبقى لصاحبها ولا تحبط، {خَيْرٌ

عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [مريم: 76] جزاء فِي الآخرة مما يفتخر به الكفار من مالهم وحسن معاشهم، {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76] المرد ههنا مصدر، مثل الرد، والمعنى: وخير رد للثواب على عامليها ليس كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت، ويقال: هذا الأمر رد عليك، أي: أنفع لك، والمعنى: أنه يرد عليك ما تريد. {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا {77} أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا {78} كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا {79} وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا {80} } [مريم: 77-80] وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77] قال جماعة أهل التفسير: نزلت فِي العاص بن وائل، وذلك أن خباب بن الأرت كان له عليه دين، فأتاه يتقاضاه، فقال: لا أقضيك حتى تكفر بإله محمد. فقال خباب: والله لا أكفر بإله محمد حيا ولا ميتا ولا حين أبعث. قال: فدع مالك قبلي، فإذا بعثت، أعطيت مالا وولدا، وقضيتك مما أعطى. يقول ذلك مستهزءا، فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77] يعني العاص، كفر بالقرآن، {وَقَالَ لأُوتَيَنَّ} [مريم: 77] لأعطين، {مَالا وَوَلَدًا} [مريم: 77] يعني فِي الجنة بعد البعث، وقرئ وولدا بضم الواو، وهما واحد، مثل العرب والعرب، والعجم والعجم. 599 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحَمْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا وَكِيعٌ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا قَيْنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ وَتُبْعَثَ، فَقَالَ: فَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَسَوْفَ أَفِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالِي وَوَلَدِي، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الأَشَجِّ، عَنْ وَكِيعٍ وَكِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ قال الله تعالى تكذيبا له ومنكرا عليه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] قال ابن عباس، ومجاهد: أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة أم لا؟ وقال الكلبي: أنظر فِي اللوح المحفوظ؟ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78] قال ابن عباس: أم قال لا إله إلا الله، فأرحمه بها؟ وقال قتادة: يعني أقدم عملا صالحا يرجوه؟ كلا ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد، ويجوز أن معنى كلا أي أنه لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الله عهدا، {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم: 79] سنأمر الحفظة بإثباته عليه لنجازيه به

فِي الآخرة، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79] نزيده عذابا فوق العذاب. {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي: ما عنده من المال والولد، بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، وهذا قول ابن عباس وقتادة، {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] يأتي الآخرة بلا مال ولا ولد. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا {81} كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا {82} أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا {83} فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا {84} } [مريم: 81-84] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم: 81] يعني: أهل مكة، عبدوا الأصنام من دون الله، {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81] قال الفراء: ليكونوا لهم شفعاء فِي الآخرة. وهذا معنى قول ابن عباس: ليمنعوهم مني. وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة والمنع من عذاب الله. قال الله تعالى: كلا قال ابن عباس: يريد لا يمنعهم مني شيء. {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] تجحد الآلهة عبادة المشركين لها، كما قال: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وذلك أنها كانت جمادا لا تعلم العبادة، {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] يصيرون أعوانا عليهم، يكذبونهم، ويلعنونهم، ويتبرءون منهم، وقال ابن قتيبة: أي أعداء يوم القيامة، وكانوا فِي الدنيا أولياءهم. قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] ذكر الزجاج فِي هذا وجهين: أحدهما أنَّا خلينا بين الشياطين وبين الكافرين فلم نعصمهم منهم ونعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، الوجه الثاني، وهو المختار، أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم، كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] فمعنى الإرسال ههنا التسليط. وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] الأز التحريك والتهييج، قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: تغريهم إغراء. وقال فِي رواية عطاء: نزعجهم إلى المعاصي إزعاجا. وهو قول قتادة، وقال السدي: نستعجلهم استعجالا. {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم: 84] أي: يطلب العذاب لهم {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] قال ابن عباس: يعني أنفاسهم التي يتنفسون فِي الدنيا، فهي معدودة إلى الأجل الذي أجلت لعذابهم. وهذا من أبلغ الوعيد، والمعنى: أنا أجلناهم إلى أجل يبلغونه تعد أنفسهم إلى تمام ذلك الأجل. قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا {85} وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا {86} لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا {87} } [مريم: 85-87] {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} [مريم: 85] أي: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فِيهِ من اتقى الله فِي الدنيا بطاعته واجتناب معاصيه، {إِلَى الرَّحْمَنِ} [مريم: 85] إلى جنته ومحل كرامته، {وَفْدًا} [مريم: 85] جمع وافد، كما يقال: راكب وركب، وصاحب وصحب. فقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة إذا خرج إلى ملك فِي فتح أو أمر، قاله ابن عباس. 600 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، نا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رِحَالٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} [مريم: 86] الكافرين، {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] عطاشا مشاة، قال قتادة: سيقوا إليها وهم ظماء. والورد الجماعة التي ترد الماء، ولا يرد أحد الماء إلا بعد العطش. {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم: 87] لا يشفعون ولا يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض، وهو قوله: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ} [مريم: 87] على معنى لكن من اتخذ، {عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] فإنه يملك الشفاعة، قال ابن عباس: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إليه من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا {91} وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا {95} } [مريم: 88-95] قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] يعني: اليهود والنصارى ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله. قال الله مخاطبا لهم: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] عظيما فِي قول الجميع، ومعنى الآية: قلتم قولا عظيما، كما قال: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] . {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ} [مريم: 90] أي: تدنو من الانشقاق، وقرئ ينفطرن منه وكلاهما واحد، يقال: انفطر الشيء وتفطر إذ تشقق. {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} [مريم: 90] تسقط، هدا الهد: الكسر الشديد، يقال: هدني هذا الأمر وهد ركني. والمعنى: تسقط الجبال وتكسر كسرا، قال المفسرون: لما قالوا اتخذ الله ولدا، اقشعرت الأرض، وشاك الشجر، وغضبت الملائكة، واستعرت جهنم، وفزعت السموات والأرض والجبال. أن دعوا قال الفراء: من أن دعوا، ولأن دعوا. {لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا {91} وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} } [مريم: 91-92] ولا يليق به اتخاذ الولد، لأن اتخاذ الولد يقتضي

مجانسة، وكل من اتخذ ولدا اتخذه من جنسه، والله تعالى منزه من أن يجانس شيئا، أو يجانسه شيء، فمحال فِي وصفه اتخاذ الولد. إن كل ما كل، {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم: 93] من الملائكة والمخلوقين، {إِلا آتِي الرَّحْمَنِ} [مريم: 93] إلا يأتيه يوم القيامة، عبدا ذليلا خاضعا، يعني أن الخلق عبيده، وأن عيسى وعزيرا من جملة العبيد. لقد أحصاهم عرف عددهم، وعدهم عدا ولا يخفى عليه مبلغ جميعهم، ولا واحد منهم، مع كثرتهم. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] بلا مال ولا نصير يمنعه. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {96} فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا {97} وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا {98} } [مريم: 96-98] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] قال ابن عباس، ومجاهد: يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] ما هو؟ قال: «المحبة فِي صدور المؤمنين، إن الله أعطى المؤمنين المقة والألفة والمحبة فِي صدور الصالحين» . وقال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. 601 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، نا أَبُو الأَزْهَرِ أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ " قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] أي: هوناه وأنزلناه بلغتك ليسهل عليك الإبلاغ، لتبشر به المتقين بالقرآن من

أطاعك، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] جمع ألد، وهو الخصم، قال قتادة: جدلا بالباطل، يعني قريشا. ثم أنذرهم وخوفهم بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} [مريم: 98] قبل هؤلاء، من قرن بتكذيب الرسل، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ} [مريم: 98] هل ترى من الذين أهلكناهم، {مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] أي: صوتا، والركز الصوت الخفي، قال الحسن: ذهب القوم فلا تسمع لهم صوت. وقال قتادة: هل ترى من عين، أو هل تسمع من صوت.

سورة طة

سورة طة مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة. 602 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا خُشْنَامُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَرَأَ طه وَيس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ الْقُرْآنَ؛ قَالُوا: طُوبَى لأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا، وَطُوبَى لأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لأَلْسُنٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا " {طه {1} مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى {2} إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى {3} تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى {4} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى {6} وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى {8} } [طه: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم طه أكثر المفسرين على أن معناه: يا رجل، يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول الحسن، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وابن عباس فِي رواية عطاء، والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة، وبالنبطية، والسريانية. ويقول الكلبي: هي بلغة عك. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة فِي هذا المعنى، لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش. {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} [طه: 2] لتتعب وتبلغ من الجهد ما بلغت، وذلك أنه لما أنزل عليه الوحي بمكة اجتهد فِي العبادة حتى أنه كان يصلي على إحدى رجليه، يراوح بين قدميه لطول قيامه، فيشتد ذلك عليه، فأمره الله تعالى أن يخفف على نفسه، وذكر أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل ذلك التعب. {إِلا تَذْكِرَةً} [طه: 3] قال

المبرد: لكن تذكرة. أي: لكن أنزلناه، أي: لتذكر به من يخشى الله، والتذكرة مصدر كالتذكير. تنزيلا أي: نزلناه، {تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4] قال ابن عباس: أخبر بعظمته. الرحمن مرفوع على خبر ابتداء مضمر، لأنه لما قال: ممن خلق بينه، فكأنه قال: هو الرحمن. {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك. أخبرنا أبو الفضل أحمد بن محمد العروضي، أنا أبو منصور الأزهري، أنا أبو الفضل المنذري، قال: سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء الإقبال على الشيء. ونحو هذا قال الفراء، والزجاج في قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ولا يصح الاستواء فِي صفة الله تعالى إلا من هذا الوجه، وما سواه فهو باطل فاسد.

قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [طه: 6] أي أنه مالك كل شيء ومدبره، وما بينهما يعني الهواء، {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] هو التراب الندي، قال الضحاك: يعني ما وارى الثرى من شيء. والمفسرون يقولون: أراد الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله عز وجل. {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} [طه: 7] أي: ترجع صوتك به، {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] أي: فلا تجهد نفسك برفع الصوت، فإنك وإن لم تجهر، علم الله السر وأخفى، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: السر ما أسررت فِي نفسك وأخفى، ما لم تحدث به نفسك مما يكون فِي غد علم الله فِيهمَا سواء. والتقدير وأخفى منه، إلا أنه حذف للعلم به، وهذا كقولك: فلان كالفيل، أو أعظم منه. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [طه: 8] أي: لا معبود يستحق العبادة غيره، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] يعني: التسعة والتسعين التي ورد بها الخبر، والحسنى تأنيث الأحسن. {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {9} إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى {10} } [طه: 9-10] قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه: 9] هذا استفهام تقرير بمعنى الخبر، أي: وقد أتاك، ونحو هذا قال ابن عباس: يريد وقد أتاك حديث موسى. {إِذْ رَأَى نَارًا} [طه: 10] قال ابن عباس: كان موسى رجلا غيورا، لا يحب الرفقة لئلا ترى امرأته، فأخطأ الطريق فِي ليلة مظلمة، فرأى نارا من بعيد. فقال لأهله يريد امرأته، امكثوا أقيموا مكانكم، {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] رأيتها وأبصرتها، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه: 10] القبس: شعلة من نار يقبسها من معظم النار، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] قال ابن عباس: من يدل على الطريق. وقال مجاهد: هاديا يهدي إلى الطريق. قال الفراء: أراد هاديا فذكره

بلفظ المصدر. قال السدي: لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى {11} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {12} وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي {14} إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى {15} فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى {16} } [طه: 11-16] {فَلَمَّا أَتَاهَا} [طه: 11] قال ابن عباس: لما توجه نحو النار، فإذا النار فِي شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فسمع النداء من الشجرة: يا موسى، وهو قوله: {نُودِيَ يَا مُوسَى {11} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11-12] وقرئ بفتح الألف على معنى نودي بأني، ومن كسر فالمعنى: نودي فقيل {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] قال وهب: نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى. فأجاب سريعا، ما يدري من دعاه، فقال: إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك، وأمامك وخلفك، وأقرب إليك من نفسك. فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه عز وجل، فأيقن به، وقوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] روى ابن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت» . وهذا قول أكثر المفسرين، قيل لموسى: لا تدخل الوادي وهما عليك. وقال الحسن: كانتا من جلد بقرة ذكية، ولكن أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة، فتناله بركتها. وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، قال: يقول: أفض بقدميك إلى بركة هذا الوادي. وهو قوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] أي المطهر، وقال الوالبي: المقدس المبارك، وذكرنا هذا عند قوله: {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] وطوى اسم الوادي فِي قول جميع المفسرين. قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه: 13] قال الكلبي: اخترتك برسالتي لكي تقوم بأمري. {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] إليك مني أمره بعبادته. وأخبره بالتوحيد، فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، كنت فِي وقتها أو لم تكن. هذا قول عامة المفسرين، وروي ذلك مرفوعا. 603 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ

عُمَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا هَمَّامٌ، نا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ قال الحسن: أقم الصلاة لأن تذكرني لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله. وهذا قول مجاهد، قال: إذا صلى العبد، ذكر الله. ثم أخبره بمجيء الساعة، فقال: {إِنَّ السَّاعَةَ} [طه: 15] يعني القيامة، {آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي. وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. قال قطرب، والمبرد: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا فِي كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي: لم أطلع عليه أحدا. ومعنى الآية أن الله بالغ فِي إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب. قال قتادة: هي فِي بعض القراءة أكاد أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين. قال ابن الأنباري: والمعنى فِي إخفائها التهويل والتخويف، لأن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت. وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] أي: بما تعمل من خير وشر، واللام فِي لتجزى متعلقة بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه: 15] . {فَلا يَصُدَّنَّكَ} [طه: 16] لا يمنعنك ولا يصرفنك، عنها عن الإيمان، {مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16] بأنها آتية، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه: 16] مراده وخالف أمر الله، {فَتَرْدَى} [طه: 16] فتهلك. {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى {17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى {18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى {19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى {20} قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى {21} } [طه: 17-21] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] قال الزجاج: ما التي بيمينك؟ ومعنى سؤال موسى عما فِي يده من العصا، التنبيه له عليها ليقع المعجز بها بعد التثبيت فِيها، والتأمل لها. قال موسى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أعتمد عليها إذا مشيت، والتوكؤ التحامل على العصا فِي المشي، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 18] قال الفراء: أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقها فترعاه الغنم. فقال: هش يهش هشا إذا خبط الشجر. {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] المآرب الحوائج، واحدتها مأربة، ومنه المثل: مأربة لا حفاوة. وأراد بالمآرب ما يستعمل فِيهِ العصا من السفر. قال الله: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 19]

أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الأصفهاني، نا أحمد بن محمد بن سريح، نا محمد بن رافع، نا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهبا يقول: قال له الرب: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 19] . فظن موسى أنه يقول: ارفضها، فألقاها على وجه الرفض، ثم حانت منه لفتة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل، فيلقمها، ويطعن بنابه فِي أصل الشجر العظيمة فيحتها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحجن عنقا فِيهِ شعر مثل النيازك، فلما عاين ذلك موسى {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] ثم ذكر ربه، فوقف استحياء منه، ثم نودي ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف. {قَالَ خُذْهَا} [طه: 21] بيمينك، {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها، أوكى طرف الدرعة على يده، فقال ملك: يا موسى، أرأيت لو أذن الله بما تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا. قال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت وكشف عن يده. ثم وضعها فِي فم الحية فإذا يده فِي الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين. قال المفسرون: أراد الله تعالى أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون، ولا يولي مدبرا. قوله: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] قال السدي: نردها عصا كما كانت. والسيرة الهيئة والحالة، يقال لمن كان على شيء فتركه ثم عاد إليه: عاد إلى سيرته. قال الزجاج: المعنى سنعيدها إلى سيرتها، فلما حذفت إلى، وصل إليها الفعل فنصبها. {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى {22} لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى {23} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {24} قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي {25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي {26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي {28} وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا {34} إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا {35} } [طه: 22-35] قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] قال الفراء، والزجاج: جناح الإنسان عضده إلى أصل إبطه. وهذا قول مجاهد، قال: كفك تحت عضدك. وقوله: تخرج بيضاء قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر، وأشد ضوءا. فذلك قوله: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] أي: من غير برص فِي قول الجميع، قال الليث: ويكنى بالسوء عن البرص. وقوله: {آيَةً أُخْرَى} [طه: 22] أي: دلالة على صدقك سوى العصا. {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا

الْكُبْرَى} [طه: 23] أراد الآية الكبرى، قال ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته. {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] جاوز القدر فِي العصيان، وذلك أنه خرج فِي معصيته إليّ فتجاوز به معاصي الناس. {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك. وذلك أنه كان يضيق صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وجنده وحده، فسأل الله أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحد لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله، وإذا علم ذلك لم يخفف فرعون، وإن اشتدت شوكته وكثر جنوده. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 26] سهل علي ما بعثتني له. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] قال ابن عباس: يريد أطلق عن لساني العقدة التي فِيهِ حتى يفهموا كلامي. وهو قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي {28} وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي {29} } [طه: 28-29] عونا وظهيرا من أهل بيتي، قال الزجاج: اشتقاقه فِي اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجي من التهلكة، والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه فِي الأمور ويلتجئ. وقوله: {هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] مفعول الجعل على تقدير اجعل هارون أخي وزيري. {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] قو ظهري وأعني به، والأزر الظهر. {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] اجمع بيني وبينه فِي النبوة، وقرأ ابن عامر أشدد به أزري وأشركه فِي أمري على الجواب والمجازاة، والوجه الدعاء على ما قرأت به العامة، لأنه معطوف على ما تقدمه من قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي {25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي {26} } [طه: 25-26] فكما أن ذلك كله دعاء، فكذلك ما عطف عليه قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} [طه: 33] قال الكلبي: يقول: نصلي لك كثيرا. {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 34] بحمدك والثناء عليك، بما أوليتنا من نعمك، ومنيت به علينا من تحميل رسالتك. {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 35] عالما إذ خصصتنا بهذه النعمة. فاستجاب الله دعاءه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى {36} وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى {37} إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى {38} أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى {40} وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي {41} اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي {42} اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {43} فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {44} } [طه: 36-44] {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] أعطيت ما سألت، وسؤال الإنسان: أمنيته التي يطلبها، فلين الله له صدره، وحل العقدة من لسانه، وبعث معه أخاه هارون. ثم أخبر بمنته عليه قبل هذا، فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37] أي: أحسنا إليك، وأنعمنا عليك قبل هذه المرة. ثم فسره بقوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه: 38] أي: ألهمناها حين عييت بأمرك ما كان فِيهِ سبب نجاتك من القتل، ومعنى ما يوحى: ما يلهم. ثم فسر ذلك الإيحاء، فقال: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه: 39] أي: اجعليه فِيهِ بأن ترميه فِيهِ، {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39] قال ابن عباس: يريد النيل. واليم البحر، والنهر الكبير، {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ

بِالسَّاحِلِ} [طه: 39] وهو شط البحر والوادي، {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه: 39] يعني فرعون، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] قال عطاء، عن ابن عباس: لا يلقاك أحد إلا أحبك، لا مؤمن ولا كافر. وقال عكرمة: حسن وملاحة، فحيث أبصرت وجهه آسية قالت لفرعون: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: 9] وقال قتادة: ملاحة كانت فِي عين موسى، ما رآه أحد إلا عشقه. وقال عبيدة: يقول: جعلت لك محبة عند غيري، أحبك فرعون، فسلمت من شره، وأحبتك امرأته آسية، فتبنتك. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال: صنع الرجل جاريته إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه، والقيام عليه. وتفسير قوله: على عيني بمرأى مني صحيح، ولكن لا يكون لموسى فِي هذا تخصيص، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله، والصحيح فِي هذا قول قتادة: لتغذى على محبتي وإرادتي. وهذا القول اختيار أبي عبيدة، وابن الأنباري. قال أبو عبيدة: لتغذى على محبتي، وما أريد. والعرب تقول: اتخذ شيئا على عيني، أي: على محبتي. وقال ابن الأنباري: العين فِي هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غذي على عيني، أي على المحبة مني. والمعنى: ولتصنع على عيني، قدرنا مشي أختك وقولها هل أدلك على من يكفله، لأن هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراد الله. وهو قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} [طه: 40] يعني حين قالت لها أم موسى: قصيه. فاتبعت موسى على أثر الماء، وقوله: {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه: 40] يعني: حين أبى موسى المراضع، فقالت: هل أدلكم {عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40] أي: يرضعه ويضمه إليه، فقيل لها: ومن هي؟ قالت أمي. قالوا: أمك لها لبن. قالت: لبن أخي هارون. فأرسلوها، فجاءت بالأم، فقبل ثديها، فذلك قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} [طه: 40] أي: رددناك إليها، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه: 40] بك وبرؤيتك، وقتلت نفسا يعني: القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه: 40] من غم مخافة أن تقتل به، خلصناك منه حين هربت إلى مدين، {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] قال ابن عباس فِي رواية سعيد بن جبير، ومجاهد فِي رواية ابن أبي نجيح: الفتون وقوعه فِي محنة بعد محنة، خلصه الله منها، أولها: أن أمه حملته فِي السنة التي كان فرعون يذبح فِيها الأطفال، ثم إلقاؤه فِي البحر، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقب، وكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير، ويقول عند كل بلية: وهذا من الفتون يا ابن جبير. وعلى هذا معنى فتناك خلصناك من تلك المحن

كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث وشائب، والفتون مصدر، وقوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه: 40] تقدير الكلام وفتناك فتونا فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين، ومثل هذا الحذف فِي التنزيل كثير، قال الفراء: وهو من كلام العرب، أن تجتزئ بحذف كثير من الكلام إذا كان المعنى معروفا. ومدين بلد شعيب، وكان على ثمان مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين. قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40] يعني: على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فِيهِ إلى الأنبياء، هذا قول المفسرين، والمعنى: على الوعد الذي وعده الله وقدره فِي علمه أن يوحى إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة، وهذا معنى قول محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت أن تجيء. قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] الاصطناع: اتخاذ الصنيعة، وهو الخير تسديه إلى إنسان، قال ابن عباس: يريد اصطنعتك لوحيي ورسالتي. والمعنى: لتتصرف على إرادتي ومحبتي، وذلك أن تبلغة الوحي، وقيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله ومحبته. وقال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، حتى صرت فِي التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] قال ابن عباس: يعني الآيات التسع التي بعث بها موسى. {وَلا تَنِيَا} [طه: 42] لا تضعفا، ولا تفترا، يقال: ونى يني إذا ضعف. {فِي ذِكْرِي} [طه: 42] قال الفراء: فِي ذكري وعن ذكري سواء. والمعنى: لا تقصرا فِي ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما، وذكر النعمة شكرها. {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 43] تكرير الأمر بالذهاب للتأكيد، {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] مر تفسيره. {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] قال ابن عباس، والسدي: كنياه. واختلفوا فِي كنيته، فقيل: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقال مقاتل: يعني بالقول اللين: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} } [النازعات: 18-19] أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي، فِي كتابه، أنا محمد بن الحسن الحدادي، أنا محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنا أبو عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: القول اللين أن موسى أتاه فقال له: تسلم وتؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت، ولا ينزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت، فإذا مت دخلت الجنة، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان غائبا، فقال فرعون: إن لي ذا أمر وهو غائب حتى يقدم. فلم يلبث أن قدم

هامان، فقال له فرعون: أعلمت أن موسى قد دعاني إلى أمر أعجبني، وأخبره بالذي دعاه إليه، وأردت أن أقبله منه، فقال له هامان: قد كنت أرى أن لك رأيا بينا، أنت رب فتريد أن تكون مربوبا، وبينا أنت تُعْبَدُ فتريد أن تَعْبُدُ. فقلبه عن رأيه ذلك فأنبى، قال الشيخ سمعت إسماعيل بن أبي القاسم النصراباذي، سمعت والدي، سمعت أحمد بن محمد الأزرقي، سمعت محمد بن إبراهيم يقول: حضرت مجلس يحيى بن معاذ، وقرأ رجل هذه الآية {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] فبكى يحيى، ثم قال: إلهي، هذا رفقك بمن يقول أنا إله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت إلهي، إن قول إلا إله إلا الله يهدم كفر خمسين سنة، فما تصنع بذنوب خمسين سنة. وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] أي: ادعواه على الرجاء والطمع، لا على اليأس من فلاحه، فوقع التعبد لهما على هذا الوجه، لأنه أبلغ لهما فِي دعائه إلى الحق، وقد كشف الزجاج عن هذا المعنى، فقال: المعنى فِي هذا عند سيبويه: اذهبا على رجائكما وطمعكما، والعلم من الله قد أتي من وراء ما يكون، وإنما تبعث الرسل وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم. وقال ابن الأنباري: مذهب الفراء فِي هذا: كي يتذكى أو يخشى فِي تقديركما، وما تمضيان عليه. {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى {45} قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى {47} إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {48} } [طه: 45-48] {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه: 45] أن يبادر ويعجل بعقوبتنا، يقال: فرط فلان إذا عجل بمكروه، وفرط منه أمر، أي بدر وسبق. وقوله: {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] أي: يتجاوز الحد فِي الإساءة بنا. 604 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الرُّصَافِيُّ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، أنا سَالِمُ بْنُ جُنْدَةَ، نا أَبِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى سُلْطَانٍ يَخَافُ تَغَطْرُسَهُ؛ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فُلانٍ وَأَحْزَابِهِ؛ أَنْ يُفَرِّطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَطْغَى، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] بالنصرة والعون، {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنعه. والمعنى: لست بغافل عنكما فلا تهتما. {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه: 47] أرسلنا إليك، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: 47] أي: خل عنهم، {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] وكان فرعون يستعملهم فِي الأعمال الشاقة، {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ

مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47] يعني العصا، وقيل اليد، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] قال الزجاج: ليس يراد به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله. يدل على هذا المعنى قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] أي: إنما يعذب من كذب بما جئنا به وأعرض عنه، فأما من اتبعه، فإنه يسلم من العذاب، فأتيا فرعون وبلغاه الرسالة. {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى {49} قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى {50} قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى {51} قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى {52} } [طه: 49-52] قال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] من إلهكما الذي أرسلكما؟ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه: 50] أي: صورته، خلق كل جنس من الحيوان على صورة أخرى، فلم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان. {ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] والمعنى: ثم هداه لما يصلحه من مطعمه ومشربه ومنكحه إلى غير ذلك، والاحتجاج على فرعون من هذا الجواب، أنه قد ثبت خلق وهداية للخلائق، ولا بد لها من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الرب لا رب غيره. فلما دعاه إلى دين الله واتباع الهدى، قال له فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه: 51] معنى البال: الحال والشأن، والمعنى: ما حالها، فإنها لم تقر بالله، وبما تدعوا إليه، ولكنها عبدت الأوثان. ويعني بالقرون الأولى: الأمم المتقدمة، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود. قال موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52] قال الزجاج: أي أعمالهم محفوظة عند الله، يجازي بها. والتقدير علم أعمالها عند ربي، {فِي كِتَابٍ} [طه: 52] قال الكلبي: يعني اللوح المحفوظ. والمعنى أن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم، أي أنهم يجازون بما عملوا، وأنت تجازى بما تعمل. وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] تأكيد وتحقيق للجزاء بالأعمال، أي: لا يخطئ ربي ولا يتسرع ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. قال السدي: لا يغفل ولا يترك شيئا. وأصل الضلال فِي اللغة الغيبوبة، يقال: ضل الماء فِي اللبن، وضل الكافر عن المحجة، وضل الناس إذا غاب عنه حفظه، ومعنى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] عن شيء، ولا يغيب عنه شيء. ثم زاد فِي الأخبار عن الله، وبيان وصفه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى {53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {54} مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى {55} } [طه: 53-55] الذي جعل لكم الأرض مهادا وقرئ مهدا وهو مصدر كالفراش، والمهاد مثل الفراش والبساط، وهما اسم ما يفرش ويبسط، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} [طه: 53] والسلك إدخال الشيء فِي الشيء، والمعنى: أدخل فِي الأرض لأجلكم طرفا تسلكونها، كما قال ابن عباس: سهل لكم فِيها طرقا. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [طه: 53]

يعني المطر، وتم الإخبار عن موسى، ثم أخبر الله تعالى عن نفسه متصلا بالكلام الأول بقوله: فأخرجنا به بذلك الماء، {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] قال ابن عباس: أصنافا من النبات مختلفة: أبيض، وأحمر، وأخضر، وأصفر، وكل لون منها زوج. ولا واحد لشتى من لفظه. كلوا أي: مما أخرجنا بالمطر من النبات والثمار، {وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54] يقال: رعت الماشية الكلأ رعيا، ورعاها صاحبها رعاية إذا أسرحها فِي المراعي. والمعنى: أسيموا مواشيكم فيما انبتناه بالمطر، ومعنى هذا الأمر التذكير بالنعمة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [طه: 54] مما ذكر، {لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: 54] لذوي العقول الذين يتناهون بعقولهم عن معاصي الله، وإنما خص أولي النهي لأنهم أهل التفكر والاعتبار. قوله: منها أي: من الأرض، وجرى ذكرها في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ} [طه: 53] ، {خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] يعني: آدم خلق من الأرض، والبشر كلهم منه، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] بعد الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] عند البعث، كما أخرجكم أولا عند خلق آدم من الأرض. {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى {56} قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى {57} فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى {58} قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى {59} } [طه: 56-59] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه: 56] يعني فرعون، {آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه: 56] يعني: الآيات التسع، {فَكَذَّبَ} [طه: 56] نسب جميعها إلى الكذب، وأبى أن يقبل التوحيد، ونسب إلى موسى السحر. وهو قوله: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} [طه: 57] يعني مصر، {بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه: 57] تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها. {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه: 58] فلنقابلن ما جئتنا به من السحر بسحر مثله، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} [طه: 58] مكانا لا يقع منا خلاف فِي حضوره، تعد لحضورنا ذلك المكان، {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} [طه: 58] ثم بين ذلك، فقال: مكانا سوى وقرئ {سُوًى} [طه: 58] بضم السين، والمعنى: مكانا تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، وهذا معنى قول المفسرين، قال قتادة: نصفا. وقال مقاتل: عدلا بيننا وبينك. وقال مجاهد: منصفا. فواعده موسى يوما معلوما، ويوما ووقتا معلوما، وهو قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59] قال مجاهد، وقتادة، والسدي: كان ذلك يوم عيد لهم يتزينون فِيهِ. وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشورا. {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] يعني: ضحى ذلك اليوم، ويريد بالناس أهل مصر، يقول: يحشرون إلى ضحى العيد ضحى، فينظرون إلى أمري وأمرك. قال الفراء: يقول: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد. قال: وجرت عادتهم بحشر الناس فِي ذلك اليوم. {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى {60} قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى {61} فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى {62} قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ

أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى {63} فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى {64} } [طه: 60-64] فتولى فرعون قال مقاتل: أعرض عن الحق، وعما يلزمه من الطاعة. فجمع كيده مكره وحيلته، وذلك جمعه السحرة، ثم أتى حضر الموعد. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} [طه: 61] أي: للسحرة الذين جمعهم فرعون، ويلكم ألزمكم الله الويل، {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] قال ابن عباس: لا تشركوا بالله أحدا، {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] ويقرأ بضم الياء يقال: سحته الله، وأسحته إذا استأصله وأهلكه. قال ابن عباس، ومجاهد: فيهلككم. وقال قتادة: فيستأصلكم. {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] قال ابن عباس: خسر من ادعى مع الله إلها آخر. وقال قتادة: خسر من كذب على الله ونسب إليه باطلا. قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 62] تناظروا فِي أمر موسى وتشاوروا، يعني السحرة، سرا من فرعون، فقالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه. وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج. وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر. ثم قالوا وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] يعنون موسى وهارون، قال ابن عباس فِي رواية عطاء: هي لغة بلحرث بن كعب، يعني قوله: {إِنْ هَذَانِ} [طه: 63] . وإجماع النحويين إن هذا لغة حارثية، وذلك أن بلحرث بن كعب، وخثعم، وزبيرا، وقبائل من اليمن يجعلون ألف الاثنين فِي الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ومررت بالزيدان، وذلك أنهم يقلبون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا، فعاملوا ياء التثنية أيضا هذه المعاملة، كما قال قائلهم: أيُّ قلوص راكب تراها ... طاروا علاهن فطر علاها وهذه ليست ياء التثنية، ولكن لما كانت اللام فِي عليها مفتوحة، قلبوها ألفا، وحكى هذه اللغة جميع النحويين، وقرأ أبو عمرو إن هذين بالياء، بخلاف المصحف، واحتجاجه فِي ذلك بما روي أنه غلط من الكاتب، وأن فِي الكتاب غلط ستقيمه العرب بألسنتها. وقال الزجاج: لا أجيز هذه القراءة لأنها خلاف المصحف، ولا أجيز مخالفته لأن اتباعه سنة. وقرأ ابن كثير {إِنْ هَذَانِ} [طه: 63] بتخفيف إن على معنى: ما هذان إلا ساحران، وإن إذا خففت كان الوجه أن يرفع الاسم بعدها،

واستحسن الزجاج هذه القراءة، قال: وكان الخليل يقرأ بهذه القراءة. والإجماع أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل،

وقوله: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه: 63] تقدم تفسيره، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طرقة قومهم وطرائق قومهم لا طراقهم. والمثلى: تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال: فلان أمثل قومه، أي أفضلهم، وهم الأماثل. روي الشعبي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فِي هذه الآية، قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. والمعنى أن يغلبا بسحرهما فيميل إليهما السادة والأشراف منكم، وقال قتادة: طريقتكم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عدة وأموال، فقالوا: إنما يريدون أن يذهبا بهما لأنفسهما. وهذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها فِي السيرة. واختاره أبو عبيدة، فقال: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] بسنتكم ودينكم وما أنتم عليه. ثم تواصوا فيما بينهم، فقالوا: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] قال الفراء: الإجماع الإحكام، والعزيمة على الشيء، تقول: أجمعت الخروج، وعلى الخروج، مثل أزمعته. وقرأ أبو عمرو فاجمعوا موصولا من الجمع، وحجته قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] والمعنى: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به، استظهارا للمبالغة فِي سحرهم. {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه: 64] أي: مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأموركم، وأشد لهيبتكم، وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع، ويسمى المصلى الصف. وقال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فِيهِ لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف، بمعنى أتيت المصلى، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64] قال ابن عباس: قد سعد اليوم من غلب، ومعنى استعلى: علا بالغلبة. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى {65} قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى {66} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى {67} قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى {68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى {69} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى {70} } [طه: 65-70] {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65] أي: اختر أحد هذين، والمراد بالإلقاء إلقاء العصي على الأرض، وكانت السحرة معهم عصا، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول. قال موسى: {بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] أمرهم بالإلقاء أولا، لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، ثم يلقي هو عصاه، فتبتلع ذلك، وقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه: 66] قال عطاء: كان عدد السحرة سبعين ألف رجل، مع

كل رجل عصا وحبل غليظ مثل حبال السفر. وقال عكرمة: كانوا تسع مائة. وقال محمد بن إسحاق كانوا خمسة عشر ألف. {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} [طه: 66] إلى موسى، {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] قال الكلبي: خيل إلى موسى أنها حيات كلها، وأنها تسعى على بطنها. يقال: خيل إليه إذا شبهه له، أدخل عليه التهمة والشبهة. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] أي: أحس ووجد خوفا، لأن سحرهم كان من جنس ما أراهم فِي العصا، فخاف أن يلتبس الناس على أمره ولا يؤمنوا به. فقال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه: 68] عليهم بالظفر والغلبة. {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69] يعني العصى، {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة. {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر. وقرئ كيد سحر والمعنى: كيدا من سحر، كما قالوا: قميص حرير، وجوبة خز. {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] قال ابن عباس: ولا يسعد الساحر حيث ما كان. وروى جندب بن عبد الله البجلي، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] قال: لا يأمن حيث وجد ". {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى {71} قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {72} إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {73} } [طه: 71-73] وما بعد هذا مفسر فِي { [الأعراف إلى قوله:] إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [سورة طه: 71] قال ابن عباس: يريد معلمكم. قال الكسائي: الصبي بالحجاز، إذا جاء من عند معلمه، قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحار، والكبير فِي اللغة الرئيس، ولهذا يقال للمعلم الكبير. وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فِي بمعنى على، كقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي عليه. ولتعلمن أيها السحرة، {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} [طه: 71] لكم، وأبقى وأدوم، أنا على إيمانكم، أو رب موسى على ترككم الإيمان به. {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} [طه: 72] لن نفضلك ولن نختارك، {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه: 72] قال مقاتل: يعني اليد والعصا. وقال عكرمة، والقاسم بن أبي بزة: هو أنهم ما رفعوا رءوسهم حيث خروا

سجدا، حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا منازلهم فِي الجنة التي إليها يصيرون، وقوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه: 72] ذكر الفراء، والزجاج فِيهِ وجهين: أحدهما لن نؤثرك على الله الذي خلقنا، والثاني أنه قسم. {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] فاصنع ما أنت صانع، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] قال ابن عباس: إنما سلطانك وملكك فِي هذه الدنيا، فأما الآخرة فليس لك فِيها حظ ولا سلطان. {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه: 73] قال ابن عباس: يريد الشرك الذي كنا فِيهِ. {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 73] قال ابن عباس: إن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر. وذكر فِي التفسير أنه أكره السحرة على معارضة موسى بالسحر. {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] قال محمد بن إسحاق: خير منك ثوابا وأبقى عقابا. وقال محمد بن كعب: خير منك ثوابا إن أطيع، وأبقى عذابا منك إن عصي. وهذا جواب قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] وههنا انتهى الإخبار عن السحرة. {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى {74} وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى {75} جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى {76} } [طه: 74-76] قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] قال ابن عباس فِي رواية الضحاك: المجرم الكافر. وقال فِي رواية عطاء: يريد الذي أجرم وفعل مثل ما فعل فرعون. {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74] أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة تنفعه، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حالة الموت فِي المكروه إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري فِي مثل هذا المعنى: ألا ما لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75] مصدقا بما جاء من عند الله، {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 75] قال ابن عباس: قد أدى الفرائض. {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] يعني: درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض، والعلى جمع العليا، وهو تأنيث الأعلى. 605 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، نا عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَأَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ» قوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى {77}

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ {78} وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى {79} } [طه: 77-79] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [طه: 77] أي: سر بهم ليلا من أرض مصر، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} [طه: 77] اجعل لهم طريقا فِي البحر بالضرب بالعصا، يبسا لا نداوة فِيهِ ولا بلل يابسا، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم ذلك الطريق حتى لم يكن فِيها ماء وطين، {لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77] أي: لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك، ولا تخشى من البحر غرقا، وقرأ حمزة لا تخف جزما على النهي له من الخوف، معناه: لا تخف أن يدركك فرعون، واستأنف قوله: ولا تخشى على معنى: وأنت لا تخشى، كقوله: {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] . {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه: 78] أتبع ههنا مطاوع متعد من تبع، والباء في بجنوده زيادة، والمعنى: أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وكان هو أيضا فِي جنوده، فغشيهم علاهم وسترهم، {مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] قال ابن الأنباري: يعني: البعض الذي غشيهم. لأنه لم يغشهم كل مائة، بل الذي غشيهم بعضه، فقال الله تعالى: الذي غشيهم، ليدل على أن الذي غرقهم بعض الماء. قوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} [طه: 79] يعني: حين دعاهم إلى عبادته، وما هدى وما أرشدهم حين أوردهم مواقع الهلكة، وهذا تكذيب له فِي قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] . ثم ذكر الله منته على بني إسرائيل، فقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى {80} كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى {81} وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {82} } [طه: 80-82] {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} [طه: 80] يعني فرعون، غرقه بمرأى منهم، {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} [طه: 80] وهو أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة فِيها بيان ما يحتاجون إليه، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه: 80] يعني فِي التيه، وهذا مخاطبته لمن كان فِي عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود. قوله: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا، {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81] أي: لا تنظروا فيما أنعمت عليكم فتتظالموا، وقال الكلبي: لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] تجب لكم عقوبتي، وقرئ فيحل، {وَمَنْ يَحْلِلْ} [طه: 81] بالكسر والضم، قال الفراء: الكسر أحب إلي من الضم، لأنه من الحلول بمعنى الوقوع، ويحل الكسر يجب، وجاءني التفسير بالوجوب لا بالوقوع. هذا كلامه، أو يحل بالكسر، من قولهم: حل الشيء يحل حلا وحلالا إذا انحلت عنه عقدة التحريم، وزال عنه الحظر، وذلك أنهم ما لم يطغوا كان العذاب ممنوعا محظورا عنهم، فإذا طغوا ارتفع ذلك الحظر، فحل لهم العذاب، وقوله: فقد هوى أي: هلك وسقط فِي النار، يقال: هوى يهوي هويا إذا وقع فِي مهواه.

قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] قال ابن عباس: تاب من الشرك. {وَآمَنَ} [طه: 82] وحد الله وصدقه، {وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82] أدى فرائض الله، {ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] قال عطاء، عن ابن عباس: علم أن ذلك توفيق من الله له. قال فِي رواية أبي صالح: علم أن لهذا ثوابا. وهو قول الثوري، والشعبي، ومقاتل، وقال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه. وهذا اختيار الزجاج، لأنه يقول: ثم أقام إيمانه. أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد المهرجاني، أنا أحمد بن علي، نا أبو سعيد الأشج، نا عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير ثم اهتدى، قال: لزم السنة والجماعة. {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى {83} قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى {84} قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ {85} فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي {86} قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ {87} فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ {88} أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا {89} } [طه: 83-89] قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه: 83] قال المفسرون: كانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فسار موسى بهم، ثم عجل من فيهم شوقا إلى ربه، وخلف السبعين ليلحقوا به، فقال الله: ما الذي حملك على العجلة حتى خلفت قومك وخرجت من بينهم. {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه: 84] هم بالقرب مني، يأتون بعدي، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] قال الكلبي: ليزداد رضا. قال الله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85] قال الزجاج: ألقيناهم فِي فتنة ومحبة. وقال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل، لما سبق لهم فِي حكمتنا، {مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85] من بعد انطلاقك من بينهم، {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أن الضلالة كانت على يد السامري. يعني أنه كان سبب إضلالهم، وقال الكلبي: صرفهم السامري إلى عبادة العجل. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان السامري من أهل باجربي، وقع بأرض مصر، فدخل فِي بني إسرائيل، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر فِي نفسه. وقوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86] حزينا بما فعلوا، تقدم تفسيره فِي { [الأعراف،] قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [سورة طه: 86] صدقا لإثبات الكتاب، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 86] مدة مفارقتي إياكم، {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} [طه: 86] يجب، {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86] بعبادتكم العجل، والمعنى: أم أردتم أن تصنعوا صنيعا يكون سبب غضب ربكم، {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86] ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي، بيان هذا قوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] . فقال الذين لم يعبدوا العجل: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] أي: ونحن نملك من أمرنا شيئا، أي: لم نطق رد عبدة العجل من عظيم ما ارتكبوا، لكثرتهم وقلتنا، وجاء فِي الرواية أن الذين لم يعبدوا العجل كانوا اثني عشر ألفا، وافتتن الباقون بالعجل، وكانوا

جميعا ست مائة ألف، وأكثر القراءة بالكسر فِي بمِلكنا والمعنى: بملكنا أمرنا، ومن قرأ {بِمَلْكِنَا} [طه: 87] بفتح الميم، فهو المصدر الحقيقي، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكا، والملك ما ملك، ومن قرأ بضم الميم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا، أي: لم نقدر على ردهم، ثم ذكروا قصة اتخاذ العجل، فقالوا: ولكنا حَمَلْنَا أوزارًا من زينة القوم أي: أثقالا وأحمالا، قال قتادة: كانت حليا تعوروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي: أن الأوزار هي الأحمال، وزينة القوم حلي آل فرعون، استعاره بنو إسرائيل قبل خروجهم من مصر فبقي فِي أيديهم، وكان موسى أمرهم بذلك. وقرئ {حُمِّلْنَا} [طه: 87] بالتشديد وضم الحاء، والمعنى: جعلونا نحملها، قال أبو عبيدة: الوجه القراءة الأولى، لأن التفسير قد جاء أنهم حملوا معهم ما كان فِي أيديهم من حلي آل فرعون. وقوله: {فَقَذَفْنَاهَا} [طه: 87] قال السدي: قال هارون لهم الحلي غنيمة، ولا تحل لكم الغنيمة، فاحفروا لها حفرة، فاطرحوها فِيها حتى يرجع موسى فيقضي فِيها. فذلك قوله: {فَقَذَفْنَاهَا} [طه: 87] أي: طرحناها فِي الحفيرة، وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أوقد لهم هارون نارا وقال: اقذفوا ما كان معكم فِيها. فجعلوا يأتون معهم من الحلي فيقذفونه فِيها حتى انسكبت الحلي فِيها، ثم ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل، قال قتادة: وقد كان فِي طرف عمامته قبضة من أثر فرس جبريل يوم جاوز ببني إسرائيل فقدفها فيه. وهو قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 87] يعني: ما كان معه من التراب. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا} [طه: 88] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد لحما ودما له خوار كما يخور الحي من العجول. وقال قتادة: جعل يخور خوار البقرة. وقال الحسن: صور بقرة صاغها من الحلي التي كان معهم، ثم ألقي على فرس جبريل فانقلب حيوانا يخور. {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88] يعني: قال السامري ذلك ومن تابعه ممن افتتن بالعجل، قال سعيد بن جبير: عكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط. وقوله: {فَنَسِيَ} [طه: 88] قال السدي: يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. وقال قتادة: يقول: إن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه فِي طريق آخر. فعيرهم الله تعالى بصنيعهم، وقال موبخا: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا

يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} [طه: 89] أنه لا يرجع إليهم قولا، أي: لا يرد لهم جوابا، كما قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] . {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه: 89] توبيخ لهم، إذ عبدوا من لا يملك ضر من ترك عبادته، ولا نفع عنده. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي {90} قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى {91} } [طه: 90-91] {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} [طه: 90] أي: من قبل أن يأتي موسى لما رأى ما وقعوا فيه، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} [طه: 90] ابتليتم به، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 90] لا العجل، فاتبعوني فِي عبادته، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90] لا أمر السامري. فعصوه و {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] لن نزال مقيمين على عبادة العجل، {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] . فلما رجع موسى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا {92} أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي {93} قَالَ يَابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي {94} } [طه: 92-94] {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} [طه: 92] بعبادة العجل. ألا تتبعن لا زائدة، أي: ما منعك من اتباعي واللحوق بي، أفعصيت أمري إذ أقمت فيما بينهم وقد كفروا. ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضبا منه عليه {قَالَ يَابْنَ أُمَّ} [طه: 94] قرئ بالفتح والكسر، ومعنى الكلام فيه فِي { [الأعراف،] لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [سورة طه: 94] أي: بشعر رأسي، إني خشيت إن فارقتهم واتبعتك، {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه: 94] فرقت جماعتهم، وذلك أنه لو لحق بموسى لصاروا أحزابا، حزب يسيرون معه، وحزب يتخلفون عنه من الإيمان والإنكار على عبدة العجل، وحزب مع السامري، فلا يؤمن أن يصيروا فِي الخلاف إلى التسافك، فاعتذر بهذا، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني فِي قومي. فلما اعتذر هارون بهذا العذر. {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ {95} قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي {96} قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ

وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا {97} إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا {98} } [طه: 95-98] قال موسى للسامري: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] أي: ما شأنك الذي دعاك إلى ما صنعت. {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96] أي: علمت ما لم تعلموا، وعرفت ما لم تعرفوا، فقال له موسى: وما الذي أبصرت دون بني إسرائيل. قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] يريد أثر فرس جبريل، وذلك أنه قبض قبضة من تراب حافر فرسه، وألقي فِي نفسي أن أقبض من أثرها، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم، فحين رأيت قومك طلبوا منك أن تجعل لهم إلها، حدثتني نفسي بذلك، {فَنَبَذْتُهَا} [طه: 96] فألقيتها فِي صورة العجل، وَكَذَلِكَ وكما حدثتك يا موسى، {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] زينت لي نفسي من أخذ القبضة، وإلقائها فِي صورة العجل. قال له موسى: {فَاذْهَبْ} [طه: 97] أي: من بيننا، {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} [طه: 97] ما دمت حيا، {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه: 97] قال ابن عباس: لك ولولدك. والمساس فقال: من المماسة. ومعنى لا مساس: لا يمس بعضنا بعضا، فصار السامري يهيم فِي البرية مع الوحش والسباع، لا يمس أحدا ولا يمسه أحد، عاقبه الله بذلك، فكان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس. أي لا تقربني ولا تمسني، وصار ذلك عقوبة له ولولده، حتى إن بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك. وذكر أنه إن مس واحدٌ من غيرهم واحدًا منهم حم كلاهما فِي الوقت. وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه: 97] أي: وعدا لعذابك، يعني يوم القيامة، لن تخلف ذلك الموعد، ولن يتأخر عنك. قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت فِي القيامة، والله لا يخلف الميعاد. ومن قرأ بكسر اللام كان المعنى: لا تخلف ذلك الموعد، أي ستأتيه ولا مذهب لك عنه. {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] قال ابن عباس: يريد الذي تعبده وظللت عليه مقيما، يعني العجل، وظللت هو الأصل، ولكن اللام الأولى حذفت لثقل التضعيف والكسر، والعرب تفعل ذلك كثيرا، تقول: مست لي ومسست. وقوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97] قال ابن عباس: حرقه بالنار ثم ذراه فِي اليم. وهو النسف، ومعناه: نقص الشيء لتذهب به الريح، وهو التذرية، وذكر فِي التفسير أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسألت منه دم، لأنه كان قد صار لحما ودما، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه فِي البحر. ثم أخبرهم موسى عن إلههم، فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [طه: 98] أي: هو الذي يستحق العبادة، لا العجل، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98] علمه علما تاما ولم يقصر عنه علمه. {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا {100} خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا {101} } [طه: 99-101] كَذَلِكَ أي: كما قصصنا عليك يا محمد نبأ موسى وقومه، {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99] من أخبار من

مضى وتقدم، {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه: 99] يعني القرآن. ثم أوعد على الإعراض عنه، وترك الإيمان به، فقال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 100] حملا ثقيلا من الإثم. خالدين فيه أي: فِي عذاب ذلك الوزر، {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} [طه: 101] قال الكلبي: بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفرا بالقرآن. وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا {102} يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا {103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا {104} } [طه: 102-104] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه: 102] وقرأ أبو عمرو ننفخ على معنى إضافة الأمر بالنفخ إلى الله، ويقوي ذلك ما عطف عليه من قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} [طه: 102] والوجه قراءة العامة، لقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه: 102] فِي سورتين، قال ابن عباس: يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلها. وقوله: زرقا قال: يريد زرق العيون، سود الوجوه. ومعنى الزرقة الخضرة فِي سواد العين كعين السنور، والمعنى فِي هذا تشويه الخلق بسواد الوجوه، وزرقة العيون. يتخافتون يتسارون فيما بينهم، فيقولون: إن لبثتم أي: ما لبثتم، أي من النفخة الأولى إلى الثانية، إلا عشرا إلا عشر ليالي، وذلك أنه يكف عنهم العذاب فيما بين النفختين، وهو أربعون سنة، استقصروا مدة لبثهم لهول ما عينوا. قال الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه: 104] أي: بما يتسارون بينهم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} [طه: 104] أعقلهم وأعدلهم قولا، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} [طه: 104] نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم. قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا {105} فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا {106} لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا {107} يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا {108} } [طه: 105-108] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] قال المفسرون: يصيرها الله رمالا تسيل، ثم يصيرها كالصوف المنفوش يطيرها الرياح. {فَيَذَرُهَا} [طه: 106] أي: يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها، قاعا قال الفراء: القاع ما انبسط من الأرض، ويكون فيه السراب نصف النهار، وجمعه قيعة، ومنه قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] . {صَفْصَفًا} [طه: 106] والصفصف الأملس الذي لا نبات فيه، ونحو هذا قال المفسرون. {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] قال عكرمة، عن ابن عباس: ليس

فيه منخفض ولا مرتفع. وقال مجاهد: انخفاضا وارتفاعا. وقال قتادة: لا ترى فِيها صدعا ولا أكمة. وقال الحسن: العوج ما انخفض من الأرض، والأمت ما نشز من الروابي. وتقول العرب: ملأ سقاءه حتى ليس فيه أمت، إذا لم ينثن لتمام الامتلاء. قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه: 108] قال الفراء: يعني صوت الداعي للحشر. قال المفسرون: يتبعون صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة. {لا عِوَجَ لَهُ} [طه: 108] لا عوج لهم عن الداعي، فلا يقدرون إلا أن يتبعوه، قال ابن عباس: كلهم تبع الصوت لا يتعوج عنه، {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108] سكتت وذلت وخضعت، {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: 108] قال أكثر المفسرين: يعني صوت نقل الأقدام إلى المحشر، والهمس الصوت الخفي كصوت أخفاف الإبل فِي المشي، وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يعني تحريك الشفاه بغير منطق. وهو قول مجاهد: الكلام الخفي. والمعنى على هذا التفسير: سكتت الأصوات، فلا يجهر أحد بكلام إلا كالسر من الإشارة بالشفة، وتحريك الفم من غير صوت. {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا {109} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {110} وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا {111} وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا {112} } [طه: 109-112] {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه: 109] أي: لا تنفع الشفاعة أحد من الناس إلا من أذن الله أن يشفع له، فذلك الذي ينفعه الشفاعة، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} [طه: 109] قال ابن عباس: يعني قال: لا إله إلا الله، وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [طه: 110] الكناية راجعة إلى الذين كفروا في قوله: {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه: 108] قال ابن عباس: يريد ما قدموا وما خلفوا. وقال الكلبي: ما بين أيديهم من أمر الآخرة. وما خلفهم من أمر الدنيا، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] الكناية تعود إلى ما في قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه: 110] أي: هو يعلم ذلك وهم لا يعلمونه، ويجوز أن تعود الكناية إلى الله، لأن عباده لا يحيطون به علما. قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] قال ابن عباس فِي رواية الوالبي: ذلت. وهو قول قتادة، وقال فِي رواية عطاء: خضعت. وقال طلق بن حبيب: هو السجود على الجبهة. قال الزجاج: معنى عنت فِي اللغة: خضعت، وسمي الاسير عانيا لخضوعه فِي يد من أسره، يقال: عنا يعنو عنوا إذا خضع. {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [طه: 112] مَنْ للجنس، والمعنى: من يعمل الصالحات، وهو مؤمن، لأن غير المؤمن لا يقبل عمله، ولا يكون صالحا، {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا} [طه: 112] أي: فهو لا يخاف، وقرأ ابن كثير: فلا يخف على

النهي، فهو حسن، لأن المعنى: ومن يعمل من الصالحات، وهو مؤمن فليأمن، لأنه لم يفرط فيما وجب عليه، ونهيه عن الخوف أمر بالأمن، وقوله: {ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112] الهضم: النقص، يقال: يهضمني فلان حقي، أي ينقصني. قال الوالبي، عن ابن عباس: لا يخاف أن يظلم فيزاد عليه فِي سيئاته، ولا أن يهضم من حسناته. وقال الضحاك: لا يؤخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا {113} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا {114} } [طه: 113-114] وَكَذَلِكَ كما بينا فِي هذه ال { [، أنزلناه أنزلنا هذا الكتاب،] قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} [سورة طه: 113] بينا فيه ضروب الوعيد، قال قتادة: يعني وقائعه فِي الأمم المكذبة. لعلهم يتقون ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] يجدد لهم القرآن اعتبارا، فيتذكروا به عقاب الله للأمم، فيعتبروا. وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ} [طه: 114] أي: جل عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون فِي صفته، الملك الذي بيده الثواب والعقاب، فهو يملكها، الحق معناه ذو الحق، وقد تقدم الكلام فيه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] قال ابن عباس، والمفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادر جبريل، فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي، حرصا منه على ما كان ينزل عليه، وشفقة على القرآن، مخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله عن ذلك، يقول: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] أي: بقراءته، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك، وهذا كقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] . {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] أي: بالقرآن ومعانيه، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية، قال: اللهم زدني علما وإيمانا ويقينا. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا {115} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى {116} فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى {117} إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى {118} وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى {119} فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى {120} فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {122} } [طه: 115-122] قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} [طه: 115] أي: أمرناه وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة، من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي، وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكر فِي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [طه: 113] والمعنى أنهم إن نقضوا العهد، فإن آدم أيضا عهدنا إليه،

فنسي قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: ترك عهدي وما أمر به. {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] معنى العزم فِي اللغة: توطين النفس على الفعل، قال عطية العوفي: لم نجد له حفظا لما أمر به. وقال الحسن: صبرا عما نهي عنه. وقال ابن قتيبة: رأيا معزوما عليه. حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده، وأبى أن يسجد له، وقال الحسن:، فقال الله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . 606 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَازِمٍ، نا كَامِلُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا جِبْرِيلُ بْنُ مجاعٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحْلامَ بَنِي آدَمَ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ لَرَجَحَ حُلْمُهُ حُلْمَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} وما بعد هذا تقدم تفسيره إلى قوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] قال عطاء: يريد شقاء الدنيا ونصبها. وقال الحسن: عنى به شقاء الدنيا لا ترى ابن آدم إلا ناصبا شقيا. وقال السدي: يعني الحرث والزرع، والعجن والخبز، ولم يقل فتشقيا، لأن أول الآية خطاب لآدم. إن لك يا آدم، ألا تجوع في الجنة، ولا تعرى وعده الله في الجنة الشبع والاكتساء، وألا يصيبه فيها عطش ولا حر. وهو قوله: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 119] ومن قرأ وإنك بالكسر فعلى الاستئناف وعطف جملة كلام على جملة، والظمأ مصدر قولك: ظمأ يظمأ إذا عطش، ويقال: ضحى الرجل يضحى ضحا وضحيا إذا أبرز الشمس فأصابه حرها، قال الضحاك، عن ابن عباس: يقول: لا تعطش فيها كما يعطش أهل الدنيا، ولا يصيبك فيها حر كما يصيب أهل الدنيا. والمعنى: لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها، لأنه ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود. {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120] كقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] وقد تقدم، {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120] على شجرة من أكل منها لم يمت، {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] جديد ولا يفنى، وهذا كقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20] الآية، وما بعد هذا مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [سورة طه: 121] أي: بأكل الشجرة التي نهي عنها، فغوى أي: فعل ما لم يكن له فعله، وقيل: ضل، حيث طلب الخلد والملك بأكل ما نهي عن أكله، هذان قولان حكاهما المفسرون، وقال ابن الأعرابي: الغي الفساد. ومعنى {فَغَوَى} [طه: 121] ههنا: فسد عليه عيشه، قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدايعه، والقسم له بالله أنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغروره، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم، ونية صحيحة، فنحن نقول عصى آدم وغوى كما قال الله، ولا نقول آدم عاصٍ وغاوٍ كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه ولا، نقول: هو خياط، حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به. 607 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ الأَحْمَرُ، نا ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ

أَبِي سَعِيدٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ مُوسَى آدَمَ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَأَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَخَطِيئَتِكَ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فِيكُمْ، وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: فَوَجَدْتَ فِيهَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلا قَدْ كَتَبَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: 122] قال ابن عباس: اصطفاه. فتاب عليه فعاد عليه بالعفو، وهدى هداه للتوبة حتى قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، وما بعد هذا مفسر في { [البقرة إلى قوله:] قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنْي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى {126} } [سورة طه: 123-126] {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] 608 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحِسَابِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَجَارَ اللَّهُ تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَيَشْقَى فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] قال عطاء: عن موعظتي. وقال الكلبي. عن القرآن، فلم يؤمن ولم يتبعه. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] الضنك الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، وضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكا، وأكثر ما جاء في تفسير المعيشة الضنك: عذاب القبر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري. 609 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ

لِلْمُؤْمِنِ فِي قَبْرِهِ رَوْضَةً خَضْرَاءَ وَيُرَحَّبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " 610 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمَخْلَدِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، نا أَبُو عَمْرٍو الضَّرِيرُ، أنا حَمَّادٌ، أنا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ عَذَابُ الْقَبْرِ، يَلْتَئِمُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلا يَزَالُ يُعَذَّبُ حَتَّى يُبْعَثَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، قَالَ: يُرِيدُ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ حَتَّى يَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] قيل في التفسير: أعمى البصر. وقيل: أعمى عن الحجة. يعني أنه لا حجة له يهتدي إليها، والأعمى إذا أطلق كان الظاهر عمى البصر. يدل على هذا قوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125] قال الفراء: يقال إنه يخرج من قبره بصيرا، فيعمى في حشره. قال الله مجيبا لهذا الكافر: كذلك أي: الأمر كما ترى، {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126] فتركتها ولم تؤمن بها، {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] وكما تركتها في الدنيا نتركك اليوم في النار. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] وكذلك وكما ذكرنا، {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} [طه: 127] أشرك، {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] أفظع وأعظم مما ذكر من عذاب القبر. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {128} وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى {129} فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى {130} } [طه: 128-130] {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] يبين لهم إذا انظروا، يعني كفار مكة، {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [طه: 128] يقول: أفلم يبين لهم طريق الاعتبار كثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل، فيعتبروا ويؤمنوا. وقوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [طه: 128] يعني أهل مكة، كانوا يتجرون ويسيرون في مساكن عاد وثمود، فيها علامات الإهلاك، أفلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بالذين رأوا مسأكنهم، وهو قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى {128} وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 128-129] في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة، وهو قوله: وأجل مسمى، {لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] لكان العذاب لازما لهم، واللزام مصدر وصف به العذاب.

قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على ما يسمع من أذاهم إلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم بالقتل، فنسخ الصبر، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [طه: 130] صل لله بالحمد له والثناء عليه، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه: 130] يريد الفجر، وقبل غروبها يعني العصر، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] ساعاته، واحدها إنْيٌ، قال ابن عباس: يريد أول الليل، المغرب والعشاء. {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] يريد الظهر، وسمي وقت صلاة الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال، وهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني. 611 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَر إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؛ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَوَكِيعٍ وقوله: لعلك ترضى قال ابن عباس: ترضى الثواب والمعاد. ومن ضم التاء، فمعنا: ترضى بما تعطاه من الدرجة الرفيعة، واختار أبو عبيدة هذه القراءة واضعًا لها معنين: ترضا تعطى الرضا، والآخر يرضاك الله وتصديقها قوله: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] قال: وليس في الآخرة إلا وجه واحد. قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى {131} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى {132} } [طه: 131-132] {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الآية قال أبو رافع: نزل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف، فبعثني إلى يهودي، فقال: " قل له: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، يعني كذا وكذا من الدقيق، وأسلفني إلى هلال رجب ". فأتيته فقلت له ذلك، فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن. فأتيت رسول الله، فأخبرته، فقال: «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه» . فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا، وقد فسرنا هذه الآية في { [الحجر، قال أبي بن كعب في هذه ال:: فمن لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يطل حزنه ولا يشفي غيظه، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعمه ومشربه نقص علمه ودنا عذابه. وقوله:] زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131] يعني بهجتها ونضارتها وما يروق الناظر عند الرؤية، قال ابن عباس، والسدي: زينة الدنيا. وقوله: لنفتنهم فيه لنجعل ذلك فتنة وضلالة بأن أزيد

لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا، ورزق ربك في المعاد، يعني الجنة، خير وأبقى أكثر وأدوم. قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] قال سعيد بن جبير: قومك يعني من كان على دينه، كقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم: 55] وقد تقدم: 612 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عُمَرَ النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا أَبُو النُّعْمَانِ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلاةِ، وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وقوله: واصطبر عليها أي: اصبر على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر،} لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا { [طه: 132] لخلقنا ولا لنفسك،} نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ { [طه: 132] قال ابن عباس، والسدي: يعني الجنة. للتقوى قال الأخفش: لأهل التقوى. قال ابن عباس: يريد الذين صدقوك واتبعوك واتقوني. قوله:} وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى {133} وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى {134} قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى {135} { [طه: 133-135] وقالوا يعني المشركين،} لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ { [طه: 133] هلا يأتينا محمد بآية من ربه كما أتي بها الأنبياء، نحو الناقة والعصا،} أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى { [طه: 133] بيان ما في الكتب من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما كفروا، ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤالهم الآيات كحال أولئك، وهذا البيان إنما قص عليهم في القرآن. } وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ { [طه: 134] يعني مشركي مكة،} بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ { [طه: 134] القبل: بعث محمد ونزول القرآن، لقالوا يوم القيامة:} رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا { [طه: 134] هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك، فنتبع آياتك نعمل بما فيها} مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ { [طه: 134] بالعذاب، ونخزى في جهنم. قل لهم يا محمد: كل منا ومنكم، متربص نحن نتربص بكم وعدا لنا فيكم، وأنتم تتربصون بنا الدوائر، فانتظروا، فستعلمون إذا جاء الأمر، وقامت القيامة،} مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ [طه: 135] الدين المستقيم ومن اهتدى من الضلالة، أنحن أم أنتم؟

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة. 613 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَصَافَحَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ كُلُّ نَبِيٍّ ذُكِرَ اسْمَهُ فِي الْقُرْآنِ» {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ {1} مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ {2} لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ {3} قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {4} بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ {5} } [الأنبياء: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم اقترب افتعل من القرب، يقال: قرب الشيء واقترب. للناس يعني: أهل مكة، حسابهم محاسبة الله إياهم على أعمالهم، قال الزجاج: المعنى اقترب للناس وقت حسابهم. يعني يوم القيامة كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] واقتراب حسابهم على أن ما هو آت قريب، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [الأنبياء: 1] عما يفعل الله بهم ذلك اليوم، معرضون عن التأهب له بالإيمان بمحمد. {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء: 2] من وعظ بالقرآن على لسان محمد، محدث بالإنزال، لأن القرآن أنزل آية بعد آية، و { [بعد سورة، فالإحداث يعود إلى الإنزال، وقوله:] إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأنبياء: 2] قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين. لاهية قلوبهم غافلة عما يراد بهم، وأسروا النجوى تناجوا فيما بينهم، يعني المشركين، ثم بين من هم، فقال: الذين ظلموا أشركوا بالله، والذين في محل رفع على البدل من الضمير في {وَأَسَرُّوا} [الأنبياء: 3] قال المبرد: وهذا كقولك في الكلام: إن الذين إلى الدار انطلقوا بنو عبد الله، على البدل مما في انطلقوا. ثم بين سرهم الذي تناجوا به، فقال: {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] أي أنه آدمي لحم ودم مثلكم، ليس مثل الملائكة، {

أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3] قال السدي: يقولون: إن متابعة محمد متابعة السحر. والمعنى: أتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. قل لهم يا محمد: {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء: 4] أي: لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض، وقرأ أهل الكوفة قال ربي على معنى قال محمد ربي. يعلم القول وكذا هو في مصاحفهم، وهو السميع لما تكلموا به، العليم بما قالوا. قوله: بل قالوا معنى بل ههنا انتقال إلى خبر آخر عنهم، على أن الأول مفروغ عنه، وليس معنى بل من الله على الترك للأول بإبطال له، والمشركون مما دخلتهم من الحيرة في أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدرون ما قصته، فمرة قالوا للقرآن: إنه سحر. ومرة قالوا: أضغاث أحلام قال قتادة: تخاليط أحلام رآها في النوم. ومرة قالوا: إنه مفتر، وهو قوله: بل افتراه أي: اختلقه من نفسه، {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] قال ابن عباس: بآية مثل الناقة والعصا. قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال. فقال الله مجيبا لهم: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} [الأنبياء: 6] قبل مشركي مكة، من قرية يعني أهلها، أهلكناها وصف للقرية، والمعنى: ما آمنت قرية مهلكة بالآيات المرسلة، أفهم يؤمنون يعني أن الأمم التي أهلكناها بتكذيب الآيات لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟ يعني أن مجيء الآيات لو كان سببا للإيمان من غير إرادة الله لهم ذلك، لكان سببا لإيمان أولئك، فلما أبطل أن يكون سببا لإيمان أولئك، بطل أن يكون سببا لإيمان هؤلاء. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {7} وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ {8} ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ {9} } [الأنبياء: 7-9] قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] لقولهم: هل هذا إلا بشر مثلك؟ يقول الله: لم نرسل قبل محمد إلا رجالا من بني آدم، لا ملائكة. {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 7] يعني: أهل الكتابين في قول أكثر المفسرين.

{إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] أن الرسل بشر، وذلك أن اليهود والنصارى لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا، وإن أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر بالسؤال للمشركين لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرب منهم إلى تصديق من آمن. وما جعلناهم يعني الرسل، جسدا قال الزجاج: هو واحد ينبئ عن جماعة. أي: وما جعلناهم ذوي أجساد، {لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8] وذلك أنهم قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟ فأعلموا أن الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام، {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] يعني: يموتون كسائر البشر. {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء: 9] أي: أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، وهو قوله: فأنجيناهم أي: من العذاب، ومن نشاء قال ابن عباس: يعني الذين صدقوهم، وأهلكنا المسرفين قال: يريد المشركين، وهذا تخويف لكفار مكة. ثم ذكر منته عليهم بالقرآن، فقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ {10} وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ {11} فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ {12} لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ {13} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {14} فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ {15} } [الأنبياء: 10-15] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10] يا معشر قريش، {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] قال: يريد فيه شرفكم، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وذلك أنه كتاب عربي بلغة قريش. وقال الحسن: فيه ذكركم، أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. أفلا تعقلون ما فضلتكم به على غيركم، أنزلتكم حرمي، وبعثت فيكم نبيي. ثم خوفهم فقال: وكم قصمنا القصم: كسر الشيء ودقه. قال مجاهد، والسدي: أهلكنا. وقال الكلبي: عذبنا. {مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] أي: كافرة، يعني أهلها، وأنشأنا وأحدثنا وأوجدنا بعد إهلاك أهلها، {قَوْمًا آخَرِينَ {11} فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 11-12] رأوا عذابنا بحاسة البصر، ويجوز أن يكون المعنى: لما ذاقوا عذابنا، قال المفسرون: هؤلاء كانوا قوما كذبوا نبيهم، وقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر حتى قتلهم، وسباهم، ونكل فيهم. وعلى ما قالوا الآية مخصوصة، وإن وردت عامة، وقوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12] أي: يفرون وينهزمون ويهربون، وأصله من ركض الرجل مركل الدابة برجليه، يقال: ركض الفرس إذ كده بساقيه. لا تركضوا أي: قيل لهم: لا تركضوا، وذلك أنهم لما أخذتهم السيوف انهزموا مسرعين، فقالت لهم الملائكة بحيث سمعوا النداء: لا تركضوا {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء: 13] أي: خولتم ونعمتم، وقال ابن قتيبة: إلى نعمكم التي أترفتم. وقد بينا هذا عند قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] ، وقوله: لعلكم تسألون أي: شيئا من دنياكم، والمعنى أن الملائكة استهزأت بهم،

فقالوا لهم: ارجعوا إلى مساكنكم لعلكم تسئلون شيئا من دنياكم، فإنكم أهل ثروة ونعمة، يقولون ذلك استهزاء بهم، وهذا قول قتادة في هذه الآية، وهو الصحيح. ف قالوا عند ذلك: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] لأنفسنا حيث كذبنا رسل ربنا، والمعنى أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب، وقالوا هذا على سبيل الندم حين لم ينفعهم الندم، قال الله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] ما زالت تلك الكلمة، التي هي قولهم: يا ويلنا، دعاءهم يدعون بها ويرددونها، {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} [الأنبياء: 15] بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، خامدين يعني ميتين كخمود النار إذا طفئت. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ {16} لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ {17} بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ {18} وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ {19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ {20} } [الأنبياء: 16-20] قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء: 16] يريد لم نخلقهما عبثا ولا باطلا، بل خلقناهم لأمر، وهو ما ذكر ابن عباس، فقال: لأجازي أوليائي، وأعذب أعدائي. وقال غيره: خلقناها دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا، ليعتبروا بخلقها، ويتفكروا فيها، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقها. قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء: 17] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد النساء. وهو قول الحسن، وقتادة، قالا: اللهو بلغة اليمن المرأة. وقال في رواية الكلبي: يعني الولد. وهو قول السدي. وقوله: {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] قال المفسرون: من الحور العين. وهذا إنكار على من أضاف الصاحبة والولد إلى الله، واحتجاج عليهم بأنه لو كان جائزا في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم، ولستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه. وقال الزجاج: المرأة لهو الدنيا، وكذلك الولد. والمعنى على ذي اللهو، أي الذي يلهى به، ومعنى اللهو طلب الترويح عن النفس، يقول: لو أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو، أو امرأة ذات لهو، لأتخذناه من لدنا. وقد أحسن ابن قتيبة في شرح الآية كل الإحسان، فقال: التفسير أن المرأة والولد في اللهو متقاربان، لأن امرأة الرجل لهوه، وولده لهوه، ولذلك يقال: امرأة الرجل وولده ريحانتاه، وأصل اللهو الجماع، كني عنه باللهو كما كني عنه بالسر، ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع، قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت ... وأن لا يحسن اللهو أمثالي أي النكاح، وتاويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت، قال الله عز وجل: لو أردنا أن نتخذ، أي صاحبة وولدا كما يقولون، لاتخذنا ذلك من لدنا، أي: من عندنا ولم نتخذه من عندكم، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل

وزوجه يكونون عنده لا عند غيره. وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] المفسرون يقولون: ما كنا فاعلين. قال الفراء، والمبرد، والزجاج: يجوز أن تكون إن للنفي، كما ذكر المفسرون نحو قوله: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] ، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] ويكون المعنى تحقيقا لكذبهم، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولد، قالوا: ويجوز أن تكون أن للشرط، أي: إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية. قوله: بل أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه كذب وباطل، {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء: 18] نسلط الحق على باطلهم ونلقيه عليه حتى يذهبه، وعنى بالحق القرآن، وبالباطل كذبهم، فيدمغه فيهلكه ويكسره، وقال الزجاج: يذهبه ذهاب الصغار والإذلال. وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل، {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] زائل ذاهب من قوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] والمعنى: أنَّا نبطل كذبهم بما تبين من الحق حتى يضمحل ويذهب، ثم أوعدهم على كذبهم، فقال: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] لكم يا معشر الكفار الويل من كذبكم ووصفكم الله بما لا يجوز. ثم بين أن جميع المؤمنين عبيده، فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء: 19] عبيدا وملكا، ومن عنده يعني الملائكة، {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] قال الزجاج: أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله، عباد الله لا يأنفون من عبادته، ولا يتعظمون عنا، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] ، ولا يستحسرون يقال: حسر واستحسر إذا تعب وأعيا. قال قتادة، ومقاتل: لا يعيون. وقال السدي: لا ينقطعون عن العبادة. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء: 20] ينزهون الله دائما بقولهم: سبحان الله. لا يفترون لا يضعفون ولا يملون، قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا، لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم. أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحارث، أنا عبد الله بن محمد بن حبان، نا أبو يحيى الرازي، نا سهل بن عثمان، نا أبو معاوية، عن الشيباني، عن حسان بن المخارق، عن عبد الله بن الحارث، قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] أما يشغلهم شأن؟ أما تشغلهم حاجة؟ قال: يابن أخي، جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب، وتقوم وتجلس، وتجيء وتذهب، وتتكلم وأنت تتنفس؟ وكذلك جعل لهم التسبيح. ثم عاد إلى توبيخ المشركين، فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ {21} لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {22} لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} } [الأنبياء: 21-23] {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} [الأنبياء: 21] هذا استفهام معناه الجحد، أي لم يتخذوا آلهة، من الأرض وأصنامهم كانت من الأرض، من أيِّ جنس كان، من خشب، أو حجارة، أو ذهب، أو فضة. هم ينشرون يحيون، يقال: أنشر الله الميت فنشر. وهذا توبيخ لهم على عبادتهم جمادا من الأرض، لا يقدر على شيء. ثم ذكر الدلالة على توحيده، وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء: 22] أي: في السماء والأرض، آلهة معبودون يستحقون العبادة، إلا الله معناه: غير الله، وهو صفة للآلهة، على معنى آلهة هم غير الله، كما يزعم المشركون، وهذا قول جميع النحويين: الأخفش، والزجاج، وأبي علي الفسوي،

كلهم قالوا: إلا ليس باستثناء ههنا، ولكنه مع ما بعده صفة للآلهة في معنى غير. قال الزجاج: وكذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها، وأنشد: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان قال: المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. وقوله: لفسدتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكتا، وهلك من فيهما لوجود التماني بين الآلهة، فلا يجري أمر العالم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام. ثم نزه نفسه عما يصفه به الكافرون عن الشريك والولد بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {22} لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} } [الأنبياء: 22-23] أي: لا يسأل الله عما يفعله ويقضيه في خلقه، والناس يسألون عن أعمالهم، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال، وهدى وإضلال، وإسعاد وإشقاء، لأنه الرب مالك الأعيان، والخلق يسألون سؤال توبيخ، يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعلته: لم فعلته؟ 614 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، نا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ، وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْرِزَ عَقْلَكَ، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَوْ مُزَيْنَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ، أَلَيْسَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُخِذَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ، أَوْ فِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَلْهَمَهُ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وَلَمَّا أَبْطَلَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ إِلَهٌ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أَبْطَلَ جَوَازَ اتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ الأَمْرِ فقال: {

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ {24} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} } [الأنبياء: 24-25] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الأنبياء: 24] وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24] بينتكم على ما تقولون من جواز اتخاذ إله سواه، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} [الأنبياء: 24] يعني القرآن، يقول فيه خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بمالهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد التوراة والإنجيل وما أنزل الله من الكتب. والمعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه، فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به. قال الزجاج: قل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من قبلي إلا توحيد الله. يدل على صحة هذا المعنى قوله بعد هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] فلما توجهت الحجة عليهم، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] عن التأمل والفكر، وما يجب عليهم من الإيمان. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ {28} وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {29} } [الأنبياء: 26-29] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] قال ابن عباس: يريد من الملائكة. سبحانه نزه نفسه عما يقولون، بل عباد بل هم عباد، يعني الملائكة، مكرمون أكرمتهم واصطفيتهم. {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27] لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ويأمر وينهى، ثم يقولون عنه كما لا يعلمون حتى يأمرهم. وهو قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الأنبياء: 27-28] ما قدموا من أعمالهم، وما خلفهم وما أخروا منها، أي: ما عملوا، وما هم عاملون، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] قال ابن عباس: لمن قال لا إله إلا الله. وقال مجاهد: لمن رضي عنه. {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} [الأنبياء: 28] أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول، مشفقون خائفون لا يأمنون مكره. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء: 29] من الملائكة، {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] من دون الله، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] قال المفسرون: يعني إبليس، لأنه أمر بطاعة نفسه، ودعا إلى عبادته، كذلك كما جزيناه جهنم، نجزي الظالمين يعني المشركين. {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ {30} وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {31}

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ {32} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} } [الأنبياء: 30-33] قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] أو لم يعلموا، {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] الرتق: السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق. ففتقناهما قال ابن عباس: فتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات، كانت السموات لا تنزل مطرا، والأرض لا تنبت نباتا. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: وأحيينا بالماء الذي تنزله من السماء كل شيء حي من الحيوان، ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء، والمفسرون يقولون: يعني أن كل شيء فهو مخلوق من الماء، كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال أبو العالية: يعني النطفة، وعلى هذا لا يتعلق هذا بما قبله، وهو احتجاج على المشركين بقدرة الله. أفلا يؤمنون أفلا يصدقون بعد هذا البيان؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] مفسر في { [النحل، وجعلنا فيها في الرواسي، فجاجا قال أبو عبيدة: هي المسالك. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين هو فج. قال ابن عباس: جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار. وقوله: سبلا تفسير للفجاج، وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفج غير نافذ. ] وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [سورة الأنبياء: 32] السقف من أسماء السماء، قال الله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] والسماء للأرض كالسقف للبيت، وقوله: محفوظا قال ابن عباس: من الشياطين بالنجوم، دليله قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] . وذكر الزجاج وجها آخر، قال: حفظه من الوقوع على الرض إلا بإذنه، دليله قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] . وهم يعني المشركين، عن آياتها شمسها وقمرها ونجومها، معرضون لا يتدبرونها ولا يتفكرون فيها، فيعلموا أن خالقها لا شريك له. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [الأنبياء: 33] يعني الطوالع، في فلك الفلك في كلام العرض: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلكة المغزل، وتفلك ثدي الجارية، قال السدي: في مجرى واستدارة. وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شيء استدار فهو فلك. وهذا قول أكثر المفسرين، قالوا: الفلك مدار النجوم الذي يضمها. قال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة. وقوله: يسبحون أي: يجرون بسرعة كالسابح في الماء، وقد قال في موضع آخر: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] يعني النجوم، والسبح لا يختص بالجري في الماء، فقد يقال للفرس الذي يمد يديه في الجري: سابح. قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35} } [الأنبياء: 34-35] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] الخلد: اسم من الخلود، وهو البقاء الدائم، يقول: ما خلدنا قبلك أحدا من

بني آدم. يعني أن سبيله سبيل من مضى قبله من الرسل، ومن بني آدم في الموت، {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] يعني: مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. فقيل لهم: إن مات محمد فأنتم أيضا تموتون، لأن كل نفس ذائقة الموت، قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن أبو بكر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد مات وسجي عليه الثوب، فكشف عن وجهه، ووضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه، واخليلاه، واصفياه، صدق الله ورسوله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34-35] ثم خرج إلى الناس فخطب. وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] قال الوالبي عن ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، وكلها بلاء. وقال ابن زيد: نبلوكم بما تحبون وبما تكرهون، لننظر كيف شكركم، وكيف صبركم. وإلينا ترجعون تردون للجزاء بالأعمال، حسنها وسيئها. قوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ {36} خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ {37} } [الأنبياء: 36-37] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 36] قال ابن عباس: يعني المستهزئين. {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} [الأنبياء: 36] أي: ما يتخذونك إلا مهزوءا به، قال السدي: نزلت في أبي جهل، مر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضحك، وقال: هذا نبي بني عبد مناف. وقوله: أهذا الذي فيه إضمار القول، ومعنى يذكر آلهتكم قال ابن عباس: يعيب أصنامكم، قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي بصفة بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قل لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب حذف منه السوء. وقوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36] وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن فكفروا بالرحمن. قوله: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] قال قتادة: خلق الإنسان عجولا. والإنسان اسم الجنس، قال الفراء: كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة. وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تفعل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه، كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، يريد المبالغة في وصفه بذلك، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] . وقال عكرمة: لما خلق آدم ونفخ فيه الروح، صار في رأسه، فذهب لينهض قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه، فوقع، فقيل: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي، والكلبي، وعلى هذا المراد بالإنسان آدم، وإذا كان آدم خلق من عجل على معنى أنه خلق عجولا، وجد ذلك في أولاده، وأورث أولاده العجلة حتى استعجلوا في كل شيء، والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب، قال ابن عباس في رواية عطاء: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] يريد النضر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية. يدل على هذا قوله: سأريكم آياتي قال: يريد القتل ببدر. فلا تستعجلون أي أنه نازل.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {38} لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {39} بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {40} } [الأنبياء: 38-40] ويقولون يعني المشركين، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الأنبياء: 38] الذي تعدنا، يريدون وعد يوم القيامة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38] في هذا الوعد. قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 39] أي: لو عرفوا ذلك الوقت، وهو قوله: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [الأنبياء: 39] قال ابن عباس: يريد ساعة يدخلون النار، لا يدفعون {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39] لإحاطتها بهم، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39] يمنعون مما نزل بهم، وجواب لو محذوف على تقدير لو علموا ذلك ما استعجلوا ولا قالوا متى هذا الوعد؟ بل تأتيهم يعني الساعة، بغتة فجأة، فتبهتهم تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره، ذكرنا ذلك عند قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] . {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40] صرفها عنهم، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 40] يمهلون لتوبة أو معذرة. ثم عزى نبيه فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ {41} قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ {42} أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ {43} } [الأنبياء: 41-43] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنبياء: 41] أي: كما استهزأ قومك بك، فحاق نزل وأحاط، {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنبياء: 41] من الرسل، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونْ} [الأنبياء: 41] يعني: العذاب الذي استهزأوا به. قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] قال ابن عباس: من يمنعكم من عذاب الرحمن. قال الزجاج: معناه من يحفظكم من بأس الرحمن. كما قال: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] أي من عذاب الله، ونحو هذا قال الفراء، والمعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة؟ وهو استفهام إنكاري، أي: لا أحد يفعل ذلك، يقال: كلأه الله، كلأه أي حفظه وحرسه، وقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] أي: عن القرآن وعن مواعظ الله، لا يتفكرون ولا يعتبرون. {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43] تقديم وتأخير تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وتم الكلام، ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 43] أي: فكيف تنصرهم وتمنعهم إذا لم تقدر على منع أنفسها عما يراد بها؟ وقوله: ولا هم يعني الكفار، منا يصحبون قال الكلبي: يقول لا يجارون من عذابنا. وقال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار. والعرب تقول: صحبك الله، أي حفظك الله وأجارك. ثم ذكر أن هؤلاء اغتروا بطول الإمهال إذا لم يعاجلوا بالعقوبة، فقال: {

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ {44} قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ {45} وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {46} وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {47} } [الأنبياء: 44-47] {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الأنبياء: 44] يعني أهل مكة، متعهم الله بما أنعم عليهم، {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء: 44] فاغتروا بذلك، فقال الله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: 44] قال الضحاك: ألم ير المشركون الذين يحاربون رسول الله ويقاتلون، إنا ننقصهم له، فنأخذ ما حولهم من قراهم وأراضيهم، أولا يرون أنهم المنقوصون والمغلوبون. وقال الحسن: ننقصها من أطرافها: ظهور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من قاتله، أرضا فأرضا، قوما فقوما. أفهم الغالبون أي: ليسوا بغالبين، ولكنهم المغلوبون، ورسول الله هو الغالب، تفسير هذا تقدم في آخر { [الرعد. قوله:] قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [سورة الأنبياء: 45] أي: أخوفكم بالقرآن، والمعنى: إنما أنذركم بالوحي الذي يوحيه الله إلي، لا من قبل نفسي، وذلك أن الله أمره بإنذارهم، كقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] ، وقوله: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء: 45] تمثيل للكفار بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا أنذروا شيئا، كذلك هؤلاء في تركهم الانتفاع بما سمعوا، كالصم الذين لا يسمعون، وقرأ ابن عامر: ولا تسمع الصم على إسناد الفعل إلى المخاطب، والمعنى أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا بما يسمعوه كما لا يسمع الصم، قال أبو علي الفارسي: ولو كان كما قال ابن عامر، فكان إذا تنذرهم ليحسن نظم الكلام، فأما ما ينذرون فحسن أن تتبع قراءة العامة. قوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] قال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه. يقال: نفحه نفحة بالسيف للضربة الخفيفة. وهذا موافق لقول ابن عباس في تفسير نفحة، قال: طرف. وقال ابن كيسان: قليل. وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفحه من ماله إذا أعطاه. ومعنى الآية: لئن أصابهم طرف من العذاب لأيقنوا بالهلاك، ودعوا على أنفسهم بالويل، مع الإقرار بأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وتكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال الزجاج: القسط مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط وموازين قسط والمعنى: ذات قسط، وذكرنا الكلام في الموازين عند قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] . 615 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ

عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَا بَنِي هَاشِمٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاسْعَوْا فِي فِكَاكِ رِقَابِكِمْ وَلا تَغُرَّنَّكُمْ قَرَابَتُكُمْ مِنِّي، فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَبَكَتْ عَائِشَةُ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَكُونُ يَوْمَ لا تُغْنِي عَنَّا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ، يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {8} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8-9] الآية، وعند النور والظلمة، وعلى الصراط من شاء الله سلمه وأجاره، ومن شاء كبكبه في النار ". ومعنى قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزيد في إساءة مسيء، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [الأنبياء: 47] قال الزجاج: وإن كان العمل مثقال حبة. وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة. وقال: وهذا حسن لتقدم قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] . وعلى ما قال أبو علي يكون تأويل قوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] لأن المظلومين يستوفون حقوقهم من الظالمين حتى لا يبقى لأحد عند أحد ظلامة، ولو مثقال حبة، من خردل وقوله: أتينا بها قال الزجاج: جئنا بها. يعني: أحضرناها للمجازاة بها، وعلى ما قال أبو علي: أتينا بها للمحاسبة عليها، يدل على صحة هذا قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] قال السدي: محصين، والحسب معناه العد. وقال ابن عباس: عالمين حافظين، وذلك أن من حسب شيئا علمه وحفظه. 616 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: زِنْ بَيْنَهُمْ وَرِدْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلا ذَهَبَ يَوْمَئِذٍ وَلا فِضَّةَ، فَيُرَدُّ الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ مَا وَجَدَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَيُرَدَّ عَلَى الظَّالِمِ فَيَرْجِعُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْجَبَلِ

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ {48} الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ {49} وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {50} } [الأنبياء: 48-50] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] قال مجاهد، وقتادة: يعني التوراة التي تفرق بين الحلال والحرام. وضياء من صفة التوراة، مثل قوله: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] والمعنى أنهم استضاءوا بها حتى اهتدوا في دينهم، ومعنى وذكرا للمتقين أنهم يذكرونه ويعلمون بما فيه، ويتعظون بمواعظه. {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49] أي: في الدنيا، غائبين عن الآخرة وأحكامها، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} [الأنبياء: 49] أي: من أهوالها وعذابها، مشفقون خائفون. ثم عاد إلى ذكر القرآن، فقال: وهذا ذكر قال الزجاج: المعنى هذا القرآن ذكر لمن تذكر به، وعظة لمن اتعظ. مبارك أنزلناه كثير خير أفأنتم يا أهل مكة، له منكرون إياه جاحدون؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير. {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ {53} قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55} قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ {56} } [الأنبياء: 51-56] وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء: 51] أي هداه، من قبل أي: من قبل بلوغه، والمعنى: آتيناه هذا صغيرا حين كان في السرب حتى عرف الحق من الباطل، {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح للنبوة. ثم بين متى أتاه، فقال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الأنبياء: 52] أي: في ذلك الوقت الذي قال لهم وهم يعبدون الصنم، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي} [الأنبياء: 52] يعني الأصنام، والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، واسم ذلك الممثل ثمثال، وجمعه تماثيل، وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: على عبادتها مقيمون، فأجابوه بأنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فاقتدوا بهم على طريق التقليد في عبادتها، فأجابهم إبراهيم بأنهم فيما فعلوه وآباؤهم كانوا في ضلال مبين بعبادة الأصنام، وهذا الذي ذكرنا معنى قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الأنبياء: 53] إلى قوله: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] يعنون أجاد أنت فيما تقول حق أم لاعب مازح؟ وهذا جهل منهم، تخيلوا المحق لاعبا، فأجابهم إبراهيم بما يزيل تخيلهم ويدلهم على أن المستحق للعبادة هو الله، لا الصنم. وهو قوله: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} [الأنبياء: 56] أي: على أنه رب السموات والأرض، من الشاهدين {

وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ {63} } [الأنبياء: 57-63] {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] معنى الكيد: ضر الشيء بتدبير عليه، {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] ينطلقوا ذاهبين، قال المفسرون: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، قالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا. فقال إبراهيم سرا منهم: وتالله لأكيدن الآية. ولم يسمع هذا القول من إبراهيم إلا رجل واحد، وهو الذي أفشاه عليه. قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] الجذ: القطع والكسر، والجذاذ: قطع ما كسر، الواحد جذاذة، وهو مثل الحطام والرفات والدقاق، وقرأ الكسائي بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ، مثل ثقال وثقيل، وخفيف وخفاف، والجذيذ بمعنى المجذوذ وهو المكسور. قال المفسرون: لما انطلقوا إلى عيدهم، رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج. فذلك قوله: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: 58] قال الزجاج: أي: كسر الأصنام إلا أكبرها، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] أي: إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الحجة عليهم في عبادة ما لا يدفع عن نفسه، وتنبهوا إلى جهلهم وعظيم خطاهم، ولما رجعوا من عيدهم، ونظروا إلى آلهتهم، وهم جذاذ. {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] استفهموا عمن صنع ذلك؟ وأنكروا عليه فعله بقولهم: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59] أي: فعل ما لم يكن له أن يفعله. فقال من سمع من إبراهيم قوله: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] أي بالغيب، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وشاعت القصة حتى بلغت نمروذ. وأشرف قومه {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} [الأنبياء: 61] أي: بالذي يقال له إبراهيم، {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: 61] أي: ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه، لعلهم يشهدون عليه بما قاله، فيكون ذلك حجة عليه بما فعل، هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي، قالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. وقال محمد بن إسحاق: لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به. أي يحضرون. فلما أتوا به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63] أسند فعله إلى كبير الأصنام، إقامة للحجة عليهم، قال: غضب من أن يعبدوا معه الصغار فكسرهن. 617 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ، أنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ؛ قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: إِنَّهَا أُخْتِي، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} قال المفسرون: وجاز أن يكون الله قد أذن له في ذلك ليوبخ قومه، ويعرفهم خطأهم، كما أذن

ليوسف حتى أمر مناديه، فقال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئا. وقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {67} } [الأنبياء: 64-67] {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 64] أي: تفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم، فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] هذا الرجل في مسألتكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة، فسئلوها، وقال عطاء، عن ابن عباس: إنكم أنتم الظالمون، حيث عبدتم من لا يتكلم. وكان هذا إقرار منهم على أنفسهم بالكفر، ثم أدركتهم الشقاوة، فعادوا إلى كفرهم، وهو قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] النكس: رد الشيء وقلبه على آخره، يقال: نكست فلانا في ذلك الأمر، أي رددته فيه بعدما خرج منه. والمعنى: ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم. ف قالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] قال ابن عباس: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تتكلم. وهذا اعتراف منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق. فلما اتجهت الحجة عليهم بإقرارهم وبخهم إبراهيم، ف {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} [الأنبياء: 66] لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا إذ عبدتوها، ولا يضركم إذا لم تعبدوها، وفي هذا حث على عبادة من يملك النفع والضر، وهو الله تعالى. ثم حقرهم وحقر معبودهم، فقال: أف لكم أي: نتنًا لك، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67] أليس لكم عقل فتعلموا أن هذا الأصنام لا تستحق العبادة، فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، غضبوا. {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ {70} } [الأنبياء: 68-70] {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] أي: بتحريق إبراهيم، لأنه يعيبها ويطعن عليها، فإذا أحرقتموه كان ذلك نصر منكم إياها، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] أي: إن كنتم ناصريها، والمعنى: لا تنصروها منه بالتحريق بالنار، قال السدي: جمعوا الحطب حتى إن الرجل ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله، فيشتري به حطبا، فيلقى في النار، وحتى إن المرأة لتغزل، فتشتري به حطبا، فتلقيه في النار، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم، ولم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق. وهو أول منجنيق صنع، فوضعوه فيه، ثم رموه، فبلغنا أن السموات والأرض والجبال والملائكة، قالوا: ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك. فقيل لهم: إن استغاث بكم فأغيثوه. فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل. فنزل جبريل معه، فضرب النار، فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فلم يبق

يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أنها عنيت، والمعنى: كوني بردا وسلامة، قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها. 618 - أَخَبْرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، أنا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، نا عُمَارَةُ، نا شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطُنْفُسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطُّنْفُسَةِ، وَقَعَد مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّارِ: أَنْ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْلا أَنَّهُ قَالَ: وَسلامًا لأَذَاهُ الْبَرْدُ وَقَتَلَهُ الْبَرْدُ، فَرَأَى أَبُو إِبْرَاهِيمَ بَعْد سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَنَامِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَرَجَ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي أُوقِدَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَأَتَى نُمْرُوذَ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي لأُخْرِجَ عِظَامَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْحَائِطِ فَأَدْفِنُهَا فَانْطَلَقَ نُمْرُوذُ إِلَى الْحَائِطِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْحَائِطِ فَنُقِبَ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ تَزْهَرُ وَثِيَابُهُ تَفَدَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مِنْ طَنَافِسِ الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ قُمُصِ الْجَنَّةِ وقال كعب الأحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه. فذلك قوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء: 70] يعني التحريق بالنار، فجعلناهم الأخسرين قال ابن عباس: هو أن الله سلط البعوض على نمروذ وخيله حتى أخذت لحومهم وشربت دمائهم، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته، والمعنى أنهم كادوه بسوء فانقلب عليهم ذلك. {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ {71} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ {72} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ {73} وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} } [الأنبياء: 71-75] ونجيناه أي: من نمروذ وكيده، ولوطا وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به وهاجر من أرض العراق إلى أرض الشام، وهو قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] أي: بالخصب وكثرة الأشجار، والثمار، والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء. ووهبنا له لإبراهيم، إسحاق حين سأل الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]

فاستجاب الله دعاءه، ووهب له إسحاق، ويعقوب نافلة النافلة: الزيادة على الأصل، وهو ولد الولد، قال ابن عباس: نفله يعقوب. أي زاده ولدا من إسحاق، كأنه سأل واحدا فأعطاه الله يعقوب زيادة على ما سأل، قال الفراء: النافلة يعقوب. خاصة لأنه ولد الولد، وقوله: وكلا يعني: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا صالحين أنبياء صالحين بطاعة الله. وجعلناهم أئمة رؤساء يقتدى بهم في الخير، يهدون بأمرنا يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] قال ابن عباس: شرائع النبوة. {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا} [الأنبياء: 74] يعني: النبوة، {وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] يعني إتيانهم الذكور، وما كانوا يأتونه من المنكرات، وأراد بالقرية أهلها، ثم ذمهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ {74} وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 74-75] بانجائنا إياه من القوم السوء، {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75] يعني: من الأنبياء. {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {77} } [الأنبياء: 76-77] {وَنُوحًا إِذْ نَادَى} [الأنبياء: 76] دعا ربه من قبل، من قبل إبراهيم ولوط، لأنه كان قبلهما دعا على قومه بالهلاك، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ} [نوح: 26] الآية. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأنبياء: 76] يعني: من كان معه في سفينته، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76] قال ابن عباس: يريد الغرق وتكذيب قومه له. {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 77] أي: منعناه من أن يصلوا إليه بسوء. {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ {78} فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {79} وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ {80} وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ {81} وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ {82} } [الأنبياء: 78-82] قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] أكثر المفسرين على أن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيده. وقال قتادة: كان زرعا. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] رعت ليلا في قول الجميع، قال ابن السكيت: النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع. قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم يبقى منه شيئا. فقال: لك رقال الغنم، فقال سليمان: أو غير ذلك؟ ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم، حتى إذا

كان كليلة نفشت فيه، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم. فقال داود: القضاء ما قضيت. وحكم بذلك، فهو قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] قال ابن عباس: لم يغب عني من أمرهم شيء. قال الفراء: جمع أقلين، فقال: {لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء: 78] وهو يريد داود وسليمان، لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] وهو يريد أخوين، والحكم الذي حكما به بعضه موافق بشرعنا، وبعضه مخالف، أما الموافق: فهو الحكم بالضمان على صاحب الماشية إذا أفسدت بالليل حرثا، وكذا هو في شرعنا: وهو ما 619 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا أَبُو الأَزْهَرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالا:، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ وَقَعَتْ فِي حَائِطِ قَوْمٍ فَأُفْسِدَ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَ الأَمْوِالِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، أَمَّا الْمُخَالِفُ لِشَرْعِنَا فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِالْقِيمَةِ، أَوْ بِالْمِثْلِ، لا تَسْلِيمُ الْمَاشِيَةِ وَلا تَسْلِيمُ مَنَافِعِهَا وقوله: ففهمناها سليمان أي: القضية والحكومة، كنى عنها لأنه ما يدل عليها من ذكر الحكم، وكلا منهما، آتينا حكما نبوة، وعلما بأمور الدين. {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] وهو أنه كان إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح، وقال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وهو قوله: {وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] يعني: ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير. {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] اللبوس الدرع، لأنها تلبس، قال قتادة: أول من صنع الدروع داود، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فجمعت الخفة والتحصين. وهو قوله: ليحصنكم أي: ليحرزكم ويمنعكم، يعني اللبوس، ومن قرأ بالتاء فلتقدم قوله: وعلمناه ومن قرأ بالياء حمله على المعنى، لأن معنى اللبوس الدرع، وقوله: من بأسكم أي: من حربكم، وقال السدي: من وقع السلاح فيكم. فهل أنتم يا معشر أهل مكة، شاكرون نعمي بطاعة الرسول وتصديقه. وقوله: ولسليمان الريح المعنى: وسخرنا لسليمان الريح، عاصفة شديدة الهبوب، قال ابن عباس: إن أمر

الريح أن تعصف عصفت، وإذا أراد أن ترخي أرخت، وذلك قوله: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] ، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] وهي أرض الشام، وقد مر في هذه ال { [، قال الفراء: كانت تجري بسليمان إلى موضع، ثم تعود به من يوم إلى منزله. ] وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنبياء: 81] علمناه، عالمين بصحة هذا التدبير فيه، علمنا أنه ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] الغوص: الدخول تحت الماء، كانوا يستخرجون له الجواهر من البحر، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82] سوى الغوص من البناء وغيره من الأعمال، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] من أن يفسدوا ما عملوا، قاله الفراء، والزجاج. قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {84} } [الأنبياء: 83-84] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] دعا ربه، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] أصابني الجهد، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بمسألة الرحمة، إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت، وقال رجل لأبي عبد الله الناجي: يا أبا عبد الله، الراضي يسأل ربه. قال يعرض، قال: مثل أيش، قال: مثل قول أيوب: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وقال العلماء: لم يكن جزعا من أيوب مع ما وصفه الله به من الصبر، إذ يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] وكان هذا دعاء منه. ألا ترى أن الله قال: فاستجبنا له على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله فليس بجازع، وقوله يعقوب عليه السلام: {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع، قال سفيان بن عينية: وكذلك من شكا إلى الناس، وهو في شكواه راض بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعا، ألم تسمع إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «أجدني مغموما، وأجدني مكروبا» . وقال عليه السلام: «بل أنا واراساه» . قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: يريد الأوجاع. {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] قال ابن مسعود، وقتادة، والحسن: أحيا الله له أولاده الذين هلكوا في بلائه، وأوتي مثلهم في الدنيا. 620 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ {، فَقَالَ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، رَدَّ اللَّهُ امْرَأَتَهُ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي شَبَابِهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا، وَأَهْبَطَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ، إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ بِصَبْرِكَ عَلَى الْبَلاءِ، فَاخْرُجْ إِلَى أَنْدَرِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَحَابَةً حَمْرَاءَ فَهَبَطَتْ عَلَيْهِ بِجَرَادِ الذَّهَبِ، وَالْمَلَكُ قَائِمٌ مَعَهُ، فَكَانَتِ الْجَرَادُ تَذْهَبُ فَيَتْبَعُهَا حَتَّى يَرُدَّهَا فِي أَنْدَرِهِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا

أَيُّوبُ، أَمَا تَشْبَعُ مِنَ الدَّاخِلِ حَتَّى تَتْبَعَ الْخَارِجَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ بَرَكَةٌ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي، وَلَسْتُ أَشْبَعُ مِنْهَا } رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا { [الأنبياء: 84] أي: فعلنا ذلك به رحمة من عندنا،} وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ { [الأنبياء: 84] قال ابن عباس: موعظة للمطيعين. } وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ {85} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ {86} { [الأنبياء: 85-86] قوله: وذا الكفل قال عطاء: إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن يكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، فادفع إليه ملكك ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا فتكفل بذلك، ووفى به فشكر الله له ونبأه ولذلك سمي ذا الكفل، وقوله:} كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ { [الأنبياء: 85] أي: على طاعة وعن معاصي الله،} وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ { [الأنبياء: 86] يعني: ما أنعم الله به عليهم من النبوة، وما صيرهم إليه في الجنة من الثواب. } وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ {88} { [الأنبياء: 87-88] وذا النون يعنى: يونس بن متى عليه السلام، حبسه الله في بطن النون، وهو الحوت،} إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] قال الضحاك: مغاضبا لقومه. وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: إن شعياء النبي، والملك الذي كان في وقته، وذلك أن القوم أرادوا أن يبعثوه إلى ملك قد غزا بني إسرائيل، وسبي الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، فقال يونس لشعياء: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك قال: لا. قال: فههنا غيري أنبياء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم، فكان من قصته ما كان، وإنما حبس في بطن الحوت بتركه ما أمره به شعياء وقومه لأن الله تعالى، قال فيه:} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ { [الصافات: 142] والمليم: الذي أتى ما يلام عليه، وقال جماعة من المفسرين: إن يونس لما أخبر قومه عن الله أنه منزل العذاب بهم لأجل معلوم ثم بلغه بعد ما مضى الأجل أنه لم يأتهم ما وعدهم خشي أن ينسب إلى الكذب ويعير به سيما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه

وكان مشتهيا أن ينزل بأس الله بهم لطول ما قاس من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم فذهب} مُغَاضِبًا { [الأنبياء: 87] لربه أي لأمر ربه وهو رفعه العذاب، عن قومه كره ذلك وغضب منه ومضى على جهة مضي الآبق الناد، يقول الله تعالى} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ { [الصافات: 140] وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده، وقال: والله لا أرجع إلى قومي كذابا أبدا وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت، وروي في الحديث: أنه كان ضيق الصدر، قليل الصبر على ما صبر على مثله أولو العزم من الرسل. وقوله:} فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ { [الأنبياء: 87] أي: لن نقضي عليه من العقوبة ما قضيناه، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطية، يقال: قدر الله الشيء وقدره، أي قضاه، وهذا القول اختيار الفراء، والزجاج. وقال آخرون: لن نقدر عليه، لن نضيق عليه الحبس، من قوله عز وجل:} وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ { [الطلاق: 7] أي: من ضيق عليه، وقد ضيق الله على يونس تضييقه على معذب في الدنيا، وهذا معنى قول عطاء، والحسن: ظن أن لن نعاقبه. وقال:} فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ { [الأنبياء: 87] أكثر المفسرين قالوا: يعني ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر. وقال سالم بن أبي الجعد: حوت في حوت في ظلمة. وقوله:} أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { [الأنبياء: 87] قال الحسن، وقتادة: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته، تاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه، فقال: إني كنت من الظالمين حين ذهبت مغاضبا، ولم أعبد غيرك. وهذا معنى قوله:} لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ [الأنبياء: 87] الآية. 621 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا مُعْتَمِرٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قوله: فاستجبنا له أي: أجبنا دعاءه، {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء: 88] من تلك الظلمات، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] إذا دعوني كما أنجينا ذا النون، وروي عن عاصم أنه قرأ نجى المؤمنين مشددة الجيم، وجميع النحويين حكموا على هذه القراءة بالغلط، وأنها لحن، ثم ذكر الفراء وجها، فقال: أضمر المصدر في ننجي فنوى به الرفع ونصب المؤمنين، كقولك: ضرب الضرب زيدا. ثم يقول زيدا على إضمار المصدر.

ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا قال أبو علي الفارسي: هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر. وراوي هذه القراءة عن عاصم غالط في الرواية، فإنه قرأ ننجي بنونين، كما روى حفص عنه، ولكن النون الثانية من ننجي تخفى مع الجيم، ولا يجوز تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، فظن أنه إدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء من ننجي ونصب قوله: المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء، ولوجب أن يرفع المؤمنين. {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ {89} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {90} } [الأنبياء: 89-90] وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89] قال ابن عباس: وحيد بلا ولد. وهذا كقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا {5} يَرِثُنِي} [مريم: 5-6] . وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من يبقى حيا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون، ويبقى هو، وقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: كانت عاقرا فجعلها الله ولودا. وقال الكلبي: كانت عقيما فأصلحت له بالولد، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة. وهذا قول أكثرهم: إن إصلاح زوجه إزالة عقرها. وقوله: إنهم يعني: زكريا وامرأته ويحيى، وبعض المفسرين يذهب إلى أن الكفاية تعود إلى الأنبياء الذين ذكرهم الله في هذه ال { [. ومعنى] يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [سورة الأنبياء: 90] يبادرون في طاعة الله وأداء فرائضه، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] أي: للرغبة والرهبة، رغبة في الجنة، وخوفا من النار، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] قال قتادة: ذللا لأمر الله. {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] والتي يعني: مريم، أحصنت فرجها حفظت فرجها، ومنعته عما لا يحل، وقال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها. وهذا محتمل لأن الفرج في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، وهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع، فنفخنا فيها أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأجرينا فيها روح المسيح كما تجري الريح بالمنفخ، وذلك أن الله تعالى أجرى فيها روح المسيح بنفخ جبريل، وأحدث بذلك النفخ عيسى في رحمها، وقوله: من روحنا أضاف الروح إليه إضافة الملك، للتشريف

والتخصيص، وهو يريد روح عيسى، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] يعني: ما ظهر فيها من الأعجوبة التي دلت على قدرة الله، ووحد الآية بعد ذكرهما جميعا، لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادة من غير فحل. قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ {94} } [الأنبياء: 92-94] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92] قال ابن عباس: يريد دينكم. وهو قول الحسن، ومجاهد، والجميع، قال ابن قتيبة: والأمة الدين. ومنه قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين، والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون على دين واحد، أمة، فتقام مقام الدين، وقوله: أمة واحدة قال ابن عباس: دينا واحدا. والمعنى أن هذه الشريعة التي نبينها لكم في كتابكم دينا واحدا، إبطالا لما سواها من الأديان، وهي نصب على الحال، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] أي: لا دين سوى ديني، ولا رب غيري. ثم ذكر اليهود والنصارى وذمهم بالاختلاف، فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 93] أي: اختلفوا في الدين فصاروا فيه فرقا وأحزابا، يعني: طوائف اليهود والنصارى. قال الكلبي: فرقوا دينهم فيما بينهم، يلعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض. والتقطع في هذه الآية بمنزلة التقطيع، ثم أخبر أن مرجع جميع أهل الأديان إليه، وأنه مجاز جميعهم، فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ {93} فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء: 93-94] أي: شيئا منها من أداء الفرائض، وصلة الرحم، ونصرة المظلوم، وغيرها من أعمال البر، وهو مؤمن مصدق بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما جاء به، {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] لا جحود لعمله، يعني أنه يقبل ويشكر بالثواب عليه، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] نأمر الحفظة أن يكتبوا لذلك العامل ما عمل ليجازى به. وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ {95} حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ {96} وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ {97} } [الأنبياء: 95-97] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 95] قال قتادة: واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها. ونحو هذا قال عكرمة، عن ابن عباس، وعطاء، والكلبي، قال عطاء: يريد حتما مني. وقال الكلبي: يقول وجب على أهل قرية. أهلكناها يريد عذبناها {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] إلى الدنيا، والمعنى أن الله كتب على من أهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة، وأن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما، وفي هذا تخويف لكفار مكة أنهم إن عذبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة، وذهب ابن جريج، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وجماعة إلى أن لا في قوله: لا يرجعون زيادة وقالوا المعنى: حرام على قرية مهلكة ترجعوهم إلى الدنيا، كما قال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً

وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] ومن قرأ وحرم فهو بمعنى حرام، كما قيل: حل وحلال وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] معنى فتحهما إخراجهما عن السد الذي جعلا وراءه، وكأنهما قيدا بذلك السد، فإذا ارتفع السد انفتحا، وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] الحدب كل أكمة مرتفعة من الأرض، وينسلون من النسلان، وهو كمشية الذئب إذا أسرع، والمعنى: وهم من كل شيء من الأرض يسرعون، يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين. 622 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِزَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ؛ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ، فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، ثُمَّ مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، فَرَجَعُوا إِلَى عِيسَى فَقَالَ: عَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ فِيمَا دُونَ وَجْبَتِهَا، فَأَمَّا وَجْبَتُهَا فَلا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ، فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالَ، قَالَ: فَأَهْبِطُ فَأَقْتُلُهُ وَيَرْجِعُ النَّاسَ إِلَى بِلادِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَلا يَمُرُّونَ بِمَاءٍ إِلا شَرِبُوهُ وَلا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ إِلا أَفْسَدُوهَ فَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُمِيتُهُمْ فَتَجْوَى الأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ وَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُرْسِلُ السَّمَاءَ بِالْمَاءِ فَيَحْمِلُ أَجْسَادَهُمْ فَيَقْذِفُهَا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ وَتُمَدُّ الأَرْضُ مَدَّ الأَدِيمِ، فَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَةَ مِنَ النَّاسِ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَّى تَفْجَأُهُمْ بِوِلادَتِهَا لَيْلا أَمْ نَهَارًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَجَدْتُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97] قال ابن عباس: يريد القيامة، فإذا هي فإذا القصة، {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97] أي: القصة أن أبصارهم تشخص في ذلك اليوم، قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم. وهو قوله وقالوا: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا} [الأنبياء: 97] في الدنيا، {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97] اليوم {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97] أنفسنا بتكذيب الرسل. ثم خاطب أهل مكة، فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ {98} لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ {100} إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {103} } [الأنبياء: 98-103] {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] يعني: الأوثان، حصب جهنم الحصب: ما رميت به في النار، قال ابن عباس:

يريد وقودها. وقال مجاهد، وقتادة، وعكرمة: حطبها. وقال الضحاك: يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء. {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فيها داخلون. {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} [الأنبياء: 99] يعني: الأصنام، آلهة كما يزعم الكفار، ما وردوها يعني: العابدين والمعبودين، لقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ {99} لَهُمْ فِيهَا} [الأنبياء: 99-100] في جهنم، {زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100] قال ابن مسعود: إذا بقي في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] قال أكثر المفسرين: لما نزل {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أتى ابن الزبعرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد، ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح، وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: بلى. قال: فإن الملائكة وعيسى ومريم وعزيرا يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار. فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] يعني: هؤلاء الذين ذكرهم سبقت لهم من الله السعادة. أولئك عنها عن جهنم، {مُبْعَدُونَ {101} لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101-102] أي: حسها وحركة تلهبها، والحس والحسيس الصوت تسمعه من الشيء يمر منك قريبا، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} [الأنبياء: 102] من النعيم، {خَالِدُونَ {102} لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 102-103] قال أكثرهم: يعني إطباق جهنم على أهلها. وقال الحسن: هو أن يؤمر بالعبد إلى النار. وقال ابن جريج: هو ذبح الموت بين الفريقين. 623 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، نا عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " ثَلاثَةٌ عَلَى كُثْبَانٍ مِنْ مِسْكٍ لا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَلا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ؛ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا ثُمَّ أَمَّ بِهِ قَوْمًا مُحْتَسِبًا، وَرَجُلٌ أَذَّنَ مُحْتَسِبًا، وَمَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وَتَسْتَقْبِلُهُمْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي الدُّنْيَا " {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ملكا يقال له سجل، هو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. وهذا قول السدي، قال: السجل ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان، دفع إليه كتابه فطواه. ونحو هذا روي عن ابن عمر، أنه قال: السجل ملك، والمراد بالكتاب والكتب على اختلاف القراءتين الصحائف،

كما تقول: كطي زيد الكتب وتكون اللام زائدة، كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] . وقال مجاهد: السجل الصحيفة فيها الكتب. وهو قول قتادة، والكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة، وعلى هذا القول، الكتب يراد بها المكتوب، ولما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة جعل السجل كأنه يطوي الكتاب، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم أول. 624 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أنا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلا إِنَّ أَوَّلَ مِنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ وقال الزجاج: المعنى نبعث الخلق كما ابتدأناه، أي: قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء، والخلق ههنا مصدر لا يعني المخلوق، وقوله: وعدا علينا أي: وعدناكم ذلك وعدا علينا {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ما وعدناكم من ذلك. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ {107} } [الأنبياء: 105-107] وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء: 105] يعني: جميع الكتب المنزلة من السماء، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] يعني: أم الكتاب الذي عند الله، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد، واختيار الزجاج، قال: الزبور جميع الكتب التوراة والإنجيل، والقرآن زبور لأن الزبور والكتاب في معنى واحد، يقال: زبرت الشيء وكتبت. وقوله: أن الأرض يريد أرض الجنة كقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} [الزمر: 74] ، {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] يعني: المؤمنين العاملين بطاعة الله، ويرثونها كقوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] . {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء: 106] يعني القرآن، لبلاغا لكفاية، يقال في هذا الشيء: بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفاية، والمعنى أن من اتبع القرآن وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة، وقوله: لقوم عابدين قال كعب: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، سماهم عابدين. ونحو هذا روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 625 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، بِمَكَّةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّعْبِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

قَرَأَ إِنَّ هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ثُمَّ قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال ابن عباس: يريد للبر والفاجر، لأن كل نبي غير محمد إذا كذب أهلك الله من كذبه وأخر من كذبه إلى موت أو قيامة، والذي صدقه عجلنا له الرحمة في الدنيا والآخرة. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة» . 626 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {108} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ {109} إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ {110} وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {111} قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {112} } [الأنبياء: 108-112] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] منقادون إلى ما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله، والمراد بهذا الاستفهام الأمر، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . فإن تولوا أعرضوا ولم يسلموا، فقل آذنتكم أعلمتكم للحرب، على سواء أي: إيذانا على سواء، إعلاما يستوي في علمه الجميع، ولم نبدأ به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم. وإن أدري ما أدري، {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] يعني: أجل القيامة لا يدري به أحد إلا الله. {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء: 110] ما تعلنون، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] سركم لا يغيب عن علمه شيء منكم. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] قال الزجاج: ما أدري لعل ما آذنتكم به فتنة لكم. أي اختبار، يعني: ما أخبركم به من أنه لا يدري وقت عذابهم، وهو القيامة، فكأنه قال: لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم، ليرى كيف صنيعكم. وقوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم. قوله: قل رب احكم بالحق أي: بعذاب كفار قومي الذي هو حق نازل بهم، ويدل على هذا ما روي أنه كان إذا شهد قتالا، قال: «رب احكم بالحق» . قال الكلبي: فحكم عليهم بالقتل يوم بدر،

ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الخندق. والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع. وقرأ حفص {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] يعني: قال الرسول ذلك، وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] من كذبهم وباطلكم في قولكم: {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] ، وقولكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26] . والوصف بمعنى الكذب، ذكر في مواضع من التنزيل كقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] ، وقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .

سورة الحج

سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون. 627 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَحَجَّةٍ اعْتَمَرَهَا، بِعَدَدِ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ» بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ {1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ {2} } [الحج: 1-2] {يَأَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 1] قال ابن عباس: يريد أهل مكة. اتقوا ربكم اتقوا عقابه بطاعته، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج: 1] الزلزلة: شدة الحركة على الحال الهائلة. قال علقمة، والشعبي: هي من أشراط الساعة، وهي في الدنيا قبل يوم القيامة. وقال الحسن، والسدي: وهذه الزلزلة تكون يوم القيامة. وروي عن ابن عباس، أنه قال: زلزلة الساعة قيام الساعة. يعني أنها تقارن قيام الساعة، وتكون معها، وقوله: شيء عظيم يعني أنه لا يوصف لعظمه. يوم ترونها ترون تلك الزلزلة، تذهل في هذا اليوم، {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] تنسى وتترك كل والدة ولدها، يقال: وهل عن كذا يذهل ذهولا؟ إذا تركه أو شغله عنه شاغل. قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وهو قوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2] يعني: من هول ذلك اليوم، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا يكون حبلى، وعند شدة الفزع تلقي المرأة جنينها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 2] من شدة الخوف، {وَمَا هُمْ

بِسُكَارَى} [الحج: 2] من الشراب، هذا قول جميع المفسرين، والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم، يضطربون اضطراب السكران من الشراب، يدل على صحة هذا قراءة من قرأ وترى الناس بضم التاء، أي تظنهم، قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد. وسكارى وقرئ سكرى قال الفراء: ولهذه القراءة وجه جيد في العربية، لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى والزمنى، والعرب تجعل فعلى علامة لجمع كل ذي زمانة وضرر وهلاك، ولا يبالون أكان واحده فاعلا أو كان فعيلا أو فعلان. وقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] دليل على أن سكرهم من خوف العذاب. 628 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الزَّاهِدُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْوَلِيدُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنْ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَيَقُولُونَ: وَمَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُم وَاحِدٌ، فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: يُكَبِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، كِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ {3} كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {4} } [الحج: 3-4] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 3] قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث، كان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله قادر على إحياء من بلي. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد الوليد وعتبه بن ربيعة. والمعنى أنه

يخاصم في قدرة الله، ويزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم في ذلك، إنما يقوله باغواء الشيطان وطاعته إياه، وهو قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3] قال ابن عباس: المريد المتمرد على الله. {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] قال ابن عباس: قضى الله أن من أطاع إبليس أضله ولم يرشده وجره إلى عذاب السعير. {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ {7} } [الحج: 5-7] {يَأَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 5] يعني: أهل مكة، {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] قال ابن عباس: في شك من القيامة. {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] قال الزجاج: أي تدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين ابتداء الخلق وبين إعادته. وهو قوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] يعني: خلق آدم، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] يعني: خلق ولده، {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] وهي الدم الجامد قبل أن يبيض، وذلك أن النطفة المخلوق منها الولد تصير دما غليظا، ثم تصير لحما، وهو قوله: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] والمضغة: قطعة لحم، وقوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] قال ابن الأعرابي: مخلقة قد برأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور. قال السدي: هذا في السقط، والمرأة تسقط النطفة بيضاء، والعلقة تسقط قد صور بعضه، وتسقط وقد صور كله. فعلى هذا القول المخلقة وغير المخلقة في السقط، وذهب الأكثرون إلى أن المخلقة: ما أكمل خلقه فينفخ الروح فيه، وهو الذي يولد لتمام حيا، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقه بالروح، وهذا معنى قول ابن عباس رواية عطاء، وعكرمة، والكلبي. ويدل على صحة التفسير: ما 629 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؛ قَذَفَتْهَا الأَرْحَامُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ نَسَمَةً وَإِنْ قِيلَ مُخَلَّقَةٌ؛ قَالَ: رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٍ؟ مَا الأَجَلُ؟ مَا الأَثَرُ؟ مَا الرِّزْقُ؟ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ فَيُقَالُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ مِنْ أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا وَتَطَأُ أَثَرَهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي ثَبَتَ لَهَا، ثُمَّ تَلا عَامِرٌ: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ وقوله: لنبين لكم قال ابن عباس: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون. يعني أن الله خلق بني آدم ليبين لهم ما يحتاجون إليه في العبادة، وقال صاحب النظم: ليبين لكم أن البعث حق، لأن الآية نزلت دلالة على البعث. ونقر ونثبت،} فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ { [الحج: 5] فلا يكون سقطا،} إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى { [الحج: 5] إلى

أجل الولادة،} ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا { [الحج: 5] قال الزجاج: طفلا في معنى أطفال. ودل عليه ذكر الجماعة،} ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ { [الحج: 5] فيه إضمار تقدريره ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم، يعني الكمال والقوة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين،} وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ { [غافر: 67] بلوغ الأشد،} وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ { [الحج: 5] أي: أخسه وأدونه، وهو الخرف،} لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا { [الحج: 5] قال ابن عباس: يبلغ السن من بعد ما يتغير عقله حتى لا يعلم شيئا. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصير بهذه الحالة. واضح بقوله:} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ { [التين: 5-6] . قال: إلا الذين قرأوا القرآن. ثم دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض، فقال:} وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً { [الحج: 5] قال ابن عباس: هي التي تلبدت وذهب عنها الندى. وقال مجاهد: هالكة. يعني جافة يابسة، وقال ابن قتيبة: ميتة يابسة كالنار إذا طفئت فذهبت. } فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ { [الحج: 5] تحركت بالنبات، وذلك أن الأرض ترتفع عن النبات، فذلك تحركها، وهو معنى قوله: وربت أي: ارتفعت وزادت، وقال المبرد: أراد واهتز وربى نباتها. فحذف المضاف، والاهتزاز في النبات أظهر، يقال: اهتز النبات إذا طال. } وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5] قال ابن عباس: من كل صنف حسن. والبهجة: حسن الشيء ونضارته، والبهيج: الحسن وقد بهج، ومنه قوله:} حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ { [النمل: 60] أي: تبهج الناظر وتمتعه برؤيتها. قوله:} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ { [الحج: 6] أي: فعل الله ذلك، يعني: ما ذكر من ابتداء الخلق وإحياء الأرض بأنه هو الحق أي: ذو الحق، يعني أن جميع ما يأمر به ويفعله هو الحق لا الباطل، كما يأمر به الشيطان من الباطل،} وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى { [الحج: 6] أي: وبأنه يحيى الموتى، والمعنى: فعل ما فعل بقدرته على إحياء الموتى، وبأنه قادر على ذلك، وقادر على ما أراد، وهو قوله:} وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ { [الحج: 6-7] أي: ولتعلموا أن الساعة، آتية والمعنى: بدء الخلق وإحياء الأرض بالماء دلالة لكم لتعلموا بها أن القيامة آتية، وأن البعث حق، وهو قوله:} وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ { [الحج: 7] . } وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ {8} ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ {9} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {10} { [الحج: 8-10] وقوله:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ { [الحج: 8] تقدم تفسيره، وقوله:} وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ { [الحج: 8] قال ابن عباس: ليس معه من ربه رشاد ولا بيان ولا كتاب له نور. } ثَانِيَ عِطْفِهِ { [الحج: 9] يقال: ثنيت الشيء إذا عطفته، ومنه قوله:} يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ { [هود: 5] . والعطف الجانب، وعطفا الرجل جانباه، عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان، أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء، قال ابن عباس: مستكبرا في نفسه. وقال مجاهد، وقتادة: لاوي عنقه. وقال ابن زيد: معرضا عما يدعى إليه كبرا. وقال الزجاج: وهذا لا يوصف به المتكبر. والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله منكرا، وقوله:} لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ { [الحج: 9] ليذهب عن طاعة الله، والمعنى أنه يجادل ليضل عن سبيل الله، لا أن له على ما

يجادل فيه حجة،} لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ { [الحج: 9] يعني: ما أصابه يوم بدر، وهو أبو جهل قتل بدر، وأوعد بعذاب الآخرة، وهو قوله:} وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ {9} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {10} { [الحج: 9-10] والآية مفسرة في} [الأنفال. ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {11} يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ {12} يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ {13} { [سورة الحج: 11-13] قوله:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ { [الحج: 11] أكثر المفسرين قالوا: على شك وضلالة. وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه، نحو حرف الجبل والدكان والحائط الذي عليه القائم غير مستقر، فالذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة، كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضرب اضطرابا ويضعف قيامه، فهو يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف، فقيل للشاك في دينه: إنه يعبد الله على حرف، لأنه ليس على يقين في وعده ووعيده، بخلاف المؤمن لأنه لو عبده على يقين وبصيرة، ولم يكن على حرف يسقط عنه بأدنى شيء يصيبه، وهذا المعنى ظاهر في قوله:} فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ { [الحج: 11] أي: أصابه رخاء وعافية وخصب، وكثر ماله اطمأن على عبادة الله بذلك الخير،} وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ { [الحج: 11] اختبار بجدب وقلة ماله،} انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ { [الحج: 11] رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان، والمعنى: انصرف إلى وجهه الذي توجه منه، وهو الكفر، نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صح جسمه، ونتجت فرسه مهرا حسنا، وكثر ماله، رضي واطمأن، وقال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا خيرا، وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وأجهضت رماكه، وذهب ماله، أتاه الشيطان، فقال: ما أصبت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن الدين. وقوله:} خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ { [الحج: 11] يعني: هذا الشاك خسر دنياه، حيث لم يظفر بما طلب من المال، وخسر آخرته بارتداده عن الدين. ذلك الذي فعل،} هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ { [الحج: 11] الضرر الظاهر. } يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ { [الحج: 12] أي: هذا المرتد يعبد سوى الله،} مَا لا يَضُرُّهُ { [الحج: 12] إن لم يعبده، ولا ينفعه إن أطاعه، ذلك الذي فعل} هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ { [الحج: 12] عن الحق والرشد. } يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ { [الحج: 13] قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع، وإن كان لا نفع عنده، ولكن العرب تقول: لما لا يكون هذا بعيد، ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون، فلما كان نفعه بعيدا، قيل لضره: إنه أقرب من نفعه، على معنى أنه كائن. وقوله: لبئس المولى أي الناصر، ولبئس العشير أي:

الصاحب والمخالط، يعني الصنم، يخالطه العابد ويصاحبه. ولما ذكر الشاك في الدين بالخسران ذكر ثواب المؤمنين، فقال:} إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {14} مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ {15} وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ {16} { [الحج: 14-16] } إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { [الحج: 14] وقوله:} إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ { [الحج: 14] أي: بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأهل معصيته من الهوان. قوله:} مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ { [الحج: 15] أي: لن ينصر الله محمدا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظا، وهو تفسير قوله:} فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ { [الحج: 15] فليشدد حبلا في سقفه، ثم ليقطع أي: ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا، والمعنى: فليختنق غيظا حتى يموت، فإن الله مظهره ولا ينفعه غيظه، وهو قوله:} فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ { [الحج: 15] أي: صنيعه وحيلته، ما يغيظ ما بمعنى المصدر، أي: هل يذهبن كيده وغيظه؟ وكذلك ومثل ذلك، يعني ما تقدم من آيات القرآن، أنزلناه يعني القرآن، آيات بينات وقال ابن عباس: يريد لأهل التوحيد. } وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي { [الحج: 16] أي: وأنزلنا إليك أن الله يهدي، من يريد قال ابن عباس: يريد أهل التوحيد. } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ { [الحج: 17] } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا { [الحج: 17] ظاهر متقدم إلى قوله:} إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ { [الحج: 17] يقضي بينهم، يوم القيامة بإدخال المؤمنين الجنة والآخرين النار،} إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ { [الحج: 17] من أعمال هؤلاء، شهيد عالم بما شاهده. } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ { [الحج: 18] ألم تر ألم تعلم،} أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ { [الحج: 18] يعني: أهل السموات، إلى قوله: والدواب وصف الله تعالى هذه الأشياء بالسجود له، وهو خضوعها وذلتها وانقيادها لخالقها فيما يريد منها، ومعنى السجود في اللغة الخضوع، وقوله:} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ { [الحج: 18] يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى، وانقطع ذكر الساجدين، ثم ابتدأ، فقال:} وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ { [الحج: 18] أي ممن لا يوحده وأبى السجود، قال الفراء: قوله:} حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ { [الحج: 18] يدل على أن المعنى: وكثير أبى السجود

لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود،} وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ { [الحج: 18] من يشقه الله فما له من مسعد،} إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ { [الحج: 18] في خلقه من الإهانة والكرامة، والشقاوة والسعادة. } هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ {19} يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ {20} وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ {21} كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {22} { [الحج: 19-22] قوله:} هَذَانِ خَصْمَانِ { [الحج: 19] الفرق الخمسة الكافرة خصم، والمؤمنون خصم، وقد ذكروا جميعا في قوله:} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا { [الحج: 17] والخصم يقع على الواحد والجميع، ولهذا قال:} اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ { [الحج: 19] لأنهم جمعان وليسا برجلين، ومثله:} وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] والمعنى: اختصموا في دين ربهم، فقالت اليهود والنصارى للمسلمين: نحن أولى بالله منكم، لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون: بل نحن أحق بالله منكم، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبينا ونبيكم، وكفرتم أنتم بنبينا حسدا. فكان هذا خصومتهم في ربهم، وهذا قول جماعة المفسرين، وكان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في الذين بارزوا يوم بدر من الفريقين. 630 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ السَّقَطِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فِي هَؤُلاءِ السِّتَّةِ: حَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، ثُمَّ بَيَانُ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: {الَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} قَالَ الأَزْهَرِيُّ: أَيْ: سُوِّيَتْ وَجُعِلَتْ لَبُوسًا لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حِينَ صَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ أُلْبِسُوا مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ وقوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] روى أبي هريرة أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوف الكافر، فيسلت ما في جوفه حتى يحرق قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» . وهذا معنى قوله تعالى: يصهر به أي: بذلك الحميم، {مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] وفسر الصهر بالإذابة والإحراق

والإنضاج، وهو قول المفسرين، قال ابن عباس في رواية عطاء: ينضج. وقال قتادة، ومجاهد: تذاب. والمعنى أن أمعاءهم وشحومهم تذاب وتحرق بهذا الحميم وتشوى جلودهم فيتساقط من حره. قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] قال الليث: المقمعة شبه الجزر من الحديد، يضرب بها الرأس، وجمعها المقامع. من قولهم: قمعت رأسه إذا ضربته ضربا عنيفا. 631 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِمْ: « {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} لَوْ وُضِعَ مَقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي الأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ الثَّقَلانِ مَا أَقَلُّوهُ مِنَ الأَرْضِ» قال الحسن: إن النار ترميهم بلهبها، حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بمقامع، فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها فلا يستقرون ساعة. فذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} [الحج: 22] يعني: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم حتى ليس لهم مخرج، ردوا إليها بالمقامع، قال المفسرون: إن جهنم لتجيش بهم، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فيردهم الخزان فيها، ويقولون لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] والحريق اسم من الاحتراق. وقال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر، الذين هم المؤمنون: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ {23} وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ {24} } [الحج: 23-24] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 23] الآية، وهي مفسرة في { [الكهف إلى قوله: ولؤلؤ وهو ما يستخرج من البحر، والمعنى: إنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، أي منها، بأن يرصع اللؤلؤ في الذهب، وقرئ ولؤلؤا بالنصب على ويحلون لؤلؤا، وقوله:] وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [سورة الحج: 23] يعني أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم، وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال، قال أبو سعيد الخدري: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة كلهم غيره، قال الله عز وجل: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . 632 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُحْتُرِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، نا أَبِي، نا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ؛ لأَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، يَقُولُ {لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24] قال ابن عباس: يرد لا إله

إلا الله، والحمد لله. وزاد ابن زيد: والله أكبر. وقال السدي: إلى القرآن. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] أرشدوا إلى الإسلام، وهو دين الله وطريقه والحميد في أفعاله. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25] عطف المضارع على لفظ الماضي، لأن المراد بالمضارع أيضا الماضي، ويقوي هذا قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1] ويجوز أن يكون المعنى: إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون مع ما تقدم من كفرهم، والمعنى: يمنعون الناس عن طاعة الله، {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] أي: مستقرا ومنسكا وتعبدا، كما قال: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] قال المفسرون: جعلناه للناس خلقناه وبنيناه للناس كلهم، لم نخص به منهم بعضا دون بعض. قال الزجاج: جعلناه للناس وقف التمام. ثم قال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وسواء رفع على أنه خبر ابتداء مقدم، المعنى: العاكف والبادي فيه سواء، ومن نصب فقال: سواء، كان التقدير مستويا فيه العاكف والباد، فرفع العاكف بسواء كما يرفع بمستوى العاكف المقيم فيه والبادي الذي ينتابه من غير أهله في قول الجميع، ومعنى البادي النازع إليه من غربة، من قولهم: بدا القوم إذا خرجوا من الحضر إلى الصحراء، وإنما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما بأحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، غير أن لا يخرج أحد من بيته، وهذا قول قتادة، وسعيد بن جبير، وابن عباس، ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام بالمسجد الحرام على قولهم الحرم كله، كقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] . وقال آخرون: المراد بالمسجد الحرام عين المسجد الذي يصلى فيه، وظاهر القرآن يدل على هذا، والمراد باستواء العاكف والبادي فيه استواؤهما في تفضيله، وتعظيم حرمته، وإقامة المناسك به، وهذا مذهب مجاهد، والحسن، وقول من أجاز بيع دور مكة، وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والطواف به، ويدعون أنهم أربابه وولاته. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] اتفقوا على أن الباء في بإلحاد زيادة، والمعنى: ومن يرد فيه إلحادا بظلم، ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القصد، واختلفوا في معناه ههنا: فقال مجاهد، وقتادة: هو الشرك وعبادة غير الله. وقال آخرون: هو كل شيء كان منهيا

عنه، وحتى شتم الخادم. وقال عطاء: هو دخول مكة بغير إحرام، وأذى حمام مكة، وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها. وعلى هذا القول الإلحاد بالظلم هو استحلال محظورات الاحرام وركوبها، وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة، وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها. ونحو هذا قال ابن مسعود فيما: 633 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: إِلا أَنْ يَتُوبَ {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ {29} } [الحج: 26-29] قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] قال الزجاج: جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى بوأنا ههنا بيتا مكان البيت، قال السدي: إن الله تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحا خجوجا، فكنست له ما حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل أن يرفع أيام الطوفان، وقال الكلبي: بعث الله سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم، فقامت بحيان البيت، وقالت: يا إبراهيم، ابن على قدري. وقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] أي: وأوحينا إليه ألا تعبد معي غيري، قال المبرد: كأنه قيل له: وحدني في هذا البيت. لأن معنى {لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] وحد الله وطهر بيتي من الشرك وعبادة الأوثان، والآية مفسرة في { [البقرة. قوله:] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [سورة الحج: 27] قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي. قال الله: أذن وعليَّ البلاغ. فعلا على المقام، فأشرف به حتى صار كأطول الجبال، فأدخل إصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وغربا، وقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم. فأجابه من كان في أصلاب الرجال،

وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. 634 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، نا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الْخَزَّازُ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَحُجُّ الْبَيْتَ إِلا أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلا مَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَأْتُوكَ رِجَالا} فَمَنْ أَتَى الْكَعْبَةَ حَاجًّا فَكَأَنَّهُ قَدْ أَتَى إِبْرَاهِيمَ؛ لأَنَّهُ مُجِيبُ نِدَاءٍ، وَرِجَالٌ جَمْعُ رَاجِلٍ؛ مِثْلُ قَائِمٍ وَقِيَامٍ، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أَيْ: رُكْبَانًا، وَالضُّمُورُ: الْهُزَالُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الإِبِلَ وَلا يَدْخُلُ بَعِيرٌ وَلا غَيْرُهُ الْحَرَمَ إِلا وَقَدْ ضَمَرَ، وَالْمَعْنَى: يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا 635 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ، حُجُّوا مِنْ مَكَّةَ مُشَاةً حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَيْهَا مُشَاةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لِلْحَاجِّ الرَّاكِبِ بِكُلِّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً، وَلِلْحَاجِّ الْمَاشِي بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُ مِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قَالَ: قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ " وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] أي: طريق بعيد، وذكرنا الفج عند قوله: {فِجَاجًا سُبُلا} [الأنبياء: 31] . 636 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحَمْنِ الْفَقِيهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَوْصِلِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا أَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَّعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ لِمُحْسِنِهِمْ جَمِيعَ مَا سَأَلُونِي غَيْرَ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَإِذَا أَفَاضَ الْقَوْلُ إِلَى جَمْعٍ وَوَقَفُوا، عَادُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ: مَلائِكَتِي، عِبَادِي وَقَفُوا فَعَادُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَّعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيعَ مَا سَأَلَنِي وَكَفَّلْتُ عَنْهُمْ بِالتَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ قوله تعالى: ليشهدوا ليحضروا: يعني الذين يأتون، منافع لهم أكثر المفسرين: جعلوها منافع الدنيا، وقالوا: يعني التجارة والأسواق. وهو قول سعيد بن جبير، والسدي، وابن عباس في رواية أبي رزين. ومنهم من خصها بمنافع الآخرة، وهو قول سعيد بن المسيب، والعوفي، واختيار الزجاج، قال: ليشهدوا ما

ندبهم الله إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم. ومنهم من جعلها شائعة في الأجر والتجارة، وهو قول مجاهد. ورواية عطاء، عن ابن عباس، قال: منافع لهم في الدنيا والأخرة. أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنا المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، بمكة، نا المفضل بن محمد بن إبراهيم الشعبي، نا محمد بن يوسف، نا أبو فرة، قال: ذكر أبو الحكم، عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن لهيعة، عن كثير بن الحارث، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يقول إذا وقف بعرفة: اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك، ووكدت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك، فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن تقيني عذاب النار. وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قال الحسن، ومجاهد: يعني أيام العشر، قيل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أيام الحج، وهي يوم عرفة، والنحر، وأيام التشريق. واختاره الزجاج، قال: لأن الذكر ههنا يدل على التسمية على ما ينحر. لقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] أي: على ذبح ما رزقهم من البدن من الإبل والبقر والضأن والمعز، هذه الأيام تختص بذبح الأضاحي، قال قتادة: كان يقول: إذا ذبحت نسيكتك فقل: بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك عن فلان. وأول وقت الذبح إذا مضى صدر يوم النحر إلى أن تغرب الشمس من آخر أيام التشريق. وقوله: فكلوا منها يعني: من الأنعام التي تنحر، وهذا أمر إباحة، إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل، وكان أهل الجاهلية لا يستحلون أكل ذبائحهم، فأعلم الله أن ذلك جائز، هذا قول جماعتهم، غير أن هذا في هدي كان صاحبه متطوعا به، فأما إذا كان في كفارة، أو جبرانا لنقصان، فلا يحل لصاحبه الأكل منه، وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] البؤس هو شدة الفقر. قوله: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث، وقضاؤه نقضه وإذهابه، والحاج مغير شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه، وخرج من إحرامه بالقلم والحلق وقص الشارب ولبس الثياب ونتف الإبط وحلق العانة، فهو قضاء التفث. قال الزجاج: كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال. قوله: وليوفوا نذورهم قال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البدن. وقال آخرون: يعني ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج. وربما ينذر الرجل أن يتصدق إن رزقه الله لقاء الكعبة، وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يتصدق ويهديها إلى أهل مكة، ولذلك قال: وليوفوا نذورهم أي: وليوفوها بقضائها، ولم يقل بنذورهم، لأن المراد بالإيفاء الإتمام، وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] يعني: الطواف الواجب، ويسمى طواف الإفاضة، لأنه يكون بعد الإفاضة. 637 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ

بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ؛ لأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ» وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ أَرَادَ دُخُولَهُ وَلَكِنْ يَذِلُّ لَهُ وَيَتَوَاضَعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَيْتُ الْعَتِيقُ الْقَدِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] وهو ما: 638 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، نا أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ عُسْفَانَ؛ قَالَ: " لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى بَكِرَاتٍ حُمْرٍ خُطُمُهُنَّ اللِّيفُ وَأُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ {30} حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ {31} } [الحج: 30-31] قوله: ذلك أن الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج: 30] قال الليث: الحرمة ما لا يحل انتهاكه. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه. وهي في هذه الآية ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها، وتعظيمها: ترك ملابستها، وكثير من الناس اختاروا في معنى الحرمات ههنا إنها المناسك، لدلالة ما يتصل بها من الآيات، وقال ابن زيد: المراد بالحرمات ههنا البيت الحرم، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام. ويدل على هذا قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] . وقوله: فهو أي: التعظيم، {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] يعني: في الآخرة، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ} [الحج: 30] الإبل والبقر {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] تحريمه في { [المائدة من الميتة والمنخنقة،] فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [سورة الحج: 30] أي: كونوا على جانب منها، فإنها رجس، أي سبب رجس، وهو العذاب أو المأثم. قال الزجاج: من ههنا تخليص جنس

من أجناس. والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] يعني: الشرك بالله، وكان أهل الجاهلية يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، ويريدون الصنم. وقال الزجاج: المراد بقوله: {الزُّورِ} [الحج: 30] ههنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريم بعضها من البحيرة، والسائبة، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام ليفتروا على الله الكذب. وقال ابن مسعود: يعني شهادة الزور. 639 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، نا جَدِّي، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ الأَسَدِيِّ، عَنْ فَاتِكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُزَيْمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يُرِيدُ: أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عِبَادَةِ الْوَثَنِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ قوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] ذكر معنى الحنيف فيما تقدم، قال قتادة، وعبد الله بن القاسم: كانت حنيفية في الشرك، كانوا يحجون البيت، ويحرمون في شركهم الأمهات والبنات والأخوات، وكانوا يسمون حنفاء، فنزلت في حق المؤمنين {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] أي: حجاجا لله وهم مسلمون موحدون، ثم ضرب لمن أشرك مثلا فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] أي: سقط من السماء، فتخطفه الطير أي: تأخذه بسرعة، من قولهم: خطف يخطف خطفا إذا سلبه، ومنه قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] قال ابن عباس: يريد تخطف لحمه. {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} [الحج: 31] أي تسقطه، {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] بعيد، يقال: سحق سحقا فهو سحيق. قال الزجاج: أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحق كبعد من خر من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه، وإما بسقوطه في المكان السحيق. قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ {32} لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ {33} } [الحج: 32-33] ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] قال مجاهد: يريد استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها. وهو قول ابن عباس في رواية مقسم، والشعائر جمع الشعيرة، وهي البدن إذا أشعرت، أي أعلم عليها بأن يجرح سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي، والذي يهدي مندوب إلى طلب الأسمن

والأعظم، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] أي: فبان تعظيمها، ثم حذف المضاف لدلالة يعظم على التعظيم، وأضاف التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. قوله: لكم فيها في الشعائر، منافع بركوبها وشرب لبنها إن احتاج إليه، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] إلى أن ينحر، فهذا قول عطاء بن أبي رباح، ومذهب الشافعي، وعنده أن المهدي لو ركب هدية ركوبا غير فادح فلا بأس، والأكثرون من المفسرين يذهبون إلى أن المنافع من رسلها ونسلها وركوب ظهرها وأصوافها وأدبارها، إنما يكون قبل أن يسميها هديا، فإذا سماها هديا انقطعت المنافع بعد ذلك. وهو قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] وبعد أن سميت هديا لا ينتفع بها غير أهل الله، والقول هو الأول لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] أي: في الشعائر، وقبل إيجابها لا تسمى شعائر، ولما روى أبو هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» . فقال: إنها بدنة. فقال: «اركبها ويحك» ، أو «ويلك» . وقوله: ثم محلها أي: حيث يحل نحرها، {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] يعني: عند البيت، وهو الحرم كله. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {35} } [الحج: 34-35] قوله: ولكل أمة أي: جماعة مؤمنة، يعني: من الذين سلفوا، جعلنا منسكا المنسك ههنا مصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، قال مجاهد: يريد إراقة الدماء. وقال عكرمة، ومقاتل: يعني ذبح. وقرأ حمزة بكسر السين، والفتح أولى، لأن المصدر من هذا الباب بفتح العين، والمعنى: جعلنا لكل أمة أن يتقرب إلى الله بأن تذبح الذبائح، {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} [الحج: 34] أي: على نحر ما رزقهم، {مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] وبهيمة غير الأنعام لا يحل ذبحها، ولا التقرب بها، والآية دالة على أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية على الذبائح كانت مشروعة قبلنا، وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج: 34] أي: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده، فله أسلموا انقادوا وأطيعوا، وبشر المخبتين المتواضعين المطمئنين إلى الله. {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35] إذا خوفوا بالله خافوا، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 35] من البلاء والمصائب في طاعة الله، والمقيمين الصلاة في أوقاتها، يؤدونها كما استحفظهم الله، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] قال ابن عباس: يتصدقون من الواجب وغيره. قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]

والبدن جمع بدنة، ويجوز بضم الدال مثل ثمرة وثمر وثمر، وهي الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي، {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] أي: من أعلام دينه، والمعنى: جعلنا لكم فيها عبادة لله من سوقها إلى البيت، وتقليدها، وإشعارها، ونحرها، والإطعام منها، {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يعني: النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36] على نحرها، صواف قال ابن عباس، وابن عمر: قياما مقيدة سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مجاهد: إذا عقلت إحدى يديها وقامت على ثلاث تنحر، كذلك ويسوى بين أوظفتها لئلا يتقدم بعضها على بعض. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] سقطت إلى الأرض، وذلك عند خروج الروح منها، وهو وقت الأكل، وهو قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] قال ابن عباس في رواية عطاء: القانع الذي لا يسأل، والمعتر الذي يأتيك بالسلام ويريك وجهه ولا يسأل. وهذا قول زيد بن أسلم، وابنه، وسعيد بن جبير، والحسن. وقال الوالبي، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد: القانع الذي يقنع ويجلس في بيته، والمعتر الذي يعتريك ويسألك. وروى العوفي، عن ابن عباس: أن كليهما الذي لا يسأل. قال: القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك. ويقال: قنع قنوعا إذا سأل، وقنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسمه له وترك المسألة والتعرض. قال أبو زيد: سأل القانع السائل. قال: بعضهم المتعفف، وكل يصلح. والمعتر من قولهم: عره واعتره وعره واعتراه إذا أتاه يطلب معروفة، إما سؤالا، أو تعرضا. وقوله: كذلك أي: مثل ما وصفنا من نحرها قياما سخرناها لكم نعمة منا عليكم لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون، لعلكم تشكرون لكي تشكروا إنعام الله عليكم، قال ابن عباس: شكر الله طاعة له، واعترف بإنعامه. قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] قال الكلبي: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا دماءها حول البيت، قربة إلى الله، وأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله هذه الآية. قال مقاتل: لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يرفع إلى الله الأعمال الصالحة والتقوى، وهو ما أريد به وجه الله تعالى. قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به. وحقيقته معنى هذا الكلام يعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال: قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في تخاطبهم، والمعنى: لن يقبل الله اللحوم ولا دماء إذا كانت من غير تقوى الله، وإنما يتقبل منكم ما تتقونه به، وفي هذا دليل على أن شيئا من العبادات لا يصلح إلا بالنية، وهو أن ينوي بها التقرب إلى الله واتقاء عقابه، وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج: 37] تقدم تفسيره، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] على ما بين لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا. وبشر المحسنين قال ابن عباس: يريد الموحدين. {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] {

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم، وقرئ يدافع وهو بمعنى يدفع، وإن كان من المفاعلة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] قال ابن عباس: يريد الذين خانوا الله، وجعلوا معه شريكا، وكفروا نعمه، وقال الزجاج: من ذكر اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحة، فهو خوان كفور. قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} } [الحج: 39-40] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ} [الحج: 39] الآية، قال المفسرون: كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجون ويشكون ذلك، فيقول لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» . حتى هاجروا، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية أنزلت في القتال. وقرئ أذن بفتح الألف على إسناد الفعل إلى الله تعالى لتقدم ذكره، قوله: بأنهم ظلموا أي: بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بإيذائهم، وإخراجهم عن ديارهم، وقصدهم بالضرب والإهانة، وقرئ يقاتلون بفتح التاء، أي الذين يقاتلهم المشركون المؤمنون، ويقوي هذه القراءة أن الفعل الذي بعده مسند إلى المفعول به، وهو قوله: ظلموا وفي الآية محذوف تقديره: أذن لهم أن يقاتلوا، أو بالقتال، ثم وعدهم النصر فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] يعني: المؤمنين. ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] قال سيبويه: هذا من الاستثناء المنقطع، المعنى: لكن بأن يقولوا ربنا الله. أخرجوهم بتوحيدهم {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج: 40] وقرئ ولولا دفاع الله وتقدم الكلام في هذا، وقوله: لهدمت يقال: هدمت البناء إذا قضضته فانهدم. وقرى بالتشديد والتخفيف، يكون للكثير والقليل، والتشديد يختص به الكثير، وقوله: صوامع قال مجاهد، والضحاك: يعني صوامع الرهبان. وقال قتادة: الصوامع للصابئين، وهي متعبداتهم. وبيع جمع بيعة وهي كنيسة النصارى، وصلوات وهي كنايس اليهود، وهي بالعبرانية صلوتا، {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] بمعنى: مساجد المسلمين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى الآية يقول: لولا دفع الله الناس عن القتال ببعض الناس، لهدم في شريعة كل نبي

المكان الذي يصلي فيه، فكان لولا الدفع، لهدم في زمن موسى الكنايس، وفي زمن عيسى الصوامع، وفي زمن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المساجد. وقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] أي: ينصر دينه وشريعته، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} [الحج: 40] على خلقه، عزيز منيع في سلطانه وقدرته، وقال مقاتل: عزيز في انتقامه من عدوه. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج: 41] قال الزجاج: هذا من صفة ناصريه. يعني: إن هذا صفة من قوله: {مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] ومعنى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج: 41] نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد. قال قتادة ومقاتل: هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الحسن، وعكرمة: هم هذه الأمة، أهل الصلوات الخمس. وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قرنا بالصلاة والزكاة، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان: 22] ، كقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج: 76] والمعنى: إنه يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا منازع ومدع. ثم عزى نبيه عليه السلام عن تكذيبهم إياه وخوف مخالقيه بذكر من كذب نبيه فأهلك بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ {42} وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ {43} وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {44} فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ {45} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} } [الحج: 42-46] وإن يكذبوك إلى قوله: فأمليت للكافرين أي: أخرت عقوبتهم وأمهلتهم، يقال: أملى الله لفلان في العمر إذا أخر عنه أجله، وقوله: ثم أخذتهم أي بالعذاب، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] استفهام معناه التقرير، تقول: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب، أبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا، والنكير اسم من الإنكار. قال الزجاج: أي أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. ثم ذكر كيف عذب أهل القرى المكذبة، فقال: وكأين من قرية أهلكتها وقرئ أهلكناها كقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11] وكم من قرية أهلكناها، والاختيار التاء لقوله: فأمليت وقوله: وهي ظالمة أي: وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج: 45] تقدم تفسيره في { [البقرة، وبئر معطلة عطف على قوله: من قرية لأن المعنى:

وكم من بئر معطلة، وقصر مشيد تركوا بعد إهلاكهم، والمعطلة: المتروكة من العمل والاستقاء، ومعنى التعطيل: الترك من العمل، والمشيد: المطول المرفوع، من قولهم: شاد بناء إذا رفعه، ذكرنا ذلك في قوله:] بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [سورة النساء: 78] . ثم حث على الاعتبار بحال من مضى من الأمم المكذبة، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الحج: 46] قال ابن عباس: أفلم يسر قومك في أرض اليمن والشام. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] يعلمون بها ما يرون من العبر، والمعنى: فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم، {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] أخبار الأمم المكذبة، قال ابن قتيبة: وهل شيء أبلغ في العظة والعبر من الآية؟ لأن الله أراد أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتو فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا يشرب أهلها قد عطلت، وقصرا بناه ملكها بالشيد قد خلا من السكن وتداعى من الخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله مثل الذين نزل بهم ذكر الله تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر، وإنما عميت قلوبهم، فقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ذكر الفراء، والزجاج أن قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] من التوكيد الذي تريده العرب في الكلام، كقوله: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وقوله: ويقولون بأفواههم وقوله: يطير بجناحيه. قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ {47} وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ {48} } [الحج: 47-48] ويستعجلونك بالعذاب أي: يسألونك أن تأتي بعذابهم عاجلا، {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] في إنزال العذاب بهم في الدنيا، قال ابن عباس: يعني يوم بدر. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] قال مجاهد، وعكرمة، وابن زيد: هو من أيام الآخرة. ويدل على هذا ما روي أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مائة عام. والمعنى على هذا أنهم يستعجلون بالعذاب، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. قال الفراء: وفي هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجها آخر، فقال: أعلم الله أنه لا يفوته شيء، وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلا أن الله تفضل بالإمهال. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: المعنى إن يوما عنده في الإمهال وألف سنة سواء، لأنه قادر عليهم متى شاء أخذهم. وقرئ يعدون بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فلقوله يستعجلونك، ومن قرأ بالتاء فلأنه أعم من خطاب المستعجلين والمؤمنين. ثم أعلم أنه قد أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج: 48] الآية، وما بعدها ظاهر إلى قوله: {

قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {49} فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {50} وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {51} } [الحج: 49-51] {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [الحج: 51] أي: عملوا في إبطالها، معاجزين ظانين ومقدرين أن يعجزونا ويفوتونا، لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، وهذا معنى قول قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم. وهذا كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] ومن قرأ معجزين فالمعنى أنهم كانوا يعجزون من اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: ينسبونهم إلى العجز، ثم أخبر عن هؤلاء أنهم أصحاب النار بقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج: 51] . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {53} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {54} } [الحج: 52-54] قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] الرسول: الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا، ومحاورته إياه شفاها. والنبي: الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول. وقوله: {إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] قال ابن عباس: إلا إذا قرأ. وقال المفسرون: تلا. وذكرنا التمني بمعنى القراءة في قوله: {إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] . قوله: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي تلاوته، قال جماعة من المفسرين: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حريصا على إيمان قومه، فجلس يوما ما في مجلس لهم، وقرأ عليهم { [النجم، فلما أتى إلى قوله:] أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى {20} } [سورة النجم: 19-20] ألقى الشيطان في أمنيته حتى وصل: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ، ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل، وأخبره بما جرى من الغلط على لسانه، فاشتد ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن عباس، والسدي، ومجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير وغيرهم. قال عطاء، عن ابن عباس: إن شيطانا يقال له الأبيض أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقى في قراءته: «وإنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» .

وقال السدي، عن أصحابه: لما وقع من هذا ما وقع، أنزل الله هذه الآية يطيب نفس محمد، ويخبره أن الأنبياء قبله قد كانوا مثله، ولم يبعث نبي إلا تمنى أن يؤمن قومه، ولم يتمنى ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه. {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] وعلى هذا معنى قوله: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] إذا أحب شيئا ألقى الشيطان في محبته، وهذا دليل على جواز الخطأ والنسيان على الرسل، ثم لا يقارون على ذلك، وعلى ما قال ابن عباس، إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن له من ذلك إحساس قبل، كانت فتنة من الله لعباده المؤمنين والمشركين. وهو قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج: 53] أي محنة، ولله أن يمتحن بما يشاء، واللام في قوله: ليجعل متعلقة بقوله: ألقى، أي: ليجعل الله ما يلقي فتنة، {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] شك ونفاق، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، فازدادوا عتوا، وظنوا أن محمد يقول الشيء من عند نفسه ثم يندم فيبطله، وكذلك المشركون ازدادوا شرا وضلالة وتكذيبا، وهو قوله: والقاسية قلوبهم قال ابن عباس: يريد المشركين، وهم الذين لا تلين قلوبهم لتوحيد الله. وإن الظالمين يعني: أهل مكة، {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] لفي خلاف شديد. ثم وصف حال المؤمنين في هذه الفتنة، فقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الحج: 54] التوحيد والقرآن، وقال السدي: والتصديق بنسخ الله. وهو قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [الحج: 54] أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله، فيؤمنوا به فيصدقوا بالنسخ، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] ترق قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه، بخلاف المشركين الذين قيل فيهم: والقاسية قلوبهم، ثم بين أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته إياهم، فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] . {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ {55} الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {56} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {57} } [الحج: 55-57] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 55] يعني المشركون، {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج: 55] في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: ما باله ذكرها بخبر ثم ارتد عنها. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج: 55] يعني: ساعة موتهم، أي: حتى يموتوا أو يقتلوا، وهو قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] يعني: يوم بدر في قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي. وسمى الله ذلك اليوم عقيما لأنه لم تكن فيه للكفار بركة ولا خير، فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، قاله الضحاك، واختاره الزجاج. قوله: الملك يومئذ يعني: يوم القيامة، لله من غير منازع ولا مدع، فلا مالك ولا ملك يؤمئذ إلا لله وحده، يحكم بينهم مما ذكر من قوله: فالذين آمنوا إلى قوله: عذاب مهين. ثم ذكر فضل المهاجرين، فقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {58} لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ {59} ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {60} } [الحج: 58-60] {

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 58] من مكة إلى المدينة، {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] قال السدي: هو رزق الجنة. {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59] لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والمدخل يجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى المكان، فإذا كان بمعنى المصدر فالمراد به إدخالا يكرمون به فيرضونه، وقرئ مدخلا بفتح الميم على تقدير فيدخلون مدخلا يرضونه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} [الحج: 59] بنياتهم، حليم عن عقابهم. ذلك أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك، ثم قال: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج: 60] من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، قال الحسن: بمعنى قاتل المشركين كما قاتلوه. {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60] أي: ظالم بإخراجه من منزله، يعني: ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حين أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم، نزلت في قوم قاتلوا المشركين دفعا لهم عن أنفسهم، ثم خرجوا من ديارهم، فوعدهم الله النصر بقوله: لينصرنه الله يعني: المظلوم الذي بغي عليه، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] قال ابن عباس: عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {61} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {62} } [الحج: 61-62] ذلك أي: ذلك النصر، بأنه القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحج: 61] لدعاء المؤمنين، بصير بهم حيث جعل فيهم البر والتقوى والإيمان. ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين، {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 62] ذو الحق في قوله وفعله، فدينه حق، وعبادته حق، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} [الحج: 62] يعني المشركين، {مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] الذي ليس عنده ضر ولا نفع، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [الحج: 62] العالي على كل شيء بقدرته، الكبير الذي يصغر كل شيء سواه. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {63} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {64} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {65} وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ {66} } [الحج: 63-66] قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحج: 63] يعني المطر، {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] بالنبات، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [الحج: 63] بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض، خبير بما في قلوب العباد عند تأخر المطر. {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحج: 64] عبيدا وملكا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} [الحج: 64] عن عباده، الحميد إلى أوليائه

وأهل طاعته. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج: 65] قال ابن عباس: يريد البهائم التي تركب. {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وسخر لكم الفلك في حال جريها، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] فيما سخر لهم، وفيما حبس عنهم من السماء حتى لا تقع عليهم فيهلكوا. {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} [الحج: 66] بعد أن كنتم نطفا ميتة، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم للبعث والحساب، إن الإنسان يعني المشرك، لكفور لنعم الله حين ترك توحيده. {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ {67} وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ {68} اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {69} } [الحج: 67-69] قوله: لكل أمة لكل قرن مضى، {جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] قال ابن عباس: يريد شريعة هم عاملون بها. {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج: 67] يعني في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الذبيحة وقالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم. قال الزجاج: ومعنى القول: فلا ينازعنك أي: لا تنازعهم أنت، كما تقول: لا يخاصمنك فلان في هذا، أي لا تخاصمه، وهذا جائز فيما يكون بين اثنين، ولا يجوز: لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه، وذلك أن المخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هنالك. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج: 67] إلى الإيمان به والعمل بما شرعه، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى} [الحج: 67] دين، {مُسْتَقِيمٍ {67} وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج: 67-68] خاصموك في أمر الذبيحة، {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 68] من التكذيب، فهو يجازيكم به، وهذا قبل الأمر بالقتال. {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 69] تذهبون فيه إلى خلاف ما نذهب. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج: 70] قال ابن عباس: يريد قد علمت وأيقنت ذلك، وهذا استفهام يراد به التقرير. {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] يعني: ما يجري في السماء والأرض، كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، إن ذلك إن علمه بجميع ذلك، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] سهل لا يتعذر عليه العلم به. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ {71} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ

يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {72} } [الحج: 71-72] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج: 71] يعني: أهل مكة، {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج: 71] حجة، {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج: 71] أنها آلهة، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71] وما للمشركين من مانع من العذاب. قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الحج: 72] يعني القرآن، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72] قال مقاتل: ينكرون القرآن أن يكون من الله. والمنكر بمعنى الإنكار، والتأويل أثر الإنكار من الكراهية والعبوس، يكادون يسطون يقعون بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ، {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] أي: يكادون يبسطون إليهم أيديهم بالسوء، يقال: سطا عليه وسطا به إذ تناوله بالبطش والعنف والشدة. قل لهم يا محمد: {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} [الحج: 72] بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون، ثم ذكر ذلك، فقال: النار أي: هو النار، {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72] أي: يصيرهم إليها، وبئس المصير هي. وقوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ {73} مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {74} } [الحج: 73-74] {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] قال الأخفش: إن قيل: فأين المثل الذي ذكره الله في قوله: ضرب مثل؟ قيل: ليس ههنا مثل، والمعنى: إن الله قال: ضرب لي مثل، أي شبه بي الآوثان، ثم قال: فاستمعوا له لهذا المثل الذي جعلوه مثلا وتأويلا للآية، جعل المشركون الأصنام شركائي، فعبدوها معي، فاستمعوا حالها، ثم بين ذلك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج: 73] يعني الأصنام، وكانت ثلات مائة وستين حول الكعبة، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج: 73] في صغره ومكثه، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73] مما عليهم، قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران فيجف، فيأتي الذباب فيختلسه، فلا يقدرون أن يستردوه من الذباب ويستنقذوه منه، فذلك قوله: {لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعاما، فيقع عليه الذباب، فيأكل منه، فلا يستطيع أن يسنقذه منه. وقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: الطالب الصنم، والمطلوب الذباب. وروي عنه على العكس من هذا، وهو أن الطالب: الذي يطلب ما يسلب من الطيب على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منع السلب. وقال السدي: الطالب الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه والصنم المطلوب إليه. وهذا معنى قول الضحاك: العابد والمعبود. {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا هؤلاء الأصنام شركاء له، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} [الحج: 74] على خلقه، عزيز في ملكه. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {75} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {76} } [الحج: 75-76] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} [الحج: 75] يعني: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت. ومن الناس يريد النبيين، أخبر الله أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه فيجعلهم رسله وأنبياءه، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحج: 75] لمقالتهم، بصير بمن

يتخذه رسولا. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحج: 76] قال ابن عباس: ما قدموا. وما خلفهم ما خلفوا، وقال الحسن: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم، وما هم غافلون عنه مما لم يعلموا بعد. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] قال المفسرون: يعني صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود. 640 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مِشْرَحِ بْنِ عَاهَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلا يَقْرَأْهُمَا وقوله: واعبدوا ربكم قال مقاتل: يقول: وحدوا ربكم، يعني أن من أشرك بعبادته غيره لم يوحده. وافعلوا الخير قال ابن عباس: يريد صلة الرحم، ومكارم الأخلاق. لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة. وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] أكثر المفسرين حملوا الجهاد ههنا على جميع أعمال الطاعة، وقالوا: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى. وقال السدي: هو أن يطاع فلا يعصى. وقال مقاتل بن حيان: هو أن يجتهدوا في العمل. وقال مقاتل بن سليمان: نسختها الآية التي في التغابن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وحمله الضحاك على مجاهدة الكفار، فقال: جاهدوا بالسيف من كفر بالله وإن كانوا الآباء والأبناء. وروى عبد الله بن المبارك، أنه حمله على مجاهدة الهوى والنفس. هو اجتباكم اختاركم واصطفاكم لدينه، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ضيق، فالمعنى: ما جعل من التوبة والكفارات جعلها الله مخرجا من الذنوب، فمن أذنب ذنبا لم يبق في ضيق ذلك الذنب، وله منه مخرج، إما بالتوبة، أو القصاص، أو بنوع كفارة، أو

برد مظلمة، فلم يبتل المؤمنين بشيء من الذنوب إلا جعل له منه مخرج. وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات، كالقصر والتيمم وأكل الميتة والإفطار عند المرض والسفر. وهو قول الكلبي، واخيار الزجاج. وروي عن ابن عباس، أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد التي كانت عليهم، وضعها الله تعالى على هذه الأمة. وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] قال الأخفش، والمبرد، والفراء، والزجاج: أي: عليكم ملة أبيكم. والمعنى: اتبعوها واحفظوها، والخطاب إن كان للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، وإن كان خطابا عاما، فهو أبو المسلمين كلهم، لأن حقه عليهم كحق الوالد، وأمرنا باتباع ملته جملة لأنها داخلة في ملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] أي: الله تعالى سماكم بهذا الاسم قبل إنزال القرآن في الكتب التي أنزلت قبله. وفي هذا يعني القرآن، وقال مقاتل: من قبل. يعني: في أم الكتاب. ليكون الرسول أي: اجتباكم الله وسماكم المسلمين ليكون الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيدا عليكم يوم القيامة بالتبليغ، وتكونوا أنتم، {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] أن الرسل بلغتهم، وهذا كقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] الآية. وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78] قال مقاتل: فريضتان واجبتان افترضهما الله عليكم فأدوهما إلى الله. 641 - حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَفَاضُ الْفِرْيَابِيُّ، نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُقْبَلُ الصَّلاةُ إِلا بِالزَّكَاةِ» وقوله: واعتصموا بالله قال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يسخط ويكره. وقال الحسن: تمسكوا بدين الله. وقال مقاتل: ثقوا بالله. هو مولاكم ناصركم والذي يتولى أموركم، فنعم المولى هو لكم، ونعم النصير.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة. 642 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السِّجِسْتَانِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الأَسَدِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَشَّرَتْهُ الْمَلائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ عِنْدَ نُزُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ» {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {11} } [المؤمنون: 1-11] بسم الله الرحمن الرحيم 643 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تُنْقِصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْقَطِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ،

عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَكَأَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْقَطِيعِيِّ قال الفراء: قد ههنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال، قد يقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا ترى أنهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها. ويكون المعنى في الآية أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال. قال ابن عباس: قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة. {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] ساكتون متواضعون، قال ابن عباس: خشع من خوف الله، فلا يعرف من على يمينه ولا من على يساره. وقال أبو هريرة: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى، رفع بصره إلى السماء، فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فطأطأ رأسه ". {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: عن الشرك بالله. وهو قول الضحاك، وقال الحسن: عن المعاصي. قال الزجاج: هو كل باطل ولهو، وهزل ومعصية، وما لا يحمد من القول والفعل. {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] أي: مؤدون، فعبر عن التأدية بالفعل لأنه فعل. قال ابن عباس: للصدقة الواجبة مؤدون. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] قال الليث: الفرج اسم يجمع سوءات الرجال والنساء، فالقبلات وما حواليهما كله فرج. والمراد بالفروج ههنا فروج الرجال خاصة، قال الكلبي: يعني يعفون عما لا يحل لهم. {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] على ههنا بمعنى من في قول الفراء. وقال الزجاج: المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه إلا على أزواجهم. ودل على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية، قال مجاهد: يحفظ فرجه إلا من امرأته أو من أمته، فإنه لا يلام على ذلك. {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] أي: طلب سوى الأزواج والإماء المملوكة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل. {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون: 8] وقرأ ابن كثير لأمانتهم واحدة، وذلك أنه مصدر واسم جنس فيقع على الكثير، وإن كان مفردا في اللفظ، والأمانة تختلف نحو الأمانة التي بين العبيد في حقوقهم كالودائع والبضائع، وما تكون اليد فيه يد أمانة، وتكون الأمانة التي بين الله وبين عباده كالصيام والاغتسال والصلاة، ويجب على المؤمن الوفاء بجميع ضروب الأمانات، وقوله: {وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] قال ابن عباس: إذا عاهد رجلا وفي له. ومعنى راعون: حافظون. {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} [المؤمنون: 9] وقرئ صلاتهم ومن أفراد فلأن الصلاة في الأصل مصدر، ومن جمع فلأنه قد صار اسما شرعيا لانضمام ما لم يكن في أصل اللغة إليها، ومعنى الآية: والذين هم يحافظون على الصلوات المكتوبة، فيقيمونها في أوقاتها.

أولئك يعني: الموصوفين بهذه الصفات، هم الوارثون يرثون منازل أهل النار من الجنة. 644 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَاهَانَ الْبشترِيُّ، بِهَا، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ نَصْرٍ الْفَرَائِضِيُّ، نا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا لَهُ مَنْزِلانِ؛ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُورَثُونَ فقال: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] قال ابن عباس: يريد خير الجنان. وقال مجاهد: من حفظ عمل العشرة من سورة المؤمنين ورث الفردوس. 645 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلَقَ اللَّهُ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ؛ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي، لا يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلا دَيُّوثٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا مُدْمِنَ الْخَمْرِ، فَمَا الدَّيُّوثُ؟ قَالَ: الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ لأَهْلِهِ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ {15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ {16} } [المؤمنون: 12-16] قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] السلالة ما يسل من الشيء، أي ينزع ويستخرج، يقال للنطفة سلالة، وللولد سليل، قال ابن عباس في رواية ابن يحيى الأعرج: السلالة صفو الماء. وقال مجاهد: مني بني آدم. وقال عكرمة: هو الماء يسل من الظهر سلا. والمراد بالإنسان ولد آدم، وهو اسم الجنس يقع على الجميع، وقوله: {مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني طين آدم، والسلالة إنما تولدت من طين خلق آدم، كما قال الكلبي: يقول من نطفة سلت سلا، النطفة من طين، والطين آدم. ثم جعلناه يعني: ابن آدم الذي هو الإنسان، {نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] يعني: الرحم، مكن فيه الماء بأن هيئ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] مفسر في { [الحج إلى قوله:] فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [سورة المؤمنون: 14] وقرئ كلاهما عظما على الواحد، قال الزجاج: التوحيد والجمع جائزان، والواحد يدل على الجمع كما قال الشاعر: في خلقكم عظم وقد شجينا

يريد في خلوقهم عظام. وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال ابن عباس: يعني الروح فيه. وذلك أنه كان عظما ولحما مواتا، فلما جعل فيه الروح صار خلقا آخر، وهو قول السدي، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، والأكثرين. وعن مجاهد أيضا، قال: هو أن يستوي شبابه. وهو قول الضحاك، وقال قتادة: يعني نبات الشعر والأسنان. وقال الحسن: يعني ذكر وأنثى. وقوله: فتبارك الله أي: استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال أحسن الخالقين المصورين والمقدرين، والخلق في اللغة: التقدير، يقال: خلقت الأديم إذا قسته لتصنع منه شيئا. وقال حذيفة في هذه الآية: يصنعون ويصنع، والله خير الصانعين. يقال: رجل خالق، أي صانع. {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 15] بعد ما ذكر من تمام الخلق، لميتون عند آجالكم، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] للجزاء والحساب. قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] قالوا كلهم: يعني سبع سموات كل سماء طريقة، سميت لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] إذ بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب، وأنزلنا منها عليهم الماء. وهو قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ

فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ {18} فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {19} وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ {20} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {21} وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ {22} } [المؤمنون: 18-22] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] أي: بقدر يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة. {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 18] يريد ما يبقى في الغدران والمسنقعات والدحلان، أقر الله الماء فيها لينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. 646 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ النَّقِيبُ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَزَّارُ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا سَعِيدُ بْنُ سَابِقٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ، نا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ؛ سِيحُونُ وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وَجِيحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ، وَدِجْلَةُ، وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، اسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؛ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ كُلَّهُ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ وَمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، وَيَرْفَعُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مِنَ الأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، بِالإِجَازَةِ، أنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: وَجَدْتُ فِيمَا أَجَازَ لِي عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أنا سَعِيدُ بْنُ سَابِقٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ، تَعَالَى، مَا أَنْبَتَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {19} وَشَجَرَةً} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ وَالْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ؛ يَعْنِي: شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ؛ لأَنَّهُ لا يَتَعَاهَدُهَا أَحَدٌ بِالسَّقْيِ وَهِيَ تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الدُّهْنُ الَّذِي تَعْظُمُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ فَذُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِيهَا وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قرئ بفتح السين وكسرها، وهي نبطية في قول الضحاك، وحبشية في قول عكرمة، وهي اسم المكان الذي به هذا الجبل في أصح الأقوال، وسيناء في قول مجاهد: اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وقال الكلبي: طور سيناء الجبل المشجر. وقال عطاء: يريد الجبل الحسن. وقوله: تنبت بالدهن أي: تنبته لأنه يعصر من الزيتون الزيت، والباء في بالدهن للتعدي، يقال: أنبته ونبت به. ومن قرأ تنبت بضم التاء، فإن جعلت أنبت بمعنى كقول زهير: حتى إذا أنبت البقل فهذه القراءة كالأول سواء , وإن جعلت تنبت من الإنبات الذي هو مضارع أنبت , فالباء في بالدهن زيادة كزيادتها

في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] . وقوله: وصبغ للآكلين الصبغ والصباغ ما يصطبغ به من الأدم , وذلك أن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه , والاصطباغ بالزيت المغمس فيه للأئتدام به , والمراد بالصبغ بالزيت في قول ابن عباس: فإنه يدهن به ويؤتدم. وقال مقاتل: جعل الله في هذه الشجرة أدما ودهنا , فالأدم الزيتون , والدهن الزيت. قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون: 21] مفسرة في { [النحل إلى قوله:] وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [سورة المؤمنون: 21] يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] من لحومها وأولادها والكسب عليها. {وَعَلَيْهَا} [المؤمنون: 22] يريد الإبل خاصة , {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] قال الكلبي: ما في البحر فالسفن , وما في البر فالإبل. وهذا كقوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] . {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {23} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {24} إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ {25} } [المؤمنون: 23-25] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [المؤمنون: 23] قال ابن عباس: يعزي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن غير أمته قد كذبوا الأنبياء وجحدوا البعث. {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المؤمنون: 23] أطيعوه ووحدوه , {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] ما غيره رب , {أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] أفلا تتقونه بالطاعة والتوحيد. {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24] يعني: الأشراف , والرؤساء , وذوي الأمر منهم , {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] أي أنه آدمي لا فضل له عليكم , {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] يتشرف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعا وأنتم له تبع , {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} [المؤمنون: 24] أن لا يعبد شيء سواه , {لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون: 24] ولم يرسل بشرا آدميا , {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [المؤمنون: 24] الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد , {فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] في الأمم الماضية. {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 25] حالة جنون , {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] انتظروا موته فتستريحوا منه. {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ {26} فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ {27} فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {28} وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ {29} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ {30} } [المؤمنون: 26-30] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] بتكذيبهم , والمعنى: انصرني بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم. فأوحينا إليه مفسر في { [هود إلى قوله:] فَاسْلُكْ فِيهَا} [سورة المؤمنون: 27] أي: أدخل في سفينتك. {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا} [المؤمنون: 29] يجوز أن يكون المنزل بمعنى الإنزال، والمعنى إنزالا , {مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] قال مقاتل: يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا. ويجوز أن يكون المنزل موضعا للإنزال , كأنه قيل: أنزلني مكانا أو موضعا، وهو قول الكلبي: منزلا

مباركا بالماء والشجر. وقرأ عاصم منزلا بفتح الميم وكسر الزاي , يعني: موضع نزول , قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله , وعند نزوله: أنزلني منزلا مباركا. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29] قل ابن عباس: يريد من السفينة. ولذلك قيل له: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} [هود: 48] وهذا جواب دعائه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [المؤمنون: 30] يعني: في أمر نوح والسفينة وهلاك أعداء الله , {لآيَاتٍ} [المؤمنون: 30] لدلالات على قدرة الله ووحدانيته , {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30] وما كنا إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح , ووعظه وتذكيره. وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {31} فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {32} وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ {33} وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ {34} أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ {35} هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ {36} إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ {37} إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ {38} قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ {39} قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ {40} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {41} ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ {42} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ {43} } [المؤمنون: 31-43] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] يعني: عادا قوم هود , {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [المؤمنون: 32] هودا , وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَيَعِدُكُمْ} [المؤمنون: 35] ، {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] قال الزجاج: أنكم موضعها نصب على معنى أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم , فلما طال الكلام أعيد ذكرانه , كما قال عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] المعنى: فله نار جهنم. {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] بعد الأمر جدا حتى امتنع , وهو اسم سمي به الفعل , وهو بعد كما قالوا: صه بمعنى اسكت , ومه بمعنى لا تفعل وليس له اشتقاق , وفيه ضمير يقع عائد إلى قوله: إنكم مخرجون الذي هو بمعنى الإخراج، والتقدير هيهات هو , أي الإخراج، والمعنى: بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون وهو بعد الموت , استبعد أعداء الله إخراجهم ونشرهم لما كانت العدة به بعد الموت إغفالا منهم للتفكير في قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] قال ابن عباس في هذه الآية: ينفون أن ذلك لا يكون. وقال الكلبي: يقولون: بعيد بعيد ما وعدكم ليوم البعث. قال أبو عمرو بن العلاء: إذا وقفت فقل هيهاه. يدل على هذا ما

روي عن سيبويه , أنه قال: هي بمنزلة علقاه. يعني في التأنيث , وإذا كان كذلك كان الوقف بالهاء , قال الفراء: كان الكسائي يختار الوقف بالهاء , وأنا أختار التاء وعنده أن هذه التاء ليست بتاء التأنيث. قوله: {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] قالوا: ما الحياة إلا ما نحن فيه , لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث , {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] نهلك نحن ويبقى أبناؤنا , ويهلك أبناؤنا ويبقى أبناؤهم. {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38] ما هو إلا مفتر كاذب على الله في ذكر البعث و {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 38] بمصدقين فيما يقول. {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39] تقدم تفسيره , قَالَ الله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] من الزمان والوقت , يعني: عند الموت , أو عند نزول العذاب بهم , {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] على الكفر والتكذيب. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41] صاح بهم جبريل صيحة واحدة ماتوا عن آخرهم بتصدع قلوبهم , وقوله: بِالْحَقِّ أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم , {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} [المؤمنون: 41] وهو ما جاء به السيل من نبات قد يبس وكل ما تحمله السيل على رأس الماء من قصب وحشيش وعيدان شجر فهو غثاء، والمعنى: صيرناهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء من نبات الأرض فهمدوا , {فَبُعْدًا} [المؤمنون: 41] أي: ألزمهم الله بعدا من الرحمة , {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] المكذبين المشركين , وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون: 44] أي: بعضها في إثر بعض غير متصلين , لأن بين كل نبيين دهرا طويلا , وهي فعلى من المواترة، قال الأصمعي: يقال: واترت الخبر , أتبعت بعضه بعضا , وبين الخبرين هنيهة , وهي كالدعوى والتقوى , وأكثر العرب على ترك تنوينها. وقرأ ابن كثير تترا منونة , وتترا على هذه القراءة فعلا والألف فيها كالألف في رأيت زيدا وعمرا , فإذا وقفت كانت الألف بدلا من التنوين وحقها أن تفخم ولا تمال، قال المبرد: من قرأ {تَتْرَا} [المؤمنون: 44] فهو مثل شكوى , ومن قرأ تترى مثل شكوت شكوى , وعلى القراءتين جميعا التاء الأولى بدل من الواو , وتترا مصدرا، واسم قام مقام الحال لأن المعنى متواترة، وقوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} [المؤمنون: 44] أهلكنا الأمم بعضهم في أثر بعض، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44] لمن بعدهم من الناس، يتحدثون بأمرهم وشأنهم. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {45} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ {46} فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ {47} فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ {48} وَلَقَدْ

آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {49} } [المؤمنون: 45-49] وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} [المؤمنون: 45] يعني: الدلائل التي كانت لهما، {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون: 45] وحجة بينة، يعني اليد والعصا. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} [المؤمنون: 46] قال ابن عباس: عن عبادة الله تعالى. وقال مقاتل: تكبروا عن الإيمان بالله. {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46] قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم، وهو معنى قول ابن عباس: علوا على بني إسرائيل علوا كبيرا. وقال مقاتل: يعني متكبرين عن توحيد الله. يدل عليه قوله تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] أنصدق إنسانين من لحم ودم ليس لهما علينا فضل؟ {وَقَوْمُهُمَا} [المؤمنون: 47] يعني: بني إسرائيل، {لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] قال ابن عباس: مطيعون. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابد له. وقال المبرد: العابد المطيع الخاضع. {فَكَذَّبُوهُمَا} [المؤمنون: 48] يعني: موسى وهارون، {فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48] بتكذيبهما. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [المؤمنون: 49] التوراة جملة واحدة، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49] لكي يهتدوا به من الضلالة، قال مقاتل: يعني بني إسرائيل، لأن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون وقومه. قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] هذا كقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] وقد تقدم، وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَا} [المؤمنون: 50] أي: وجعلناهما يأويان ويرجعان، {إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] وهي المكان المرتفع من الأرض، قال ابن عباس: يريد دمشق. وهو قول سعيد بن المسيب، ومقاتل، ورواية عكرمة، عن ابن عباس. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بيت المقدس. وهو قول قتادة، وكعب، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال السدي: إنها أرض فلسطين. وهو قول أبي هريرة، وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} [المؤمنون: 50] أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قرار، {وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يعني: الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون. {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {53} فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ {54} أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ {55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ {56} } [المؤمنون: 51-56] قوله: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون: 51] قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والكلبي، ومقاتل: يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعا كذي أمروا. قوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] قال ابن عباس: من الحلال. وقال الضحاك: أمرهم ألا يأكلوا إلا حلالا طيبا. وقال الحسن: أما والله ما عنى به أصفركم ولا

أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكنه قال انتهوا إلى الحلال منه. {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] أي: بما أمركم الله به، وأطيعوه في أمره ونهيه، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] لا يخفى علي شيء من أعمالكم. {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون: 52] إن في قراءة من قرأ بفتح الألف معطوفة على الجار في قول الخليل وسيبويه: التقدير ولأن هذه أمتكم. {أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] أي: اتقون لهذا، ومن قرأ بالتخفيف فإن هي المخففة من المشددة، كقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ومن كسر مع التشديد فهو على الاستئناف، ومعنى الآية قال مقاتل: يقول: هذه التي أنتم عليها ملة الإسلام، ملة واحدة عليها الأنبياء والمؤمنون الذين نجوا من العذاب. والمعنى: أنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة، فلا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا. وهو قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 53] والكلام في الاثنين قد تقدم، وقوله: {زُبُرًا} [المؤمنون: 53] قال المبرد: فرقا وقطعا مختلفة. واحدها زبور، هو الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر. قال الكلبي: يعني مشركي العرب واليهود والنصارى، تفرقوا أحزابا. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] بما عندهم من الدين راضون، يرون أنهم على الحق، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [المؤمنون: 54] في حيرتهم وغفلتهم، وضلالتهم وجهالتهم، قال مقاتل: يعني كفار مكة. وقوله: {حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] قال ابن عباس: يريد نزول العذاب بالسيف أو بالموت. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] أي: أيحسبون أن ما يعطيهم الله في هذه الدنيا من الأموال والبنين، إنما يعطيهم ثوابا ومجازاة لهم، لا بل هو استدراج لهم من الله، وهو معنى قوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 56] ومعنى نسارع نسرع، أي أيحسبون: أنا نتعجل في تقديم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم حين بسطنا لهم الرزق وأكثرنا أولادهم، {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] لا يعلمون أن ذلك شر لهم. ثم ذكر المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {61} } [المؤمنون: 57-61] {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] الإشفاق الخوف، تقول: أنا مشفق من هذا الأمر، أي خائف. والمعنى أنهم لما هم عليه من خشية الله خائفون من عذابه. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 58] قال ابن عباس: يصدقون بالقرآن أنه من

عند الله. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] لا يعبدون معه غيره. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] أي: يتصدقون ويعملون الأعمال الصالحة، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] خائفة أن لا يقبل منهم، قال مجاهد: المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل. وقال الحسن: المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وأمنا. وإيتاء المال في هذه الآية عبارة عن الأعمال الصالحة، إذ هو الأفضل والأشق على النفس. 647 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. . . . .} الآيَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، الَّذِينَ يَصُومُونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَفْرَقُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق، أنا أبو بكر القطيعي، نا إدريس بن عبد الكريم المقري، نا عاصم بن علي، نا أبو الأشهب العطاري، عن الحسن في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] قال: كان ما عملوا من أعمال البر يرون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله. قال الزجاج: قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون. قال صاحب النظم: فالوجل واقع على مضمر. وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ} [المؤمنون: 60] سبب له، على تأويل وقلوبهم وجلة لا يقبل منهم لعلمهم أنهم إلى ربهم، {رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] أي: لأنهم يوقنون بأنهم يرجعون إلى الله، يخافون أن لا يقبل منهم. قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] يبادرون في الأعمال الصالحة، {وَهُمْ لَهَا} [المؤمنون: 61] أي إليها، {سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] قاله الفراء، والزجاج. وقال ابن عباس: ينافسون فيه أمثالهم من أهل البر والتقوى. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {62} بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ {63} حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ {64} لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ {65} قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ {66} مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ {67} } [المؤمنون: 62-67] قوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62] أي: إلا طاقتها من العمل، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فيصلي جالسا، وقد سبق هذا في آخر { [البقرة، ولدينا كتاب يريد اللوح المحفوظ، وفيه مكتوب كل شيء سبق في علم الله، ينطق بالحق يبين بالصدق، ومعنى ال:: لا نكلف نفسا إلا ما أطاقت من العمل، وتعلم أين تعمل، لأنا قد اثبتنا عمله في اللوح المحفوظ، فهو ينطق به ويبينه،] وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] أي: لا ينقصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إلى ذكر الكفار، فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 63] في غفلة وجهالة، {مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] القرآن، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} [المؤمنون: 63] خبيثة، {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [المؤمنون: 63]

أعمال المؤمنين التي ذكرها الله، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] إجماع المفسرين، وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم، لابد لهم أن يعملوها، {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} [المؤمنون: 64] أغنياءهم ورؤساهم، {بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 64] بالسيوف يوم بدر، {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64] يصيحون إلى الله، ويصيحون ويقال لهم: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65] لا تمنعون منا، نزلت في الذين قتلوا ببدر، ثم ذكر أن إعراضهم عن القرآن أوجب أخذهم بالعذاب بقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 66] يعني القرآن، {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] تتأخرون عن الإيمان به، {مُسْتَكْبِرِينَ} [المؤمنون: 67] الكناية تعود إلى البيت، أو الحرم، أو البلد مكة في قول الجميع، وهو كناية عن غير مذكور، والمعنى: مستكبرين بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقوله: {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] السامر الجماعة يسمرون بالليل، أي يتحدثون، {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] يجوز أن يكون من الهجران، وهو قول الحسن، ومقاتل، واختيار المفضل، والمعنى: تهجرون القرآن وترفضونه فلا تلتفتون إليه ولا تنقادون له، كما قال: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] ويجوز أن يكون من الهجر، وهو قول القبيح، يقال: هجر يهجر هجرا إذا قال غير الحق. وهو قول السدي، والكلبي، ومجاهد، وقتادة. وكانوا إذا خلوا حول البيت، سبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، وقالوا فيهما السوء، ويقال في هذا المعنى أيضا: أهجر إهجارا إذا أفحش في منطقه، وهو قراءة ابن عباس، ومجاهد. قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ {68} أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {69} أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {70} وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ {71} أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {72} وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {73} وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ {74} وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {75} } [المؤمنون: 68-75] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] أفلم يتدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] قال ابن عباس: يريد أليس قد أرسلنا نوحا وإبراهيم والنبيين إلى قومهم، فكذلك بعثنا محمدا إلى قومه. {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 69] قال ابن عباس: أليس هو محمد بن عبد الله، يعرفونه صغيرا وكبيرا، صادق اللسان، يفي بالعهد؟ وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعدما عرفوا صدقه وأمانته. {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 70] قال ابن عباس: يريدون به جنون ترونه به. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] بالتنزيل الذي هو الحق، يعني القرآن. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {70} وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ

أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 70-71] قال أبو صالح، وابن جريج، ومقاتل، والسدي: الحق هو الله. والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا {لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71] أي: ومن فيهن، وقال الزجاج، والفراء: ويجوز أن يكون المراد بالحق القرآن. أي: لو نزل بما تحبون من جعل شريك، وإثبات آلهة لفسدت السموات والأرض ومن فيهن كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون: 71] أي: بما فيه فخرجهم وشرفهم، قال ابن عباس: هو كقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] . {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] قال: يريد تولوا عما جاء به من شرف الدنيا والآخرة. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} [المؤمنون: 72] على ما جئتهم به من الإيمان والقرآن، {خَرْجًا} [المؤمنون: 72] أجرا ومالا يعطونك، {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] فما يعطيك الله من أجره وثوابه ورزقه خير لك، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون: 72] أفضل من أعطى وآجر. {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73] وهو دين الإسلام. {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [المؤمنون: 74] بالبعث والثواب والعقاب، {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] عن الدين مائلون عادلون، يقال: نكب فلان عن الطريق تنكب نكوبا إذا عدل عنه. {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} [المؤمنون: 75] يعني: الجوع الذي أصابهم بمكة سبع سنين، {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75] لتمادوا في ضلالتهم يترددون. {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ {76} حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {77} وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {78} وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {79} وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {80} بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ {81} قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {82} لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {83} } [المؤمنون: 76-83] {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 76] يعني الجوع، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} [المؤمنون: 76] ما توضعوا ولا انقادوا، {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وما يرغبون إلى الله في الدعاء. {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} [المؤمنون: 77] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يعني يوم بدر. وهو قول مجاهد، واختيار الزجاج. وقال في رواية عطاء: يريد الموت. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77] آيسون من كل خير.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} [المؤمنون: 78] خلق لكم، {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] قال مقاتل: يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم ويوحدونه. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80] يحيي الولد في الرحم فيولد حيا، ثم يميته، {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون: 80] قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين، يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80] ما ترون من صنعه فتعتبرون. {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} [المؤمنون: 81] قال الكلبي: كذبت قريش بالبعث مثل ما كذب الأولون. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {90} } [المؤمنون: 84-90] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [المؤمنون: 84] من الخلق، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] خالقها ومالكها. سيقولون الله أي: يقرون بأنها مخلوقة له، {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] تتفكرون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها قادر على إحياء الموتى. قوله: قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله وقرئ لله وكذلك ما بعده، فمن قرأ الله فعلى ما يقتضيه اللفظ من جواب السائل، لأنك إذا قلت: من رب السموات؟ فالجواب: الله، ومن قرأ لله فعلى المعنى، لأن معنى من رب السموات، لمن السموات؟ فيقال: لله. كما يقال: من مالك هذه الدار؟ فيقال: لزيد. لأن معناه: لمن هذه الدار، فإذا قالوا ذلك، و {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87] عبادة غيره. قُلْ لهم يا محمد: {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] الملكوت الملك، والتاء زيادة للمبالغة، نحو جبروت ورهبوت، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] يقال: أجرت فلانا إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه. والمعنى أنه يمنع من السوء من يشاء، ولا يمنع منه من أراد بسوء، وقوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] قال الفراء، والزجاج: تصرفون عن الحق، وتخدعون. والمعنى: يخيل لهم الحق باطلا، والصحيح فاسدا. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 90] بالتوحيد والقرآن، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون: 90] فيما يضيفون إلى الله عن الولد والشريك. ثم نفاهما عن نفسه، فقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {92} } [المؤمنون: 91-92] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] لاعتزل وانفرد بخلقه، فلا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق، {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] طلب

بعضهم مغالبة بعض، وهذا معنى قول المفسرين: لقاتل بعضهم بعضا كما يفعل الملوك في الدنيا. ثم نزه نفسه عما وصفوه به، فقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [المؤمنون: 91-92] بالجر من نعت الله، والرفع على خبر ابتداء محذوف، يعني: هو عالم. {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ {93} رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {94} وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ {95} ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ {96} وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ {97} وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ {98} } [المؤمنون: 93-98] {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 93] إن أريتني ما يوعدون من العذاب والنقمة، يعني القتل ببدر. {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 94] أي: مع القوم الظالمين، قال الكلبي: مع الفئة الباغية. قال الزجاج: أي إن أنزلت بهم النقمة، يا رب، فاجعلني خارجا عنهم. ثم أخبر أنه قادر على ذلك بقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 95] . ثم أمره بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96] يعني بالأحسن، الإعراض والصفح، والسيئة أذى المشركين إياه، وهذا قبل الأمر بالقتال، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] بما يكذبون ويقولون من الشرك، أي: إنا نجازيهم بما يستحقون. ثم أمره أن يتعوذ من الشيطان ليسلم في دينه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} [المؤمنون: 97] أمتنع وأعتصم بك، {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] معنى الهمز في اللغة: الدفع، وهمزات الشياطين: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، وهو معنى قول المفسرين: نزعاتهم ووساوسهم، وذلك أن الشيطان إنما يدفع الناس إلى المعاصي بما يوسوس إليهم. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] في أموري، أي أن يصيبوني بالسوء لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا بسوء. ثم أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {100} } [المؤمنون: 99-100] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] أي: إلى الدنيا ردوني إليها، وإنما قال: ارجعوني، كما يقال للجماعة، لأن الله عز وجل يخبر عن نفسه بما يخبر به عن الجماعة في نحو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43] وأمثاله، فكذلك جاء الخطاب في ارجعون في مقابلته، قوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا

تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100] قال ابن عباس: أشهد أن لا إله إلا الله. وقال قتادة: أما والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكنه تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر فاعملوا فيها، وقوله: {فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100] قال ابن عباس: فيما مضى من عمري. قال الله: كلا لا يرجع إلى الدنيا، إِنَّهَا إن مسألة الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] كلام يقوله ولا فائدة له في ذلك، وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] يعني أمامهم وبين أيديهم، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، وهو ههنا ما بين الموت والبعث، قال مجاهد: حاجز حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وهم فيه، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ {101} فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {102} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ {104} } [المؤمنون: 101-104] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [المؤمنون: 101] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هي النفخة الأولى. وقال في رواية عطاء: هي النفخة الثانية. {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101] قال: يريد لا تفاخر بينهم كما كانوا يتفاخرون في الدنيا. ولا يتساءلون كما يتساءل العرب في الدنيا: من أي قبيلة أنت؟ ولا بد من تقدير محذوف في الآية على تأويل فلا أنساب بينهم يؤمئذ يتفاخرون بها، أو يتعاطفون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرتفع التواصل والتفاخر والتساؤل، وهذه الآية لا تنافي قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] لأن للقيامة أحوال ومواطن منها ما يشغلهم عظم الأمر عن المسألة، ومنها حال يفيقون فيها، فيتساءلون، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية المنهال، عن عمرو: ولما سئل عن الاثنين فقال: هذه ثارات يوم القيامة. قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102] وهذه الآية والتي بعدها تقدم تفسيره. قوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104] اللفح: الإحراق، يقال: لفحته النار والسموم إذا أحرقته، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] الكلوح: بدو الأسنان عند العبوس، وقال الزجاج: الكالح الذي قد تشمرت شفتاه عن أسنانه، نحو ما ترى رءوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه. قال ابن مسعود: ككلوح الرأس النضيج. 648 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نظيرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ، قَالَ: تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّتَهُ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي الْمُوَجِّهِ، عَنْ عَبْدَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ويقال: {

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {105} قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {107} } [المؤمنون: 105-107] {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [المؤمنون: 105] يعني القرآن، {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 105] تخوفون بها، {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] في الدنيا. {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] وقرئ شقاوتنا ومعناهما واحد وهما مصدران، قال مجاهد، ومقاتل: غلبت علينا شقاوتنا التي كتبت علينا في الدنيا فلم نهتد. وهو قوله: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 106-107] من النار، قال ابن عباس: سألوا الرجعة. {فَإِنْ عُدْنَا} [المؤمنون: 107] إلى الكفر والتكذيب، {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] . قال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ {110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ {111} } [المؤمنون: 108-111] {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] قال المبرد: الخسأ: إبعاد بمكروه. وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، وأبعدوا بعد الكلب. {وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] في رفع العذاب عنكم. 649 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ، أنا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا أَبُو بَكْرٍ الأَزْهَرِيُّ، نا رَوْحٌ، نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا أَرْبَعِينَ عَامًا فَلا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، فَيَدُعُهُمْ مِثْلَ عُمْرِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْهِمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فِيمَا يُمْسِي الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ إِلا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَدُعَاؤُهُمْ، وَأَقْبَل بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} [المؤمنون: 109] قال ابن عباس: يريد المهاجرين. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110] وقرئ بكسر السين ههنا وفي { [ص واتفقوا على الضم في سورة الزخرف يقال: سخر منه وسخر به سخرية وسخريا إذا هزئ، ومن السخرة التي هي بمعنى العبودية، يقال: اتخذت فلانا سخريا بالضم لا غيره، ومن اتفقوا على الضم في الأخرى لأنه من السخرة. قال أبو عبيدة: سخريا يسخرون منهم، وسخريا يسخرونهم. وقال يونس: سخريا من السخرة مضموم، ومن الهزء سخري

وسخري. وعلى القراءتين جميعا هو مصدر وصف به، ولذلك أفرد ابن عباس: يريد تستهزئون بهم. وقال مقاتل: إن كفار قريش كانوا يستهزئون من عمار وبلال وخباب وصهيب وسلمان وسالم. وقوله:] حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} [سورة المؤمنون: 110] أي: نسيتم ذكري لاشتغالكم بالسخرية منهم وبالضحك منهم، فنسب الإنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه لما كانوا السبب، كقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] لما كانت سببا في الإضلال، نسب الإضلال إليها معنى قول المفسرين ترككم الاستهزاء لا تؤمنون بالقرآن. {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111] على أذاكم واستهزائكم، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] في موضع المفعول الثاني لجزيت، والمعنى: جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز، ومن كسر استأنف وأخبر، فقال: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] أي: الذين قالوا ما أرادوا. قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ {112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ {113} قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {114} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ {116} } [المؤمنون: 112-116] {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 112] قال الله تعالى للكفار يوم البعث: كم لبثتم في الأرض. يعني الدنيا وفي القبور، {عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112] وقرئ قل أي: قل أيها الكافر المسئول عن قدر لبثه كم لبثتم. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 113] قال ابن عباس: أنساهم الله قدر لبثهم، فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم، لعظيم ما هم بصدده من العذاب، بسوء ذلك، قوله: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] يعني الملائكة. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ} [المؤمنون: 114] أي: قال الله تعالى: ما لبثتم في الأرض إلا قليلا، لأن مكثهم في القبور، وإن طال، فإنه متناه قليل عند طول مكثهم في عذاب جهنم، لأنه خلود ولا يتناهى. وقوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] أي: قدر لبثكم في الدنيا. قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] العبث في اللغة اللعب، يقال: عبث عبثا فهو عابث، لاعب بما لا يعنيه، ومعناه للعبث. قال ابن عباس: يريد كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها. مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أن يهمل كما تهمل البهائم، والمعنى: أفحسبتم أنكم خلقتم للعبث فتعبثوا ولا تعملوا بطاعة الله، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] في الآخرة للجزاء. {فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون: 116] عما يصفه به الجهال من الشريك والولد، {الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116]

لأنه ملك غير مملك، وكل ملك غيره فملكه مستعار، لأنه يملك ما ملكه الله، ثم وحد نفسه، فقال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] السرير الحسن، والكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن. ثم أوعد من أشرك به، فقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {117} وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {118} } [المؤمنون: 117-118] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] أي: إلها لم ينزل بعبادته كتاب، ولا بعث بها رسول، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] أي أن حساب عمله عند الله، فهو يجازيه بما يستحق، كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] . {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] لا يسعد من كذب وجحد. ثم أمر رسوله أن يستغفر للمؤمنين، فقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118] أي: أفضل رحمة من الذين يرحمون.

سورة النور

سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون. 650 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ مُلازِمُ الْجَامِعِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ» 651 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ، نا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرُفَ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ؛ يَعْنِي النِّسَاءَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَافِظِ، عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ فِي (تَفْسِيرِهِ) ، عَنِ ابْنِ فَنْجُوَيْهِ الدِّينَوَرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَدِّ بْنِ أَحْمَدَ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ تَوْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ الشَّامِيِّ، فَكَأَنِّي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْخُهُ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {1} الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {2} } [النور: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1] قال الزجاج: هذه { [أنزلناها، ورفعها بالابتداء قبيح لأنها نكرة، وأنزلناها صفة لها. ] وَفَرَضْنَاهَا} [سورة النور: 1] أي: فرضنا فرائضها، أي: الفرائض المذكورة فيها، فحذف المضاف، وحجة التخفيف قوله: {إِنَّ الَّذِي

فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} [القصص: 85] . والتشديد في فرضناها لكثرة ما فيها من الفرائض المذكورة في القرآن، وقال مجاهد: يعني الأمر بالحلال والنهي عن الحرام. وهذا يعود إلى معنى أوحيناها. قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] معنى الجلد ضرب، الجلد يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل رأسه وبطنه إذا ضرب رأسه وبطنه، ومعنى الآية: الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين بكرين فاجلدوهما مائة جلدة هذا يجب بنص الكتاب، ويجب بالسنة تغريب. 652 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، نا قُتَيْبَةُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالا: أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ اللَهَ إِلا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ فَسَأَلْتُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدِ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا إِنِ اعْتَرَفَتْ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُجِمَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ كِلاهُمَا، عَنْ قُتَيْبَةَ وقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] يقال: رأف رأفة ورآفة، مثل النشأة والنشاءة. وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة، ولعلها لغة، والمعنى: لا تأخذكم الرأفة بهما فتعطلوا الحدود، ولا تقيموها رحمة عليهما وشفقة بهما، وهذا قول عطاء، ومجاهد. وقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، قالوا: يوجع الزاني ضربا ولا يخفف رأفة. وقوله: {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] قال ابن عباس: في حكم الله، كقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في حكمه. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النور: 2] وبالبعث، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] قال مقاتل: إن كنتم تصدقون بتوحيد الله وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فلا تعطلوا الحدود. وهذا يقوي القول الأول، لأن هذا كالوعيد في ترك الحدود، {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور: 2] وليحضر ضربهما، {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] نفر من المسلمين، يكون ذلك نكالا لهما، وقال الحسن: أمر أن يعلن ذلك.

{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] قال أكثر المفسرين: كانت بالمدينة نساء بغايا لهن علامات كعلامات البياطرة، وكن مخاصيب الرجال، فلما قدم المهاجرون المدينة لم يكن لهن مساكن ولا عشائر، فأرادوا أن يتزوجوا بهن لينفقن عليهم، فنهوا عن ذلك، ونزلت هذه الآية {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] أن يتزوجوا تلك البغايا المعلنات، وذكر أن من فعل ذلك وتزوج بواحدة منهن فهو زان، فالتحريم كان خاصة على أولئك دون الناس، ومذهب سعيد بن جبير أن هذه الآية منسوخة نسخها قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] قال أبو عبيد: مذهب مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة. ومذهب سعيد أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة، فإن تزوج امرأة تبين منها الفجور، لم يكن ذلك تحريما بينهما ولا طلاقا، ولكنه يؤمر بطلاقها، ويخاف عليها الإثم في إمساكها، لأن الله تعالى إنما اشترط على المؤمنين نكاح المحصنات، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] فأما حديث الاستمتاع الذي قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن امرأته لا تمنع يد لامس، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاستمتاع بها وإمساكها، فهذ خلاف الكتاب والسنة، لأن الله تعالى إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة ثم أنزل في القاذف لامرأته آيه اللعان، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التفريق بينهما، فلا يجتمعان أبدًا فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها، وفي حكمه أن يلاعن بينهما ولا يقر قاذفا على حاله، والحديث ليس يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما عبرته هارون بن رياب، عن عبد الله بن عيد، وعبرته عبد الكريم الجزري، عن ابن الزبير، وكلاهما يرسله، فإن ثبت، فإن تأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرف، وضعف الرأي، وتضييع ماله، فهي تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، وهذا أشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجرى بحديثه هذا كله كلام أبي عبيد. وقوله: {

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} } [النور: 4-5] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] أي: يرمونهن بالزنا، والإحصان المشروط في المقذوفة حتى يجب الحد على القاذف خمسة أوصاف: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعفة عن الزنا. وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] أي: على ما رموهن به من الزنا، {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك، {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] يعني: الذين يرمون بالزنا، {ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] المحدود في القذف لا تقبل شهادته، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] العاصون في مقالتهم. ثم استثنى، فقال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 5] يذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الاستثناء يعود إلى الفسق فقط، وأما الشهادة فلا تقبل أبدا، وهذا قول شريح، وإبراهيم، وإسحاق، وقتادة، واختيار أهل العراق، وقالوا: قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا، وإنما نسخت توبة الفسق وحده. وقد رأى آخرون أنها نسخت الفسق وإسقاط الشهادة معا، وهو قول الزهري، والقاسم بن محمد، وعطاء، وطاوس، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وقول أهل الحجاز جميعا، واختيار الشافعي، وقول ابن عباس في رواية الوالبي، قال: فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل. قال أبو عبيدة: وكلا الفريقين تأول هذه الآية. فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع عند قوله أبدا. ثم استأنف، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4-5] فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون فذهبوا إلى أن الكلام معطوف بعضه على بعض، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل كلام، والذي نختار هذا القول لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرما من راكبها، ولا خلاف في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب، فالرامي أيسر جرما إذا نزع، وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، إذا أسلم وأصلح قبلت شهادته، فالقاذف حقه أيضا إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، وهذا معنى قول الشافعي: إذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا فكيف لا تقبلون شهادة القاذف وهو أقل ذنبا. وقد قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته، وهذا إجماع الصحابة. 653 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، نا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لا تَجُوزُ، فَأَشْهَدُ لأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لأَبِي بَكْرَةَ: تَقْبَلُ شَهَادَتَكَ، أَوْ إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَبَدًا؛ قِيلَ: أَبَدُ كُلِّ إِنْسَانٍ مِقْدَارُ مُدَّتِهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِقَضِيَّتِهِ، تَقُولُ: الْكَافِرُ لا تُقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا أَبَدًا، مَعْنَاهُ: مَا دَامَ كَافِرًا، كَذَلِكَ الْقَاذِفُ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا مَا دَامَ قَاذِفًا، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ زَالَ أَبَدًا، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْفِسْقُ زَالَ أَبَدًا، لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ قوله: {وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] قال ابن عباس: يريد إظهار التوبة. وقال مقاتل: وأصلحوا العمل. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [النور: 5] لقذفهم، {رَحِيمٌ} [النور: 5] بهم حيث تابوا. 654 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ

الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآيَةَ، قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي رَجُلا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، أَتَجْلِدُنِي بِمِائَتَيْ جَلْدَةٍ إِلَى أَنْ آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، قَدْ قَضَى الرَّجُلُ مِنْهَا حَاجَتَهُ، ثُمَّ مَضَى؟ ! قَالَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ يَا عَاصِمُ بْنَ عَدِيٍّ، فَخَرَج سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى اسْتَقْبَلَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ يَسْتَرْجِعُ، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ، وَجَدْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي خَوْلَةَ يَزْنِي بِهَا، وَخَوْلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ سُؤَالِي النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آنِفًا، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِالَّذِي كَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا يَقُولُ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ السَّحْمَاءِ كَانَ يَأْتِينَا فِي مَنْزِلِنَا فَيَتَعَلَّمُ الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ فَرُبَّمَا تَرَكَهُ عِنْدِي وَخَرَج زَوْجِي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ فَلا أَدْرِي أَدْرَكَتْهُ الْغَيْرَةُ، أَوْ قَلَّ عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى، آيَةَ اللِّعَانِ : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {7} وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ {9} وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ {10} } [النور: 6-10] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآيات، فأقامه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد العصر عن يمين النجم فقال: يا هلال، أنت الشاهد أنك رأيتها تزني. فقال: أشهد بالله لقد رأيته على بطنها يزني بها وإني لمن الصادقين، أشهد بالله ما برئت منه ولا برئ منها وإني لمن الصادقين، أشهد بالله ما قربتها منذ أربعة أشهر وإن حملها هذا الذي في بطنها من شريك بن سحماء وإني من الصادقين، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] . فقال القوم: آمين. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خولة، ويحك إن كنت ألممت بذنب فأقري به، فإن الرجم بالحجارة في الدنيا أيسر عليك من غضب الله في الآخرة، وإن غضبه عذاب. فقالت: يا رسول الله، كذب. فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنه لمن الكاذبين، ما رآه على بطني يزني بي وإنه لمن الكاذبين، أشهد بالله لقد برئت من الزنا وبرئ شريك بن سحماء مني وإنه لمن الكاذبين، أشهد بالله لقد قربني منذ أربعة أشهر، وإن ما في بطني من هلال بن أمية وإنه لمن الكاذبين، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] . ثم فرق بينهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لا يجتمعان أبدا إلى أن تقوم الساعة. فمعنى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 6] أي الزنا، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [النور: 6] يشهدون على صحة ما قالوا، {إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] ويقرأ أربع بالنصب، فقال الزجاج: من قرأ بالرفع فعلى خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القاذف أربع، والدليل على هذا قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع

شهادات. قوله: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] قال ابن عباس: وذلك أن الرجل يذكر أنه رأى مع امرأته رجلا أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: اللهم العنه إن كان كذب عليها. وقرأ نافع أن مخففة لعنة بالرفع، قال سيبويه: لا تخفف في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة. وقال الأخفش: لا أعلم الثقيلة إلا أجود في العربية، لأنك إذا خففت فالأصل الثقيلة، فتخفف وتضمر الشأن، فأن تجيء بالأصل ولا تحذف شيئا ولا تضمر أجود. {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أي: ويدفع عنها الحد {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] تقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما قذفني به، وتقول في الخامسة: عليّ غضب الله إن كان من الصادقين. فذلك قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] وقرأ حفص {وَالْخَامِسَةَ} [النور: 9] نصبا على المعنى، كأنه قال: وتشهد الخامسة. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 10] أي: ستره ونعمته، لولا ههنا محذوف الجواب، قال الزجاج: المعنى لولا فضل الله لنال الكاذب منها عذاب عظيم، أي: لبين الكاذب من الزوجين فيقام عليه الحد، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [النور: 10] يعود على من رجع عن معاصي الله إلى ما يجب بالرحمة، {حَكِيمٌ} [النور: 10] فيما فرض من الحدود. {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور: 11] يعني: بالكذب على عائشة رضي الله عنها، والإفك: أسوأ الكذب، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، والإفك هو الحديث المقلوب عن وجهه، ومعنى القلب في هذا الحديث أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف الحسب والنسب لا القذف الذي رموها به، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح، وكذب ظاهر، وكانت قصة الإفك على ما: 655 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ بِعَسْكَرِ مُكَرَّمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَالِحٍ النُّمَارِيُّ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ،

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتَ امْتِصَاصًا، وَوَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، رَوَوْا: أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَج فِيهَا سَهْمِي، فَخَرْجُت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَزْوَةٍ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، أَذِنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ أَذِنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي؛ أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمْسُت صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَنِي، فَحَمَلُوا هَوْدَجِي عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُهَبِّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرِجُعوا إِلَيَّ، وَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْل أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي بِكَلِمَةٍ وَلا سَمِعْتُ مِنْهُ غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِيَّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، وَلا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَلِكَ يُحْزِنُنِي، وَلا أَشْعُر بِالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقِهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلا نَخْرُجُ إِلا لَيْلا إِلَى اللَّيْلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتَخَّذَ الْكُنُفُ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَأَقْبَلُت أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّيَن رَجُلا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ قُلْتُ: تَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا أُرِيدُ حِينَئِذٍ

أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؛ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ أَهْلُكَ وَمَا تَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَرِيرَةَ، فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا يُرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ أَمْرًا أَغْمِصُهُ قَطُّ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَيَأْتِي الدَّاجِنُ فَيَأْكُلُهُ، قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلا صَالِحًا وَلَكِنْ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلَنَّهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ، لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ شَيْءٌ فِي شَأْنِي، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَلامَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ

سَمِعْتُمْ هَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، لا تُصَدِّقُونَنِي، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُونَنِي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلا إِلا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِيِّ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكَ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ آيَاتٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَاتِ فِي بَرَاءَتِي؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَألَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَمْرِي: مَا عَلِمْتِ وَمَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، ذَكَرَتْهُمْ عَائِشَةُ 656 - فِيمَا أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْمَاوَرْدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلْمَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَرْبَعَةٌ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ قوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور: 11] لا تحسبوا الإفك شرا لكم، قال مقاتل: لأنكم تؤجرون على ما قيل لكم من الأذى. {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] لأن الله يأجركم ويظهر براءتكم، والخطاب لعائشة وصفوان فيما ذكر أهل التفسير، وقال الزجاج: يعني عائشة وصفوان ومن بسببهما سب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، ويكون الخطاب لكل من رمى بسب، وذلك أن من سب عائشة فقد سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسب أبا بكر، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: يريد خيرا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبراءة لسيدة النساء أم المؤمنين، وخيرا

لأبي بكر وأم عائشة، ولصفوان بن المعطل. وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} [النور: 11] يعني: من العصبة الكاذبة، {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور: 11] جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] استبد بمعظمه وانفرد به، قال الضحاك: قام بإشاعة الحديث. وكبر الشيء: معظمه بالكسر، وهو عبد الله بن أبي في قول مجاهد، ومقاتل، والسدي، وعطاء، عن ابن عباس. وقوله: مِنْهُم يعني: من العصبة الكاذبة، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] قال ابن عباس: يريد في الدنيا الجلد، جلده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانين جلدة، وفي الآخرة يصيره الله إلى النار. ثم أنكر على الذين خاضوا في الإفك، فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ {12} لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ {13} } [النور: 12-13] {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12] هلا إذ سمعتم أيها العصبة الكاذبة قذف عائشة بصفوان، {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [النور: 12] من العصبة الكاذبة، يعني: حمنة بنت جحش، وحسان، ومسطحا، {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] قال الحسن: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، ألا ترى إلى قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضا: إنهم يقتلون أنفسهم. وقال المبرد: ومثله قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] . {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] هذا القذف كذب بين. {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] هلا جاء العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء يشهدون بأنهم عاينوا منها ما رموها به، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ} [النور: 13] في حكمه، {هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . ثم ذكر الذين قذفوا عائشة، فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ {15} } [النور: 14-15] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 14] ولولا ما مَنَّ الله به عليكم، {لَمَسَّكُمْ} [النور: 14] لأصابكم، {فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} [النور: 14] فيما أخذتم وخضتم فيه من الكذب والقذف، {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس: عذاب لا انقطاع له. ثم ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب لولا فضله، فقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور: 15] قال مجاهد، ومقاتل: بعضكم عن بعض. وقال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل، فيقول: بلغني كذا وكذا، يتلقونه تلقيا. قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض. {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15] من غير أن تعلموا أن الذي قلتم حق، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور: 15] تظنون أن ذلك القذف سهل لا إثم فيه، {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] في الوزر. ثم زاد في الإنكار عليهم، فقال: {

وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ {16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {18} } [النور: 16-18] {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} [النور: 16] ما يحل وما ينبغي لنا، {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16] ، سبحانك ههنا معناه كقول الأعمش: أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر {هَذَا بُهْتَانٌ} [النور: 16] افتراء وكذب، عَظِيم يتحير من عظمه. ثم وعظ الذين خاضوا في الإفك، فقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور: 17] قال ابن عباس: يحرم الله عليكم. وقال مجاهد: ينهاكم الله. {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] لمثل هذا القذف، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] يعني أن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة. {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور: 18] في الأمر والنهي، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [النور: 18] بأمر عائشة، حَكِيم حكم ببراءتها. ثم هدد القاذفين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] أن يفشو ويظهر الزنا، {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور: 19] يعني الجلد، {وَالآخِرَةِ} [النور: 19] يعني عذاب النار، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [النور: 19] سر ما خضتم فيه وما فيه من سخط الله، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] ذلك. ثم ذكر فضله ومنته عليهم بتأخير العقوبة، فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {20} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {21} } [النور: 20-21] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 20] لعاقبكم فيما قلتم لعائشة، وهذا جواب لولا، وهو محذوف، {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20] رءوف بكم، ورحمكم فلم يعاقبكم في أمر عائشة، قال ابن عباس: يريد مسطحا وحمنة وحسان. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] قال مقاتل: يعني تزيين الشيطان في قذف عائشة. {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21] قال ابن عباس: بعصيان الله وكل ما يكره الله مما لا يعرف في شريعة ولا سنة. {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] قال مقاتل: ما صلح. والزكاة تكون بمعنى الصلاح، يقال: زكى يزكو زكاة. وقال ابن قتيبة: ما ظهر. والآية على العموم عند بعض المفسرين، قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح أحد. وآخرون يقولون: هذا الخطاب للذين خاضوا في

الإفك. والمعنى: ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: ما قبل توبة أحد منكم، {أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] قال: فقد شئت أن أتوب عليكم لأن الله يطهر من يشاء من الإثم بالرحمة والمغفرة فيوفقه للتوبة. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] علم ما في نفوسكم من الندامة والتوبة. قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] {وَلا يَأْتَلِ} [النور: 22] قال جماعة المفسرين: لا يحلف. يقال: ألى يؤلي إيلاء، ويألى يتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، إذا حلف. وقوله: {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] يعني: أولو الغنى والسعة في المال، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حلف أن لا ينفق على مسطح، وكان ابن خالته، ولا يصله بشيء أبدا، وذلك قوله: {أَنْ يُؤْتُوا} [النور: 22] قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا. {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] يعني مسطحًا، وكان من المهاجرين، قال ابن عباس: قال الله لأبي بكر: قد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل والمعرفة بالله وصلة الرحم، وعندك السعة، فتعطف على مسطح، فله قرابة، وله هجرة، وله مسكنة. وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] قال مقاتل: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: أما تحب أن يغفر الله لك. قال: بلى. قال: فاعف واصفح. قال: قد عفوت وصفحت، لا أمنعه معروفي أبدا بعد اليوم، وقد جعلت له مثلي ما كان قبل اليوم. وقالت عائشة لما نزلت هذه الآية: فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأطلب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {23} يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {24} يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ {25} } [النور: 23-25] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] العفائف، {الْغَافِلاتِ} [النور: 23] عن الفواحش كغفلة عائشة عما قيل فيها، {الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] المصدقات بتوحيد الله وبرسوله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا} [النور: 23] عذبوا بالجلد ثمانين جلدة، ويعذبون بالنار في، {وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] قال مقاتل: هذه الآية خاصة في عبد الله بن أبي المنافق ورميه عائشة. وقال سعيد بن جبير: هذا الحكم خاصة فيمن يقذف عائشة، فمن قذفها كان من أهل هذه الآية. وقال الضحاك، والكلبي: هذه الآية في

عائشة وأزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] قال: فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة. أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، أنا شعيب بن محمد، أنا مكي بن عبدان، نا أبو الأزهر، نا روح، نا الثوري، نا حصيف، قال: قلت لسعيد بن جبير: من قذف محصنة لعنه الله. قال: لا، إنها في عائشة خاصة. قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] قال الكلبي: تشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم بما تكلموا به من الفرية في قذف عائشة. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] قال ابن عباس: تتكلم الجوارح وتنطق بما عملت في الدنيا. {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] يجازيهم الله جزاءهم الواجب، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين حيث لا ينفعه. قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] أي: الخبيثات من الكلام والقول للخبيثين من الناس، {وَالْخَبِيثُونَ} [النور: 26] من الناس {لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] من الكلام، والمعنى أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، وكل كلام إنما يحسن في أهله، فيضاف شيء القول إلى من يليق به ذلك، وكذلك الطيب من القول، وعائشة لا يليق بها الخبيثات من الكلام، فلا يصدق فيها لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها. وقال الزجاج: معناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث، ومدح للذين برأوها بالطهارة. وقال ابن زيد: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، أمثال عبد الله بن أبي والشاكين في الدين. {وَالطَّيِّبَاتُ} [النور: 26] من النساء، {لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] من الرجال، {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] يريد عائشة طيبها الله لرسوله، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. وقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ} [النور: 26] يعني: الطيبات والطيبين مبرءون، {مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أي: الخبيثات والخبيثون، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] في الجنة. 657 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الأُشْنَانِيُّ، نا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ جَدَّتِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ تِسْعًا مَا أُعْطِيَتْهَا امْرَأَةٌ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَلَقْد تَزَوَّجَنِي بِكْرًا وَمَا تَزَوَّجَ بِكْرًا غَيْرِي، وَلَقَدْ قُبِضَ وَإِنَّ رَأْسَهُ فِي حِجْرِي، وَلَقَدْ قُبِرَ فِي بَيْتِي وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلائِكَةُ بِبَيْتِي، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَإِنِّي لَمَعَهُ

فِي لِحَافِهِ، وَإِنِّي لابْنَةِ خَلِيفَتِهِ وَصَدِيقِهِ، وَلَقَدْ نَزَلَ عِنْدِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً وَعِنْدَ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُّ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ {29} } [النور: 27-29] وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] أي: بيوتا ليست لكم، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا. وقال ابن عباس: أخطأ الكاتب حتى تستأنسوا، إنما هي حتى تستأذنوا. وقال أهل المعاني: الاستئناس الاستعلام، يقال: أنست منه كذا، أي علمت، والمعنى: حتى تستعلموا وتنظروا وتتعرفوا. {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] هو أن يقول السلام عليكم أدخل، ولا يجوز دخول بيت غيرك إلا باستئذان لهذه الآية، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 27] أي: أفضل من أن تدخلوا بغير إذن، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرك أن ترى منهم عورة. قلت: لا. قال: فاستأذن. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا} [النور: 28] أي: في البيوت أحدا، {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28] وإن وجدوها خالية لم يجز لها إذن أيضا، وإن أمر بالانصراف انصرف ولم يقم على باب البيت، وهو قوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] أي: خير وأفضل من القعود على الأبواب، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 28] من الدخول بإذن وغير إذن، عَلِيمٌ فلما نزلت آية الاستئذان، قالوا: فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على الطريق، ليس فيها ساكن. فأنزل الله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] قال المفسرون: يعني بيوتا ليس فيها ساكن، فالبيوت التي ينزلها المسافرون لا جناح أن يدخلها بغير استئذان. وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] أي: منافع من اتقاء البرد والحر والاستمتاع بها. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] عما لا يحل وعن الفواحش، هذا قول عامة المفسرين، وقال أبو العالية: المراد بحفظ الفرج في هذه الآية حفظه عن الرؤية ووقوع البصر عليه. ذَلِكَ أي: غض البصر وحفظ الفرج، {أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] خير لهم وأفضل عند الله، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] في الفروج والأبصار. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج، فقال: {

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] يعني: الوجه والكفين، وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك. وقال مجاهد، عن ابن عباس: يعني الكحل والخاتم، والقلب والخضاب. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الخمر جمع الخمار، وهي ما تغطي به المرأة رأسها، والمعنى: وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطتهن وأعناقهن، كما قال ابن عباس: تغطي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها. {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يعني: الزينة الباطنة التي لا يجوز كشفها في الصلاة، قال ابن عباس، ومقاتل: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن. وهو قوله: {إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وقد جمع الله تعالى في هذه الآية بين الأزواج والمحارم وبين الفريقين وفرق، وهو أن الزوج يحل له النظر إلى جميع بدن امرأته سوى الفرج، وليس للمحارم أن ينظروا إلى ما بين السرة والركبة من المرأة، ومعنى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] : يعني المؤمنات، فلا يجوز لامرأة مؤمنة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] يعني: المماليك والعبيد، ويجوز للمرأة أن تظهر لمملوكيها إذا كانوا عفيفين ما تظهر لمحارمها، وقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] أكثر القراء على خفض غير بالصفة للتابعين، ومن نصب كان استثناءا، والمعنى: يبدين زينتهن للتابعين إلا

ذا الإربة منهم، فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة، والإرب الحاجة، ومعنى {التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} [النور: 31] هم الذين لا حاجة لهم من النساء، ولا يحملهم إربهم على أن يراودوا النساء، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، والشعبي. وقال قتادة: هو الذي يتبعك فيصيب من طعامك ولا همة له في النساء. وقال مقاتل: يعني الشيخ الهرم، والعنين، والخصي، والمجبوب ونحوه. وقال الحسن: هم قوم طبعوا على التخفيف، وكل الرجال منهم يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن. 658 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا أَصْبَغُ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ هِيثًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا لا يَعُدُّونَهُ مِنْ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ} [النور: 31] يعني به الجماعة من الأطفال، {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] لم يقودا عليها، ومنه قوله: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] يعني: الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم. {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] قال قتادة: كانت المرأة تضرب برجليها ليسمع قعقعة الخلخال فيها، فنهيت عن ذلك. وقال عطاء، عن ابن عباس: ولا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها، أو يتبين لها خلخال. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31] عما كنتم تعلمون في الجاهلية، والمعنى: راجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه. 659 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ، يُقَالُ لَهُ: الأَغَرُّ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وقوله: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] وقرأ ابن عامر بضم الهاء، ومثله: {يَأَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] ، {أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] قال أبو علي الفارسي: وهذا لا يتجه، لأن آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فينبغي أن يكون المضموم آخر الاسم، ولو جاز أن يضم الميم في اللهم لأنه آخر الكلمة، وينبغي أن لا يقرأ بهذا ولا يؤخذ به. {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {32} وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ

أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ {33} وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {34} } [النور: 32-34] قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] يقال: فلانة أيم إذا لم يكن لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، والجمع أيامى، والأصل أيائم فقلبت، ورجل أيم لا زوج له، قال السدي: من لم يكن له زوج من امرأة أو رجل فهو أيم. وهذا قول جماعة المفسرين، والمعنى: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم، وهذا الأمر ندب واستحباب. 660 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، أنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي، وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ» 661 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ وَاقِدٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» 662 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَقِيَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَقَالَ: تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَتَزَوَّجْ، قَالَ: وَلَقِيَنِي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ كَانَ أَكْثَرَهَا نِسَاءً؛ يَعْنِي: النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] قال مقاتل: يقول: زوجوا المؤمنين من عبادكم وإمائكم، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، فمعنى الصلاح ههنا الإيمان، ثم رجع إلى الأحرار، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} [النور: 32] لا سعة لهم للتزوج، {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وعدهم أن يوسع عليهم عند التزوج، قال الزجاج: حث الله على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر. وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: ما رأيت مثل رجل لم يلتمس الغنى في الباءة، والله يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] . {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} [النور: 32] لخلقه، {عَلِيمٌ} [النور: 32] بهم. قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] أي: وليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة، {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] يوسع عليهم من رزقه، {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] يطلبون المكاتبة، {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33] من العبيد والإماء، يقال: كاتب الرجل عبده وأمته مكاتبة وكتابا فهو مكاتب، والعبد مكاتب،

وهو أن يقول: كاتبت على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة، فإذا أدى ذلك فالعبد حر، ولا بد من التنجيم، وأقله نجمان وصاعدا، ولا يصح جمعه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يصح والآية عليه، لأن أصل الكتاب من الكتب وهو الضم والجمع، وأقل ما يقع عليه الضم والجمع نجمان، وهو أن العبد يجمع نجوم المال إلى مولاه، ولا يجوز أن يكاتب عبدا غير بالغ ولا عاقل لقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] ولا يصح الطلب من الأطفال والمجانين، وعند أبي حنيفة: إذا كان العبد مراهقا يجوز أن يكاتب، والآية حجة عليه. وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] أمر ندب واستحباب في قول الجمهور، وقال قوم: إنه أمر إيجاب. وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء، ورواية عطية عن ابن عباس. وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أكثر المفسرين قالوا: يعني المال. وهو قول مجاهد، وعطاء، والضحاك، وطاوس، والمقاتلين. وقال الحسن: إن كان عنده مال وكاتبه، وإلا فلا تعلق عليه صحيفة يغدو بها على الناس ويروح فيسألهم. وقال عبد لسلمان: كاتبني. فقال: مال؟ قال: لا. قال: أفتطعمني أوساخ الناس: فأبى عليه، وكان قتادة يكره أن يكاتب العبد لا يكاتبه إلا ليسأل الناس. وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قوة على الكسب، وأداء المال. هو قول ابن عمرو، وابن زيد، واختيار مالك والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: إن علمتم أنهم يكسبون ما يؤدونه. وهذا القول أصح لأنه لو أريد بالخير المال لقيل: إن علمتم لهم خيرا، فلما قال عليهم كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة. وقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] يقول: حطوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا. قال مجاهد: ربع المال. وقال الآخرون: لا يتقدر بشيء يحط عنه ما أحب، أو يرد عليه شيئا مما يأتيه به، أو يعطيه مما في يده شيئا يستعين به على أداء المال. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون. وقوله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] يعني: إماءكم وولائدكم على الزنا، نزلت في عبد الله بن أبي كان يكره جواري له على الكسب بالزنا، وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] قال ابن عباس: تعففا وتزويجا، وإنما شرط إرادة التحسن لأن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فإن لم ترد بغت بالطبع. وقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] أي: من كسبهن وبيع أولادهن {وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] يعني للمكرهات. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 34] يعني: ما ذكر في هذه ال { [من الحلال والحرام،] وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة النور: 34] أي: شبها من حالهم بحالكم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور: 34] نهيا للذين يتقون الشرك والكبائر. {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ

دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] معنى النور في اللغة الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه، وورد النور في صفة الله تعالى لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبين لهم ما يهتدون به من الضلالة، قال ابن قتيبة: أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض. وهذا معنى قول ابن عباس، والمفسرين: هادي أهل السموات والأرض. وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن. وقال السدي: مثل نوره في قلب المؤمن. وكذا هو في قراءة ابن مسعود، وكان أبي يقرأ مثل نور المؤمن قال: وهو عبد قد جعل الإيمان والقرآن في صدره. {كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] وهي كوة غير نافذة في قول الجميع، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] يعني السراج، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] يعني القنديل، قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة، فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] منسوب إلى أنه كالدر في صفائه وحسنه، وقرأ أبو عمرو مك { [الدال مهموزة، وهو فعيل من الدرء بمعنى الدفع، والكوكب إذا دفع ورمي من السماء لرجم الشيطان يضاعف ضوءه، قال أبو عمرو لم أسمع أعرابيا يقول إلا: كأنه كوكب دريء بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزا، وأنكره الفراء والزجاج وأبو العباس، قالوا: هو غلط لأنه ليس في الكلام فعيل. قال الزجاج، والنحويون أجمعون: لا يعرفون الوجه في هذا لأنه ليس في كلام العرب شيء على هذا الوزن. قوله: توقد مفتوحة التاء والدال قراءة أبي عمرو وهي البينة، لأن المصباح هو الذي توقد، وقرئ] يُوقَدُ} [سورة النور: 35] بضم الياء والدال أي المصباح، وقرئ توقد أي الزجاج، والمعنى: على مصباح الزجاجة، ثم حذف المضاف. وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] أي: من زيت شجرة مباركة بحذف المضاف، يدلك على ذلك قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] وأراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون، وهي كثيرة البركة، وفيها أنواع المنافع لأن الزيت يسرج به، وهو إدام ودهان ودباغ، ويوقد بحطب الزيتون، وتفله ورماده يغسل به الإبريسم، ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار. 663 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيِّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا عَبْدُ

الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ، وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» ثُمَّ فَسَّرَهَا؛ فَقَالَ {زَيْتُونَةٍ} وَخَصَّهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَشْجَارِ؛ لأَنَّ دُهْنَهَا أَصْفَى وَأَضْوَأُ وقوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] أي: لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب، هي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، وزيتها يكون أصفى، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، والكلبي. ونحوه قال قتادة، والسدي، والأكثرون. واختيار الفراء والزجاج، قال الفراء: الشرقية التي تأخذها الشمس إذا أشرقت ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا، والغربية التي تصيبها الشمس بالعشي ولا تصيبها بالغداة. وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا} [النور: 35] زيت الزيتون، يعني: دهنها يكاد يضيء المكان من صفائه من غير أن يصيبه النار بأن يوقد به، وهو قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، فالمشكاة قلبه، والمصباح هو الإيمان والقرآن، والزجاج صدره. ومعنى قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] قال مجاهد: النار على الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور والزجاجة نور وهو مثل لإيمان المؤمن وعمله. وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن. وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] قال ابن عباس: لدينه الإسلام، وإن شئت قلت للقرآن. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [النور: 35] يبين الله الأشياء للناس تقريبا إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] عالم. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ {36} رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {38} } [النور: 36-38] قوله: {فِي بُيُوتٍ} [النور: 36] يعني المساجد، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] أمر الله أن تبنى، والمراد برفعها بناؤها، كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] وقال الحسن: ترفع تعظم. والمعنى: لا يتكلم فيها بالخنا. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] قال مقاتل، وابن عباس: يوحد الله فيها. {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور: 36] يصلي لله في قلب البيوت، يعني: الصلوات المفروضة. {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] بالبكر والعشايا، وقرأ ابن عامر يسبح بفتح الباء، أي: يصلى لله فيها. ثم فسر من يصلي، فقال: {رِجَالٌ} [النور: 37] وكأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: رجال. {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور: 37] لا تشغلهم تجارة، {وَلا بَيْعٌ} [النور: 37] قال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه. وخص قوم التجارة ههنا بالشراء لذكر البيع بعدها. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] عن حضور المساجد لإقامة الصلوات، قال الثوري: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات في الجماعات في المساجد. {وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور: 37] أدائها لوقتها واتمامها، وإنما ذكر إقامة الصلاة بعد قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] والمراد به الصلاة

المفروضة بيانا أنهم يؤدونها في وقتها، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لم يكن من مقيمي الصلاة. وقوله: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] قال ابن عباس: إذا حضر وقت الزكاة لم يحبسوها عن وقتها. {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} [النور: 37] بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، {وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] تتقلب من أين يؤتون كتبهم؟ أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل؟ قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} [النور: 38] أي: يسبحون الله ليجزيهم، {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور: 38] أي: ليجزيهم بحسناتهم، ولهم مساوئ من الأعمال لا يجزيهم بها، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38] ما لم يستحقوه بأعمالهم، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38] مفسر فيما تقدم. ثم ذكر الكفار وضرب المثل لأعمالهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {39} أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ {40} } [النور: 39-40] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] السراب الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء ويكون نصف النهار، والقيعة جمع قاع نحو جار وجيرة، وهو ما انبسط من الأرض ويكون فيه السراب، وقوله: {الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] يعني: الشديد العطش، يقال: ظمأ يظمأ ظمأ فهو ظمآن. {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} [النور: 39] جاء إلى الشراب وإلى موضعه رأى أرضا لا ماء فيها، وهو قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] أي: شيئا مما حسب وقدر، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أعمال الكفار إذا احتاجوا إليها مثل الشراب إذا رآه الرجل وقد احتاج إلى الماء، فأتاه فلم يجده شيئا، فذلك مثل عمل الكافر، يرى أن له ثوابا وليس له ثواب. قال ابن قتيبة: الكافر يحسب ما قدم من عمله نافعه كما يحسب العطشان الشراب من البعد ماء يرويه، حتى إذا جاءه، أي مات، لم يجد عمله شيئا لأن الله قد أبطله بالكفر ومحقه. وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39] قال الفراء: وجد الله عند عمله، يعني قدم على الله. {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] جازاه بعمله، وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكفار، ولكن لما ضرب مثلا للكفار جعل الخبر عنه كالخبر عنهم، وقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] مفسر في { [البقرة. قوله:] أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [سورة النور: 40] قال الزجاج: أعلم الله أن أعمال الكافر إن مثلت بما يوجد فمثلها مثل الشراب، وإن مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف، وهذا قول عامة المفسرين أن التمثيل بالظلمات وقع لأعمال الكافر. وقوله: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] اللجي العظيم اللجة، ومعناه كثرة الماء، وقال ابن عباس، والمفسرون: هو العميق الذي يبعد عمقه. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] أي: يعلو ذلك البحر اللجي موج، {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور: 40] يعني: موجا من فوق الموج، {مِنْ فَوْقِهِ} [النور: 40] من فوق الموج، {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40] يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة الموج، وفوق الموج ظلمة السحاب، ومن قرأ {ظُلُمَاتٌ} [النور: 40] بالكسر والتنوين جعلها بدلا من الظلمات الأولى، ومن أضاف السحاب إلى الظلمات فارتفعت وقت تراكمها، كما تقول: سحاب رحمة، وسحاب مطر إذا ارتفع وظهر في الوقت الذي يكون فيه المطر والرحمة. والمعنى أن الكافر يعمل في حيرة لا يهتدي لرشده، فهو في جهله وحيرته كمن هو في

هذه الظلمات، لأنه من عمله وكلامه مقلب في ظلمات وجهالة. وقوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] تأكيد لشدة هذه الظلمات، قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية. قال الفراء: لأن أقل من الظلمات التي وصفها لا يرى فيه الناظر كفه. ومعنى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] : نفي المقاربة من الرؤية. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] قال ابن عباس، والسدي، ومقاتل: من لم يجعل له دينا وإيمانا وهدى فما له من دين. قال الزجاج: من لم يهده الله للإسلام لم يهتد. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ {41} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {42} } [النور: 41-42] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 41] تقدم تفسيره، {وَالطَّيْرُ} [النور: 41] أي: ويسبح له الطير، {صَافَّاتٍ} [النور: 41] باسطات أجنحتها في الهواء، وخص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض، فهي خارجة عن جملة من في السموات والأرض. وقوله: كل أي: من الجملة التي ذكرها، {قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] قال مجاهد: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] لا يخفى عليه طاعتهم وصلاتهم وتسبيحهم. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 42] قال الكلبي: يعني خزائن المطر والرزق والنبات لا يملكها أحد غيره. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 42] مرجع العباد بعد الموت. قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ

بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ {43} يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ {44} } [النور: 43-44] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] يسوقه سوقا رقيقا، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] يضم بعضه إلى بعض، أي: يجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور: 43] يجعل بعضه يركب بعضا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور: 43] القطر والمطر، قال الليث: الودق المطر كله شديده وهينه. {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43] جمع خلل وهو مخارج القطر، وقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] أي: من جبال في السماء، وتلك الجبال من برد، قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالا من برد. ومفعول الإنزال محذوف، والتقدير وينزل من السماء من جبال من برد فيها بردا، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه، ومن الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض، لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال التي في السماء جنس البرد، {فَيُصِيبُ بِهِ} [النور: 43] بالبرد، {مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43] فيضره في زرعه وثمرته، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43] فلا يضره في زرعه وثمرته، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور: 43] يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر ويخطفه لشدة لمعانه كما قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] والسنا: الضوء، مثل سنا النار، وسنا البدر، وسنا البرق. وقال السدي: يكاد ضوء البرق يلتمع البصر فيذهب به. قوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44] يعني: يأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النور: 44] التقليب، {لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [النور: 44] لدلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده. 664 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا الحُمَيْدِيُّ، سُفْيَانُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {45} لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {46} } [النور: 45-46] قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45] يعني: كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل الجن والملائكة، لأنا لا نشاهدهم. وقوله: {مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] أي: من نطفة، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] كالحيات والهوام والحيتان، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] كالإنسان والطير، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] كالبهائم والأنعام، قال المبرد: قوله: كل دابة للناس وغيرهم، إذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب، لذلك قال: من لغير ما يعقل. ثم ذكر قدرته على خلق ما يريد، فقال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {45} لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 45-46] يعني، القرآن، أي هو المبين للهدى والأحكام، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور: 46] يعني: الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته. ثم ذكر أهل النفاق وشكهم في الدين، فقال: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47} وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ {48} وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ

الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51} وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {52} } [النور: 47-52] {وَيَقُولُونَ} [النور: 47] يعني المنافقين، {آمَنَّا بِاللَّهِ} [النور: 47] صدقنا بتوحيد الله، {وَبِالرَّسُولِ} [النور: 47] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَأَطَعْنَا} [النور: 47] هما فيما حكما، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ} [النور: 47] يعرض عن طاعتهما طائفة، {مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47] من بعد قولهم آمنا، {وَمَا أُولَئِكَ} [النور: 47] الذين يعرضون عن حكم الله ورسوله، {بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] . {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} [النور: 48] إلى كتاب الله، {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الرسول فيما اختصموا فيه، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] عما يدعوا إليه. {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] مسرعين طائعين، قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة. يقال: أذعن لي بحق، أي: طاوعني فيما كنت ألتمس منه وصار يسرع إليه. أخبر الله أن المنافقين يعرضون عن حكم الرسول لعلمهم بأنه يحكم بالحق، فإذا كان لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم بأنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا. ثم أخبر بما في قلوبهم من الشك، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور: 50] شكوا في القرآن، وهذا استفهام ذم وتوبيخ، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] الحيف الميل في الحكم، فيقال: حاف في قضيته، أي جار فيما حكم. {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 50] أي: لا يظلم الله ورسوله في الحكم بل هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والإعراض عن حكم الرسول. ثم تعب الصادقين من إيمانهم، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] قال مقاتل، وابن عباس: يقولون سمعنا قول النبي، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضر بهم. ثم أثنى على من أطاعهما، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النور: 52] قال ابن عباس: يريد فيما ساءه وسره. {وَيَخْشَ اللَّهَ} [النور: 52] في ذنوبه التي عملها، {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] فيما بعد لم يعصه، وقراءة العامة يتقيه موصولة بياء هو الوجه، لأن ما قبل الهاء متحرك وحكمها إذا تحرك ما قبلها أن يتبعها الياء في الوصل، وروى قالون بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء لأن حركة ما قبل الهاء ليست تلزم ألا ترى أن الفعل إذا رفع. . . اختير حذف الياء بعد الهاء مثل عليه، وقرأ أبو عمرو {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] جزما، وذلك أن ما يلحق هذه الهاء من الواو والياء زائدا، فرد إلى الأصل وحذف الزيادة، وقرأ حفص ساكنة القاف مك { [الهاء، قال ابن الأنباري: وهو على لغة من يقول: لم أزيدا ولم أشتر طعاما ما. . . يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر: قال سليمى اشتر لنا دقيقا

وقوله:] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور: 52] يعني: المطيعين لله ورسوله، الخائفين المتقين الذين قالوا ما طالبوا من رضا الله، وقيل جنته، ولما بين الله كراهتهم لحكمه، قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله لو أمرتنا بالجهاد والخروج من ديارنا وأموالنا لخرجنا. فقال الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {53} قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {54} } [النور: 53-54] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] إلى الجهاد، {قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور: 53] لا تحلفوا، وتم الكلام، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] أي: طاعة حسنة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنيه خالصة، قال مقاتل بن سليمان: معناه ليكن منكم طاعة. وقال الزجاج: تأويله طاعة معروفة أحسن من قسمكم بما لا تصدقون فيه، فحذف خبر الابتداء للعلم به. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53] أي: من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل. ثم أمرهم بالطاعة، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] ثم خاطبهم، فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [النور: 54] أي تتولوا، فحذف إحدى التائين، أي قال: تعرضوا عن طاعتهما. {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} [النور: 54] على الرسول، {مَا حُمِّلَ} [النور: 54] من التبليغ وأداء الرسالة، {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] من الطاعة، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] تصيبوا الحق، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] ليس عليه إلا أن يبلغ ويبين لكم. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] قال أبي بن كعب: لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه المدينة آوتهم الأنصار ومنهم العرب عن قوس واحده، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية. وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55] أي: ليجعلنهم يخلفون من قبلهم، والمعنى: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها. وقوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] قال مقاتل: يعني بني إسرائيل إذا أهلت الجبابرة بمصر

وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم. وروى أبو بكر بن عياش استخلف بضم التاء وكسر اللام، ووجهه أنه أريد به ما أريد باستخلف، وإذا كان المعنى كذلك، فالوجه قراءة العامة. قوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] قال ابن عباس: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها، ويظهر دينهم على جميع الأديان. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] قال مقاتل: يفعل بهم ذلك وبمن كان بعدهم من هذه الأمة مكن لهم الأرض، وأبدلهم أمنا من بعد خوف، وبسط لهم في الأرض، فقد أنجز الله موعده لهم، وقوله: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] استئناف كلام في الثناء عليهم، {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور: 55] يعني بهذه النعم، وليس يعني الكفر بالله، والمعنى: من جحد حق هذه النعم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] قال ابن عباس: العاصون لله. قال المفسرون: وأول من كفر بهذه النعم وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه غير الله ما بهم، وأدخل عليهم الخوف الذي رفعه عنهم حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا متحابين. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {56} لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ {57} } [النور: 56-57] قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النور: 57] يعني: أهل مكة، {مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور: 57] يعجزوننا ويفوتونا هربا، أي أن قدرة الله محيطة بهم، ومن قرأ بالياء ففاعل الحسبان على هذه القراءة الذين كفروا، وكأنه قيل: وتحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين. ثم أوعدهم، فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57] . قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {58} وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {59} وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {60} } [النور: 58-60] {

يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} [النور: 58] أي: في الدخول عليكم، {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] يعني: العبيد والإماء، قال عطاء: ذلك على كل كبير وصغير. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] من أحراركم من الرجال والنساء، {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] يعني: ثلاثة أوقات، ثم فسرها، فقال: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور: 58] وذلك أن الإنسان ربما يبيت عريانا، أو على حال لا يحب أن يراه غيره في تلك الحال، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58] يريد المقيل، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها، أمر الله بالاستئذان في الأوقات التي يتخلى فيها الناس ويتكشفون. وفصلها ثم أجملها بعد التفصيل، فقال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، وسمى هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدوا عوراته. ومن قرأ ثلاث عورات بالنصب جعله بدلا من قوله: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ، قال السدي: كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يوافقوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا، ثم يخرجون إلى الصلاة، فأخبرهم الله أن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاثة. قال موسى بن أبي عائشة: قلت للشعبي في هذه الآية: أمنسوخة هي؟ قال: لا. قلت: قد تركها الناس؟ قال: الله المستعان. وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58] يعني: المؤمنين الأحرار، {وَلا عَلَيْهِمْ} [النور: 58] يعني: الخدم والغلمان، جُنَاح حرج، {بَعْدَهُنَّ} [النور: 58] بعد مضي هذه الأوقات لا حرج في أن لا تستأذنوا في غير هذه الأوقات، {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58] يريد أنهم خدمكم، فلا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات بغير إذن، قال مقاتل: ينقلبون فيكم ليلا ونهارا. {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] أن يطوف بعضكم، وهو المماليك، على بعض، وهم الموالي. قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] يعني: من الأحرار، {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوك يستأذنان في الثلاث عورات، وقوله: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] يعني: الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان على كل حال، قال سعيد بن المسيب: ليستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك. قوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، قال الزجاج: القاعدة التي قعدت عن التزوج، وهذا معنى قوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] قال السدي: هن اللاتي تركن الأزواج وكبرن. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60] يعني: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، والمراد بالثياب ههنا ما ذكر لا كل الثياب، وقوله: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] التبرج أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها من غير أن يدن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن. قال مقاتل: لها أن تضع الجلباب، ترى بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزينة. ثم قال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} [النور: 60] فلا يضعن الجلباب، {خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور: 60] لقولكم، عَلِيمٌ بما في قلوبهم.

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] قوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] قال سعيد بن المسيب: إن المسلمين كانوا إذا غزوا وخلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيحهم أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرجون من ذلك، وقالوا: لا ندخلها وهم غيب. فنزلت هذه الآية رخصة لهم، ومعنى الآية: نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم، أو بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو، وقوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] أي: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم، وبيت المرأة كبيت الرجل، وقال ابن قتيبة: أراد أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم. ثم ذكر بيوت القرابات بعد الأولاد، فقال: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} [النور: 61] وهذه الرخصة في أكل مال القرابات، وهم لا يعلمون ذلك كرخصة لمن دخل حائطا وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مر في سفره بغنم وهو عطشان أن يشرب من رسلها توسعة منه ولطفا بعباده ورغبة عن دناءة الأخلاق وضيق النظر. وقوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] يعني بيوت عبيدكم ومما يملكون، وذلك أن السيد يملك منزل عبده، والمفتاح معناها الخزائن، كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] ويجوز

أن تكون التي يفتح بها، وهذا قول عطاء، عن ابن عباس. وقال آخرون: أمضى. قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] ما خزنتموه لغيركم، قل ابن عباس: يعني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيقته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه، ويشرب من لبن ماشيته. قال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. وقال السدي: الرجل يولى طعام غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه. وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] قال المقاتلان: انطلق رجل غازيا يدعى الحارث بن عمرو، واستخلف مالك بن زيد في أهله وخزانته، فلم يأكل من ماله شيئا حتى صار مجهودا، فأنزل الله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] يعني: الحارث بن عمرو، وكان الحسن وقتادة يريد دخول الرجل بيت صديقه، والتحريم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية، والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتعملوا. وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] قال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن بكر، وهم من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما كانت معه الإبل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه، ومعنى أشتاتا: متفرقين جمع شتت. وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] هذا في دخول الرجل بيت نفسه، والسلام على أهله ومن في بيته، قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حدثنا أن الملائكة ترد عليه، قال ابن عباس: هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. 665 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا مَا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَعَامِهِ؛ قَالَ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا عَشَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ حِينَ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَعَامِهِ؛ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْعَشَاءَ وَالْمَبِيتَ وقوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] قال ابن عباس: أي: هذه تحية حياكم الله بها. وقال الفراء: أي أن الله يأمركم بما تفعلونه طاعة له. وقوله: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] قال ابن عباس: حسنة جميلة. وقال الزجاج: أعلم الله

أن السلام مباركا طيب لما فيه من الأجر والثواب. وقوله: {كَذَلِكَ} [النور: 61] أي: كبيانه في هذه الآية، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور: 61] يفصل الله لكم معالم دينكم، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] لكي تفهموا عن الله أمره ونهيه. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62] أي: على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجمعة، والفطر، والجهاد، وأشباه ذلك. {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده. وقال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه، وللإمام أن يأذنه وله أن لا يأذن على ما ترى، لقوله عز وجل: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62] . أي: واستغفر لهم لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا. {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] علمهم الله فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر البرية في المخاطبة، وأمرهم أن يفخموه ويشرفوه ولا يقولوا له عند دعائه: يا محمد، يا ابن عبد الله، كما يدعو بعضهم بعضا، قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، في لين وتواضع وخفض صوت، وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] التسلل الخروج في خفية، يقال: تسلل فلان من بين أصحابه إذا خرج من جملتهم، واللواذ أن يستتر بشيء، قال ابن عباس: هو أن يلوذ بغيره فيهرب، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد من غير استئذان. ومعنى {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} [النور: 63] التهديد بالمجازاة، ثم حذرهم بالفتنة والعذاب، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي يعرضون عن أمره، ودخلت عن لتضمن المخالفة معنى الإعراض، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] قال

ابن عباس: ضلالة. يعني الكفر، وقال مجاهد: بلاء في الدنيا. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] في الآخرة. ثم عظم نفسه، فقال: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 64] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 64] عبيدا وملكا وخلقا، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64] من الإيمان والنفاق، {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} [النور: 64] يعني: يوم البعث يعلمه الله متى هو، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور: 64] من الخير والشر، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [النور: 64] من أعمالهم وغيرها، {عَلِيمٌ} [النور: 64] .

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون. 666 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَفَّافِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامٌ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا {1} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا {2} } [الفرقان: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] قال ابن عباس: تعالى عما يقول القائلون فيه بسوء. وقد تقدم تفسيره، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1] يعني القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، {عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] محمد، {لِيَكُونَ} [الفرقان: 1] محمد بالقرآن، {لِلْعَالَمِينَ} [الفرقان: 1] يعني الجن والإنس، {نَذِيرًا} [الفرقان: 1] مخوفا من عذاب الله. ثم عظم نفسه، فقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان: 2] كما زعمت اليهود والنصارى والمشركون، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2] يشاركه فيما خلق، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان: 2] مما يطلق في صفته المخلوقة، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] هيأه لما يصلح له وسواه، قال المفسرون: قدر له تقديرا من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. ثم ذكر ما صنع المشركون، فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 3] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان: 3] يعني: الأصنام اتخذها أهل مكة، {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] أي: وهي مخلوقة، {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا} [الفرقان: 3] فيدفعونه عن أنفسهم، {وَلا نَفْعًا} [الفرقان: 3] فيجرونه إلى أنفسهم، والمعنى: لا يملكون لأنفسهم دفع ضر ولا جر نفع، لأنها جماد لا قدرة لها. {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا} [الفرقان: 3] أن تميت أحدا، {وَلا حَيَاةً} [الفرقان: 3] أن تحيي أحدا، {وَلا

نُشُورًا} [الفرقان: 3] ولا بعثا للأموات، أي: فكيف يعبدون من لا يقدر على أن يفعل شيئا من هذا، ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كله. ثم أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا {4} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا {5} قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {6} } [الفرقان: 4-6] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} [الفرقان: 4] ما هذا، {إِلا إِفْكٌ} [الفرقان: 4] كذب، {افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4] محمد واختلقه من تلقاء نفسه، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] قالوا: أعان محمدا على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام ابن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وكانوا من أهل الكتاب. قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] أي: فقد جاءوا شركا وكذبا حين زعموا أن القرآن ليس من الله. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5] أي: ما سطره الأولون من أحاديث المتقدمين، وذلك أن النصر بن الحارث، قال: هذا القرآن أحاديث الأولين مثل حديث أسفنديار ورستم. {اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] انتسخها محمد من عداس وجبر ويسار، ومعنى اكتتب: أمر أن يكتب له، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يك كاتبا، {بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5] غدوة وعشيا، قالوا: هؤلاء الثلاثة يعلمون محمدا طرفي النهار. قال الله تعالى: {قُلْ} [الفرقان: 6] لهم يا محمد: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} [الفرقان: 6] أنزل القرآن الذي لا يخفى عليه شيء، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا} [الفرقان: 6] لأوليائه، {رَحِيمًا} [الفرقان: 6] بهم. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا {7} أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا {8} انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا {9} تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا {10} بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا {11} إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا {12} وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا {13} لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا {14} } [الفرقان: 7-14] {وَقَالُوا} [الفرقان: 5] يعني المشركين، {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] أنكروا أن يكون

الرسول بشر يأكل الطعام ويمشي في الطريق كما يمشي سائر الناس، يطلب المعيشة، والمعنى أنه ليس يملك ولا ملك، وذلك أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، والملوك لا يتسوقون ولا يتبدلون، فعجبوا من ذلك أن يكون مثلهم في الحال لا يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وقوله: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سل ربك أن ينزل معك ملكا يصدقك بما تقول حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا، ويجعل لك جنانا وكنوزا يغنيك بها عن طلب المعاش. وهو قوله: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] قال ابن عباس، ومقاتل: أو ينزل إليه مال من السماء. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} [الفرقان: 8] بستان، {يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 8] من ثمارها، من قرأ بالنون أراد أنه يكون له بذلك مزية علينا في الفضل بأن نأكل من جنته، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} [الفرقان: 8] المشركون للمؤمنين، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] ما تتبعون إلا مخدوعا مغلوبا على عقله. {انْظُرْ} [الفرقان: 9] يا محمد، {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الفرقان: 9] يعني: حين مثلوه بالمسحور وبالمحتاج المتروك والناقص عن القيام بالأمور، {فَضَلُّوا} [الفرقان: 9] بهذا يعني الهدى، {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الفرقان: 9] لا يجدون إلى الحق طريقا، وقال مقاتل: لا يجدون مخرجا مما قالوا. يعني أنهم كذبوا فيما زعموا فلزمهم ذلك الكذب، ولم يجدوا منه مخرجا، حجة أو برهان. ثم أخبر الله تعالى أنه لو شاء لأعطى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدنيا خيرا مما قالوا، فقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] الذي قالوا أو أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا، وهو قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفرقان: 10] يعني: في الدنيا، لأنه قد شاء أن يعطيه إياها في الآخرة، وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] من قرأ بالجزم كان المعنى: إن شاء يجعل لك قصورا، قال الزجاج: أي سيعطيك الله في الآخرة أكثر مما قالوا. ثم أخبر عن تكذيبهم بالبعث، وأوعدهم على ذلك بالنار، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 11] نارا تتلظى. ثم وصف ذلك السعير، فقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] قال الكلبي، والسدي، ومقاتل: من مسيرة مائة عام. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان: 12] أي: صوت تغيظ كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ، وهو الغضب {وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] قال عبيد بن عمير: إن جهنم لتذفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك مقرب إلا خر لوجهه. {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} [الفرقان: 13] من جهنم، {مَكَانًا ضَيِّقًا} [الفرقان: 13] قال المفسرون: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» . {مُقَرَّنِينَ} [الفرقان: 13] قال مقاتل: موثقين في الحديد، قرنوا مع الشياطين، {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] دعوا بالويل على أنفسهم والهلاك، كما يقول القائل:

واهلاكاه. 667 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَالْعَدْلُ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْلِيسُ حُلَّةً مِنَ النَّارِ، يَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ، فَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاثُبُورَاهُ، وَهُمْ يُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَيُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا، وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا " قال الزجاج: أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. ثم ذكر ما وعد المؤمنين، فقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا {15} لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا {16} } [الفرقان: 15-16] {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان: 15] يعني: السعير خير، {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15] وهذا على التنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين لا على أن في السعير خير، وقوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} [الفرقان: 15] أي: ثوابا ومرجعا. {لَهُمْ فِيهَا} [الفرقان: 16] أي أن في جنة الخلد، {مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان: 16] أي: القدر الذي يشاءون، {خَالِدِينَ} [الفرقان: 16] كان ذلك الخلود والدخول، {عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا} [الفرقان: 16] وذلك أن الله وعد المؤمنين الجنة على لسان الرسل، فسألوه ذلك الوعد في الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] وقال القرظي: إن الملائكة تسأل لهم ذلك. وهو قوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} [غافر: 8] الآية. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ {17} قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا {18} فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا {19} } [الفرقان: 17-19] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} [الفرقان: 17] يجمعهم يعني: كفار مكة والمشركين، ومن كان يعبد غير الله، {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان: 17] قال مجاهد: يعني عيسى وعزيرا والملائكة. وقال عكرمة، والضحاك، والكلبي: يعني الأصنام. ثم يأذن لها في الكلام ويخاطبها، {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17] أنتم أمرتموهم بعبادتكم؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17] أم هم أخطأوا الطريق؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] نزهوا الله من أن يكون معه إله، {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا، أي: فكيف ندعو إلى عبادتنا إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فذكر

من جواب المعبودين ما دل على أنهم لم يأمروهم بعبادتهم. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بالله بقولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} [الفرقان: 18] قال ابن عباس: أطلت لهم العمر، وأفضلت عليهم، ووسعت لهم في الرزق. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان: 18] تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 18] فاسدين هالكين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان، يقال: رجل بائر وقوم بور، وهو الفاسد الذي لا خير فيه. فيقال للكفار حينئذ: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] أن كذبكم المعبودون بقولهم لكم أنهم آلهة شركاء لله، ومن قرأ بالياء كان المعنى: كذبوهم بقولهم {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} [الفرقان: 18] الآية، وقوله: فما يستطيعون صرفا أي: ما يستطيع المعبود صرف العذاب عنكم، ومن قرأ بالتاء فالمعنى: ما تستطيعون أيها المتخذون الشركاء صرفا {وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] من العذاب لأنفسكم ولا أن تنصروا أنفسكم بمنعها من العذاب، وعلى قراءة العامة: وإلا أن ينصروكم من عذاب الله وبدفعه عنكم، {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} [الفرقان: 19] يشرك بالله، {نُذِقْهُ} [الفرقان: 19] في الآخرة، {عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] شديدا. ثم رجع إلى مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعزيه، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الفرقان: 20] كما تأكل أنت، {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] قال الزجاج: هذا احتجاج عليهم في قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ فقيل لهم: كذلك كان من خلا من الرسل، فكيف يكون محمد بدعا منهم. وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] بلية أبتلي الشريف بالوضيع والعربي بالمولى، فإذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله، أنف وقال: أسلم بعده فيكون له عليّ السابقة والفضل، فيقيم على كفره، ويمتنع من الإسلام، فذلك افتتان بعضهم ببعض، وهذا قول الكلبي، واخيار الفراء، والزجاج. وقال مقاتل: هذا في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش، كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالينا، فقال الله لهؤلاء الفقراء: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] على الأذى والاستهزاء. {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] أن صبرتم فصبروا، فأنزل الله فيهم {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111] ، {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] عمن يجزع وعمن يصبر. {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا {21} يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا {22} وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا {23} أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا {24} } [الفرقان: 21-24]

قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21] يخافون البعث، {لَوْلا} [الفرقان: 21] هلا، {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] فكانوا رسلا إلينا، {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] فيخبرنا أنك رسول، قال الله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21] تكبروا حيث سألوا من الآيات ما لم تسأله آية، {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] غلوا في القول غلوا شديدا حين قالوا: نرى ربنا. وإنما وصفوا بالعتو عند طلب الرؤية لأنهم طلبوها في الدنيا عنادا للحق وإباء على الله ورسوله في طاعتهما، والعتو مجاوزة القدر في الظلم. ثم أعلم الله أن الموقف الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وأن الله حرمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] يعني: يوم القيامة، {لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] لا بشارة لهم في الجنة والثواب، قال الزجاج: والجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله. {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] قال عطاء، عن ابن عباس: تقول الملائكة: حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله. وقال مقاتل: إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة: حراما محرما عليكم أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى كما يبشر المؤمنون. قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] أي: قصدنا وعمدنا، قال ابن عباس: لم يكن الله غائبا عن أعمالهم، ولكن يريد وعمدنا إلى أعمالهم التي عملوها في الدنيا، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] قال ابن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس، شبيه بالغبار. وهذا قول المفسرين، والمنثور المفرق، والمعنى: إن الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. ثم ذكر فضل أهل الجنة على أهل النار فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} [الفرقان: 24] يعني: يوم القيامة، {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] أفضل منزلا في الجنة، {وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] موضع قائلة، قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها. قال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا {25} الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا {26} وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا {29} } [الفرقان: 25-29] قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان: 25] عطف على قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] وفي تشقق قراءتان: بتشديد الشين، وتخفيفها، فمن شدد أدغم التاء في الشين، والأصل تتشقق، ومن خفف حذف ولم يدغم. وقوله: {السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25] قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، أي وعليه سلاحه، وإنما تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس، ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء

التي قبلها. {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] أي: الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة، قال ابن عباس: يريدون أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره. {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] عسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته، ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلوها في دار الدنيا، وفي الآية تبشير للمؤمنين حيث خص الكافرين بشدة ذلك اليوم. قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] قال مجاهد: إن عقبة بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام، فأبى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأكل، وقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك أبي بن خلف، وكان خليلا له، فقال: صبوت يا عقبة. فقال: لا والله ما صبوت، وإن أخاك على ما تعلم، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى قلت ذلك، وليس من نفسي. فأنزل الله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان: 27] يعني: عقبة على يديه تحسرا وندما، قال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين، ثم تنبتان، لا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] ليتني اتبعت محمدا واتخذت معه سبيلا إلى الهدى. {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] يعني أبيا. {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 29] صرفني وردني عن القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع الرسول، وتم الكلام ههنا، ثم قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان: 29] يعني: الكافر يتبرأ منه يوم القيامة. قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا {30} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا {31} } [الفرقان: 30-31] {وَقَالَ الرَّسُولُ} [الفرقان: 30] يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو قومه إلى الله، {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] قال ابن عباس: هجروا القرآن وهجروني وكذبوني. وقال مقاتل: تركوا الإيمان بالقرآن وجانبوه. والمعنى: جعلوه مهجورا متروكا لا يستمعونه ولا يتفهمونه. فعزاه الله عز وجل، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] أي: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه، قال مقاتل: يقول لا يكبرن عليك فإن الأنبياء قبلك قد لقيت هذا التكذيب من قومهم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] هاديا لك وناصرا لك على أعدائك. قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا {32} وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا {33} الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا {34} } [الفرقان: 32-34] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] قال الكفار لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هلا أتيتنا بقرآن

جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور. والمعنى: هلا نزل عليه القرآن في وقت واحد، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ} [الفرقان: 32] أي: أنزلناه متفرقا، {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] لنقوي به قلبك فيزداد بصيرة، وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل أمر وحادثة كان ذلك أزيد في بصيرته وأقوى لقلبه، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] قال ابن عباس: بيناه تبيينا. وقال السدي: فصلناه تفصيلا. وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين. قوله: {وَلا يَأْتُونَكَ} [الفرقان: 33] يعني المشركين، {بِمَثَلٍ} [الفرقان: 33] يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك، {إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 33] بالذي هو الحق لترد به خصومتهم وتبطل به كيدهم، {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] مما أتوا به من المثل، أي بيانا وكشفا، والتفسير: تفصيل من الفسر، وهو كشف ما غطي. قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] قال مقاتل: هم كفار مكة، وذلك أنهم قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه: هم شر خلق الله. فقال الله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [الفرقان: 34] منزلا ومصيرا، {وَأَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 34] دينا وطريقا من المؤمنين. 668 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَحَامِلِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا {35} فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا {36} وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا {37} وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا {38} وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا {39} وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا {40} } [الفرقان: 35-40] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35] قال مقاتل، والكلبي: معينا على الرسالة. {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الفرقان: 36] يعني: فرعون وقومه، وذلك أنهم كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه، {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] أهلكناهم بالعذاب إهلاكا. {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] قال الزجاج: من كذب نبيا فقد كذب جميع الأنبياء. {أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] بالطوفان، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} [الفرقان: 37] من بعدهم، {آيَةً} [الفرقان: 37] عبرة ودلالة على قدرتنا، قال ابن عباس: وهذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتخويف للمشركين. {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان: 37] سوى ما حل بهم في الدنيا. وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ} [الفرقان: 38] تقدم تفسيره، {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان: 38] قال السدي: هو بئر بأنطاكية، قتلوا فيها حبيبا النجار، فنسبوا إليها. وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، قال: سألته عن أصحاب الرس. فقال: هم الذين قتلوا صاحب ياسين الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] ورسوه

في بئر لهم يقال له الرس، أي دسوه فيها. وقال قتادة: حدثنا أن أصحاب الرس كانوا أهل فلج باليمامة، وآبار كانوا عليها. وقال وهب: كانوا أهل بئر نزولا عليها، وأصحاب مواشي، فكذبوا شعيبا، فانهارت البئر بهم وبمنازلهم، فهلكوا جميعا. وقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] أي: وأهلكنا قرونا بين عاد إلى أصحاب الرس. {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} [الفرقان: 39] قال مقاتل: وكلا بينا لهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا. {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 39] أهلكنا بالعذاب إهلاكا، قال الزجاج: وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. {وَلَقَدْ أَتَوْا} [الفرقان: 40] يعني: كفار مكة، {عَلَى الْقَرْيَةِ} [الفرقان: 40] يعني: قرية لوط، {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] يعني: الحجارة، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40] في أسفارهم إذا مروا بها فيخافوا ويعتبروا، ثم أخبر أن الذي جرأهم على التكذيب أنهم لا يصدقون بالبعث، فقال: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 40] لا يخافون بعثا ولا يصدقون به. قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا {41} إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا {42} أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا {43} أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا {44} } [الفرقان: 41-44] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} [الفرقان: 41] وما يتخذونك إلا مهزوءا به، ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء، فقال: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] أي: إذا رأوك قالوا: أهذا الذي بعثه الله إلينا رسولا؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42] قال ابن عباس: لقد كاد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا. {لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] أي: على عبادتها، قال الله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان: 42] في الآخرة عيانا، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 42] من أخطأ طريقا عن الهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم عجب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نهاية جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى، فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] قال عطاء، عن ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة إلهه وخالفه، ثم هوى حجرا فعبده، ما حاله عندي؟ قال مقاتل: وذلك إن الحارث بن قيس السهمي هوي حجرا فعبده. وقال سعيد بن جبير: كان أهل الجاهلية ليعبدون الحجر، فإذا رأوا أحسن منه أخذوه وتركوا الأول. وقال الحسن: يقول: لا يهوى شيئا إلا اتبعه. وقال ابن قتيبة: يقول: يتبع هواه ويدع الحق فهو كالإله له. والمعنى أنه أطاع هواه وركبه فلم يبال عاقبة ذلك، وقوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43] أي: أفأنت عليه كفيل حافظ يحفظه عليه من أتباع هواه وعبادة ما يهوى من دون الله، أي: ليست كذلك، قال الكلبي: نسختها آية القتال. {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] .

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا {45} ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا {46} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا {47} } [الفرقان: 45-47] قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] قال مقاتل: ألم تر إلى فعل ربك، ثم حذف المضاف. وقال الزجاج: ألم تر ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب. وذكر أن هذا على القلب بتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك، يعني: الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس، وهو ظل لا شمس معه، فهو ظل ممدود. {وَلَوْ شَاءَ} [الفرقان: 45] الله، {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] دائما لا يزول ولا تنسخه الشمس، ومعنى ساكنا: مقيما، كما يقال فلان: يسكن بلد كذا إذا قام به. وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} [الفرقان: 45] قال ابن عباس: تدل الشمس على الظل، يعني أنه لولا الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، فكل الأشياء تعرف بأضدادها. وقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] قال الكلبي: إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضا خفيا. والمعنى: ثم جمعنا أجزاء الظل المنبسط بتسليط الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا. قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47] يعني أن ظلمته تلبس كل شخص وتغشاه كاللباس الذي يشتمل على لابسه، والله تعالى ألبسنا الليل وغشاناه لنسكن فيه، كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] وقوله: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: 47] قال الزجاج: السبات أن تنقطع عن الحركة والروح في يديه. أي: جعلنا نومكم راحة لكم. {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47] قال ابن عباس، ومقاتل: ينتشرون فيه لابتغاء الرزق. والنشور ههنا معناه التفرق والانبساط في التصرف. {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا {48} لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا {49} وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا {50} } [الفرقان: 48-50] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] سبق الكلام فيه في { [الأعراف وقوله:] وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [سورة الفرقان: 48] قال الأزهري: الطهور في اللغة الطاهر المطهر، والطهور ما يتطهر به، كالوضوء الذي يتوضأ به، والفطور ما يفطر عليه، ومنه الحديث: «هو الطهور ماؤه» . قال ابن عباس: يريد المطر. وقال مقاتل: طهورا للمؤمنين. {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت، قال ابن عباس: لنخرج به النبات والثمار، وإنما قال ميتا لأنه أريد بالبلدة المكان. {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان: 49] أي: ونسقي من ذلك الماء أنعاما وبشرا كثيرا، وهو قوله: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] واحدها إنس. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] أي: صرفنا الماء المنزل من السماء مرة لبلدة ومرة لبلدة أخرى. قال ابن عباس: ما عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض. ثم قرأ هذه الآية، وهذا كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم

بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» . وقوله: {لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50] أي: ليتفكروا في قدرة الله وموضع النعمة منه بما أحيا بلادهم به من الغيث، ويحمدوه على ذلك. ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: ليذكروا موضع النعمة به فيشكروه، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] إلا كفرا بالله وبنعمته، وهم الذين يقولون: مطرنا بنوء كذا. وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا {51} فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {52} وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا {53} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا {54} } [الفرقان: 51-54] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان: 51] ينذرهم، ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولا لعظم كرامتك لدينا. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان: 52] وذلك حين دعي إلى دين آبائه، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان: 52] بالقرآن، {جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] تاما شديدا. {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] أرسلهما في مجاريهما، أو خلاهما كما ترسل الخيل في المرج، وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، وهو قوله: {هَذَا} [الفرقان: 53] يعني: أحد البحرين، {عَذْبٌ} [الفرقان: 53] طيب، يقال: عذب عذوبة فهو عذب. {فُرَاتٌ} [الفرقان: 53] الفرات أعذب المياه، يقال: فرت الماء يفرت فروتة إذا عذب، فهو فرات. {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] شديد الملوحة، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان: 53] حاجزا من قدرة الله، {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] حراما أن يفسد الملح العذب. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54] خلق من النطفة إنسانا، {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] الصهر حرمة الختونة، والمعنى: فجعله ذا نسب وصهر، قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة، يجمعها قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ومن هنا إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] تحريم الصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة، وهو السبب المحرم للنكاح كالنسب المحرم، حرم الله سبعة أصناف من النسب، وسبعة من جهة الصهر، ستة في الآية التي ذكر فيها المحرمات، والسابقة في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] . {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] على ما أراد. قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا {55} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {56} قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {57} وَتَوَكَّلْ عَلَى

الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا {58} الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {59} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا {60} } [الفرقان: 55-60] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ} [الفرقان: 55] أن عبدوه، {وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] إن لم يعبدوه، {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 55] الظهير: العون المعين، قال الحسن: عونا للشيطان على ربه بالمعاصي. وقال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان. قال المفسرون: عنى بالكافر أبا جهل. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا} [الفرقان: 56] بالجنة، {وَنَذِيرًا} [الفرقان: 56] من النار. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [الفرقان: 57] على القرآن وتبليغ الوحي، {مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] وفي هذه تأكيد لصدقه، لأنه لو طلب على دعائهم إلى الله شيئا من أموالهم لقالوا: إنما تطلب أموالنا. وقوله: {إِلا مَنْ شَاءَ} [الفرقان: 57] معناه لكن من شاء، {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [الفرقان: 57] بإنفاق ما له فعل ذلك، والمعنى: لا أسئلكم لنفسي أجرا، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى مرضاة الله. قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] تفسير هذه الآية ظاهر. وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ} [الفرقان: 59] مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [سورة الفرقان: 59] قال الكلبي: يقول: فاسأل الخبير بذلك. يعني بها: ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، وهذا الخطاب ظاهرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به غيره، كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] الآية. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [الفرقان: 60] لكفار مكة، {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة. قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأولى، ولكنهم لم يكونوا يعرفونه من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروه. ف {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60] استفهام إنكاري، أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له. ومن قرأ بالياء بالمعنى: أنسجد لما يأمرنا، محمد بالسجود له. {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] قال مقاتل: زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان. قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا {61} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا {62} } [الفرقان: 61-62] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد بروج النجوم، يعني منازلها الاثني عشر. وقال الحسن، ومجاهد: هي النجوم الكبار. وهو قول قتادة، سميت بروجا لظهورها. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] يعني الشمس، كقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] وقرأ حمزة سرجا قال الزجاج: أراد بالشمس

والكواكب معها، ومن حجة هذه القراءة قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل، لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده. قال الفراء: يقول: يذهب هذا ويجيء هذا. وقال ابن زيد: يخلف أحدهما صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان. وقال قتادة: إن المؤمن قد ينسى بالليل ويتذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل. وقال الحسن: جعل أحدهما خلفا للآخر، فإن فات رجلا من النهار شيء أدركه بالليل، وإن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار. وهو قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] وقرأ حمزة مخففا على معنى أنه يذكر الله بتسبيحه فيهما، قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وفي حرف عبد الله وتذكروا ما فيه. وفي جعل الله تعالى الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما صاحبه اعتبار واستدلال على قدرته، ومتسع لذكره وطاعته أيضا. وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] يقال: شكر يشكر شكورا وشكرا، ومنه قوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] قال ابن عباس: يريد لمن أراد أن يتعظ ويطيعني. وقال مجاهد: شكر نعمة ربه عليه فيهما. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا {63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا {64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا {65} إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا {67} } [الفرقان: 63-67] قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] الهون: مصدر الهين في السكينة والوقار، يقال: هو يمشي هونا. قال الحسن، وعطاء، والضحاك، ومقاتل: حلماء متواضعين يمشون في اقتصاد. وقال قتادة: تواضعا لله لعظمته. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان: 63] يعني السفهاء، {قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] قال ابن عباس: لا يجهلون مع من يجهل. وقال الحسن: يقول: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا. وقال قتادة: كانوا لا يتجاهلون أهل الجهل. وقال مقاتل بن حيان: قالوا سلاما. أي: قولا يسلمون فيه من الإثم. قال الحسن: هذا صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربهم، يراوحون بين أطرافهم. وهو قوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، يبيت نام أو لم ينم، يقال: بات فلانا قلقا، والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة سجدا وقياما. وذكر الكلبي، عن ابن عباس، قال: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] الغرام: العذاب اللازم أو الشر اللازم. قال مقاتل: إن عذابها لازم كلزوم الغريم للغريم. وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66] إن جهنم بئس موضع قرار

وإقامة هي. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] يقال: قتر الرجل على عياله يقتر، وقتر قترا، وأقتر اقتارا، إذا ضيق ولم ينفق إلا قدر ما يمسك الرمق. قال أبو عبيدة: وهي ثلاث لغات معناها لم يضيقوا في الإنفاق. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أي: كان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافا يدخل في حد التبذير، ولا تطبيقا يصبر به في حد المانع لما يجب، وهذا هو المحمود من النفقة. وعد عمر رضي الله عنه من الإسراف أن لا يشتهي الرجل شيئا إلا أكله، وقال: كفى بالمرء سرفا أن يأكل كلما يشتهي. وقال قتادة: الإسراف النفقة في معصية الله، والإقتار الإمساك عن حق الله، والقوام من العيش ما أقامك وأغناك. قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا {69} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {70} وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {71} } [الفرقان: 68-71] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ناسا من أهل الشرك قتلوا وزنوا وأكثروا، ثم أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: إن الذي تدعوا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة. فنزلت هذه الآية. 669 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا وَالِدِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورِ عّنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ وقوله:} وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ { [الفرقان: 68] قال مقاتل: هذه الخصال جميعا. } يَلْقَ أَثَامًا { [الفرقان: 68] أي: عقوبة وجزاء لما فعل. قال الفراء: آثمه الله إثما وأثاما، أي جازاه جزاء الإثم. وقال المفسرون: أثام واد في جهنم من دم وقيح. ثم ذكر ما يجازى به، وفسر لقي الآثام بقوله:} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا { [الفرقان: 69] ومن رفع} يُضَاعَفْ { [الفرقان: 69] ،} وَيَخْلُدْ { [الفرقان: 69] استأنف وقطعه مما قبله. قوله:} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [الفرقان: 70] قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بمكة، وكان المشركون قالوا: ما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله، وآتينا الفواحش، فنزلت هذه الآية. 670 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسٍ

الشَّافِعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَنَتَيْنِ {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} . . . . الآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرِحَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُ بِهَا، وَبِـ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، قَالَ قَتَادَةُ: إِلا مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَآمَنَ بِرَبِّهِ، وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] قال: التبديل في الدنيا طاعة الله بعد عصيانه، وذكر الله بعد نسيانه، والخير يعمله بعد الشر. وقال الحسن: أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح، وبالشرك إخلاصا وإسلاما، وبالفجور إحصانا. وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: يبدل الله سيآتهم يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشرك إيمانا، وبقتل النفس التي حرم الله قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا. وذهب قوم إلى أن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، وهو قول سعيد بن المسيب، ومكحول، وعمرو بن ميمون، واحتجوا بالحديث الصحيح الذي 671 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ لا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكِبَارِ، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إِنَّ لِي كِبَارَ ذُنُوبٍ مَا أَرَاهَا هَهُنَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِدَهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَعْمَشِ 672 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُطَّةَ، نا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْجدِّيُّ، نا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْصِيُّ، نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَوِيلٌ شَطْبٌ مَمْدُودٌ، فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلا دَاجَةً إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: هَلْ أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ الشَّرَّاتِ يَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى " قوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان: 71] قال ابن عباس في رواية عطاء: ومن آمن. يعني: ممن لم يقتل، ولم يزن وعمل

صالحا، يريد الفرائض، فإنه يتوب إلى الله متابا. قال: يريد أني فضلتهم وقدمتهم على من قاتل نبيي، واستحل محارمي. وعلى هذا معنى الآية: ومن تاب من الشرك وعمل صالحا، ولم يكن من القبيل الذين زنوا وقتلوا، فإنه يتوب إلى الله، أي يعود إليه بعد الموت، متابا حسنا، يفضل على غيره ممن قتل وزنا، فالتوبة الأولى رجوع عن الشرك، والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة. {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا {72} وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا {73} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا {74} } [الفرقان: 72-74] وقوله: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أكثر المفسرين على أن الزور ههنا بمعنى الشرك، قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله. وقال قتادة: لا يشهدون الزور، لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وقال محمد ابن الحنفية: لا يشهدون الزور، اللهو والغناء. وقال علي بن أبي طلحة: يعني شهادة الزور. وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] يعني: بالمعاصي كلها، قاله الحسن، والكلبي. {مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] مروا مرّ الكرماء الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يجلون عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله، يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه. والمعنى: مروا منزهين أنفسهم، معرضين عنه، ويكون التقدير وإذا مروا بأهل اللغو وذوي اللغو مروا كراما، فلم يجاوروهم فيه، ولم يخوضوا معهم فيه. {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الفرقان: 73] قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن. {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] يقول: لم يقعوا عليها صما لم يسمعوها، وعميا لم يبصروها، ولكنهم سمعوا وأبصروا وانتفعوا بها. وقال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يروها. وقال الحسن: كم من قارئ يقرأها يخر عليها أصم أعمى. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان: 74] الذرية تكون واحدا وجمعا، فكونها للواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] ، وكونها للجمع قوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] فمن أفرد في هذه الآية استغنى عن جمعها لما كانت للجمع، ومن جمع فلأن الأسماء التي للجمع قد تجمع، نحو: قوم وأقوام، ورهط وأرهاط. وقوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] القرة مصدر، يقال:

قرت عينه قرة. قال ابن عباس: يريد أبرارا أتقياء. وقال مقاتل: يقولون: اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك. وقال القرظي: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] أي: يقتدى بنا في الخير، قال مكحول: أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقال قتادة: قادة في الخير. قال الفراء: إنما قال إماما ولم يقل أئمة، كما قال: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] للاثنين، يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. قال مقاتل: أخبر الله تعالى عن أعمالهم، ثم أخبر عن ثوابهم، فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {76} قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا {77} } [الفرقان: 75-77] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75] وهي كل بناء عال مرتفع، قال مقاتل: يعني غرف الجنة. وقال عطاء: يريد غرف الزبرجد والدر والياقوت. {بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] أي: على دينهم، وعلى أذى المشركين، وقال مقاتل: على أمر الله. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} [الفرقان: 75] وقرئ بالتخفيف، فمن شدد فحجته قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} [الإنسان: 11] ، ومن خفف فحجته قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] . وقوله: {تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان: 75] يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب تعالى بالسلام. قوله: {خَالِدِينَ} [الفرقان: 76] مقيمين، {فِيهَا} [الفرقان: 76] من غير موت ولا زوال، {حَسُنَتْ} [الفرقان: 76] الغرف، {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76] . قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان: 77] العبوء قلة المبالاة، يقال: عبأ عبئا ومعابأة. قال أبو عبيدة: يقال: ما عبأت به شيئا، أي: لم أعره اهتماما، فوجوده وعدمه عندي سواء. وقال الزجاج: تأويل {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} [الفرقان: 77] أي: وزن يكون لكم عنده. وقال مجاهد: ما يفعل بكم ربي. وقال ابن عباس: ما يصنع بكم ربي. {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام، ومعنى الآية: أي مقدار ووزن لكم عند الله، لولا أنه خلقكم لتعبدوه وتطيعوه. وهذا معنى قول ابن عباس، أي: إنما أريد منكم أن توحدوني. وقال مقاتل، والكلبي، والزجاج: لولا عبادتكم وتوحيدكم إياه. وفيه دليل على أن من لا يعبد الله، ولا يوحده، ولا يطيعه، لا وزن له عند الله. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] الخطاب لأهل مكة، أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوا دعوته، {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] تهديد لهم، قال الزجاج: تأويله فسوف يكون تكذيبهم لزاما يلزمكم، فلا تعطون التوبة. والمفسرون يقولون في تفسير اللزام أنه يوم بدر، والمعنى أنهم قتلوا يوم بدر، واتصل به عذاب الآخرة لازما لهم فلحقهم الوعيد الذي ذكر الله ببدر.

سورة الشعراء

سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان. 673 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِنُوحٍ وَكَذَّبَ بِهِ، وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَبِعَدَدِ مَنْ كَذَّبَ بِعِيسَى، وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجْمَعِينَ» {طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {3} إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ {4} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ {5} فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {6} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {7} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {8} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {9} } [الشعراء: 1-9] بسم الله الرحمن الرحيم {طسم} [الشعراء: 1] قال الوالبي، عن ابن عباس: {طسم} [الشعراء: 1] قسم، وهو من أسماء الله عز وجل. وقال مجاهد: هو اسم لل { [. وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن. وقال القرظي: قسم الله بطوله وسنائه وملكه. وباقي ال: وقد تقدم تفسيره. ] لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] فسرناه في { [الكهف. قال المفسرون: لما كذبت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شق ذلك عليه، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه ال:، وهي كالإنكار عليه، وذلك أنه كان يعلم أن الله إن لم يهدهم لم يهتدوا، فما يغني عنهم حرصه، ومعنى الآية: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان. ثم أعلم أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك، فقال:] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قال ابن جريج: لو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية. وقال قتادة: لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله. وذلك قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] جعل الفعل أولا للأعناق، ثم جعل خاضعين للرجال، وذلك أن الأعناق إذا خضعت فأصحابها خاضعون. قال الأخفش: يجعل الخضوع مردودا على المضمر الذي أضيفت الأعناق إليه. وقال جماعة من المفسرين: المراد بالأعناق الجماعات، يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي: جماعات جماعات. قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الشعراء: 5] أي: وعظ وتذكير من الله، يعني القرآن، {

مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] في الوحي والتنزيل، قال الكلبي: كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء، فهو أحدث من الأول. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الشعراء: 6] الآية مفسرة في { [الأنعام. ثم ذكر ما يدلهم على قدرته، فقال:] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ} [سورة الشعراء: 7] يعني المكذبين، {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} [الشعراء: 7] بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] من كل صنف وضرب حسن في المنظر مما يأكل الناس والأنعام، قال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم محمود فيما يحتاج إليه، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 8] يعني: ما ذكر من الإنبات في الأرض، {لآيَةً} [الشعراء: 8] تدل على أن الله قادر لا يعجزه شيء، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] في علم الله، يقول: قد سبق في علمي أن أكثرهم لا يؤمنون. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} [الشعراء: 9] المنتقم من أعدائه، {الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] بأوليائه. {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10} قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ {11} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ {12} وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ {13} وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ {14} قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ {15} فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {16} أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ {17} قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ {18} وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {19} قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ {20} فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} } [الشعراء: 10-22] {وَإِذْ نَادَى} [الشعراء: 10] واتل على قومك إذ نادى الله، {مُوسَى} [الشعراء: 10] حين رأى الشجرة والنار، بأن قال له: يا موسى {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] يعني: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب. ثم أخبر عنهم، فقال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] ألا يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. {قَالَ} [الشعراء: 12] موسى: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] بالرسالة، ويقولون: لست من عند الله. {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] بتكذيبهم إياي، {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] لا ينبعث بالكلام للعلة التي كانت بلسانه، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء: 13] جبريل ليكون معي معينا. {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] قتلت منهم قتيلا، يعني الرجل الذي وكزه فقضى عليه، والمعنى: ولهم عليّ دعوى ذنب، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] . {قَالَ} [الشعراء: 15] الله: {كَلَّا} [الشعراء: 15] لن يقتلوك به لأني لا أسلطهم عليك، {فَاذْهَبَا} [الشعراء: 15] أنت وأخوك، {بِآيَاتِنَا} [الشعراء: 15] أي: ما أعطاهما من المعجزة، {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] قال ابن عباس: يريد نفسه. وهذا كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وإنما قال معكم لأنه أجراهم مجرى الجماعة، والمعنى: نسمع ما تقولونه وما يجيبونكما به. {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] الرسول واحد في موضع التثنية ههنا، كما قال: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] . {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17] أي بأن أرسلهم وأطلقهم من الاستبعاد، وحل عنهم، فأتياه وبلغاه الرسالة. فقال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] صبيا صغيرا، وذلك أنه ولد فيهم، ثم كان فيما بينهم حتى صار رجلا، وهو قوله: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] قال ابن عباس: ثمانية عشر سنة. وقال

مقاتل: ثلاثين سنة. وقال الكلبي: أربعين سنة. {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] يعني قتل القبطي. {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] قال الحسن، والسدي: أي بإلهك، كنت معنا على ديننا الذي تصيب. وقال الفراء: وأنت من الكافرين لنعمتي ولتربيتي. وهذا قول مقاتل، وعطاء، وعطية. {قَالَ} [الشعراء: 20] موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي: فعلت تلك الفعلة وأنا من الجاهلين، لم يأتني من الله شيء. {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ} [الشعراء: 21] ذهبت من بيتكم حذرا على نفسي إلى مدين، {لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21] أن تقتلوني بمن قتلته، {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21] نبوة، وقال مقاتل: يعني العلم والفهم. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} } [الشعراء: 21-22] يقال: استعبدت فلانا وأعبدته وتعبدته وعبدته أخذته عبدا. قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار، أن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: إنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليم، فكيف تمن عليّ بما كان بلاؤك سببا له. وزاد الأزهري هذا بيانا، فقال: إن فرعون لما قال لموسى: ألم نربك فينا وليدا، فاعتد عليه بأن رباه وليدا منذ ولد إلى أن كبر، فكان من جواب موسى له: وتلك نعمة تعتد بها عليّ لأنك عبدت بني إسرائيل، ولو لم تتعبدهم لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم، أي: فإنما صارت لك نعمة عليّ لما أقدمت عليه من ما حظره الله عليك. قال المبرد: يقول: التربية كانت بالسبب الذي ذكر من التعبد، أي: تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {23} قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {24} قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ {25} قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {26} قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ {27} قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ {28} } [الشعراء: 23-28] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال محمد بن إسحاق: يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي: ما إلهك هذا؟ فأجابه موسى بما يدل عليه من خلقه ما يعجز المخلوقون على أن يأتوا بمثله. {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] أنه خلق ذلك، فلما قال موسى ذلك تحير فرعون ولم يرد جوابا ينقض به هذا القول. ف {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] قال ابن عباس: يريد ألا تستمعون مقالة موسى. فزاد موسى في البيان، ف {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] أي: الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم من آبائكم، فلم يجبه فرعون أيضا بما ينقض قوله، وإنما قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] أي: ما هذا بكلام صحيح، إذ يزعم أن له إلها غيري، فلم يشتغل موسى بالجواب عما نسبه إليه من الجنون، ولكنه اشتغل بتأكيد الحجة والزيادة في الإبانة. ف {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] توحيد الله، وقال أهل المعاني: إن كنتم ذوي عقول لم يخف عليكم ما أقول، فلم يجبه فرعون في هذه الأشياء بنقض لحجته بل. {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ {29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ {30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ {32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ {33} قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {35} قَالُوا

أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {36} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ {37} } [الشعراء: 29-37] {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] أي: أحسبنك مع من حبسته في السجن. ف {قَالَ} [الشعراء: 30] موسى حين توعده بالسجن: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30] يعني: أتسجنني ولو جئتك بأمر ظاهر تعرف فيه صدقي وكذبك، وبعد هذا مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {38} وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ {39} لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ {40} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {42} قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ {43} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ {44} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {45} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {46} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {48} } [سورة الشعراء: 38-48] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 38] وهو يوم عيدهم، يوم الزينة. {وَقِيلَ لِلنَّاسِ} [الشعراء: 39] لأهل مصر: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء: 39] لتنظروا ما يفعل الفريقان. {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} [الشعراء: 40] على أمرهم، {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] لموسى وأخيه. وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {49} قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ {50} إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ {51} } [الشعراء: 49-51] {لا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] أي: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا بالمغفرة، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] راجعون في الآخرة. {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء: 51] مفسر في { [طه،] أَنْ كُنَّا} [سورة الشعراء: 51] لأن كنا، {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] بآيات موسى من جملة السحرة وغيرهم، وفي هذا الحال. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ {52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {53} إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ {54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ {55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ {56} فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ {59} } [الشعراء: 52-59] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [الشعراء: 52] مفسر في { [طه،] إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [سورة الشعراء: 52] يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر. {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] يحشرون الناس ويجمعون له الجيش. وقال فرعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ} [الشعراء: 54] يعني: بني إسرائيل، {لَشِرْذِمَةٌ} [الشعراء: 54] عصابة، قال المبرد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم. وقوله: {قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] قال الفراء: يقال عصبة قليلة وقليلون، وكثيرة وكثيرون.

قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين ملكهم فرعون ست مائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. قوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] يقال: غاظه وأغاظه وغيظه إذا أغضبه، والغيظ الغضب، ومنه قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] . قال مقاتل: وإنهم لنا لغائظون بقتلهم أبكارنا، ثم هربهم منا. وقال غيره: أي بما أخذوه من العواري التي اتخذوها في الحلي، وخروجهم من أرضنا على مخالفة لنا. وإنا لجميع حذرون وقرئ حاذرون قال الفراء: الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا. وقال الزجاج: الحاذر المستعد، والحذر المتيقظ. وقال أبو عبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر. وأهل التفسير يقولون في تفسير حاذرون مؤدون مقوون، أي: ذوو أداء وقوة مستعدون شاكرون. ومعنى حذرون: خائفون شرهم. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} [الشعراء: 57] يعني: فرعون وقومه، {مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] قال مقاتل: يعني البساتين. {وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] أنهار جارية. {وَكُنُوزٍ} [الشعراء: 58] يعني: الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، سمي كنزا لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط حق الله منه فهو كنز، وإن كان ظاهرا. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] قال المفسرون: هو المجلس الحسن من مجالس الأمراء والرؤساء التي كان يحف بها الأتباع. {كَذَلِكَ} [الشعراء: 59] كما وصفنا، {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] وكذلك إن الله رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه، فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن. وقوله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ {60} فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62} فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {63} وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ {64} وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ {65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {67} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {68} } [الشعراء: 60-68] {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] يعني: قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين شرقت الشمس. وذلك قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق منهم صاحبه، قال مقاتل: عاين بعضهم بعضا. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] أي: سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم. {قَالَ} [الشعراء: 62] موسى ثقة بنصر الله: {كَلَّا} [الشعراء: 62] لن يدركونا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: 62] ينصرني، {سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] سيدلني على طريق النجاة. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] أي: فضرب، فانفلق، فانشق الماء اثني عشر طريقا، وقام الماء عن يمين الطريق، وعن يساره كالجبل العظيم، فذلك قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} [الشعراء: 63] أي: كل قطعة من البحر، {كَالطَّوْدِ} [الشعراء: 63] كالجبل. {الْعَظِيمِ {63} وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ {64} } [الشعراء: 63-64] قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم، قال مقاتل: قربنا فرعون وجنوده في مسلك بني إسرائيل إلى الغرق. وذلك أنه لما تتابع آخر جنود فرعون في البحر وخرج آخر بني إسرائيل من البحر، أمر البحر فانطبق عليهم. فذلك قوله: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ {65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 65-67] إن في إهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] لم يكن أكثر أهل مصر مصدقين

بتوحيد الله، ولم يكن آمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون، وخربيل المؤمن، ومريم بنت موشا التي دلت على عظام يوسف. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} [الشعراء: 68] في انتقامه من أعدائه حين انتقم منهم، {الرَّحِيمُ} [الشعراء: 68] بالمؤمنين حين أنجاهم من العذاب. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {74} قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ {76} فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77} الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ {78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ {79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ {81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ {82} } [الشعراء: 69-82] قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] حدث قومك حديثه وأخبرهم خبره. {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} } [الشعراء: 70-71] فنقيم عليها عابدين مقيمين على عبادتها. {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} [الشعراء: 72] أي: يسمعون دعاءكم، {إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} } [الشعراء: 72-73] قال ابن عباس: يريد هل يرزقوكم، أو يكشفون عنكم الضر، أو يملكون لكم ضرا، والمعنى: هل ينفعونكم بشيء إن عبدتموهم، أو يضرونكم إن لم تعبدوهم. {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ} [الشعراء: 74] كما نفعله، {يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وهذا إخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام وترك الاستدلال. قَالَ لهم إبراهيم مبتدئا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ {76} } [الشعراء: 75-76] يعني: الماضين الأولين. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] أي: أعاديهم وأتبرأ منهم، {إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] لكن رب العالمين أعبده ولا أتبرأ منه. ثم ذكر نعمة الله عليه، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى الدين والرشد لا ما تعبدون، أخبر أن الذي يهدي هو الله الذي خلق. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] أي: هو رازقي، فمن عنده طعامي وشرابي. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية. فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض فهو الذي يشفي، وهو الله عز وجل، ولم يقل وإذا أمرضني، لأنه يقال مرضت، وإن كان المرض بخلق الله وقضائه، ولا يقال: أمرضني الله. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} [الشعراء: 81] في الدنيا، {ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] للبعث، قال صاحب النظم: كانوا لا يدفعون الموت إلا أنهم يجعلون له سببا سوى الله ويكفرون بالبعث، فأعلم إبراهيم أنه هو الذي يميت ويحيي. {وَالَّذِي أَطْمَعُ} [الشعراء: 82] قال مقاتل: أرجو، وهذا تلطف من إبراهيم في حسن الاستدعاء، وخضوع لله تعالى. وقوله: {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82] المفسرون يقولون: يعني الكذبات الثلاثة، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] ، وقوله لسارة: هي أختي. وزاد الكلبي والحسن، قوله للكواكب: هذا ربي. وقال الزجاج: إن الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا يكون منهم الكبيرة، لأنهم معصومون. وقوله: {يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] يريد يوم الجزاء

والحساب. 674 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ عّنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {83} وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ {84} وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ {85} وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ {86} وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ {87} يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {88} إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {89} } [الشعراء: 83-89] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء: 83] قال ابن عباس: معرفة بالله وحدود أحكامه. وقال مقاتل: يعني الفهم والعلم. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] يعني: المتقين. قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] يعني: ثناء حسنا، {فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] من الذين يرثون الفردوس. {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] المشركين، وهذا إنما قاله قبل أن يتبرأ منه، ذكرنا ذلك في آخر { [براءة. ] وَلا تُخْزِنِي} [سورة الشعراء: 87] قال مقاتل، والكلبي: لا تعذبني. {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] يوم يبعث الخلق، ثم فسر ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء: 88] يعني: لا ينفع المال والأولاد أحد. {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] سلم من الشرك والنفاق، قال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن، وقلب الكافر والمنافق مريض. وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ {90} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ {91} وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {92} مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ {93} فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {97} إِذْ

نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ {99} فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ {100} وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ {101} فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {102} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {103} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {104} } [الشعراء: 90-104] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] قربت الجنة لأولياء الله حتى نظروا إليها. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} [الشعراء: 91] أي: أظهرت وكشف الغطاء عنها، {لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] الضالين عن الهدى. {وَقِيلَ لَهُمْ} [الشعراء: 92] في ذلك اليوم على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ {92} مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} [الشعراء: 92-93] يمنعونكم من العذاب، {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 93] يمتنعون منه. ثم يؤمر بهم فيلقون في النار، فذلك قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء: 94] قال الزجاج: طرح بعضهم على بعض. وقال ابن قتيبة: ألقوا على رءوسهم. وقال مقاتل: قذفوا فيها {هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قال السدي: يعني الألهة والمشركين. وقال عطاء: هم وما يعبدون من دون الله. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 95] يعني: ذرية إبليس كلهم. قَالُوا يعني الغاوين، {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء: 96] مع معبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} } [الشعراء: 97-98] والله ما كنا إلا في ضلال حيث سويناكم بالله فأعظمناكم وعدلناكم به. {وَمَا أَضَلَّنَا} [الشعراء: 99] عن الهدى {إِلا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 99] قال مقاتل: الشياطين. وقال الكلبي: إلا أولونا الذين اقتدينا بهم. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء: 100] من يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين، حيث يشفعون لأهل التوحيد. {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] ذي قرابة يهمه أمرنا، والحميم القريب الذي توده ويودك، قال ابن عباس: إن المؤمن يشفع يوم القيامة للمؤمن المذنب. 675 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الثَّقَفِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْيَقْطِينِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ يَزِيدَ الْعُقَيْلِيُّ، نا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا مَنْ، سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ: مَا فَعَلَ صَدِيقِي فُلانٌ، وَصَدِيقُهُ الْحَمِيمُ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ثم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102] أي: رجعة إلى الدنيا، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] المصدقين بالتوحيد، أي: لتحل لنا الشفاعة كما حلت لأهل التوحيد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 103] فيما أخبر من قصة إبراهيم، {لآيَةً} [الشعراء: 103] لعبرة لمن بعدهم، والباقي قد تقدم تفسيره إلى قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ {105} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ {106} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {107} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {108} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {109} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {110} } [الشعراء: 105-110] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] قال الزجاج: دخلت التاء وقوم مذكرون، لأن المراد بالقوم الجماعة. أي: كذبت جماعة قوم نوح المرسلين، لأن من كذب رسولا واحدا من رسل الله فقد كذب الجماعة، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} [الشعراء: 106] ابن أبيهم، والأخوة كانت من جهة النسب لا من جهة الدين، {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106] عذاب الله بتوحيده وطاعته. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107] على الرسالة فيما بيني وبين ربكم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الشعراء: 108] بطاعته وعبادته، {وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [الشعراء: 109] على الدعاء إلى التوحيد، {مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ} [الشعراء: 109] ما أجري وثوابي، {إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] والرسل إذا لم يسألوا أجرا كانوا أقرب إلى التصديق، وأبعد عن التهمة. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ {111} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {112} إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ {113} وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ {114} إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {115} } [الشعراء: 111-115] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111] أنصدق لقولك، {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] قال عطاء: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز. وقال الضحاك، وعكرمة: يعنون الحاكة والإساكفة. قال الزجاج: والصناعات لا تضر في باب الديانات. قَالَ نوح: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ولم أكلف ذلك، وإنما كلفت أن أدعوهم. {إِنْ حِسَابُهُمْ} [الشعراء: 113] ما حسابهم فيما يعملون، {إِلا عَلَى

رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] لو تعلمون ما عبتموهم بصنائعهم. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 114] ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الذين تزعمون أنهم الأرذلون عندكم. {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 115] أنذركم النار، وأبين لكم ما يقربكم من الله. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ {116} قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ {117} فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {118} فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {119} ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ {120} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {121} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {122} } [الشعراء: 116-122] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} [الشعراء: 116] عما تقول، {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] قال مقاتل، والكلبي: من المقتولين بالرجم. وقال الضحاك: من المشتومين. وقال قتادة من المضروبين بالحجارة. قَالَ نوح: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ {117} فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 117-118] فاقض بينهم قضاء، يعني العذاب، لأنه قال: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118] أي: من ذلك العذاب. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] قال ابن عباس، ومقاتل: الذي قد ملئ من الناس والطير والحيوان كلها. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} [الشعراء: 120] بعد نجاة نوح ومن معه، {الْبَاقِينَ} [الشعراء: 120] . قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ {123} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ {124} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {125} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {126} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {127} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129} وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {131} وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ {132} أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ {133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {134} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {135} } [الشعراء: 123-135] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123] القبيلة، لأنه أريد بعاد قبيلة عاد، والباقي مفسر إلى قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] وهو المكان المرتفع، قال أبو عبيدة: الريع الارتفاع، جمع ريعة. قال الوالبي، عن ابن عباس: يعني بكل شرف. وقال مقاتل، والكلبي، والضحاك: بكل طريق. آيَة بنيانا وعلما، {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] بمن يمر بالطريق، والمعنى أنهم كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة، فيسخرون منهم، ويعبثون بهم. وروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، أنهما قالا هذا في بنيان بروج الحمام، أنكر هود عليهم اتخاذهم بروجا للحمام عبثا. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد ما لا يسكنون. وعلى هذا القول جعل هو بناءهم ما يستغنون عنه ولا يسكنونه عبثا منهم. 676 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ

إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَذَا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَمَكَثَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ؛ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَصَنَعَ بِهِ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ وَالإِعْرَاضَ عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُنْكِرُ نَظَرَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَدْرِي مَا حَدَثَ فِيَّ وَمَا صَنَعْتُ، قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى قُبَّتَكَ، فَقَالَ: «لِمَنْ هَذِهِ؟» فَأَخْبَرْنَاهُ فَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ، فَسَوَّاهَا بِالأَرْضِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَ الْقُبَّةَ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ الَّتِي كَانَتْ هَهُنَا؟» قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا، قَالَ: إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ يُبْنَى وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَا لا بُدَّ مِنْهُ قوله: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء: 129] المصانع التي يتخذها الناس من الأبنية والآبار، قال أبو عبيدة: كل قباء مصنعة. قال ابن عباس: هي الأبنية. وقال مجاهد، وقتادة، والكلبي: هي القصور والحصون. {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] أي: كأنكم تخلدون، قاله أكثر المفسرين، والمعنى أنهم كانوا يستوثقون المصانع كأنهم يخلدون فيها ولا يموتون، ولعل يأتي في الكلام بمعنى كان، قال يونس في قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] معناه: كأنك فاعل ذلك إن لم يؤمنوا. {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] قال ابن عباس: يريد الضرب بالسياط ضرب الجبارين، والقتل بالسيف بغير حق. والمعنى: إذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم، ومعنى الجبار ههنا القتال على الغضب بغير حق، وقال الزجاج: وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، فأما في الحق فالبطش بالسيف والسوط جائز. وقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 132] أي: أعطاكم ما تعلمون من الخير. ثم أخبرنا بالذي أعطاهم، فقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ {133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {134} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [الشعراء: 133-135] قال ابن عباس: يريد إن عصيتموني. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135] في الدنيا والآخرة، يريد الذي أهلكوا به. {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ {136} إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ {137} وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {138} فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {139} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {140} كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ {141} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ {142} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {143} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {144} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {145} } [الشعراء: 136-145] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136] قال الكلبي: نهيتنا أو لم تكن من الناهين لنا. {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] قال مقاتل: قالوا: ما هذا العذاب الذي تقول يا هود إلا كذب الأولين. وهو قول ابن مسعود، ومجاهد. والخلق والاختلاف: الكذب، ومنه قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] وقرئ خلق الأولين بضم الخاء واللام، أي: عادة الأولين، والمعنى: ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين من قبلنا، يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث ولا حساب. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138] على ما نفعل، فكذبوه بالعذاب في الدنيا، فأهلكناهم بالريح، وما بعد هذا مفسر في ال { [إلى قوله:]

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَهُنَا آمِنْينَ {146} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {147} وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ {148} وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ {149} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {150} وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ {151} الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ {152} } [سورة الشعراء: 146-152] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَهُنَا} [الشعراء: 146] قال مقاتل: يعني فيما أعطاهم الله من الخير. {آمِنْينَ} [الشعراء: 146] من الموت والعذاب. ثم أخبر عن ذلك، فقال: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {147} وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ {148} } [الشعراء: 147-148] يعني: ما يطلع منها من الثمر، والهضيم: النضيج الرخص اللين اللطيف اليانع، كل هذا من ألفاظهم. {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] حاذقين بنحتها، وهو من قولهم: فره الرجل فراهة فهو فاره. وقرئ فرهين قال أبو عبيدة: أشرين بطرين. والهاء من فرهين بدل من الحاء، والفرح في كلام العرب بالحاء الأشر البطر، ومنه قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] . قوله: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء: 151] قال ابن عباس: المشركين. وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة. وهم {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الشعراء: 152] بالمعاصي، {وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152] لا يطيعون الله فيما أمرهم به. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {153} مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {154} قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {155} وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ {156} فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ {157} فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {158} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {159} كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ {160} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ {161} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {162} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {163} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {164} } [الشعراء: 153-164] قالوا لصالح: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] أي: ممن سحروا مرة بعد مرة. وقال ابن عباس: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب. والمعنى: لست بملك إنما أنت بشر مثلنا. قال مقاتل: قالوا إنما أنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيء، لست بملك ولا رسول. {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] إنك رسول الله إلينا، قال ابن عباس: إنهم قالوا: إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب، وتغدو علينا بمثله لبنا. فخرج بهم إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تخض كما يخض الحامل، فانشقت عن الناقة. قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 155] حظ ونصيب من الماء، {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قال قتادة: إذ كان يوم شربها شربت مائهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم. وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ {166} قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ {167} قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ {168} رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ {169} فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ {170} إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ {171} ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ {172} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ {173} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {174} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {175} } [الشعراء: 165-175] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} [الشعراء: 165] وهو جمع الذكر ضد الأنثى، قال مقاتل: يعني نكاح الرجال. {مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] من بني آدم. {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] يعني: فروج نسائهم، قال مجاهد: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] ظالمون معتدون الحلال إلى الحرام، والطاعة إلى المعصية. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [الشعراء: 167] لئن لم تسكت، {يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167] من بلدتنا. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} [الشعراء: 168] يعني إتيان الرجال، {مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] المبغضين، يقال: قليته أقليه قلى. ثم دعا، فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 169] أي: من عذاب ما يعملون. قال المفسرون: عقوبة صنيعهم. {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الشعراء: 170] قال ابن عباس: يعني بناته. {إِلا عَجُوزًا} [الشعراء: 171] يعني امرأته، {فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171] الباقين في العذاب. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء: 172] أهلكناهم بالخسف والحصب، وهو أن الله خسف بقراهم وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. وهو قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء: 173] فبئس مطر الذين أنذروا بالعذاب. {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {176} إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ {177} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {178} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {179} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {180} } [الشعراء: 176-180] قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 176] قال ابن عباس: يريد شعيبا وحده، والأيك شجر الدوم، وهو المقل، وكان أكثر شجرهم الدوم. وقال مجاهد: الأيكة الغيضة من الشجر الملتف. وقرأ الحجازيون أصحاب ليكة ههنا وفي ق بغير همز، والهاء مفتوحة، قال أبو علي الفارسي: الأيكة تعريف أيكة، فإذا خففت الهمزة حذفتها وألقيت حركتها على اللام، فقلت: ليكة، كما قالوا: لحمر. وقول من قال: أصحاب ليكة مشكل لأنه فتح التاء مع إلحاق الألف واللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مررت بلحمر، فتح الآخر مع إلحاق لم المعرفة. وقوله: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ {181} وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ {182} وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {183} وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ {184} قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {185} وَمَا

أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {186} فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {187} قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ {188} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {189} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {190} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {191} } [الشعراء: 181-191] {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء: 181] أي: من الناقصين للكيل والوزن، يقال: أخسرت الكيل والوزن، أي أنقصته، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] . وقوله: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184] الجبلة الخليقة، يعني الأمم المتقدمين قبلهم، لما أمرهم بإتمام الكيل والوزن وتقوى الله، كذبوه وسألوه العذاب إن كان صادقا. وهو قوله: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187] ومضى تفسير هذا. قَالَ شعيب: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188] أي: من نقصان الكيل والوزن، والمعنى: إنه أعلم به، فهو مجازيكم ومعذبكم إن شاء، وليس عندي العذاب. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] قال المفسرون: بعث الله عليهم حرا شديدا أخذ أنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم الحر فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابا أظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا، ونادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا فكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. فذلك قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] ومعنى الظلة ههنا السحاب التي قد أظلتهم. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ {195} } [الشعراء: 192-195] قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] يعني القرآن. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] نَزَّلَ اللهُ بالقرآن جبريل، وهو أمين الله فيما بين الله وبين أنبيائه، فيما استودعه الله من الرسالة إليهم. وقوله: {عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] أي: تلاه عليك حتى وعيته بقلبك، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] ممن أنذر بآيات الله المكذبين. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] قال ابن عباس: بلسان قريش لتفهموا ما فيه، فلا يقولوا لأنفسهم ما يقول محمد. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ {196} أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {197} وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ {198} فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ {199} } [الشعراء: 196-199] وَإِنَّهُ وإن ذكر القرآن وخبره، {لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] لفي كتبهم، يعني أن الله أخبر في كتبهم عن القرآن، وأنزله على النبي المبعوث في آخر الزمان، قال مقاتل: وإن أمر محمد ونعته وذكره لفي كتب الأولين. وهذا كقوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] . قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ

بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] قال الزجاج: أن يعلمه اسم كان وآية خبره، والمعنى: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل، أن محمدا نبي حق، علامة ودلالة على نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم. قال عطية: وكانوا خمسة: عبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد. وقرأ ابن عامر تكن بالتاء رفعا، قال الفراء، والزجاج: جعل آية هي الاسم، وأن يعلمه خبر تكن. {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} [الشعراء: 198] يقول: لو نزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان. {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 199] بغير لغة العرب ما آمنوا به، وقالوا: ما نفقة هذا. فذلك قوله: {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 199] . ثم ذكر سبب تركهم الإيمان، فقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {200} لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {201} فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {202} فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ {203} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {204} أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ {205} ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ {206} مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ {207} وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ {208} ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ {209} } [الشعراء: 200-209] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200] قال ابن عباس، والحسن، وغيرها: سلك الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين. قال مقاتل: يعني مشركي مكة، أخبر الله أنه أدخل الشرك وجعله في قلوبهم، فلم يؤمنوا إلا عند نزول العذاب حين لم ينفعهم. وهو قوله: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء: 201] يعني عند الموت. {فَيَأْتِيَهُمْ} [الشعراء: 202] يعني العذاب، {بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء: 202] به في الدنيا، فيتمنى الرجعة والنظرة. وهو قوله: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 203] أي: لنؤمن ولنصدق، قال مقاتل: فلما أوعدهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعذاب، قالوا: فمتى العذاب؟ تكذيبا به. فقال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {204} أَفَرَأَيْتَ} [الشعراء: 204-205] يا محمد، {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ} [الشعراء: 205] يعني: كفار مكة {سِنِينَ} [الشعراء: 205] قال عطاء: يريد منذ أن خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي. وقال الكلبي: يعني مدة أعمارهم. {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء: 206] من العذاب. {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 207] به في تلك السنين، المعنى أنهم، وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب، لم يغن طول التمتع عنهما شيئا، ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط. {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الشعراء: 208] بالعذاب في الدنيا، {إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] يعني: ولا ينذرونهم بالعذاب أنه نازل بهم. {ذِكْرَى} [الشعراء: 209] موعظة وتذكيرا، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209] فنعذب على غير ذنب، ونعاقب من غير تذكير وإنذار. {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ {210} وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ {211} إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ {212} } [الشعراء: 210-212] {

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} [الشعراء: 210] أي القرآن، {الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210] قال مقاتل: قالت قريش: إنما تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمد، فأنزل الله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} [الشعراء: 210] أي: بالقرآن، {الشَّيَاطِينُ {210} وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210-211] أن ينزلوا به، {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] وما يقدرون أن يأتوا بالقرآن من السماء، قد حيل بينه وبين السمع بالملائكة والشهب، وهو قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] قال عطاء: عن استماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يرجمون بالنجوم. {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ {216} وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ {217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ {218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ {219} إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {220} } [الشعراء: 213-220] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء: 213] وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فقال الله: لا تعبد معه إلها آخر {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت من دوني إلها لعذبتك. قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] أي: رهطك الأدنين، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب خاصة. 677 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّادُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِّيَةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ 678 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ بْنِ يَزِيدَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ؛ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهُ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ، أَوْ مُمَسِّيكُمْ، مَا كُنتُمْ تُصَدِّقُونِّي؟ قَالُوا: بَلَى،

قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى آخِرِهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَعْمَشِ قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشعراء: 215] ألن جانبك، {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] قال ابن عباس: يريد أكرم من أتبعك من المصدقين بتوحيد الله، وألزمهم القول، أظهر لهم المحبة والكرامة. {فَإِنْ عَصَوْكَ} [الشعراء: 216] يعني عشيرتك، {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] من الكفر وعبادة غير الله. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] فوض إليه جميع أمرك، وثق بالله العزيز في نقمته، الرحيم بهم حين لم يعجل عليهم بالعقوبة. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] إلى الصلاة في قول ابن عباس، ومقاتل. وقال مجاهد: يراك حين تقوم أينما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] أي: ويرى ركوعك وسجودك وقيامك مع المصلين في الجماعة. والمعنى: يراك إذا صليت وحدك، ويراك إذا صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما، هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن عباس في رواية عطاء، وعكرمة: يريد في أصلاب الموحدين، من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة، وما زال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الشعراء: 220] لقولك، {الْعَلِيمُ} [الشعراء: 220] بما في قلبك من الإيمان. ثم قال لكفار مكة: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ {226} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ {227} } [الشعراء: 221-227] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221] . ثم أخبر، فقال: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222] على كل كذاب فاجر، قال قتادة: هم الكهنة، تسترق الجن السمع، ثم يأتون إلى أوليائهم من الإنس. وهو قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [الشعراء: 223] أي: يلقون ما سمعوه إلى الكهنة، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223] لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا، وهذا كان قبل أن يوحى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. قوله: {وَالشُّعَرَاءُ} [الشعراء: 224] قال ابن عباس: يريد شعراء المشركين. وذكر مقاتل أسماءهم، فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وأبو سفيان بن الحارث بن المطلب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، كلهم من قريش، وأمية بن أبي الصلب الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما قال محمد. وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويرددون عنهم حين يهجون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. فذلك قوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] يعني: الذين يرددون هجاء المسلمين،

وسب الصحابة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال قتادة ومجاهد: الغاوون الشياطين. {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] يقال: هام يهيم هيمانا وهيما إذا ذهب على وجهه. قال ابن عباس: في كل فن من الكذب يتكلمون، وفي كل لغو يخوضون. وقال قتادة: يمدحون بباطل، ويشتمون بباطل، قالوا ذي يمثل الفنون من الكلام. وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو باطل، وغلو في مدح أو ذم. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] قال مقاتل: يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة. ثم استثنى شعراء المسلمين، فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] قال الكلبي، ومقاتل: هم عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وسائر شعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردوا هجاء من هجاه. 679 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ الصَّيْدَلانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، نا أَبِي، نا الأَوْزَاعِيُّ، نا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَكَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ» 680 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، نا الْبَرَاءُ، سَمِعْتُ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اهْجُهُمْ، أَوْ هَاجِهِمْ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ 681 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، نا إِسْحَاقُ بْنُ خَالَوَيْهِ، نا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، نا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً» 682 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الشِّعْرُ كَلامٌ، فَمِنْهُ حَسَنٌ، وَمِنْهُ قَبِيحٌ، فَخُذِ الْحَسَنَ، وَدَعِ الْقَبِيحَ، وَلَقَدْ رُوِيَتْ أَشْعَارًا مِنْهَا الْقَصِيدَةُ أَرْبَعُونَ وَدُونَ ذَلِكَ أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا محمد بن أحمد بن معدان، نا علي بن مسلم الطوسي، نا هشيم، أنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، قال: كان أبو بكر

رضي الله عنه يقول الشعر، وكان عمر رضي الله عنه يقول الشعر، وكان علي رضي الله عنه أشعر الثلاثة. وقوله: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ولم يجعلوا الشعر همهم، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] قال مقاتل: انتصروا من المشركين لأنهم بدأوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين، فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227] أي: أشركوا وهجوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] قال ابن عباس: يعني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم يخلدون فيها.

سورة النمل

سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون. 683 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشُّرُوطِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامٌ الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ طس سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ سُلَيْمَانَ وَكَذَّبَهُ، وَهُودًا، أَوْ شُعَيْبًا، وَصَالِحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ يُنَادِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ " {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ {1} هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {3} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {4} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ {5} وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ {6} } [النمل: 1-6] بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {طس} [النمل: 1] قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، أقسم الله به. وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: هو من الحروف المقطعة التي هي فواتح يفتح الله بها القرآن، وليست من أسمائه. {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1] تقدم تفسيره. {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2] بيان من الضلالة لمن عمل به، وبشرى بما فيه من الثواب للمصدقين به أنه من عند الله. ثم نعتهم، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3] . {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النمل: 4] لا يصدقون بالبعث، {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] قال ابن عباس، ومقاتل: يعني ضلالتهم حتى رأوها حسنة. فهم يعمهون يترددون فيها متحيرين. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} [النمل: 5] أشده، {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [النمل: 5] لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ} [النمل: 6] قال السدي: يلقى عليك القرآن وحيا من عند الله الحكيم. أي: أنزله عليك بعلمه وحكمته. {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7} فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ {10} إِلا مَنْ

ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ {11} وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {12} فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {13} وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14} } [النمل: 7-14] قوله: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} [النمل: 7] قال الزجاج: موضع إذ نصب، والمعنى: اذكر إذ قال موسى. أي: اذكر قصته إذ قال لأهله لامرأته: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل: 7] أبصرتها، {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7] عن الطريق، وكان قد تحير وترك الطريق، فإن لم أجد أحدا يخبرني عن الطريق آتيكم بشعلة نار، وهو قوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] والشهاب أصل خشبة فيها نار ساطع، وتفسير القبس قد سبق، وقرئ بشهاب قبس بالتنوين والإضافة، قال الزجاج: من نون جعل قبس من صفة الشهاب. ومن أضاف، فقال الفراء: هو مما يضاف إلى نفسه إذا اختلفت الأسماء، كقوله: والدار الآخرة. وقوله: لعلكم تصطلون لكي تصطلوا من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء، يقال: صلي بالناء واصطلى بها إذا استدفأ. {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] أي: بورك على من في النار، أو فيمن في النار، قال الفراء: العرب تقول: باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير من في طلب النار، وهو موسى، فحذف المضاف، وهذا تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] ومذهب المفسرين أن المراد بالنار هو النور، وذلك أن موسى رأى نورا عظيما فظنه نارا، لذلك ذكر بلفظ النار، ومن في النار هم الملائكة، وذلك أن النور الذي رأى موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس. ومن حولها هو موسى، لأنه كان بالقرب منها، ولم يكن فيها، والله تعالى نادى موسى لما توجه إلى النار بأنه قد بارك فيه وفي الملائكة الذين كانوا في ذلك النور الذي رآه. ثم نزه نفسه، فقال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] . ثم أخبر الله موسى عن نفسه، وتعرف إليه بصفاته وذاته، فقال: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] والكناية في إنه للشأن والأمر، أي: إن الشأن والأمر أن المعبود أنا. وقال الفراء: هذه الهاء عماد، وهو اسم لا يظهر. ثم أراه على قدرته ليشاهد من قدرة الله ما لم يشاهده قبل، وهو قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل: 10] وفي الآية محذوف تقديره فألقاها فصارت حية، فلما رءاها تهتز كأنها جان قال الزجاج: صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان، وهو الحية الأبيض، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، وقوله: ولى مدبرا أي: من الخوف من الحية، ولم يعقب يرجع، يقال: عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب. وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت. فقال الله: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] قال ابن عباس: لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي، والمعنى: لا يخيف الله الأنبياء، أي: إذا أمنهم لا يخافونه، فكيف تخاف الحية، نهي عن الخوف من الحية، ونبه على أمن المرسلين عند الله، ليعلم أن من آمنه الله من عذابه بالنبوة لا يستحق أن يخاف الحية. ثم قال: {إِلا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 11] يعني أذنب وظلم نفسه

بالمعصية، {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} [النمل: 11] أي: توبة وندما، بعد سوء عمله، وفي هذا إشارة إلى أن موسى، وإن ظلم نفسه بقتل القبطي وخاف من ذلك، فإن الله يغفر له لأنه ندم على ذنب وتاب عنه حين قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] وهذا من الاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن من ظلم ثم تاب {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11] إني لا يخاف لدي الأنبياء والتائبون، وقوم يقولون: إلا ههنا بمعنى ولا كأنه، قال: ولا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء. ثم أراه آية أخرى، فقال: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] الجيب: حيث جيب من القميص، أي قطع من الجيب، قال ابن عباس: كانت عليه جبة زربقانية من صوف، كماها إلى مرفقيه، ولم يكن لها أزرار، وأدخل يده في جيبها فأخرجها وإذا هي تبرق مثل البرق. فذلك قوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] من غير برص. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] وقد فسرناها في { [بني إسرائيل،] إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [سورة النمل: 12] أي: مبعوثا إليهم أو مرسلا، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] خارجين عن طاعة الله. {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] بينة واضحة، كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] وقد مر. قالوا هذا أي: هذا الذي نراه عيانا، {سِحْرٌ مُبِينٌ {13} وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل: 13-14] أنكروها ولم يقروا بأنها من عند الله، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، وأنها ليست بسحر، ظلما وعلوا قال الزجاج: التقدير وجحدوا بها ظلما وعلوا. أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، وهم يعلمون أنها من عند الله، فانظر يا محمد، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] في الأرض بالمعاصي. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ {16} وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {17} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ {19} } [النمل: 15-19] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] قال ابن عباس: علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال. {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} [النمل: 15] بالنبوة والكتاب، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجن والإنس، {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 15-16] نبوته وعلمه وملكه، قال قتادة: كان لدواد تسعة عشر ذكرا، فورث سليمان ملكه من بينهم ونبوته. 684 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِجُرْجَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الآبَنْدُونِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجُورَبَذِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ الصَّلْتِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَرَادَةَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى دَاوُدَ مَخْتُومٌ فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: أَنْ سَلِ ابْنَكَ سُلَيْمَانَ، فَإِنْ هُوَ أَخْرَجَهُنَّ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: فَدَعَا دَاوُدُ سَبْعِينَ قَسًّا وَسَبْعِينَ حَبْرًا، وَأَجْلَسَ سُلَيْمَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ، أُمِرْتُ أَنْ أَسْأَلَكَهُنَّ، فَإِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَهُنَّ فَأَنْتَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي، قَالَ سُلَيْمَانُ: لِيَسْأَلْ نَبِيُّ اللَّهِ عَمَّا بَدَا لَهُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ، قَالَ: أَخْبِرْنِي، يَا بُنَيَّ، مَا أَبْعَدُ الأَشْيَاءِ، وَمَا أَقْرَبُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا آنَسُ الأَشْيَاءِ، وَمَا أَوْحَشُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا أَحْسَنُهَا، وَمَا أَقْبَحُهَا؟ وَمَا أَقَلُّهَا، وَمَا أَكْثَرُهَا؟ وَمَا السَّاعِيَانِ؟ وَالْمُشْتَرِكَانِ؟ وَمَا الْقَائِمَانِ؟ وَمَا الْمُخْتَلِفَانِ؟ وَمَا الْمُتَبَاغِضَانِ؟ وَمَا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حُمِدَ آخِرُهُ، وَمَا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذُمَّ آخِرُهُ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَمَّا أَقْرَبُ الأَشْيَاءِ فَالآخِرَةُ، وَأَمَّا أَبْعَدُ الأَشْيَاءِ فَمَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا آنَسُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ فِيهِ رُوحٌ، وَأَمَّا أَوْحَشُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ لا رُوحَ فِيهِ، وَأَمَّا الْقَائِمَانُ فَالسَّمَاءُ وَالأَرْضُ، وَأَمَّا السَّاعِيَانِ فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالْمُشْتَرِكَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأَمَّا الْمُتَبَاغِضَانِ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كُلُّ وَاحِدٍ يُبْغِضُ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا الأَمْرُ إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حُمِدَ آخِرُهُ فَالْحِلْمُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَأَمَّا الَّذِي إِذَا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذُمَّ آخِرُهُ فالعدة عَلَى الْغَضَبِ، قَالَ: فَفَكَّ الْخَاتَمَ فَإِذَا هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ الْقِسِّيسُونَ وَالأَحْبَارُ: لَنْ نَرْضَى حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَإِنْ هُوَ أَخْرَجَهَا فَهُوَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: سَلُوهُ، قَالَ سُلَيْمَانُ: سَلُونُي وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ، قَالُوا: مَا الشَّيْءُ إِذَا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ: هُوَ الْقَلْبُ، إِذَا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالُوا: صَدَقْتَ، أَنْتَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، قَضِيبَ الْمُلْكِ، وَمَاتَ مِنَ الْغَدِ أخبرنا أبو الحسن المؤمن بن محمد السوادي، أنا محمد بن عبد الله بن نعيم، أنا أبو سعيد الأحمشي، نا الحسن بن حميد، نا الحسين بن علي السلمي، نا محمد بن حسان، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اعطي سليمان بن داود عليه السلام ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبع مائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع، واعطي علم كل شيء وملك كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي سمع بها الناس، وذلك قوله: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، بِالْكُوفَةِ، نا حَامِدُ بْنُ بِلالِ بْنِ الْحَسَنِ الْبُخَارِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ طَلْحَةَ، نا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلِيلُ، نا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّيكُ الأَبْيَضُ صَدِيقِي وَصَدِيقُ صَدِيقِي وَعَدُوُّ عَدُوِّي، قَالُوا: فَمَا يَقُولُ الدِّيكُ إِذَا صَاحَ؟ قَالَ: يَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ " 686 - أنا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو سَهْلِ بْنُ بِشْرٍ، نا سمانَةُ بِنْتُ حَمْدَانَ بْنِ مُوسَى الأَنْبَارِيَّةُ، بِالأَنْبَارِ، قَالَتْ: نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى ابْنُ الْعَسْكَرِيِّ، نا

أَحْمَدُ بْنُ كَثِيرٍ الْوَاسِطِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا: أَنْتَ ابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: أَنْتَ ابْنُ عَمِّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالسَّفِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جِبْرِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالُوا: فَإِنَّا قَوْمٌ قَدْ قَرَأْنَا الْكُتُبَ وَعَرَفْنَا مَا فِيهَا، وَنَحْنُ سَائِلُونَ عَنْ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْتَ أَخْبَرْتَنَا بِهَا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا، قَالَ: سَلُونِي تَفَقُّهًا، وَلا تَسْأَلُونِي تَفَنُّنًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا لِي فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» فَعَلِمْتُ أَنَّ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَلْحَقُنِي، سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا يَقُولُ4، وَالزُّرْزُورِ، وَالدُّرَّاجُ، وَالدِّيكُ فِي صَقِيعِهِ، وَالْحِمَارُ فِي نَهِيقِهِ، وَالضِّفْدِعُ فِي نَقِيقِهِ، وَالْفَرَسُ فِي صَهِيلِهِ، قَالَ: نَعَمْ، أُخْبِرُكُمْ؛ أَمَّا الْقُنْبُرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي صَفِيرِهِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مُبْغِضِي مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا الزُّرْزُورُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ قُوتَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ يَا رَازِقُ، وَأَمَّا الدُّرَّاجُ فَيَقُولُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَأَمَّا الدِّيكُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ، وَأَمَّا الضِّفْدِعُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَقِيقِهِ: سُبْحَانَ الْمَعْبُودِ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَأَمَّا الْحِمَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي نَهِيقِهِ: اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعَشَّارَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي صَهِيلِهِ إِذَا الْتَقَتِ الْفِئَتَانِ وَمَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ، قَالُوا: يَابْنَ عَبَّاسٍ، نَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلامُهُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ كَلامُ الطَّيْرِ، فَجَعَلَهُ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ إِذَا فَهِمَ وأنشد قول حميد بن ثور: عجبت أنى يكون عناؤها فصيحا ... ولم يقر بمنطقها فما ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطير، {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] قال ابن عباس: يريد من أمر الدنيا والآخرة. وقال مقاتل: يعني الملك والنبوة والكتاب، وتسخير الرياح، وسخرة الجن والشياطين، ونطق الطير. إن هذا الذي أعطينا، {لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16] الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا. قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17] أي: جمع له جموعه وكل صنف من الخلق جند على حدة، يدل عليه قوله: {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل: 17] قال المفسرون: كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع طوائف من هولاء الجنود على بساط واحد، ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض. والمعنى: وجمع لسليمان جنوده في مسير له، قال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان بن داود عسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون منها للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوابر على الخشب فيها ثلاث مائة كتيبة وسبع مائة سرية، فيأمر الريح العاصفة فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، فأوحى الله إليه وهو

يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، وقوله: فهم يوزعون قال قتادة: على صنف من جنوده وزعة ترد أولاهم على أخراهم، يعني: ليجتمعوا ويتلاحقوا وهو من الوزع الذي هو الكف، يقال: وزعته أزعه وزعا، والشيب وازع، أي مانع، قال الليث: والوازع في الحرب الموكل بالصفوف، يزع ما تقدم منهم. {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} [النمل: 18] أي أشرفوا عليه، قال كعب: هو بالطائف. وقال قتادة، ومقاتل: هو بالشام. قالت نملة أي: صاحت بصوت خلقه الله لها، ولما كان ذلك الصوت مفهوما لسليمان عبر عنه بالقول. قال أهل المعاني: ومعرفة النملة معجزة له، ألهمها الله معرفته حتى عرفته وحذرت النمل حطمه، وهو قولها: {يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] والنمل تعرف كثيرا من منافعها من ذلك، إنها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت إلا الكزبرة فإنها تكسر بأربع قطع لأنها تنبت إذا كسرت بقطعتين، فالذي هداها إلى هذا هو الذي ألهمها معرفة سليمان، ومعنى لا يحطمنكم لا يكسرنكم، والحطم الكسر، والحطام ما تحطم، وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] أي: بحطمكم ووطئكم. قال مقاتل: قد علمت النملة إنه ملك لا بقي فيه، وإنه إن علم بها قبل أن يغشاها لم يتوطأها، لذلك قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] وهذا يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض، ولم تحملهم الريح، لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ما خافت النمل أن يتواطأها بأرجلهم، ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان، قال المفسرون: طارت الريح بكلام النملة فادخلته أذن سليمان، فلما سمع كلامها تبسم، وذلك قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] قال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء عليهم السلام التبسم، وضاحكا حال، ومعناه متبسما، وليس المراد بلفظ الضحك أكثر من التبسم، وسبب ضحك سليمان عليه السلام من قول النملة التعجب، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك. وقال مقاتل: ثم حمد ربه حين علمه منطق كل شيء وسمع كلام النملة. {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19] أي ألهمني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19] يقال: فلان موزع بكذا، أي مولع به، وقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] أي: أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم، واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن بعدهم من النبيين. قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {20} لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {21} } [النمل: 20-21] وتفقد الطير التفقد: طلب ما غاب عنك، والطير اسم جامع للجنس، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره، تظله بأجنحتها، والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير، {فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] أي: ما للهدهد لا أراه، يقول العرب: ما لي أراك كئيبا؟ معناه ما لك، ولكنه من القلب الذي يوضحه المعنى، والهدهد طائر معروف. قال مجاهد: سئل ابن عباس: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ فقال: إن سليمان نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدله على الماء إذا أراد أن ينزل، فلما فقده سأل عنه، وذلك أن الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة. 687 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، نا أَبُو الْمُعَلَّى

الْعَطَّارُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْهُدْهَدَ، فَقَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَهُ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِسْقَاةَ الْمَاءِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ يَضَعُ لَهُ الْفَخَّ، فَيُغَطِّي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ التُّرَابِ فَيَجِيءُ فَيَقَعُ فِيهِ، فَيُقَالُ: وَيْحَكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَدَرَ يَحُولُ دُونَ الْبَصَرِ 688 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ، أنا أَبُو الْحُرَيْشِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْكِلابِيُّ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ فُلَيْحٍ الْمَكِّيُّ، نا الْيَسَعُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ ذَهَبَ اللُّبُّ وَعَمِيَ الْبَصَرُ وقوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] قال الزجاج: معناه بل كان من الغائبين. وقال المبرد: لما تفقد سليمان الطير ولم ير الهدهد فقال: {مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه، ثم أدركه الشك، فشك في غيبته عن ذلك الجمع حيث لم يره، فقال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] أي: بل أكان من الغائبين، كأنه ترك الكلام الأول واستفهم عن حال غيبته. ثم أوعده، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 21] قال المفسرون: تعذيبه إياه أن ينتف ريشه، ثم يلقيه في الشمس، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض. أو لأذبحنه لأقطعن حلقه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] بحجة بينة في غيبته، أصله ليأتينني بنونين كما يقرأ ابن كثير، ولكن حذفت النون التي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات. {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ {22} إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {23} وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ {24} أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {25} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26} } [النمل: 22-26] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] أي: لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء الهدهد، {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] أي: علمت شيئا من جميع جهاته، ما لم تعلم. قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة، فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه. وقال مقاتل: قال الهدهد: علمت ما لم تعلم، وجئتك بأمر لم تعلم، وجئتك بأمر لم تخبرك به الجن، ولم تعلمك به الإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك. وهو قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} [النمل: 22] وقرئ من سبأ بالتنوين، قال الزجاج: من لم يصرف فلأنه اسم مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، من صرف ثلاثة اسم البلد فيكون منكرا سمي به مذكر، وروي في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل

عن سبأ، فقال: «كان رجلا له عشر من البنين» . وقد تكلمت العرب فيه الأجواد وغير الأجواد، وقال جرير: الواردون وتيم في ذرى سبأ وقال آخر: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقوله: بنبأ يقين قال ابن عباس: الخبر الصادق، فقال سليمان: وما ذاك؟ فقال الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] يعني: بلقيس ملكة سبأ، قال مجاهد: كان تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، والقيل بلغتهم الملك، تحت يدي كل قيل ألف مقاتل. {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] قال عطاء: من زينة الدنيا من المال، والجنود، والعلم. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] قال: يريد سريرا من ذهب، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا، مضروب بالذهب، مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر. أخبر الهدهد أنها وقومها على غير دين الله، وهو قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24] الآية، إلى قوله: ألا يسجدوا ومن قرأ بالتشديد كان المعنى فقدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، ثم حذفت، قاله الزجاج، وقال الفراء: زين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام. ومن قرأ بالتخفيف كان المعنى: ألا يا قوم، أو يا مسلمون اسجدوا لله الذي خلق السموات والأرض خلافا عليهم، وحمدا لله لمكان ما هداكم لتوحيده، فلم تكونوا مثلهم في الطغيان والكفر، وعلى هذه القراءة هذا كلام معترض من غير القصة، إما من الهدهد وإما من سليمان. وقال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنف. يعني: ألا يا أيها الناس: اسجدوا لله. قرأه العامة لئلا تنقطع القصة بما ليس فيها. وقوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل: 25] يقال: خبأت الشيء أخبأه خبأ، والخبء ما خبأته لوقت. قال الزجاج: جاء في التفسير أن الخبأ ههنا من السماء، والنبات من الأرض، وعلى هذا في تكون بمعنى من، وكذا هو في قراءة عبد الله، ويجوز أن يكون يعني الخبأ الغيب، فيكون المعنى: يعلم الغيب في السموات والأرض، وهذا قول قتادة، ويعلم ما تخفون في قلوبهم، وما

يعلنون بألسنتهم، وقرأ الكسائي بالتاء لأن أول الآية خطاب على قراءته بتخفيف الآيات اسجدوا كذلك آخر الآية. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] أي: هو الذي يستحق العبادة لا غيره، وهو رب العرش العظيم، لا ملكة سبأ، لأن عرشها، وإن كان عظيما، لا يبلغ عرش الله في العظمة، فلما فرغ الهدهد من كلامه. {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {27} اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ {28} قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31} } [النمل: 27-31] قال سليمان للهدهد: سننظر فيما حدثتنا من هذا القصة، أصدقت فيما قلت، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] . ثم كتب سليمان كتابا، وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد، فذلك قوله تعالى فيما قلت: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28] يعني: إلى أهل سبأ، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل: 28] قال مقاتل: يغرب عنهم. وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم لأن التولي عنهم بعد الجواب، ومعنى {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] ماذا يردون من الجواب. فمضى الهدهد بالكتاب، فألقاه إليهم، فقالت: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، فقرأت الكتاب، وأخبرت قومها، وقالت: ألقي إلي كتاب كريم. قال عطاء، والضحاك: سمته كريما لأن كان مختوما. وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير يدل على صحة هذا التفسير. 689 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّلِيطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِكْرَامُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ وقال قتادة، ومقاتل: كتاب كريم: حسن. وهو اختيار الزجاج، قال: حسن ما فيه. ثم بينت ممن الكتاب، فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] أي أن الكتاب من عنده، وإنما وإن المكتوب فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 30-31] قال ابن عباس: لا تتكبروا علي. والمعنى: لا تترفعوا عليّ وأتوني مسلمين منقادين طائعين، قال قتادة: وكذلك كانت الأنبياء تكتب جملا لا تطيل، يعني أن هذا القدر الذي ذكره الله كان كتاب سليمان. ثم أرسلت إلى قومها فاجتمعوا إليها فاستشارتهم. {قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ {32} قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ {33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً

وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {34} وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ {35} } [النمل: 32-35] و {قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ} [النمل: 32] تعني: الأشراف، وكانوا ثلاث مائة عشر قائدا، وهم أهل مشورتها، {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل: 32] أشيروا عليّ وبينوا لي ما أعمل، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} [النمل: 32] فاعلته وقاضيته، حتى تشهدون تحضروني، أي: إلا بحضوركم ومشورتكم. قالوا مجيبين: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [النمل: 33] أي: في الأبدان، في معنى قول ابن عباس، وفي قول مقاتل: أرادوا كثرة العدد. {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل: 33] يعني: الشجاعة في الحرب، ذكروا لها قوتهم وشجاعتهم وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: والأمر إليك أي: في القتال وتركه، فانظري من الرأي، ماذا تأمرين ماذا تشيرين علينا. قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة أفسدوها، أي: أهلكوها وخربوها. {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ومعنى الآية أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وانتهى الخبر عنها، وصدقها الله فيما قالت، فقال: وكذلك يفعلون أي: وكما قالت هي يفعلون. ثم قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] قال السدي: تختبر بذلك سليمان لتعرف أملك هو أم نبي؟ فبعثت إليه بغلمان وجوار في قول أكثر المفسرين، قال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مقاتل، ومجاهد: مائتي غلام ومائتي جارية. وقال قتادة، وسعيد بن جبير: أرسلت بلبنة من ذهب في حرير وديباج. {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] بقبول أم رد. {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ {37} } [النمل: 36-37] {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] أي: جاء الرسول سليمان، {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] أي: أتزيدونني مالا؟ وهذا استفهام إنكار، يعني أنه لا يحتاج إلى مالهم لأن الله أعطاه ما هو خير من ذلك، وهو قوله: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} [النمل: 36] أي: من الإسلام والنبوة والملك، {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36] من المال، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] يعني: إذا أهدى بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بها. ثم قال سليمان للرسول: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل: 37] أي: لا طاقة لهم بها، ولنخرجنهم منها من سبأ وهي قريتهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] . فلما رجع إليها الرسول قالت: قد عرفت ما هذا بملك، ومالنا به من طاقة. فتجهزت للمسير إليه، وأخبر جبريل سليمان أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه. {قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {40} } [النمل: 38-40]

قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وإنما قال هذا سليمان بعد أن قربت منه، وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان، وأحب أن يأخذ عرشها قبل أن تسلم، فلا يحل له أخذ ما لها، وذلك قوله: {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] منقادين طائعين. {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل: 39] وهو المارد القوي الغليظ الشديد، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] يعني: من مجلسك الذي تقضي فيه، وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار، قال مقاتل: قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري، فليس شيء أسرع مني. وإني عليه أي: على حمله، لقوي أمين على ما فيه من الذهب والجواهر. فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] وهو آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وهذا قول أكثر المفسرين في الذي عنده علم من الكتاب، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قال سعيد بن جبير: قال لسليمان انظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين يديه. والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مدة إلى السماء، وقال مجاهد: معنى ارتداد الطرف إدامة النظر حتى يرتد إليه طرفه خاسئا، وعلى هذا معنى الآية أن سليمان يمد بصره إلى أقصاه، وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب إليه بصره حسيرا يكون قد أتي بالعرش. قال محمد بن إسحاق: انخرق مكان العرش حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان. ونحو هذا روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: جرى تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان. وقال الكلبي: خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان. وقال أهل المعاني: لا ينكر من قدرة الله أن يعدمه من حيث كان، ثم يوجده حيث كان سليمان بلا فصل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب، ويكون كرامة للولي، ومعجزة للنبي. واختلفوا في ذلك الذي دعا به آصف: فقال مقاتل، ومجاهد هذا: يا ذا الجلال والإكرام. وقال الكلبي: يا حي يا قيوم. أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، نا ابن أبي الدنيا، أنا عبيد الله بن عمير الخيثمي، عن المنهال بن عيسى، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، قال: قال سليمان بن داود لصاحب العرش: قد رأيتك تراجع شفتيك، فما قلت؟ قال: قلت: إلهي وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائت به. وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] في الآية محذوف تقديره فدعا الله فأتى به، فلما رآه مستقرا عنده ثابتا بين يديه، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] أي: هذا التمكين من حصول المراد من فضل الله وعطائه، قال قتادة: والله ما جعله فخرا ولا بطرا، ولكنه جعله منة لله وفضلا منه. ليبلوني ليختبرني، أأشكر الله فيما أعطاني من نعمة، {أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ} [النمل: 40] ربه، {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] لأجل لنفسه، يفعل ذلك لأن ثواب شكره يعود إليه، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] عن شكره، كريم بالإفضال على من يكفر نعمه، قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتفشي إليه أسرار الجن، وذلك أن أمها كانت جنية، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده لو تزوجها، فأساءوا الثناء عليها ليزهدوا فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا، وإن رجلها كحافر الحمار. فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها. فذلك قوله: {

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ {41} فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {42} وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ {43} قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} } [النمل: 41-44] {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] التنكير التغيير، يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته. قال قتادة، ومقاتل: هو أن يزاد فيه أو ينقص. ننظر أتهتدي لمعرفته، {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] أي: من القوم الذين لا يهتدون ولا يعرفون. فلما جاءت المرأة، {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] قال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وعجبت من حضورها عرشها عند سليمان. ف {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] وقال مقاتل: عرفته، ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم. قال عكرمة: كانت حكمية، قالت: لئن قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب. فقالت: كأنه هو. شبهته به. قيل لها: فإنه عرشك، فما أغني عنك إغلاق الأبواب. وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت، فقال: وأوتينا العلم لصحة النبوة، من قبلها من قبل الآية في العرش، وكنا مسلمين طائعين منقادين لأمر سليمان. {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 43] أي: منعها من التوحيد الذي كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، قال الفراء: معنى الكلام وصدها من أن تعبد الله ما كانت تعبد. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] استئناف خبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت فيما بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس. وأراد سليمان أن ينظر إلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، إذ قيل له: إن رجلها كحافر الحمار. فأمر أن يهيأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووضع سرير سليمان في صدر البيت، و {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44] قال ابن قتيبة: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك. ونحو هذا قال الزجاج في الصرح: إنه الصحن، يقال: هذه مساحة الدار، وصرحة الدار. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44] وهي معظم الماء، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] لدخول الماء، قال ابن عباس: لما كشفت عن ساقيها رأى سليمان قدما لطيفا، وساقا حسنا خدلجا أزب، فقال لناصحه من الشياطين: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة للجسد؟ فعلمه عمل النورة. فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما رأى ساقها وقدمها ناداها سليمان، ف {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] أي: من الزجاج وليس بماء، قال مقاتل: لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله. ف {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] بعبادة غيرك، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] أخلصت له التوحيد، قال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتيبة، فسأله: هل تزوجها سليمان؟ قال: عهدي بها أن قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] يعني أنه لا يعلم ذلك، وأن آخر ما سمع من حديثها {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] .

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ {45} قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {46} قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ {47} } [النمل: 45-47] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] أي: مؤمنون وكافرون، كل فريق يقول الحق معي. فقال صالح للفريق المكذب: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل: 46] أي: بالعذاب قبل الرحمة، أي: لم قلتم إن كان ما تأتينا به حقا فأتنا بالعذاب، لولا هلا، {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46] من الشرك، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] فلا تعذبون في الدنيا. {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل: 47] تشاءمنا بك وبمن على دينك، وذلك أنهم قحط المطر عنهم، وجاعوا، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك. فقال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل: 47] قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم. وهذا كقوله: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] . وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] تختبرون بالخير والشر. {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ {48} قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {49} وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {50} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ {51} فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {52} وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {53} } [النمل: 48-53] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} [النمل: 48] يعني: التي بها صالح، وهي الحجر، تسعة رهط وهم غواة قوم صالح، {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [النمل: 48] يعملون فيها بالمعاصي، ولا يصلحون ولا يطيعون الله. قالوا فيما بينهم: تقاسموا بالله احلفوا بالله لنبيتنه لنقتلن صالحا، وأهله بياتا، ومن قرأ بالنون كأنهم قالوا: أقسموا بالله لنفعلن كذا، والأمر بالقسم في القراءتين دخل في الفعل معهم، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل: 49] أي: لذي رحم صالح، إن سألنا عنه: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 49] ما قتلناه، وما ندري من قتله وأهله، والمهلك يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك، ويجوز أن يكون الموضع، وروى عاصم بفتح الميم واللام، يريد الهلاك، يقال: هلك هلاكا يهلك مهلكا، وروى

حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام، وهو اسم المكان على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم ومكانه. قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم فعلوا ذلك، أو رأوه وكان هذا مكر عزموا عليه. قال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] جازيتهم جزاء مكرهم بتعجيل عقوبتهم، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] بمكر الله بهم. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم وقرئ أنا بالفتح، قال الزجاج، والفراء: من كسر استأنف، فهو يفسر به ما كان قبله مثل قوله: فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا ومن فتح رده على إعراب ما قبله جعله تابعا للعاقبة، كأنه قال: العاقبة أنا دمرناهم. قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم. وقال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم. وقوله: {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] يعني بصيحة جبريل. {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] قال الزجاج: نصب خاوية على الحال، والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية. {بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] بظلمهم وشركهم بالله أهلكناهم حتى صارت منازلهم خاوية خالية ساقطة على عروشها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النمل: 52] في هلاكهم، {لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52] لعبرة لمن علم توحيد الله وقدرته. {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النمل: 53] صدقوا صالحا من العذاب وكانوا يتقون الشرك. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ {54} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {55} فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {56} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ {57} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ {58} } [النمل: 54-58] ولوطا واذكر لوطا، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [النمل: 54] الذين أرسل إليهم أتأتون الفاحشة يعني: اللواط في قول الجميع، وأنتم تبصرون وأنتم تعلمون أنها فاحشة، وهو من البصر الذي هو العلم، وهذه الآيات التي في هذه القصة مفسرة في { [الأعراف. وقوله:] بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة النمل: 55] قال ابن عباس: تجهلون القيامة وعاقبة العصيان. وقوله: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57] جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها أنها من الباقين في العذاب، وما بعد هذا مفسر في { [الشعراء. قوله:] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} } [سورة النمل: 59-60] {

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 59] هذا خطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قال مقاتل: هم الأنبياء الذين اختارهم الله لرسالته. وقال ابن عباس في رواية أبي مالك: هم أصحاب محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال في رواية عطاء: هم الذين وحدوه، وآمنوا به. وقال في رواية الكلبي: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته. ومعنى السلام عليهم: أنهم سلموا مما عذب به الكفار. ثم قال مخاطبا المشركين: {ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] يا أهل مكة، أي: الله خير لمن عبده أم الأصنام لعابديها، إلزام للحجة على المشركين، قيل لهم بعدما ذكر هلاك الكفار: الله خير أم الأصنام. والمعنى أن الله نجى من عبده من الهلاك، والأصنام لم تغن عن عابديها عند نزول العذاب، وكان المشركين يتوهمون في الأصنام وفي عبادتها خيرا، فقيل لهم احتجاجا: الله خير أما تشركون. قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [النمل: 60] تقدير الكلام أما تشركون خير من خلق السموات والأرض، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل: 60] يعني المطر {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} [النمل: 60] جمع حديقة، وهي كل روضة وحائط وبستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لا يقال حديقة ذات بهجة ذات منظر حسن، والبهجة الحسن، يبتهج به من رآه، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] أي: ما ينبغي لكم ذلك، لأنكم لا تقدرون عليها. ثم قال مستفهما منكرا عليهم: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60] أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله هم قوم يعني: كفار مكة، يعدلون يشركون بالله غيره. {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} [النمل: 61] مستقرا لا يميد بأهلها، وجعل خلالها فيما بينها، أنهارا كقوله: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33] . {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] جبالا ثوابت أثبت بها الأرض {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61] مانعا من قدرته بين العذب والملح، فلا يختلط أحدهما بالآخر، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] توحيد ربهم وسلطانه وقدرته. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} [النمل: 62] المكروب المجهود، إذا دعاه فيكشف ضره، وهو قوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، والمعنى: يهلك قرنا فينشئ آخرين. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] قال ابن عباس: قليلا ما تتعظون. ومن قرأ بالياء، فالمعنى: قليلا تذكر هؤلاء المشركين. {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63] أمن يهديكم يرشدكم إلى مقاصدكم {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63] وهذا كقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] .

{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] في الأرحام من نطفة، ثم يعيده بعد الموت، {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} [النمل: 64] المطر، ومن الأرض النبات، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: 64] حجتكم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] أن لي شريكا صنع من هذه الأشياء. {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {65} بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ {66} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ {67} } [النمل: 65-67] {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [النمل: 65] يعني الملائكة، والأرض يعني الناس، الغيب ما غاب عن العباد، إلا الله وحده، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] ولا يعلمون متى يكون البعث، والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب ويعلم متى البعث لا غيره. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل: 66] ادارك معناه تدارك، أي: تتابع وتلاحق، ومنه قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38] . وقرأ ابن كثير بل أدرك أي: بلغ ولحق، كما تقول: أدركه علمي، أي بلغه ولحقه. قال ابن عباس: يريد ما جهلوه في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة. وقال السدي: اجتمع علمهم يوم القيامة، فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل: يقول: بل علموا في الآخرة حين عاينوا ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا. وهو قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} [النمل: 66] بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] جمع عَمٍ، وهو الأعمى القلب. قال الكلبي: يقول: هم جهلة بها. وما بعد هذا مفسر في { [المؤمنين إلى قوله:] لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {68} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {69} وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ {70} } [سورة النمل: 68-70] {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69] والآية ظاهرة. {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل: 70] على كفار مكة، والمعنى: على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك، {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} [النمل: 70] وقرئ في ضيق بكسر الضاد، وهما لغتان، قال ابن السكيت: يقال في صدر فلان ضيق أو ضيق، وهو ما يضيق عنه الصدر. وهذه الآية مفسرة في آخر { [النحل. ] وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {71} قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ {72}

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ {73} وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ {74} وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {75} } [سورة النمل: 71-75] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [النمل: 71] الذي تعدنا يا محمد من العذاب، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 71] بأنه يكون. {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] يقال: ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه، قال ابن عباس: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] قرب لكم. وقال السدي: أقرب لكم. وقال قتادة: أزف لكم. والمعنى أن الله أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للذين يستعجلون العذاب قدرنا، {لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] من العذاب، فكان بعض الذي نالهم ببدر وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت. ثم ذكر فضله في تأخير العذاب، فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [النمل: 73] قال مقاتل: على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل: 73] ذلك. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [النمل: 74] تخفي وتستر صدورهم، وما يعلنون بألسنتهم من عداوتك والخلاف عليك، أي: إنه يعلم ذلك فيجازيهم به. قوله: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} [النمل: 75] أي: جملة غائبة، {فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل: 75] قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق، {فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75] إلا هو بين اللوح المحفوظ، قال مقاتل: يريد علم ما تستعجلون من العذاب، هو مبين عند الله، ولئن غاب عن الخلق. {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {76} وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {77} إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {78} فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ {79} إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {80} وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ {81} } [النمل: 76-81] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا وشيعا، يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من دين بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه إن أخذوا به وأسلموا. وإنه وإن القرآن، لهدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن به. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} [النمل: 78] قال مقاتل، والكلبي: بين أهل الكتاب يقضي بينهم يوم القيامة. {بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [النمل: 78] الغالب فلا يمكن رد قضائه، العليم بما يحكم، فهو يقضي بين المختلفين بما لا يمكن أن يرد. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل: 79] ثق به، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] على الدين البين، أي: إن العاقبة لك بالنصر. ثم ضرب للكفار مثلا، فقال: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] شبه كفار مكة بالأموات، يقول: كما لا يسمع الميت النداء كذلك لا يسمع الكافر النداء. {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] قال قتادة: لو أن أصم وَلَّى مدبرا، ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. ومعنى الآية أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه من التوحيد، كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، والصم الذين لا يسمعون. ثم ضرب العمى مثلا لهم أيضا، فقال: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل: 81] أي: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان، وقرأ حمزة تهدي العمي على

الفعل، وحجته قوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} [يونس: 43] والمعنى أنك لا تهديهم، عن ضلالتهم لشدة عنادهم، إن تسمع ما تسمع سماع إفهام، {إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} [النمل: 81] قال مقاتل: إلا من صدق بالقرآن أنه من الله. فهم مسلمون مخلصون بتوحيد الله. قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] قال ابن عباس: حق العذاب عليهم. وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم. والمعنى: حق، ووجب أن ينزل بهم ما قال الله، وحكم به من عذابه، وسخطه عليهم، أي: على الكفار الذين تخرج الدابة عليهم، وهو قوله: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [النمل: 82] وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وقال مخلد بن الحسين: لا تخرج الدابة حتى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن. قالوا: وتخرج الدابة من صدر الصفا. 690 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْخُتَّلِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، نا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الشِّعْبُ جِيَادٌ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، قَالُوا: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تَخْرُجُ مِنْهُ الدَّابَّةُ فَتَصْرُخُ ثَلاثَةَ صَرَخَاتٍ يَسْمَعُهَا مَنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ» 691 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، نا سَوَادَةُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا إِذْ قَرَعَ الصَّفَا بِعَصَاهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِشِرَاكٍ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الدَّابَّةَ لَتَسْمَعُ قَرْعَ عَصَايَ هَذِهِ 692 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو، أنا أَبُو الْفَضْلِ، أنا أَبُو يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ زَغَبٍ وَرِيشٍ، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ 693 - وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، نا أَوْسُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا، وَتَخْتِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخِوَانِ يَجْتَمِعُونَ، يَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ وقوله: تكلمهم قال مقاتل:

تكلمهم بالعربية، فتقول: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن، والبعث، والثواب والعقاب، وقرئ أن الناس بفتح الهمزة وكسرها، فمن فتح أراد تكلمهم الدابة بأن الناس، ومن كسر فلأن معنى تكلمهم تقول لهم إن الناس، والكلام قول. {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ {83} حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {84} وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ {85} أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {86} } [النمل: 83-86] قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل: 83] الفوج الجماعة من الناس كالزمرة، وإنما يريد الرؤساء والمتبوعين في الكفر حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم، وقوله: فهم يوزعون مفسر في هذه ال { [. ] حَتَّى إِذَا جَاءُوا} [سورة النمل: 84] إلى موقف الحشر، قال الله لهم: أكذبتم بآياتي هذا استفهام معناه الإنكار عليهم، والوعيد لهم. قال ابن عباس: كذبتم أنبيائي، وجحدتم فرائضي وحدودي. {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل: 84] قال ابن عباس: ولم تختبروا حتى تفقهوا وتسمعوا. وقال مقاتل: ولم يحيطوا علما أنها باطل. ومعنى هذا: أكذبتم غير عالمين بها، يعني: ولم تتفكروا فيها. ووقع القول وجب العذاب، {عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 85] بما أشركوا، {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} [النمل: 85] بحجة عن أنفسهم. ثم احتج عليهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [النمل: 86] يبصر فيه، أي: ليبغى فيه الرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النمل: 86] فيما جعلنا، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86] . {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ {87} وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ {88} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ {89} وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {90} } [النمل: 87-90] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى. {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل: 87] أي: ماتوا لشدة الخوف، كقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] والمعنى: يبلغ منهم الفزع إلى أن يموتوا، وقوله: {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] قال ابن عباس: يريد الشهادة، وهم أحياء عند ربهم يرزقون. وقال الكلبي، ومقاتل: يعني جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت. وقوله: وكل أي: من الأحياء الذي ماتوا، ثم أحيوا. أتوه

يأتون الله يوم القيامة، وقرأ حمزة أتوه على الفعل، داخرين صاغرين، وقد تقدم. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] واقفة في مكانها لا تسير، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] حتى تعلق على الأرض فتستوي بها، صنع الله أي: صنع الله ذلك، {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] أبرم خلق وأحكمه، ومعنى الإتقان في اللغة الإحكام للأشياء، إنه خبير بما يفعلون بما يفعل أعداؤه من المعصية والكفر، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للكافة. وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89] بكلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، والمعنى: من وافى يوم القيامة بالإيمان، {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] قال ابن عباس: فمنها يصل الخير إليه. والمعنى: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والنجاة من العذاب، وخير منها هنا اسم من غير تفضيل، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] قرئ بالتنوين والإضافة، قال أبو علي الفارسي: إذا نون يجوز أن يعني به فزع واحد، ويجوز أن يعني به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة، وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] وكذلك إذا أضيفت يجوز أن يعني به مفرد، ويجوز أن يعني به كثرة. وعلى هذا القراءتان سواء لا فضل بينهما، فإن أريد به الكثرة فهو شامل لكل فزع، وإن أريد به واحد فتفسيره ما ذكرنا في قوله: {الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] . وقال الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها، فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل: 90] يعني بالشرك، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90] يقال: كببت الرجل إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب. وتقول لهم الخزنة: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا} [النمل: 90] جزاء، {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] في الدنيا من الشرك. 694 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُسْلِمِيُّ، نا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَاءَ الإِيمَانُ وَالشِّرْكُ يَجْتَمِعَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ اللَّهِ لِلإِيمَانِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَقُولُ لِلشِّرْكِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى النَّارِ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يَعْنِي: قَوْلَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يَعْنِي: الشِّرْكَ، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} " قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ {92} وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {93} } [النمل: 91-93] {

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] وهي مكة، جعلها الله حرما آمنا من القتل فيها والسبي والظلم، فلا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91] لأنه خالقه ومالكه، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91] المخلصين لله بالتوحيد. {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ} [النمل: 92] عليكم يا أهل مكة، يريد تلاوة الدعوة إلى الإيمان، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل: 92] له ثواب اهتدائه، ومن ضل عن الإيمان بالقرآن، وأخطأ طريق الهدى، {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 92] من المخوفين، فليس عليّ إلا البلاغ، وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 93] على نعمه، سيريكم آياته قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا والقتل ببدر. فتعرفونها حين تشاهدونها على نعمة النبوة، ثم أراهم ذلك، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجلهم الله إلى النار، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93] وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.

سورة القصص

سورة القصص مكية وآياتها ثمان وثمانون. 695 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَدَائِنِيِّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ طسم الْقَصَصَ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» {طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {3} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {4} وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} } [القصص: 1-6] بسم الله الرحمن الرحيم {طسم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الشعراء: 1-2] تقدم تفسيره، قال قتادة: مبين والله بركته وهداه ورشده، فهذا من بان بمعنى ظهر، وقال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهذا من آيات بمعنى أظهر. {نَتْلُوا عَلَيْكَ} [القصص: 3] قال ابن عباس: نوحي إليك. {مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} [القصص: 3] من خبرهما وحديثهما، بالحق بالصدق الذي لا ريب فيه، لقوم يؤمنون يصدقون بالقرآن. {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] قال المفسرون: استكبر وتجبر، وبغى وتعاظم في أرض مصر. قال الليث: العلو العظمة والتجبر، يقال: علا الملك علوا إذا تجبر، ومنه قوله: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} [القصص: 83] . {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] فرقا وأحزابا في الخدمة والتسخير، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص: 4] يعني: بني إسرائيل، ثم فسر ذلك، فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] بترك البنات، فلا يقتلهن، ويقتل الأبناء، وذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن

مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب في ذهاب ملكك. قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون إن كان هذا الكاهن عنده صادقا فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فما معنى القتل. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] بالقتل والعمل بالمعاصي. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: 5] أي: ننعم عليهم، وهم بنو إسرائيل، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5] يقتدى بهم في الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكا. قال مجاهد: دعاة إلى الخير. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] لملك فرعون، يخلفونه بعده في مساكنه. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص: 6] قال ابن عباس: نملكهم ما كان يملك فرعون وقومه {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] أي: ما كانوا يخافونه من المولود الذي يذهب ملكهم على يده. وقرأ حمزة ويرى بالياء فرعون وما بعده رفعا، والاختيار قراءة العامة، ليكون الكلام من وجه واحد. قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {7} فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ {8} وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {9} } [القصص: 7-9] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] قال قتادة: قذفنا في قلبها وليس بوحي إرسال. وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك. 696 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ السَّوَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْبَرَاءِ، أنا عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلامُ، كَتَمَتْ أَمْرَهَا مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَبَلِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ سَتَرَهُ اللَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَمُنَّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُوسَى بَعَثَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِنَّ فَفَتَّشَ النِّسَاءَ تَفْتِيشًا لَمْ يُفَتِّشْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى فَلَمْ يَنْمُ بَطْنُهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ لَبَنُهَا، وَكَانَتِ الْقَوَابِلُ لا تَعْرَضُ لَهَا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُوسَى وَلَدْتُهُ أُمُّهُ وَلا رَقِيبَ عَلَيْهَا وَلا قَابِلَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ مَرْيَمُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} قَالَ: فَكَتَمَتْهُ أُمُّهُ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ تُرْضِعُهُ فِي حِجْرِهَا لا يَبْكِي وَلا يَتَحَرَّكُ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ عَمِلَتْ لَهُ تَابُوتًا مُطْبَقًا، وَمَهَّدَتْ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ لَيْلا كَمَا أَمَرَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ فَبَصَرَ بِالتَّابُوتِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ خَدَمِهِ: ايتُونِي بِهَذَا التَّابُوتِ، فَأَتَوْهُ بِهِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَحُوهُ فَوَجَدَ فِيهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ؛ قَالَ: عَبْرَانِيٌّ مِنَ الأَعْدَاءِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْطَأَ هَذَا

الْغُلامَ الذَّبْحُ؟ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَنْكَحَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهَا: آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ وَمِنْ بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتْ أُمًّا لِلْمُسْلِمِينَ تَرْحَمُهُمْ وَتَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ وَتُعْطِيهِمْ وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ إِلَى جَنْبِهِ: هَذَا الْوَلِيدُ أَكْبَرُ مِنَ ابْنِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا أَمَرْتَ أَنْ يُذْبَحَ الْوِلْدَانُ لِهَذِهِ السَّنَةِ، فَدَعْهُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أَنَّ هَلاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَاسْتَحْبَاهُ فِرْعَوْنُ وَوَمَقَهُ وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ وَرَأْفَتَهُ، وَقَالَ لامْرَأَتِهِ: عَسَى أَنْ يَنْفَعَكِ، فَأَمَّا أَنَا فَلا أُرِيدُ نَفْعَهُ، قَالَ وَهْبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ فِي مُوسَى كَمَا قَالَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى لِلشَّقَاءِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ مُوسَى الْمَرَاضِعَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، كُلَّمَا أَتَى بِمُرْضَعَةٍ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيُهَا، فَرَقَّ لَهُ فِرْعَوْنُ وَرَحِمَهُ وَطَلَبَ لَهُ الْمَرَاضِعَ، وَذَكَرَ وَهْبٌ حُزْنَ أُمِّ مُوسَى وَبُكَاءَهَا عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُبْدِيَ بِهِ، ثُمَّ تَدَارَكَهَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَرَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ: تَنَكَّرِي وَاذْهَبِي مَعَ النَّاسِ، فَانْظُرِي مَاذَا يَفْعَلُونَ بِهِ، فَدَخَلَتْ أُخْتُهُ مَعَ الْقَوَابِلِ عَلَى آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، فَلَمَّا رَأَتْ وَجْدَهُمْ بِمُوسَى وَحُبَّهُمْ لَهُ وَرِقَّتَهُمْ عَلَيْهِ؛ قَالَتْ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} إِلَى أَنْ رُدَّ إِلَى أُمِّهِ، فَمَكَثَ مُوسَى عِنْدَ أُمِّهِ إِلَى أَنْ فَطَمَتْهُ، ثُمَّ رَدَّتْهُ فَنَشَأَ مُوسَى فِي حِجْرِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ يُرَبِّيَانِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلَدًا، فَبَيْنَا هُوَ يَلْعَبُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ بِهِ إِذْ رَفَعَ الْقَضِيبَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ فِرْعَوْنَ فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ وَتَطَيَّرَ مِنْ ضَرْبِهِ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَتْ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ: لا تَغْضَبْ وَلا يَشُقَّنَّ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ صَبِيٌّ صَغِيرٌ لا يَعْقِلُ، جَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ، اجْعَلْ فِي هَذَا الطَّشْتِ جَمْرًا وَذَهَبًا، فَانْظُرْ عَلَى أَيِّهِمَا يَقْبِضُ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا مَدَّ مُوسَى يَدَهُ لِيَقْبِضَ عَلَى الذَّهَبِ قَبَضَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ عَلَى يَدِهِ، فَرَدَّهَا إِلَى الْجَمْرَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فِي فِيهِ، ثُمَّ قَذَفَهَا حِينَ وَجَدَ حَرَارَتَهَا، فَقَالَتْ آسِيَةُ لِفِرْعَوْنَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّهُ لا يَعْقِلُ شَيْئًا، فَكَفَّ عَنْهُ فِرْعَوْنُ وَصَدَّقَهَا، وَكَانَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْعُقْدَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِ مُوسَى أَنَّهُ أَثَرُ تِلْكَ الَّتِي الْتَقَمَهَا وقوله: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص: 7] قال مقاتل: قالت المرأة: رب إني قد علمت أنك قادر على ما تشاء، ولكن كيف لي أن ينجو صبي صغير من عمق البحر وبطون الحيتان. فأوحى الله إليها: لا تخافي عليه الضيعة، فإني أوكل به ملكا يحفظه في اليم، ولا تحزني لفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] لتمام رضاعه لتكوني أنت ترضعينه، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] إلى أهل مصر. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] الالتقاط إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون الذين أخذوا تابوت موسى من البحر، {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وقرئ وحزنا وهما لغتان، مثل: السقم والسقم وبابه، ومعنى ليكون: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، كما تقول للذي كسب مالا فأداه ذلك إلى الهلاك: إنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يطلب المال طلبا للحتف. {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] مضى تفسيره إلى قوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] قال المفسرون: كانت لا

تلد فاتخذت موسى ولدا لها. وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] أخبر الله أن هلاكهم بسببه وهم لا يشعرون بذلك. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {10} وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {11} وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ {12} فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {13} } [القصص: 10-13] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] أي: خاليا من الصبر والحزن لشدة الوجد به والخوف عليه، والمفسرون يقولون: فارغا من كل شيء إلا من أمر موسى، كأنها لم تهتم لشيء مما يهتم به الحي إلا لأمر ولدها. {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] كادت تخبر أن هذا الذي وجدتموه في التابوت هو ابني، وقال سعيد بن جبير: كادت تقول: واإبناه، من شدة الجزع. وقال مقاتل: كادت تصيح شفقة عليه من الفرق. والمعنى أنها همت أن تشعر أهل مصر بأن موسى ولدها. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] بالصبر واليقين، قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب إلهام الصبر وتقويته. ذكرنا ذلك عند قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] . {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] المصدقين بوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] . وقالت لأخته لأخت موسى: قصيه اتبعي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، واعلمي علمه، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره متعرفا حاله قصا وقصصا. فبصرت به أبصرته، عن جنب عن بعد تبصره ولا تتوهم أنها تراه، قال الفراء: كانت على شاطئ البحر حين رأت آل فرعون قد التقطوه وهم لا يعلمون أنها أخته، وأنها ترقبه. قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة تأخذه منها، فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها، فذلك قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] وهي جمع مرضعة. قال سعيد بن جبير: لا يؤتى بمرضع فيقبلها. وقوله: من قبل أي: من قبل أن يرده إلى أمه، ومن قبل أن تأتيه أمه، وذلك أن الله تعالى أراد أن يرده إلى أمه، فمنعه من قبول ثدي المراضع، فلما تعذر عليهم رضاعته فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص: 12] أي: يضمنون لكم القيام به ورضاعه، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] يشفقون عليه وينصحونه، قالوا لها: من؟ قالت: أمي. قالوا: ولأمك لبن؟ قالت نعم، لبن هارون. وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبي، فقالوا: صدقت. فدلتهم على أم موسى، فدفع إليها تربيه، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وأتم الله لها ما وعدها، وهو قوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [القصص: 13] بولدها، ولا تحزن لفراقه، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [القصص: 13] برد ولدها إليها، حق علم وعيان ومشاهدة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] أن الله وعدها رده إليها. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {14} وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ {15} قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي

فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {16} قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ {17} } [القصص: 14-17] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [القصص: 14] قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة. واستوى استواؤه أربعون سنة، وهو قول ابن عباس، وقتادة. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] يعني: الفقه والعقل والعلم في دينه ودين آبائه، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا، وهذه الآية مفسرة في { [يوسف. ] وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {14} وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} [سورة القصص: 14-15] قال السدي: ركب فرعون وموسى غير شاهد، فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب مركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف. وهو قوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15] قال ابن عباس: في الظهيرة عند المقيل، وقد خلت الطريق. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أحدهما إسرائيلي، والآخر قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فاستنصر الإسرائيلي موسى على القبطي، فوكزه موسى الوكز: الضرب بجميع الكف. {فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أي: قتله وكل شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه وقضيته، وكان موسى شديد البطش، وكز القبطي وكزة قتله منها، وهو لا يريد قتله، {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] أي: هيج غضبي حتى ضربت هذا إنه عدو لابن آدم، مضل له، مبين عداوته، وكان ذلك قتل خطأ، لأنه لم يقصد القتل، وندم على ما فعل لأنه لم يؤمر به. ثم استغفر، ف {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {16} قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 16-17] بالمغفرة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] قال ابن عباس: عونا للكافرين. وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا، وهو قول مقاتل. وقال قتادة: لن أعين بعدها على فجرة. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ {18} فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ {19} } [القصص: 18-19] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} [القصص: 18] يعني: تلك المدينة التي فعل فيها ما فعل من قتل القبطي، {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] ينتظر سوءا يناله منهم، والترقب: انتظار المكروه، وقال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18] فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استنقذه بالأمس يقاتل فرعونيا يريد أن يسخره وهو يستغيث بموسى عليه السلام، والاستصراخ: الاستغاثه، ف {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] قال ابن عباس، ومقاتل: لمضل بين قتلت أمس بسببك رجلا وتدعوني اليوم على آخر. وعلى هذا الغوي فعيل بمعنى المغوي، كالوجيع والأليم، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي، أي: إنك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شره عنك. ثم أقبل موسى

إليهما، وهم أن يبطش الثانية بالقبطي، وهو قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص: 19] أي: بالقبطي الذي هو عدو لموسى الإسرائيلي، ظن الإسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به لقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] ، ف {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص: 19] ولم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي وسمع القبطي ذلك، فأتى فرعون فأخبره، وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص: 19] أي: تريد إلا أن تكون قتالا بالظلم. قال الزجاج: الجبار في اللغة الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار. لما علم فرعون أن موسى قتل القبطي أمر بقتل موسى عليه السلام، وعلم بذلك رجل من شيعة موسى، فأتاه فأخذه، وهو قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {21} وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ {22} وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} } [القصص: 20-24] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [القصص: 20] أي: من آخرها وأبعدها، يسعى على رجليه، قال ابن عباس: هو خربيل مؤمن آل فرعون. {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] قال أبو عبيدة: يتشاورون فيك ليقتلوك. يعني: أشراف قوم فرعون، وقال الزجاج: يأمر بعضهم بعضا بقتلك. فاخرج من القرية، {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] في أمري إياك بالخروج. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] مر تفسيره. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] يعني: المشركين أهل مصر. {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22] أي: قصدها ونحوها، قال الزجاج: أي سلك سبيلا في الطريق الذي يلقى مدين فيها وكان قد خرج بغير زاد ولا حذاء ولا ظهر، وهو على مسيرة ثمانية أيام من مصر، ولم يكن له بالطريق علم. ف {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] أي: يرشدني قصد الطريق إلى مدين. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] قال ابن عباس: ورده وإنه ليتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وجد عليه على ذلك الماء، أمة جماعة، من الناس وهم الرعاة، يسقون مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} [القصص: 23] من سوى الأمة، امرأتين وهما ابنتي شعيب تذودان تحبسان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس ويخلوا لهما البئر، هذا قول المفسرين، ومعنى الذود في اللغة: الدفع

والطرد والكف، ومعنى تذودان: تدفعان وتكفان. قال موسى، ما خطبكما ما شأنكما، ألا تسقيان؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] أي: حتى يصدر مواشيهم من ورادهم فيخلوا لنا الموضع، وقرئ يصدر من صدر وهو ضد ورد، والمعنى: حتى يرجعوا من سقيهم، والرعاء جمع راع، قال ابن عباس: قالتا نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نسقي الغنم. فقال لهما موسى: أين الماء؟ فانطلقتا به إلى الماء، فإذا هو بحجر على رأس البئر لا يزيله إلا عصابة من الناس، فرفعه موسى بيده وحده، ثم أخذ الدلو فأدلى دلوا واحدا فأفرغه في الجومن، ثم دعا بالبركة فسقى الغنم، فرويت فذلك. قوله: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 24] أي: سقى أغنامهما لأجلهما، {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24] ثم انصرف إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحر وهو جائع، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] قال ابن عباس: سأل نبي الله فلق خبز يقيم صلبه. وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد أصابه الجوع. وقال مجاهد: ما سأله إلا الخبز. واللام في قوله: لما أنزلت إلي معناها إلى، قال الأخفش: يقال هو فقير له وإليه. قال محمد بن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما وسألهما، فأخذتا الخبز، فقال لإحداهما: عليّ به. فرجعت الكبرى إلى موسى عليه السلام لتدعوه، فذلك قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {25} قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ {26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ {28} } [القصص: 25-28] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]

697 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كِتَابَةً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنَظْلِيُّ، أنا النَّضْرُ بْنُ سُهَيْلٍ، أنا إِسْرَائِيلُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} قَالَ: لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، خَرَّاجَةً، وَلاجَةٌ، جَاءَتْهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ أَيْ: مُسْتَتِرَةً بِكُمِّ دِرْعِهَا وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ} [القصص: 25] أي: جاء موسى شعيبا عليهما السلام، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25] يعني: أمره أجمع من قتله القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه، قال له شعيب: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] أي: لا سلطان له بأرضنا ولسنا مملكته. قالت إحداهما وهي الكبرى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] اتخذه أجيرا، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] إن خير من استعملته من قوي على العمل وأداء الأمانة، قال عمر رضي الله عنه بالإسناد الذي ذكرنا: لما قالت المرأة هذا قال شعيب: وما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فإنه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا كذا، وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك. وقال مجاهد: القوي في نزعه الحجر عن فم البئر، وكان لا يستطيعه إلا النفر، الأمين في غض طرفه عنها حين سقى لهما فصدرتا، وقد عرفتا قوته وأمانته. فلما ذكرت المرأة من حاله ما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه. ف {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] أي: أزوجكها، {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين، قال الفراء: يقول أن تجعل ثوابي أن ترعى على غنمي ثماني حجج. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] أي: ذلك تفضل منك ليس بواجب عليك، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] في العشر، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] قال عمر رضي الله عنه: أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت. 698 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْكُوفِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُنْدَارٍ، أنا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،

نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَكَى شُعَيْبٌ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حُبِّ اللَّهِ، تَعَالَى، حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا شُعَيْبُ، مَا هَذَا الْبُكَاءُ، أَشَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، أَمْ خَوْفًا مِنَ النَّارِ؟ فَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي مَا أَبْكِي شَوْقًا إِلَى جَنَّتِكَ، وَلا خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدْتُ حُبَّكَ بِقَلْبِي، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ فَمَا أُبَالِي بِالَّذِي تَصْنَعُ بِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا شُعَيْبُ، إِنْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا فَهَنِيئًا لَكَ لِقَائِي، يَا شُعَيْبُ، لِذَلِكَ أَخْدَمْتُكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمِي " قال موسى لشعيب: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص: 28] أي: ذلك الذي وضعت وشرطت عليّ ملكك وما شرطت لي من تزوج إحداهما فلي فالأمر بيننا، وتم الكلام، ثم قال: أيما الأجلين من الثماني إلى العشر، قضيت أتممت وفرغت منه، {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص: 28] لا ظلم عليّ بأن أكلف أكثر منه أو أطالب بالزيادة عليه، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] قال ابن عباس، ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك. {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {29} فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {30} وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنْينَ {31} اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {32} } [القصص: 29-32] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص: 29] 699 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقِنْبَارِيُّ، نا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا " 700 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، نا

عُوَيْدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْجُونِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سُئِلْتَ: أَيَّ الأَجَلْيِن قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، وَإِنْ سُئِلْتَ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ فَقَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} " وقوله: وسار بأهله قال مقاتل: استأذن صهره في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه، فإذن له فسار. وهذه الآية مفسرة في سورتي طه والنمل، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29] جذوة فيها ثلاث قراءات: فتح الجيم، وضمها، وكسرها، وهي كلها لغات. قال أبو عبيدة: الجذوة القطعة الغليظة من الخشب فيها لهب. قال ابن عباس: قطعة فيها نار. وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص: 30] أي: أتى موسى النار، {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي} [القصص: 30] وهو جانبه، الأيمن الذي عن يمين موسى، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص: 30] البقعة: القطعة من الأرض، المباركة لموسى عليه السلام، لأن الله كلمه هناك وبعثه نبيا، وقال عطاء: يريد المقدسة. وقوله: من الشجرة أي: من ناحية الشجرة أوعند الشجرة، وهي العناب في قوله ابن عباس. وقال مقاتل والكلبي: هي عوسجة. وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنْينَ} [القصص: 31] أي: من أن ينالك مكروه. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] قال المفسرون: لما ألقى موسى عصاه فصارت جانا، رهب وفزع، فأمره الله أن يضم إليه جناحيه ليذهب عنه الفزع. قال مجاهد: كل من فزع فضم إليه جناحيه ذهب عنه الفزع، وقرأ هذه الآية. وجناح الإنسان عضده، ويقال: اليد كلها جناح، وقرئ من الرهب وهو بمعنى الرهب، كالرشد والرشد. وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد اضمم يدك إلى صدرك من الخوف، ولا خوف عليك. والمعنى أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فيذهب ما ناله من الخوف عند معاينة الحية. وقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32] يعني: اليد والعصا، حجتان من الله لموسى عليه السلام على صدقه، وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد، ويحكي أنه لغة قريش. قال الزجاج: التشديد تثنية ذلك، والتخفيف تثنية ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في ذانك. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] أي: أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] عاصين. {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ {33} وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنْي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ {34} قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ {35} } [القصص: 33-35]

قال موسى: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} [القصص: 33] يعني: القبطي الذي قتله، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] به. {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنْي لِسَانًا} [القصص: 34] أحسن بيانا، وكان في لسان موسى عقدة، ولذلك قال فرعون: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] . {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} [القصص: 34] عونا، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشد ظهره. يقال: أردأت فلانا إذا أعنته. وقوله: يصدقني قرئ بالرفع والجزم، فمن رفع فهو صفة للنكرة وتقديره ردءا مصدقا، ومن جزم كان على جوابا الأمر، أي: إن أرسلته معي صدقني، والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يصدقني فرعون. {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] . قال الله لموسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنعينك ونقويك، وشد العضد كناية عن التقوية، {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35] حجة تدل على النبوة، قال الزجاج: والسلطان أبين الحجج. {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35] بقتل وسوء ولا أذى، وقوله: بآياتنا موضعه التقديم، لأن المعنى: ونجعل لكما سلطانا بأياتنا، أي: مما نعطيكما من المعجزات، ثم أخبر أن الغلبة لهما ولمن اتبعهما، فقال: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] . {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {36} وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {37} } [القصص: 36-37] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى} [القصص: 36] أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قبل نفسك لم تبعث به، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [القصص: 36] الذي تدعونا إليه، {فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ {36} وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} [القصص: 36-37] أي: هو أعلم بالحق منا، ومن الذي جاء بالبيان من عنده، أي: إن الذي جئت بالهدي من عند الله، {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [القصص: 37] أي: وهو أعلم بمن تكون له الجنة، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 37] لا يسعد من أشرك بالله. ثم قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ {38} وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ {40} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ {41} وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ {42} } [القصص: 38-42] وقال فرعون منكرا لما أتى به موسى عليه السلام من توحيد الله وعبادته: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38] يقول: أوقد النار على الطين حتى يصير اللبن آجرا. والمعنى: اعمل لي الآجر، {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] أي: قصرا عاليا مرتفعا، {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: 38] أي: أصعد إليه وأشرف عليه، وهذا إيهام من فرعون أن الذي يدعوه إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38] في ادعائه إلها غيري، وأنه رسوله. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39]

تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق، في الأرض أرض مصر، بغير الحق بالباطل والظلم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39] لا يردون إلينا بالبعث للحساب والجزاء. ثم ذكر إهلاكه إياهم بالغرق، فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40] فطرحناهم في البحر، قال عطاء: يريد البحر المالح بحر القلزم. وقال قتادة: هو بحر من وراء مصر غرقهم الله فيه. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] حتى صاروا إلى الهلاك. وجعلناهم أي: في الدنيا، أئمة قال ابن عباس: أئمة ضلالة. وقال الكلبي، ومقاتل: قادة في الكفر والشرك، يقودون الناس إلى الشرك بالله. وهو قوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] لأن من أطاعهم ضل ودخل النار. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] لا يمنعون من العذاب. {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص: 42] مفسر في موضعين: في { [هود] وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [سورة القصص: 42] المبعدين الملعونين، من القبح وهو الإبعاد، قال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا، أي: أبعده من كل خير. قال الكلبي: يعني سواد الوجه وزرقة العين، وعلى هذا المقبوحين يكون بمعنى المقبحين. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص: 43] يعني: نوحا وعادا وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص: 43] أي: ليتصبروا بذلك الكتاب، وليهتدوا به، وهو قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [القصص: 43] أي: من الضلالة لمن عمل به، ورحمة لمن آمن به، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43] كي يتذكروا ما فيه من المواعظ والبصائر. 701 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْعِمْرَانِيُّ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا أَبِو شَيْبَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُوَارِزْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا وَلا قَرْنًا وَلا أُمَّةً وَلا أَهْلَ قَرْيَةٍ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ {44} وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {45} وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ

نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {46} وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {47} } [القصص: 44-47] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] الخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي حاضرا. قال قتادة، والسدي: يعني جبلا غربيا. وهو اختيار الزجاج، قال: وما كنت بجانب الجبل الغربي. وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي. قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد حيث ناجى موسى ربه. وهو قوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص: 44] عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، وما كنت من الشاهدين لذلك الأمر. {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} [القصص: 45] خلقنا أمما من بعد موسى، {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] طالت عليهم المهلة، فنسوا عهد الله، وتركوا أمره، قال صاحب النظم: هذا الكلام يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان به، فلما طال عليهم العمر، وخلفت القرون بعد القرون، نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها. وقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} [القصص: 45] أي مقيما، {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] كمقام موسى وشعيب عليهما السلام فيهم، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 45] تذكرهم بالوعد والوعيد، قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم. {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها، قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، وتليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك. {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص: 46] بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى، إذ نادينا قال ابن عباس: إن الله تعالى نادى: يا أمة محمد، قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تسغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني. {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46] ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46] يعني: أهل مكة، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] لكي يتعظوا. {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} [القصص: 47] قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص: 47] من المعاصي، يعني كفار مكة، {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [القصص: 47] هلا أرسلت إلينا رسولا، فنتبع آياتك يعني القرآن، {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] المصدقين بتوحيد الله، والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، وجواب لولا محذوف تقديره ما ذكرنا. {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ {48} قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {49} فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {50} وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {51} } [القصص: 48-51] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} [القصص: 48] محمد والقرآن، {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] هلا أوتي محمد من الآيات مثل ما أوتي موسى من العصا واليد، فاحتج الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص: 48] أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد، قالوا ساحران تظاهرا

تعاونا على السحر والضلالة، يعنون موسى ومحمدا، ومن قرأ سحران فقال مقاتل: يعنون التوراة والقرآن. وهو قول عكرمة والكلبي، والمعنى: كل سحر منهما يقوي الآخر، فنسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع. {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ} [القصص: 48] من التوراة والقرآن، كافرون. قال الله لنبيه: قل لكفار مكة: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص: 49] من التوراة والقرآن، {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49] أنهما ساحرين، {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص: 50] فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] قال الزجاج: فاعلم أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى، ثم ذمهم، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد ولا بيان من الله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] لا يجعل جزاء المشركين الجاحدين أن يهديهم إلى دينه. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص: 51] قال الفراء: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا. وقال قتادة: وصل لهم القول في هذا القرآن يخبرهم كيف صنع بمن مضى. وقال مقاتل: يقول: لقد بينا لكفار مكة بما في القرآن من خبر الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51] لكي يتعظوا ويخافوا فيؤمنوا. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ {52} وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {53} أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {54} وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ {55} } [القصص: 52-55] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص: 52] من قبل القرآن، {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال السدي: يعني مسلمي اليهود، عبد الله بن سلام ومن أسلم منهم. وقال مقاتل: يعني مسلمي أهل الإنجيل، وهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة. ثم وصفهم الله، فقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 53] يعني القرآن، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] صدقنا بالقرآن، {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} [القصص: 53] وذلك أن ذكر النبي كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فلم يعاندوا هؤلاء، قالوا للقرآن: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} [القصص: 53] من قبل القرآن، مسلمين مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد أنه نبي حق. ثم أثنى عليهم خيرا، فقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] مرة بتمسكهم بدينهم حتى إذا أدركوا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا به، ومرة بإيمانهم به، وقال قتادة: بما صبروا على الكتاب الأول والكتاب الثاني. {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص: 54] قال ابن عباس رضي الله عنه: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك. وقال مقاتل: يدفعون ما يسمعون من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [القصص: 54] من الأموال، ينفقون في طاعة الله. {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} [القصص: 55] الباطل والشتم من المشركين، وذلك أنهم شتموهم حين آمنوا بمحمد عليه السلام،

أعرضوا عنه فلم يردوا، {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] قال مقاتل: لنا ديننا ولكم دينكم، وذلك أنهم عيروهم بترك دينهم. وقال السدي: لما أسلم عبد الله بن سلام جعل اليهود يشتمونه، وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] قال الزجاج: لم يرد والتحية. والمعنى أنهم قالوا: بيننا وبينكم المتاركة والسلام، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال، وكأنهم قالوا: أسلمتم منا لا نعارضكم بالشتم. ومعنى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] قال مقاتل: لا نريد أن تكون من أهل الخبل والسفه. وقال الكلبي: لا نحب الذي أنتم عليه. ويكون التقدير لا نبتغي دين الجاهلين. قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {56} وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {57} } [القصص: 56-57] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] 702 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، نا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: " يَا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَهِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعَاوِدَانِهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى، فِي أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ 703 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمِن بْنُ بِشْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، نا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعَمِّهِ: " قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي نِسَاءُ قُرَيْشٍ؛ تَقُلْنَ: إِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ؛ أَجْمَعُوا أَنَّ الآيَةَ نَزَلْت فِي أَبِي طَالِبٍ. قال الزجاج: ابتداء نزولها بسبب أبي طالب، وهي عامة، لأنه لا يهدي إلا الله عز وجل، ولا يرشد ولا يوفق إلا هو. وقوله:} مَنْ أَحْبَبْتَ { [القصص: 56] يكون على معنيين: أحدهما للقربة، والآخر أحببت أن يهتدي. } وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي { [القصص: 56] يرشد، من يشاء لدينه،} وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ { [القصص: 56] قال مجاهد، ومقاتل: ممن قدر له الهدى.

وقوله:} وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا { [القصص: 57] قال المفسرون: قالت قريش لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن اتبعناك على دينك خفنا العرب على أنفسنا أن يخرجونا من أرضنا مكة إن تركنا ما يعبدون، ومعنى التخطف الانتزاع بسرعة، قال الله تعالى:} أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا { [القصص: 57] ذا أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسبي والغزو، أي: فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن، كما قال:} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ { [العنكبوت: 67] قال الفراء: يقول: أو لم نسكنهم حرما يخاف من دخله، فكيف يخافون العرب. ومعنى} أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا { [القصص: 57] : أو لم نجعله مكانا لهم. وقوله:} يُجْبَى إِلَيْهِ { [القصص: 57] يجمع، من قولك: جبيت الماء في الحوض، أي جمعت. وقرئ تجبى بالتاء لحيلولة الحرف بين الاسم المؤنث والفعل، كقولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. قال مقاتل: يحمل إلى الحرم. } ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ { [القصص: 57] من مصر والشام، واليمن والعراق،} رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا { [القصص: 57] رزقناهم رزقا من عندنا، ولكن أكثرهم يعني: أهل مكة، لا يعلمون أنا فعلنا ذلك. ثم خوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال:} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ {58} وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ {59} { [القصص: 58-59] } وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا { [القصص: 58] قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة. والمعنى: بطرت في معيشتها. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. وقوله:} فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا { [القصص: 58] قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون، وماروا الطرق يوما أو ساعة. والمعنى: لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا،} وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ { [القصص: 58] يعني: لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيت خرابا غير مسكونة، كقوله:} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا { [مريم: 40] وقد مر. قوله:} وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى { [القصص: 59] يعني القرى الكافر أهلها،} حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا { [القصص: 59] في أعظمها، رسولا ينذرهم، وخص الأعظم ببعثه الرسول فيها لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف، وأشراف القوم وملوكهم يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما حولها، وقوله:} يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا { [القصص: 59] قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا. } وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ { [القصص: 59] قال عطاء: يريد بظلمهم أهلكتهم، وظلمهم شركهم. } وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ {60} أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {61} { [القصص: 60-61] } وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ { [القصص: 60] الخطاب لكفار مكة، يقول: ما أعطيتم من خير ومال،} فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَزِينَتُهَا { [القصص: 60] تتمتعون به أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء وانقضاء،} وَمَا عِنْدَ اللَّهِ { [القصص: 60] من الثواب، خير وأبقى أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني الذاهب. } أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا { [القصص: 61] يعني الجنة، يقول: أفمن وعدنا على إيمانه وطاعته الجنة والثواب الجزيل، فهو لاقيه مدركه ومصيبه،} كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { [القصص: 61] كمن هو متمتع بشيء يفنى ويزول عن قريب،} ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ { [القصص: 61] النار، فقال قتادة: يعني المؤمن والكافر، فالمؤمن سمع كتاب الله فصدقه وآمن بموعود الله فيه، وليس كالكافر الذي يتمتع بالدنيا، ثم هو يوم القيامة من المحضرين في عذاب الله. أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا أبو الشيخ الحافظ، أنا محمد بن سليمان، نا عبد الله بن حازم، نا بدل بن المحبر، نا شعبة، عن أبان، عن مجاهد في قوله:} أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا { [القصص: 61] الآية، قال: نزلت في عليّ وحمزة وأبي جهل. وقوله:} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {62} قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ {63} وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ {64} وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ {65} فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ {66} فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ {67} { [القصص: 62-67] } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ { [القصص: 62] ينادي الله المشركين يوم القيامة،} فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] في الدنيا أنهم شركائي. } قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ { [القصص: 63] حقت عليهم كلمة العذاب، يعني رؤساء الضلالة،} رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا { [القصص: 63] يعنون الأتباع،} أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا { [القصص: 63] أضللناهم كما ضللنا، تبرأنا إليك منهم، قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال عز وجل:} الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ { [الزخرف: 67] . وقيل لكفار بني آدم: ادعوا شركاءكم استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونها ليخلصوكم من العذاب،} فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ { [القصص: 64] لم يجيبوهم إلى نصرهم،} وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ { [القصص: 64] جواب لو محذوف على تقدير لو أنهم كانوا يهتدون، أي في الدنيا، ما رأوا العذاب. } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ { [القصص: 65] يعني: يسأل الله الكفار،} فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ { [القصص: 65] ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين، فعميت خفيت واشتهيت،} عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ { [القصص: 66] قال مجاهد، ومقاتل: الحجج. وسميت حججهم أنباء لأنها أخبار يخبرونها وهم لا يجتنبون ولا ينطقون بحجة، لأن الله أدحض حجتهم، وكلل ألسنتهم. قال الفراء: جاء في التفسير عميت عليهم الحجج يومئذ، فسكتوا، فذلك قوله:} فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ { [القصص: 66] لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج. } فَأَمَّا مَنْ تَابَ { [القصص: 67] عن الشرك، وآمن وصدق بتوحيد الله، وعمل صالحا أدى الفرائض،} فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ { [القصص: 67] من الناجحين الفائزين، وعسى من الله واجب. قوله:}

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {68} وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ {69} وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} { [القصص: 68-70] } وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ { [القصص: 68] قال المفسرون: نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا:} لو نزلا هذا القرءان على رجل {الآية، ومعناه: ويختار من يشاء لنبوته ورسالته، أي: فكما أن الخلق إليه ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأشياء، فيختار مما خلق ومن يشاء، ثم نفى الاختيار عن المشركين، وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود من الطائف، فقال:} مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ { [القصص: 68] أي الاختيار، أي: ليس لهم أن يختاروا على الله، قال ابن قتيبة: أي لا يرسل على اختيارهم. والخيرة اسم من الاختيار تقام مقام المصدر، والخيرة اسم للمختار أيضا، يقال: محمد خيرة الله من خلقه، أي مختاره، ويجوز التخفيف فيها. ثم نزه نفسه عن شركهم، فقال:} سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ { [القصص: 68] . ثم أخبر بنفوذ علمه فيما خفي وظهر، فقال:} وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ { [القصص: 69] مما تستر قلوبهم من الكفر والعداوة لله ورسوله، وما يعلنون بألسنتهم من الكفر والمعاصي. ثم وحد نفسه، فقال:} وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ { [القصص: 70] يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة، وله الحكم الفصل بين الخلائق، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل. ثم قال تعالى:} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ {72} وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {73} { [القصص: 71-73] قل أي: لأهل مكة، أرأيتم معناه أخبروني،} إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا { [القصص: 71] دائما،} إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ { [القصص: 71] لا نهار معه،} مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ { [القصص: 71] بنور تطلبون فيه المعيشة، ونهار تبصرون فيه، أفلا تسمعون سماع فهم وقبول، فتستدلوا بذلك على توحيد الله، وقوله: تسكنون فيه أي: تستريحون فيه من الحركة والنصب، أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة منه، فقال:} وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ { [القصص: 73] يعني في الليل،} وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ { [القصص: 73] لتلتمسوا في النهار من فضل الله، ولعلكم تشكرون الله الذي أنعم عليكم بهما. } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {74} وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا

فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {75} { [القصص: 74-75] } وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 74] وقد مر تفسيرها، وإنما كرر ذكر النداء للمشركين بأين شركائي تقريعا لهم بعد تقريع. } وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا { [القصص: 75] وأخرجنا من كل أمة رسولها الذي يشهد عليهم بالتبليغ وبما قال منهم، وهذا كقوله:} فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ { [النساء: 41] الآية، وقوله:} وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا { [النحل: 84] وقوله:} فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ { [القصص: 75] قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون. وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكا. } فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ { [القصص: 75] التوحيد،} لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ { [القصص: 75] زال وبطل في الآخرة،} مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ { [القصص: 75] في الدنيا من أن مع الله شريكا. } إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77} { [القصص: 76-77] قوله:} إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى { [القصص: 76] قال عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه: كان من بني إسرائيل، ثم من سبط موسى، وهو ابن خالته. وقال قتادة، ومقاتل: كان ابن عمه لحا، لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث. وقوله: فبغى عليهم أي: بكثرة ماله جاوز الحد في التكبر والتجبر عليهم، وقال شهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرا، والمعنى أنه تكبر عليهم، وطول الثياب من علامات التكبر، ولذلك نهي عنه، وقوله:} وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ { [القصص: 76] قال عطاء: أصاب كنزا من كنوز يوسف، فكان كما ذكره الله تعالى:} مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ { [القصص: 76] أي: خزائنه في قول الأكثرين، كقوله:} وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ { [الأنعام: 59] وهو اختيار الزجاج، فإن الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله. وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب. وهذا قول قتادة، ومجاهد. وروى الأعمى، عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، مفتاح كل خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا، وهو قوله:} لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ { [القصص: 76] . يقال: ناء بحمله إذا نهض به مثقلا. قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه الأربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال. والمعنى: تثقلهم حمل المفاتيح. يقال: نأى الحمل إذا أثقلت، فجعلت تنوء به. } إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ { [القصص: 76] المؤمنون من بني إسرائيل: لا تفرح قال المفسرون: لا تأشر ولا تمرح ولا تبطر. } إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ { [القصص: 76] الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. } وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ { [القصص: 77] واطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة، وهو أن يقوم بشكر الله فيما أنعم عليه، وينفقه في رضا الله،} وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا { [القصص: 77] وهو أن يعمل في الدنيا لأخرته، هذا قول أكثر المفسرين، واختيار الزجاج، قال: معناه لا تنسى أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا

الذي يعمل به لآخرته. وقال الحسن: أمر أن يقدم الفضل، وأن يمسك ما يغنيه. } وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ { [القصص: 77] أطع الله واعبده لما أنعم عليك، وأحسن العطية في الصدقة والخير،} وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ { [القصص: 77] لا تبغ بإحسان الله إليك أن تعمل في الأرض بالمعاصي. } قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ { [القصص: 78] } قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي { [القصص: 78] قال عطاء: فكفر لما رأى أن المال حصل له بعلمه، ولم يعتبره من عطاء الله، فكأنه أراد بعلمه في التصرف وأنواع المكاسب، وقال آخرون: معناه إنما أوتيته على خير علمه الله عندي، فكنت أهلا لما أعطيته لفضل علمي. وقال الكلبي: على علم عندي بصنعة الذهب. قال الله: أولم يعلم قارون،} أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ { [القصص: 78] بالعذاب،} مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ { [القصص: 78] في الدنيا حين كذبوا رسلهم،} مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا { [القصص: 78] للأموال،} وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ { [القصص: 78] قال قتادة: إنهم يدخلون النار بغير حساب، وأما قوله:} فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ { [الحجر: 92] فإنهم يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، كما قال الحسن: لا يسألون ليعلم ذلك من قبلهم، وإنما سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ. قوله:} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ {80} { [القصص: 79-80] } فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79] قال السدي: خرج في جوار بيض على سرج من ذهب، على قطف أرجوان، على بغال بيض، عليهن ثياب حمر وحلي من ذهب. وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعهم ثلات مائة جارية بيض، عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب. وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات. وهذا معنى قول الحسن: في ثياب صفر. 704 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الشَّاشِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الرَّسْغَنِيُّ، نا جَدِّي، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعُ خِصَالٍ مِنْ قَوْمِ قَارُونَ: جَرُّ نِصَالِ السُّيُوفِ فِي

الأَرْضِ، وَلِبَاسُ الْخِفَافِ الْمَقْلُوبَةِ، وَلِبَاسُ الأُرْجُوَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ لا يَنْظُرُ فِي وَجْهِ خَادِمِهِ إِلا تَكَبُّرًا " قال الزجاج: الأرجوان في اللغة صبغ أحمر، وهو ما روي أنه كان عليهم، وعلى خيلهم الديباج الأحمر. قال مقاتل: فلما نظر مؤمنو أهل ذلك الزمان في تلك الزينة والجمال تمنوا مثل ذلك، وهو قوله: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79] نصيب آخر من الدنيا. {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص: 80] قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل. وقال مقاتل: بما وعده الله في الآخرة. قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ} [القصص: 80] ما عند الله من الثواب والجزاء، {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص: 80] وصدق بتوحيد الله، وعمل صالحا وقام بالفرائض مما أعطي قارون في الدنيا، ولا يلقاها قال مقاتل: لا يؤتاها. يعني: الأعمال الصالحة، ودل عليها قوله: وعمل صالحا وقال الكلبي: لا يعطاها في الآخرة {إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] على أمر الله. يعني الجنة، ودل عليه قوله: ثواب الله. قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} } [القصص: 81-82] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81] قال السدي: دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيا، فقال لها: إني أعطيك ألفين على أن تجيئي غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي، فتقولي: يا معشر بني إسرائيل، ما لي ولموسى، قد آذاني. قالت: نعم. فأعطاها خريطتين عليها خاتمه، فلما جاءت المرأة بيتها ندمت وقالت: يا ويلها، قد عملت كل فاحشة، فما بقي إلا أن أفتري على نبي الله، فلما أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتى قامت على بني إسرائيل، فقالت: إن قارون أعطاني هاتين الخريطتين على أن آتي جماعتكم فأزعم أن موسى يريدني على نفسي، ومعاذ الله أن أفتري على نبي الله، وهذه دراهمه عليها خاتمه، فعرف بنو إسرائيل خواتم قارون، فغضب موسى عليه السلام، فدعا الله عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إني قد أمرت الأرض أن تطيعك وسلطتها عليه، فمرها. فقال موسى: يا أرض خذيه وهو على سريره وفرشه، فأخذته حتى غيبت سريره، فلما رأى ذلك قارون ناشده الرحم، فقال: خذيه. فأخذته حتى غيبت قدميه، ثم أخذته حتى غيبت ركبتيه، ثم قال: خذيه. فأخذته حتى غيبت حقويه، وهو يناشده الرحم، فقال: خذيه. فأخذته حتى غيبته، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ناشدك الرحم واستغاثك فأبيت أن تغيثه، لو إياي دعا أو استغاثني لأغثته. أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، نا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا سعيد بن أبي مريم، أنا الليث، أنا عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عوف القاري، من بني قارة، أنه بلغه أن الله تعالى أمر الأرض أن تطيع موسى في قارون، فلما لقيه

موسى، قال للأرض: أطيعي. فأخذته إلى الركبتين، ثم قال لها: أطيعي. فأخذته إلى الحقوين، وهو في ذلك يستغيث بموسى، ثم قال: أطيعي. فوارته في جوفها، فأوحى الله إليه: يا موسى، ما أغلظ قلبك، أما وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته. قال: رب غضبا لك فعلت. قال قتادة، ومقاتل: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة. قوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص: 81] يقول: لم يكن له خير يمنعونه من الله، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81] من الممتنعين مما نزل من الخسف. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص: 82] صار أولئك الذين تمنوا ما رزق من المال والزينة، يتندمون على ذلك التمني، وهو قوله: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82] الآية، قال الكسائي: ويكأن في التأويل: ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وقال أبو عبيدة: سبيلها سبيل ألم تر. وقال مجاهد، وقتادة: ألم تعلم. وقال الخليل، والفراء: وي مفصولة من كأن وذلك أن القوم تنبهوا فقالوا: وي متندمين على ما سلف منهم، وكل من تندم فإظهار ندامته أن يقول: وي، وكأن في مذهب الظن والعلم. قوله: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82] أي: بالعافية والرحمة والإيمان، لخسف بنا أي الله، ومن ضم الخاء فإنه يئول في المعنى إلى الأول. ويكأنه معناه: ألم تر أنه، وأما ترى أنه، {لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82] لا يسعد من يكفر بالله، ومعنى ويكأنه تنبيه. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {83} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {84} } [القصص: 83-84] وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص: 83] يعني الجنة، {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} [القصص: 83] قال عطاء: علوا على خلقي في الأرض. وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم. وقال الكلبي، ومقاتل: استكبارا عن الإيمان. 705 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو عَبَّاسٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَمَّالُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ عَبْدِ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَهُ كَانَ يَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَحْدَهُ، وَهُوَ وَالٍ، يُرْشِدُ الضَّالَّ، وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَيَمُرُّ بِالْبَيَّاعِ وَالْبَقَّالِ فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَيَقْرَأُ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} وَيَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ مِنَ الْوُلاةِ وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ 706 - أَخْبَرَنِي الْحَاكِمُ أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ، كِتَابَةً، أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْحَدَّادِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا وَكِيعٌ، عَنْ أَشْعَثَ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِي سَلامٍ الأَعْرَجِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ شِرَاكُ نَعْلِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى غَيْرِهِ بِلِبَاسٍ يُعْجِبُهُ فَهُوَ مِمَّنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وقوله: ولا فسادا قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله. وقال مقاتل: عملا بالمعاصي. وقال عكرمة، ومسلم البطين: هو أخذ المال بغير حق. والعاقبة للمتقين أي: الجنة لمن اتقى عقاب الله بأداء الفرائض واجتناب معاصيه. قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} [القصص: 84] قال

ابن عباس: يريد الذي أشركوا. {إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84] إلا جزاء ما كانوا يعملون من الشرك، وجزاؤه النار. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {85} وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ {86} وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {88} } [القصص: 85-88] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} [القصص: 85] قال المفسرون: أنزل عليك القرآن. قال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن. وتقدير الكلام فرض عليك أحكام القرآن وفرائض القرآن، {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] يعني مكة، قال المفسرون: لما نزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجحفة في مسيره إلى المدينة، لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة، فأتاه جبريل، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال: نعم. فقال جبريل: فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] يعني إلى مكة، ظاهرا عليها. فنزلت الآية بالجحفة وليست مكية ولا مدنية، وسميت مكة معادا لعوده إليها. وتم الكلام، ثم ابتدأ كلاما آخر، فقال: قل {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} [القصص: 37] وهو جواب لكفار مكة لما قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك في ضلال. فقال الله: قل لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى، يعني نفسه، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص: 85] يعني المشركين، والمعنى: الله أعلم بالفريقين، وقد علم أني قد جئت بالهدى وأنكم في ضلال. ثم ذكره نعمه، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص: 86] أن يوحى إليك القرآن بأن تكون نبيا، {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع، ومعناه: ما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم، تتلوها على أهل مكة إلا أن ربك رحمك وأراد بك الخير. {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86] معينا لهم على دينهم. قال مقاتل: وذلك حين دعى إلى دين آبائه، فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه. وأمره بالتحرز منهم بقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} [القصص: 87] يعني القرآن، {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص: 87] إلى معرفته وتوحيده، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87] قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب له في الظاهر، والمراد به أهل دينه، أي تظاهروا الكفار ولا توافقوهم. وكذلك قوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] لا تعبد معه غيره، ثم وحد نفسه، فقال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قال عطاء، عن ابن عباس: إلا ما أريد به وجهه. وهو قول الكلبي، قال: كل عمل لغيره فهو هالك إلا ما كان له. وقال سفيان رحمه الله: إلا ما أريد به وجه الله من الأعمال. وهو اختيار الفراء، وأنشد: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل أي: إليه أوجه العمل، وعلى هذا وجه الله ما وجه إليه من الأعمال، له الحكم أي: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره، وإليه ترجعون تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية وآياتها تسع وستون. 707 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْخَفَّافُ، مُجَاوِرُ الْجَامِعِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ» {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {4} } [العنكبوت: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} } [العنكبوت: 1-2] قال الشعبي: أنزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فآذوهم، فنزلت فيهم هذه الآية. قال ابن عباس: يريد بالناس الذين آمنوا بمكة: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم. قال الزجاج: المعنى: أحسبوا أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يبين به حقيقة إيمانهم. وهو قوله: {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] قال السدي، ومجاهد، وقتادة: لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب والضرب. ثم أخبر عن فتنة من قبل هذه الأمة من المؤمنين، فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] قال ابن عباس: منهم إبراهيم خليل الرحمن، وقوم كانوا معه، ومن بعده

نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه. وقال غيره: يعني بني إسرائيل، ابتلوا بفرعون، فكان يسومهم سوء العذاب. وقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت: 3] في إيمانهم، وليعلمن الكاذبين في إيمانهم، فيشكوا عند البلاء. ثم أوعد كفار العرب، فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [العنكبوت: 4] يعني الشرك، قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاصي بن هشام وغيرهم. أن يسبقونا يفوقونا ويعجزونا، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4] بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنوا ذلك. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {5} وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {7} } [العنكبوت: 5-7] قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت: 5] من كان يخشى البعث ويخاف الحساب والرجاء، بمعنى الخوف كثير، قال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله. واختار الزجاج، فقال: معناه من كان يرجو ثواب لقاء الله. أي: ثواب المصير إليه، والرجاء على هذا القول معناه الأمل. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] أي: الأجل المضروب للبعث يأتي. قال مقاتل: يعني يوم القيامة لآت. والمعنى: فليعمل لذلك اليوم، كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110] روى مكحول، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما نزلت هذه الآية: " يا علي، ويا فاطمة، إن الله قد أنزل {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] ". وإن حقيقة رجاء لقاء الله أن يستعد الإنسان لأجل الله إذا كان آتيا باتباع طاعته واجتناب معصيته، وهو يعلم أن الله يسمع ما يقول، ويعلم ما يعمل، ولذلك قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] . قوله: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] قال مقاتل: يقول: من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] عن أعمالهم وعبادتهم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت: 7] لنبطلنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7] أي: بأحسن أعمالهم وهو الطاعة، ولا يجزيهم بمساوئ أعمالهم. قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {8} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ {9} } [العنكبوت: 8-9] . {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] أي: برا وعطفا عليهما، قال الزجاج: معناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما

يحسن. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت: 8] أي: لتشرك بي شريكا لا تعلمه لي، {فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8] . 708 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حِبَّانَ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ الضَّبِّيُّ، نا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنَّ دِينَكَ هَذَا، أَوْ لا آكُلُ وَلا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي، فَيُقَالَ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، قُلْتُ: لا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، إِنِّي لا أَدَعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، قَالَ: فَمَكَثَتْ يَوْمًا لا تَأْكُلُ وَلَيْلَةً، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، ثُمَّ مَكَثَتْ يَوْمًا آخَرَ وَلَيْلَةً لا تَأْكُلُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ؛ قُلْتُ: تَعْلَمِينَ، وَاللَّهِ يَا أُمَّهْ، لَوْ كَانَتْ لَكَ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ فَلا تَأْكُلِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنِّي أَكَلَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ هَذِهِ الآيَةَ {وإن جاهداك} ثم أوعد بالمصير إليه، فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] أي: أخبركم بمآل أعمالكم وسيئها لأجازيكم عليها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9] أي: في زمرة الأنبياء والأولياء. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ {10} وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {11} } [العنكبوت: 10-11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] قال مجاهد: نزلت في أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك كعذاب الله في الآخرة. وهو قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت: 10] ما يصيبهم من عذابهم، كعذاب الله أي: جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه، فأطاع الناس كما يطيع الله من خاف من عذابه، وهذا قول السدي، وابن زيد، قالا: هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر. قال الزجاج: وينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله. وقال عكرمة، عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا، وهم الذين نزلت فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] . {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} [العنكبوت: 10] يعني: دولة للمؤمنين ونصر لأولياء الله، ليقولن يعني: المنافقين للمؤمنين، {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10] على عدوكم، فكذبهم الله قال: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] من الإيمان والنفاق وغير ذلك، أي: لا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا: إنا كنا معكم على عدوكم. {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 11] قال مقاتل، والكلبي: وليرين الله الذين صدقوا عند البلاء فثبتوا على الإسلام. {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] بالشك عند البلاء وترك الإيمان. قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {12} وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {13} } [العنكبوت: 12-13] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 12] اتبعوا سبيلنا، قال مجاهد: هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم، قالوا لهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم شيء فهو علينا. ونحو هذا قال الكلبي، ومقاتل: إن أبا سفيان قال لمن آمن من قريش: اتبعوا ديننا ملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم. فذلك قوله: ولنحمل خطاياكم وهو جزم على الأمر، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ

مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] فيما ضمنوا من حمل خطاياهم. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13] يعني: أوزارهم التي عملوها، {وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أوزارا مع أوزارهم، لقولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا، وهذا كقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] ونحو هذا، ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع، فعليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» . {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [العنكبوت: 13] سؤال توبيخ وتقريع، {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] قال ابن عباس: يقولون على الله الكذب. وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله. ثم عزى نبيه بما ابتلي به النبيون من قبله من قومهم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ {14} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ {15} } [العنكبوت: 14-15] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} [العنكبوت: 14] أقام فيهم يدعوهم إلى الله، {أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] 709 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا هُدْبَةُ، أنا حَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاشَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت: 14] قال مقاتل: يعني الماء طفا فوق كل شيء فغرقوا. وهم ظالمون قال ابن عباس: مشركون. فأنجيناه يعني: نوحا من الغرق، وأصحاب السفينة الذين كانوا معه فيها، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] تركنا السفينة عبرة لمن بعدهم من الناس، إن عصوا رسولهم فعلنا بهم مثل ذلك.

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {16} إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {17} وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {18} } [العنكبوت: 16-18] وإبراهيم عطفا على نوح، والمعنى: وأرسلنا إبراهيم، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت: 16] أطيعوا الله وخافوه، ذلكم يعني: عبادة الله، خير لكم من عبادة الأوثان، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16] ولكنكم لا تعلمون. {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت: 17] قال ابن عباس: يريد الأصنام التي تتخذ من الحجارة والخشب. وتخلقون إفكا قال السدي: تقولون كذبا. يعني زعمهم أنها آلهة، ثم ذكر عجز الآلهة عن رزق عابديها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 17] لا يقدرون أن يرزقوكم، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] فاطلبوا الرزق مني، فأنا القادر على ذلك، وما بعدها هذا ظاهر إلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {19} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ {21} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {22} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {23} } [العنكبوت: 19-23] {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت: 19] يعني: كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب لهم، {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 19] كيف يخلقهم الله ابتداء من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى تمام الخلق، ثم يعيده في الآخرة عند البعث، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19] قال ابن عباس: يريد الخلق الأول والخلق الآخر. {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] أي: ابحثوا وانظروا، هل تجدون خالقا غير الله، فإذا علموا أنه لا خالق ابتداء إلا الله لزمتهم الحجة في الإعادة، وهو قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] أي: ثم الله الذي خلقها وبدأ خلقها ينشئها نشأة ثانية، وقرأ أبو عمرو بالمد، قال الفراء: وهو مثل الرأفة والرافة، والكأبة والكآبة، كل نواب. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [العنكبوت: 20] من البدء والإعادة، قدير. قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22] قال

قطرب: معناه ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان ههنا ولا بالبصرة لو صار إليها. وهذا معنى قول مقاتل: وما أنتم يا كفار مكة بسابقي الله، فتفوتونه في الأرض كنتم أو في السماء كنتم، أينما تكونوا حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} [العنكبوت: 22] يمنعكم مني، ولا نصير ينصركم من عذابي. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} [العنكبوت: 23] بالقرآن والبعث بعد الموت، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: 23] يعني من جنتي. ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم، وهو قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {24} وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {25} } [العنكبوت: 24-25] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [العنكبوت: 24] يعني: حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن عبادة الأصنام، {إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] وفي هذا تسفيه لهم حين أجابوا من احتج عليهم بأن يقتل أو يحرق، {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] قال مقاتل: فقذفوه في النار فأنجاه الله من ذلك. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 24] أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار حتى لم تحرقه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 24] بتوحيد الله وقدرته. وقال إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25] قال الزجاج: ترفع مودة على إضمار هي، كأنه قال: تلك مودة بينكم، أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودة بينكم. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 25] وقرأ عاصم مودة بالرفع والتنوين، بينكم نصبا، وهذه القراءة كالأولى، إلا أنه لم يضف المودة ونصب بينكم على الظرف. وقرأ حمزة مودة نصبا من غير تنوين بينكم خفضا جعل ما مع أن كافة، ولم يجعلها بمعنى الذي، ونصب مودة على أنه مفعول له، أي أتخذتم الأوثان للمودة، ثم أضافها إلى بينكم كما أضاف من وقع وقرأ نافع وابن عامر مودة بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، وهذه القراءة كقراءة حمزة في المعنى، إلا أنه لم يضف المودة. قال المفسرون: يقول أنكم جعلتم الأوثان تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها في الحياة الدنيا، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت: 25] يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] يلعن الأتباع القادة، لأنهم زينوا لهم الكفر ومأواكم ومصيركم جميعا، {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] مانعين منها. {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {26} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {27} } [العنكبوت: 26-27] {

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] صدق بإبراهيم لوط، وهو ابن أخيه، وقال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] هاجر من كوثا، وهو سواد العراق، إلى الشام، وهجر قومه المشركين. والمعنى: إلى حيث أمرني. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [العنكبوت: 27] من بعد إسماعيل، ويعقوب من إسحاق، {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وذلك أن الله لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] يعني الثناء الحسن، فكل أهل الأديان يحبونه ويتولونه، وقال السدي: هو أنه أري مكانه في الجنة، ثم أعلم أن له مع ما أعطي في الدنيا الدرجات العلى بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] قال ابن عباس: مثل آدم ونوح، أي أنه في درجتهما. وقد قال الله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] . {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ {28} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {29} قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ {30} } [العنكبوت: 28-30] وما بعد هذا مفسر إلى قوله: وتقطعون السبيل وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس الممر بهم. قال الفراء: كانوا يعترضون الناس من الطرق لعملهم الخبيث. {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] النادي والندي والمنتدى: مجلس القوم ومتحدثهم، قال ابن عباس، ومجاهد: هو إتيانهم الرجال، واستمكنت تلك الفاحشة فيهم حتى فعل بعضهم ببعض في المجالس. وقال القاسم بن محمد: هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم. 710 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذَ الْعَدْلُ، أنا حَمْدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا جَدِّي، نا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا زُرَيْعٌ، نا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} ، قُلْتُ: مَا الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَ؟ قَالَ: كَانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (صَحِيحِهِ) ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمٍ قال الزجاج: وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكير، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي، ولما أنكر لوط على قومه ما كانوا يأتونه من القبائح قالوا له استهزاء: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29] أن العذاب نازل بنا. وعند

ذلك قال لوط: رب انصرني أي: بتحقيق قولي في العذاب، {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30] العاصين بإتيان الرجال، فاستجاب الله دعاءه، فبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه، وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ {31} قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {32} وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {33} إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {34} وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {35} وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {36} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {37} } [العنكبوت: 31-37] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت: 31] أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] يعنون: قرية لوط، {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] يعني مشركين، وما بعد هذا مفسر في { [هود إلى قوله:] إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [سورة العنكبوت: 33] يعني بناته، قال المبرد: الكاف في منجوك مخفوضة، ولم يجز عطف الظاهر على الضمير المخفوض، فحمل الثاني على المعنى، وصار التقدير وننجي أهلك، ومنجون أهلك. قوله: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت: 34] قال مقاتل: يعني الخسف والحصب. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [العنكبوت: 34] جزاء لفسقهم. {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} [العنكبوت: 35] يعني: آثار منازلهم الخربة، وقال قتادة: هي الحجارة التي أبقاها الله فأدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض. وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت: 36] قال مقاتل: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال. وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ {38} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ {39} فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {40} } [العنكبوت: 38-40] {

وَعَادًا وَثَمُودَ} [العنكبوت: 38] قال مقاتل، والزجاج: وأهلكنا عادا وثمود. {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38] ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجر والحجاز واليمن آية في هلاكهم، وقوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] يقال: استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة. قال قتادة، والكلبي: إنهم كانوا مستبصرين في دينهم وضلالتهم، معجبين بما يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق. والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين فيما كانوا عليه من الضلالة. قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] أي: عاقبنا بتكذيبه الرسل، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم لوط، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [العنكبوت: 40] يعني ثمودا، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت: 40] يعني: قارون وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] يعني: قوم نوح وفرعون، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت: 40] ليعذبهم على غير ذنب. ثم ضرب لهم مثلا، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ {43} } [العنكبوت: 41-43] {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [العنكبوت: 41] يعني: الأصنام يتخذونها أولياء، يرجون ضرها ونفعها، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] وبيتها لا يغني عنها في حر ولا قر ولا مطر، كذلك آلهتهم لا ترزقهم شيئا، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] لا بيت أضعف منه فيما يتخذه الهوام، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] أي: إنه عالم بما عبدتموه من دونه، لا يخفى على الله ذلك، فهو يجازيكم على كفركم. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42} وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت: 42-43] يعني: أمثال القرآن، وهي التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة. نضربها للناس قال مقاتل: نبينها لكفار مكة. {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله. 711 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ، نا الْحَارِثُ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا عَبَّادٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَلا هَذِهِ الآيَةَ {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} قَالَ: الْعَالِمُ: الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبَ سَخَطَهُ "

{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ {44} اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {45} } [العنكبوت: 44-45] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت: 44] أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 44] في خلقها، {لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] لدلالة على قدرة الله وتوحيده. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45] يعني القرآن، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] الفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر لا يعرف في شريعة ولا سنة، قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد إلا بعدا. وهذا قول الحسن، وقتادة، قالا: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليس صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. 712 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ، نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلا بُعْدًا» 713 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» ومعنى هذا أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله، فإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن تاب يوما وترك معاصيه تبينا أن ذلك من نهي الصلاة، وأن صلاته كانت نافعة له ناهية وإن لم ينته إلا بعد زمان. وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] يعني: مما سواه، وأفضل من كل شيء، قال قتادة: ليس أفضل من ذكر الله، والمعنى أن العبد إذا كان ذاكرا الله لم يجر عليه القلم بمعصية، لأنه إذا ذكر الله ارتدع عما يهم به من السوء، ولهذا قال الفراء، وابن قتيبة: ولذكر الله هو التسبيح والتهليل: يقول: هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. أي: من كان ذاكرا لله فيجب أن ينهاه عن الفحشاء والمنكر. أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق الضغاني، نا حسن بن موسى الأشيب، نا حماد، عن ثابت البناني، أن رجلا أعتق أربع رقاب، فقال آخره: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم دخل المسجد فأتى حبيب بن أوفى

المسلمي، فقال: ما تقول في رجل أعتق أربع رقاب وأني أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها أفضل. فنظروا فنيهة، فقالوا: ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله، وفي الآية قول آخر: وهو أن المعنى ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه. قال مقاتل: إذا صليت لله فقد ذكرته فيذكرك الله بخير، وذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه. أخبرنا أبو نعيم المهرجاني، أنا بشر بن أحمد بن بشر، أنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، نا علي بن الجعد، نا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي، في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] قال: أكبر من ذكر العبد لله. 714 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قَالَ: قُلْتُ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ حَسَنٌ، وَذِكْرُهُ بِالصَّلاةِ حَسَنٌ، وَبِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ حَسَنٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّجُلُ رَبَّهُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ فَيَنْحَجِزَ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلا عَجَبًا وَمَا هُوَ كَمَا قُلْتَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكِمْ إِيَّاهُ 715 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى: إِنِّي كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ: {ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ فَقَالَ: الصَّلاةُ وَالصَّوْمُ ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي تَرَكْتُ رَجُلا فِي رَحْلِي يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعِبَادَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ وَاللَّهِ صَاحِبُكَ وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] قال عطاء: يريد لا يخفى على الله شيء. قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] أي: بالقراءة والدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه، {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] إلا من أبى أن يقر بالجزية ونصب الحرب، فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقولوا لمن قبل الجزية منهم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] . {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ {47} وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ

الْمُبْطِلُونَ {48} بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ {49} } [العنكبوت: 47-49] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] وكما أنزلنا عليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب، {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: مؤمني أهل الكتاب، ومن هؤلاء يعني: كفار مكة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت: 47] يعني: من أسلم منهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت: 47] أي: بعد المعرفة، إلا الكافرون من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدا نبي، والقرآن حق، فجحدوا وتنكروا. {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48] وما كنت تقرأ قبل القرآن كتابا، أي: ما كنت قارئا، ولا كاتبا قبل الوحي، وهو قوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وكذا كان صفته في التوراة والإنجيل: أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ولو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك، وقالوا: إن الذي نجده في التوراة أمي لا يقرأ الكتاب وما كانوا يرتابون في نبوة محمد لما يجدونه من نعته، ولكنهم جحدوا نبوته بعد اليقين، فلو كان كاتبا قارئا لكان بغير النعت الذي عرفوه، فكانوا يشكون، والمبطل الذي يأتي بالباطل، وكل من ادعى دينا الإسلام فهو مبطل. قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [العنكبوت: 49] قال الحسن: القرآن آيات بينات. {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] يعني: المؤمنين الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحملوه بعده. وقال قتادة، ومقاتل: بل يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو آيات بينات، أي: ذو آيات بينات في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته وصفته. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] يعني: كفار اليهود. {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] وقالوا يعني: كفار مكة، لولا أنزل عليه آية من ربه هلا أنزل على محمد آية من ربه كما كانت الأنبياء يجيء بها إلى قومهم، وقرئ آيات على الجمع، وقد تقع آية على الكثرة، وإن كانت على لفظ الواحد فالقراءتان معناهما واحد. {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50] هو القادر على إرسالها، إذا شاء أرسلها، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50] أنذر أهل المعصية بالنار، وليس إنزال الآيات بيدي. ولما سألوا الآيات قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51] أو لم يكفهم من الآيات القرآن، يتلى عليهم فيه خبر ما بعدهم وما قبلهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 51] في إنزال الكتاب عليك، لرحمة لمن آمن وعمل به، وذكرى وتذكير أو موعظة، لقوم يؤمنون. قال مقاتل: فكذبوا بالقرآن، فنزل {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت: 52] أي: بالله شاهدا بينا أني رسوله، وكفى هو شاهدا، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت: 52] وشهادة الله له إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} [العنكبوت: 52] قال ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان. {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] بالعقوبة وفوت المثوبة.

{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {51} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {52} } [العنكبوت: 50-52] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت: 53] استهزاء وتكذيبا منهم بذلك، {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت: 53] لعذابهم، وهو يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب. {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53] بإتيانه. ثم ذكر أن موعد عذابهم النار، فقال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] جامعة لهم، يوم يغشاهم يعلوهم، {الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] كقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] . ويقول بالياء يعني: الموكل بعذابهم، يقول لهم: ذوقوا ومن قرأ بالنون، فلأن ذلك لما كان بأمره سبحانه جاز أن ينصب، ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] أي: جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب. قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ {56} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {57} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {58} الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {59} وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {60} } [العنكبوت: 56-60] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] قال مقاتل: نزلت في ضعفاء المسلمين بمكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، فاخرجوا منها. قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلدة يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. ثم خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] أي: كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] بعد الموت، فنجزيكم بأعمالكم. ثم ذكر ثواب من هاجر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت: 58] يعني المهاجرين، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: 58] قال ابن عباس: لنسكنهم غرف الدر والزبرجد والياقوت، ولننزلنهم قصور الجنة. وقرأ حمزة لنثوينهم، قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه، قال الأخفش: ولا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار بل تقول في الدار وليس في الآية حرف جر في، المفعول الثاني، وقال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف الجر، ثم حذف كما يقال: أمرتك الخير، أي بالخير، ثم وصف تلك الغرف، فقال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [العنكبوت: 58] لا يموتون، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] لله غرف. ثم وصفهم، فقال: الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه لشدة لحقتهم، {وَعَلَى

رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59] قال ابن عباس: وذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم. وقال مقاتل: إن أحدهم كان يقول بمكة كيف أهاجر إلى المدينة، وليس لي بها مال ولا معيشة، فقال الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} [العنكبوت: 60] وهي كل حيوان يدب على الأرض مما يعقل ولا يعقل، والمعنى: من نفس دابة. {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لا ترجع رزقها معها، ولا تدخر شيئا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} [العنكبوت: 60] حيث ما توجهت، وإياكم يرزق إن خرجتم إلى المدينة ولم يكن لكم زاد ولا نفقة، قال سفيان: وليس شيء مما خلق الله يخبئ ويدخر إلا الإنسان والفأرة والنملة. وقوله: وهو السميع أي: لقولكم إنا لا نجد ما ننفق بالمدينة. العليم بما في قلوبكم. 716 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْجَمَّالُ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن مِنْهَالٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الأَنْصَارِ فَجَعَل يَلْتَقِطُ مِنَ الثَّمَرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ: يَابْنَ عُمَرَ، مَا لَكَ لا تَأْكُلُ؟ فَقُلْتُ: لا أَشْتَهِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَكِنِّي أَشْتَهِيهِ وَهَذِهِ صُبْحٌ رَابِعَةٌ مُذْ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَكَيْفَ بِكَ، يَابْنَ عُمَرَ، إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ وَيَضْعُفُ الْيَقِينُ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآيَةَ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {61} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {62} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {63} } [العنكبوت: 61-63] قوله: ولئن سألتهم يعني: كفار مكة، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] أي: الله خلقها، يقررن بأنه خالق السموات والأرض، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت: 63] أي: احمد الله على إقرارهم، لأن ذلك يلزمهم الحجة، ويوجب عليهم التوحيد. ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خلق الأشياء، وأنزل المطر، والمراد بالأكثر الجميع. {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {64} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ {65} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {66} } [العنكبوت: 64-66] قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] يعني: الحياة في هذه الدار، {إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] باطل وغرور وعبث، تنقضي عن قريب، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 64] يعني الجنة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: الحيوان الحياة. وهو قول

المفسرين: ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، ويكون كالثوران والغليان، ويكون التقدير وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان، والمعنى: إن حياة الدار الآخرة هي الحياة، لأنه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها، ولا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، وهذا معنى قول جماعة المفسرين. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] يعني: لو علموا لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون. قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت: 65] يعني المشركين، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أفردوا الله بالطاعة، وتركوا شركاءهم فلا يدعونهم لأنجائهم، فلما نجاهم الله من أهوال البحر وأفضوا، {إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] به، وهذا إخبار عن عنادهم، وأنهم عند الشدائد يعلمون أن القادر على كشفها الله وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم. قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر، وصاحوا: يا خذاي. قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [العنكبوت: 66] هذه لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] والمعنى: ليجحدوا نعمة الله، وليتمتعوا بباقي عمرهم، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، ومن كسر اللام في وليتمتعوا جعل اللام في ليكفروا لام كي، والمعنى: إذا هم يشركون ليكفروا، والمعنى: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما تستمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ {67} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ {68} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} } [العنكبوت: 67-69] أولم يروا يعني: كفار مكة، {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] يعني مكة، وذكرنا تفسير هذه الآية في { [القصص،] وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [سورة العنكبوت: 67] يعني: العرب يسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، أفبالباطل يؤمنون يعني الشيطان، وبنعمة الله بمحمد والإسلام، يكفرون. ثم ذكر أنهم أظلم الخلق، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم ممن زعم أن لله شريكا، وأنه أمر بالفواحش، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] بمحمد والقرآن، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟ وهو استفهام معناه التقرير. قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار. وقال ابن زيد: والذين جاهدوا هؤلاء المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا، لنهدينهم سبلنا لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، والأولى أن يكون معنى الهداية ههنا الزيادة منها والتثبيت عليها، قال الزجاج: أعلم الله أنه يزيد المجاهدين هداية، كما أنه يزيد الكافرين بكفرهم ضلالة، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] . {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] بالنصرة والعون، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد بالمحسنين الموحدين.

سورة الروم

سورة الروم مكية وآياتها ستون. 717 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرُّومِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ مَلَكٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَأَدْرَكَ مَا ضَيَّعَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ» {الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {6} يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7} } [الروم: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم الم ذكرنا تفسيره. غلبت الروم قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم، ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم. وقوله: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] يريد الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، وقال عكرمة: يعني أذرعات وكسكر، وهما من بلاد الشام، يعني الروم. {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3] من بعد غلبة فارس إياهم، والغلب والغلبة لغتان، سيغلبون فارس. {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد مر، أخبر الله أن الروم بعد ما غلبوا سيغلبون، ثم التقى الروم وفارس في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم، فغلبتهم الروم، فجاء جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر. {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما

غلبت، يعني أن غلبة أحد الفريقين الآخر أيهما كان الغالب أو المغلوب فإن ذلك كان بأمر الله وإرادته، وقضائه وقدرته، ويومئذ يعني: يوم تغلب الروم فارس، {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] الروم على فارس، قال السدي: فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك بنصر الله. {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الروم: 5] الغالب، الرحيم بالمؤمنين، قال الزجاج: وهذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله، لأنه أنبأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله عز وجل. 718 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ لُوَيْنٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ دِينَارِ بْنِ مُكْرَمٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ خَرَجَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: هَذَا كَلامُ صَاحِبِكَ، قَالَ: اللَّهُ أَنْزَلَ هَذَا وَكَانَتْ فَارِسُ قَدْ غَلَبَتِ الرُّومَ، فَاتَّخَذُوهُمْ شِبْهَ الْعَبِيدِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ لا تَغْلِبَ الرُّومُ فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ جَحْدٍ وَتَكْذِيبٍ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِالْبَعْثِ، فَقَالُوا لأَبِي بَكْرٍ: نُرَاهِنُكَ عَلَى أَنَّ الرُّومَ لا تَغْلِبُ فَارِسَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاثِ إِلَى التِّسْعِ، قَالُوا: الْوَسَطُ فِي ذَلِكَ سِتَّةٌ لا أَقَلَّ وَلا أَكْثَرَ، قَالَ: فَوَضَعُوا الرِّهَانَ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُحَرَّمَ الرِّهَانُ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، أَلا أَقْرَرْتَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ سِتًّا لَقَالَ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ سِتٍّ لَمْ تَظْهَرِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَخَذُوا الرِّهَانَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ سَبْعٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} قوله: وعد الله أي: وعد الله ذلك وعدا، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] في ظهور الروم على فارس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 6] يعني: كفار مكة، لا يعلمون أن الله لا يخلف وعده في إظهار الروم على فارس. ثم وصف كفار مكة، فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7] يعني: معايشهم وما يصلحهم، وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم، ومتى حصادهم. وروي عنه أنه قال: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم بيده، فيخبرك بوزنه، ولا يحسن أن يصلي. وقال الضحاك: يعلمون بنيات قصورها، وتشقيق أنهارها، وغرس أشجارها. وقال الزجاج: يعلمون معايش الحياة، لأنهم كانوا يعالجون التجارات، فأعلم الله مقدار ما يعلمون. {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] حين لم يؤمنوا بها، ولم يعدوا لها. ثم وعظهم ليعتبروا، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ {8} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {9} ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ {10} } [الروم: 8-10] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] في خلق الله إياهم، ولم يكونوا شيئا، فيعلموا {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] قال الفراء: إلا للخلق، يعني الثواب والعقاب. وأجل مسمى قال مقاتل: للسموات والأرض أجل تنتهيان إليه، وهو يوم القيامة. والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئا، فيعلموا أن خلق السموات والأرض لأمر، وأن لهما أجلا وهو يوم القيامة. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [الروم: 8] يعني: كفار مكة، بلقاء ربهم بالبعث بعد الموت، لكافرون لا يؤمنون بأنه كائن. ثم خوفهم، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9] أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم، ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصف تلك الأمم، فقال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] أعطوا من القوة ما لم يعطها هؤلاء، وأثاروا الأرض حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، وعمروها أي: كفار مكة، لأنهم كانوا أطول عمرا، وأكثر عددا، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 9] بالدلالات والحجج، وأخبروهم بأمر العذاب، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [الروم: 9] بتعذيبهم على غير ذنب، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] بالكفر والتكذيب، ودل هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكهم الله. ثم أخبر عن عاقبتهم، فقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في السوأى قولان: أحدهما أنها النار ضد الحسنى وهي الجنة، وهذا قول الفراء، والزجاج، والأكثرين. قال ابن قتيبة: السوأى جهنم ضد الحسنى وهي الجنة. وإنما سميت سوءى لأنها يسوء صاحبها، ومعنى أساءوا أشركوا، قاله ابن عباس، ومقاتل. وفي عاقبة الذين قراءتان: النصب والرفع، فمن نصب جعلها خبر كان ونصبها متقدمة، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وتقدير الكلام ثم وكان السوء عاقبة الذين أساءوا، ويكون أن في قوله: أن كذبوا مفعولا له، أي لأن كذبوا. قال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. القول الثاني في السوأى: أنها مصدر بمنزلة الإساءة، ويكون المعنى: ثم كان التكذيب آخر أمرهم، أي ماتوا على ذلك، فكأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب والشرك عقابا لهم بذنوبهم. أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الأصفهاني، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا أحمد بن منصور المروزي، نا

محمد بن عبد الله بن بكير، سمعت ابن عيينة يقول في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] إن لهذه الذنوب عواقب سوء، لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه حتى يسوء القلب كله، فيصير كافرا. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {11} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ {12} وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ {13} وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ {14} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ {15} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ {16} } [الروم: 11-16] قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [الروم: 11] أن يخلقها أولا، ثم يعيده ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] فيجزيهم بأعمالهم، والخلق هم المخلوقون في المعنى، وجاء قوله: ثم يعيده على لفظ الخلق، وقوله: يرجعون على المعنى، ووجه قراءة من قرأ بالتاء أنه صار من الغيبة إلى الخطاب. قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 12] قال الكلبي: ييأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب. وقال الفراء: ينقطع كلامهم وحجتهم. وذكرنا تفسير الإبلاس عند قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} [الروم: 13] أوثانهم التي عبدوها ليشفعوا لهم، {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13] يتبرءون منها وتتبرأ منهم. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم: 14] تظهر القيامة، {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] قال مقاتل: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار، فلا يجتمعون أبدا. وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقن يوم القيامة، هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين. وهو قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ينعمون ويسرون، والحبرة والحبر: السرور، قال ابن عباس، والمفسرون: في رياض الجنة ينعمون. ثم أخبر عن حال الكافرين بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] وهي ظاهرة. ثم ذكر ما يدرك به الجنة، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ {17} وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ {18} يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {19} } [الروم: 17-19] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] قال المفسرون: فصلوا لله، على تأويل فسبحوا لله. قال ابن عباس: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها، حين تمسون المغرب والعشاء، وحين تصبحون الفجر، وعشيا العصر،

وحين تظهرون الظهر. ومعنى تمسون: تدخلون في وقت المساء، ومثله تصبحون، وتظهرون في الوقتين جميعا، واعترض بين ذكر الأوقات قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 18] قال ابن عباس: يحمده أهل السموات وأهل الأرض ويصلون له ويسبحون. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] مفسر فيما تقدم، {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] يجعلها تنبت، وذلك حياتها بعد أن كانت لا تنبت، وكذلك تخرجون من الأرض يوم القيامة، وقرأ حمزة تخرجون بفتح التاء، أضاف الخروج إليهم، كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج: 43] . {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ {20} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} } [الروم: 20-21] قوله: ومن آياته دلائل قدرته، {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] يعني: آدم أبا البشر، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} [الروم: 20] من لحم ودم، يعني ذريته، تنتشرون تنبسطون في الأرض. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] جعل لكم أزواجا من مثل خلقكم، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] جعل بين الزوجين المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان، وما من شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 21] الذي ذكر من صنعه، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] في عظمة الله وقدرته. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ {22} وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {23} } [الروم: 22-23] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 22] على عظمتهما وكثافتهما وكثرة أجزائهما، واختلاف ألسنتكم يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية، وألوانكم لأن الخلق من بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] للبر والفاجر، والإنس والجن، وقرأ حفص بكسر اللام، قال الفراء: وهو وجه جيد لأنه قد قال: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] ، و {لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23] التقدير: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، هذا يعني تصرفكم في طلب المعيشة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] سماع اعتبار وتدبر. {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {24} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ {25} } [الروم: 24-25] {

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} [الروم: 24] للمسافر من الصواعق، وطمعا للحاضر المقيم في المطر. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] قال ابن مسعود: قامتا بغير عمد. وقال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره، يدعو إسرافيل من صخرة بيت المقدس حين ينفخ في الصور بأمر الله للبعث بعد الموت. ثم {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] من الأرض. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {26} وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27} } [الروم: 26-27] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 26] عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] قال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعا. وقال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء، والموت والبعث وإن عصوا في العبادة. وهذا مفسر في { [البقرة. قوله:] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة الروم: 27] يخلقهم أولا ثم يخلقهم ثانيا للبعث، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي: هين عليه الإعادة، وما شيء عليه بعزيز، ويجيء أفعل بمعنى المفاعل، كقول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول أي: عزيزة طويلة، وهذا قول الحسن، والربيع، وقتادة، والكلبي. وقال مقاتل: يقول: البعث أيسر عليه عندكم يا معشر الكفار من الخلق الأول. قال المبرد: وهو أهون عليه عندكم، لأنكم أقررتم بأنه بدأ الخلق، وإعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه. واختار الزجاج هذا القول، فقال: إن الله خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء. والكناية في قوله: وهو تعود إلى الإعادة، وهو مصدر، فأجري على التذكير ودل عليه الفعل، وهو قوله يعيده والفعل يدل على المصدر. وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] الصفة العليا، وهي أنه لا إله غيره، وهو العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه. {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {28} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {29} } [الروم: 28-29] ضرب لكم أيها المشركون، {مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28] أي: بَيَّنَ لكم شبها لحالكم ذلكم المثل، فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم: 28] من عبيدكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] من المال والعبيد والأهل، أي: هل يشاركونكم في أموالكم. وهو قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] أي: أنتم وشركاؤكم من

عبيدكم فيما رزقناكم شرع سواء؟ تخافونهم أي: يشاركونكم فيما ترثونه من آبائكم، كخيفتكم أنفسكم كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه دونه بأمر، فكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه، لأنه يحب أن ينفرد به، فهو يخاف شريكه كما أن يرثه عصبته من ذريته، يعني أن هذه الخيفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما بين الأحرار، ومعنى أنفسكم ههنا أمثالكم من الأحرار، كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] ، وكقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] أي: بأمثالهم من المؤمنين، قال صاحب النظم: وهذا مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء يخاف غيره من شريك لو كان له فيه شركه، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فجعلتموهم شركاء لي. كذلك كما بينا في ضرب المثل من أنفسكم، {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] عن الله. ثم بين لهم أنهم إنما اتبعوا فيما أشركوا به الهوى، فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم: 29] أشركوا بالله، أهواءهم في الشرك، بغير علم يعلمونه جاءهم من الله، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29] أي: لا هادي لمن أضله الله، وهذا يدل على أنهم إنما أشركوا بإضلال الله إياهم عن الحق، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29] مانعين من عذاب الله، قاله مقاتل. ثم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوحيده، فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} } [الروم: 30-32] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 30] أي: أخلص دينك، وهو قول سعيد بن جبير. وقال غيره: سدد عملك. والوجه: ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه ما يتوجه إليه لتسديده وإقامته، حنيفا مائلا إليه مستقيما عليه، لا ترجع عنه إلى غيره، وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فطرة الله: الملة، وهي الإسلام والتوحيد الذي خلق الله عليه المؤمنين، هذا قول المفسرين في فطرة الله. والمراد بالناس ههنا المؤمنون الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، ولفظ الناس عام، والمراد به الخصوص وانتصابها بالإغراء، وهو قول الزجاج، قال: فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] قال مجاهد، وإبراهيم: لا تبديل لدين الله. وهي نفي معناه النهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك والكفر، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] يعني التوحيد، وهو الدين المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [الروم: 30] يعني: كفار مكة، لا يعلمون توحيد الله. قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 31] قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وجوهكم منيبين، لأن مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل فيها الأمة، والدليل على ذلك قوله: {

يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30] معناه: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه راجعين إلى كل ما أمر به مع التقوى، وأداء الفرض، وهو قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] . ثم أخبر أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد، فقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31-32] تقدم تفسيره في آخر { [الأنعام،] كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم: 32] قال مقاتل: كل أهل ملة بما عندهم من الدين راضون. {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ {33} لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {34} أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ {35} وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ {36} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {37} } [الروم: 33-37] قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} [الروم: 33] يعني: كفار مكة، ضر وقحط وسنة، {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] أي: لا يلتجئون في شدائدهم إلى أوثانهم التي يعبدونها مع الله، إنما يرجعون في دعائهم إلى الله وحده، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم: 33] إذا أعطاهم من عنده المطر، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33] تركوا توحيد ربهم في الرخاء وقد وحدوه في الضر. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم: 34] ذكرنا تفسيره في آخر { [العنكبوت. ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله:] فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة الروم: 34] حالكم في الآخرة. {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ} [الروم: 35] على هؤلاء، سلطانا حجة وكتابا من السماء، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] يقولون من الشرك، يعني يأمرهم به، وهذا استفهام إنكار، أي ليس الأمر على هذا. ثم ذكر بطرهم عند النعمة، ويأسهم عند الشدة بقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36] يعني: فرح البطر وترك الشكر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم: 36] شدة وبلاء، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36] بما عملوا من السيئات، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] قنطوا من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويرجو ربه عند الشدة. ثم وعظهم، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37] والآية ظاهرة. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {38} وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ {39} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {40} } [الروم: 38-40] قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] أي: من الصلة والبر، والمسكين قال مقاتل: حقه أن يتصدق عليه. وابن السبيل يعني الضيافة، ذلك خير إعطاء الحق خير وأفضل من الإمساك، {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] يطلبون

بما يعلمون ثواب الله، ثم نعتهم بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم: 39] قال السدي: الربا في هذا الموضع الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، فإن ذلك لا يراد عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه. وروى قتادة، عن ابن عباس، قال: هي هبة الرجل، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه. وهذا قول جماعة المفسرين، قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي رد ما هو أكثر منه. وقرأ ابن كثير أتيتم مقصورا، وهو يئول في المعنى إلى قول من مد، كأنه قيل: وما جئتم من ربا ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له، كما تقول: أتيت خطأ، وأتيت صوابا، وأتيت قبيحا، إنما هو فعل له وسمي المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة ربا لأن غرضه فيه الاستزادة على ما أعطى، فسمي باسم الزيادة. وقوله: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] أي: في اجتلاب أموال الناس واجتذابها، وقرأ نافع لتربوا بالتاء وضمها، أي لتصير ذوي زيادة من أموال الناس بما آتيتم، وهو من الربى، أي صار ذا زيادة، {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] لأنكم قصدتم إلى زيادة العوض ولم تقصدوا البر والقربة. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] يضاعف لهم الثواب، يعطون الحسنة عشر أمثالها، والمضعف ذو الأضعاف من الحسنات. ثم ذكر ما أصاب الناس بترك التوحيد، فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {41} قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ {42} } [الروم: 41-42] ظهر الفساد يعني: قحط المطر وقلة النبات، في البر حيث لا يجري نهر، وهو البوادي، والبحر وهو كل قرية على ماء، قال ابن عباس: البحر ما كان من المدائن والقرى على شاطئ نهر. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] من المعاصي، يعني كفار مكة، ليذيقهم الله بالجوع في السنين السبع، {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41] أي جزاءه، لعلهم يرجعون لكي يرجعوا من الكفر إلى الإيمان، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] الآية. وليس المراد بالبر والبحر في هذه الآية كل بر وبحر في الدنيا، وإنما المراد به حيث ظهر هناك

القحط بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم خوفهم، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الروم: 42] مسافرين، {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42] لتروا مساكنهم ومنازلهم خاوية، وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم: 42] أي: كانوا مشركين فأهلكوا بكفرهم. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ {43} مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ {44} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {45} } [الروم: 43-45] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 43] قال الزجاج: أجعل جهتك إتباع الدين القيم، وهو الإسلام المستقيم. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم: 43] يعني: يوم القيامة، لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، يومئذ يصدعون يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار. و {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم: 44] جزاء كفره، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] يوطئون لأنفسهم منازلهم، يقال: مهدت لنفسي خيرا، أي هيأته ووطأته. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 45] قال ابن عباس: ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 45] لا يثيبهم ولا يثني عليهم. قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {46} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {47} } [الروم: 46-47] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] تبشر بالمطر، {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46] يعني: الغيث والخصب، ولتجري الفلك في البحر بتلك الرياح، بأمره ولتبتغوا في البحر، من فضله يعني: الرزق بالتجارة وكل هذا بالرياح، ولعلكم تشكرون هذه النعم فتوحدونه. ثم عزى، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الروم: 47] بالدلالات الواضحات على صدقهم، {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم: 47] عذبنا الذين كذبوهم وكفروا بآياتنا، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} [الروم: 47] واجبا وجوبا، هو أوجبه على نفسه، نصر المؤمنين إنجاؤهم مع الرسل من عذاب الأمم، وفي هذا تبشير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالظفر في العاقبة والنصر على من كذبه. ثم أخبر عن صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {48} وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ

لَمُبْلِسِينَ {49} فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {50} وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ {51} } [الروم: 48-51] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] تزعجه من حيث هو، فيبسطه الله، {فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48] إن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين، ويجعله كسفا بعد أن بسطه يجعله قطعا متفرقة، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] مفسر في { [النور،] فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} [سورة الروم: 48] بالودق، {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] يفرحون بنزوله. وإن كانوا وما كانوا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [الروم: 49] المطر، من قبله كرره للتأكيد، لمبلسين آيسين قانطين من المطر. قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] بعد إنزال المطر، انظر إلى حسن تأثيره في الأرض، ويقرأ آثار على الجمع، فمن أفرد فلأنه مضاف إلى مفرد، ومن جمع جاز، لأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل: 18] قال مقاتل: أثر رحمة الله هو النبت، وهو أثر المطر، والمطر رحمة الله ونعمته على خلقه. وقوله: {كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم تكن فيها نبت، إن ذلك الذي فعل ما ترون، وهو الله تعالى، لمحيي الموتى في الآخرة، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] البعث والموت. ثم عاب كافر النعمة والجاهل بأن الله يفعل ما يشاء، فقال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} [الروم: 51] باردة مضرة، والريح إذا أتت بلفظ الإفراد أريد بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند هبوب الريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» . قوله: فرأوه يعني: النبت والزرع الذي كان من أثر رحمة الله، مصفرا من البرد بعد الخضرة، لظلوا لصاروا، من بعده اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة، يعني أنهم يفرحون عند الخصب، ولو أرسلنا عذابا على زرعهم كفروا نعمي، وليس كذا حال المؤمن، لأنه لا يستشعر الخيبة والكفران عند الشدة والمنة. {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {52} وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ {53} } [الروم: 52-53]

قوله: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] هذه الآية والتي بعدها مفسرتان في { [النحل. ثم أخبر عن خلق أنفسهم ليتفكر المكذب بالبعث في خلق نفسه، فقال:] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [سورة الروم: 54] قال المفسرون: يعني من نطفة. والمعنى: خلقكم من ذي ضعف، أي من ماء ذي ضعف، كما قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ومعنى ضعف ذلك الماء أنه قليل، وقرئ بفتح الضاد، قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم، والاختيار الضم لما. 719 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، قَالَ: أنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا} ، قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَرَأْتَهَا فَأَخَذَهَا عَلَيَّ كَمَا أَخَذْتُهَا عَلَيْكَ وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} [الروم: 54] يعني: ضعف الطفولة، قوة الشباب، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} [الروم: 54] يعني: عند الكبر والهرم، وشيبة وهو مصدر كالشيب، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] أي: من ضعف وقوه شيبة وشباب، وهو العليم بتدبير خلقه القدير على ما يشاء. قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ {55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {56} فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {57} } [الروم: 55-57] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55] يحلف المشركون، ما لبثوا في القبور، غير ساعة إلا ساعة واحدة، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55] يقال: أفك فلان إذا صرف عن الصدق والخير. قال الكلبي: كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا. وقال مقاتل: يقول: هكذا كانوا يكذبون بالبعث كما كذبوا

أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة. وقال ابن قتيبة: أي كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل. والمعنى: أراد الله تعالى أن بعضهم خلقوا على شيء يتبين لأهل الجمع من المؤمنين أنهم كاذبون في ذلك، ويستدلون بكذبهم هناك على كذبهم في الدنيا، وكان ذلك من قضاء الله وقدره، بدليل قوله: يؤفكون أي يصرفون، يعني: كما صرفوا عن الصدق في خلقهم حين حلفوا كاذبين صرفوا في الدنيا عن الإيمان. ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56] أي: لبثتم في القبور فيما كتب الله لكم من اللبث إلى يوم البعث، وقال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ. والمفسرون حملوا هذا على التقديم على تقدير قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله وهم الذين يعلمون كتاب الله، وقرأ قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وقوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم: 56] أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56] وقوعه في الدنيا، فلا ينفعكم العلم به الآن، يدل على هذا المعنى قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم: 57] قال ابن عباس: لا يقبل من الذين أشركوا عذر، ولا عتاب، ولا توبة ذلك اليوم، وقرئ لا ينفع بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي في المعذرة، وقد وقع الفصل بين الفاعل وفعله فقوي التذكير، وقوله: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57] لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ {58} كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {59} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ {60} } [الروم: 58-60] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] احتجاجا عليهم وتنبيها لهم، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58] مثل العصا واليد، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} [الروم: 58] ما أنتم يا محمد وأصحابك، إلا مبطلون أصحاب أباطيل، وهذا إخبار عن عنادهم وتكذيبهم. ثم ذكر سبب ذلك، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59] أي: كالذي طبع على قلوبهم حتى لا يصدقون بآية يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله، فكل من لم يعلم توحيد الله فذلك لأجل طبع الله على قلبه. ثم أمر نبيه بالصبر إلى وقت النصر بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الروم: 60] بنصر دينك وإظهارك على عدوك، {حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} [الروم: 60] الذين لا يؤمنون، يقال: استخف فلان فلانا إذا استجهله فحمله على اتباعه في غيه، والمفسرون يقولون: لا يستخفن رأيك وعلمك. {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] بالبعث والحساب، أي هم ضلال شاكون.

سورة لقمان

سورة لقمان مكية وآياتها أربع وثلاثون. 720 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، أنا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ لُقْمَانَ كَانَ لَهُ لُقْمَانُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَشْرًا، بِعَدَدِ مَنْ عَمِلَ بِالْمَعْرُوفِ وَعَمِلَ بِالْمُنْكَرِ» {الم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {2} هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ {3} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } [لقمان: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {2} } [لقمان: 1-2] تقدم تفسيره. هدى ورحمة القراءة بالنصب على الحال، قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية الرحمة. وقرأ حمزة بالرفع على إضمار هو، قال ابن عباس: بيان من الضلالة ورحمة من العذاب للموحدين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما بعد هذا مضى فيما تقدم. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {6} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ {8} خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {10} هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {11} } [لقمان: 6-11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] نزلت في النضر بن الحارث، كان يأتي الحيرة فيشتري كتبا فيها أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة، ويقول: إن محمدا يحدثكم أحاديث عاد وثمود،

وأنا أحدثكم حديث فارس والروم، وأقرأ عليكم كما يقرأ محمد أساطير الأولين. ومعنى لهو الحديث: باطل الحديث، هذا قول الكلبي، ومقاتل. وأكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء. 721 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ مَطَرِ بْنِ يَزِيدَ الْكَتَّانِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لا يَحِلُّ تَعْلِيمُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلا بَيْعُهُنَّ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَلَقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآيَةَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى إِلا ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ حَتَّى يَسْكُتَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: هُوَ، وَاللَّهِ، الْغِنَاءُ وَاشْتِرَاءُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ بِالْمَالِ 722 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ سُمَيْعٍ، أنا ابْنُ أَبِي الزُّعَيْزِعَةِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَذِهِ الآيَةِ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: بِاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ، كَثِيرُ النَّفَقَةِ، سَمْحٌ فِيهِ، لا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِدِرْهَمٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنِ اخْتَارَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَرَدَ بِالاشْتِرَاءِ؛ لأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ فِي الاسْتِبْدَالِ وَالاخْتِيَارِ كَثِيرًا 723 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْخَلالُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، نا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مُوسَى، مِنْ

وَلَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَهَا بِالْغِنَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الرُّوحَانِيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ: وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ، يَا رَسُولَ اللَهِ؟ قَالَ: قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] قال الزجاج: من قرأ ليضل بضم الياء فمعناه: ليضل غيره، وإذا أضل غيره فقد ضل، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه: ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يكن بمشتر لضلالة فإنه يصير أمره إلى ذلك. قال قتادة: بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق. ومعنى قوله: بغير علم أي أنه جاهل فيما يفعل، لا يفعله عن علم، ويتخذها بالرفع عطف على يشتري، وبالنصب على ليضل، والكناية تعود إما إلى الآيات المذكورة في أول ال { [، أي: ويتخذ آيات القرآن هزؤا، وإما إلى سبيل الله، والسبيل تؤنث، كقوله:] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [سورة يوسف: 108] وما بعد هذا مفسر في مواضع فيما تقدم إلى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {12} وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13} وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {15} يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {16} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {17} وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19} } [لقمان: 12-19] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] أكثر العلماء على أن لقمان لم يكن نبيا. وقال عكرمة، والسدي، والشعبي: كان نبيا. وفسروا الحكمة ههنا بالنبوة. قال مجاهد: الحكمة ههنا الفقه، والعقل، والإصابة في القول. وقوله: {أَنِ اشْكُرْ

لِلَّهِ} [لقمان: 12] قال مقاتل: قلنا له أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12] ومن يطع الله فإنما يعمل لنفسه، ومن كفر النعمة فلم يوحده، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [لقمان: 12] عن عبادة خلقه، حميد عند خلقه. ثم ذكر معنى إعطاء الحكمة، فقال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} [لقمان: 13] أي: ولقد آتيناه الحكمة إذ قال، وهو يعظه قال ابن عباس: في الله {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] لا تعدل بالله شيئا في العبادة، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] يقول: ليس شيء من الذنوب أعظم من الشرك بالله. وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] تقدم تفسيره ونزوله. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] قال الزجاج: لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة. {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] الفصال الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم كي لا يرضع، وهو ابتداء وخبره في الظرف على تقدير وفصاله يقع في عامين، أن في انقضاء عامين، والمعنى: ذكر مشقة الوالدة بإرضاع الولد بعد الوضع عامين. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] قال ابن عباس: المعنى أطعني وأطع والديك. وقال مقاتل: أن اشكر لي إذ هديتك للإسلام ولوالديك، وبما أولياك من النعم. والمعنى: ووصيناه بشكرنا وشكر والديه. إلي المصير المرجع والمنقلب، أي: فأجزيك بعملك. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] مفسر في { [العنكبوت إلى قوله:] وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [سورة لقمان: 15] أي: اصحبها في الدنيا بالمعروف، وهو المستحسن. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد أبا بكر رضي الله عنه، وذلك أنه حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا له: آمنت وصدقت محمدا؟ فقال: نعم. فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا وصدقوا، فأنزل الله تعالى يقول: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] يعني أبا بكر رضي الله عنه. قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] قال السدي: قال ابن لقمان لأبيه: أرأيت لو كان حبة من خردل في مقل البحر، أكان الله يعلمها؟ فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [لقمان: 16] قال الزجاج: المعنى إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من {خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] قرئ مثقال بالرفع والنصب، فمن نصب فاسم كان مضمر على تقدير إن تكن التي سألت مثقال حبة من خردل، ومن رفع مع تأنيث تكن فلأن مثقال حبة من خردل راجع إلى معنى خردله، فهو بمنزلة إن تكن حبة من خردل، وتك ههنا بمعنى يقع، ولا خبر له، وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] قال السدي: هذه الصخرة ليست في السموات ولا في الأرض، هي تحت سبع أرضين، عليها ملك قائم. وقال قتادة: فتكن في صخرة، أي في جبل. {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] قال الزجاج: هذا مثل لأعمال العباد، وأن الله يأتي بأعمالهم مكتوبة يوم القيامة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 7-8] وقد قال مقاتل: قال ابن لقمان لأبيه: يا أبت أرأيت إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمه الله؟ فرد عليه لقمان ما أخبر الله عنه، فيكون المعنى: إن تكون الخطيئة مثقال حبة من خردل يأت بها الله للجزاء عليها. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16] باستخراجها، خبير بمكانها. {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان: 17] المفروضة، وأمر بالمعروف بالإيمان بالله، وطاعته واتباع

أمره، {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] الشرك والظلم ومعاصي الله، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] فيهما من الأذى، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى فيهما من حق عزم الأمور إلى الله بها، أي هو الذي يعزم عليها لوجوبها. {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] وقرئ ولا تصاعر بالألف، يقال: صعر خده وصاعر إذا أمال وجهه وأعرض تكبرا. يقول: لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم. قال ابن عباس: لا تتعظم على خلق الله. وقال قتادة: هو الإعراض عن الناس، يكلمك أخوك وأنت عنه معرض متكبر. 724 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، أنا أَبُو هَمَّامٍ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قَالَ: يَكُونُ الْغَنِيُ وَالْفَقِيرُ عِنْدَكَ سَوَاءً وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] يقال: قصد فلان في مشيه إذا مشى مشيا مستويا. قال مقاتل: لا تختل في مشيك. وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] . {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] قال مقاتل: اخفض من صوتك. وقال عطاء، عن ابن عباس: واغضض من صوتك إذا دعوت وناجيت ربك. وكذلك وصية الله عز وجل في الإنجيل لعيسى ابن مريم: مر عبادي إذا دعوني يخفضوا أصواتهم، فإني أسمع وأعلم ما في قلوبهم. {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] أقبحها، لصوت الحمير قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق. وقال المبرد: تأويله: إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وإنه داخل في باب المنكر. قال مقاتل: يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والمنطق. {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ {20} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {21} وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ {22} وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {23} نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ {24} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {25} لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {26} } [لقمان: 20-26]

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [لقمان: 20] يعني: الشمس والقمر، والنجوم والسحاب والرياح، {وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان: 20] يعني: الجبال، والأنهار والبحار، والأشجار والنبت عاما بعام، قال الزجاج: ومعنى تسخيرها للآدميين الانتفاع بها. وأسبغ عليكم أوسع وأكمل، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وأسبغها الله، وقوله: نعمة وقرئ نعمه جمعا، ومعنى القراءتين واحد، لأن المفرد يدل على الكثرة كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] . وقوله: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] 725 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقَالَ: هَذِهِ مِنْ مَخْزُونِي الَّذِي سَأَلْتُ عَنْهَا النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ؟ فَقَالَ: " يَابْنَ عَبَّاسٍ، أَمَّا مَا ظَهَرَ؛ فَالإِسْلامُ، وَمَا سَوَّى اللَّهُ مِنْ خَلْقِكَ، وَمَا فَضُلَ عَلَيْكَ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمَّا مَا بَطُنَ؛ فَسَتْرُ مَسَاوِئِ عَمَلِكَ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ بِهِ، يَابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ثَلاثَةٌ جَعَلْتُهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ: صَلاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ، وَجَعَلْتُ لَهُ قِلَّةَ مَالِهِ أُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وَالثَّالِثَةُ: سَتَرْتُ مَسَاوِئَ عَمَلِهِ فَلَمْ أَفْضَحْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ أَبْدَيْتُهَا عَلَيْهِ لَنَبَذَهُ أَهْلُهُ فَمَنْ سِوَاهُمْ وقال عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنه: الظاهرة: الإسلام والقرآن، وبالباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة. وقال الضحاك: الباطنة المعرفة، والظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء. وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] مفسر في { [الحج وال: الثانية مفسرة في سورة البقرة وكذلك الثالثة. وقوله:] وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] فلا تهتم لكفره، فإن رجوعهم إلينا وحسابهم علينا، وهو قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23] نخبرهم بقبائح أعمالهم، لأنها أثبت عليهم. نمتعهم قليلا يعني: أيام حياتهم إلى انقضاء آجالهم، نمتعهم بما أعطوا من الدنيا، ثم نضطرهم في الآخرة، أي نلجئهم، {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24] هو عذاب النار، لا يجدون عنها محيصا ولا ملجأ. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {27} مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {28} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {29} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {30} أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ

شَكُورٍ {31} وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ {32} } [لقمان: 27-32] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] قال قتادة: إن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، يوشك أن ينقطع. فنزلت هذه الآية، يقول: لو كان ما في الأرض من شجرة بريت أقلاما، وكان البحر مدادا ومعه سبعة أبحر مدادا مثله، وهو قوله: والبحر يمده قرئ نصبا بالعطف على ما، ورفعا بالاستئناف، كأنه كان قال: والبحر هذه حاله، وهي أن تنصب فيه سبعة أبحر، ونزيده بمائها، فكتبت بتلك الأقلام، لنفد المداد قبل أن ينفد علم الله، وهو قوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] قال جماعة المفسرين: يعني علم الله. والمعنى: كلمات الله التي هي عبارة عن معلوماته، ولما كان معلوم الله لا يتناهى، فكذلك الكلمات التي تقع عبارة عن معلومه لا تتناهى، والآية مختصرة، ويكون تقدير الكلام فكتبت بهذه الأقلام البحور ما نفدت كلمات الله. قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} [لقمان: 28] الآية، قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا: إن الله خلقنا أطوارا، نطفة، علقة، مضغة، فكيف يبعثنا الله خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فأنزل الله هذه الآية، يقول: ما خلقكم أيها الناس جميعا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، ولا بعثكم جميعا إلا كبعث نفس واحدة. قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [لقمان: 28] لما قالوا من أمر الخلق والبعث، بصير به. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [لقمان: 31] قال ابن عباس: يريد أن ذلك كله من نعمة الله عليكم. {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان: 31] من صنعه وعجائبه في البحر، وابتغاء الرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} [لقمان: 31] عن معاصي الله شكور لنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمن. وإذا غشيهم يعني: الكفار يقول إذا علاهم موج وهو ما ارتفع من الماء كالظلل كالجبال، أو السحاب التي تظل من تحتها خافوا الغرق والهلاك، ف {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] وهذا كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] وكان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل هذا، وهو إخلاصهم الدعاء في البحر. 726 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، نا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ "، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي الْيُسْرِ، فَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةُ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَهُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي فِي الْبَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ مَا يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ

أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا فَجَاءَ فَأَسْلَمَ 727 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَخَبَّ بِهِمُ الْبَحْرُ، فَجَعَلَ النَّاسُ وَمَنْ فِي السَّفِينَةِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا مَكَانٌ لا يَنْفَعُ فِيهِ إلا اللَّهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ الَّذِي كَانَ يَدْعُونَا إِلَيْهِ، ارْجِعُوا بِنَا. فَرَجَعَ، فَأَسْلَمَ. وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} [لقمان: 32] أي: من هول ما هم فيه، نجاهم حتى أفضوا إلى البر، فمنهم مقتصد أي: عدل في الوفاء في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، يعني: من ثبت على إيمانه، ثم ذكر الذي ترك التوحيد في البر، يقول: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ} [لقمان: 32] غادر بعهده، والختر سوء الغدر وأقبحه، كفور لله في نعمه. ثم خاطب كفار مكة، فقال: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33] قال ابن عباس: كل امرئ يهمه نفسه. وقال مقاتل: لا يغني والد عن ولده شيئا، أي لا ينفعه. يعني الكفار، وهذا كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وقد تقدم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] بالبعث، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] عن الإسلام والتزود للآخرة، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} [لقمان: 33] أي: بحلم الله وإمهاله، الغرور يعني الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يغر. قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] نزلت في رجل من محارب، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن أرضنا أجدبت فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم فما أعمل غدا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. 728 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّرَكِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ، أنا أَبُو حُذَيْفَةَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ، تَعَالَى: لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إِلا اللَّهُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ قال قتادة: في هذه الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] فلا يدري أحد من الناس متى تقوم، في أي سنة، أو في أي شهر، ليلا أو نهارا، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلا أم نهارا ينزل، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] لا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أم أسود، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] أخيرا أم شرا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] يقول: ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بر أم في بحر، في سهل أم جبل، تعالى ربنا وتبارك. وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مصطفى. قال الزجاج: فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.

سورة السجدة

سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون. 729 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الشُّرُوطِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» 730 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً، نا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، نا نَضْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَشَّاءُ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الإِمَامُ، نا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ» {الم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {3} } [السجدة: 1-3] بسم الله الرحمن الرحيم {الم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة: 1-2] قال مقاتل: يعني لا شك فيه أنه تنزيل، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 2-3] يعني المشركين، افتراه محمد من تلقاء نفسه، {بَلْ هُوَ} [السجدة: 3] أي القرآن، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3] يعني العرب، وكانوا أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد عليه السلام، لعلهم يهتدون لكي يرشدوا من الضلالة. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ {4} يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ {5} ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {6} } [السجدة: 4-6] و {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [السجدة: 4] مفسر في { [الأعراف إلى قوله:] مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [سورة السجدة: 4] يعني الكفار، يقول: ليس من دون عذابه من ولي، قريب ينفعكم فيرد عذابه عنكم، ولا شفيع لكم، أفلا

تتذكرون أفلا تتدبرون هذا فتؤمنوا. قوله: يدبر الأمر يعني: أمر الدنيا، يدبره الله عز وجل مدة أيام الدنيا، فينزل القضاء والقدر {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] قال ابن عباس: يرجع إليه. والمعنى: يعود الأمر والتدبير حتى ينقطع أمر الأمراء وأحكام، وينفرد الله تعالى بالأمر، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] قال ابن عباس: يريد أن يوما من أيام الآخرة مثل ألف سنة. مما تعدون من أيام الدنيا، وأراد بهذا اليوم يوم القيامة، وهذا كقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وقد مر ذلك. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة: 6] أي: ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وعالم ما حضر، العزيز المنيع في ملكه، الرحيم بأهل طاعته. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {9} } [السجدة: 7-9] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] يعني: أحسن خلق كل شيء، قال مقاتل: علم كيف تخلق الأشياء من غير أن يعلمه أحد. وقال السدي: أحسنه لم يتعلمه من أحد، والإحسان العلم. يقال: فلان يحسن كذا إذا علمه. قال صاحب النظم: بيان ذلك أنه لما طول رجل البهيمة والطائر طول عنقه لئلا يتعذر عليه ما لا بد له من قوته، ولو تفاوت ذلك لم يكن له معاش، وكذلك كل شيء من أعضاء الحيوان مقدر لما يصلح به معاشه. وقرئ خلقه بفتح اللام، وهو صفة للنكرة التي هي شيء، والمعنى: أتقن وأحكم كل شيء خلقه، قال ذلك الكلبي، ومجاهد. {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] يعني آدم، كان أوله طينا. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} [السجدة: 8] ولده وذريته، من سلالة تقدم تفسيرهما، {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] ضعيف، يعني النطفة. ثم رجع إلى آدم، فقال: ثم سواه سوى خلقه، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ثم عاد إلى ذريته، فقال: وجعل لكم يعني: من بعد أن كنتم نطفا، {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] يعني أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه. {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ {10} قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {11} } [السجدة: 10-11] وقالوا يعني: منكري البعث: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] هلكنا وصرنا ترابا فلم يبق شيء من خلقنا، ومعنى الضلال في اللغة الغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن، وضل الميت في التراب إذا بطل. {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] استفهام إنكار أنكروا إعادتهم بعد الموت، قال الله تعالى: بل هم يعني: {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] أي بالبعث. قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] أي: يقبض أرواحكم أجمعين، {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] قال ابن عباس: وكل بقبض أرواحكم. 731 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَقِيَ جِبْرِيلُ مَلَكَ الْمَوْتِ بِنَهْرٍ بِفَارِسَ، فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، كَيْفَ

تَسْتَطِيعُ قَبْضَ الأَنْفُسِ عِنْدَ الْوَبَاءِ، هَهُنَا عِشْرُونَ أَلْفٍ وَهَهُنَا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: تُزْوَى لِيَ الأَرْضُ حَتَّى كَأَنَّهَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَأَلْتَقِطُهُمْ بِيَدِي 732 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أَبُو عُمَارَةَ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ سِنَانٍ الرَّقِّيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَمْرَاضُ وَالأَوْجَاعُ كُلُّهَا بَرِيدُ الْمَوْتِ وَرُسُلُ الْمَوْتِ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ، كَمْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ، وَكَمْ رَسُولٍ بَعْدَ رَسُولٍ، وَكَمْ بَرِيدٍ بَعْدَ بَرِيدٍ، أَنَا الْخَبَرُ لَيْسَ بَعْدِي خَبَرٌ، وَأَنَا الرَّسُولُ لَيْسَ بَعْدِي رَسُولٌ، أَجِبْ رَبَّكَ طَائِعًا، أَوْ مُكْرَهًا، فَإِذَا قَبَضَ رُوحَهُ تَصَارَخُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: عَلَى مَنْ تَصْرُخُونَ؟ وَعَلَى مَنْ تَبْكُونَ؟ فَوَاللَّهِ مَا ظَلَمْتُ لَهُ أَجَلا، وَلا أَكَلْتُ رِزْقًا؛ بَلْ دَعَاهُ رَبُّهُ فَلْيَبْكِ الْبَاكِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوَدَاتٌ وَعَوَدَاتٌ حَتَّى لا أُبْقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا " وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] أي: تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم. ثم أخبر عن حالهم في القيامة وعند الحساب، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ {12} وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {13} فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {14} } [السجدة: 12-14] ولو ترى يا محمد، إذ المجرمون قال مقاتل: يعني كفار مكة. {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] مطأطئوها حيا وندما، يقولون {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة: 12] ما كنا ننكر، وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا، نعمل صالحا نقول لا إله إلا الله، إنا موقنون قال ابن عباس: اتقوا ذلك اليوم ما كانوا ينكرون في الدنيا. ثم أخبر أنه إنما يؤمن من قدر الله له الإيمان، فقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] قال ابن عباس: رشدها وبيانها. وهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس: 99] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] . {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] يعني: كفار الفريقين، قال ابن عباس: يقول: هذا قضائي وقدري في ملكي وربوبيتي. والقول الذي وجب من الله بملء جهنم قوله لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] . 733 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ اللَّخْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الأَبْزَارِيُّ، نا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ، نا

أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، نا الْفَضْلُ بْنُ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " لَيَعْتَذِرَنَّ اللَّهُ إِلَى آدَمَ ثَلاثَ مَعَاذِيرَ؛ يَقُولُ اللَّهِ: يَا آدَمُ، لَوْلا أَنِّي لَعَنْتُ الْكَذَّابِينَ وَأَبْغَضْتُ الْكَذِبَ وَالْخُلْفَ وَأُعَذِّبُ عَلَيْهِ لَرَحِمْتُ الْيَوْمَ وَلَدَكَ أَجْمَعِينَ مِنْ شِدَّةِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَئِنْ كُذِّبَتْ رُسُلِي وَعُصِيَ أَمْرِي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَيَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، اعْلَمْ أَنِّي لا أُدْخِلُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ النَّارَ وَلا أُعَذِّبُ مِنْهُمْ بِالنَّارِ أَحَدًا إِلا مَنْ قَدْ عَلِمْتُ بِعِلْمِي أَنِّي رَدَدْتُهُ إِلَى الدُّنْيَا لَعَادَ إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَعْتِبْ، وَيَقُولُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، قَدْ جَعَلْتُكَ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَ ذُرِّيَّتِكَ، قُمْ عِنْدَ الْمِيزَانِ فَانْظُرْ مَا يُرْفَعُ إِلَيْكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ رَجَحَ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَلَهُ الْجَنَّةِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنِّي لا أُدْخِلُ مِنْهُمُ النَّارَ إِلا ظَالِمًا " قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} [السجدة: 14] قال مقاتل: إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة: فذوقوا العذاب بما نسيتم. {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة: 14] بما تركتم الإيمان بيومكم هذا. وقال السدي: بما تركتم أن تعملوا للقاء يومكم هذا. إنا نسيناكم تركناكم في العذاب، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة: 14] الذي لا ينقطع، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] من الكفر والتكذيب. ثم ذكر المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {15} تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {16} فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17} } [السجدة: 15-17] {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} [السجدة: 15] وعظوا، {بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] سقطوا على وجوههم ساجدين، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15] وقالوا: سبحان الله وبحمده. {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] أن يعفروا وجوهم ساجدين. قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] ترتفع جنوبهم، يقال: جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه إذا لم يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع عليه، يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعطاء، ورواية معاذ بن جبل، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 734 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَابُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَكَمِ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَنَا الْحَرُّ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَبُهُمْ مِنِّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْبِئْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ،

وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} " 735 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، نا بَكْرُ بْنُ حُبَيْشٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ بِلالٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ "، وَقَالَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَنَزَلَتْ فِينَا مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ؛ كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَلا نَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا حَتَّى نُصَلِّيَ الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَازِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالا: هِيَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَصَلاةِ الْعِشَاءِ صَلاةُ الأَوَّابِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] قال ابن عباس: خوفا من النار وطمعا في الجنة. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] قال الكلبي: في الواجب عليهم والتطوع. قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] أي: لا يعلم أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما خبئ لهؤلاء الذين ذكرهم مما تقر به أعينهم، قال ابن عباس في هذه الآية: هذا مما لا تفسير له، والأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره. 736 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} " 737 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهِ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " 738 - قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْرَؤُهَا: مِنْ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ،

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ وقرأ حمزة ما أخفي بإسكان الياء، أي ما أخفي لهم، حجته قراءة عبد الله نخفي بالنون. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ {18} أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {20} وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {21} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ {22} } [السجدة: 18-22] قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] نزلت في عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والوليد بن أبي معيط، وذلك أنه جرى بينهما تنازع وسباب، فقال له الوليد: اسكت، فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق تقول الكذب. فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فقال: قال الوليد بن عقبة لعليّ: أنا أَحَدُّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك. فقال له عليٌّ: اسكت، فإنما أنت فاسق. فنزلت {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] قال: يعني بالمؤمن علي رضي الله عنه، وبالفاسق الوليد بن عقبة. وقوله: لا يستوون قال الزجاج: معنى الاثنين جماعة لذلك، قال: لا يستوون. قال قتادة: لا والله ما استووا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة. ثم أخبر عن منازل الفريقين، فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} [السجدة: 19] الذي يأوي إليه المؤمنون، نزلا أي: معدة لهم، وقد سبق تفسيره. {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} [السجدة: 19-20] مفسرة في { [الحج. ] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [سورة السجدة: 21] قال مقاتل: يعني ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين. وقال ابن مسعود: يعني القتل ببدر. وهو قول قتادة، والسدي. {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21] يعني: عذاب الآخرة، لعلهم يرجعون إلى التوحيد والإيمان، يعني: من بقي منهم بعد بدر وبعد القحط. ومن أظلم تقدم تفسيره في { [الكهف. ] مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة: 22] يعني: الذين قتلوا ببدر وعجلت أرواحهم إلى النار.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {23} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {25} } [السجدة: 23-25] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [السجدة: 23] يعني التوراة، {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] قال المفسرون: وعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به، وهذا قول مجاهد، والكلبي، والسدي. وجعلناه يعني الكتاب، وهو التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] من الضلالة. وجعلنا منهم من بني إسرائيل، أئمة قادة في الخير، يهدون بأمرنا يدعون الناس إلى طاعة الله بأمر الله، يعني الأنبياء الذين كانوا فيهم. وقال قتادة: هم غير الأنبياء. لما صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر، وقرئ لما صبروا أي لصبرهم، {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] أنها من الله. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} [السجدة: 25] يقضي ويحكم، بينهم يعني: الذين كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني إسرائيل، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] من الدين، لأنهم اختلفوا، فآمن بعضهم وكفر الآخرون. ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ {26} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ {27} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {28} قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {29} فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ {30} } [السجدة: 26-30] {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة: 26] الآية مفسرة في { [طه. ثم وعظهم ليحذروا، فقال:] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} [سورة السجدة: 27] يعني: المطر والسيل، {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] وهي التي لا تنبت في الشتاء، حتى إذا جاء الماء أنبتت ما يأكله الناس والأنعام، وهو قوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ} [السجدة: 27] الآية. ويقولون يعني: كفار مكة، {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة: 28] أي: والقضاء بين الخلق، وهو يوم البعث، يقضي الله فيه بين المؤمنين والكافرين. فقال الله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة: 29] لا ينفع الإيمان يوم القضاء بين الخلق، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة: 29] لا يؤخر العذاب عنهم ولا يمهلون لمعذرة أو توبة. 739 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّفَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ اللَّبَّادُ، نا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ، نا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مَتَى هَذَا

الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {28} قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ فُتِحَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْفَعِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهُ آيَةُ السَّيْفِ وانتظر موعدي لك، يعني نصره على أعدائه، إنهم منتظرون بك حوادث الأزمان من موت أو قتل فيستريحوا منك.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون. 740 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَابِ وَعَلَمَّهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {1} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {2} وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {3} } [الأحزاب: 1-3] بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] اثبت على تقوى الله، ودم عليه، {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1] يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة لمن عبدها. والمنافقين عبد الله بن أُبَيّ، وعبد الله بن سعد بن أَبِي السَّرْح. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [الأحزاب: 1] بما يكون قبل كونه، حكيما فيما يخلقه. {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2] يعني القرآن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2] بالياء الكافرين والمنافقين، وبالتاء على المخاطبين. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [الأحزاب: 3] . {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {5} } [الأحزاب: 4-5] {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان وقادا ظريفا، حكيما لبيبا حافظا لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد.

فكانت قريش تسميه ذا القلبين، وكذبه الله تعالى في ذلك، وأخبر أنه ما خلق لأحد قلبين، {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4] يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر، وهو أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ، فلما جاء الإسلام نُهُوا عنه، وأوجبت الكفارة على من ظاهر من امرأته في { [المجادلة، فمن قرأ تظهرون بفتح التاء وتشديد الظاء أراد تتظهرون، فأدغم التاء في الظاء، وقرأ عاصم تظاهرون من المظاهرة، وقرأ حمزة تظاهرون فحذف تاء تتفاعلون، وأدغم ابن عامر هذه التاء التي حذفها حمزة وقرأ بفتح وتشديد الظاء، ثم أعلم الله أن الزوجة لا تكون أُمًا، فقال:] وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [سورة الأحزاب: 4] أي: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون هُنَّ علينا كظهور أمهاتنا في التحريم كما تقولون، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] الأدعياء جمع الدَّعِيُّ، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه، نزلت في زيد بن حارثة، تبناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالعبادة التي كانت للعرب في الجاهلية، فلما تزوج زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد، قلت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه. فأنزل الله هذه الآية إبطالا لما قالوا، تكذيبا لهم أنه ابنه، وإخبارا أن الدعي لا يكون ابنا، وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] أي: ادعاءكم نسب من لا حقيقة لنسبه، قول بالفم لا حقيقة له، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4] وهو أنه ما جعل الدعي ابنا، {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] يدل على طريق الحق. {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم، هو أقسط أعدل، عند الله. 741 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُعَيْمٍ الإِشْكَابِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتَّى نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُخْتَارٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [الأحزاب: 5] أي: فهم إخوانكم، في الدين يعني: من أسلم منهم، ومواليكم وبنو عمكم، قال الزجاج: ويجوز أن يكون ومواليكم وأولياؤكم في الدين. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] قال قتادة: ولو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت قلوبكم ولكن الإثم من الذي تعمدت قلوبكم من دعائهم إلى غير آبائهم، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 5] لما كان من قولكم قبل النهي، رحيما لكم. قوله: {

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] أي: إذا حكم عليهم بشيء فقد نفذ حكمه ووجبت طاعته عليهم، قال ابن عباس: إذا دعاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي أولى من طاعة أنفسهم. وأزواجه أمهاتهم في حرمة نكاحهن، فلا يحل لأحد التزوج بواحدة منهن، كما لا يحل التزوج بالأم، وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير، لأنه لم يثبت شيء من أحكام الأمومة بين المؤمنين وبينهن سوى هذه الواحدة، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن، ولا يرثن المؤمنين ولا يرثونهن، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: وأزواجه أمهاتهم في معنى دون معنى، وهو أنهن محرمات على التأبيد، وما كن محارم في الخلوة والمسافرة. وهذا معنى ما روى مسروق، عن عائشة، رضي الله عنها، أن امرأة قالت لها: يا أمه. فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم. فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن فقط، وعلى هذا لا يجوز أن يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن أخوال المؤمنين وخالات المؤمنين، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: وهي خالة المؤمنين. وقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] مفسر في { [الأنفال إلى قوله:] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [سورة الأحزاب: 6] يعني أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالهجرة والإيمان كما كانوا يفعلون قبل النسخ، {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] استثناء ليس من الأول، المعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح الوصية للمعاقدين، فيوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلثه، فمعنى المعروف ههنا الوصية، وقوله: كان ذلك يعني نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات، {فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] يريد في اللوح المحفوظ مكتوبا. قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {7} لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا {8} } [الأحزاب: 7-8] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] قال قتادة: أخذ الله تعالى الميثاق على النبيين خصوصا أن يصدق بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا. وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصحوا لقومهم. وقوله: ومنك أخرجه، والأربعة الذين ذكرهم من جملة النبيين تخصيصا بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع، وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم لما: 742 - أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا أَبُو عُتْبَةَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، نا بَقِيَّةُ بْنُ

الْوَلِيدِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر، {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا، وذلك العهد الشديد هو اليمين بالله عز وجل. {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] يقول: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين، يعني النبيين، هل بلغوا الرسالة، والمعنى: ليسأل المبلغين من الرسل عن صدقهم في تبليغهم يوم القيامة، وتأويل مسألة الرسل، والله يعلم إنهم لصادقون، التبكيت للذين كفروا بهم، وتم الكلام، ثم أخبر عما أعد للكفار، فقال: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 8] بالرسل، عذابا أليما. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا {9} إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} } [الأحزاب: 9-10] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9] يذكرهم الله إنعامه عليهم في دفع الأحزاب عنهم من غير قتال، {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] وهم الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيام الخندق: عيينة بن حصن، وأبو سفيان ومن معهما من المشركين، وقريظة، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] وهي الصبا، أرسلت على الأحزاب حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] يعني الملائكة. 743 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَاسِيٍّ، نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، نا أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ شَابٌّ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِي وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ، قَالَ: وَاللَّهِ، لَوْ رَأَيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رِقَابِنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: يَابْنَ أَخِي، أَفَلا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْهُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: وَاللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَبِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: " أَلا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ مِمَّا بِنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجَهْدِ وَالْجُوعِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ مِمَّا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إِجَابَتِهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَرْجِعَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ الْقَوْمَ فَإِذَا رِيحُ اللَّهِ وَجُنُودُهُ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْ بِنَاءٌ وَلا تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ وَلا تَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ، فَإِنِّي لَكَذِلَك إِذْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ جَلِيسُهُ؟ قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُخَوِّفُهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِم عُيُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَبَدَأْتُ بِالَّذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ

أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانٌ، ثُمَّ دَعَا أَبُو سُفْيَانَ بِرَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهَذِهِ الرِّيحُ لا يَسْتَمْسِكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ، وَلا تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ، وَلا تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ، ثُمَّ عَجَّلَ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ، مَا حَلَّ عِقَالَهَا إِلا بَعْدَ مَا رَكِبَهَا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ رَمَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ فَقَتَلْتَهُ كُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا، فَوَتَرْتُ قَوْسِي ثُمَّ وَضَعْتُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَأَقْتُلَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَرْجِعَ، قَالَ: فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَدَخْلُت تَحْتَهُ وَأَرْسَلَ عَلَيَّ طَائِفَةٌ مِنْ مِرْطِهِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ آلِ الأَحْزَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءُوا فقال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] من فوق الوادي من قبل المشرق، قريظة، والنضير، وغطفان. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] من قبل المغرب من ناحية مكة، أبو سفيان في قريش ومن تبعه، {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10] مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] الحنجرة جوف الحلقوم، قال قتادة: شخصت عن مكانها، فلولا أنه حنتق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت، والمعنى ما ذكره الفراء: وهو أنهم جنود، جزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة رفعت القلوب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قلت يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: " قولوا: اللهم استر عوارتنا، وآمن روعاتنا ". قال: فقلناها فضرب الله وجوه أعدائه بالريح وهزموا. {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أي: اختلفت الظنون، فظن بعضكم بالله النصر ورجاء الظفر، وبعضكم أيس وقنط. قال الحسن: ظنونا مختلفة، ظن المنافقون أنه يستأصل محمد عليه السلام، وظن المؤمنون أنه ينصر. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا {11} وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا {12} وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا {13} وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا {15} قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا {16}

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {17} } [الأحزاب: 11-17] هنالك عند ذلك وفي تلك الحال، ابتلي المؤمنون اختبروا ليتبين المخلص من المنافق، {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] أزعجوا وحركوا إزعاجا شديدا، وذلك أن الخائف يكون قلقا مضطربا لا يستقر على مكانه. {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] قال ابن عباس: إن المنافقين قالوا يوم الخندق: إن محمدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء. و {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقال قتادة: قال أناس من المنافقين: يعدنا محمد أن يفتح قصور الشام وفارس، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله. وقال مقاتل: قالوا: يعدنا محمد اليمن وفارس والروم، ولا نستطيع أن نبرز إلى الخلاء، هذا والله الغرور. {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب: 13] قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين. وقال السدي: يعني عبد الله بن أبي وأصحابه. {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] قال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض ومدينة الرسول عليه السلام في ناحية منها. {لا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] لا مكان لكم تقيمون فيه، وقرأ عاصم بضم الميم، والمعنى: إقامة لكم، يقال: أقمت إقامة ومقاما. فارجعوا إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون الذين ثبطوا الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس لكم ههنا موضع إقامة لكثرة العدو وغلبة الأحزاب. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13] في الرجوع إلى المدينة، وهم بنو حارثة، وبنو سلمة، {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ليست بحريزة، قال مجاهد، ومقاتل، والحسن: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا إن بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلينا، فكذبهم الله، وأعلم أن قصدهم الهرب والفرار، فقال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] ما يريدون إلا فرارا من القتال ومضرة للمؤمنين، قال الزجاج: يقال: عور المكان يعور عورا وعورة وهو عو وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر. قال الله تعالى: ولو دخلت المدينة، عليهم يعني هؤلاء الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من أقطارها نواحيها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] يعني الشرك في قول الجميع، قال ابن عباس، ومقاتل: يقول الله تعالى: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا، وهو قوله: لآتوها أي: لأعطوهم ما سألوا، وقرأ الحجازيون لأتوها بالقصر، أي لفعلوها، من

قولك: أتيت الخير، أي فعلته. {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14] قال قتادة: وما احتسبوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا. ثم ذكرهم الله تعالى عهدهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالثبات في المواطن، فقال: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 15] من قبل الخندق، {لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15] من قبل الخندق، لا ينهزمون ولا يولون العدو ظهورهم، {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] يسألون عنه في الآخرة. ثم أخبر أن الفرار لا يزيدهم في آجالهم، فقال: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] قال ابن عباس: لأن من حضر أجله مات أو قتل. {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 16] لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا مدة آجالكم. ثم أخبر أن ما قدر عليهم وأراده بهم لا يدفع عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17] يجيركم منه، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} [الأحزاب: 17] هلاكا وهزيمة، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] خيرا، وهو النصر، وهذا كله أمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخاطبهم بهذه الأشياء، ثم أخبر الله أنه لا قريب لهم ينفعهم، ولا ناصر ينصرهم من دون الله، يقول: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17] . قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا {18} أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {19} } [الأحزاب: 18-19] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 18] يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده. قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا. وهو قوله: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} [الأحزاب: 18] لا يحضرون القتال في سبيل الله، إلا قليلا إلا رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا. أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، والمعنى: لا ينصرونكم، ثم أخبر عن جبنهم، فقال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ} [الأحزاب: 19] أي: كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي قرب حاله من الموت وغشيته أسبابه، فيذهب ويذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم وتحار أعينهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عينه ودارت حماليق عينه، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} [الأحزاب: 19] وجاء الأمن والغنيمة، {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] قال الفراء: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة، يقال: سلق فلانا بلسانه إذا أغلظ له في القول مجاهرا. قال قتادة: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند القسمة فأشح قوم، وهو قوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب: 19] بخلاء بالغنيمة، يشاحون المؤمنين عند القسمة. ثم أخبر أنهم غير

مؤمنين، فقال: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب: 19] أي: هم أظهروا الإيمان فقد نافقوا ليسوا بمؤمنين، {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 19] قال مقاتل: أبطل الله جهادهم لأنه لم يكن في إيمان، وكان ذلك الإحباط، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19] . ثم أخبر بما دل على جبنهم، فقال: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 20] {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب: 20] يحسب المنافقون أن الأحزاب معسكرون مقيمون من الخوف الذي نزل بهم، يحسبون أنهم لم يذهبوا إلى مكة، {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ} [الأحزاب: 20] يرجعون إليهم للقتال، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب: 20] يتمنوا لو كان في بادية الأعراب خارجون إليهم من الرهبة، والبادون خلاف الحاضرين، يقال: بدا يبدو بداوة وبداوة إذا خرج إلى البادية. {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب: 20] أي: ودوا لو أنهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم، يقولون: ما فعل محمد وأصحابه؟ فيعرفون حالكم بالاستخبار، لا بالمشاهدة. {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 20] قال الكلبي: إلا رميا بالحجارة. وقال مقاتل: إلا رياء من غير احتساب. ثم عاب من كان بالمدينة بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا {21} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {22} } [الأحزاب: 21-22] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] قال المفسرون: قدوة صالحة. ويقال: لي في فلان أسوة حسنة. يقول: لكم برسول الله اقتداء لو اقتديتم به في تصرفه والصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد، إذ كسرت رباعيته، وشج حاجبه، وقتل عمه فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعل هو. وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] بدل من قوله: لكم وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين، يعني أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، قال ابن عباس: يرجو ما عند الله من الثواب والنعيم. وقال مقاتل: يخشى الله ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال. وهو قوله: {وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] أي: ذكرا كثيرا، وذلك إن ذاكر الله متبع لأمره بخلاف الغافل عن ذكره. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] وذلك أن الله تعالى كان قد وعدهم في { [البقرة بقوله:] أَمْ

حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [سورة آل عمران: 142] إلى قوله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ما سيكون من الشدة التي تلحقهم من عدوهم، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وما أصابهم من الشدة والبلاء، {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا} [الأحزاب: 22] الله ورسوله، {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا} [الأحزاب: 22] تصديقا بوعد الله وتسليما لأمره. قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {24} } [الأحزاب: 23-24] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] يعني ليلة العقبة حين عاهدوا على الإسلام فأقاموا عليه بخلاف من كذب في عهده وخان، وهم المنافقون، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] أي: مات أو قتل في سبيل الله فأدرك ما تمنى، فذلك قضاء النحب، قال محمد بن إسحاق: فرغ من عمله ورجع إلى الله يعني من استشهد يوم أحد. وقال الحسن: قضى أجله على الوفاء والصدق. قال ابن قتيبة: نحبه أي قتل وأصل النحب النذر، كان قوم نذروا: إن يلقوا العدو أن يقاتلوا حين يقتلوا، أو يفتح الله، فقتلوا، فقيل: فلان قد قضى نحبه إذا قتل. 744 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَاطِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: غِبْتَ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ قِتَالا لِلْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ؛ يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ دُونَ أَحَدٍ، فَقَالَ: أَنَا مَعَكَ، قَالَ سَعْدٌ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ فَوَجَدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، كُنَّا نَقُولُ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا فِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَنْ قَضَى نَحْبَهُ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} ، قَالَ: مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] ما وعد الله من نصرة أو شهادة على ما مضى عليه أصحابه، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23] وما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم كما غير المنافقون. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24] أي: صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم بصدقهم، ويعذب المنافقين بنفس العهد، إن

شاء قال السدي: يميتهم على النفاق إن شاء، فيوجب لهم العذاب. فمعنى شرط المشيئة في عذاب المنافقين إماتتهم على النفاق إن شاء ثم يعذبهم، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] فيغفر لهم، ليس أنه يجوز أن لا يعذبهم إذا ماتوا على النفاق، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} [الأحزاب: 24] لمن تاب، رحيما به. قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {25} وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {27} } [الأحزاب: 25-27] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحزاب: 25] أي: صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين، يعني الأحزاب، بغيظهم لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا ردهم وفيهم غيظهم على المسلمين، {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] ما كانوا يريدون من الظفر والمال، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] بالريح والملائكة التي أرسلت عليهم، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} [الأحزاب: 25] في ملكه عزيزا في قدرته. ثم ذكر ما فعل اليهود بني قريظة بقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} [الأحزاب: 26] أعانوا الأحزاب، يعني قريظة، وذلك أنهم نقضوا العهد وصاروا يدا واحدة مع المشركين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فلما هزم الله المشركين بالريح والملائكة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسير إلى قريظة فسار إليهم وحاصرهم عشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم سعد بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فذلك قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] . 745 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَحْيَى، نا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الأَحْزَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ اللامَةَ وَاغْتَسَلَ وَاسْتَجْمَرَ؛ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلا أَرَاكَ قَدْ وَضَعْتَ اللامَةَ، وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَعًا، فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَبِسَ النَّاسُ السِّلاحَ، فَلَمْ يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَاخْتَصَمَ النَّاسُ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لا نُصَلِّيَ حَتَّى نَأْتِيَ قُرَيْظَةَ، فَإِنَّمَا نَحْنُ فِي عَزْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِثْمٌ، وَصَلَّى طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ احْتِسَابًا، وَتَرَكَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الصَّلاةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوهَا حَتَّى جَاءُوا بَنِي قُرَيْظَةَ احْتِسَابًا، فَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وقوله: من صياصيهم قال ابن عباس، وقتادة، ومقاتل: من حصونهم. {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ

الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] ألقى في قلوبهم الخوف، فريقا تقتلون يعني المقاتلة، وتأسرون فريقا يعني الذراري. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] يعني: عقارهم، ونخلهم، ومنازلهم، وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] بأقدامكم بعد، وهي مما سيفتحها الله عليكم، يعني خيبر، فتحها الله عليكم بعد بني قريظة، وقال قتادة: هي مكة. وقال الحسن: هي فارس والروم. وقال عكرمة: هي كل أرض يظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 27] من القرى أن يفتحها على المسلمين، قديرا. {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا {28} وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا {29} } [الأحزاب: 28-29] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] قال المفسرون: إن أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألنه شيئا من أعراض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهن شهرا، وأنزل آية التخيير، وهي قوله تعالى: {قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] وكن يومئذ تسعا: عائشة رضي الله عنها، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وهؤلاء من قريش، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. 746 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَهْوَازِيُّ، نا ابْنُ حُمَيْدٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسًا مَعَ حَفْصَةَ فَتَشَاجَرَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ أَجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ رَجُلا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا: فَأَبُوكِ إِذًا، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا؛ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَكَلَّمْ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَرَجَّعَ عُمَرُ يَدَهُ فَوَجَأَ وَجْهَهَا، ثُمَّ رَجَّعَ يَدَهُ فَوَجَأَ وَجْهَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفَّ، فَقَالَ عُمَرُ، يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ، النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَقُولُ إِلا حَقًّا، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلا مَجْلِسُهُ مَا رَفَعْتُ يَدِي حَتَّى تَمُوتِي فَقَامَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَعِدَ إِلَى غُرْفَةٍ فَمَكَثَ فِيهَا شَهْرًا لا يَقْرَبُ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَطِيفًا خَبِيرًا} فَنَزَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ، فَقُلْنَ: نَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَكَانُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهِ لا أَعُودُ إِلَى شَيْءٍ تَكْرَهُهُ أَبَدًا؛

بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَرَضِيَ عَنْهَا وقوله: فتعالين أمتعكن يعني: متعة الطلاق، وقد ذكرناها في { [البقرة، وأسرحكن يعني الطلاق، سراحا جميلا من غير ضرار، قال الحسن، وقتادة: أمر الله رسوله أن يُخَيِّرَ أزواجه بين الدنيا والآخرة، والجنة والنار، فأنزل الله قوله:] إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [سورة الأحزاب: 28] الآية، وقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] يعني الجنة، {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 29] يعني: اللاتي آثرن الآخرة، أجرا عظيما يعني الجنة، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعائشة وخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل سائر أزواجه مثل ما فعلت هي، وقلن: ما لنا وللدنيا، إنما خلقت الدنيا دار فناء، والآخرة الباقية، والباقية أحب إلينا من الفانية. 747 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أنا أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَ أَزْوَاجَهُ، قَالَتْ: فَبَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لَيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَيُّ هَاتَيْنِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَن يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَكَرَهُنَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَصَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِنَّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ. . . .} الآيَةَ، وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسْوَةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْهُنَّ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالأَجْرِ عَلَى الطَّاعَةِ وهو قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {30} وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا {31} } [الأحزاب: 30-31] {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] قال ابن عباس: يعني النشوز، وسوء الخلق. {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، والمعنى: زيد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف في قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وإنما ضوعف عذابهن على الفاحشة لأنهن يشاهدن من الزاجر ما يردع عن مواقعة الذنوب ما لا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30] قال مقاتل: كان عذابها هينا على الله. {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] يطع الله ورسوله، وتعمل صالحا وقرأ حمزة بالياء حمل على المعنى وترك لفظه من {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] قال مقاتل: مكان كل حسنة ثبتت عشرون حسنة. {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31] حسنا، وهو الجنة. ثم أظهر فضيلتهن على سائر النساء بقوله: {

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا {32} وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا {33} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا {34} } [الأحزاب: 32-34] {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] قال الزجاج: لم يقل كواحدة نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة. قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم عليّ وأنا بكن أرحم، وثوابكن أعظم. إن اتقيتن الله، وشرط عليهن بالتقوى بيانا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا باتصالهن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] لا ترفقن بالقول ولا تلن الكلام، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] زنا وفجور، والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى الطمع في موافقتكن به، والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] أي: ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع فيه، بل بتصريح وبيان. {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] يقال: وقر يقر وقارا إذا سكن، والأمر منه قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن، وقرأ عاصم بفتح القاف، وهو من قررت في المكان أقر كان الأصل أقرت، ثم حذفت العين لثقل التضعيف وألقيت حركتها على القاف كقوله: فظلتم قال أبو عبيدة: كان أشياخنا من أهل العربية يذكرون القراءة بالفتح، وذلك لأن قررت في المكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية، والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعناه: الأشرف لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن. وهو قوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] التبرج أن تبدي المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره مما يستدعي به شهوة الرجل، وأراد بالجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، والأولى المتقدمة، وذلك أن أهل الجاهلية الأولى تقدموا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال قتادة: كانت لنساء الجاهلية الأولى مشية تكسر وتغنج فنهي هؤلاء عن ذلك، وأمرن بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله في باقي الآية. إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] ليذهب عنكم الرجس قال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا. وقال مقاتل: يعني الإثم الذي يحصل مما نهاهن الله عنه وأمرهن بتركه. معنى الرجس السوء وما يوجب العقوبة، والمراد بأهل البيت ههنا نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهن في بيته، وهو قول الكلبي، ومقاتل، وعكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. 748 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيِّ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ

هَذِهِ الآيَةُ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 749 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَلِيمٍ عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ لَفْظًا، أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، نا ابْنُ حُمَيْدٍ، نا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، نا الأَصْبَغُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] قَالَ: لَيْسَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ عِكْرِمَةُ يُنَادِي بِهَذَا فِي السُّوقِ. وهؤلاء الذين قالوا هذا القول احتجوا بما تقدم من الخطاب وما تأخر، وهو قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] وكلاهما خطاب لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ذكر الخطاب في قوله: عنكم، ويطهركم لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيهن، فقلب للمذكر، وقال آخرون: هذا خاص في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاطمة، والحسن والحسين، وهو قول أبي سعيد الخدري. 750 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قَالَ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ؛ فِي النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ وَعَظَهُنَّ لِيَتَفَكَّرْنَ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِنَّ بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأحزاب: 34] يعني القرآن، والحكمة، قال مقاتل: يعني أمره ونهيه في القرآن. وقال قتادة: يعني القرآن والسنة، وهذا حث لهن على حفظ القرآن والأخبار، ومذاكرتهن بهما للإحاطة بحدود الشريعة، والخطاب وإن اختص بهن فغيرهن داخل منه، لأن مبنى الشريعة على هذين القرآن والسنة، وبهما يؤقت على حدود الله ومفترضاته، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا} [الأحزاب: 34] بأوليائه، خبيرا بجميع خلقه. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، قال قتادة: لما ذكر الله أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل نساء من

المسلمات عليهن، فقلن: ذكرتن ولم نذكر؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إن النساء لفي خيبة وخسار. قال: ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله هذه الآية {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] يعني المخلصين والمخلصات. والمؤمنين والمؤمنات والمصدقين بالتوحيد والمصدقات، والقانتين والقانتات المطيعين لله فيما أمر ونهى والمطيعات، والصادقين والصادقات في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم، والصابرين على أمر الله، والصابرات، والخاشعين والخاشعات في الصلاة، والمتصدقين والمتصدقات بالأموال ومما رزقهم الله من الأموال والثمار والمواشي، والصائمين والصائمات لله بنية صادقة، ويكون فطرهم من حلال، {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] عما لا يحل لهم، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] قال ابن عباس: يريد في أدبار الصلوات، وغدوا وعشيا وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله. وقال مجاهد: لا يكون الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. 751 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلانِيُّ، بِمَكَّةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمَوَدَّةِ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، نا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، عَنِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَتَوَضَّيَا وَصَلَّيَا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» 752 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الأَشْقَرُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ النُّعْمَانِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عُلْوَانَ الْكُوفِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: سُبْحَانَ اللَهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، عَدَدَ مَا علم وزنه فعلم وملء ما علم، فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا سِتَّ خِصَالٍ: كُتِبَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ لَهُ غَرْسًا فِي الْجَنَّةِ، وَتَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ، وَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً} [الأحزاب: 35] أي لذنوبهم، وأجرا عظيما هو الجنة، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36] الآية، نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب، وكانا ابني عمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب لزيد بن حارثه مولاه، وهي تظن أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد

كرهت ذلك وأخوها، فلما نزلت الآية رضيا وسلما، فزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زيد. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [الأحزاب: 36] يعني عبد الله، ولا مؤمنة يعني أخته، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب: 36] حكما به، {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ} [الأحزاب: 36] جمع الكناية، لأن المراد بقوله المؤمنة كل مؤمن ومؤمنة في الدنيا، والخيرة الاختيار، أعلم الله أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله، فلما زوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زيد مكثت عنده حينا، ثم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى زيدا فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة جسيمة، من أتم نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: سبحان مقلب القلوب. وفطن زيد، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا تؤذيني بلسانها، فقال أمسك عليك زوجك، واتق الله، فأنزل الله {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي: بالهداية والإسلام، وأنعمت عليه بأن أعتقته من الرق، وكان زيد من سبي الجاهلية، اشتراه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعكاظ في الجاهلية وأعتقه وتبناه، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] في أمرها فلا تطلقها، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} [الأحزاب: 37] سرا، وتضمر في قلبك من إرادة تزوجها، {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] مظهره لأصحابك، والمعنى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم حبها، وأراد تزوجها، وأمر زيدا بإمساكها، وفي قلبه خلاف ذلك، فأظهر الله عليه ما أخفاه، بأن قضى طلاقها وزجها منه، وأنزل في ذلك القرآن، ولهذا قال ابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما: ما نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية هي أشد من هذه الآية. 753 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُطَّوِّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمِصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا {37} مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا {38} } [الأحزاب: 37-38] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 37] إلى آخر الآية، رواه مسلم، عن محمد بن

المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود. وقوله: وتخشى الناس تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها، وذلك أنه كان يريد أن يطلقها من حيث ميل القلب، ولكنه خاف قالة الناس، وقال عطاء، عن ابن عباس: المراد بالناس في هذه الآية اليهود، خشي أن يقولوا تزوج محمد امرأة ابنه. وقوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أي: هو أولى بأن تخشاه في كل الأحوال وجميع الأمور، ليس أنه لم يخش الله في شيء من هذه القصة، ولكنه لما ذكر خشيته من الناس ذكر خشية الله، وأنه أحق بالخشية منهم. وروي عن علي بن الحسين رضي الله عنه في هذه الآية أنه قال: كان الله عز وجل قد أعلم نبيه أن زينب تكون من أزواجه، وأن زيدا سيطلقها، وعلى هذا يجوز أن يكون النبي عليه السلام معاتبا على قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله به، ويكون قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أي: في كتمان ما أخبرك، وإنما كتم النبي عليه السلام ذلك لأنه خشي أن يقول لزيد: زوجتك ستكون امرأتي. وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] معنى قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما بالنفس من الشيء، يقال: قضى وطرا منها إذا بلغ ما أراد من حاجته فيها، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: أيها الرابح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا أي: فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه ثم صار، عبارة عن الطلاق، ولأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم تعد له فيها حاجة. وروى ثابت، عن أنس، قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد: اذهب فاذكرها عليّ. قال زيد: فانطلقت، فقلت: يا زينب أبشري، أرسلني نبي الله عليه السلام يذكرك، ونزل القرآن. وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل عليها بغير إذن، لقوله تعالى: زوجناكها وهذا يدل على أن كل امرأة أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكاحها فهو مستغن عن الولي والشهود، وكانت زينب تفاخر نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله عز وجل. 754 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا أَبِي، أنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ خَلادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ قال المفسرون: ذكر قضاء الوطر ههنا بيانا أن امرأة المتبنى تحل وإن وطئها، وهو قوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] أي: زوجناك زينب، وهي امرأة زيد الذي تبنيته،

ليكلا يظن أن امرأة المتبنى لا يحل نكاحها، والأدعياء جمع الدعي، وهو الذي يدعى ابنا من غير ولادة. قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنى كحرمة الابن، فبين الله أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني وإن أصابوهن. وهو قوله تعالى: {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] بخلاف ابن الصلت، فإن امرأته تحرم بنفس القصد، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [الأحزاب: 37] يعني: قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ماضيا مفعولا. ثم بين أنه لم يكن عليه حرج في هذا النكاح بقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38] قال المفسرون: أحل الله له، أي: لا حرج عليه فيما أحل الله له، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] سن الله لمحمد عليه السلام في التوسعة عليه في باب النكاح كسنته في الأنبياء الماضين عليهم، يعني داود النبي حين هوي المرأة التي فتن بها، جمع الله بينه وبينها، كذلك جمع بين زينب ومحمد عليه السلام، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والكلبي، والمقاتلين. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] قضاء مقضيا، قال مقاتل: أخبر الله تعالى أن أمر زينب من حكم الله وقدره. ثم ذكر الأنبياء الماضين عليهم السلام، وأثنى عليهم، فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا {39} مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {40} } [الأحزاب: 39-40] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب: 39] تحول خشيتهم من الله بينهم وبين المعصية، {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل الله لهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] مجازيا لمن يخشاه. ولما تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب، قال الناس: إن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] يعني أنه ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته، قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له ذكور: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر. {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] ولكن كان رسول الله، وخاتم النبيين آخرهم فلا نبي بعده، قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ولدا يكون بعد نبيا. وقرأ عاصم بفتح التاء، قال أبو عبيدة: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم، ولأنه قال: «أنا خاتم النبيين» . لم نسمع أحد يروي إلا بكسر التاء، ووجه الفتح أن معناه آخر النبيين خاتم الشيء آخره، ومنه قوله: خاتمه مسك، وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به. 755 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْمُفَضَّلِ، أنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عُمَرُ بْنُ مَرْزُوقٍ، أنا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّمَا مَثَلِي فِي الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَحَسَّنَهَا إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا؛ قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا

مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِيَ الأَنْبِيَاءُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، كِلاهُمَا عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا {41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا {42} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43} تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا {44} } [الأحزاب: 41-44] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبدا. وقال الكلبي: ويقال: ذكر كثيرا بالصلوات الخمس. وقال مقاتل بن حيان: هو التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير على كل حال، وهو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال: وبلغنا أن هؤلاء الكلمات يتكلم بهن صاحب الجنابة والغائط والمحدث. 756 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقُرَشِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُؤَذِّنَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُحَدِّثُ، عَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْحَسْحَاسِ، قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَقُولُ رَبُّكُمْ «أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» وقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 42] صلوا لله بالغداة والعشي، قال الكلبي: أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] أي: يرحمكم ويغفر لكم، وملائكته قال ابن عباس: يدعون لكم. وقال المقاتلان: ويأمر الملائكة بالاستغفار لكم. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] من الشرك والكفر إلى الإيمان، يعني أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] قال الكلبي: تجيبهم الملائكة على أبواب الجنة بالسلام، فإذا دخلوها حيا بعضهم بعضا بالسلام، وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام. وقال مقاتل: تسلم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب عز وجل. وروي عن البراء بن عازب أنه قال: يوم يلقون ملك الموت لا

يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. والمعنى على هذا: تحية المؤمنين ملك الموت يوم يلقونه أن تسلم عليهم، وسبق ذكر ملك الموت في ذكر الملائكة. {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44] رزقا حسنا في الجنة. {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {45} وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا {46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا {47} وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {48} } [الأحزاب: 45-48] قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] على أمتك وجميع الأمم بتبليغ الرسالة، ومبشرا بالجنة لمن صدقك، ونذيرا ومنذرا بالنار لمن كذبك. {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46] إلى توحيده وطاعته، بإذنه قال مقاتل: بأمره، يعني أنه أمرك بهذا لا أنك تفعله من قبلك. قوله: وسراجا منيرا أي: لمن اتبعك واهتدى بك كالسراج في الظلمة يستضاء به. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47] قال مقاتل: يعني الجنة. {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 48] ذكرنا تفسيره في أول ال { [، ودع أذاهم قال ابن عباس، وقتادة: اصبر على أذاهم. قال الزجاج: تأويله لا تجازهم عليه إلا أن تؤمر فيهم بأمر، وهذا منسوخ ب: السيف. ] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48] في كفاية شرهم وأذاهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [الأحزاب: 48] كفى به إذا وكلت إليه الأمر. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] 757 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، نا أَبِي، نا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَذَبُوا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ قَالَهَا فَزَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، يَقُولُ اللَّهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ: إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ، وَرَوَى طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: لا يَكُونُ طَلاقٌ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحٌ، وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّمَا النِّكَاحُ عُقْدَةٌ وَالطَّلاقُ يُحِلُّهَا، فَكَيْفَ تُحَلُّ عُقْدَةٌ لَمْ تُعْقَدْ؟ ! قَالَ مَعْمَرٌ: فَصَارَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ قَاضِيًا عَلَى صَنْعَاءَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أي تجامعوهن، {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] أسقط الله العدة عن المطلقة قبل الدخول لبراءة رحمها، قال مقاتل: إن

شاءت تزوجت من يومها. وقوله: تعتدونها أي: تحصون عليها العدة بالأقراء أو الأشهر، فمتعوهن قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه. والمطلقة قبل المسيس لا تستحق المتعة مع نصف المهر، فإذا لم يفرض لها صداقا فإنها تستحق المتعة واجبة لها على قول أكثر الناس. {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] من غير ضرار. قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {50} تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا {51} لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا {52} } [الأحزاب: 50-52] {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] ذكر الله تعالى في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] أي مهورهن، يعني اللاتي يتزوجن بصداق، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 50] يعني: الجواري التي يملكها، {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50] رده عليك من الكفار بأن تسبيه فتملكه، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب: 50] يعني نساء قريش، {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] فتملكهن، يعني نساء بني زهرة، {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] إلى المدينة، وهذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] أي: وأحللنا لك امرأة، مؤمنة مصدقة بتوحيد الله، وهبت نفسها منك بغير صداق، وغير المؤمنة لا تحل إن وهبت منه نفسها، {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] إن آثر النبي نكاحها وأراد ذلك، {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] خاصة لك دون غيرك، قال ابن عباس: يقول: لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال. وهذا من خصائصه في النكاح، وكان ينعقد النكاح له بلفظ الهبة من غير ولي ولا شهود، ولا ينعقد لأحد نكاح بلفظ الهبة، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وأجاز أهل الكوفة النكاح بلفظ الهبة إذا حضر الولي والشهود. ثم أخبر الله تعالى عن المؤمنين، فقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يقول: ما أوجبنا عليهم أن لا يتزوجوا أكثر من أربع بمهر وولي وشهود، فلا ينعقد نكاحهم إلا بالأولياء والشهود. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] ممن يجوز سبيه وحربه، فأما من كان له عهد فلا، وقوله: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] ضيق في أمر النكاح، ومنع من شيء تريده، وهذا فيه تقديم لأن

المعنى خالصة لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرج، أي: أحللنا لك ما ذكرنا ليرتفع عنك الحرج. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 50] للنبي في التزوج بغير مهر، رحيما به في تحليل ذلك له. قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] نزلت في إباحة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصاحبة نسائه ومعاشرتهن كيف شاء من غير حرج عليه، تخصيصا له وتفضيلا له، أباح له أن يجعل لمن أحب منهن يوما أو أكثر، ويعطل من شاء منهن فلا يأتيها، فقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] أي: تؤخر ثوبة من تشاء من نسائك من غير طلاق وتتركها فلا تأتيها، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] تضمها إليك فتأتيها، وكان القسم والتسوية واجبا عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. 758 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: فَكَانَ مِمَّنْ آوَى: عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَكَانَ قَسْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ سَوَاءً بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَى: سَوْدَةُ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَمَيْمُونَةُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ، فَقُلْنَ: اقْسِمْ لَنَا مَا شِئْتَ مِنْ نَفْسِكَ وَدَعْنَا نَكُونُ عَلَى حَالِنَا. وقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51] إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا لوم ولا عتب، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن، إذ كان منزلا من الله عليك، {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وإيواء، قال قتادة: إذا علمن أن هذا جاء من الله كان أطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 51] من أمر النساء والميل إلى بعضهن، أي: إنما خيرناك فيهن تيسيرا عليك في كل ما أردت منهن، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [الأحزاب: 51] بخلقه، حليما عن عقابهم. قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] قال مجاهد: لا تحل لك اليهوديات، ولا النصرانيات بعد المسلمات. {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} [الأحزاب: 52] يقول: لا تتبدل الكتابيات بالمسلمات. يقول: لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية. {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعني: ما ملكت يمينه من الكتابيات، حل له أن يتسراهن. وقال معمر، والشعبي: لما خيرهن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن ذلك، فقصره عليهن، وأنزل هذه الآية. وعلى هذا القول معناه: لا يحل لك من النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنا لك، وليس أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بدلها. قال الزهري: قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما نعلمه يتزوج النساء. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله له النساء. وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ

حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] أي: إن أعجبك جمالهن فليس لك أن تطلق من نسائك وتنكح بدلها امرأة أعجبت بجمالها. {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعني الولائد، قال ابن عباس: ملك بعد هؤلاء مارية. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 52] من أعمال العباد، رقيبا حافظا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا {53} إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {54} لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا {55} } [الأحزاب: 53-55] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] 759 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ سَيَّارٍ الْحَرَّانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، لَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَدَعَا النَّاسَ لِطَعَامٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَس رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى وَمَشَيْنَا مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ فِي مَكَانِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ وقوله: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب: 53] أي: يدعو إليه، غير ناظرين منتظرين، إناه نضجه وإدراكه، يقال: أنا يأني إناء إذا حان وقت إدراكه، وكانوا يدخلون بيته فيجلسون منتظرين إدراك الطعام، فنهوا من ذلك. وقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] أي: بعد أن تأكلوا، كانوا يجلسون أيضا بعد الطعام يتحدثون طويلا، وكان يؤذيه ذلك ويستحي، أي: وكان يؤذيه ذلك ويستحي أن يقول لهم قوموا، فذلك قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب: 53] قال الزجاج: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل إطالتهم كرما منه، ويصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب، فصار أدبا لهم ولمن بعدهم. وقوله: {

وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] قال مقاتل: أمر الله المؤمنين أن لا يكلموا نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من وراء حجاب. 760 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ وقوله: ذلكم أي: سؤالكم إياهن من المتاع من وراء حجاب، {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] من الريبة، {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء، {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] قال عطاء، عن ابن عباس: كان رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتزوجت عائشة رضي الله عنها. فأنزل الله ما أنزل. قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله. قال الزجاج: أعلم الله أن ذلك محرم بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] أي: ذنبا عظيما. ثم أعلمهم أنه يعلم سرهم وعلانيتهم بقوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا} [الأحزاب: 54] أي: تظهروا شيئا من أمرهن، يعني طلحة، وذلك أنه لما نزل آية الحجاب قال طلحة: يمنعنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدخول على بنات عمنا، يعني عائشة رضي الله عنها، وهما من بني تيم بن مرة. وقوله: أو تخفوه أي: تسروه في أنفسكم، وذلك أن نفسه حدثته بتزوج عائشة رضي الله عنها، فذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 54] من السر والعلانية، عليما. ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب والأبناء لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] أن يرونهن ولا يحتجبن عنهم، {وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] قال ابن عباس: يريد نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن رأينهن. {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب: 55] يعني العبيد والإماء، وقد تقدم في { [النور ذكر من يحل للمرأة أن يراها في قوله:] إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور: 31] . الآية واتقين الله أن يراكن غير هؤلاء، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الأحزاب: 55] من أعمال بني آدم، شهيدا لم يغب عنه شيء. قوله تعالى: {

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال ابن عباس: يريد: إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له بالرحمة. وقال مقاتل: أما صلاة الرب بالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار له. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] ادعوا له بالمغفرة واستغفروا له، وسلموا تسليما قولوا السلام عليك أيها النبي، والحديث الصحيح الجامع لتفسير هذه الآية ما: 761 - مَا أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بِن يُوسُفَ الْفَقِيهُ، نا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، نا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَلِمْنَا التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ؛ مَا تَقُولُهُ فِي التَّشْهِدِ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أخبرنا أبو سعد بن أبي رشيد العدل، أنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء، نا محمد بن يحيى الصوفي، نا محمد بن العباس الرياشي، عن الأصمعي، قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] آثره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها من بين الرسل، واختصكم بها من بين الأمم، فقابلوا نعمة الله بالشكر. 762 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، نا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ الْعَتَكِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ الزَّيَّاتُ، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَرَهُ أَشَدَّ اسْتِبْشَارًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، وَلا أَطْيَبَ نَفْسًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ قَطُّ أَطْيَبَ نَفْسًا وَلا أَشَدَّ اسْتِبْشَارًا مِنْكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: " وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدْ خَرَجَ آنِفًا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِي؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ، تَعَالَى: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلاةً صَلَّيْتُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَمَحَوْتُ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَتَبْتُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ "

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {58} } [الأحزاب: 57-58] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] قال المفسرون: هم المشركون واليهود والنصارى، وصفوا الله بالولد فقالوا عزيرا ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسوله، وشجوا وجهه، وكسروا رباعتيه، وقالوا مجنون، شاعر، ساحر، كذاب. ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما أجد أصبر على أذى يسمعه من الله أنه يجعل له ند ويجعل له ولد وهو على ذلك يعافيهم ويعطيهم ويرزقهم» . ومعنى يؤذون الله: يخالفون أمره ويعصونه، ويصفونه بما هو منزه عنه، والله تعالى لا يلحقه أذى، ولكن لما كانت مخالفة الأمر فيما بيننا تسمى إيذاء خوطبنا بما نتعارفه. وقوله: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] يعني القتل والجلاء في الدنيا، والعذاب بالنار في الآخرة، وهو قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 57-58] قال مجاهد: يقعون فيهم بغير ما عملوا، يعني يرمونهم بما ليس فيهم، وروي أن رجلا شتم علقمة، فقرأ هذه الآية. وقال قتادة، والحسن: إياكم وأذى المؤمنين، فإن الله يغضب له. 763 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو النَّيْسَابُورِيُّ، أنا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاذٍ السُّلَمِيُّ، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَبًا؛ رَأَيْتُ رِجَالا يُعَلَّقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {59} لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا {61} سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا {62} } [الأحزاب: 59-62] {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] جمع جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال المفسرون: يغطين رءوسهن ووجوهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى. وهو قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] قال السدي: كانت المدينة ضيقة المنازل، وكانت النساء يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، وكان فساق من فساق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا هذا حرة فتركونا، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا أمة فكابروها. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 59] أي: لمن اتبع أمره، رحيما به. ثم أوعد هؤلاء الفساق، فقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] عن

نفاقهم، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] يعني الفجور، وهم الزناة، {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60] وهم قوم كانوا يوقعون الأخبار بما يكره المؤمنون، يقولون: قد أتاكم العدو، ويقولون لسراياهم: قد قتلوا وهزموا. لنغرينك بهم قال ابن عباس: لنسلطنك عليهم. والمعنى: أمرناك بقتالهم حتى تقتلهم وتخلي عنهم المدينة. وهو قوله: {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 60] أي: لا يساكنوك في المدينة إلا يسيرا حتى يهلكوا. ملعونين مطرودين مبعدين عن الرحمة، أينما ثقفوا وجدوا وأدركوا، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} [الأحزاب: 61] أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 62] قال الزجاج: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيث ما ثقفوا، ولا يبدل الله سنته فيهم، وهو قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق. {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا {63} إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا {68} } [الأحزاب: 63-68] قوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63] قال الكلبي: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة وعن قيامها، فقال الله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63] أيّ شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي: أنت لا تعرفه، ثم قال: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وقالوا ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا أشرافنا وعظماءنا، قال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر. فأضلونا عن سبيل الهدى، يقرأ سادتنا وكلاهما جمعان، وسادة أحسن، والعرب لا تكاد تقول سادات. ثم قالوا: ربنا آتهم يعنون السادة، {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68] عذبهم مثلي عذابنا، {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] يعني اللعن على أثر اللعن، أي: مرة بعد مرة، وقرأ بها عاصم بالياء على وصف اللعن بالكبر. قال الكلبي: يقول عذبهم عذابا كبيرا. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] قال قتادة: وعظ الله المؤمنين ألا تؤذوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما آذى بنو إسرائيل موسى. وهو ما: 764 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْءَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَجَمَعَ مُوسَى فِي أَثَرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي، حَجَرُ، ثَوْبِي، حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْءَةِ مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدَ مَا نَظَرَ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ، إِنَّهُ نَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى بِالْحَجَرِ "، رَوَاهُ

مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ وروي آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو: 765 - مَا أَخْبَرَنَا أَبُو حَلِيمٍ الْجُرْجَانِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، نا عَبَّادٌ، نا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ حَسَبًا لَنَا مِنْكَ، وَأَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ، وَآذَوْهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ فَحَمَلْتُه حَتَّى مَرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكَلَّمَتِ الْمَلائِكَةُ بِمَوْتِهِ حَتَّى عَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذا وجاه وقدر. قال ابن عباس: كان عند الله حظيا، لا يسأله شيئا إلا أعطاه. وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا {71} } [الأحزاب: 70-71] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قال ابن عباس: صوابا. قال الحسن: صادقا. يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله، أمر الله المؤمنين بالتوحيد والتقوى، ووعد عليهم أن يصلح أعمالهم، فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] قال ابن عباس: يقبل حسناتكم. وقال مقاتل: يزكي أعمالكم. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 71] فيما يأمرانه، {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] قال: الخير كله وظفر به. قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا {72} لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {73} } [الأحزاب: 72-73] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأحزاب: 72] الآية، معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. روى أبو بكر الهذلي، عن الحسن في هذه الآية، قال: عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن: تأخذن الأمانة بما فيها. قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن. قلن: لا. ثم عرضت على الجبال الشم الشوامخ البواذخ الصلاب الصعاب، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن. قلن: لا. فذلك قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] وقال ابن جريج: قالت السماء: يا رب، خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا، وأجريت في الشمس والقمر والنجوم، لا أتحمل فريضة، ولا أبغي ثوابا ولا عقابا. وقالت الأرض: جعلتني بساطا ومهادا، وشققت فيّ الأنهار، وأنبت فيّ الأشجار، لا أتحمل فريضة، ولا أبغي ثوابا ولا عقابا. وإنما كان العرض على أعيان هذه الأشياء بأن ركب الله تعالى فيهن العقل وأفهمهن خطابه حتى فهمن وأنطقهن بالجواب. ومعنى قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] أي: مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، والعرض كان تخييرا لا إلزاما، وقوله:

وأشفقن منها أي: خفن من الأمانة أن لا يوفينها فيلحقهن العقاب، وحملها الإنسان قال عطاء، عن ابن عباس: يريد آدم، عرض الله عليه أداء الفرائض: الصلوات الخمس في مواقيتها، وأداء الزكاة عند محلها، وصيام رمضان، وحج البيت على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال: بين أذني وعاتقي. وقال مقاتل بن حيان: قال الله: يا آدم، أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: ومالي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ووعيت الأمانة فلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك. قال: قد رضيت رب وتحملتها. فقال الله تعالى: قد حملتكها. فذلك قوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] قال الكلبي: ظلمه حين عصى ربه فأخرج من الجنة، وجهله حين احتملها. وقال المقاتلان: ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل. أخبرنا أحمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا أسامة، عن النضر بن عدي، أن رجلا سأل مجاهدا عن قوله، {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية، فقال مجاهد: لما خلق الله السموات والأرض والجبال عرض الأمانة عليه فلم تقبلها، فلما خلق الله آدم عرضها عليه، قال: يا رب، وما هي؟ قال: إن أحسنت جزيتك، وإن أسأت عذبتك. قال: قد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. 766 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلٌ الْعَسْكَرِّيُ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لآدَمَ: إِنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ تُطِقْهَا، فَهَلْ أَنْتَ حَامِلُهَا بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِي رَبِّ، وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ، وَإِنْ ضَيَّعْتَهَا عُذِّبْتَ، قَالَ: فَقَدْ حَمَلْتُهَا بِمَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا غَبَرَ فِي الْجَنَّةِ إِلا كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا إِبْلِيسُ، قَالَ جُوَيْبِرٌ: فَقُلْتُ لِلضَّحَّاكِ: وَمَا الأَمَانَةُ؟ قَالَ: الْفَرَائِضُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ؛ أَنْ لا يَغُشَّ مُؤْمِنًا، وَلا مُعَاهِدًا فِي قَلِيلٍ وَلا كَثِيرٍ، فَمَنِ انْتَقَصَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] إلى قوله: ويتوب قال المقاتلان: ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل ونقضوا الميثاق الذين أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن، وقتادة: هؤلاء خانوها، وهم الذين ظلموها. {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73] هؤلاء أدوها، وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك، فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن ويتوب الله عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات. ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل أن المؤمن العاصي خارج من العذاب. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [الأحزاب: 73] للمؤمنين، رحيما بهم.

سورة سبإ

سورة سبإ مكية وآياتها أربع وخمسون. 767 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَبَإٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ إِلا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيقًا وَمُصَافِحًا» {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {1} يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ {2} } [سبأ: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 1] ملكا وخلقا، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} [سبأ: 1] يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] ، وهو الحكيم في أمره، الخبير بخلقه. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [سبأ: 2] ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو ميت، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [سبأ: 2] من زرع ونبات، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 2] من مطر أو رزق، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] من الملائكة وأعمال العباد، وهو الرحيم بأوليائه، الغفور لذنوبهم. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {3} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {4} وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ {5} وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {6} } [سبأ: 3-6] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 3] يعني منكري البعث، {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3] وقرأ حمزة علام الغيب على المبالغة، كقوله: علام الغيوب وباقي الآية مفسرة في { [

يونس. ] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة سبأ: 4] أي: لتأتينكم الساعة ليجزي الذين آمنوا، ثم بين جزاء الفريقين، فقال: أولئك يعني الذين آمنوا، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] حسن، يعني في الجنة. والذين سعوا مفسر في { [الحج،] أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سورة سبأ: 5] قرئ بالرفع على نعت العذاب، وبالخفض على نعت الرجز، والرجز العذاب، ذكرنا ذلك. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [سبأ: 6] ويعلم الذين أوتوا العلم بالله، يعني مؤمني أهل الكتاب، وقال قتادة: يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سبأ: 6] يعني القرآن، وهو الحق هو فضل عند المبصرين، كقوله: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النحل: 95] ، ويهدي يعني القرآن، إلى صراط دين، العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ {7} أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ {8} أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ {9} } [سبأ: 7-9] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 7] يعني منكري البعث، قال بعضهم لبعض: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] يزعم أنكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما وترابا ورفاتا، وهو قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] أي: فرقتم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، والممزق ههنا مصدر بمعنى التمزيق، قال ابن عباس: إذا متم وبليتم. وقال مقاتل: إذا تفرقتم في الأرض وذهبت الجلود والعظام وكنتم ترابا. {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] أي: يجدد خلقكم بأن تبعثوا وتنشروا. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ: 8] هذا أيضا من قول الكفار بعضهم لبعض، قالوا: أفترى محمد على الله كذبا حين زعم أنا نبعث بعد الموت، والألف في أفترى ألف الاستفهام، وهو استفهام تعجب وإنكار. وقوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] يقولون: أيزعم كذبا أم به جنة؟ فرد الله عليهم، فقال: بل ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء والجنون، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [سبأ: 8] هؤلاء الذي لا يؤمنون بالبعث، في العذاب في الآخرة، والضلال البعيد من الحق في الدنيا. ثم وعظهم ليعتبروا، فقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سبأ: 9] وذلك أن الإنسان حيث نظر رأى السماء والأرض قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، والمعنى أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئت خسفت الأرض بهم، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من سمائي، وهو قوله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وأدغم الكسائي وحده الفاء في الباء في قوله: {نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ} [سبأ: 9] قال أبو علي الفارسي: وذلك غير جائز لأن الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، فانحدر الصوت إلى الفم حيث اتصلت بمخرج الثاء، ولهذا جاز إبدال الثاء بالفاء في نحو الحدث والجدف المقاربة بينهما، فلم يجز إدغامه في الباء، كما لا يجوز إدغام الباء فيه لزيادة صوت الفاء على صوت الباء. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سبأ: 9] أي: فيما ترون من السماء والأرض، لآية تدل على قدرة الله على البعث وعلى ما يشاء من الخسف بهم، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9] أياب إلى الله وحده، ورجع إلى طاعته، وتأمل ما خلق.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ {10} أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {11} } [سبأ: 10-11] قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا} [سبأ: 10] يعني النبوة والكتاب وما أعطي من الملك في الدنيا، يا جبال أي: وقلنا يا جبال، أوبي معه سبحي معه، وكان إذا سبح داود سبحت الجبال معه، وقوله: والطير عطف على موضع الجبال، لأن كل منادي في موضع نصب. قال ابن عباس: وكانت الطير تسبح معه إذا سبح. {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] حتى صار عنده مثل الشمع، وكان يأخذ بيده فيصير كأنه عجين، فكان يعمل به ما يشاء من غير نار ولا قرع. وهو قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] دروعا كوامل يجرها لابسها على الأرض، قال قتادة: وكان أول من عملها، وإنما كانت قبله صفائح من الحديد. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] والسرد: نسج الدروع، ومنه قيل لصانعها سراد وزراد، يبدل من السين زايا. والمعنى: لا يجعل المسامير دقاقا فتفلق، ولا غلاظا فتكثر الحلق، هذا قول أهل التأويل. 768 - أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ الْقُرَشِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قَالَ: لا تُدَقِّقِ الْمَسَامِيرَ، وَتُوَسِّعِ الْحَلْقَةَ فَتَقْسَى، وَلا تُغَلِّظِ الْمَسَامِيرَ، وَتُضَيِّقِ الْحَلْقَ فَيَنْقَصِمَ، اجْعَلْهُ قَدْرًا قال مقاتل: ثم قال الله لآل داود: اعملوا صالحا قال ابن عباس: اشكروا الله بما هو أهله. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 11] . ثم ذكر ابنه سليمان وما أعطاه من الخير والكرامة، فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ {12} يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {13} } [سبأ: 12-13] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [سبأ: 12] قال الفراء: نصب الريح على وسخرنا لسليمان الريح، ورفع عاصم لما لم يظهر التسخير على معنى وله تسخير الريح، فالرفع يئول إلى معنى النصب، وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] أي: سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر، ورواحها شهر. والمعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرية للراكب. قال الحسن: تعدو من دمشق فتقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم تروح من اصطخر فتبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] أذبنا له عين النحاس، قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان، والقطر النحاس الذائب، {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ

بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ: 12] أي: بأمر ربه، قال ابن عباس: سخرهم الله لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به. ومن يزغ، يعدل منهم من الجن، عن أمرنا له بطاعة سليمان، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] في الآخرة، وهو أن الله تعالى وكل ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته، والمفسرون على أن هذه الإذاقة من عذاب السعير في الآخرة. يعملون له لسليمان، {مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13] من الأبنية الرفيعة والقصور، قال المفسرون: فبنوا له الأبنية العجيبة باليمن: صرواح، ومرواح، وقلثون، وهندة، وهنيدة، وقلثوم، وعمدان، وبيتون، وهذه حصون باليمن عملتها الشياطين. وقوله: وتماثيل جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، يعني صورا من نحاس وزجاج ورخام، كانت الجن تعملها، قالوا: وهي صور الأنبياء والملائكة، كانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان. وجفان جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، كالجوابي جمع الجيبة وهي الحوض الكبير، يجبي الماء، أي يجمعه، قال المفسرون: يعني قصاعا في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ثابتات لها قوائم لا يخرجن عن أماكنها وكانت بأرض تتخذ من الجبال، ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] أي: وقلنا اعملوا بطاعة الله آل داود شكرا له على ما آتاكم. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] العامل بطاعتي شكرا لنعمتي، قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] قال المفسرون: كانت الإنس في زمان سليمان تقول: إن الجن تعلم الغيب الذي يكون في، غد فلما مات سليمان مكث على عصاه حولا ميتا، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان، لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتا، فعلموا بموته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب. فذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ: 14] يعني الأرضة، تأكل منسأته يعني عصاه، قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها، أي: يطرد ويزجر، وأكثر القراء على همزة المنسأة، وقرأ أبو عمرو بغير همز، قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألفا يقولون منساة، وأنشد: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل وقوله: فلما خر أي: سقط ميتا، تبينت الجن أي: ظهرت وانكشفت للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا

يعلمون به {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] أي: ما عملوا مسخرين لسليمان، وهو ميت، وهم يظنون أنه حي. قال مقاتل: العذاب المهين الشقاء والنصب في العمل. {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ {15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ {17} } [سبأ: 15-17] قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ: 15] 769 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو خَلِيفَةَ، نا أَبُو هَمَّامٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَإٍ، أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَدَ عَشَرَةً، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا؛ فَالأَزْدُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجٌ وَالأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارُ؛ مِنْهُمْ: بَجِيلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا؛ فَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَلَخْمٌ وَجُذَامٌ، وَالْمُرَادُ بِسَبَإٍ هَهُنَا: الْقَبِيلَةُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَوْلادِ سَبَإِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وقوله: في مساكنهم كانت مساكنهم بمأرب من اليمن، آية أي: علامة تدلهم على قدرة الله، وأن المنعم عليهم هو الله، ثم ذكر تلك الآية، فقال: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ: 15] عن يمين واد لهم وشماله، كانت قد أحاطتا بذلك الوادي الذي بين مساكنهم، وقيل لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سبأ: 15] يعني ثمار الجنتين، قال السدي، ومقاتل: كانت المرأة تخرج فتحمل مكتلها على رأسها وتمر فيمتلئ من ألوان الفاكهة من غير أن تمس شيئا بيدها. وقوله: واشكروا له أي: على ما رزقكم من النعمة، والمعنى: اعملوا بطاعته إذ أنعم عليكم بما أنعم. بلدة طيبة يعني أرض سبأ بلدة طيبة، لأنها أخرجت ثمارها ولم تكن سبخة، وقال ابن زيد: لم يكن فيها شيء مؤذ من بعوض أو ذباب، ولا

برغوث ولا عقرب، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل فتموت كلها لطيب هوائها. ورب غفور أي: والله رب غفور، قال مقاتل: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب. فأعرضوا عن الحق وكذبوا أنبياءهم، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشحر وأودية اليمن، فردموا ما بين جبلين وحبسوا الماء في ذلك الردم ثلاثة أبواب، بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسولهم بعث الله تعالى جرذا ثقبت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء خيمهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] جمع عرمة، وهي السكر الذي يحبس الماء، وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق. وقال قتادة، ومقاتل: العرم اسم وادي سبأ. وبدلناهم بجنتيهم اللتين يطعمان الفواكه، {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] القراءة الجيدة بالإضافة لأن الخمط عند المفسرين اسم شجرة، قالوا: هو الأراك، وأكله جناه، وهو البريد. قال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك. قال الأخفش: الأحسن في مثل هذه الإضافة مثل دار حر وثوب خز. وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجر يقال له فسوة الضيع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به. وقال المبرد، والزجاج: يقال لكل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله: خمط. وعلى هذا يحسن التنوين في أكل إذا جعلت الخمط اسما للمأكولات، والأثل شجرة تشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر إذا كان بريا لا ينتفع به، ولا يصلح ورقه للمغسول، كما يكون ورق السدر الذي ينبت على الماء. ومعنى قوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} } [سبأ: 16-16] يعني أن الأثل والخمط كانا أكثر في الجنتين المبدلتين من السدر. قال قتادة: كان شجر القوم من خير الشجر إذا صيره إليه من شر الشجر. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ: 17] أي: جزيناهم ذلك التبديل لكفرهم، {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] يعني أن المؤمن نكفر عنه ذنوبه بطاعاته، والكافر يجازي بكل سوء يعمله. قال مقاتل: وهل يكافأ بعمله السيئ إلا الكفور لله في نعمه. وقال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازي، أي: يجزى الثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنْينَ {18} فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {19} } [سبأ: 18-19] وقوله: وجعلنا بينهم عطف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ: 15] يعني: وكان من قصتهم أنا جعلنا بينهم، {وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18] بالماء والشجر، وهي قرى الشام، قرى ظاهرة متواصلة، وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام، ومعنى قوله:

ظاهره أن الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها، وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ: 18] جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم، قلنا لهم: سيروا فيها في تلك القرى، ليالي وأياما ليلا شئتم السير أم نهارا، آمنين من الجوع والعطش والسباع والتعب، ومن كل خوف. ثم أنهم بطروا النعمة وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ليركب إليها الرواحل وتتزود الأزواد، وقرئ بَعِّد وهو بمعنى باعد، وهو مثل ضعف وضاعف، وقرب وقارب. وظلموا أنفسهم بالكفر، فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم كيف فعلنا بهم، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أن الله تعالى لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل بهم في الفرقة، فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ. أخبرنا أبو حسان المزكي، أنا هارون بن محمد الإستراباذي، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، نا جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء، وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين، فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه إلى مكة، فأقاموا بمكة وما حولها، فأصابتهم الحمى، فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟ قال: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان، ثم قالت: من كان ذا جلد وصبر على أزمات الدهر فعليه بلأراك من بطن مر، وكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسبات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل، وكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ولبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير، وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها، أي جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم يريد النبات الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة وآل محرق. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [سبأ: 19] يعني فيما فعل سبأ،

لآيات لعبرا ودلالات، {لِكُلِّ صَبَّارٍ} [سبأ: 19] عن معاصي الله، شكور لأنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمنين من هذه الأمة، صبور على البلاء، شكور لله في نعمه. قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {20} وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ {21} } [سبأ: 20-21] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] قال الزجاج: صدق في ظنه أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، فمن شدد نصب الظن لأنه مفعول به، ومن خفف نصبه على معنى صدق عليهم في ظنه، قال مجاهد: صدق ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله. وهو قوله: {إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] قال السدي، عن ابن عباس: يعني المؤمنين كلهم، وهم الذين قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره، قال: لأغوينهم، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم ولم يكن في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيهم يتم، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 21] أي: ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين، يعني نعلمهم موجودين ظاهرين، والمعنى: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمن ظاهرا، وكفر الكافر ظاهرا، وهو قوله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 21] والعلم بهما موجودين هو الذي يقع به الجزاء. وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] قال مقاتل: على كل شيء من الإيمان والشك. قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {23} } [سبأ: 22-23] قل لكفار مكة، {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ: 22] أنهم آلهة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22] قال مقاتل: يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. ثم أخبر عنهم، فقال: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22] أي: من خير وشر، ونفع وضر. {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وما لهم وما لله، منهم من الآلهة، من ظهير من معين على شيء. قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] أي: لا تنفع شفاعة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى يؤذن له في الشفاعة، وقرئ بضم الهمزة وفتحها، فمن فتح كان المعنى: إلا لمن

أذن الله له في الشفاعة، يعني الشافع، ويجوز أن يكون المعنى: إلا لمن أذن الله في أن يشفع له، ومن ضم الهمزة كان المعنى كقول من فتح، والآذن هو الله تعالى في القراءتين، كقوله: وهل يجازي إلا الكفور والمجازي هو الله تعالى في الوجهين، قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن وحد الله، كقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . ثم أخبر عن خوف الملائكة، فقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: كشف الفزع عن قلوبهم وقرئ فزع كشف الله الفزع عن قلوبهم، ومعنى القراءتين سواء كما ذكرنا في أذن وأذن، والتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتقرير، وهذا دليل على أنه قد يصيبهم فزع شديد من شيء قد يحدث من أقدار الله، ولم يذكر ذلك الشيء لأن إخراج الفزع يدل على حصوله، فكأنه قد ذكر، والمفسرون ذكروا ذلك الشيء، قال قتادة، ومقاتل، والكلبي: لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وبعث الله محمدا، أنزل جبريل بالوحي، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع، فرفعوا رءوسهم، وقال بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23] قال الحق، يعني الوحي، وهو العلي الذي فوق خلقه بالقهر والاقتدار، الكبير العظيم، والشيء أعظم منه. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {24} قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ {25} قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ {26} قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {27} } [سبأ: 24-27] قوله: قل لكفار مكة: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ} [سبأ: 24] الرزق والمطر، ومن الأرض النبات والثمر، وإنما أمر بهذا السؤال احتجاجا عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة لا غيره، وذلك أنه إذا استفهمهم عن الرازق لم يمكنهم أن يثبتوا رازقا غير الله، ولهذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجواب، فقال: قل الله لأنهم لا يصيبون أيضا بغير الله من الرازقين، وتم الكلام، ثم أمره بأن يخبرهم بأنهم على الضلال بعبادة غير الله بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] فذهب المفسرون أن الألف في أو صلة، ومعناه واو العطف، كأنه قيل: وإنا وإياكم. قال أبو عبيدة: معناه: إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. قل لقومك: {لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25] قال ابن عباس: لا تؤخذون بجرمنا ولا نسأل

عن كفركم وتكذيبكم، وهذا على التبرؤ منهم ومن أعمالهم. {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} [سبأ: 26] يعني بعد البعث في الآخرة، {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ: 26] ثم يقضي ويحكم بيننا بالعدل، وهو الفتاح القاضي، العليم بما يقضي. قل للكفار، أروني أعلموني الذين ألحقتموهم بالله في العبادة معه شركاء هل يرزقون ويخلقون؟ كلا لا يرزقون ولا يخلقون، بل أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه من إلحاق الشركاء به في العبادة الذي يخلق ويرزق، {هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} [سبأ: 27] في ملكه، الحكيم في أمره. قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {28} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {29} قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ {30} } [سبأ: 28-30] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] قال ابن عباس: يريد لجميع الخلق وتقدير الكلام للناس كافة. كقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ، والمعنى: وما أرسلناك إلا للناس عامة كلهم، أحمرهم وأسودهم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] قال مقاتل: يعني كفار مكة. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29] يعنون بالوعد العذاب النازل لهم بعد الموت، وإنما قالوا هذا لأنهم كانوا ينكرون البعث، فقال الله تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} [سبأ: 30] يعني يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني يوم النزع والسباق، وهو ميعاد عذاب الكافر. {لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً} [سبأ: 30] لا تتأخرون عن ذلك اليوم، ولا تستقدمون ولا تتقدمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منه. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ {31} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ {32} وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {33} } [سبأ: 31-33] قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 31] يعني مشركي مكة، {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31] يعنون التوراة والإنجيل، وذلك أنه لما قال مؤمنو أهل الكتاب أن صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابنا، وهو نبي مبعوث، كفر أهل مكة بكتابنا، ثم أخبر عن حالهم في الآخرة بقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [سبأ: 31] يعني مشركي مكة، {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] محبوسون للحساب يوم القيامة، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] يرد بعضهم على بعض القول في الجدال، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ: 31] وهم من الأتباع، للذين استكبروا وهم الأشراف والقادة، {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] مصدقين بتوحيد الله،

أي: منعتمونا عن الإيمان. ثم أجابهم المتبوعون في الكفر بقول: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ: 32] أي: منعناكم عن الإيمان، {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32] بترك الإيمان، وفي هذا تنبيه للكفار أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبب عداوة في الآخرة، كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة: 166] الآية، فقال الأتباع مجيبين {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سبأ: 33] قال الأخفش: الليل والنهار لا يمكران بأحد، ولكن يمكر فيهما. وهذا كقوله: {مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] وهو من سعة العربية. وقال المبرد: أي: بل مكركم في الليل والنهار. {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} [سبأ: 33] وهو أنهم يقولون لهم: إن ديننا هو الحق، ومحمد ساحر كذاب. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33] تقدم تفسيره في { [يونس. ] وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة سبأ: 33] قال ابن عباس: غلوا بها في النيران. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا} [سبأ: 33] جزاء، {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] من الشرك في الدنيا. قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {34} وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {35} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {36} وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ {37} وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ {38} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {39} } [سبأ: 34-39] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 34] نبي ينذر أهلها، {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [سبأ: 34] رؤساؤها وأغنياؤها: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [سبأ: 34] من التوحيد والإيمان، كافرون وقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} [سبأ: 35] افتخر مشركو مكة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بأولادهم وأموالهم وظنوا أن الله إنما خولهم المال والولد كرامة لهم، فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] أي: إن الله أحسن إلينا بالمال والولد فلا يعذبنا، فقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ: 36] يعني أن بسط الرزق وتضييقه من الله يفعله ابتلاء وامتحانا، لا يدل البسط على رضا الله، ولا يدل التضييق على سخطه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [سبأ: 36] يعني أهل مكة، لا يعلمون ذلك حين ظنوا أن أموالهم وأولادهم دليل على كرامة الله لهم. ثم صرح بهذا المعنى، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37] قال الأخفش: زلفى اسم المصدر، كأنه أراد بالتي تقربكم عندنا تقريبا، {إِلا مَنْ آمَنَ} [سبأ: 37] لكن من آمن، وعمل صالحا قال ابن عباس: يريد أن إيمانه وعمله قربه مني، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ: 37] يضاعف الله له حسناتهم، فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبع مائة إلى ما زاد، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} [سبأ: 37] يعني غرف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية، آمنون من الموت والغير. وقرأ حمزة في الغرفة على واحدة، كقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] واسم الجنس يجوز أن يراد

به الجمع، وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] أي: يخلفه لكم، أو عليكم، يقال: أخلف الله له وعليه إذا أبدل له ما ذهب عنه. قال سعيد بن جبير: وما أنفقتم من شيء في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلقه. وقال الكلبي: وما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلقه، إما أن يعلمه في الدنيا، أو بدخوله في الآخرة. 770 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، نا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا وَمَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا " {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ {40} قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ {41} فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {42} } [سبأ: 40-42] قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [سبأ: 40] يعني المشركين، {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] هذا استفهام توبيخ للعابدين، كقوله لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، فنزهت الملائكة ربها عن الشرك ف {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ: 41] تنزيها لك مما أضافوه إليك من الشرك، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ: 41] قال ابن عباس: ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم ولسنا نريد غيرك وليا. {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] يعني الشياطين، قال مقاتل: أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا. {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41] يعني المصدقين بالشياطين والمطيعين لهم. ثم يقول الله تعالى: فاليوم يعني في الآخرة، {لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} [سبأ: 42] يعني العابدين والمعبودين، {نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [سبأ: 42] أي: نفعا بالشفاعة ولا ضرا بالتعذيب، يريد أنهم عاجزون لا نفع عندهم ولا ضرر، يقول للذين ظلموا عبدوا غير الله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42] . ثم أخبر أنهم يكذبون محمدا والقرآن، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {43} وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ {44} وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {45} } [سبأ: 43-45] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [سبأ: 43] الآية، وهي الظاهرة التفسير. ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة ولم يكذبوا محمدا عن ثبت عندهم، فقال: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ

يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الفراء: أي من أين كذبوك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه، ثم خوفهم وأخبر عن عاقبة من كذب قبلهم، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سبأ: 45] يعني الأمم الكافرة، وما بلغوا يعني أهل مكة، {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ: 45] المعشار والعشير والعشر جزء من العشرة، قال ابن عباس: يقول: وما بلغ قومك معشار ما آتيناهم من قبلهم من القوة، وكثرة المال، وطول العمر فأهلكهم الله. وهو قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ: 45] يعني العذاب والعقوبة والنكير: اسم بمعنى الإنكار. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46] أي: آمركم بخصلة واحدة، وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46] أي: تقوموا منفردين ومجتمعين، يعني أن الواحدة التي أعظكم بها هي قيامكم ونشركم لطلب الحق بالفكرة، وهو قوله: ثم تتفكروا مجتمعين ومتفرقين، وليس معنى القيام ههنا قيام على الرجلين، بل هو قيام بالأمر الذي هو طلب الحق، وتم الكلام عند قوله: ثم تتفكروا وهو مختصر، معناه: ثم تتفكروا لتعلموا صحة ما أمرتكم به، قال مقاتل: يقول: ليتفكر الرجل منك وحده ومع صاحبه، فينظران في خلق السموات والأرض دلالة على أن خالقها واحد لا شريك له. ثم ابتدأ فقال: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقال ابن قتيبة: تأويل الآية أن المشركين قالوا: إن محمدا مجنون وساحر، فقال الله تعالى لهم: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي: أن تقوموا لله ولي ذاته مجتمعين، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنة قط؟ أو جربنا عليه كذبا؟ ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نذير، وهو قوله: {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] يعني في الآخرة، وعلى هذا القول الآية متصلة ببعض، وهو قول الفراء، والزجاج. {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {47} قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {48} قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ {49} قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ {50} } [سبأ: 47-50]

قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] يقول: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني، ومعنى {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] أي: ما أسألكم شيئا، كما يقول القائل: ما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد: ليس لي فيه شيء، ثم ذكر أن أجره عند الله، وهو قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47] قال ابن عباس: لم يغب عنه شيء. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] القذف: الرمي بالسهم، والحصى، والكلام. قال الكلبي: يرمي بالحق على معنى يأتي به. وقال مقاتل: يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي. يعني أنه يلقيه إلى أنبيائه، علام الغيوب علم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} [سبأ: 49] الدين والإيمان والقرآن، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] أي: ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إقبال ولا ابتداء ولا إعادة، وقال قتادة: الباطل هو الشيطان. أي: ما يخلق ابتداء ولا بعثا، وهو قول مقاتل، والكلبي. {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} [سبأ: 50] كما تزعمون، وذلك أن كفار مكة قالوا: لقد ضللت حين تركت دين آبائك. {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] أي: إثم ضلالتي يكون على نفسي. {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] من الحكمة والبيان، إنه سميع الدعاء، قريب مني. قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ {51} وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {52} وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {53} وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ {54} } [سبأ: 51-54] ولو ترى يا محمد، إذ فزعوا يعني عند البعث، فلا فوت لا يفوتني أحد، ولا ينجو مني ظالم، {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ: 51] يعني القبور، وحيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه، ولا يفوتونه. وقالوا يعني في الآخرة، آمنا به بمحمد والقرآن، {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ: 52] أي: التناول، وهو تفاعل من النوش الذي هو التناول، ومن همز فلأن واو التناوش مضمومة، وكل واو ضمتها لازمة جاز إبدال همزة منها، نحو أدؤر، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا. وهو قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 53] أي: كانوا كافرين بمحمد والقرآن في الدنيا قبل ما عاينوا من أهوال القيامة، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 53] قال مجاهد: يرمون محمدا بالظن لا باليقين، وهو قولهم له: شاعر، وساحر، وكاهن. ومعنى الغيب على هذا: الظن، وهو ما غاب علمه عنهم، والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى: يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون. وحيل بينهم منع بين هؤلاء الكفار، {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] قال ابن عباس: يعني الرجعة إلى الدنيا. قال الحسن: يعني الإيمان. وقال مقاتل: يعني من قبول التوبة منهم. {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} [سبأ: 54] بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار، من قبل أي: من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} [سبأ: 54] من البعث ونزول العذاب بهم، مريب موقع لهم في الريبة والتهمة.

سورة فاطر

سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون. 771 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمَلائِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: أَنِ ادْخُلْ مِنْ أَيِّ الأَبْوَابِ شِئْتَ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {2} } [فاطر: 1-2] بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 1] خالقها مبتدئا على غير مثال سبق، {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} [فاطر: 1] يرسلهم إلى النبيين وإلى ما شاء من الأمور، أولي ذوي، أجنحة جمع جناح، {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] تقدم تفسيرها، قال قتادة، ومقاتل: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ويزيد فيها ما يشاء. وهو قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] قال ابن عباس: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج جبريل وله ست مائة جناح. وهذا القول اخيار الفراء، والزجاج. وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، قال: هو الملاحة في العين. وقال الزهري: هو حسن الصوت. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [فاطر: 1] مما يريد أن يخلق، {قَدِيرٌ {1} مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر: 1-2] ما يأتيهم به من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكها، وما يمسك من ذلك فلا يقدر قادر أن يرسله، وهو وقوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] . {يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] قوله: يأيها الناس يعني: يا أهل مكة، {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3] إذ أسكنكم الحرم ومنعكم من الغارات، {

هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] استفهام توبيخ وتقرير، أي: لا خالق سواه، قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله، لأن من زيادة مؤكدة، ومن خفض جعله صفة على اللفظ. {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} [فاطر: 3] المطر، ومن الأرض النبات، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] قال الزجاج: من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم. ثم عزى نبيه عليه السلام بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {4} يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ {5} إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {6} الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {7} } [فاطر: 4-7] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر: 4] فيجازي من كذب وينصر من كذب من رسله. {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [فاطر: 5] بالبعث والثواب والعقاب، حق وباقي الآية مفسر في { [لقمان. ثم حذرهم الشيطان، فقال:] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [سورة فاطر: 6] قال مقاتل: عادوه بطاعة الله، ثم بين عداوته فقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} [فاطر: 6] أي: شيعته إلى الكفر، {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] . ثم ذكر ما للفريقين الكفار والمؤمنين بالآيتين بعد هذه الآية. {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر: 8] قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة. وقال سعيد بن جبير: أنزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى. والمعنى: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، ويدل على هذا المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] قال ابن عباس: لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرات على تركهم الإيمان. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] عالم بصنيعهم فيجازيهم على ذلك. ثم أخبر عن صنعه لتعتبروا، فقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ {9} مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ {10} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {11} } [فاطر: 9-11] {

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] تزعجه من حيث هو، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] إلى مكان لا نبت فيه، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] أنبتنا فيها الزرع والكلأ بعدما لم يكن، كذلك النشور البعث والأحياء. 772 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، نا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا أَبُو دَاوُدَ، نا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ عُدُسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحِلا، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضْرَاءَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَقَالَ: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} [فاطر: 10] قال الفراء: معناه من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعا. وقال قتادة: من كان يريد العزة فليعتزن بطاعة الله، يعني أن قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة، كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان، فليطلبه من عنده، ويدل على صحة هذا ما روى ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ". وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] إلى الله يصعد كلمة التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله، ومعنى يصعد أنه يعلم ذلك، كما يقال: ارتفع الأمر إلى القاضي وإلى السلطان، أي علمه، ويجوز أن يكون معنى إليه إلى سمائه، وهو المحل الذي لا يجري لأحد سواه فيه ملك ولا حكم، فجعل صعوده إلى السماء صعود إليه، وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] قال الحسن: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله، يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل، وإن خالف رد. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال قتادة: يرفع الله العمل الصالح لصاحبه. أي: يقبله فيكون هذا ابتداء إخبار لا يتعلق بما قبله، ثم ذكر من لا يوحد الله فقال: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: 10] أن يشركون بالله ويقولون الشرك، وقال الكلبي: يعملون السيئات. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر: 10] وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار الندوة. وهو قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، ثم أخبر أن مكرهم يبطل، فقال: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] يفسد ويهلك ولا يملكون شيئا. ثم دل على نفسه بصنعه، فقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [فاطر: 11] يعني آدم، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [فاطر: 11] يعني نسله، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11] ذكرانا وإناثا، {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [فاطر: 11] ما يطول عمر أحد، {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] قال الفراء: يريد آخر غير الأول، فكنى عنه كأنه الأول، لأن اللفظ الثاني لو ظهر كان الأول، كأنه قيل: ولا ينقص من عمر معمر {إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] يعني اللوح المحفوظ. قال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة حتى يأتي على آخر عمره. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] إن كتابة الآجال والأعمال على الله هين.

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {12} يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ {13} إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ {14} } [فاطر: 12-14] قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] يعني: العذب والمالح، ثم ذكرهما، فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر: 12] جائز في الحلق، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] شديد الملوحة، وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] وهو القشرة الرفيعة التي على النواة كاللفافة لها، إن تدعوهم لكشف خير، {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14] لأنها جماد لا تنفع ولا تضر، ولو سمعوا بأن يخلق الله لها سمعا، {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14] لم تكن عندهم إجابة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] يتبرءون من عبادتكم، يقولون: ما كنتم إيانا تعبدون. ولا ينبئك يا محمد، مثل خبير عالم بالأشياء، يعني نفسه تعالى، لا أحد أخبر منه بأن هذا الذي ذكر من أمر الأصنام كائن، فلا ينبئك مثله في عمله، لأنه لا مثل له في العلم وفي كل شيء. قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {15} إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {16} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ {17} وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {18} } [فاطر: 15-18] {يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] المحتاجون إليه في رزقه ومغفرته، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15] عن عبادتكم، الحميد عند خلقه بإحسانه إليهم. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [فاطر: 16] مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر: 18] أي: نفس مثقلة بالذنوب، إلى حملها إلى ما حملت من الخطايا والذنوب، {لا يُحْمَلْ مِنْهُ} [فاطر: 18] أي: من حملها، {شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة ما حمل عنها شيئا، قال ابن عباس: يقول الأب والأم: يا بني احمل عني. فيقول: حسبي ما علي. {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] قال الزجاج: تأويله: إن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] . ومعنى يخشون ربهم بالغيب، أي: وهم غائبون عن أحكام الآخرة، كقوله: يؤمنون بالغيب. ومن تزكى تطهر من الشرك والفواحش، {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] أي: فصلاحه لنفسه، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] فيجزى بالأعمال في الآخرة. قوله: {

وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ {19} وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ {20} وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ {21} وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ {22} إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ {23} إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ {24} وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25} ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {26} } [فاطر: 19-26] {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 19] يعني المؤمن والمشرك. ولا الظلمات الشرك والضلالات، ولا النور الهدى والإيمان. {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 21] قال الكلبي: يعني الجنة والنار، وقال عطاء: يعني الظل بالليل والسموم بالنهار. {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] يعني المؤمنين والكافرين، قال قتادة: هذه أمثال ضربها الله للكافر والمؤمن. يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي المؤمن والكافر. {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ} [فاطر: 22] كلامه، من يشاء حتى يتعظ ويهتدي، قال عطاء: يعني أولياءه، خلقهم لجنته. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] يعني الكفار، شبههم بالموتى حين صموا فلم يجيبوا. {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] يقول: ما أنت إلا رسول منذر تنذرهم النار وتخوفهم، ولي عليك غير ذلك. وهو قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] سلف فيها نبي، قال مقاتل: ما من أمه إلا جاءهم رسول، وما بعد هذا ظاهر من تفسيره إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {28} } [فاطر: 27-28] ومن الجبال أي: ومما خلقنا من الجبال، جدد بيض قال الفراء: هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر. واحدها جدة، وقال المبرد: جدد طرائق وخطوط. ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد. وغرابيب سود الغربيب الشديد السواد، الذي يشبه لون الغراب، قال الفراء: هذا على التقديم والتأخير، تقديره وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب. وقل ما يقال: غربيب أسود. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [فاطر: 28] قال الفراء: أي خلق مختلف ألوانه. كذلك كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام، ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقال مقاتل: أشد الناس لله خشية أعلمهم به. وقال مسروق: كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا. وقال مجاهد، والشعبي: العالم من خاف الله تعالى. وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: من خشي الله فهو عالم. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [فاطر: 28] في ملكه، غفور لذنوب المؤمنين. {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ {29} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ {30} وَالَّذِي

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ {31} } [فاطر: 29-31] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] يعني قراءة القرآن، أثنى الله عليهم بقراءة القرآن، وقوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] لن تفسد، ولن تكسد، ولن تهلك، ليوفيهم أجورهم جزاء أعمالهم بالثواب، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30] قال ابن عباس: يعني سوى الثواب مما لم تر عين، ولم تسمع أذن. {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30] قال ابن عباس: غفر العظيم من ذنوبهم، وشكر اليسير من أعمالهم. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [فاطر: 31] يعني القرآن، {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] موافقا لما قبله من الكتب، {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] . {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [فاطر: 32] قال مقاتل: قرآن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى: ثم جعلنا الكتاب ينتهي إليهم. {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] قال ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قسمهم ورتبهم، فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهو الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، قاله عطاء، عن ابن عباس. وقال مقاتل: يعني أصحاب الكبائر من أهل التوحيد. ومنهم مقتصد وهو الذي لم يصب كبيرة، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] يعني المقربين الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة، قال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد التي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته. 773 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلامٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، نا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ» 774 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا الْفَضْلُ بْنُ عُمَيْرَةَ، نا مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ» ، وَقَرَأَ عُمَرُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقوله: سابق أي: إلى الجنة أو إلى رحمة الله. بالخيرات بالأعمال الصالحة، بإذن الله بأمر الله وإرادته، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] يعني إيراثهم الكتاب. ثم أخبرهم بثوابهم وجمعهم في دخول الجنة، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ {33} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {35} } [فاطر: 33-35] {

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] قال مقاتل: يعني الأصناف الثلاثة. والآية مفسرة في { [الحج ولما دخلوها واستقرت بهم الدار حمدوا ربهم على ما صنع بهم، وهو قوله:] وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [سورة فاطر: 34] الحزن والحزن واحد، كالبخل والبخل، قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء: هو حزن النار. وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم، وقال الكلبي: يعني: ما كان بحوزتهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا. وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد. 775 - حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَائِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَرَاثِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلا فِي مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ يَنْقُضُونَ التُّرَابِ عَنْ رُءُوسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] قال ابن عباس: غفر العظائم من ذنوبهم، وشكر اليسير من محاسن أعمالهم. {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} [فاطر: 35] قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أن ألا يموتون ولا يتحولون عنها أبدا. من فضله أي: ذلك بفضله لا بأعمالنا، {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر: 35] لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة، {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] وهو الإعياء من التعب. ثم قال في صفة الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ {36} وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ {37} إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {38} } [فاطر: 36-38] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] أي: لا يهلكون فيستريحوا مما هم فيه من العذاب، وهو كقوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] طرفة عين، كذلك كما ذكرنا، {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] كل كافر، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر: 37] يستغيثون، وهو افتعال من الصراخ، قال مقاتل: هو أنهم ينادون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [فاطر: 37] قال ابن عباس: نقل لا إله إلا الله. {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] يعني الشرك، فوبخهم الله تعالى، فقال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] قال عطاء: يريد ثماني عشرة سنة. وهو قول قتادة. وقال الحسن: أربعين سنة. وقال ابن عباس في رواية مجاهد: ستين سنة. قال: وهو العمر الذي أعذر الله ابن آدم. 776 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، أنا بَشِيرُ بْنُ مُوسَى، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنِ الْعَجْلانِ أَبِي مُحَمَّد ٍ،

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ» وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] قال جمهور المفسرين: يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن عكرمة، وسفيان بن عيينة: أن المراد بالنذير الشيب، ومعناه: أولم يعمركم حتى شبتم، وقوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37] قال مقاتل: فذوقوا العذاب فما للمشركين من مانع يمنعهم، وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} [فاطر: 39] {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39] أي: أمة آمنة خلفت من قبلها ورأت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [فاطر: 39] جزاء كفره، ثم ذم كفرهم بباقي الآية، ثم أمر نبيه بالاحتجاج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا {40} إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {41} } [فاطر: 40-41] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} [فاطر: 40] معناه: أخبروني عن الذين اتخذتم وعبدتم من دوني شركاء بزعمكم، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر: 40] أي: بأي شيء أوجبتم لهم شركة مع الله في العبادة لشيء خلقوه من الأرض، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر: 40] أي: شركة في خلقها، ثم ترك هذا النظم، فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] قال مقاتل: يقول: ثم أعطينا كفار مكة كتابا فهم على بيان منه، بأن مع الله شريكا. وهو قوله: فهم على بينات منه يعني ما في الكتاب من ضروب البيان، وقرأ أبو عمرو بينة جعل ما في الكتاب بينة على لفظ الإفراد، وإن كانت عدة أشياء، ثم استأنف: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ} [فاطر: 40] أي: ما يعد {بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} [فاطر: 40] قال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة إلا باطلا، وليس بشيء. قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] يمنعهما من الزوال والذهاب والسقوط، ولئن زالتا ولو زالتا على تقدير ذلك لم يمسكهما من أحد غير الله، وهو قوله: {إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] وهذا إخبار عن عظيم قدرة الله على حفظ السموات وإمساكها عن الزوال، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} [فاطر: 41] عن الكفار إذ لم يعجل لهم العقوبة، غفورا إذ أخر العذاب عنهم. قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا {42} اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ

الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا {43} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا {44} وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا {45} } [فاطر: 42-45] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [فاطر: 42] يعني كفار مكة، قال ابن عباس: حلفوا قبل أن يأتيهم محمد بأيمان غليظة. {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] رسول، ليكونن أهدى أصوب دينا، {مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر: 42] يعني اليهود والنصارى والصابئين، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} [فاطر: 42] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زادهم مجيئه، إلا نفورا تباعدا عن الهدى. {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ} [فاطر: 43] عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان به، ومكر السيئ يعني: ومكروا مكر السيئ، وهو عملهم القبيح من الشرك، والمكر هو العمل القبيح، وأضيف المكر إلى صفته، وقرأ حمزة بإسكان الهمزة، والنحويون كلهم يزعمون أن هذا من الاضطرار في الشعر، ولا يجوز مثله في كتاب الله. وقال أبو علي الفارسي: هو على إجراء الوصل مجرى الوقف، كما حكى سيبويه من قولهم لملائه الأربعة: فأجروا الوصل مجرى الوقف. قال: ويحتمل أنه خفف آخر الاسم لاجتماع الكسرتين والياءين كما خففوا الياء من أيل لتوالي الكسرتين، ونزل حركة الإعراب بمنزلة غير حركة الإعراب. وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على ومكر السيئ فيترك الحركة، وهو وقف حسن تام، ثم غلط فيه الراوي فروى أنه كان يحذف الإعراب في الوصل، فتابع حمزة الغالط، فقرأ في الأدراج الحركة. وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] قال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} [فاطر: 43] هل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ} [فاطر: 43] في العذاب، تبديلا وإن تأخر ذلك، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر: 43] لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم. وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} [فاطر: 45] يعني المشركين، {بِمَا كَسَبُوا} [فاطر: 45] من الشرك والتكذيب لعجل لهم العذاب والعقوبة، وهو وقوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45] وهذا مفسر في { [النحل، وقوله:] فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [سورة فاطر: 45] قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصيته.

سورة يس

سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون. 777 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُرْجَانِيُّ، بِهَا، أنا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ، أنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ الصَّفَّارُ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، أَوْ قَرِيبٍ عِنْدَهُ؛ جَاءَهُ خَازِنُ الْجَنَّةِ بِشَرْبَةٍ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، فَسَقَاهَا إِيَّاهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَشْرَبُ فَيَمُوتُ رَيَّانَ، وَيُبْعَثُ رَيَّانَ، وَلا يَحْتَاجُ إِلَى حَوْضٍ مِنْ حِيَاضِ الأَنْبِيَاءِ» {يس {1} وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {3} عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {4} تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ {5} لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ {6} لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {7} } [يس: 1-7] بسم الله الرحمن الرحيم يس قال ابن عباس، والمفسرون: يريد يا إنسان، يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والقرآن الحكيم أقسم الله بالقرآن المحكم من الباطل. {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] وذلك أن كفار مكة قالوا: لست مرسلا، وما أرسل الله إلينا رسولا. {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 4] يعني دين الإسلام. {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5] قال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه. ومن قرأ بالنصب فعلى معنى: نزل الله ذلك تنزيلا من العزيز الرحيم، ثم أضيف المصدر فصار معرفة. لتنذر قوما متصل بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] ، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] قال قتادة: لتنذر قوما لم يأتهم نذير من قبلك لأنهم كانوا في الفترة، وهو معنى قوله: فهم غافلون أي عن حج التوحيد وأدلة البعث. {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} [يس: 7] وجب العذاب، على أكثرهم أكثر أهل مكة كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وهذا إشارة إلى الإرادة السابقة بكفرهم، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] لأن الله منعهم عن الهدى. قوله: {

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ {8} وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ {9} وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {10} إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ {11} إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {12} } [يس: 8-12] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا} [يس: 8] قال أهل المعاني: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل. قال الفراء: معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله. كقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] معناه: لا تمسكها عن النفقة، وقوله: فهي يعني أيديهم، كنى عنها ولم يذكرها لأن الأغلال والأعناق تدل عليها، وذلك أن الغل إنما هو يجمع اليد إلى العنق، وقوله: فهم مقمحون قال الفراء، والزجاج: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه. ومعنى الإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه وقمح إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء. قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذناقهم ورءوسهم صعدا فهم مرفوعو الرءوس برفع الأغلال إياها، يدل على هذا المعنى قول قتادة مقمحون: مغلولون. قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] يريد منعناهم عن الإيمان لمواقع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، وهذا معنى قول ابن عباس: منعهم من الهدى لما سبق في علمه عليهم. وقوله: فأغشيناهم قال الفراء: ألبسنا أبصارهم غشاوة. أي عمى، {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] سبيل الهدى. ثم ذكر أن الإنذار لا ينفعهم بعد هذا، بقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10] قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذر من ذكر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] يعني القرآن، {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11] خاف الله في الدنيا، فبشره بمغفرة لذنوبه، وأجر كريم حسن وهو الجنة. قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: 12] يعني البعث، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] من خير أو شر عملوه في حياتهم، وآثارهم خطاهم بأرجلهم. 778 - أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّرْقِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، أنا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، تَعَالَى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَقَالَ

النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ مَنَازِلَكُمْ، فَإِنَّمَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» 779 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاكِرُ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وكل شيء من الأعمال، أحصيناه بيناه وحفظناه، {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وهو اللوح المحفوظ. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ {13} إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ {14} قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ {15} قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ {16} وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {17} } [يس: 13-17] قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا} [يس: 13] قال مقاتل: صف لهم يا محمد شبها. يعني: لأهل مكة، أصحاب القرية يعني أنطاكية، {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] رسل عيسى، وذلك أنه بعث رسولين من الحواريين إلى أنطاكية ليدعوا الناس إلى عبادة الله، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} [يس: 14] قال ابن عباس: ضربوهما وسجنوهما. فعززنا بثالث أي: فقوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث، وقرئ بالتخفيف، قال الفراء: عززنا وعززنا، كقولك: شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل. ونحو ذلك قال الزجاج. فقالوا يعني: الرسل لأهل أنطاكية: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ {14} قَالُوا} [يس: 14-15] لهم: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] ما لكم علينا من فضل في شيء، {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ} [يس: 15] أي: لم يرسل رسولا، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] ما أنتم إلا كاذبين فيما تزعمون. {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] وإن كذبتمونا. {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] ما علينا إلا أن نبلغ ونبين لكم. فقال القوم للرسل: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {18} قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ {19} } [يس: 18-19] إنا تطيرنا تشاءمنا، بكم وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا: أصابنا هذا الشر من قبلكم. {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} [يس: 18] لئن لم تسكتوا عنا، لنرجمنكم لنفتنكم كقوله: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] فتوعدوهم بالقتل والتعذيب، وهو قوله: {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {18} قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 18-19] شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم، يعني أصابكم الشؤم من قبلكم، أئن ذكرتم وعظتم بالله وخوفتم، وهذا استفهام محذوف الجواب، تقديره أئن ذكرتم تطيرتم بنا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] مشركون. قوله: {

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20} اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ {21} وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {22} أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ {23} إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {24} إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ {25} } [يس: 20-25] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وهو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم، جاءهم و {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20} اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20-21] لا يسئلونكم أموالكم على ما جاءكم به من الهدى، وهم مهتدون يعني الرسل، فلما قال هذا أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وأيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي، وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم. ثم أنكر اتخاذ الأصنام وعبادتها، فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ} [يس: 23] بسوء ومكروه، {لا تُغْنِ عَنِّي} [يس: 23] لا ترفع ولا تمنع، شفاعتهم شيئا يعني لا شفاعة لها فتغني، ولا ينقذون ولا يخلصوني من ذلك المكروه. {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] إن أنا فعلت ذلك. {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} [يس: 25] الذي كفرتم به، فاسمعون فاسمعوا قولي، فلما قال هذا وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزقه، وذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ {27} وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ {28} إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ {29} } [يس: 26-29] {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فلما دخلها، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 26-27] يعني أن يعلموا أن الله غفر له ليرغبوا في دين الرسل، والمعنى: بغفران ربي لي، وما مع الفعل بمنزلة المصدر، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] من المدخلين الجنة. فلما قتلوه غضب الله لقتلهم إياه غضبة لم تبق من القوم شيئا وعجل لهم العذاب، وهو قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} [يس: 28] يعني قوم حبيب، من بعده من بعد قتله، {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] يعني الملائكة، أي: لم تستنصر منهم بجند من السماء، {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28] أي: وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم كالطوفان، والصاعقة، والريح. ثم بين بما كانت عقوبتهم، فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون، لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت. وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] أي: ساكتون قد ماتوا. قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {30} أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ

الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ {31} وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ {32} } [يس: 30-32] {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] قال مجاهد، ومقاتل: يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا. ثم بين سبب الحسرة، فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس: 30] أي: في الدنيا، {إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [يس: 30] . ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31] أي: ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم، لا يرجعون إليهم أي: لا يعودون إلى الدنيا، أفلا تعتبرون بهم. {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] يعني أن الأمم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا. ثم وعظ كفار مكة ليعتبروا، فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ {33} وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ {34} لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ {35} سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ {36} } [يس: 33-36] {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} [يس: 33] أي: يدلهم على قدرتنا على البعث إحياء الأرض بالنبات بعد أن كانت ميتة لا تنبت شيئا، وهو قوله: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] يعني: ما يقتات من الحبوب. وجعلنا فيها في الأرض، {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} [يس: 34] في الأرض، من العيون يعني: عيون الماء. {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: 35] يعني: من ثمرة النخيل، وهو في اللفظ مذكر، {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] أي: ومن ثمرة ما عملت أيديهم، يعني الغروس والحروث التي قاسوا حراثتها، ومن قرأ عملته بالهاء جعلها عائدة إلى ما التي هي بمعنى الذي، ومن قرأ بحذف الهاء فلأن هذه الهاء الراجعة إلى الموصول تجيء محذوفة في أكثر القرآن، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] ، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وتكون هذه القراءة كقراءة عملته لأن الهاء مرادة، وإن حذفت في اللفظ، ويجوز أن يكون ما في، وما عملته نفيا، وهو معنى قول الضحاك ومقاتل، قال الضحاك: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها. وقال مقاتل: يقول: لم يكن ذلك من صنيع أيديهم، ولكن من فعلنا. وقوله: أفلا يشكرون أي: رب هذه النعم فيوحدونه. ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس: 36] يعني: أجناس الفواكه والحبوب وأصنافها، {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} [يس: 36] يعني: الذكران والإناث، {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] مما خلق الله من جميع الأنواع والأشياء، مما لا تقف عليه من دواب البر والبحر. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ {37} وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ

الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {38} وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {40} } [يس: 37-40] وآية لهم تدل على قدرتنا، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] قال الفراء: نرمي بالنهار على الليل فنأتي بالظلمة. وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كشط وأزيل، أي: نزع فتظهر الظلمة، وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] داخلون في ظلام الليل. قوله: والشمس تجري وآية لهم الشَّمْسُ تَجْرِي، {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] يعني: انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وقال ابن قتيبة: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه، وعلى هذا القول يكون التقدير لمستقر لسيرها. 780 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا وَكِيعٌ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: «مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأَشَجِّ، عَنْ إِسْحَاق وقوله: ذلك أي: ذلك الذي ذكر من أمر الليل والنهار، والشمس والقمر، تقدير العزيز في ملكه، العليم بما قدر من أمرها. قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وهي ثمانية وعشرون منزلا من أول الشهر، فإذا صار إلى آخر منازله دق، وذلك قوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] ومن قرأ والقمر نصبا فلأن المعنى: وقدرنا القمر قدرناه، كما تقول: زيدا ضربته، والعرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ، وإذا جف وقدم يشبه الهلال. {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] أي: لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو وقوله: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أي: هما يتعاقبان بحساب معلوم ولا يجيء أحدهما قبل وقته، وكل من الشمس والقمر والنجوم، {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] يسيرون فيه. {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {41} وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ {42} وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ {43} إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ {44} } [يس: 41-44] وآية لهم وعلامة لأهل مكة على قدرتنا، {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] يعني: آباءهم وأجدادهم الذين هؤلاء من نسلهم، {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] يعني: سفينة نوح، لأن من حمل مع نوح كان هؤلاء من نسلهم، والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد، والمشحون المملوء. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] يعني: السفن التي عملت بعد سفينة نوح

مثلها على هيئها وصورتها، والمراد بهذا أن الله تعالى ذكر منته بأن خلق لهم الخشب حتى عملوا مثل سفينة نوح وركبوه للتجارات. ثم ذكر أنه بفضله يحفظهم ولو شاء أغرقهم فلم يغثهم أحد ولم ينقذهم من الغرق، وهو قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] ولا مغيث لهم، والصريخ ههنا بمعنى المصرخ {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} [يس: 43] يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه من مكروه. قال ابن عباس: ولا ينقذهم من عذابي. {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] أي: إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وذلك أن الكافر متعه الله في الدنيا ورزقه فيها، فإذا ركب السفينة سلمه حتى يموت بأجله. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {45} وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {46} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {47} } [يس: 45-47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [يس: 45] لهؤلاء الكفار: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} [يس: 45] من أمر الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا، فأحذروها ولا تغتروا بها وما فيها من زهرتها، لعلكم ترحمون لتكونوا على رجاء الرحمة من الله، وجواب إذا محذوف على تقدير وإذا قيل لهم هذا أعرضوا، يدل على المحذوف. قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} [يس: 46] أي: عبرة ودلالة تدل على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {46} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 46-47] قال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوه من حروثهم وأنعامهم لله. قالت الكفار: أنطعم أنرزق، {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] رزقه، أي: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضها ليبلوا الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] هذا من قول الكفار للمؤمنين، يقولون لهم: إن أنتم في اتباعكم محمدا وترك ديننا إلا في خطأ بين. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {48} مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ {49} فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ {50} } [يس: 48-50] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] الذي تعدنا به يا محمد من القيامة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48] في ذلك أنت وأصحابك. قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى. يعني أن القيامة تأتيهم بغتة. تأخذهم الصيحة، وهم يخصمون أي: يختصمون في البيع والشراء، ويتكلمون في الأسواق والمجالس، أعز ما كانوا متشاغلين في متصرفاتهم، وأجود القراءة فتح الخاء مع تشديد الصاد، لأن الأصل يختصمون، فألقيت حركة الحرف المدغم وهو التاء على الساكن الذي قبله وهو الخاء، ومن قرأ بكسر الخاء حركه بالكسر لالتقاء الساكنين، وقرأ أهل المدينة بالجمع بين ساكنين، قال الزجاج: وهو أفسد الوجوه وأردأها. وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، وهو يفعلون من الخصومة، كأنه قال: وهم يتكلمون. والمعنى: تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا، وأراد

أن الكفار الذين تقوم عليهم الساعة تأخذهم الصيحة وهم يختصمون، والقوم إذا كانوا على أمر واحد كان الخبر عن بعضهم كالخبر عن جميعهم. ثم ذكر أن الساعة إذا أخذتهم بغتة لم يقدروا على الارتقاء بشيء، فقال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] قال مقاتل: عجلوا عن الوصية فماتوا. {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] وإلى منازلهم يرجعون من الأسواق، وهذا إخبار عما يلقون في النفخة الأولى. ثم أخبر عما يلقونه في النفخة الثانية إذا بعثوا بعد الموت، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ {51} قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ {52} إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ {53} فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {54} } [يس: 51-54] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} [يس: 51] يعني القبور، {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] يخرجون من قبورهم أحياء، يقال: نسل في العد وينسل نسلانا. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] قال المفسرون: إنما يقولون هذا لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين، فيرقدون، فلما بعثوا في النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل، فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] على ألسنة الرسل أنه يبعثكم بعد الموت، وصدق المرسلون في وعد البعث، وقال قتادة: أول الآية للكافرين وآخرها للمسلمين، قال الكافرون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] . وقال المسلم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] . ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] . يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] . ثم ذكر أولياءه، فقال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ {55} هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ {56} لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ {57} سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ {58} } [يس: 55-58] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} [يس: 55] يعني في الآخرة، في شغل وقرئ شغل وهما لغتان، قال مقاتل: شغلوا بافتضاض العذارى من أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم. وهذا قول جماعة المفسرون. وقال الحسن: شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب. فاكهون ناعمون معجبون بما هم فيه، قال أبو زيد: الفكه الطيب النفس الضحوك، يقال: رجل فكه وفاكه ولم يسمع لهذا أفعل في الثلاثي. هم وأزواجهم يعني حلائلهم، في ظلال قال مقاتل: في أكنان القصور. وقرئ في ظلل وهي جمع ظلة. على الأرائك وهي السرر عليها الحجال، قال أحمد بن يحيى: الأريكة لا تكون إلا سريرا في قبة عليه سواره ومتاعه. لهم فيها في الجنة، {فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] يتمنون ويشتهون، قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء. والمعنى: كل ما يدعوه أهل الجنة يأتيهم. ثم بين ما يشتهون، فقال: سلام قولا وهو بدل من ما، المعنى لهم ما يتمنون سلام، ومن أهل الجنة أن يسلم الله عليهم، وقولا منصوب على معنى لهم سلام، يقوله

الله قولا. 781 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى اللَّخْمِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ، تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرْسِلُ الرَّحِيمُ إِلَيْهِمْ بِالسَّلامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، مِنْ رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ {59} أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {60} وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {61} وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ {62} } [يس: 59-62] قوله: وامتازوا اليوم يقال: مزت الشيء من شيء إذا عزلته وتحيته فامتاز. قال: مقاتل: اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين. وقال السدي: كونوا على حدة. قال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] ألم آمركم وأوص إليكم، وقال الزجاج: ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم. قال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال. {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] لا تطيعوا إبليس في الشرك، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة. {وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: 61] أطيعوني ووحدوني، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61] يعني دين الإسلام الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر عداوته لبني آدم، فقال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} [يس: 62] يعني: خلقا كثيرا، وفيه لغات: جبلا، وجبلا، وجبلا، وهذه الأوجه قرئ بها ومعناها: الخلق والجماعة. {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] ما رأيتم من الأمم قبلكم إذ أطاعوا إبليس وعصوا الرسول فأهلكوا، ويقال لهم لما دنوا من النار: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {63} اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {64} الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {65} وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ {66} وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ {67} } [يس: 63-67] {

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] بها في الدنيا. اصلوها قاسوا حرها، اليوم يعني يوم القيامة، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 64] بكفركم بها في الدنيا. اليوم نختم الآية، قال المفسرون: إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل. وقالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم بإذن الله لها في الكلام فشهدت عليهم بما عملوا. قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن، يهددهم الله بهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة. فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق، فأنى يبصرون فكيف يبصرون وقد أعمينا أبصارهم. {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] على مكانهم الذي هم فيه قعود، يقول: لو شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس: 67] لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ {68} وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ {69} لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ {70} } [يس: 68-70] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] بالتشديد والتخفيف، يقال: نكسته وأنكسته، وأنكسته وأنكسته. وذكرنا معنى النكس في قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] قال الزجاج: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم. أفلا يعقلون أليس لهم عقل فيعتبروا فيعلموا أن الذي قدر على هذا من تصريف أحوال الإنسان قادر على البعث بعد الموت، ومن قرأ بالتاء فهو مخاطبة للكفار. قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر. فقال الله تكذيبا لهم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] الشعر أي: ما يستهل له ذلك، وما يتزن له بيت شعر حتى إذا مثل له بيت شعر جرى على لسانه منكسرا. 782 - أَخْبَرَنِي أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ، إِجَازَةً، نا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَيْسَانَ، نا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: «كَفَى الإِسْلامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَ الشِّعْرَ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسٍ:

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا ... وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالأَخْبَارِ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ وَلا يَنْبَغِي لِي وقوله: إن هو قال مقاتل: ما القرآن، إلا ذكر موعظة، وقرآن مبين فيه الفرائض والحدود والأحكام. لينذر أي القرآن، ومن قرأ بالتاء لتنذر يا محمد بما في القرآن، {مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] يعني: مؤمنا حي القلب، لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر، ويحق القول وتجب الحجة بالقرآن، على الكافرين. ثم ذكرهم قدرته، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {71} وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ {72} وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ {73} } [يس: 71-73] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] مما تولينا خلقه بإبداعنا وإنشائنا لم نشارك في خلقه ولم نخلقه بإعانة معين، وذكر الأيدي ههنا يدل على إنفراده بما خلق، والواحد منا إذا قال عملت هذا بيدي دل ذلك على إنفراده بعمله، وإنما تخاطب العرب بما يستعملون من مخاطباتهم، وقوله: أنعاما يريد: الإبل والبقر والغنم، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] ضابطون قاهرون، أي: لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم. وهو قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] ما يركبون، يعني الإبل، وقال مقاتل: يعني حمولتهم الإبل والبقر. ومنها يأكلون يعني الغنم. {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [يس: 73] من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل، ومشارب من ألبانها، أفلا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه. ثم ذكر جهلهم وغرتهم، فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ {74} لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ {75} فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {76} } [يس: 74-76] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74] يمنعون من العذاب. {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس: 75] قال ابن عباس: لا تقدر الأصنام على نصرتهم. وقال مقاتل: لا تقدر آلهة أن تمنعهم من العذاب. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 75] يعني: الكفار جند الأصنام، يغضبون لهم ويحضرونهم في الدنيا. قال قتادة: يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا. وقال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. ثم عزى نبيه، فقال: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] يعني: قول كفار مكة في تكذيبك، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [يس: 76] في ضمائرهم من تكذيبك، وما يعلنون بألسنتهم، والمعنى: إنا نثيبك ونجازيهم. قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ} [يس: 77] يعني: أبي بن خلف، خاصم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي، فتته بيده، وقال: أيحيي الله هذا بعدما رم؟ فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ {77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ

يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ {80} } [يس: 77-80] {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] يعني: ألا يرى أنه مخلوق من نطفة، ثم هو يخاصم! وهذا تعجيب من جهله، وإنكار عليه خصومته، أي: كيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع خصومته. ثم أكد الإنكار عليه بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا} [يس: 78] يعني أنه ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي، يفته بيده، ويتعجب ممن يقول: إن الله يحييه. ونسي خلقه قال مقاتل: وترك النظر في خلق نفسه، إذ خلق من نطفة. ثم بين ذلك المثل بقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] قاس قدرة الله بقدرة الخلق، فأنكر إحياء العظم البالي لما لم يكن ذلك في مقدور الخلق، يقال: رم العظم يرم رما إذا بلي، وهو رميم، والعظام رميم، ولا يقال بالهاء لأنه مصروف إلى فعيل. قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] ابتدأها وخلقها، {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ} [يس: 79] من الابتداء والإعادة، عليم. ثم زاد في البيان، وأخبر عن عجيب صنعه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] يعني: ما جعل من النار في المرخ والقفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب زنودها منها، وهو قوله: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] تقدحون النار، وتوقدونها من ذلك الشجر. ثم ذكر ما هو أعظم خلقا من الإنسان، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {81} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {83} } [يس: 81-83] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس: 81] في عظمها وكثرة أجزائها، يقدر على إعادة خلق البشر، ثم أجاب هذا الاستفهام بقوله: بلى أي: هو قادر على ذلك، وهو الخلاق يخلق خلقا بعد خلقا، العليم بجميع ما خلق. ثم ذكر قدرته على إيجاد الشيء، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقد تقدم تفسيرها. ثم نزه نفسه من أن يوصف بغير القدرة، فقال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] أي: ملك كل شيء، والقدرة على كل شيء. وإليه ترجعون تردون بعد الموت.

سورة الصافات

سورة الصافات مكية وآياتها اثنتان وثمانون ومائة. 783 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُؤَذِّنُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الصَّافَّاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، بِعَدَدِ كُلِّ جِنِّيٍّ وَشَيْطَانٍ، وَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَبَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، وَشَهِدَ لَهُ حَافِظَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةُ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْمُرْسَلِينَ» {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا {1} فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا {2} فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا {3} إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ {4} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ {5} } [الصافات: 1-5] بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا هذا قسم أقسم الله بالملائكة التي تصف أنفسها في السماء كصفوف الخلق في الدنيا، قال ابن عباس: يريد الملائكة صفوفا صفوفا، لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه، لم يلتفت منذ خلقه الله عز وجل. فالزاجرات زجرا يعني الملائكة الذين وكلوا بالسحاب، يزجرونه في سوقه وتأليفه، وقال قتادة: يعني زواجر القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح. فالتاليات ذكرا هم الملائكة، يتلون ذكر الله، وقال الكلبي: هم قراء الكتاب. {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] جواب القسم، أقسم الله تعالى بهذه الأقسام أنه واحد ليس له شريك. {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الصافات: 5] من شيء، {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] مطالع الشمس. {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6} وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ {7} لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ {8} دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {9} إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {10} } [الصافات: 6-10] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات: 6] يعني: التي تلي الأرض، فهي أدنى السموات إلى الأرض، بزينة الكواكب بحسنها وضوئها، وقرأ حمزة بزينة منونة، وخفض الكواكب، قال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة، لأنها هي كما تقول: مررت بأبي عبد الله زيد. وقرأ عاصم بالتنوين ونصب الكواكب، أعمل الزينة وهي مصدر في الكواكب، والمعنى: بأنا زينا الكواكب فيها حين ألفناها في منازلها، وجعلناها ذات نور. وحفظا

للسماء بالكواكب، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7] متمرد يرمون بها فلا تخطئهم. قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى} [الصافات: 8] قال الكلبي: لكي لا يسمعوا إلى الكتبة من الملائكة، والملأ الأعلى هم الملائكة، لأنهم في السماء، وقرئ يسمعون بالتشديد، وأصله يتسمعون، فأدغم التاء في السين، {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8] ويرمون من كل ناحية بالشهب. دحورا يقال: دحره دحرا ودحورا إذا طرده وأبعده. والمعنى: يدحرون دحورا فيبعدون عن تلك المجالس التي يسترقون فيها السمع. {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] قال مقاتل: يعني دائما إلى النفخة الأولى، فهم يخرجون ويكبلون. {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] اختلس الكلمة من الكلام الملائكة مسارقة، فأتبعه لحقه وأصابه، شهاب ثاقب نار مضيئة تحرقه، والثاقب: النير المضيء كقوله: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] . {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ {11} بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ {12} وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ {13} وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ {14} وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {15} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {16} أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ {17} قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ {18} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ {19} } [الصافات: 11-19] قوله: فاستفتهم قال الزجاج: سلهم سؤال تقرير عن {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} [الصافات: 11] أحكم صنعة، {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11] قبلهم من الأمم السالفة، يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمنهم من العذاب. ثم ذكر خلق الإنسان، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] لاصق جيد، يقال: لزب يلزب لزوبا إذا لصق. والمعنى أن هؤلاء الكفار خلقوا مما خلق منه الأولون، فليسوا بأشد خلقا منهم، وهذا إخبار عن التسوية بينهم وبين غيرهم من الأمم في الخلق. قوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بل معناه: ترك الكلام الأول والأخذ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى، عجبت من كفار مكة حين أوحى إليك القرآن، ولم يؤمنوا به، وهو قوله: ويسخرون لأن سخريتهم بالقرآن وبه من ترك الإيمان، قال قتادة: عجب نبي الله من هذا القرآن حين أنزل عليه وخلال بني آدم. وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يظن أن كل من يسمع منه القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه وتركوا الإيمان به عجب من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الله: عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك وتركهم الإيمان. وقرأ ابن مسعود بضم التاء. 784 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلْ عَجِبْتُ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِن اللَّهَ لا يَعْجَبُ، إِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لا يَعْلَمُ، قَالَ الأَعْمَشُ: فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا كَانَ مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمُ مِنْ

شُرَيْحٍ، وَإِضَافَةِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى، وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وَ «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ» وَ «عَجِبَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ» وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ عَجِبَ مِمَّا يَرْضَى؛ وَمَعْنَاهُ: الاسْتِحْسَانُ وَالْخَبَرُ عَنْ تَمَامِ الرِّضَا، وَعَجِبَ مِمَّا يَكْرَهُ؛ وَمَعْنَاهُ: الإِنْكَارُ وَالذَّمُّ لَهُ، وَتَأْوِيلُ الآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَسُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَلا يَتَفَكَّرُونَ قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات: 13] أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون به. {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} [الصافات: 14] قال ابن عباس، ومقاتل: يعني انشقاق القمر. يستسخرون يسخرون ويستهزئون ويقولون: هذا عمل السحرة. وهو قوله: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات: 15] جعلوا ما يدل على التوحيد مما يعجزون عنه سحرا. ثم ذكر إنكارهم البعث بقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16] وقد مضت في مواضع. وقوله: {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة: 48] ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 98] . قال الله تعالى: قل لهم: نعم يبعثون، وأنتم داخرون صاغرون، والدخور أشد الصغار. ثم ذكر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، فقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات: 19] أي: فإنما قضية البعث صيحة واحدة من إسرافيل، يعني: نفخة البعث. {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19] إلى البعث الذي كذبوا به. فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل في الدنيا إن البعث حق فدعوا بالويل: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ {20} هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {21} احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ {25} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ {26} } [الصافات: 20-26] {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا} [الصافات: 20] من العذاب، {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20] الحساب الجزاء، نجازى فيه ما عملنا. فقالت الملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21] يوم القضاء، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21] يفصل فيه بين المحسن والمسيء. ويقال في ذلك اليوم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات: 22] اجمعوهم من حيث بعثوا إلى الموقف والحساب، والمراد بالذين ظلموا الذين أشركوا من بني آدم، وقوله: وأزواجهم قال الحسن: يعني المشركات، كأنه قال: احشروا المشركين والمشركات. وقال جماعة المفسرين: أشباههم وأمثالهم، وأتباعهم ونظراءهم وضرباءهم. وعلى هذا القول يحمل الذين ظلموا على القادة والرؤساء وأزواجهم أتباعهم. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 22-23] يعني: الأوثان والطواغيت، وقال مقاتل: يعني إبليس وجنده. واحتج بقوله: {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] . {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] دلوهم عليها، أي: اذهبوا بهم إلى الجحيم.

قوله: وقفوهم قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط، لأن السؤال عند الصراط، فقيل: وقفوهم {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] قال ابن عباس: عن أعمالهم في الدنيا وأقاويلهم. وقال مقاتل: سألتهم خزية جهنم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ؟ ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد، وهو قوله: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أي أنهم يسئلون توبيخا لهم، فيقال: ما لكم لا تتناصرون؟ لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فقيل لهم ذلك: ما لكم غير متناصرين؟ قال الله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {29} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ {30} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ {31} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ {32} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {33} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {34} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ {36} بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ {37} } [الصافات: 27-37] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 27] يعني: الرؤساء والأتباع، يتساءلون توبيخ وتأنيب، يقول الأتباع للرؤساء: لم غررتمونا؟ ويقولون لهم: لم قبلتم منا؟ وهو قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي: من قبل الحق والدين والطاعة، فتضلوننا عنها. قال الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين، فتروننا أن الدين الحق ما تضلوننا به. واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله إخبارا عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} [الأعراف: 17] فمن أتاه الشيطان من جهة اليمين فقد أتاه من قبل الدين، فليس عليه الحق. وقال بعض أهل المعاني: إن الرؤساء كانوا قد جعلوا لهؤلاء أن ما بدعوتهم إليه هو الحق، فوقفوا بأيمانهم، فمعنى قوله: تأتوننا عن اليمين، أي: من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها، فتفتنون بها. والمفسرون على القول الأول. فقال لهم الرؤساء: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه، أي: إنما الكفر من قبلكم. {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات: 30] من قدرة وقوة فتقهركم ونكرهكم على متابعتنا، {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 30] ضالين. {فَحَقَّ عَلَيْنَا} [الصافات: 31] فوجب علينا جميعا، {قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31] يعني كلمة العذاب، وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] الآية، {إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات: 31] العذاب الأليم، قال الزجاج: أي إن المضل والضال في النار. {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات: 32] أضللناكم عن الهدى، ودعوناكم إلى ما كنا عليه، وهو قوله: {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 32] . يقول الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 33] الرؤساء والذين أطاعوهم. {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات: 34] قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء. {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] يتكبرون عن الهدى وتوحيد

الله. {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} [الصافات: 36] أنترك عبادتها، لشاعر مجنون يعنون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرد الله عليهم بقوله: بل أي: ليس الأمر ما على ما قالوه، جاء محمد، بالحق بالقرآن والتوحيد، وصدق المرسلين الذين كانوا قبله، أي: إنما أتى بما أتى به من قبله من الرسل. {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ {38} وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {39} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {40} أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ {41} فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ {42} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {43} عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {44} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ {45} بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ {46} لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ {47} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ {48} كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ {49} } [الصافات: 38-49] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ {38} وَمَا تُجْزَوْنَ} [الصافات: 38-39] في الآخرة، {إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 39] في الدنيا من الشرك. ثم استثنى المؤمنين، فقال: {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40] يعني الموحدين. {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] على مقدار غدوة وعشية، قال قتادة: الرزق المعلوم الجنة. وقال غيره: هو ما ذكره في قوله: فواكه وهي جمع الفاكهة، وهي الثمار كلها، رطبها ويابسها، وهم مكرمون بثواب الله. على سرر جمع سرير، متقابلين لا يرى بعضهم قفا بعض. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} [الصافات: 45] وهي الإناء بما فيه، من معين من خمر ظاهر تراه العيون في الأنهار. بيضاء قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. لذة لذيذة، يقال: شراب لذ ولذيذ. للشاربين الذين يشربونها. {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجع في البطن ولا في الرأس، ويقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك. {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] لا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف إذا سكر، ومن كسر الزاي، فقال الزجاج: له معنيان، يقال: أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر، فتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة. {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] أي: نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا تردن غيرهم، والقصر معناه الحبس، عين حسان الأعين. {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] مصون مستور، قال الحسن، وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهذا أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاء مشربة بصفرة. قال المبرد: والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {50} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ {51} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ {52} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ {53} قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ {54} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ {55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ {56} وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {57} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ {58} إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {59} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {60} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ {61} } [الصافات: 50-61] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 50] يعني: أهل الجنة، يتساءلون يسأل هذا ذاك، وذاك هذا عن أحوالهم كانت في الدنيا، يدل على هذا ما ذكر الله عن بعضهم، أنه أخبر عن حال قرينه معه كيف كانت في الدنيا، وهو قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات: 51] يعني: من أهل الجنة، {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] يعني: أخا له في الدنيا، كان ينكر البعث، وهو قوله: يقول أي: يقول لي: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 52] بالبعث، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] مجزيون ومحاسبون؟ وهذا استفهام إنكار، ثم قال المؤمن لإخوانه في الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] إلى الناس لننظر كيف منزلة أخي، فقال أهل الجنة: إنك أعرف به منا، فاطلع أنت، فطلع فرأى أخاه {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] في وسطها، قال الزجاج: وسواء كل شيء وسطه. وقال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] قال مقاتل: والله لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلتك. والإرداء الإهلاك، ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه. {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات: 57] لولا إنعامه علي بالإسلام، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] معك في النار. قال الكلبي: ثم يؤتى بالموت فيذبح، فإذا أمن أهل الجنة الموت فرحوا وقالوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ {58} إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى} [الصافات: 58-59] التي كانت في الدنيا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] فقيل لهم: لا. فعند ذلك قالوا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] قال الله تعالى: لمثل هذا النعيم، يعني ما ذكره من قوله: {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] إلى قوله: بيض مكنون، فليعمل العاملون وهذا ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته. {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ {62} إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ {63} إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ {64} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ {65} فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ {66} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ {67} ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ {68} إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ {69} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ {70} } [الصافات: 62-70] قوله: أذلك الذي ذكره، خير نزلا قال الزجاج: أذلك خير في باب الأنزال التي يتقوت بها، أم نزل أهل النار؟ وهو قوله: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] وهو ما يكره تناوله، والذي أراد الله هو شيء مر كريه يكره تناوله، وأهل النار يكرهون على تناوله، فهم يتزقمونه على أشد كراهة. قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة بها الظلمة، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة والنار تأكلها؟ فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] . قال الزجاج: خبره لهم افتتنوا بها وكذبوا بكونها. {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأعضاؤها ترفع إلى دركاتها. طلعها ثمرها، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] لقبحه، والشياطين موصوفة بالقبح وإن كانت لا ترى، والشيء إذا استقبح شبه بها، فيقال: كأنه شيطان. {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} [الصافات: 66] أي ثمرها، {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات: 66] وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم. {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات: 67] لخلطا ومزاجا، من حميم يعني أنهم إذا أكلوا الزقوم شربوا عليها الحميم، وهو الماء الحار، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم، فيصير شوبا. {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات: 68] بعد شرب الحميم وأكل الزقوم، لإلى الجحيم وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم،

كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم، ويدل على صحة ما ذكرنا قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] . إنهم ألفوا وجدوا، آباءهم ضالين عن الهدى. {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 70] يسعون في مثل أعمال آبائهم، قال الكلبي: يعملون مثل عملهم. وقال ابن عباس، وقتادة: يسرعون. قال الزجاج: يتبعون آباءهم اتباعا في سرعة كأنهم يزعجون إلى أتباع آبائهم. يقال: هرع الرجل وأهرع إذا استحث فأسرع. {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ {71} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ {72} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ {73} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {74} } [الصافات: 71-74] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} [الصافات: 71] قبل هؤلاء المشركين، أكثر الأولين من الأمم الخالية. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} [الصافات: 72] رسلا، منذرين ينذرونهم العذاب على ترك الإيمان. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات: 73] الذين أنذروا بالعذاب. قال مقاتل: يقول: كأن عاقبتهم العذاب يحذر كفار مكة. ثم استثنى المؤمنين منهم، فقال: {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 74] يعني: الموحدين الذين نجوا من العذاب. {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ {75} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ {77} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {78} سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ {79} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {80} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {81} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ {82} } [الصافات: 75-82] قوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات: 75] دعا ربه على قومه فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] . {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75] نحن، يعني: أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه الكافرين. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ} [الصافات: 76] الغم، العظيم الذي لحق قومه، وهو الغرق. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وذلك أنه لم يبق من نسل من كان معه في السفينة إلا من ولد نوح، يدل على هذا ما: 785 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّيْنِيُّ، نا بُنْدَارٌ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، نا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قَالَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَسَّرَ الذُّرِّيَّةَ الْبَاقِيَةَ بِهَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 78] في الذين يجيئون بعده إلى يوم القيامة، قال ابن عباس، ومقاتل: تركنا عليه ثناءا حسنا. وهو قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] يعني بالسلام الثناء الحسن، قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة. وذلك الذكر قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79] أي: تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين.

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {84} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ {85} أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ {86} فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {87} } [الصافات: 83-87] قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} [الصافات: 83] أي: من أهل ملة نوح وعلى دينه، {لإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} [الصافات: 83-84] يعني: صدق الله وآمن به، بقلب سليم خالص من الشرك، يعني أنه سلم قلبه من الشرك فلم يشرك بالله. {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] هذا استفهام توبيخ، كأنه وبخهم على عبادة غير الله. فقال: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] أي: أتأفكون إفكا، وهو أسوأ الكذب، وتعبدون آلهة سوى الله. {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87] ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، كأنه قال: ما ظنكم أنه يصنع بكم. {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ {88} فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ {89} فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ {90} فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ {91} مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ {92} فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ {93} فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ {94} قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ {98} } [الصافات: 88-98] قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات: 88] قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم يخرجون إليه، فأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم، فنظر في النجوم، يريد أنه مستدل بها على حاله، فلما نظر إليها، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أي سأسقم. قال مقاتل: إني وجع غدا، واعتل بذلك ليخلفوه. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم. {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] مال إليها ميلة في خفية سرا، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] يعني: الطعام الذي كان بين أيديهم، أتوهم بطعامهم لتبارك فيه آلهتهم كما زعموا، وإنما يقول هذا إبراهيم استهزاء بها، وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] . ثم أقبل عليهم ضربا كما قال الله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] مال عليهم بالضرب، قال المفسرون: يعني بيده اليمنى، يضربهم بها. وقال السدي: بالقوة والقدرة. فأقبلوا إليه من عيدهم، يزفون يسرعون من زفيف النعامة، وهو أول عدوها، يقال: جاء يزف زفيف النعامة، أي يسرع. وقرأ حمزة بضم الياء، أي: يحملون دوابهم وظهورهم على الجدد للإسراع في المشي، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم، فأسرعوا إليه ليأخذوه، فلما انتهوا إليه، قال لهم إبراهيم محتجا عليهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] بأيديكم من الأصنام، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] بأيديكم، يعني ما تنحتون، أي: فاعبدوا الله الذي خلقكم وخلق ما تعملون بأيديكم من الأصنام التي تعملونها من الخشب والحديد. فلما لزمتهم الحجة {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} [الصافات: 97] قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، وملئوه نارا وطرحوه فيها. وذلك قوله: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] وهي النار العظيمة. قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات: 98] شرا، وهو أن يحرقوه بالنار، فجعلناهم الأسفلين لأن إبراهيم علاهم بالحجة حين سلمه الله ورد كيدهم عنه، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى أهلكهم الله.

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {99} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {100} فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ {101} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {108} سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ {109} كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {110} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {111} وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ {112} وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ {113} } [الصافات: 99-113] وقال إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] قال ابن عباس: مهاجر إلى ربي. والمعنى: أهجر ديار الكفر وأذهب إلى حيث أمرني الله، كما قال إخبارا عنه أيضا: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] ، سيهدين إلى حيث أمرني بالمصير إليه، وهو الشام، قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] أي: ولدا صالحا من الصالحين، فاستجاب الله له بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] قال الزجاج: وهذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف بالحلم. قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] قال قتادة: لما مشى معه. وقال مجاهد، عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم. والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه، قالوا: وكان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: هو العبادة والعمل الذي تقوم به الحجة، وهو ما بعد البلوغ. وقوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات. وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي. وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا فعلوه. واختلفوا في الذبيح، من هو؟ فالأكثرون على أنه إسحاق، وهو قول علي، وابن مسعود، وكعب، ومقاتل، وعكرمة، والسدي. 786 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا شَيْبَانُ، نا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ هُوَ إِسْحَاقُ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَهَؤُلاءِ قَالُوا: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِالشَّامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الزَّاهِدَ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مِقْسَمٍ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ، يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ؛ لأَنَّهُ قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وَلا خِلافَ أَنَّ هَذَا إِسْحَاقُ، ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فَعَطَفَ بِقَضِيَّةِ الذَّبْحِ عَلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] أي: من الرأي فيما ألقيت إليك، وما الذي تذهب إليه، هل تستسلم له وتنقاد؟ أو تأتي غير ذلك؟ وقرأ حمزة ترى بضم التاء وكسر الراء، ومعناه: ما تشير. قال الفراء: ماذا تريني من

صبرك أو جزعك. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] قال ابن عباس: ما أوحي إليك من ذبحي. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] على بلائه. {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] أي: استسلما لأمر الله وأطاعا، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] صرعه على أحد جبينيه، قال ابن عباس: أضجعه على جبينه على الأرض، وللوجه جبينان والجبهة بينهما. قال السدي: ضرب الله على عنقه صحيفة نحاس فجعل إبراهيم ينحر ولا يقطع. ونودي من الجبل: يا إبراهيم، فهو قوله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105] لأن الله قد عرف منهما الصدق، حيث قصد إبراهيم الذبح بما أمكنه، وطاوع الابن بالتمكين من الذبح، ففعل كل واحد منهما ما أمكنه وإن لم يتحقق الذبح، وكان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم، ففعل في اليقظة ما رأى في النوم، لذلك قيل له: قد صدقت الرؤيا، وتم الكلام، ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] هذا ابتداء إخبار من الله تعالى وليس يتصل بما قبله من الكلام الذي يؤدي به إبراهيم، والمعنى: إنا كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا. قال مقاتل: جزاه الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] الاختبار الظاهر، حيث اختبر بذبح بكره ووحيده، وقال مقاتل: البلاء ههنا النعمة، وهو أن فدى ابنه بالكبش. وهو قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ} [الصافات: 107] بكبش، عظيم. 787 - أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، نا مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارِ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ خَوَّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ: ذَبِيحُ اللَّهِ أَيُّهُمَا كَانَ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ، لَمَّا بَلَغَ إِسْمَاعِيلُ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ رَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي النَّوْمِ فِي مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ أَنَّهُ يَذْبَحُ إِسْمَاعِيلَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ الْبُرَاقَ حَتَّى جَاءَهُ، فَوَجَدَهُ عِنْدَ أُمِّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَمَضَى بِهِ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْحَرِ الْبُدْنِ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَذْبَحَكَ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ كُلَّ خَيْرٍ. ثُمَّ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: هَلْ عَلِمَتْ أُمِّي بِذَلِكَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: أَصَبْتَ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَحْزَنَ، وَلَكِنْ إِذَا قَرَّبْتَ السِّكِّينَ مِنْ حَلْقِي فَأَعْرِضْ عَنِّي، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ تَصْبِرَ وَلا تَرَانِي. فَفَعَلَ إِبْرَاهِيمُ، فَجَعَلَ يَحُزُّ فِي حَلْقِهِ فَإِذَا هُوَ يَحُزُّ فِي نُحَاسٍ مَا تَحِيكُ فِيهِ الشَّفْرَةُ، فَشَحَذَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا بِالْحَجَرِ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ مِنَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ بِوَعْلٍ وَاقِفٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قُمْ يَا بُنَيَّ فَقَدْ نَزَلَ فِدَاؤُكَ، فَذَبَحَهُ هُنَاكَ. ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح. والذبح: ما ذبح، قال أكثر المفسرون: أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأروى، قد أهبط عليه من ثبير، فذبحه

إبراهيم فداء عن ابنه. وما بعد هذا معنى ظاهر إلى قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] من جعل الذبيح إسماعيل قال: بشر الله إبراهيم بولد نبي بعد هذه القصة جزاءا لطاعته، ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره بالنبوة، وهذا قول عكرمة عن ابن عباس. وقوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] يعني كثرة ولدهما وذريتهما، وهم الأسباط كلهم، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] أي: مؤمن محسن بإيمانه، وكافر ظلم نفسه بكفره. {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ {114} وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {115} وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ {116} وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ {117} وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {118} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ {119} سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ {120} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {121} إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {122} } [الصافات: 114-122] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114] أنعمنا عليهما بالنبوة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 115] الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم وما كان يصيبهم من جهته من البلاء. {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {123} إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ {124} أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ {125} وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {126} فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {127} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {128} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {129} سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ {130} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {131} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ {132} } [الصافات: 123-132] قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 123] إلياس نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقصته مشهورة مع قومه، وقرأ ابن عامر وإن الياس بغير همز، جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف، كقوله: واليسع والوجه قراءة العامة، لأن الهمزة تابعة في هذا الاسم وليست للتعريف، يقوي ذلك قوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فهذا يدل على أن الهمزة ثابتة في إلياس. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} [الصافات: 124] ألا تخافون الله فتعبدونه وتوحدونه. {أَتَدْعُونَ بَعْلا} [الصافات: 125] قال عطاء: يعني صنما كان لهم يعبدونه، وكان من ذهب. والمفسرون يقولون: ربا. وهو بلغة اليمن، يقولون للسيد والرب: البعل. وتذرون عبادة، أحسن الخالقين. {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] . قرئ بالرفع على الاستئناف لتمام الكلام الأول، والمعنى: إنه خالقكم وخالق من كان قبلكم ورازقكم، فهو الذي تحق له العبادة. وقرئ بالنصب على صفة أحسن الخالقين. {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] النار، {إِلا عِبَادَ اللَّهِ

الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 128] الذين لم يكذبوه، فإنهم لا يحضرون النار. قوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] قال ابن عباس: يريد إلياس ومن آمن معه، قال الفراء: يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعا فيجعل أصحابه داخلين في اسمه، كما تقول في القوم رئيسهم المهلب، قال: قد جاءكم المهالبة، فتكون بمنزلة الأشعرين، والأعجمين بالتخفيف. قال أبو علي الفارسي: تقديره الياسين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفا في الأشعرين والأعجمين. وقرأ نافع على آل ياسين وحجته إنها في المصحف مفصولة من ياسين، وذلك دليل على أنه آل، وهذه القراءة بعيدة، قال الفراء، وأبو عبيدة: الوجه قراءة العامة، لأنه لم يقل في شيء من ال { [على آل فلان، وآل فلان، إنما جاء بالاسم، كذلك إلياسين لأنه إنما هو بمعنى إلياس، أو بمعنى إلياس وأتباعه. وذكر الكلبي في تفسيره: سلام على آل ياسين يقول: سلام على آل محمد، وهذا بعيد، لأن ما قبله من الكلام وما بعده لا يدل عليه. ] وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {133} إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ {134} إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ {135} ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ {136} وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {138} } [سورة الصافات: 133-138] ثم ذكر لوطا، فقال: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {133} إِذْ نَجَّيْنَاهُ} [الصافات: 133-134] إذ لا يتعلق بما قبله لأنه لم يرسل إذ نجي، ولكنه يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: واذكر يا محمد إذ نجيناه. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات: 137] أي: تمرون في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام على قراهم ومنازلهم وآثارهم، مصبحين أي: نهارا، وبالليل وعشيا، أفلا تعقلون فتعتبرون بهم. {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ {141} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ {142} فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ {145} وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ {146} وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ {147} فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {148} } [الصافات: 139-148] {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} } [الصافات: 139-140] قال المفسرون: كان يونس عليه السلام قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمنشور عنهم، فقصد البحر وركب السفينة، وكان بذهابه إلى الفلك كالفار من مولاه، فوصف بالإباق، فساهم فقارع، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] المغلوبين والمقروعين، وذلك أن السفينة

احتبست فوقفت، فقال الملاحون: ههنا عبد آبق من سيده، وهذا رسم السفينة، إذا كان فيها عبد آبق لا تجري، فأقرعوا فوقعت القرعة على يونس. فقال: أنا الآبق، وزج نفسه في الماء. قال سعيد بن جبير: لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه، حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت. فذلك قوله: فالتقمه الحوت يقال: لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها، وهو مليم مستحق اللوم، لأنه أتى ما يلام عليه حين خرج إلى السفينة قبل أن يأمره الله، فاستحق بذلك اللوم والتأديب. {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ} [الصافات: 143] قبل أن التقمه الحوت، من المسبحين المصلين، وكان كثير الصلاة والذكر. {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144] لصار له بطن الحوت قبرا إلى يوم القيامة. قال سعيد بن حبير: شكر الله قد يمسه. وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا لله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] الآيتين، وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا ذكر الله فلما، أدركه الغرق قال: آمنت بالذي {آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال الله تعالى: {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] قال ابن جريج والسدي: لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت أربعين يوما. وقال الضحاك: عشرين يوما. وقال عطاء: سبعة أيام. وقال مقاتل: ثلاثة أيام. وقال الشعبي: التقمه الحوت ضحى، ولفظه عشية. فذلك قوله: فنبذناه بالعراء يعني: المكان الخالي من الشجر والبناء، قال مقاتل: بالبراز. وقال الكلبي: يعني وجه الأرض. وهو سقيم: قد بلي لحمه مثل الصبي المولود. قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش. {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 146] كل شجرة لا تقوم على ساق إنما تمتد على وجه الأرض فهو يقطين، مثل الدباء والحنظل والبطيخ قال مقاتل: يعني القرع، وهو قول الجميع، قالوا: كان يستظل بظلها من الشمس، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا، فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره، ثم أرسله الله بعد ذلك. وهو قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ} [الصافات: 147] قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه. وقوله: أو يزيدون أو بمعنى الواو، كقوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] المعنى: ويزيدون على مائة ألف، قال الفراء: أو ههنا بمعنى بل، وهو قول مقاتل، والكلبي. وقال الزجاج: أو ههنا على أصله، ومعناه أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخل في حكاية قول المخلوقين. قال مقاتل، والكلبي: كانوا يزيدون على عشرين ألفا. وقال الحسن: بضعة وثلاثين ألفا. وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفا. فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس، فمتعناهم في الدنيا، إلى حين إلى منتهى آجالهم.

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ {149} أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ {150} أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152} أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ {153} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {154} أَفَلا تَذَكَّرُونَ {155} أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ {156} فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {157} وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {158} سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {159} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {160} } [الصافات: 149-160] قوله: فاستفتهم قال ابن عباس: فسل أهل مكة سؤال توبيخ. {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] وذلك أن قريشا وقبائل من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وهذا كقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} } [النجم: 21-22] . {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا} [الصافات: 150] معناه: بل أخلقنا الملائكة إناثا؟ وهم شاهدون حاضرون خلقنا إياهم، أي: كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم. ثم أخبر عن كذبهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات: 151-152] حين زعموا أن الملائكة بنات الله، وإنهم لكاذبون في قولهم. {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] قراءة العامة بفتح الهمزة على الاستفهام الذي معناه التوبيخ، وقرأ نافع بغير استفهام على وجه الخبر كأنه قال: أصطفى البنات في زعمكم وفيما تقولون. وقال الفراء: أراد الاستفهام وحذف حرف الاستفهام كقوله: أذهبتم طيباتكم. ثم وبخهم، فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 154] لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين؟ أفلا تذكرون أفلا تتعظون فتنتهون عن هذا القول. {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات: 156] حجة بينة على ما تقولون. {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 157] الذي فيه الحجة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 157] في قولكم. {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قال قتادة: قالوا صاهر الجن والملائكة من الجن. وقال الكلبي: قالوا لعنهم الله: تزوج من الجن فخرج منها الملائكة. وقال مجاهد: لما قالت قريش الملائكة بنات الله، قال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] أي: علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون في النار ويعذبون على ما قالوا. ثم نزه نفسه عما قالوا من الكذب، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {159} إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {160} } [الصافات: 159-160] يعني: الموحدين الذين استخلصهم الله لتوحيده وعبادته، وهذا استثناء من المحضرين، يقول: علموا أنهم محضرون النار إلا من أخلص العبادة له ووحده. ثم خاطب كفار مكة بقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ {161} مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ {162} إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ {163} وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ {164} وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ {165} وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ {166} وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ {167} لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ {168} لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ {169} فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {170} } [الصافات: 161-170] {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] قال ابن عباس: فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله. {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [الصافات: 162] على ما تعبدون، بفاتنين بمضلين، يقال: فتنت الرجل وافتتنته. ويقال: فتنته على الشيء وبالشيء. كما يقال: أضله على الشيء وأضله به. وقال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحدا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن

يصلى الجحيم. وهو قوله: {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] يعني أن قضاءه سبق في قوم بالشقاوة وأنهم يصلون النار، فهم الذين يضلون في الدنيا ويعبدون الأصنام. ثم قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما منا يا معاشر الملائكة، {إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] في السموات يعبد الله فيه، قال الزجاج: هذا قول الملائكة وفيه مضمر. المعنى: وما منا ملك إلا له مقام معلوم. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم. وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166] المصلون لله المنزهون الله عن السوء، يخبر جبريل النبي عليهما السلام أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين ولا بنات الله كما زعمت الكفار. ثم عاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين، فقال: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ {167} لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ {168} } [الصافات: 167-168] أي: كتابا من كتب الأولين، وذلك أنهم قالوا: لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين. {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 169] وهذا كقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] . قال تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ} [الصافات: 170] المعنى: نجاهم ما طلبوا به، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم. ثم ذكر العاقبة للأنبياء بالنصر وإن كذبهم قومهم، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {174} وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {175} أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176} فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ {177} وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {178} وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ {179} } [الصافات: 171-179] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] أي: تقدم الوعد بأن الله ينصرهم بالحجة والظفر بعدوهم، قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] فهذه الكلمة التي سبقت. {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة، لأنهم ينجون من عذاب الدنيا والآخرة. فتول عنهم أعرض عنهم، حتى حين قال مجاهد، والسدي: حتى نأمرك بالقتال. وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب، فسوف يبصرون ذلك. فقالوا متى هذا العذاب، فأنزل {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ {176} فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 176-177] قال مقاتل: بحضرتهم. وقال الفراء: العرب تكتفي بالساحة، والعقوة من القوم يقولون: نزل بك العذاب وبساحتك. والساحة: متسع الدار. {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات: 177] بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، وذلك أنهم يصبحون في العذاب معذبين. ثم كرر ما سبق تأكيدا لوعد العذاب، فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ {178} وَأَبْصِرْ} [الصافات: 178-179] العذاب إذا نزل بهم، فسوف يبصرون تهديد لهم. ثم نزه نفسه عن بهتهم ووصفهم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} } [الصافات: 180-182] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] العزة: الغلبة والقوة، عما يصفون من اتخاذ البنات والنساء. {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والأولياء. 788 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا هُشَيْمٌ، عَنْ

هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ مَرَّةٍ وَلأَمْرٍ تَبَيَّنَ يَقُولُ " فِي آخِرِ صَلَوَاتِهِ، أَوْ حِينَ يَنْصَرِفُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ. . . .} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ " 789 - وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الأَوْفَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلامِهِ فِي مَجْلِسِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} }

تفسير سورة ص

تفسير سورة ص وهي ثمانون وخمس آيات مكية. 790 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ ص أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِوَزْنِ كُلِّ جَبَلٍ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِدَاوُدَ حَسَنَاتٍ، وَعَصَمَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، أَنْ يُصِرَّ عَلَى ذَنْبٍ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا»

بسم الله الرحمن الرحيم {ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ {1} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ {2} كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ {3} } [ص: 1-3] ص قال الضحاك: صدق الله. وقال عطاء، عن ابن عباس: صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] الشرف، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وجواب القسم قد تقدم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صدق، كما تقول: فعل والله، وقام والله. وقال أهل المعاني: جواب القسم محذوف بتقدير والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار. ودل على هذا المحذوف قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] قال مقاتل: كفروا بالتوحيد من أهل مكة. في عزة حمية وتكبر عن الحق، وشقاق خلاف وعداوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم خوفهم، فقال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [ص: 3] يعني: الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم باستغاثة، {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] أي: ساعة لا منجى ولا فوت. قال ابن عباس: ليس حين نزو ولا فرار. وقال قتادة: نادى القوم على غير حين النداء. والمناص: مصدر ناص ينوص وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون: هي لا زيدت فيها

التاء. كما قالوا: ثم وثمت، ورب وربت، وأصلها هاء وصلت بلا، فقالوا: لا لغير معنى حادث، كما زادوا هاء في ثمة، فلما وصلوها جعلوها تاء. والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي علي. وعند الكسائي الوقف عليها بالهاء، نحو قاعدة وضاربة. وعند أبي عبيد الوقف على ثم يبتدئ: تحين مناص، لأن عنده أن هذه التاء تزاد مع حين، فيقال: كان هذا تحين كان ذاك. {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ {7} أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ {8} } [ص: 4-8] قوله: وعجبوا يعني: الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] ، {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ص: 4] يعني: رسولا من أنفسهم ينذرهم النار، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] حين زعم أنه رسول. {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطل عبادة ما كانوا يعبدون من الآلهة مع الله ودعاهم إلى عبادة الله وحده فتعجبوا من ذلك، وقالوا: كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنا نعبد آلهة كثيرة، قوله: إن هذا الذي يقول محمد من أن الإله واحد، لشيء عجاب لأمر عجيب، وهذا كما يقال كبير وكبار، وطويل وطوال. وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} [ص: 6] قال المفسرون: إن أشراف قريش أتوا أبا طالب واجتمعوا عنده وشكوا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وقالوا: إنه سفه أحلامنا وسب آلهتنا وعاب ديننا. فعاتب أبو طالب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: ما تريد من قولك يا ابن أخي؟ فقال: أدعوهم إلى كلمة واحدة. قال: وما هي؟ قال: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. فنفروا من ذلك وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] وخرجوا من عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] فذلك قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} [ص: 6] أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون: اثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على دينكم. إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد، لشيء يراد لأمر يراد بنا. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [ص: 7] الذي يقول محمد، أي: من التوحيد، {فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص: 7] يعني النصرانية، لأنها آخر الملل، والنصارى لا يوحدون، لأنهم يقولون ثالث ثلاثة. وقال قتادة: يعنون دينهم الذي هم عليه. إن هذا ما هذا الذي جاء به محمد من التوحيد والقرآن، إلا اختلاق كذب وافتعال. ثم أنكروا تخصيص الله إياه بالقرآن والنبوة، فقالوا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه. فقال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] يعني حين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] والمراد بالذكر القرآن، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] تهديد لهم، أي أنهم سيذوقونه. ثم أجاب عن إنكارهم نبوته بقوله: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ {9} أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ {10} جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ {11} } [ص: 9-11] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص: 9] يقول أبأيديهم مفاتيح النبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا؟ أي أنها ليست بأيديهم، ولكنها بيد العزيز في ملكه، الوهاب وهب النبوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم أخبر أن الملك له يصطفي من يشاء، وهو قوله: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص: 10] أي: إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء. قال قتادة، ومقاتل: يعني الأبواب التي في السماء. وقال الكلبي: يقول: في

طرقها من سماء إلى سماء، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب وطريق فهو سببه. ثم أخبر عن هزيمتهم ببدر، وهو قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص: 11] قال قتادة: أخبر الله تعالى، وهو يومئذ بمكة، أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. وجند خبر ابتداء محذوف بتقدير هم جند، وما زائدة، وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم بها، والأحزاب سائر من تقدمهم من الكفار الذين تحزبوا على الأنبياء. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ {12} وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ {13} إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ {14} وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ {15} وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ {16} } [ص: 12-16] يدل على هذا قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} [ص: 12] قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب الناس عليها، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وَتَّدَ يَدَهُ ورجليه ورأسه على الأرض. وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة. يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشددون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، وقيل: ذو الملك الشديد الثابت، كما قال الأسود: في ظل ملك ثابت الأوتاد

ولما ذكر هؤلاء المكذبين، قال: أولئك الأحزاب فأعلمنا أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب. إن كل ما كل منهم، {إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص: 14] فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم. {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ} [ص: 15] يعني كفار مكة، أي: ما ينتظرون لوقوع العذاب بهم، {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15] يعني: النفخة الأخيرة، {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] وقرئ بالضم، قال الزجاج: فواق وفواق بضم الفاء وفتحها، أي: ما لها من رجوع. والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضا، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة. قال مجاهد: ما لها من فواق رجوع. أي: ما يرد ذلك الصوت فيكون له رجوع، وهو معنى قول مقاتل: من مرد ولا رجعة. وقال قتادة، والضحاك: ليس لها مثنوية. أي صرف ورد، والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف حتى يبعثوا وينجز لهم ميعاد العذاب. قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] معنى القط في اللغة: النصيب، من القط بمعنى القطع، والنصيب إنما هو القطعة من الشيء، وتسمى كتب الجوائز قطوطا لأنهم كانوا يكتبون الأنصباء من العطايا في الصحائف. يقال: أخذ فلان قطة إذ أخذ كتابه الذي كتب له بجائزته وصلته، ثم سميت الكتب قطوطا وإن لم تكن للصلة، والمفسرون مختلفون على هذين القولين: فقال ابن عباس: قطنا، حظنا من العذاب والعقوبة. وقال قتادة: نصيبنا من العذاب، يقولون ذلك استهزاء. وقال سعيد بن جبير، والسدي: لما ذكر لهم ما في الجنة {قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا} [ص: 16] نصيبنا منها في الدنيا.

وقال أبو العالية، والكلبي، ومقاتل: لما نزلت {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. يقولون ذلك تكذيبا له، فقال الله عز وجل: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ {17} إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ {18} وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ {19} وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ {20} } [ص: 17-20] اصبر يا محمد، {عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] من تكذيبك، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص: 17] لكي تتقوى على الصبر بذكر قوته على العبادة، وهو قوله: ذا الأيد أي: ذا القوة على العبادة، وفي طاعة الله، قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم، وكان يصلي نصف الليل. إنه أواب رجاع عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله. قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] هذا كقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] وقد مر تفسيره، وقوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] قال الكلبي: غدوة وعشية. يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه بطرق أنه فسر التسبيح بالإشراق في هذه الآية بصلاة

الضحى. 791 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْوَاعِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا عُبَيْدُ اللَهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ بَخْتَوَيْهِ، نا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، نا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الآيَةِ لا أَدْرِي مَا هِيَ حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، وَقَالَ: «يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلاةُ الإِشْرَاقِ» والطير معطوفة على الجبال، كأنه قال: وسخرنا الطير، محشورة مجموعة إليه تسبح لله معه، قال ابن عباس: كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير، فسبحت معه. وهو قوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19] رجاع إلى طاعته وأمره، أي: كل له مطيع بالتسبيح معه. وشددنا ملكه قوينا ملكه بالحرس والجنود، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله، وهذا قول جماعة المفسرين. 792 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فِيمَا أَجَازَ لِي، أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْحَدَّادِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي

الْفُرَاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعْدَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا لِي، فَسَأَلَ دَاوُدُ الرُّجَل عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُ، فَسَأَلَ الآخَرَ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِنَّةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ، تَعَالَى، إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَعْدَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أَعْجَلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، أَوْ تَأْتِيَهُ الْعُقُوبَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لأُنَفِّذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ. فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ؛ قَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ أَبَا هَذَا فَقَتَلْتُهُ فَبِذَلِكَ أُخِذْتُ. فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، عِنْدَ ذَلِكَ وَشُدِّدَ بِهِ مُلْكُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} وقوله: وآتيناه الحكمة قال ابن عباس: النبوة والمعرفة بكل ما حكم. وقال مقاتل: الفهم والعلم. وفصل الخطاب يعني الشهود والإيمان، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لأن خطاب الخصوم إنما ينقطع وينفصل بهذا، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن مسعود، ومقاتل، وقتادة: هو العلم بالقضاء والفهم فيه. قوله تعالى: {

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ {21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ {22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ {23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ {24} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {25} يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ {26} } [ص: 21-26] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21] قال مقاتل: بعث الله تعالى إلى داود عليه السلام ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه في المحراب. وهو قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] يقال: تسورت الحائط والسور إذا علوته. وإنما قال: تسوروا والخصم ههنا اثنان، لأنه على مذهب من يجعل الاثنين جماعة، والمحراب ههنا كالغرفة، قال محمد بن إسحاق: بعث الله تعالى إليه ملكين يختصمان إليه، مثلا ضربه الله له وأصحابه، فلم يرع داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه، فقال: ما أدخلكما علي؟ قالا: لا تخف.

وهو قوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى} [ص: 22] أي نحن، {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فجئناك لتقضي بيننا، وهو قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص: 22] يقال: شط الرجل وأشط شططا وإشطاطا إذا جار في حكمه وقضيته. قال المفسرون: لا تجر علينا. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22] احملنا على الحق ولا تخالف بنا إلى غيره. فقال داود: تكلما. فقال أحد الملكين: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ} [ص: 23] أي: على ديني، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] يعني امرأة، والنعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني بها عن المرأة وتشبه النساء بالنعاج من البقر، وإنما عنى بهذا داود لأنه كانت له تسع وتسعون امرأة، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] امرأة واحدة، فقال أكفلنيها ضعها إلي واجعلني كافلها، وهو الذي يعولها وينفق عليها، والمعنى: طلقها لأتزوجها، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] قال عطاء، عن ابن عباس: كان أعز مني وأقوى على مخاطبتي، لأنه كان الملك. والمعنى أنه كان أقدر على الخطاب بعزة ملكه. وهذه القصة تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوج بها. قال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص: 24] أي: بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه، أي: إن كان الأمر على ما تقول فقد ظلمك أخوك بما كلفك من تحولك عن امرأتك ليتزوجها هو، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] وهم الشركاء، واحدهم خليط، وهو المخالط في المال. يريد أن الشركاء كثير منهم يظلم بعضهم بعضا، وهو قوله: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] وظن داود أنهما شريكان فلذلك قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] وقوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] أي: فإنهم لا يظلمون أحدا، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] أي: هم قليل، يعني الصالحين الذين لا يظلمون، قال المفسرون: فلما قضى بينهم داود عليه السلام نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء، فعلم داود أن الله ابتلاه، وأن ما ذكر من القصة تمثيل لقصته هو. وقوله: {

وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] أي: أيقن وعلم أنا ابتليناه بما وقع له من القصة، ونظره إلى المرأة، وافتتانه بها، وكان قد أعجب بعبادته، فلما ابتلي بها هويها وقال لزوجها تحول لي عنها، فعوتب على محبة امرأة من له امرأة واحدة، وله تسع وتسعون امرأة، فكان ذلك ذنبا من ذنوب الأنبياء التي يعاتبون عليها، وذلك قوله: فاستغفر ربه سأل ربه غفران ذلك الذنب.

وخر راكعا قال ابن عباس: ساجدا. وعبر عن السجود بالركوع لأن كليهما بمعنى الانحناء، وأناب راجع إلى ما يحب الله من التوبة والاستغفار. 793 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ لا يَسْجُدُ فِي ص وَيَقُولُ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] قال ابن عباس: غفر له ذلك الذنب. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] لقربة ومكانة ومنزلة حسنة. أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أنا أبو علي الفقيه، أنا إبراهيم بن عبد الله العسكري، أنا محمد بن صالح، حدثني محمد بن منصور البرداني، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار في قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] قال: يقول الله عز وجل لداود وهو قائم بساق العرش: يا داود، مجدني بذلك الصوت الرخيم اللين. فيقول: كيف وقد سلبتنيه في الدنيا؟ فيقول: إني أرده عليك. قال: فيرفع داود صوته بالزبور فيستفرغ نعيم أهل الجنة. قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] يعني الجنة التي هي مآب الأنبياء والأولياء. قوله: يا داود أي: قلنا له يا داود إنا جعلناك صيرناك، {خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26] تدبر أمور العباد من قبلنا بأمرنا، {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] بالعدل الذي هو حكم الله بين خلقه، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] قال مقاتل: لا يستزلنك الهوى عن طاعة الله. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ

الْحِسَابِ} [ص: 26] قال عكرمة، والسدي: في الآية تقديم وتأخير على تقدير ولهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل. وقال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون ويذكرون. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ {28} كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ {29} } [ص: 27-29] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} [ص: 27] قال ابن عباس: لا للثواب والعقاب. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] يعني أهل مكة، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيء، وأنه لا قيامة ولا حساب، قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون. فأنزل الله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 28] أي: صدقوا بي، وعملوا الصالحات عملوا بفرائضي، {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} [ص: 28] بالمعاصي، {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} [ص: 28] يريد به أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كالفجار وهم الكفار كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] الآية، وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] : وهم الكفار لقوله: كتاب أي:

هذا الكتاب، يعني القرآن، {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] كثير خيره ونفعه، ليدبروا ليتدبروا، آياته وليتفكروا فيها فيقرر عندهم صحتها، وليتذكر بما فيه من المواعظ أهل اللب والعقل. قوله: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {30} إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ {31} فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ {32} رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ {33} } [ص: 30-33] {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [ص: 30] يعني ولدا، ثم مدح سليمان بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] راجع عما يكره الله إلى ما يحب. {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 31] بعد العصر، الصافنات يقال: صفن الفرس يصفن صفونا إذا قام على ثلاث، وقلب أحد حوافره. والجياد جمع جواد، وهو الشديد الحضر من الخيل. قال ابن عباس: يريد الخيل السوابق إذا وقفت صفنت على أطراف حوافرها، عرضت عليه حتى شغلته عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس. فذلك قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] يعني الخيل، والخيل مال، والخير بمعنى المال كثير في التنزيل. قال الزجاج: الخير ههنا الخيل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى زيد الخيل: زيد الخير، وسميت الخيل خيرا لأن الخير معقود بنواصيها: الأجر والمغنم. قال الفراء: يقول: آثرت حب الخير وكل من أحب شيئا فقد آثره. وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] أي: على ذكر ربي، يعني صلاة العصر، {حَتَّى تَوَارَتْ

بِالْحِجَابِ} [ص: 32] حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار. قال الحسن: إن سليمان عليه السلام لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله تعالى، فقال: ردوها علي أي: أعيدوها عليّ، فطفق قال أبو عبيدة: طفق يفعل، مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات، يقال: طفق يطفق طفقا وطفوقا. وقوله: مسحا أي: يمسح مسحا، أي يضرب، يقال: مسح علاوته أي ضرب عنقه، وهذا قول الفراء، وأبي عبيدة. قال الفراء: والمسح ههنا القطع. والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها، لأنها كانت سبب فوت صلاته. وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، قالا: يريد قطع السوق والأعناق. وقال الحسن: كسّف عراقيبها، وقطع أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى. قال الزجاج: ولم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أباح الله له ذلك. وجائز أن يباح ذلك لسليمان ويحظر في هذا الوقت، والسوق

جمع ساق، مثل لاب ولوب. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ {34} قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {35} فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ {36} وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ {37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {38} هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {39} وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {40} } [ص: 34-40] قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] أي: ابتليناه واختبرناه بسلب ملكه. قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان عليه السلام امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته كانت عن ذلك. قال ابن عباس في رواية عطاء {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] : يريد بصخر، الشيطان الذي لم يكن سخر له، وكان شيطانا ماردا عظيما لا يقوى عليه جميع الشياطين، وكان نبي الله سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نسائه وأقام أربعين يوما في مكانه، وسليمان هارب. وقال مجاهد: إن شيطانا قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه، وقعد الشيطان على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم، فيقول: أتعرفونني؟ أطعموني. فيكذبونه، حتى أعطته امرأته يوما حوتا فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه

ملكه، فذلك قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34] يعني الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس، ثم أناب رجع بعد أربعين يوما إلى ملكه.

فلما رجع {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] قال مقاتل، وأبو عبيدة: لا يكون، فاستجاب الله له ذلك فلم يكن لأحد بعده من الملك ما كان له. 794 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، أنا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا شَبَابَةُ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ صَلَّى صَلاةً فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، يُفْسِدُ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوَثِّقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلامُ {هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا، أَوْ خَائِبًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ

إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَوْحٍ، وَغُنْدَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ شُعْبَةَ ويدل على ما ذكرنا قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [ص: 36] ولم نسخرها لأحد بعده ولا ملكها سواه، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص: 36] لينة الهبوب ليست بالعاصفة، حيث أصاب أراد من النواحي، قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين حيث أصاب، أي حيث أراد من النواحي. قال الزجاج: وحقيقته حيث قصد. وقال الأصمعي: العرب تقول: أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب، معناه أنه قصد الصواب وأراده فأخطأ مراده ولم يتعمد الخطأ. والشياطين أي: وسخرنا له الشياطين، كل بناء يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وغواص يغوصون في البحار يستخرجون له الدر من البحار. وآخرين أي: وسخرنا له آخرين، يعني مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد، وهو قوله: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص: 38] يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد الأغلال، واحدها صفد. قال الزجاج: هي السلاسل من الحديد، وكل ما شددته شدا وثيقا بالحديد وغيره فقد صفدته. قال أبو عبيد: يقال صفدت الرجل فهو مصفود، وأصفدته فهو مصفد. هذا عطاؤنا أي: قلنا له هذا الملك، يعني ما سأل من قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] ، {فَامْنُنْ} [ص: 39] لمن الإحسان إلى من لا تستثيبه. قال عطاء، عن ابن عباس: أعط من شئت وأمسك عمن شئت. بغير حساب لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان، فإن الله تعالى قال: هذا عطاؤنا الآية، إن أعطي أجر، وإن لم يعط لم يكن عليه

تبعة. قال الزجاج: قوله: بغير حساب أي: بغير جزاء، يعني: أعطيناك تفضلا لا مجازاة. ثم أخبره بمنزلته في الآخرة، فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40] . {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ {42} وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {43} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {44} } [ص: 41-44] قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] النصب والنصب كالحزن والحزن، والعدم والعدم، وهو الضر والمكروه والشدة، يعني ما ابتلاه الله به حين سلط عليه الشيطان، قاله ابن عباس. قال قتادة: بضر في الجسد وعذاب في المال. وقال السدي: النصب ما أنصب الجسد، والعذاب أهلك المال. ثم فرج الله عنه، وهو قوله: اركض برجلك أي: قلنا له اركض برجلك، قال ابن عباس: اضرب الأرض برجلك، فركض فنبعت بركضته عين ماء. وهو قوله: هذا مغتسل وهو ما اغتسل به من الماء، بارد وشراب شرب منه، قال مقاتل: انفجرت له عين فاغتسل منها، فخرج منها صحيحا، ثم مشى أربعين خطوة فدفع الأرض برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذبا باردا، فذلك قوله: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: 42] يعني الذي اغتسل فيه، وشراب

أراد الذي شرب منه. وقال الحسن ركض ركضة أخرى فإذا عين تنبع حتى غمرته، فرد الله إليه جسده، فركض ركضة أخرى فإذا عين أخرى فشرب منها فطهرت جوفه، وغسلت كل قذر كان فيه. وما بعد هذا مفسر في { [الأنبياء إلى قوله:] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [سورة ص: 44] وهو ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وكان حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة. قال سعيد بن المسيب: اتهمها أنها قارفت شيئا من الخيانة، لأنها أتته يوما بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز. وقال قتادة: عرض لها إبليس وأراد أن تحمل زوجها على شيء، فقالت لأيوب: لو تقربت إلى الشيطان بشيء فذبحت له عناقا. فحلف أيوب لئن شفاه الله ليجلدنها مائة جلدة، فأمر أن يأخذ عيدانا رطبة من تمام مائة عود، فيضرب به كما أمره الله تعالى، وهو قوله: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فكان ذلك تحلة ليمينه، وتخفيفا عن امرأته، ثم أثنى على أيوب، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] أي: على البلاء الذي ابتليناه به، نعم العبد هو، إنه أواب رجاع إلى ما يحب الله من طاعته. قوله: {

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ {45} إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ {46} وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ {47} وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ {48} هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ {49} } [ص: 45-49] واذكر عبادنا وقرأ ابن كثير عبدنا على الواحد اختصاصا بالإضافة إلى الله على وجه المكرمة، وهو قراءة ابن عباس، يقول: إنما ذكر إبراهيم، ثم ذكر ولده بعده. قال مقاتل: واذكر يا محمد صبر عبدنا إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق للذبح، وصبر يعقوب

حين ذهب بصره، ولم يذكر إسماعيل لأنه لم يبتل بشيء. {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] قال ابن عباس: أولي القوة في طاعة

الله، والأبصار في المعرفة بالله. فالأيدي في هذه الآية جمع اليد التي هي بمعنى القدرة والقوة. قال قتادة: أعطوا قوة في العبادة وصبرا في الدين. وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والمفسرين. قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قال مجاهد: اصطفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها. وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة. فمن قرأ بالتنوين في بخالصة كان المعنى: جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم الذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، والذكرى بمعنى التذكير، أي: خلص لهم تذكير الدار، وهو أنهم يذكرون بالتأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك شأن الأنبياء صلوات الله عليهم، وأما من أضاف فالمعنى: أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل. قال ابن عباس: أخلصوا بذكر الدار الآخرة، وأن يعملوا لها. والذكرى على هذا بمعنى الذكر. {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 47] قال ابن عباس: يريد اصطفيتهم واخترتهم. {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ} [ص: 48] أي: اذكرهم بصبرهم وفضلهم لتسلك طريقهم، {وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} [ص: 48] اختارهم الله للنبوة. هذا ذكر شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا، {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله. ثم بين حسن ذلك المرجع، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ {50} مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ {51} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ

الطَّرْفِ أَتْرَابٌ {52} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ {53} إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ {54} } [ص: 50-54] {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50] قال الفراء: المعنى مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة. وقال الزجاج: المعنى مفتحة لهم الأبواب منها، فالألف واللام للتعريف لا للبدل. متكئين فيها في الجنات، يدعون فيها تقدير الآية: يدعون في الجنات متكئين فيها. {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 51] بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والمعنى: وشراب كثير، فحذف للدلالة عليه. {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [ص: 52] تقدم تفسيره. أتراب أقران أسنانهن واحدة، بنات ثلاث وثلاثين سنة. هذا يعني ما ذكر فيما تقدم ما يوعد به المتقون على لسان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى: قل للمتقين: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] ليوم الجزاء. ثم أعلم أن ذلك غير منقطع، فقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] أي: انقطاع وفناء. قال ابن عباس: ليس لشيء في الجنة نفاد، وما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حيا. {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ {55} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ {56} هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ {57} وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ {58} هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ {59} قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ {60} قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ {61} } [ص: 55-61] هذا، أي: الأمر هذا الذي ذكرناه. ثم ذكر ما للكفار، فقال: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] للذين طغوا على الله وكذبوا الرسل، لشر مآب شر مرجع ومصير. ثم أخبر بذلك، فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: 56] قال ابن عباس: بئس المسكن وبئس الممهد. {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قال الفراء، والزجاج: تقدير الآية: هذا حميم غساق فليذوقوه. أي: يقال لهم في ذلك اليوم: هذا حميم وغساق فليذوقوه، وعادت الكناية إلى أحدهما اكتفاء به عن

الثاني كقوله: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] ومثله كثير، والحميم: الحار الذي قد انتهى حره، والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم: غسقت عينه إذا انصبت، الغسقان الانصباب، والوجه التخفيف في غساق، لأنه اسم موضوع، قال: ومن شدد ذهب به إلى غسق يغسق فهو غساق. وآخر وعذاب آخر، من شكله من مثل ذلك الأول، والشكل المثل، ويريد ضربا من العذاب على شكل الحميم والغساق في الكراهة. قال المفسرون: هو الزمهرير. ومن قرأ وأخر فالمعنى: وأنواع أخر من شكله. وقوله: أزواج أي: ألوان وأنواع وأشباه. هذا فوج قال صاحب النظم: هذا من قول الملائكة، يقولونه لأهل النار إذا جاءوهم بفوج سواهم من أهل النار. والفوج القطيع من الناس، وجمعه أفواج، والمقتحم الداخل في الشيء رميا بنفسه فيه. قال الكلبي: إنهم يضربون بالمقامع حتى يثبوا في النار خوفا من تلك المقامع، ويوقعوا أنفسهم فيها. فلما قالت الملائكة ذلك لأهل النار قالوا: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59] المرحب والرحب معناه السعة، أي: لا اتسعت بهم مساكنهم، والمعنى: لا كرامة لهم. هذا إخبار أن مودتهم تنقطع وتصير عداوة. {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص: 59] داخلوها كما دخلنا، ومقاسون حرها. فأجابهم الفوج، فقالوا: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] هؤلاء الأتباع يقولون ذلك للقادة وقد سبقوهم إلى النار، يقولون لهم: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص: 60] أنتم بدأتم بالكفر قبلنا، فبئس القرار بئس المستقر والمسكن جهنم. ثم قالت الأتباع: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} [ص: 61] من شرع وسن لنا هذا الكفر، {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} [ص: 61] أي: مضاعفا، أي: زدهم على عذابهم عذابا آخر في النار.

{وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ {62} أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ {63} إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ {64} قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {65} رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {66} } [ص: 62-66] قال الكلبي: ثم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم معهم وهم المؤمنون. فعند ذلك قالوا: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ} [ص: 62] في الدنيا، {مِنَ الأَشْرَارِ} [ص: 62] يعنون فقراء المؤمنين: عمارا، وخبابا، وصهيبا، وبلالا، وسلمان. ثم ذكروا أنهم كان يسخرون من هؤلاء، وهو قوله: اتخذناهم سخريا ومن قرأ بفتح الألف على الاستفهام فهو بعيد، لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريا، فكيف يستقيم أن يستفهموا عن ذلك وقد علموه؟ ووجهه أنه على اللفظ لا على المعنى، وذلك لتعادل أم في قوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} [ص: 63] قال مقاتل: أم زاغت أبصارنا عنهم، فهم معنا في النار ولا نراهم. وقال قتادة: زاغت أبصارنا عنهم فلم نرهم حين دخلوا النار. قال الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] يعني ما ذكرنا قبل هذا لحق. ثم بين ما هو فقال: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] يعني: تخاصم القادة والأتباع على ما أخبر به عنهم. قل لهم يا محمد، لأهل مكة: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65] أنذركم وأحذركم عقوبة الله. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ} [ص: 65] وقل لهم أيضا: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] لخلقه. {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [ص: 66] الآية.

795 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، أنا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، أنا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا تَضَوَّرَ مِنَ اللَّيْلِ؛ قَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ {67} أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ {68} مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ {69} إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {70} } [ص: 67-70] وقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] يعني القرآن في قوله الجميع. قال مقاتل: القرآن حديث عظيم، لأنه كلام الله عز وجل. وقال الزجاج: قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم. يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته، لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى. {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] لا تتفكرون فيه فتعلموا صدقي في نبوتي. يدل على صحة هذا المعنى قوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى} [ص: 69] يعني الملائكة، إذ يختصمون يعني ما ذكر في قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] إلى آخر القصة، {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ} [ص: 70] ما يوحى إليَّ، {إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] قال الفراء: المعنى ما يوحى إليَّ إلا لأنني نبي ونذير. مبين أبين لكم ما تأتون به من الفرائض والسنن، وما تدعون من الحرام والمعصية. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ {71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {72} فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {73} إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {74} قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ {75} قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {76} } [ص: 71-76] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [ص: 71] متصل بقوله: إذ يختصمون فاعترض بينهما كلام، وما بعد هذا مفسر فيما مضى من { [الحجر. ]

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75] أي: لما توليت خلقه كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وهو مر. {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] استفهام توبيخ وإنكار، يقول: أستكبرت بنفسك حتى أبيت السجود لآدم؟ أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود بكونك من قوم يتكبرون؟ وما بعد هذا مفسر فيما تقدم. قوله: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {78} قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {79} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {80} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {81} قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {83} قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ {84} لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ {85} قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ {86} إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {87} وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ {88} } [ص: 77-88] {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] انتصب الحق الأول على تقدير فبالحق، حذف الخافض ونصب كما تقول: والله لأفعلن، والحق الثاني يجوز أن يكون الأول وكرره للتأكيد، ويجوز أن يكون الحق منصوبا بأقول، كأنه قال: وأقول الحق. وقرأ الكوفيون والحق رفعا وهو مبتد وخبره محذوف على تقدير الحق مني، كما قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] وهذا قول مجاهد، قال: يقول الله: الحق مني وأنا أقول الحق. أقسم الله تعالى أن يملأ جهنم من إبليس وأتباعه وهو قوله: {

لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [ص: 85] الآية. قل لكفار مكة: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [ص: 86] على تبليغ الوحي والقرآن، من أجر مال تعطونيه، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] أي: ما أتيتكم رسولا من قبل نفسي، ولم أتكلف هذا الإتيان بل أمرت به. 796 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السِّمِذِيُّ، أنا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَنَدِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّخْمِيُّ، نا أَبُو قُرَّةَ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 87] ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، ولتعلمن أنتم يا كفار مكة، نبأه خبر صدقه، بعد حين قال ابن عباس، وقتادة: بعد الموت. وقال عكرمة: يعني يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن: ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

تفسير سورة الزمر

تفسير سورة الزمر مكية وهي سبعون وخمس آيات مكية. 797 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَرِ لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاهُ، وَأَعْطَاهُ ثَوَابَ الْخَائِفِينَ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ» {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {1} إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ {2} أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ {3} لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {4} } [الزمر: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الزمر: 1] مبتدأ وخبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] أي: إن تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم لا من غيره، كما تقول في الكلام: استقامة الناس من الأنبياء، أي: إنها لا تكون إلا من الأنبياء. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 2] قال مقاتل: يقول: لم ننزله باطلا لغير شيء. {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] موحدا له لا تشرك به شيئا، والإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه، لا يجعل ذلك لعرض الدنيا. {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] يعني أن الدين الخالص من الشرك هو لله تعالى، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الذي أمر به.

وقال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر: 3] يعني الآلهة والأصنام، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] إلا ليشفعوا لنا إلى الله، وذلك التقريب هو الشفاعة في قول المفسرين، والزلفى القربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: {إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] تقريبا. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر: 3] بين أهل الأديان، وهم الذين اتخذوا من دونه أولياء، يحكم الله بينهم يوم القيامة، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3] من أمر الدين، كل يقول: الحق ديني، فهم مختلفون، وحكم الله بينهم أن يعذب كلا على قدر استحقاقه. ثم أخبر أن هؤلاء لا يهديهم الله، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] لا يرشد لدينه من كذب في زعمه أن الآلهة تشفع وكفر في اتخاذ الآلهة دونه، وهذا فيمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية. {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [الزمر: 4] على ما يزعم من ينسب الله تعالى إلى اتخاذ الولد، {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4] يعني الملائكة، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء: 17] ، ثم أعلم أنه منزه عن اتخاذ الولد، فقال: سبحانه تنزيها له عن ذلك، {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ} [الزمر: 4] لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد القهار لخلقه، قهر ما خلق بالموت، وهو حي لا يموت. {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ {5} خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {6} } [الزمر: 5-6] قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 5] أي: لم يخلقهما باطلا لغير شيء، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] يدخل هذا على هذا، والتكوير: طرح الشيء بعضه على بعض، يقال: كور المتاع إذا ألقى

بعضه على بعض. قال قتادة: يغشي هذا على هذا، كما قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] ، و {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [الحج: 61] . {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الزمر: 5] ذللهما للمسير في بروجهما على ما قدر وأراد، كل منهما، {يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 5] أي: إلى الأجل الذي وقت الله الدنيا إليه، وهو انقضاؤها وفناؤها. {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ} [الزمر: 5] الغالب في ملكه، الغفار لأوليائه وأهل طاعته. {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: 6] يعني آدم، قال الفراء، والزجاج: المعنى خلقكم من نفس خلقها واحدة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] لأن خلقها كان بعد خلق الزوج، يعني حواء، خلقت من قصيري آدم. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: 6] معنى الإنزال ههنا: الإنشاء والإحداث، كقوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] ولم ينزل اللباس ولكنه أنزل الماء الذي هو سبب، والقطن والصوف واللباس منهما، كذلك الأنعام تكون بالنبات والنبات يكون بالماء، وقوله: ثمانية أزواج مفسر في { [الأنعام،] يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [سورة الزمر: 6] نطفا، ثم علقا إلى أن يخرج من بطن أمه، {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر: 6] ظلمة المشيمة، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، ذلكم الله الذي خلق هذه الأشياء ربكم، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ مثل قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] . {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7} وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ {8} } [الزمر: 7-8] قوله: إن تكفروا يا أهل مكة، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] أي: عن عبادتكم، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد ولا أرضى لأوليائي وأهل طاعتي الكفر. وقال في رواية الوالبي: يعني عباده المخلصين الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله، وحببها إليهم. وقال السدي: لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا. وهذا طريق من قال بالتخصيص في هذه الآية، ومن أجراها على العموم قال: إن الله تعالى لا يرضى الكفر لأحد، وكفر الكافر غير مرضي لله، وإن كان بإرادته. والله تعالى مريد لكفر الكافر غير راض به، لأنه لا يمدحه ولا يثني عليه، قال قتادة: والله ما رضي الله لعبد ضلالة، ولا أمره بها، ولا دعاه إليها. وإن تشكروا ما أنعم عليكم من التوحيد، يرضه لكم يرضى ذلك الشكر لكم بأن يثيبكم عليه، وباقي الآية تقدم تفسيره. قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ} [الزمر: 8] قال عطاء: يريد عتبة بن ربيعة. وقال مقاتل: يريد أبا حذيفة بن المغيرة. ضر بلاء وشدة وفقر، أو مرض، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] راجعا إليه من شركه، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر: 8] أعطاه، نعمة منه يعني: أغناه وأنعم عليه بالصحة، {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8] نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الزمر: 8] رجع إلى عبادة الأوثان، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] ليزل عن دين الله الإسلام، قل لهذا الكافر: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا} [الزمر: 8] في الدنيا إلى أجلك، قال الزجاج: لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد. {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] أي: إن مصيرك إلى النار. قوله: {

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] الجملة التي عادلت أم قد حذفت، كما يقال: أهذا أم هذا؟ والتقدير: الجاحد الكافر، يعني الذي ذكره في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] خير، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] والأصل أم من هو، فأدغمت الميم في الميم، ومن قرأ بالتخفيف فهي ألف الاستفهام دخلت على من، وهو استفهام إنكار، والمعنى: أمن هو قانت كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر؟ قال الزجاج: أمن هو قانت كهذا الذي ذكرنا ممن جعل لله أندادا؟ والقانت: المقيم على الطاعة، القائم بما يجب عليه من أمر الله. قال ابن عباس في رواية عطاء: وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. 798 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا عُمَرُ بْنُ أَبِي مُعَاذٍ النُّمَيْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} الآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر. وتفسير آناء الليل قد مضى. وقوله: ساجدا وقائما يعني في الصلاة، يحذر الآخرة قال مقاتل: يحذر عذاب الآخرة. {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] يعني الجنة، كمن لا يفعل ذلك؟ ليسا سواء. وهو قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أن ما وعد الله من الثواب والعقاب حق، {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ذلك؟ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] إنما يتعظ ذوو العقول من المؤمنين، فأما الجاهل الكافر فإنه لا يتعظ. {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {10} قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ {11} وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ {12} قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {13} قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي {14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {15} } [الزمر: 10-15] {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الزمر: 10] صدقوا بتوحيد الله، اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه، وتم الكلام، ثم قال: للذين أحسنوا وحدوا الله وأحسنوا العمل، {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10] يعني الجنة، {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] قال ابن عباس: يريد ارحلوا من مكة. وهذا حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون. كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] . {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] على دينهم فلا يتركونه لمشقة تلحقهم، وهذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين لم يتركوا دينهم، ولما اشتد عليهم الأمر صبروا وهاجروا، وقوله: {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل: أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب. قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} [الزمر: 11] قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادة قومك، يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها. فأنزل الله قل يا محمد: {إِنِّي

أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص، لا يشوب عبادتي شرك. وأمرت بهذا، {لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] من هذه الآمة. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الزمر: 13] بالرجوع إلى دين آبائي، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13] . {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] بالتوحيد لا أشرك به شيا. {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] أمر تهديد، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الزمر: 15] بأن صاروا إلى النار، وأهليهم من الأزواج والخدم في الجنة. قال الزجاج: وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة. قوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ {16} وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ {18} } [الزمر: 16-18] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} [الزمر: 16] يعني: أطباقا من النار تلتهب عليهم، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [العنكبوت: 55] الآية. {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] مهاد من النار. قال السدي: وهي لمن تحتهم ظلل، وهكذا حتى تنتهي إلى القعر. ذلك الذي وصف من العذاب، {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر: 16] المؤمنين، يعني أن ما ذكر من العذاب معد للكفار، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوا فيتقوه بالطاعة والتوحيد. ثم أمرهم بذلك فقال: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] . قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] يعني الأوثان والشيطان، {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 17] رجعوا إليه بالطاعة، لهم البشرى بالجنة. {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17-18] يعني القرآن، فيتبعون أحسنه قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملونه. وقال عطاء، عن ابن عباس: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقه، فجاءه عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فسألوه، فأخبرهم بإيمانه، فآمنوا ونزلت فيهم {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17-18] يعني: من أبي

بكر فيتبعون أحسنه، أي حسنه، وكله حسن. ثم أثنى عليهم بباقي الآية ووصفهم بالهداية والفضل. ثم ذكر من سبقت له من الله الشقاوة، فقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ {19} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ {20} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {21} } [الزمر: 19-21] {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] قال ابن عباس: من سبق في علم الله أنه في النار، أفأنت تنقذه فتجعله مؤمنا. يعني لا تقدر على ذلك، قال عطاء: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان به. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر: 20] بالإيمان والطاعة، {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] لهم منازل في الجنة رفيعة، وفوقها منازل أرفع منها، وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه، وهو قوله: وعد الله، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] . ثم ذكر ما يدل على توحيده، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} [الزمر: 21] أدخل ذلك الماء {يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21] جمع ينبوع، وهو يفعول، من نبع الماء ينبع، والينابيع الأمكنة التي ينبع منها الماء. قال مقاتل: فجعله عيونا وركابا في الأرض، ثم يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض. ثم يهيج يجف، يقال: هاج النبت يهيج هيجا إذا تم جفافه. فتراه بعد الخضرة، {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر: 21] دقاقا متكسرا متفتتا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} [الزمر: 21] تفكر لذوي العقول، يذكرون به ما لهم فيه من الدلالة على توحيد الله وقدرته. وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {22} اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {23} أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {24} } [الزمر: 22-24] {

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الزمر: 22] أي: وسعه لقبول الحق. روي عن ابن مسعود، أنه قال: تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: «نور يقذفه الله في القلب فينفسح له القلب» . فقيل له: فهل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم» . قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» . وقوله: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] قال قتادة: النور كتاب الله عز وجل، به يأخذ وإليه ينتهي. وقال عطاء، عن ابن عباس: فهو على يقين من ربه. وقال الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته؟ ودل على هذا المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] قال مقاتل: نزلت في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي جهل، لعنه الله. وقال عطاء: نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وولده.

وقوله: {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] قال الفراء، والزجاج: عن ذكر الله، كما تقول: أتخمت من طعام أكلته، وعن طعام أكلته، سواء، والمعنى أنه غلظ قلبه وصفا عن قبول ذكر الله تعالى. أولئك أي: القاسية قلوبهم، {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22] . قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] يعني القرآن، وسمي حديثا لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدث قومه ويخبرهم بما نزل عليه منه. وقوله: كتابا متشابها أي: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه اختلاف ولا تناقض. {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] خوفا مما في القرآن من الوعيد. ومعنى تقشعر: تأخذهم قشعريرة، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف. 799 - أَخَبْرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّزَّازُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا» قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين الله تعالى. {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر: 23] إذا ذكرت آيات الرحمة، وهذا معنى قول جميع المفسرين. وقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر: 23] أي: تطمئن وتسكن، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] الجنة والثواب، فحذف مفعول الذكر للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله تعالى، نعتهم

الله بأنهم تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان. ذلك يعني: أحسن الحديث، وهو القرآن، هدى الله الآية. قوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] نزلت في أبي جهل، قال الكلبي: ينطلق به إلى النار مغلولا، فإذا رمت به الخزنة فيها لم يتقها بأول من وجهه. قال الزجاج: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة. وتم الكلام، ثم أخبر عما تقول الخزنة للكفار بقوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24] قال عطاء: يريد جزاء ما كنتم تعملون. {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ {25} فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {26} } [الزمر: 25-26] {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 25] من قبل كفار مكة، كذبوا رسلهم بالعذاب إذ لم يؤمنوا، {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [الزمر: 25] يعني: وهم آمنون في أنفسهم، غافلون عن العذاب. {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} [الزمر: 26] الهوان والعذاب، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} [الزمر: 26] مما أصابهم في الدنيا، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26] لكنهم لم يعلموا ذلك. قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {27} قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {28} } [الزمر: 27-28] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} [الزمر: 27] لأهل مكة، {فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الزمر: 27] بينا لهم ما يشبه حالهم، لعلهم يتذكرون يتعظون فيعتبرون. قرآنا عربيا حال من القرآن في قوله: {فِي هَذَا الْقُرْءَانِ} [الزمر: 27] ، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] مستقيم ليس بمختلف. 800 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا أَبُو هَارُونَ

إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو صَالِحٍ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ، قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ {29} إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ {30} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ {31} } [الزمر: 29-31] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [الزمر: 29] ثم بينه، فقال: {رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] متنازعون مختلفون، ورجلا سلما لرجل سلم له من غير منازع، ومن قرأ سلما فهو مصدر وصف به على معنى: ورجلا ذا سلم لرجل، من قولهم: هو لك سلم، أي: مسلم لا منازع لك فيه. قال الزجاج: وهذا المثل ضرب لمن وحد الله عز وجل، ولمن جعل معه شركاء. قال مقاتل: يقول: هل يستوي عبد يشترك فيه نفر مختلفون يملكونه جميعا، ورجل خالص لرجل لا شركة فيه لأحد؟ ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29] أي: يستوي من يعبد آلهة شتى مختلفة، يعني الكافر، والذي يعبد ربا واحدا، يعني المؤمن؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، أي لا يستويان، وذلك أن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتعاشرين المختلفين في أمره، وتم الكلام، ثم قال: الحمد لله أي: له الحمد كله دون غيره من المعبودين، بل أي: دع الكلام الأول، {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] ما يصيرون إليه من العقاب، والمراد بالأكثر الكل. ثم أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأنه يموت، وأن هؤلاء الذين يكذبونه يموتون ويجتمعون للخصومة عند الله، وهو قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] . {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] قال ابن عباس: يعني الحق والمبطل، والظالم والمظلوم. 801 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ؛ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟

قَالَ: نَعَمْ، لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى تُؤَدُّوا إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الأَمْرَ لَشَدِيدٌ قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ {32} وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {33} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ {34} لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {35} } [الزمر: 32-35] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] بأن له ولدا وشريكا، وكذب بالصدق أي: بالتوحيد والقرآن، {إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] مقام للجاحدين؟ وهو استفهام تقرير، يعني أنه كذلك. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدق به أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه، وهم المؤمنون الذين صدقوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء به من الإسلام، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] الذين اتقوا الشرك. {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] لهم عند الله من الجزاء والكرامة ما يشاءون، {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34] في أقوالهم وأعمالهم. {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [الزمر: 35] أي: أعطاهم ما شاءوا، {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] يسترها عنهم بالمغفرة، {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي. قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {36} وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ {37} } [الزمر: 36-37] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكفيه عداوة من يعاديه، ومن قرأ عباده فالمراد بالعباد الأنبياء، وذلك أن الأمم قصدتهم بالسوء، وهو قوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} [غافر: 5]

فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم، يعني أنه كافيكم كما كفى هؤلاء الرسل قبلك. {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] أي: بالذين يعبدون من دونه، وهم الأصنام وذلك أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا نخاف أن يصيبك من آلهتنا جنون أو خبل. ثم ذكر سبب ضلالهم، فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] ، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37] من تولى الله هدايته لم يضله أحد. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} [الزمر: 37] غالب لا يمتنع عليه شيء، ذي انتقام ممن عصاه وكفر به. ثم أعلم أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله خالق السموات والأرض، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ {38} قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {39} مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ {40} } [الزمر: 38-40] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] ثم أمره أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا يملك كشف ضر، فقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الزمر: 38] قال ابن عباس، ومقاتل: بمرض أو فقر أو ببلاء أو شدة. {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] هل تقدر الآلهة أن تكشف ما ينزل بي من ضر، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} [الزمر: 38] بخير وصحة، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] هل تقدر الآلهة أن تحبس عني تلك الرحمة، وقرئ كاشفات وممسكات بالتنوين وبغيره، فمن نون فلأنه غير واقع، وما لم يقع من أسماء الفاعلين فالوجه فيه التنوين، ومن أضاف فعلى الاستخفاف

وحذف التنوين، والمعنى على التنوين، وكلا الوجهين حسن. قال مقاتل: فسألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فسكتوا، ولم يجيبوه، فقال الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] بالله يثق الواثقون. وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {41} اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {42} أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {44} } [الزمر: 41-44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [الزمر: 41] القرآن، للناس قال ابن عباس: لجميع الخلق. بالحق أي: ليس فيه شيء من الباطل، فمن اهتدى بالقرآن، فلنفسه وهذه الآية مفسرة في آخر { [يونس،] وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [سورة الزمر: 41] لم يوكلك بهم ولا تؤخذ بهم. قال مقاتل: وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] يعني الأرواح، حين موتها عند أجلها، والمعنى: حين موت أبدانها وأجسادها، على حذف المضاف، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر: 42] أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت، في منامها والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز، قال الزجاج: لكل إنسان نفسان، أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. وقوله: فيمسك أي: عن الجسد الروح التي قبضها حتى لا تعود إليه. وهو قوله: {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] وقرئ قضي عليها الموت، والوجه القراءة الأولى، لقوله: الله يتوفى، قوله: ويرسل يعني ويرسل، الأخرى أي: إلى الجسد، {إِلَى

أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] إلى انقضاء الأجل، قال سعيد بن جبير: يقبض أنفس الأحياء والأموات، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء، فلا يغلط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح، وإرسال ما يرسل منها. وقال مقاتل: لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث. يعني أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث، وهذا كما روي أنه مكتوب في التوراة: يا ابن آدم، كما تنام تموت، وكما تستيقظ تبعث. قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر: 43] نزلت في أهل مكة، زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله تعالى، فقال الله منكرا عليهم: أم اتخذوا أي: بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء، قل يا محمد: أولو كانوا يعني الآلهة، {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} [الزمر: 43] من الشفاعة، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم، وجواب هذا الاستفهام محذوف تقدير أولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. ثم أخبر أنه لا شفاعة إلا بأذنه، فقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] قال مجاهد: لا يشفع أحد إلا بإذنه. والمعنى: لا يملك أحد الشفاعة إلا بتمليكه كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وفي هذا إبطال الشفاعة من ادعيت له الشفاعة من الآلهة. قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {45} قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {46} وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ {47} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {48} } [الزمر: 45-48] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر: 45] معنى الاشمئزاز في اللغة: النفور والاستكبار. قال ابن عباس، ومجاهد: اشمأزت انقبضت عن التوحيد. وقال قتادة: استكبرت. وقال أبو عبيدة: نفرت. وكان المشركون إذا سمعوا لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، نفروا من هذا، لأنهم كانوا يقولون الأوثان آلهة. {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 45] يعني: الأصنام التي عبدوها من دونه، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] يفرحون، قل مجاهد، ومقاتل: يعني حين قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة { [النجم، فقال: تلك الغرانيق العلى. فرح كفار مكة بذلك حين سمعوا أن لها شفاعة. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله:] وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [سورة الزمر: 47] قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا. وقد ظهر هذا في قوله: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أي: من مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الزمر: 48] أنزل بهم كل ما أنذرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به مما كانوا ينكرونه ويكذبون به. قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {49} قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {50} فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ {51} أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {52} } [الزمر: 49-52] {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ} [الزمر: 49] يعني الكافر، {ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} [الزمر: 49] أعطيناه نعمة منا من عندنا، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} [الزمر: 49] ذكر الكناية، لأن المراد بالنعمة الإنعام، وقوله: على علم قال مقاتل: على خير

علمه الله عندي. وقال غيره: على علم من الله بأني له أهل. قال الله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] أي: بلوى يبتلى بها العبد ليشكر أو ليكفر، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] أن ذلك استدراج من الله لهم وامتحان. قد قالها أي: قال تلك الكلمة، وهي قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] قال مقاتل: يعني قارون حين قال: إنما أوتيته على علم عندي. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 50] يعني: الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر: 50] ما أغني عنهم الكفر من العذاب شيئا. والمعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك، لأنهم وقعوا في العذاب ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا. وهو قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51] أي: جزاؤها، يعني العذاب. ثم أوعد كفار مكة، فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] لأن مرجعهم إلى الله فهم لا يعجزونه ولا يفوتونه فيجازيهم بأعمالهم. {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 52] قال مقاتل: وعظهم ليعتبروا في توحيده، وذلك حين أمطروا بعد سبع سنين، فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويقتر على من يشاء. قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {58} بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {59} } [الزمر: 53-59] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك، وقتل النفس، ومعاداة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقتال ضده، والزنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية، ورآها أصحابه من أوسع الآيات

في مغفرة الذنوب. 802 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ، أنا حَجَّاجٌ، أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنْ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ومعنى {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] أي: بالشرك والزنا وإراقة الدماء. {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] وذلك أنهم ظنوا أنه لا توبة لهم، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وعد بغفران الذنوب وإن كثرت. 803 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَارِكٍ، أنا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، نا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ شَهْرِ بِن حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْرَأُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَلا يُبَالِي بِهِ {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 804 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

حَشِيشٍ الْعَدْلُ، نا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئَ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُبُلانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الآيَةِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} " ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] أي: ارجعوا من الشرك والذنوب إلى الله تعالى فوحدوه، وأسلموا له وأخلصوا له التوحيد، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] لا تمنعون من عذاب الله. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] يعني القرآن، يقول: أحلوا حلاله وحرموا حرامه. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} [الزمر: 55] يريد الموت، وذلك أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، وهو قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر: 55-56] قال المبرد: أي بادروا خوف أن تقول، وحذرا من أن تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول. {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} قال الفراء: الجنب القرب، أي: في قرب الله وجواره، والجنب

بمعنى القرب كثير في الكلام، يقال: فلان يعيش في جنب فلان، أي في قربه وجواره، ومنه قوله تعالى: والصاحب بالجنب والمعنى على هذا القول: على ما فرطت في طلب جنب الله، أي: في طلب جواره وقربه، وهو الجنة. وهذا معنى قول ابن الأعرابي في قرب الله من الجنة. وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا الجنب بمعنى الجانب، أي: قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل. والمفسرون ذكروا هذه المعاني، فقال عطاء، عن ابن عباس: ضيعت في ثواب الله. وقال مجاهد، والسدي: في أمر الله. وقال الحسن: في طاعة الله. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] أي: وما كنت إلا من المستهزءين بالقرآن وبالمؤمنين في الدنيا، أو تقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر: 57] أرشدني إلى دينه، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57] الشرك. {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر: 58] مشاهدة وعيانا: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر: 58] رجعة إلى الدنيا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58] الموحدين. ثم يقال لهذا القائل: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر: 59] يعني القرآن، {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر: 59] قلت: إنها ليست من الله تعالى واستكبرت تكبرت عن الإيمان بها. قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ {60} وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {61} } [الزمر: 60-61] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 60] فزعموا أن له ولدا أو شريكا، وجوههم مسودة. أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا عبد الله قحطبة، نا محمد بن الصباح، نا عمرو بن الأزهري، عن أبي الربيع، عن كثير بن زياد، قال: سئل الحسن عن هذه الآية {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]

فقال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وباقي الآية مفسر في هذه ال { [. قوله: وينجي الله أي: من جهنم، الذين اتقوا الشرك، بمفازتهم المفازة الفوز، هو الظفر بالخير والنجاة من الشر. قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز، وهو السعادة، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات. والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة،] لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [سورة الزمر: 61] لا يصيبهم العذاب، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61] لأنهم رضوا بالثواب. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {62} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {63} قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ {64} وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ {66} } [الزمر: 62-66] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] أي: إن ما في الدنيا والآخرة فهو خالقه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] أي: الأشياء كلها موكولة إليه، فهو القائم بحفظها والتصرف فيها. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 63] واحدها مقليد ومقلاد.

قال ابن عباس، ومقاتل: يريد مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة. وهو قول قتادة. وقال الليث:

المقلاد الخزانة، ومقاليد السموات والأرض خزائنها. وهو قول الضحاك. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الزمر: 63] يعني القرآن، {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63] خسروا حين صاروا إلى النار. ثم أعلم أنه إنما ينبغي أن يعبد الخالق وحده، فقال: قل لهم: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه. وفي تأمروني وجوه من القراءة: تأمرونني بنونين، وهو الأصل، وتأمروني بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية، وتأمروني بنون خفيفة على حذف إحدى النونين. وقوله: أيها الجاهلون أي: فيما تأمرونني. ثم حذره أن يتبع دينهم، فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتهديد لغيره، لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار. ثم أمره بتوحيده، فقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] قال عطاء، ومقاتل: وحده، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده. {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] لإنعامه عليك. قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ {68} وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} } [الزمر: 67-70] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] أي: ما عظموه إذ عبدوا غيره، وأمروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبادة غيره، ثم أخبر عن عظمته، فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، وأخبر الله عن قدرته فذكر أن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه، فذكر القبضة، وإن كان لا يقبض عليها تفهيما لنا على عادة التخاطب فيما بيننا، لأنا نقول: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه، وإن لم يقبض عليه. وكذا قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار، يعني أنه يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه. قال الأخفش: بيمينه، يقول: أي في قدرته نحو قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] أي ما كانت لكم عليه قدرة. وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] . قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] الآية، قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت أهل السماء والأرض. {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] . 805 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْ يَصْعَقَهُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ» ، وَهَذَا قَوْلُ

سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68] يعني نفخة البعث، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} [الزمر: 68] يعني: الخلق كلهم قيام على أرجلهم، ينظرون ينتظرون ما يقال لهم، وما يؤمرون به. {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وهو أن الله عز وجل يخلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق به من غير شمس ولا قمر، ووضع الكتاب قال مقاتل: يعني كتب الأعمال. {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] وهم الذين يشهدون للرسل بالتبليغ، وهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس. وقال عطاء: يعني الحفظة، كقوله: {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] . {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69] لا ينقضون من ثواب أعمالهم، وهو قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70] أي: ثواب ما عملت، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 70] قال عطاء: يريد أني عالم بفعلهم، لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد. قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} } [الزمر: 71-72] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] أفواجا كفارا، كل أمة على حدة، والزمر جماعات في تفرقة بعضها على إثر بعض، واحدتها زمرة. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71] أي: من أنفسكم، {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71] يعني: ما أنزل الله على الأنبياء، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] . {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ

مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} } [الزمر: 73-75] قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} [الزمر: 73] إلى قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] هذه الواو زيادة عند الأخفش والكوفيين، والمعنى: فتحت حتى يكون جوابا لقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 73] كالذي في قصة سوق الكفار. وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأشياء التي ذكرت إلى قوله: فادخلوها خالدين دخلوها، فالجواب دخلوها حذف، لأن في هذا الكلام دليل عليه. وقوله: سلام عليكم أخبر الله تعالى أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين ويخبرونهم بطيب مقامهم فيها. قال ابن عباس طبتم: طاب لكم المقام. وقال قتادة: إنهم قد طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة، واقتص لبعضهم من بعض، لما هذبوا وطيبوا قال لهم الخزنة: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] . فلما دخلوها قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] أي بالجنة، وأورثنا الأرض أرض الجنة، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] نتخذ فيها من المنازل ما نشاء، يقول الله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] نعم ثواب المحسنين الجنة. وترى الملائكة يومئذ، {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] محيطين محدقين به، يقال: حف القوم بفلان إذا أطافوا به. {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] يحمدون الله حيث أدخل الموحدين الجنة، وقضي بينهم بين الخلائق، بالحق بالعدل، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] أهل الجنة يقولون ذلك شكرا لله على إنجاز وعده حين تم وعد الله لهم.

تفسير سورة حم المؤمن

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة حم المؤمن مكية، وهي ثمانون وخمس آيات. 806 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا الْمُحَارِبِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَرَّاجٍ الْكِنْدِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السُّدِّيُّ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأْ بِالْحَوَامِيمِ فِي صَلاةِ اللَّيْلِ» 807 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الْمُؤْمِن لَمْ يَبْقَ رُوحُ نَبِيٍّ وَلا صِدِّيقٍ وَلا مُؤْمِنٍ إِلا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3} } [غافر: 1-3] . حم قال ابن عباس في رواية الوالبي: حم قسم. وقال في رواية عكرمة: الر،

وحم و «نون» حروف الرحمن مقطعة. وقال في رواية عطاء، والكلبي: حم قضى ما هو كائن، هذا {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} [غافر: 2] في ملكه، العليم بخلقه. غافر الذنب لمن يقول: لا إله إلا الله. وهم أولياؤه، وأهل طاعته، وقابل التوب من الشرك وهو جمع توبة، ويجوز أن تكون مصدرا من تاب يتوب توبا، شديد العقاب لمن لا يوحده، ذي الطول: ذي الغنى عمن لا يوحده، ولا يقول: لا إله إلا الله. وقال الكلبي: ذي الفضل على عباده، والمن عليهم. وقال مجاهد: ذي السعة والغنى. {لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] : مصير العباد إليه في الآخرة، فيجزيهم بأعمالهم. قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ {4} كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ {5} وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {6} } [غافر: 4-6] . {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 4] : ما يخاصم فيها بالتكذيب، وفي دفعها بالباطل، {إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4] بالتجارات والغنى، وسلامتهم في ترفهم بعد كفرهم، فإن عاقبة أمرهم العذاب، كعاقبة من قبلهم من الكفار. ثم بين ذلك، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر: 5] يعني: رسولهم نوحا، {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 5] وهم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد، وثمود، ومن بعدهم، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} [غافر: 5] فصدوه، ليأخذوه قال ابن عباس: ليقتلوه، ويهلكوه. كقوله:

{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ، وجادلوا بالباطل خاصموا رسولهم، فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] وهلا أرسل الله إلينا ملائكة؟ وأمثال هذا القول، {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] الذي جاءت به الرسل، فأخذتهم بالعذاب، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5] استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم. وكذلك ومثل ما حق على الأمم المكذبة، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [غافر: 6] بالعذاب، {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 6] من قومك، {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] قال الأخفش: لأنهم أو بأنهم. ثم أخبر بفضل المؤمنين، فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {7} رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {8} وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {9} } [غافر: 7-9] . {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] يعني: حملة العرش والطائفين به، الكروبيون، سادة الملائكة، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] ينزهون الله بالتحميد والتسبيح، ويؤمنون به يصدقون بأنه واحد لا شريك له، ويقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] من الشرك، واتبعوا سبيلك دينك: الإسلام وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وقهم السيئات قال قتادة: يعني: العذاب. {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} [غافر: 9] : يوم القيامة، فقد رحمته لأن المعافى من العذاب مرحوم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ

إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ {10} قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ {11} ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ {12} } [غافر: 10-12] . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} [غافر: 10] الآية. قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم، ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، مقتوا أنفسهم لسوء صنيعهم، ناداهم مناد: لمقت الله إياكم في الدنيا، {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ} [غافر: 10] ، {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10] أنفسكم اليوم. قال قتادة: ينادون يوم القيامة لمقت الله أهل الضلالة، حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله. ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] أي: كنا نطفا في الدنيا أمواتا، فخلقت فينا الحياة، ثم أمتنا وبعثتنا بعد الموت، وهذا كقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وإنما قالوا هذا، لأنهم كانوا قد كذبوا في الدنيا بالبعث، فاعترفوا في النار بما كذبوا به، وهو قوله: فاعترفنا بذنوبنا أي: بالتكذيب، وما كنا نكذب به في الدنيا، ثم سألوا الرجعة، فقالوا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] هل من خروج من النار إلى الدنيا فنعمل بطاعتك؟ قال الله تعالى لهم: ذلكم أي: ذلكم العذاب الذي نزل بكم، {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12] إذا قيل: لا إله إلا الله، أنكرتم، وقلتم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] . {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] : وإن يجعل له شريك، تؤمنوا: تصدقوا ذلك الذي أشرك، وتشهدوا أن له شريكا، فالحكم لله أي: أنه حكم بعذاب من أشرك به، ولا يرد حكمه، العلي الكبير الذي لا أعلى منه، ولا أكبر. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ {13} فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {14} رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ {15} يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ

الْقَهَّارِ {16} الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {17} } [غافر: 13-17] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 13] مصنوعاته التي تدل على قدرته، وتوحيده من السماء والأرض، والشمس والقمر، والسحاب، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] يعني: المطر الذي هو سبب الأرزاق، وما يتذكر وما يتعظ بهذه الآيات، فيوحد الله، {إِلا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] يرجع إلى طاعته. ثم أمر المؤمنين بتوحيده، فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] موحدين، تخلصون له الطاعة، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] من أهل مكة. ثم عظم نفسه، فقال: رفيع الدرجات قال عطاء، عن ابن عباس: يريد درجاتكم، والرفيع بمعنى الرافع. والمعنى: أنه يرفع درجات الأنبياء، والأولياء في الجنة، ذو العرش: خالقه ومالكه، يلقي الروح ينزل الوحي من السماء، من أمره قال ابن عباس: من قضائه. وقال مقاتل: بأمره. لينذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أوحي إليه، يوم التلاق بيوم التلاق، يلتقي في ذلك اليوم أهل السماء، وأهل الأرض. {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر: 16] من قبورهم، {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] لا يستتر منهم أحد، وقال ابن عباس: لا يخفى على الله من أعمالهم شيء. ويقول الله في ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] . قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه. وهذا قول جماعة المفسرين. {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تعالى: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصها منه ". وتلا هذه الآية. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ {18} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ {19} وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {20} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ

كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ {21} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {22} } [غافر: 18-22] . وأنذرهم يقول لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأنذر أهل مكة بـ يوم الآزفة يعني: القيامة، قال ابن عباس: أزف أمرها، أي: دنا. يقال: أزف الشيء يأزف أزفا. قال الزجاج: وقيل لها آزفة، لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب. {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف، حتى تصير إلى الحنجرة، كقوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] . كاظمين: مغمومين، مكروبين، ممتلئين غما، ما للظالمين قال ابن عباس، ومقاتل: يريد المشركين، والمنافقين. من حميم قريب ينفعهم، {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] فيهم، فتقبل فيهم شفاعته. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر: 19] خيانتها، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] : وما تسر القلوب، في السر من المعصية. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20] يحكم به، فيجزي بالحسنة والسيئة، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [غافر: 20] من الشركاء، {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] لا يجازون، لأنهم لا يعلمون ولا يقدرون، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ} [غافر: 20] لما يقوله الخلق، البصير بأعمالهم. قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر: 21] ظاهر إلى قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} [غافر: 21] أي: من عذاب الله، من واق يقي العذاب عنهم. ذلك أي: ذلك العذاب الذي نزل بهم، {بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ} [غافر: 22] الآية. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {23} إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {24} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {25} وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ {26} وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ {27} } [غافر: 23-27] . {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [غافر: 23] إلى قوله: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25] قال ابن عباس: أعيدوا عليهم القتل فيهم كالذي كان أولا. وقال قتادة: كان فرعون أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث الله موسى، عليه السلام، إليه أعاد عليهم القتل ليصدهم بذلك عن متابعة موسى. قوله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي

ضَلالٍ} [غافر: 25] أي: يذهب كيدهم باطلا، ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26] وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصة قوم فرعون، من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا رسولا، فليمنعه من القتل إن قدر، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26] : يبدل عبادتكم إياي، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] أراد ظهور الهدى، وتغير أحكام فرعون، فجعل ذلك فسادا، ومعنى أو: وقوع أحد الشيئين، المعنى: أخاف أن يبدل دينكم، وإن لم يبدله أوقع فيه الفساد، ومن قرأ: وأن يظهر فيكون المعنى: أخاف إبطال دينكم والفساد معه، وقرئ يظهر بضم الياء، الفساد نصبا وهو أشبه بما قبله، لإسناد الفعل إلى موسى. فلما قال فرعون هذا، استعاذ موسى بالله، فقال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} [غافر: 27] : متعظم عن الإيمان. ولما قصد فرعون قتل موسى وعظهم المؤمن من آله، وهو قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ {28} يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29} وَقَالَ الَّذِي

آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ {30} } [غافر: 28-30] . {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28] قال مقاتل، والسدي: كان قبطيا ابن عم فرعون. {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ} [غافر: 28] لأن يقول: ربي الله وهو استفهام إنكار، {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] أي: بما يدل على صدقه من المعجزات، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28] لا يضركم ذلك، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} [غافر: 28] وكذبتموه، {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] قال أبو عبيدة، وأبو الهيثم: كل الذي يعدكم أي: ينذركم، ويتوعدكم به. أي: إن قتلتموه وهو صادق، أصابكم ما يتوعدكم به من العذاب، والمراد بالبعض الكل في هذه الآية، وقال الليث: بعض ههنا صلة يريد: يصبكم الذي يعدكم. وقال أهل المعاني: هذا على المظاهرة في الحجاج. كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه، أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} [غافر: 28] أي: إلى دينه، {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 28] مشرك، كذاب مفتر. ثم ذكرهم هذا المؤمن ما هم فيه من الملك، لتشكروا ذلك بالإيمان بالله، فقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر: 29] غالبين في أرض مصر، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29] من يمنعنا من عذاب الله، إن جاءنا والمعنى: أنه يقول: لكم الملك، فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب، وقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا مانع من عذابه إن حل بكم. فقال فرعون عند ذلك: ما أريكم من الرأي، {إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى. ثم ذكرهم

المؤمن ما نزل بمن قبلهم، فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30] . ثم فسر ذلك، فقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ {31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {33} } [غافر: 31-33] . {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 31] الآية، أي: مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، حتى أتاهم العذاب، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] لا يهلكهم قبل اتخاذ الحجة عليهم. ثم حذرهم عذاب الآخرة، فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32] يعني: يوم القيامة، لأنه ينادى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي فيه أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وينادى فيه بسعادة السعداء، وبشقاوة الأشقياء. {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 33] قال قتادة، ومقاتل: إلى النار بعد الحساب. وقال الضحاك: إنهم إذا سمعوا زفير النار، ولوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33] ما لكم من عذاب الله من يعصمكم ويمنعكم. ثم وعظهم ليفكروا، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ {34} الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} } [غافر: 34-35] .

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} [غافر: 34] يعني: يوسف بن يعقوب، من قبل من قبل موسى، بالبينات يعني: قوله لهم: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} [يوسف: 39] الآية. {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: 34] قال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له. {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} [غافر: 34] أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله لا يجدد عليكم إيجاب الحجة، كذلك مثل ذلك الضلال، {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 34] مشرك، مرتاب شاك في توحيد الله، وصدق أنبيائه. قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 35] قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب على معنى هم الذين يجادلون. ومعنى {فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 35] أي: في إبطالها ودفعها، والتكذيب بها، بغير سلطان بغير حجة أتتهم من الله، كبر مقتا كبر جدالهم مقتا، {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35] قال ابن عباس: يمقتهم الله، ويمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال. كذلك كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا، وجادلوا بالباطل، {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] قال ابن عباس: يختم على قلوبهم فلا يسمعون الهدى، ولا يعقلون الرشاد. قال مقاتل: متكبر عن عبادة الله والتوحيد، جبار قتال في غير حق. وقرئ:

على كل قلب بالتنوين. قال الزجاج: الوجه الإضافة، لأن المتكبر هو الإنسان. قال: ويجوز أن تقول: قلب متكبر، أي: صاحبه متكبر. وإذا وصف القلب بالتكبر، كان صاحبه في المعنى متكبرا. ولما وعظه المؤمن من أهل فرعون وأقاربه، وزجره عن قتل موسى، قال فرعون لوزيره: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ {37} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {40} } [غافر: 36-40] . {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] قصرا مشيدا بالآجر، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36] يعني: الطرق من سماء إلى سماء. {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 37] بالرفع نسق على قوله: أبلغ الأسباب أي: لعلي أبلغ ولعلي أطلع، ومن نصب جعله جوابا للفعل بالفاء على معنى: إني إذا بلغت اطلعت، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 37] أي: فيما يقول من أن له ربا في السماء، وما قال موسى له ذلك قط، ولكنه لما قال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] ، قال موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء: 24] ظن فرعون باعتقاده الباطل أنه لما لم يره في الأرض، أنه في السماء، فرام الصعود إلى السماء، لرؤية إله موسى، وكذلك ومثل ما وصفنا، {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ

السَّبِيلِ} [غافر: 37] قال ابن عباس: صده الله عن سبيل الهدى. ومن قرأ: وصد بنى الفعل لفرعون، أراد وصد فرعون الناس عن السبيل، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} [غافر: 37] في إبطال آيات موسى، {إِلا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] خسار وهلاك. ثم عاد الكلام إلى ذكر نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] طريق الهدى. {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [غافر: 39] يعني: الحياة في هذه الدار، متاع يتمتع بها أياما، ثم تنقطع، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] التي تستقر فلا تزول. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} [غافر: 40] يعني: الشرك، {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [غافر: 40] في العظم، يعني: النار، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [غافر: 40] قال ابن عباس: يريد قول: لا إله إلا الله. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر: 40] مصدق بالله وبجميع الأنبياء، {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] قال مقاتل: يقول: لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير. ثم قال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ {41} تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {42} لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ {45} النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ {46} } [غافر: 41-46] . {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: 41] أي: ما لكم، كما تقول: ما لي أراك حزينا، معناه: ما لك. يقول: أخبروني عنكم كيف هذه الحال، {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: 41] من النار، بالإيمان بالله، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] إلى الشرك الذي يوجب النار. ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42] بأنه شريك له، {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} [غافر: 42] في انتقامه ممن كفر، الغفار لذنوب أهل التوحيد. لا جرم حقا، {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [غافر: 43] من المعبودين من دون الله، {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر: 43] قال السدي: لا يستجيب لأحد لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

والتقدير: ليس له استجابة دعوة، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر: 43] مرجعنا ومصيرنا إليه، فيجازي كلا بما يستحقه، وأن المسرفين المشركين، {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ} [غافر: 43-44] إذا نزل بكم العذاب، {مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: 44] في الدنيا من النصيحة، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] لا أشتغل بمجازاتكم، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] بأوليائه، وأعدائه. ثم خرج المؤمن من بينهم، فطلبوه، فلم يقدروا عليه، وذلك قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] ما أرادوا به من الشر، وحاق أحاط، ونزل بهم، سوء العذاب قال الكلبي: غرقوا في البحر، ودخلوا النار. وذلك قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] ،

قال ابن مسعود: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار كل يوم مرتين، فيقال: يا آل فرعون هذه داركم. وقال مقاتل: تعرض روح كل كافر على النار، غدوا وعشيا ما دامت الدنيا. وهو قول قتادة، والسدي، والكلبي. 808 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ الْمُسْتَفَاضِ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنَ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة، فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر: 46] أي: يقال للملائكة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . ومن قرأ بالوصل، فهو على الأمر لهم بالدخول، قال ابن عباس: يريد ألوان العذاب، غير الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا. قوله:

{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ {47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ {48} وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ {49} قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {50} } [غافر: 47-50] . وإذ يتحاجون واذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون، يعني: أهل النار، في النار والآية مفسرة في { [إبراهيم. ] قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [سورة غافر: 48] وهم القادة والرؤساء، {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر: 48] نحن وأنتم، أي: الملوك والأتباع، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] وقضى بهذا علينا وعليكم. فلما ذاقوا شدة العذاب، قالوا لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] فاحتج عليهم الخزنة في ترك التخفيف عنهم، بإتيان الرسل إياهم، وتركهم الإجابة، وهو قوله: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} [غافر: 50] أنتم، أي: إنا لا ندعو لكم بالتخفيف، لأنهم علموا أن الكفار لا يخفف عنهم العذاب، قال الله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [غافر: 50] أي: أن ذلك يبطل ويضل، فلا ينفع. قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {52} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ {53} هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ {54} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ {55} } [غافر: 51-55] . {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] النصر قد يكون بالحجة، ويكون بالغلبة والقهر، ويكون بإهلاك العدو، وكل هذا قد كان للأنبياء والمؤمنين من قبل الله تعالى، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم، وقد نصرهم بإهلاك عدوهم،

وأنجاهم مع من آمن معهم، وقد يكون نصر بالانتقام لهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل، حتى قتل به سبعون ألفا، فهم لا محالة منصورون في الدنيا بأحد هذه الوجوه، وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] يعني: يوم القيامة، تقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ، وعلى الكفار بالتكذيب، وواحد الأشهاد شاهد مثل طائر وأطيار. ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] إن اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة، ولهم اللعنة البعد من الرحمة، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] جهنم. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} [غافر: 53] قال مقاتل: الهدى من الضلالة، يعني: التوراة، وأورثنا من بعد موسى، {بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر: 53] وما فيه من البيان. هدى أي: هو هدى، وذكرى وتذكير، لأولي الألباب. قوله: فاصبر على أذاهم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 55] في نصرتك، وإظهار دينك، {حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] يعني: الصغائر على قول من جوزها على الأنبياء، وعند من لا يجوزها، يقول: هذا تعبد من الله لنبيه بهذا الدعاء، لكي يزيده درجة، وليصير سنة لمن بعده، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر: 55] وصل شاكرا لربك، بالعشي والإبكار قال ابن عباس: يريد الصلوات الخمس. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {57} وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ {58} إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {59} } [غافر: 56-59] . قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 56] يعني: كفار قريش، وقد تقدم تفسير هذا، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} [غافر: 56] قال ابن عباس: ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من العظمة. {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] مقتضى ذلك الكبر، لأن الله تعالى مذلهم، وقال ابن قتيبة: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} [غافر: 56] تكبر على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك. فاستعذ بالله من شرهم، وكرهم، {إِنَّهُ

هُوَ السَّمِيعُ} [غافر: 56] لقولهم، البصير بهم. ثم نبه على عظم قدرته، بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [غافر: 57] مع عظمهما، وكثرة أجزائهما، ووقوفهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، أعظم في النفس، وأهول في الصدر، {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وإن كان عظيما بالحواس المهيأة للإدراك، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] يعني: الكفار حين لا يستدلون بذلك على توحيد خالقهما. ثم ضرب مثل الكافر والمؤمن، فقال: وما يستوي إلى قوله: {قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58] يعني: الكفار، يقول: قل نظرهم فيما ينبغي أن ينظروا فيه مما دعوا إليه. وقرأ أهل الكوفة بالتاء، أي: قل لهم ذلك. قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {60} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {61} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {62} كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {63} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {64} هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {65} } [غافر: 60-65] . وقال ربكم قال مقاتل: يعني: لأهل الإيمان. {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال ابن عباس: وحدوني واعبدوني أثبكم. ويدل على صحة هذا التفسير: 809 - مَا أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رُحَيمٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يَسِيعَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الآية. والدعاء بمعنى: العبادة

كثير في التنزيل، ولما عبر عن العبادة بالدعاء، جعل الإثابة استجابة ليتجانس اللفظ، ويدل على هذه الجملة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] صاغرين ذليلين. ثم ذكرهم النعم، فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر: 61] الآية، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64] أي: موضع قرار، كما قال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} [الأعراف: 25] . والسماء بناء سقفا كالقبة، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] قال مقاتل: خلقكم فأحسن خلقكم. وقال ابن عباس: خلق ابن آدم قائما معتدلا، يأكل بيده ويتناول بيده، وكل ما خلق الله يتناول بفيه. وقال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64] يعني: من غير رزق الدواب، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر: 64] الذي فعل ذلك الذي ذكر كله، وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين. يريد قول الله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] . {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {66} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {67} هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {68} } [غافر: 66-68] . قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] الآية أكثرها مفسر في { [الحج، وقوله:] وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى} [سورة غافر: 67] قال ابن عباس: يريد أجل الحياة إلى الموت، فلكل أجل حياته تنتهي إليه. ولعلكم تعقلون ولكي تعقلوا توحيد ربكم، وقدرته في خلقكم وله. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ {69} الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {70} إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ {71} فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ

يُسْجَرُونَ {72} ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ {73} مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ {74} ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ {75} ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {76} } [غافر: 69-76] . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 69] يعني: القرآن أنه ليس من عند الله، وهم المشركون، أنى يصرفون كيف صرفوا عن دين الله، الذي هو الحق إلى الباطل؟ ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} [غافر: 70] بالقرآن، {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر: 70] من التوحيد، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم. قوله: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] يجرون. {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] قال مقاتل، ومجاهد: توقد بهم النار. فصاروا وقودها. {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ} [غافر: 73] على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [غافر: 73] . {مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [غافر: 74] فقدناهم فلا نراهم، {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] أي: شيئا ينفع ويضر، كما يقول من ضاع عمله: ما كنت أعمل شيئا، كذلك أي: كما أضل هؤلاء، {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 74] . ذلكم العذاب الذي نزل بكم، {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر: 75] أي: الباطل الذي كنتم تشتغلون به، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] قال مقاتل: يعني: البطر والخيلاء. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ {77} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ {78} } [غافر: 77-78] .

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 77] بنصرك، {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [غافر: 77] الآية مفسرة في { [الرعد. وقوله:] وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة غافر: 78] بأمر الله تعالى، وبإرادته، وذلك أن كفار مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بآية، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر: 78] قضاؤه بين أنبيائه وأممهم، قضي بالحق أي: لم يظلموا إذا عذبوا، وهو قوله: وخسر هنالك عند كذلك، المبطلون المكذبون بالعذاب والمفترون، والمبطل: صاحب الباطل. ثم ذكر منته عليهم بقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {79} وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ {80} وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ {81} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {82} } [غافر: 79-82] . {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ} [غافر: 79] إلى قوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80] قال مجاهد، ومقاتل: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد ما كانت. {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر. ويريكم آياته أي: دلائل قدرته، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81] استفهام توبيخ، يقول: أيها تنكرون، بأنها ليست من الله؟ ثم ذكر أن الرسل أتت من قبلهم، وأنهم لم يؤمنوا، بقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا

رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ {85} } [غافر: 83-85] . {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] رضوا بما عندهم من العلم، وقالوا: نحن أعلم لن نبعث، ولن نعذب. وسمي ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه، وهو في الحقيقة جهل. وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] قال ابن عباس: يريد هذا قضائي في خلقي، أن من كذب أنبيائي، وجحد ربوبيتي، فإذا نزل به العذاب استكان، وتضرع، لم ينفعه ذلك عندي. والمعنى: سن الله هذه السنة في الأمم كلها، أن لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 85] قال ابن عباس: هلك عند ذلك المكذبون. وقال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه لم يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

تفسير سورة حم السجدة

تفسير سورة حم السجدة مكية، وهي خمسون وأربع آيات. 810 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم السَّجْدَة أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدِدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ» {حم {1} تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3} بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {4} وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5} } [فصلت: 1-5] . بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} } [فصلت: 1-2] قال الأخفش، والزجاج: تنزيل مبتدأ، وخبره قوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 3] . بين حلاله وحرامه، {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] اللسان العربي. بشيرا لأولياء الله تعالى، ونذيرا لأعدائه، فأعرض أكثرهم أكثر أهل مكة، {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4] تكبرا عنه. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] مثل الكنانة التي فيها السهام، فهي لا تفقه ما تقول، ولا يصل إليها دعاؤك، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ثقل وصمم، يمنع من استماع قولك، والمعنى: إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يعقل، ولا يسمع قولك، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] أي: بيننا وبينك فرقة في الدين، وحاجز في النحلة فلا نوافقك على ما تقول، وقال مقاتل: إن أبا جهل رفع ثوبه بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد، أنت من ذلك الجانب، ونحن من هذا الجانب. فاعمل

أنت على دينك ومذهبك، إننا عاملون على ديننا ومذهبنا. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ {6} الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {8} } [فصلت: 6-8] . {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] أي: إنما أنا كواحد منكم، ولولا الوحي ما دعوتكم، وهو قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت: 6] لا تميلوا عن سبيله، وتوجهوا إليه بالطاعة، واستغفروه من الشرك، ثم توعدهم، فقال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ {6} الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6-7] قال ابن عباس في رواية عطاء، وعكرمة: لا يقولون: لا إله إلا الله. والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها، ولا يؤمنون بها. وقال الكلبي: عابهم الله بها، وقد كانوا يحجون ويعتمرون. وقال قتادة: كان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها برئ ونجا، ومن لم يقطعها هلك. ثم أخبر عنهم

بأعظم من هذا، فقال: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {8} } [فصلت: 7-8] غير مقطوع، ولا منقوص. ثم وبخهم على كفرهم، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ {10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12} } [فصلت: 9-12] . {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] الأحد والاثنين، {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9] تتخذون معه آلهة، ذلك الذي فعل ما ذكر، {رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9-10] جبالا ثوابت من فوق الأرض، وبارك فيها بالأشجار، والثمار، والحبوب، والأنهار. {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] قال الحسن، ومقاتل: وقسم في الأرض أرازق العباد والبهائم. وقال الكلبي: قدر الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والسمك لأهل قطر. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] أي: في تتمة أربعة أيام، ويعني: الثلاثاء والأربعاء، وهما مع الأحد والاثنين أربعة، سواء نصب على المصدر، على معنى: استوت سواء واستواء، كما تقول: في أربعة

أياما تماما، ومن خفض فعلى النعت للأيام، ومن رفع فعلى معنى: هي سواء، للسائلين قال السدي، وقتادة: سواء لا زيادة ولا نقصان، جوابا لمن سأل: في كم خلقت الأرض والأقوات؟ فيقال: في أربعة أيام. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] عمد، وقصد إلى خلقها، وهي دخان قال السدي: كان ذلك الدخان من نفس الماء، حين تنفس خلقها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبعا في يومين الخميس والجمعة. {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] أي: ائتيا ما آمركما، أي: افعلاه، كما يقال: إيت ما هو الأحسن، أي: افعله، قال المفسرون: إن الله تعالى، قال: أما أنت يا سماء، فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض، فشققي أنهارك، وأخرجي ثمارك ونباتك، قال لهما: افعلا ما آمركما طوعا، وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها. قال الزجاج: أطيعا طاعة، أو تكرهان كرها، فأطاعتا وأجابتا بالطوع. وهو قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أي: أتينا أمرك طائعين، ولما ركب الله فيهن العقول، وخوطبن خطاب من يعقل، جمعهن جمع من يعقل، كما قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . فقضاهن صنعهن وأحكمهن، وفرغ من خلقهن، {سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] قال مقاتل: وأمر في كل سماء بما أراد. وقال عطاء، عن ابن عباس: خلق في كل سماء من الملائكة، والبرد، والثلوج، وما لا يعلمه إلا الله. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت: 12] وحفظناها من استماع الشياطين

بالكواكب حفظا، ذلك الذي ذكر من صنعه، تقدير العزيز في ملكه، العليم بخلقه. قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13} إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {14} } [فصلت: 13-14] . فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان، {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] هلاكا مثل هلاكهم، والصاعقة: المهلكة من كل شيء. {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 14] أتت الرسل آباءهم، ومن كان قبلهم، ومن خلفهم من خلف الرسل، الذين بعثوا إلى آبائهم رسل إليهم أن لا، بأن لا، {تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14] أي: لو شاء ربنا دعوة الخلق، لأنزل ملائكة، ثم أظهروا الكفر بهم، وهو قولهم: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14] . ثم قص قصة عاد وثمود، فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ {16} وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {17} وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {18} } [فصلت: 15-18] . {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت: 15] تكبروا عن الإيمان وعملوا، بغير الحق وأعجبتهم أجسامهم، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وذلك أن هودا هددهم بالعذاب، فقالوا: نحن نقدر على دفعه عنا، بفضل قوتنا. فقال الله تعالى، ردا عليهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] يكفرون بحججنا عليهم. ثم ذكر عذابهم، بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16] عاصفا، شديدة الصوت، من الصرة وهي: الصيحة، وقال ابن عباس: وهي الباردة من الصر، وهي: البرد. وقال الفراء: هي الباردة، تحرق كما تحرق النار. {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] نكدات مشئومات، ذات نحوس،

قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بتلك الأيام. والقراء قرءوا بكسر الحاء وسكونها، قال الزجاج: من قرأ بكسر الحاء فواحدها نحس، ومن قرأ بالسكون فواحدها نحس. {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت: 16] أي: عذاب الهوان والذل، وهو العذاب الذي يخزون به، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16] أشد إهانة، {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16] أي، لا يمنعون من العذاب. ثم ذكر قصة ثمود، فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] قال ابن عباس: بينا لهم سبيل الهدى. وقال مجاهد: دعوناهم. وقال الفراء: دللناهم على مذهب الخير، أي: بإرسال الرسول. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فاختاروا الكفر على الإيمان، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت: 17] أي: ذي الهوان، وهو الذي يهينهم ويخزيهم، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] من تكذيبهم صالحا، وعقرهم الناقة. قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {19} حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {21} وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23} } [فصلت: 19-23] . {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] يحبس أولهم على آخرهم، ليتلاحقوا، والمعنى: إذا حشر أعداء الله، وقفوا. {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت: 20] جاءوا النار التي حشروا إليها، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} [فصلت: 20] قال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتبت الألسن، من عملهم بالشرك. 811 - أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أَنَّ

أَبَا الْفَرَجِ الْقَاضِي أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ، أنا شَرِيكٌ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّا ضَحِكْتُ؟ قَالُوا: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: فَإِنَّ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنِّي لا أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلا مِنْ نَفْسِي، قَالَ: أَوَلَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا وَبِالْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَجَرْتَنِي مِنَ الظُّلْمِ فَلَنْ أُجِيزَ الْيَوْمَ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلا مِنْ نَفْسِي. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجَادِلُ. وقوله: {وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20] قال ابن عباس: يريد فروجهم. وهو قول الجميع. قالوا: كنى الله تعالى عنها بالجلود. {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أي: مما ينطق، وتم الكلام، ثم قال الله تعالى: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: 21] وليس هذا من جواب الجلود. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ} [فصلت: 22] أي: من أن يشهد، عليكم لأنكم ما كنتم تظنون ذلك، ولكن ظننتم الآية، قال ابن عباس: إن الكفار كانوا يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما نظهر. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ} [فصلت: 23] أي: ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون، أرداكم أهلككم. وقال ابن عباس: طرحكم في النار. ثم أخبر عن حالهم، فقال:

{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ {24} وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ {25} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ {26} فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {28} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ {29} } [فصلت: 24-29] . فإن يصبروا أي: على النار، {فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت: 24] مسكن، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24] أن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون، لم يرجع بهم، لأنهم لا يستحقون ذلك، يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إياي، واستعتبته: طلبت منه أن يعتب، أي: يرضى. قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] قال مقاتل: هيأنا لهم. قرناء من الشياطين، وقال الزجاج: سببنا لهم حتى أضلوهم. وهو قوله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25] من أمر الآخرة، أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات، وجمع الأموال، وترك النفقة في وجوه البر، وباقي الآية قد تقدم تفسيره. قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ} [فصلت: 26] أي: لا تستمعون، وعارضوه باللغو والباطل، وهو قوله: والغوا فيه يقال: لغى يلغي لغا فهو لغ، واللغا واللغو كل كلام لا وجه له، ولا فائدة فيه، وكان الكفار يوصي بعضهم بعضا، إذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه، فارفعوا أصواتكم، حتى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكنون، وهو قوله تعالى: لعلكم تغلبون فيسكنون، قال مقاتل: لكي تغلبوهم فيسكنون. ثم وعدهم الله تعالى بقوله: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي} [فصلت: 27] . قال مقاتل: بأسوأ ما. كانوا يعملون وهو الشرك. ذلك العذاب الشديد، {جَزَاءُ

أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت: 28] وقوله: النار بدل من قوله: {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت: 28] ثم ذكر أن إقامتهم فيها دائمة، أي: فقال لهم فيها في النار، دار الخلد دار الإقامة، لا انتقال منها، جزاء أي: للجزاء، {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 28] قال مقاتل: يعني: القرآن يجحدون أنه من عند الله. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 29] أي: في النار، يقولون: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت: 29] يعنون: إبليس وقابيل، لأنهما سنا المعصية، {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] أسفل منا في النار، ليكونا في الدرك الأسفل من النار، قال ابن عباس: ليكونا أشد عذابا منا. ثم ذكر المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ {32} وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {33} } [فصلت: 30-33] . {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: استقاموا على أن الله ربهم. 812 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ، نا زُهَيْرٌ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانَ، أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ

أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ قَرَأَ عَلَيْهِ رَجُلٌ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الاسْتِقَامَةُ؟ قَالَ: الاسْتِقَامَةُ أَنْ لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الذَّيِنَ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَوْهُ. 813 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، " مُرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا ". وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ 814 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي الْمُطَّوِعِيِّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَاصِمٍ، نا الْجَرَّاحُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، نا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، نا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فَقَالَ: " قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا. وذهب كثير من المفسرين إلى: أن الاستقامة على طاعة الله، وأداء فرائضه، ولزوم السنة. قال الكلبي، عن ابن عباس: استقاموا على ما فرض عليهم. وروى الزهري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه تلا هذه الآية، فقال: «استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب» . وقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت: 30] قال ابن عباس: عند الموت. وقال قتادة، ومقاتل: إذا قاموا من قبورهم. ألا بأن لا، تخافوا من الموت، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل وولد، وروى جعفر، عن ثابت، أنه قال: بلغنا أنه إذا انشقت الأرض يوم القيامة، نظر المؤمن إلى حافظيه، قائمين على رأسه، يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، نحن أولياؤك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أبشر يا ولي الله، إنك سترى اليوم أمرا لم تر مثله، فلا يهولنك، وإنما يراد به غيرك. قال ثابت: فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة، إلا وهي لكل مؤمن قرة عين لما هداه الله في الدنيا. وقال مجاهد: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر دنياكم، من ولد أو أهل أو دين، فإنه سيخلفكم في ذلك كله. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت: 31] هذا من قول الملائكة للمؤمنين، يقولون: نحن الحفظة الذين كنا معكم في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يقولون: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. ولكم فيها في الآخرة، {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت: 31] من الكرامات واللذات، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] تتمنون، كقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وقد مر. نزلا يجوز أن يكون جمع نازل، ويكون المعنى: ولكم فيها ما تدعون {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] نازلين، ويجوز أن يراد به: القوت الذي

يقام للنازل والضيف، والمعنى: ثبت لهم ما يدعون {نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] . قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] قال ابن عباس: هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الحسن: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته. وعمل صالحا في إجابته، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] لربي، وقالت عائشة رضي الله عنها: «أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين» . وقال عطاء: وعمل صالحا: قام لله بحقه وفرائضه. وقال قيس بن أبي حازم: هو الصلاة بين الأذان والإقامة. {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {35} وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {36} } [فصلت: 34-36] {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] لا الثانية زائدة، لأن المعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة، يعني: الصبر والغضب، والحلم والجهل، والعفو والإساءة، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] كدفع الغضب بالصبر، والإساءة بالعفو، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ

وَبَيْنَهُ} [فصلت: 34] أي: فإذا فعلت ذلك، ودفعت السيئة بالتي هي أحسن، صار {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} [فصلت: 34] كالصديق القريب، وقال عطاء: التي هي أحسن: السلام إذا لقي من يعاديه، سلم عليه ليلين له. وقال مقاتل بن حيان: هو أبو سفيان بن حرب، وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام، حميما بالقرابة. وما يلقاها قال الزجاج: وما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة، وهي دفع السيئة بالحسنة. {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] في الثواب والخير، وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة، أي: ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة. ثم أمره أن يستعيذ بالله إن صرفه الشيطان عن الاحتمال، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ} [فصلت: 36] الآية مفسرة في آخر { [الأعراف. ثم ذكر علامات توحيده، ودلالات قدرته، فقال:] وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {37} فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ

وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ {38} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} } [سورة فصلت: 37-39] . {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] الآية ظاهرة. فإن استكبروا تكبروا عن عبادتي، والسجود لي، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38] يعني: الملائكة، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت: 38] يصلون له، وينزهونه عن السوء، {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لا يملون، ويفترون. ومن آياته دلائل قدرته، {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39] قال الأزهري: إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل: قد خشعت. قال ابن عباس: مقشعرة. {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} [فصلت: 39] تحركت بالنبات، وهذا مفسر فيما سبق. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {40} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41} لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42} مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ {43} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {44} } [فصلت: 40-44] . {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت: 40] تقدم تفسير الإلحاد، وقال مقاتل: يميلون عن الإيمان بالقرآن. وقال مجاهد: {يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت: 40] بالمكاء، واللغط. {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] أي: إنا نعلمهم، فنجازيهم بما يعملون، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} [فصلت: 40] وهو أبو جهل، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] وهو حمزة، ثم هددهم بقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فصلت: 41] بالقرآن، لما جاءهم ثم أخذ في وصف الذكر، وترك جواب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 41] على تقدير: إن

الذين كفروا بالذكر، يجازون بكفرهم، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] قال الكلبي: كريم على الله. وقال قتادة: أعزه الله، فلا يجد الباطل إليه سبيلا. وهو قوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] قال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله. وهو قول الكلبي. وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. وهذا قول قتادة، والسدي. ومعنى الباطل على هذا: الزيادة والنقصان. {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] في خلقه، حميد إليهم. ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تكذيبهم، فقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] قال قتادة: يقول: قد قيل للأنبياء من قبلك: ساحر، وكذبوا كما كذبت. {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} [فصلت: 43] لمن آمن، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43] أليم لمن كذبك. قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] لو جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب، {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] هلا بينت آياته بالعربية، حتى نفهمه، أأعجمي وعربي أكتاب أعجمي ونبي عربي؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار، أي: أنهم كانوا يقولون: المنزل عليه عربي، والمنزل أعجمي، فكان ذلك أشد لتكذيبهم، قل لهم يا محمد: هو أي: القرآن، {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} [فصلت: 44] من الضلالة، وشفاء من الأوجاع، وقال مقاتل: شفاء لما في القلوب، للبيان الذي فيه، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} [فصلت: 44] لأنهم صم عن استماع القرآن، والانتفاع بما فيه من البيان، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] قال قتادة: عموا عن القرآن، وصموا عنه. وقال السدي: عميت قلوبهم عنه. والمعنى: وهو عليهم ذو عمى، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] أي: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع، ولم يفهم، قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادي من مكان بعيد. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي

شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {45} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {46} إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ {47} وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ {48} } [فصلت: 45-48] . قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [فصلت: 45] هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: كما آتيناك الكتاب، فكذب به قومك، وصدق بعضهم، آتينا موسى الكتاب، فمن مكذب به، ومن مصدق، وهو قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت: 45] في تأخير العذاب عن مكذبي القرآن إلى أجل مسمى، يعني: القيامة، لقضي بينهم بالعذاب الواقع لمن كذب، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [فصلت: 45] من صدقك، وكتابك، مريب موقع لهم الريبة. قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47] أخبر أن علم القيامة متى يقوم عند الله، لا يعلمه غيره، فعلمها إذا سئل عنها مردود إليه، وما تخرج من ثمرة من أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة، واحدها كم، وقرئ ثمرات، والإفراد يدل على الكثرة، فيستغنى به عن الجمع، ويوم يناديهم ينادي الله تعالى المشركين، أين شركائي أي: في قولكم وزعمكم، كما قال: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] ، قالوا آذناك أعلمناك، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت: 47] شاهد بأن لك شريكا، يتبرءون يومئذ من أن يكون مع الله شريك. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت: 48] زال وبطل في الآخرة، ما كانوا يعبدون في الدنيا، وظنوا علموا وأيقنوا، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] فرار عن النار. قوله: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ {49} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ {50} وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ {51} } [فصلت: 49-51] .

{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] لا يمل الكافر، ولا يزال يسأل ربه الخير والمال، والغنى، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت: 49] البلاء، والشدة، والفقر، فيئوس قنوط شديد اليأس، قنوط من روح الله. {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} [فصلت: 50] ولئن آتيناه خيرا، وعافية، وغنى، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به. وكل هذا من أخلاق الكافر حب المال، والغنى، غير سائم منه، حتى إذا مسه الشر، صار إلى حال الآيس، فإذا عاد إليه المال، نسي أن الله هو المتفضل عليه بما أعطاه، فيبطر ويظن أنه المستحق لذلك، ثم يشك في البعث، فيقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت: 50] ثم يتوهم أن له مع كفره في الآخرة منزلة، فيقول: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} [فصلت: 50] أي: لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك، ورددت إلى ربي، {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا، سيعطيني في الآخرة الجنة، قال الله تعالى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} [فصلت: 50] قال ابن عباس: لنقفنهم يوم القيامة على مساوئ أعمالهم. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ} [فصلت: 51] مفسر في { [بني إسرائيل، قوله:] فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [سورة فصلت: 51] أي: كثير، والمعنى: أنه يسأل ربه أن يكشف ما به، لا يمل من الدعاء في الشدة، ويعرض عن الدعاء في الرخاء. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {52} سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ {54} } [فصلت: 52-54] . قل يا محمد لأهل مكة، {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} [فصلت: 52] القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} [فصلت: 52] خلاف للحق، بعيد عنه، وهو أنتم، أي: فلا أحد أضل منكم. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت: 53] ما يفتح من القرى على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللمسلمين في النواحي والأطراف، وفي أنفسهم يعني: فتح مكة، وهذا قول مجاهد، والسدي، والحسن، قالوا: هي ظهور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الآفاق، وعلى مكة. يقول: يفتح القرى ومكة على محمد، حتى يعرفوا

أن الذي أتى به من القرآن هو من عند الله، لأنهم بذلك يعرفون أنه مؤيد من قبل الله، بعد ما كان واحدا لا ناصر له، وهو قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أي: أن القرآن من عند الله، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] قال مقاتل: أولم يكف بربك شاهدا أن القرآن من الله. قال الزجاج: ومعنى الكفاية ههنا: أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة. والمعنى: أولم يكف بربك، لأنه على كل شيء شهيد، شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء. {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54] في شك من البعث، والثواب والعقاب، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54] أحاط بكل شيء علما، لأنه عالم الغيب والشهادة.

تفسير سورة حم عسق

تفسير سورة حم عسق مكية، وهى خمسون وثلاث آيات. 815 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعرافِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشروطي، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {حم {1} عسق {2} } [الشورى: 1-2] كَانَ مِمَّنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْتَرْحِمُونَ لَهُ ". بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} عسق {2} كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {3} لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {4} تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {5} وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {6} } [الشورى: 1-6] . حم عسق روى عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: ح: حلمه، م: مجده، ع: علمه، س: سناؤه، ق: قدرته، أقسم الله تعالى بها. {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد إخبار الغيب. وما يكون قبل أن يكون أوحي إليك وإلى الذين من قبلك، والمعنى: كالوحي الذي تقدم، يوحي إليك إخبار الغيب، وقرأ ابن كثير يوحى بضم الياء وفتح الحاء، وحجته قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر: 65] ،

وقوله: {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] على هذه القراءة تبيين للفاعل، كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله. {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [الشورى: 5] يريد كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها، من قول المشركين: اتخذ الله ولدا. نظيرها التي في آخر { [مريم،] وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الشورى: 5] ينزهونه عما لا يجوز في صفته، ويعظمونه، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] قال ابن عباس: للمصدقين بالله ورسوله. قال قتادة: للمؤمنين منهم. {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] لأوليائه، وأهل طاعته. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: 6] يعني: كفار مكة، اتخذوا آلهة، فعبدوها من دون الله، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] حافظ على أعمالهم، ليجازيهم بها، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6] لم نوكلك بهم، حتى تؤاخذ بهم. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ {7} وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {8} أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {9} } [الشورى: 7-9] . وكذلك ومثل ما ذكرنا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] ليفهموا ما فيه، {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] أي: أهل أم القرى، وهي مكة، سميت أم القرى، لأن الأرض دحيت من تحتها، ومن حولها يعني: قرى الأرض كلها، {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} [الشورى: 7] وتنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين، وأهل السموات وأهل الأرض، {لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7] لا شك في الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرقون، وهو قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] قال ابن عباس: فريق في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفريق في السعير يعذبون.

816 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبُحْتُرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَسْمِيَةُ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ، وَقَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ تَسْمِيَةُ أَهْلِ النَّارِ وَتَسْمِيَةُ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ. قَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ عَامِلَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ عَامِلَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ". ثم ذكر سبب افتراقهم، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8] قال ابن عباس: على دين واحد. وقال مقاتل: على ملة الإسلام. كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] فبين لهم أنهم افترقوا بالمشيئة الأزلية، {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] في دينه الإسلام، والظالمون الكافرون، {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ} [الشورى: 8] يدفع عنهم العذاب، ولا نصير يمنعهم من النار. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: 9] بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء، {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] قال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك. {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى} [الشورى: 9] يبعثهم للجزاء، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الشورى: 9] من الإحياء، وغيره، قدير. قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10} فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ

شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {11} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {12} } [الشورى: 10-12] . {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] قال الكلبي: أي من أمر الدين. {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] أي: يقضي فيه، وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم، فقال الله تعالى: الذي اختلفتم فيه، فإن حكمه إلي، أحكم فيه. يعني: يوم القيامة، يحكم للمؤمنين بالقرآن بالجنة، وللمكذبين به بالنار، وقيل: إن هذا عام فيما اختلف فيه العباد، يحكم الله فيه يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب، ويبطل الاختلاف، ذلكم الله الذي يحكم بين المختلفين، هو {رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [الشورى: 10] في كفاية مهماتي، وإليه أنيب أرجع في المعاد. {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 11] تقدم تفسيره، {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] جعل لكم مثل خلقكم نساء، {وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] أصنافا: ذكورا وإناثا، أي: خلق الذكر والأنثى من الحيوان كله، يذرؤكم فيه يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، وذلك أنه جعل سبب خلقنا الأزواج، والكفاية في قوله: فيه تعود إلى الجعل المراد بقوله: جعل لكم، وقال الزجاج: المعنى: يذرؤكم به، أي: يجعله منكم، ومن الأنعام أزواجنا. وهذا قول الفراء، جعل في بمعنى: الباء. وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال ابن عباس: ليس له نظير. والكاف مؤكدة، والمعني: ليس مثله شيء، وهو السميع لما يقال، البصير بأعمال الخلق. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 12] قال ابن عباس: يريد مفاتيح الرزق في السموات والأرض. وقال الكلبي: مقاليد السموات: خزائن المطر، وخزائن الأرض النبات. والمعنى: أنه يقدر على فتحها، يملك فتح السماء بالمطر، والأرض بالنبات، يدل على هذا قوله: {يَبْسُطُ

الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] لأن مفتاح الرزق بيده، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الشورى: 12] من البسط والقدر، عليم. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} } [الشورى: 13-15] . شرع لكم بين لكم، وأوضح، {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] يعني: التوحيد، والبراءة من الشرك، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] من القرآن، وشرائع الإسلام، وما وصينا وشرع لكم، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] ، ثم بين ما وصى به هؤلاء، فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى: 13] قال مقاتل: يعني: التوحيد. {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] يقول: لا تختلفوا في التوحيد، وقال مجاهد: يعني: أنه شرع لكم، ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] قال ابن عباس: من توحيد الله تعالى، والإخلاص له وحده لا شريك له. وقال مقاتل: عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه من التوحيد، لأنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . ثم خص أولياءه بقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] يصطفي الله من عباده لدينه من يشاء، ويهدي إلى دينه، من ينيب من يقبل إلى طاعته، واتبع دينه. ثم ذكر تفرقهم بعد الإيصاء بترك الفرقة، فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14] أي: ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي، وهو قوله: بغيا بينهم قال عطاء: بغيا منهم على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [الشورى: 14] في تأخير المكذبين من هذه الأمة، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] يعني: يوم القيامة، لقضي بينهم بين من آمن، وبين من كفر، يعني: لنزل العذاب بالمكذبين في

الدنيا، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} [الشورى: 14] يعني: اليهود والنصارى، من بعدهم من بعد أنبيائهم، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [الشورى: 14] من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ} [الشورى: 14-15] قال الفراء، والزجاج: فإلى ذلك فادع، كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان. وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15] على الدين الذي أمرت به، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] أهواء أهل الكتاب، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، وقل لهم: {آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15] أي: آمنت بكتب الله كلها، {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] قال ابن عباس: أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم في الأحكام. ومعنى العدل بينهم في الأحكام: هو أنهم إذا ترافعوا إليه، لم يلزمهم شيئا، لا يلزمهم الله، {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] أي: إلهنا واحد، وإن اختلفت أعمالنا، فكل يجازى بما يعمل، وهو قوله: لنا أعمالنا أي: ثوابها، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] لا خصومة، وهذا قبل أن أمر بالقتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة، لم تكن بينه وبين من لا يجيب خصومة، ولا قتال، ثم ذكر مصير الفريقين إلى الله، فيجازي كلا بعمله وهو قوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] . {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] . {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} [الشورى: 16] يخاصمون في دين الله نبيه، قال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا فبل نبيكم، فنحن خير منكم. فهذه خصومتهم، وإنما قصدوا بما قالوا دفع ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} [الشورى: 16] أي: من بعد ما دخل الناس في الإسلام، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] خصومتهم باطلة حين زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] في الآخرة. {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ {17} يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا

يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {18} اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {19} } [الشورى: 17-19] . {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الشورى: 17] القرآن، بالحق بما ضمنه من الأمر والنهي، والفرائض، والأحكام وكله حق من الله تعالى، وقوله: والميزان قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل: العدل. وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف، والتسوية بين الخلق، قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالوفاء، ونهى عن البخس. وقال مقاتل: وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ تكذيبا بها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] . وقد تقدم هذا في آخر { [الأحزاب. ] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [سورة الشورى: 18] لأنهم لا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بها، فهم يطلبون قيامها إبعادا لكونها، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] قال مقاتل: لأنهم لا يدرون على ما يهجمون. وقال الزجاج: لأنهم يعلمون أنهم محاسبون، ومجزيون. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] أنها آتية لا ريب فيها، {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ} [الشورى: 18] يدخلهم المرية والشك، {فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18] حين لم يفكروا، فيعلموا أن الله الذي خلقهم أولا، قادر على بعثهم. {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] حفي، بار، رفيق بأوليائه وأهل طاعته، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، لا يهلكهم جوعا. يدل على هذا قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19] فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر،

وذي روح، فهو ممن شاء الله أن يرزقه، وهو القوي على ما أراد من رزقه من يرزقه، العزيز الغالب، فلا يغلب فيما أراد. قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ {20} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {21} تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {22} } [الشورى: 20-22] . {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} [الشورى: 20] معنى الحرث في اللغة: الكسب، يقال: هو يحرث لعياله ويحترث، أي: يكتسب، قال ابن عباس: من كان يريد العمل لله بما يحب الله، ويرضى. {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] أعينه على عبادتي، وأسهل عليه، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] أي: من كان يسعى لدنياه، وآثرها على آخرته، نؤته منها قال قتادة: أي: بقدر ما قسم له، كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] . {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لأن عمل لدنياه، لا لآخرته، وهذا يعني به الكافر. قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [الشورى: 21] يعني: كفار مكة، يقول: ألهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ قال ابن عباس: شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام. {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] لولا أن الله تعالى حكم في كلمة الفصل بين الخلق، بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة، لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا، وإن الظالمين الذين يكذبونك، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] في الآخرة. ترى الظالمين يعني: في الآخرة، مشفقين خائفين، مما كسبوا من الكفر والتكذيب، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] أي: وجزاؤه واقع بهم، قال الزجاج: وجزاء كسبهم واقع بهم. وباقي الآية ظاهر التفسير. قوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ {23} أَمْ يقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى

قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {24} وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {25} وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {26} } [الشورى: 23-26] . {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ} [الشورى: 23] يعني: ما تقدم ذكره من الجنات، يبشر الله به، {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] ، وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] . 817 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمُؤَمَّلُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وقال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس فسأله، فكتب ابن عباس: " إن رسول الله كان أوسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه، فقال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ} [الشورى: 23] على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها. وقال عكرمة: لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الحق، إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم، قال: وليس كما يقول الكذابون.

أخبرنا محمد بن عبد العزيز المروزي فيما كتب إلي، أنا محمد بن الحسين الحدادي، أنا محمد بن يزيد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا علي بن عبد الله مولى بني قراد، عن عبد الكريم وهو أبو أمية، قال: سألت مجاهدا عن هذه الآية، فقال: " أما إني لا أقول قول الخشبية، يقول: يا معشر قريش، لا أسألكم على ما أقول أجرا، ارقبوني في الذي بيني وبينكم، لا تعجلوا إلي، ودعوني والناس ". وهذا قول قتادة، ومقاتل، والسدي، والضحاك، وابن زيد، ورواية الوالبي، والعوفي، عن ابن عباس. وقال الحسن: إلا أن توددوا إلى الله تعالى، فيما يقربكم إليه من العمل الصالح. 818 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، نا حَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، نا قَزَعَةُ بْنُ سُوَيْدٍ، نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلا أَنْ تُوَادُّوا اللَّهَ وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ» . وفي الآية قول ثالث: 819 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السُّدِّيُّ، نا

يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، نا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، نا قَيْسٌ، نا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُنَا اللَّهُ تَعَالَى مَوَدَّتَهُمْ؟ قَالَ: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدَيْهِمَا ". 820 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ،

نا عَبْدُ الْغَفُورِ أَبُو الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرَّمَانِيِّ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فِينَا فِي آلِ حم آيَةٌ لا يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إِلا كُلُّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] وقال الكلبي: قل لا أسألكم على الإيمان جعلا، إلا أن تودوا أقاربي، حث الله تعالى الناس عن ذوي قرابته. وعلى الأقوال كلها قول: إلا المودة استثناء ليس من الأول، وليس المعنى أسألكم المودة في القربى، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون أجرا على تبليغ الرسالة، والمعنى: ولكني أذكركم المودة في القربى، وأذكركم قرابتي منكم، وغلط من قال: إن هذه الآية نسخت، بقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] ، وقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] لأنه لا يصح أن يقال: نسخت مودة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكف الأذى عنه لأجل قرابته، ولا مودة آله وأقاربه، ولا التقرب إلى الله بالطاعة، ومن ادعى النسخ، توهم أن الاستثناء متصل، ورأى إبطال الأجر في هاتين الآيتين، وليس الأمر على ذلك، فإن الاستثناء منقطع، ولا تنافي بين هذه الآية، والآيتين الأخرتين، وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} [الشورى: 23] قال مقاتل: يكتسب حسنة واحدة. {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى: 23] نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [الشورى: 23] للذنوب، شكور للقليل حتى يضاعفه. أم يقولون بل أيقولون، يعنى: كفار مكة، {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الشورى: 24] حين زعم أن القرآن من عند الله، {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] يربط على قلبك، بالصبر على أذاهم، حتى لا يشق عليك قولهم: إنه مفتر. ثم أخبر أنه يذهب ما يقولونه باطلا، فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] أي: الإسلام، بكلماته بما أنزله من كتابه، وقد فعل الله ذلك، فأزهق باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] بما في قلوب خلقه. {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] قال ابن عباس: يريد أولياءه، وأهل طاعته. {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] من خير وشر، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للمشركين، وتهديد لهم. قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26] يجيبهم إلى ما يسألونه، وقال عطاء، عن ابن عباس: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] ، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] سوى ثواب أعمالهم، تفضلا عليهم. وقال أبو صالح عنه: يشفعهم في إخوانهم. قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ {27} وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ {28} } [الشورى: 27-28] . {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال قريظة والنضير، فتمنيناها، فأنزل الله هذه الآية. قال مقاتل: يقول: لو أوسع الله الرزق لعباده، فرزقهم من غير كسب. {لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] لعصوا، وبطروا النعمة، وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] نظرا منه لأوليائه وأهل طاعته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] يعلم أنه لو أعطاهم ما يتمنون بغوا. قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى: 28] أي: المطر، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] من بعد ما يئس الناس منه، وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله، والمعرفة بموقع إحسانه، قال مقاتل: حبس الله تعالى المطر عن أهل مكة سبع سنين، حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكرهم النعمة. وينشر رحمته يبسط مطره، وهو الولي لأهل طاعته، الحميد عند خلقه. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ {29} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {30} وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {31} } [الشورى: 29-31] . {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29] يعني: الناس وغيرهم من الملائكة، قال مجاهد: الناس والملائكة. {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} [الشورى: 29] يوم القيامة في الآخرة، {إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] . {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الشورى: 30] يعني: ما يلحق المؤمن مما يكره من نكبة حجر، أو عثرة قدم، فصاعدا،

{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] من المعاصي، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] من السيئات، فلا يعاقب بها، وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده، ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . 821 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَلَبِيُّ، نا عُبَيْدُ بْنُ جَنَادٍ الْحَلَبِيُّ، نا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْخَضِرِ بْنِ الْقَوَّاسِ، عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] يَا عَلِيُّ، مَا مِنْ خَدْشٍ وَلا نَكْبَةِ قَدَمٍ إِلا بِذَنْبٍ وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ، وَمَا عَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ ". في

مصاحف المدينة والشام بما كسبت أيديكم بغير فاء، قال الزجاج: إثبات الفاء أجود، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط. ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم. وما أنتم يا معشر المشركين، {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 31] لا تعجزونني حيث ما كنتم، ولا تسبقونني هربا في الأرض، ولا في السماء لو كنتم فيها. قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ {32} إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ {35} فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {36} } [الشورى: 32-36] . {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} [الشورى: 32] السفن التي تجري، {فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى: 32] كالجبال، جمع علم، وهو الجبل الطويل. {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33] التي تجريها، فيظللن يعني: الجواري، رواكد يعني: ثوابت على ظهر البحر، لا تجري ولا تبرح، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشورى: 33] الذي ذكر، {لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 33] أي: لكل مؤمن، لأن من صفة المؤمن الصبر في الشدة، والشكر في الرخاء. أو يوبقهن يهلكهن ويغرقهن، يعني: أهلها، بما كسبوا بما أشركوا، واقترفوا من الذنوب، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] من ذنوبهم، فينجيهم من الهلكة، ولا يفرقهم. {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35] يعني: أن الكفار الذين يكذبون بالقرآن، إذا صاروا إلى الله تعالى بعد البعث، علموا ألا مهرب لهم من عذاب الله، والوجه قراءة ويعلمُ رفعا، لأنه يقطعه من الأول، ويجعله جملة معطوفة على جملة، ومن قرأ بالنصب، فقال الفراء: هو مردود على الجزم، إلا أنه صرف، والجزم إذا صرف عنه

معطوفة نصب. قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 36] مفسر فيما تقدم إلى قوله: للذين آمنوا وهو بيان أن ما عند الله خير للمؤمنين، لا للكافرين، فقد استوى الفريقان في أن ما أعطوه من الدنيا متاع يتمتعون به ثم يزول، فإذا صاروا إلى الآخرة كان ما عند الله خيرا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] . {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ {39} وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {42} وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {43} } [الشورى: 37-43] . {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [الشورى: 37] تقدم تفسير الكبائر في { [النساء، وقرأ حمزة: كبير الإثم على الواحد وهو يريد الجمع، كقوله:] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [سورة النحل: 18] ، أو يريد بكبير الإثم: الشرك، على ما فسره ابن عباس، قال: يريد: الشرك. وقوله: والفواحش يعني: الزنا وأنواعه، وقال مقاتل: يعني: ما تقام فيه الحدود في الدنيا. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] أي: يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى، وعفوه. {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] أجابوه إلى ما دعاهم إليه، من توحيد الله تعالى، وعبادته، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] هي فعلى من المشاورة، وهي الأمر الذي يتشاور فيه، يقال: صار هذا الأمر شورى بين القوم، إذا تشاوروا فيه، والمعنى: أنهم يتشاورون فيما يبدو لهم، ولا يعجلون في الأمر، قال الحسن: والله ما تشاور قوم قط، إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم. 822 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا

الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، نا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارُكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءُكُمْ وَأَمْرُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كاَنَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» . قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] الظلم والعدوان، هم ينتصرون ممن ظلمهم، قال عطاء: يعني المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة، وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض، حتى انتصروا ممن ظلمهم. وقال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم، فبدأ بذكرهم، وهو قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] : وصنف ينتصرون من ظالمهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية. ومن انتصر فأخذ بحقه، ولم يجاوز في ذلك ما حد الله تعالى له، فهو مطيع لله، ومن أطاع الله فهو محمود. ثم ذكر حد الانتصار، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحات والدماء. وقال مجاهد، والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله، يقول: أخزاك الله من غير أن يعتدي. ثم ذكر العفو، فقال: فمن عفا أي: عمن ظلمه، وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ضمن الله تعالى له أجره بالعفو، وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة، قام مناد، فنادى: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] . قال مقاتل: يعني من يبدأ بالظلم. ثم ذكر المنتصر، فقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] بعد ظلم الظالم إياه، والمصدر ههنا مضاف إلى المفعول، كقوله: {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] ، وبسؤال نعجتك، فأولئك يعني: المنتصرين {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] بعقوبة ومؤاخذة. {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] قال

ابن عباس: يريد: يبدءون بالظلم. {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يعملون فيها بالمعاصي. ولمن صبر فلم ينتصر، {وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الصبر والتجاوز، {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثوابا، فالرغبة في الثواب أتم عزم. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ {44} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ {45} وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ {46} } [الشورى: 44-46] . {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الشورى: 44] عن الهدى، {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى: 44] فما له من أحد يلي هدايته، بعد إضلال الله إياه، وترى الظالمين المشركين، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [الشورى: 44] في الآخرة، يسألون الرجعة إلى الدنيا، يقولون: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] . {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45] على النار، قبل دخولهم النار، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] ساكنين، متواضعين، {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] يعني: خفي النظر لما عليهما من الذل، يسارقون النظر إلى النار، خوفا منها، وذلة في أنفسهم، وعرف المؤمنون خسران الكافرين ذلك اليوم، فقالوا: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الشورى: 45] بأن صاروا إلى النار، وأهليهم في الجنة، بأن صاروا لغيرهم، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45] . قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ} [الشورى: 46] ظاهر. قوله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ {47} فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ {48} } [الشورى: 47-48] .

استجيبوا لربكم أجيبوا داعي ربكم، يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} [الشورى: 47] لا يقدر أحد على رده ودفعه، وهو يوم القيامة، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} [الشورى: 47] تلجئون إليه، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47] إنكار وتغيير للعذاب. قوله: فإن أعرضوا عن الإجابة، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الشورى: 48] تحفظ أعمالهم، وإنما أرسلناك داعيا ومبلغا، وهو قوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] ما عليك إلا أن تبلغهم، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [الشورى: 48] قال ابن عباس: يعني الغنى والصحة. فرح بها يعني: الكافر، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] يعني: قحط المطر، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الشورى: 48] من الكفر، {فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] أي: لما تقدم من نعمة الله عليه، ينسى ويجحد بأول شديدة جميع ما سلف من النعم. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ {49} أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ {50} } [الشورى: 49-50] . {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 49] له التصرف فيهما بما يريد، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] يعني: البنات ليس فيهم ذكر، كما وهب للوط عليه السلام، لم يولد له إلا بنات، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] يعني: البنين ليس معهم أنثى، كإبراهيم عليه السلام، لم يولد له إلا ذكور. أو يزوجهم يعني: الإناث والذكور، يجعلهم أزواجا، وهو أن يولد للرجل ذكور وإناث، قال الحسن: يجمع لهم الإناث والذكران، كما جمع لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإنه ولد له أربعة بنين وأربع بنات، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] لا يولد له، كعيسى ويحيى عليهما السلام، والآية عامة، وهذه الأقسام موجودة في غير الأنبياء، وإنما ذكر الأنبياء تمثيلا، إنه عليم بما خلق، قدير على ما يشاء. قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ {51} وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ {53} } [الشورى: 51-53] . {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] يريد الوحي في المنام، أو الإلهام، كما كان الأنبياء

عليهم السلام، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] كما كلم موسى عليه السلام، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، كما يرى سائر المتكلمين ليس إن ثم حجابا يفصل موضعا من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] جبريل، أو غيره من الملائكة، فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله، ما يشاء الله، قال الزجاج: المعنى: أن كلام الله للبشر، إما أن يكون بإلهام يلهمهم الله، أو يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا، أو يكلمه من وراء حجاب، أو يرسل رسولا. ومن قرأ يرسل رفعا، أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف، والوقف كاف على ما قبله. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 52] أي: فعلنا في الوحي إليك، كما فعلنا بالرسل من قبلك، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] قال مقاتل: يعين الوحي بأمرنا. ومعناه: القرآن، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر، {مَا كُنْتَ تَدْرِي} [الشورى: 52] قبل الوحي، {مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] لأنه كان لا يعرف القرآن قبل الوحي، وما كان يعرف شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان، وهذا القول هو اختيار إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: الصلاة سماها إيمانا، وشيخنا الأستاذ أبو إسحاق، يقول في هذا التخصيص بالوقت، فقال: كان هذا قبل البلوغ، وحين كان طفلا في المهد ما كان يعرف الإيمان. والحسين بن الفضل البجلي يجعل الآية من باب حذف المضاف، يقول: معناه: ولا أهل الإيمان، يعني: من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن؟ إجماع الأصوليين على أن الرسل قبل الوحي كانوا مؤمنين، ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام.

823 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّصْرَابَاذِيِّ، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرَّسْعَنِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ زُرَيْقٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو سَيَّارٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ عَبَدْتَ وَثَنًا قَطُّ؟ قَالَ: لا. قَالُوا: هَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] . قوله: ولكن جعلناه يعني: القرآن، نورا يعني: ضياء، ودليلا على التوحيد والإيمان، {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] نرشده إلى الدين الحق، وإنك لتهدي قال ابن عباس، ومقاتل، والسدي، وقتادة: وإنك لتدعو. فالهدى ههنا دعوة وبيان، والمعنى: وإنك لتدعو بما أوحينا إليك، إلى طريق مستقيم، يعني: الإسلام. {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي} [الشورى: 53] شرعه لعباده، الذي {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53] ملكا وخلقا، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] يعني: أمور الخلائق في الآخرة.

تفسير سورة حم الزخرف

تفسير سورة حم الزخرف مكية، وهي ثمانون وتسع آيات. 824 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سَلْهَمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّخْرُف كَانَ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عِبَادِي، لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ". بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3} وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ {4} أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ {5} } [الزخرف: 1-5] . {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الدخان: 1-2] أقسم الله تعالى بالقرآن، الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في الشريعة. {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أي: صيرنا قراءة هذا الكتاب عربيا، لأن من التنزيل ما هو عبري وسرياني، وكتاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بالعربية، وهذا يدل على أنه إذا قرئ بغير العربية لا يكون قرآنا. وإنه يعني: القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4] في اللوح المحفوظ، قال الزجاج: أم الكتاب: أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {22} } [البروج: 21-22] . وقوله: لدينا قال ابن عباس: يريد الذي عندنا. لعلي حكيم قال

قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، وفضله، أي: إن كذبتم به يأهل مكة، فإنه عندنا رفيع شريف، محكم من الباطل. قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه، أي: تركته، وأمسكت عنه، والصفح مصدر قولهم: صفحت، عند إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، والمراد بالذكر ههنا القرآن، قال الكلبي: يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحا، فلا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نرسل إليكم رسولا؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا نفعل ذلك، ومعنى الآية: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم، فلا نعرفكم ما يجب عليكم، من أجل أنكم أسرفتم في كفركم؟ وهو قوله: {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] والمعنى: لأن كنتم، والكسر في إن على أنه جزاء استغنى عن جوابه بما تقدمه، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت كذا. قال الفراء: ومثله {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] بالفتح والكسر، وقد تقدم. ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ {6} وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {7} فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ {8} } [الزخرف: 6-8] . {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ} [الزخرف: 6] إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف: 8] أقوى من قومك، يعني: الأولين الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] سبق فيما أنزلنا إليك تشبيه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب، ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضا إلى هلاك. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {9} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {10} وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا

بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ {11} وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ {12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ {13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ {14} } [الزخرف: 9-14] . ولئن سألتهم سألت قومك، {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] أقروا بعزتي وعلمي، وهذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ أقروا بأن الله خلق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث، وقد تم الإخبار عنهم. ثم ابتدأ جل وعز دالا على نفسه بصنيعه، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10] وتفسير هذه الآية قد سبق في { [طه، وقوله:] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الزخرف: 10] لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم. {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] قال ابن عباس: يريد ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر، حتى أغرقهم وأهلكهم، بل هو بقدر، حتى يكون معاشا لكم، ولأنعامكم. {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12] الأصناف والضروب والألوان، والذكر والأنثى، وكل هذا قول للمفسرين، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] في البحر، والبر. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] على ظهور ما جعل لكم، فالكناية تعود إلى لفظ ما، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] يعني: النعمة بتسخير ذلك المركب في البر والبحر، قال مقاتل، والكلبي: هو أن يقول: الحمد لله الذي رزقني هذا، وحملني عليه. {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] ذلل لنا هذا المركب، قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم. {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] قال ابن عباس: يريد: ولا طاقة لنا بالإبل، ولا بالفلك، ولا بالبحر لولا أن الله تعالى سخره لنا. ومعنى المقرن: المطيق، يقال: أقرنت هذا البعير، أي: أطقته. 825 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا رَوْحٌ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَلِيًّا الْأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ

عُمَرَ عَلَّمَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا فِي سَفَرِهِ كَبَّرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَالْعَمَلَ بِمَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ". وَإِذَا رَجَعَ، قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ رَوْحٍ. ثم رجع إلى ذكر الكفار الذين قدم ذكرهم، فقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ {15} أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ {16} وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ {17} أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ {18} } [الزخرف: 15-18] . {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] حكموا بأن بعض العباد، وهم الملائكة، له أولاد، ومعنى الجعل ههنا: الحكم بالشيء، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، قالوا: زعموا أن الملائكة بنات الله. تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقال الأزهري: ومعنى الآية: أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولد. إن الإنسان يعني: الكافر، لكفور جحود لنعم الله، مبين ظاهر الكفران. ثم أنكر عليهم هذا، فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وهذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول: أتخذ ربكم لنفسه البنات؟ وأصفاكم أخلصكم، بالبنين كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] الآية. ثم زاد في الاحتجاج عليهم بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا} [الزخرف: 17] بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شيء شبيهه وجنسه، والآية مفسرة في { [النحل. ثم وبخهم بما افتروه، فقال:] أَوَمَنْ يُنَشَّأُ

فِي الْحِلْيَةِ} [سورة الزخرف: 18] قال المبرد: تقدير الآية: أوتجعلون له من ينشأ في الحلية؟ يعني: البنت تنبت في الزينة، وقرأ حمزة: ينشأ بالتشديد على غير تسمية الفاعل، وهو رديء، لأنه لم يحك في اللغة نشأ بمعنى أنشأ، إلا أن قال: إنه في القياس بلغ وأبلغ، وفرج وأفرج. {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} [الزخرف: 18] يعني: المخاصمة، غير مبين للحجة، قال قتادة: قل ما تتكلم امرأة بحجتها، إلا تكلمت بالحجة عليها. {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ {19} وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {20} أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ {22} } [الزخرف: 19-22] وجعلوا الملائكة الجعل ههنا بمعنى القول، والحكم على الشيء، كما تقول: جعلت زيدا أفضل الناس، أي: وصفته بذلك، وحكمت به، {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 19] وقرئ: عند الرحمن وكل صواب، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا في وصف الملائكة، وذلك قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 206] ، وفي قوله: عند الرحمن دلالة على رفع

المنزلة، والقربة من الكرامة، وقوله: إناثا يعني قولهم: الملائكة بنات الله، قال الله تعالى: أشهدوا خلقهم من الشهادة التي هي بمعنى الحضور، وبخوا على ما قالوا ما لم يشاهدوا، مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع: أو أشهدوا خلقهم على أفعلوا من الإشهاد، وقبلها همزة الاستفهام، وتخفيف الهمزة الثانية على معنى: أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث؟ وهذا كقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] ، قال ابن عباس: يريد: أحضروا أم عاينوا خلقهم؟ وقال الكلبي، ومقاتل: لما قالوا هذا القول، سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «وما يدريكم أنهم إناث؟» قالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا أنهم إناث. فقال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] عنها في الآخرة. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] يعني: بني مليح من خزاعة، كانوا يعبدون الملائكة، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] أي: بما قالوا من قولهم: الملائكة إناث، وهم بنات الله، أخبر الله تعالى أنهم لم يقولوا ذلك عن علم، وأنهم كذبوا في ذلك، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] أي: ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، ولم يتعرض لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] بشيء، قال صاحب النظم: لأن هذا القول من الكفار حق، وإن كان من الكفار. وهذا كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] . وإن جعلت قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] ردا لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] كان المعنى: أنهم قالوا: إن الله قررنا على عبادتها، فلا يعاقبنا، لأنه رضي بذلك منا. وهذا كذب منهم، لأن الله تعالى وإن أراد كفر الكافر لا يرضاه، وتقريره الكافر على كفره، لا يكون

رضا منه. قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف: 21] يقول: هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21] يأخذون بما فيه؟ ثم أعلم أنهم اتبعوا ملة آباءهم في الضلالة، فقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] على سنة وملة، ودين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين، وليست لهم حجة إلا تقليد آبائهم. ثم أخبر الله أن غيرهم قال هذا القول. فقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {25} } [الزخرف: 23-25] . وكذلك أي: وكما قالوا، {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: 23] ملوكها وأغنياؤها، ورؤساؤها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] بهم. فقال الله تعالى لنبيه عليه السلام، قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] قال الزجاج: قل لهم: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوا ذلك، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} [الزخرف: 24] أيها الرسل، كافرون. ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذبة، تخويفا لهم، فقال: فانتقمنا منهم الآية، يعني: ما صنع بقوم نوح، وعاد، وثمود. قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {28} } [الزخرف: 26-28] . {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف: 26] يعني: حين خرج من المسرب، وهو ابن سبع عشرة سنة، رأى قومه وأباه يعبدون الأصنام، فقال لهم: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] والبراء: مصدر لا يثنى، ولا يجمع، ويريد بالمصدر الفاعل. ثم استثنى خالقه من البراء، فقال: {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] يرشدني لدينه. وجعلها وجعل كلمة التوحيد، وهى لا إله إلا الله، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] في ذرية إبراهيم، ونسله، قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده. لعلهم يرجعون لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين، ويرجعوه إلى دينك دين إبراهيم، إذ كانوا من ولده، قال السدي: لعلهم يتوبون، ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة

الله. ثم ذكر نعمته على قريش، فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ {29} وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ {30} وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ {31} أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {32} وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ {34} وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ {35} } [الزخرف: 29-35] . {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29] يعني: المشركين، يقول: أمتعتهم بأنفسهم وأموالهم، وأنواع النعم، ولم أعاجلهم بعقوبة كفرهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] يعني: القرآن، ورسول مبين يبين لهم الأحكام والدين، وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوا الرسول بإجابته، فلم يجيبوه، وعصوا. وهو قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 30] يعني: القرآن، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30] . {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعنون: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف. فقال الله عز وجل ردا عليهم، وإنكارا لما قالوا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] يعني: النبوة، وذلك أنهم اعترضوا على الله بقولهم: لم لم ينزل هذا القرآن على غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فبين الله أنه هو الذي يقسم النبوة لا غيره، قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح الرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] أي: قسمنا الرزق في المعيشة، وليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، ومعنى الآية: إنا تولينا قسم معايشهم، فكذلك تولينا قسم النبوة. 826 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَايِعُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ

نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] الآية. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا مَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ. وقال قتادة في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] : تلقى الرجل ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، بسط اللسان، وهو مقتر عليه. وقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] يعني: الفضل في الغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ليستخدم بعضهم بعضا، فيتسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، ليلتئم قوام أمر العالم، وقال قتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضا، فيتخذونهم عبيدا ومماليك. وقوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] يعني: الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الدنيا، أي: النبوة لك خير من أموالهم التي يجمعونها. ثم أخبر عن قلة الدنيا عنده، فقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] لولا أن يجتمعوا على الكفر، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33] لهوان الدنيا عندنا، {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] يعني: سماء البيت، وهو واحد يدل على الجمع، وعلم بقوله: لبيوتهم أي: أن لكل بيت سقفا، وقرئ: سقفا وهو جمع سقف، مثل رهن ورهن، وفرس ورد، وخيل ورد، ومعارج يعني: الدرج، عليها يظهرون يرتقون ويعلون، يقال: ظهر على البيت وعلى السطح، إذا علاه. ولبيوتهم أبوابا أي: من فضة، وسررا من فضة، وهو جمع سرير، عليها يتكئون من الاتكاء، وهو التحامل على الشيء. وزخرفا كلهم قالوا: إنه الذهب. والمعنى: ونجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى، ومعنى الآية: لولا أن تميل الدنيا بالناس، فيصير الخلق كفارا، لأعطى الله

الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها، لقلتها عنده، ولكنه عز وجل لم يفعل ذلك، لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة، ثم أخبر أن جميع ما ذكر إنما يتمتع به في الدنيا، فقال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35] الفراء على تخفيف لما وهو لغو، والمعنى: لمتاع الحياة الدنيا، وقرأ حمزة: لما بالتشديد، جعله في معنى إلا، حكى سيبويه: نشدتك الله لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت، ويقوي هذه القراءة أن في حرف أُبَيِّ: وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا قال ابن عباس: يزول ويذهب. وقال مقاتل: يتمتعون فيها قليلا. والآخرة يعني: الجنة، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] خاصة لهم. قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ {38} وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {39} } [الزخرف: 36-39] . {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36] يعرض عن القرآن، ويقال: عشوت إلى النار أعشو عشوا، أي: قصدتها مهتديا بها، وعشوت عنها: أعرضت عنها، كما تقول: عدلت إلى فلان، وعدلت عنه، وملت إليه، وملت عنه، قال الزجاج: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة، إلى أباطيل المضلين، نعاقبه بشيطان، نقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له، فلا يهتدي، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين. وهو قوله: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] صاحب له، يزين له العمى، ويخيل إليه أنه على الهدى، وهو على الضلالة. وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] وإن الشياطين ليمنعونهم عن سبيل الهدى، وجمع الكناية، لأن قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] في مذهب جمع، وإن كان اللفظ على الواحد، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] يحسب كفار بني آدم أنهم على هدى. 827 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا مُحَرِزُ بْنُ عَوْنٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، نا

عَبْدُ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي نَضِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ". قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف: 38] يعني: الكافر، وقرئ: جاآنا يعني: الكافر وشيطانه، جعلا في سلسلة واحدة، وروى معمر عن الجريري، قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره، أخذ بيده شيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار. فذلك حيث يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب لفظ المشرق، كما قالوا: القمران، والعمران، فبئس القرين أنت أيها الشيطان. ويقول الله تعالى في ذلك اليوم للكفار: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] أشركتم في الدنيا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] قال المفسرون: لا يخفف الاشتراك عنهم شيئا من العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب. ثم ذكر أنه لا ينفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة، فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {40} فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ {41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ {42} فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ {44} } [الزخرف: 40-44] . {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40] قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعقلون ما جئت به، ولا يبصرونه، لأن من أعميت قلبه لم يهتد. {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف: 40] يريد من ظهرت ضلالته بتكذيب الصادق الأمين.

قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41] بأن نميتك قبل أن نريك النقمة في كفار مكة، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف: 41] بالقتل بعدك. أو نرينك في حياتك، ما وعدناهم من العذاب بالذل، والقتل، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] يقول الله تعالى لنبيه عليه السلام مطيبا قلبه: إن ذهبنا بك انتقمنا لك، ممن كذبك بعدك، أو أريناك في حياتك ما وعدناهم من العذاب، فإنا قادرون عليهم، متى شئنا عذبناهم. ثم أري ذلك يوم بدر. ثم أمره بالتمسك بالقرآن، فقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] يعني: دين الإسلام. وإنه وإن القرآن الذي أوحي إليك، {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] شرف لك بما أعطاك الله من الحكمة، ولقومك المؤمنين بما هداهم به، حتى أدركوا الحق. وروى الضحاك، عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل: لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل، قال: «لقريش» . فهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن، ثم قومه من قريش يخلفونه في الولاية، بشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم، ومذهب مجاهد: أن القرآن ههنا العرب، والقرآن لهم شرف إذ أنزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الشرف أكثر لقريش من غيرهم، ثم لبني هاشم. وسوف تسألون عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف، قاله الكلبي، والزجاج. وقال غيرهما: تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه. قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {46} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا

يَضْحَكُونَ {47} وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {48} } [الزخرف: 45-48] . {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية. قال عطاء، عن ابن عباس: لما أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، فأذن جبريل، ثم أقام وقال: يا محمد، تقدم فصل بهم. فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة، قال له جبريل: سل يا محمد {مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أسأل، قد اكتفيت» . وهذا قول الزهري، وسعيد بن جبير، وابن زيد، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم، فلم يشكك، ولم يسأل. وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب، الذين أرسلت إليهم الأنبياء: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد؟ وعلى هذا قال الزجاج: المعنى: سل أمم من أرسلنا؟ فحذف المضاف. وقال ابن الأنباري: سل أتباع من أرسلنا. ومعنى الأمر بالسؤال: التقرير لمشركي قريش، بأنه لم يأت رسول، ولا كتاب بعبادة غير الله. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [الزخرف: 46] إلى قوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47] أي: يهزءون بآياته، ويضحكون منها، جهلا وغفلة. {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يعني: ما ترادف عليهم من الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من

التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: وأخذناهم بالعذاب لأنهم عذبوا بهذه الآيات، فكانت عذابا لهم، ودلالات لموسى عليه السلام، فغلب عليهم الشقاء، ولم يؤمنوا. {وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ {49} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ {50} } [الزخرف: 49-50] . {وَقَالُوا يَأَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] قال الكلبي: يأيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يعظمونه، ولم يكن صفة ذم. وقال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: 49] فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، إننا لمهتدون مؤمنون بك. فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فذلك قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50] العهد الذي عاهدوا موسى. {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ {51} أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ {52} فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53} فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {54} فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {55} فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ {56} } [الزخرف: 51-56] . ونادى فرعون إلى قوله: وهذه الأنهار يعني: أنهار النيل، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] أراد: من تحت قصوري، وقال قتادة: بين يدي في جناني. وقال الحسن: بأمري. وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، أفلا تبصرون عظمتي، وشدة ملكي، وفضلي على موسى.

قال قتادة: افتخر عدو الله بملكه، وقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف: 52] أي: بل أنا خير وأفضل، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] ضعيف حقير. يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] الكلام، يعني: آفة بلسانه، وهي اللثغة التي كانت بلسان موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] هلا حلي بأ { [الذهب إن كان عظيما، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار، وطوقوه بطوق من ذهب، أي: إن كان سيدا تجب طاعته، هلا سور،] أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [سورة الزخرف: 53] متتابعين، يعينوه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له بصدقه. فاستخف فرعون، قومه القبط، أي: حملهم على خفة الجهل بكيده وغروره، فأطاعوه على تكذيب موسى، وقبلوا قوله، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] عاصين لله. قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا} [الزخرف: 55] قال المفسرون: أغضبونا. والأسف الغضب، ذكرنا ذلك عند قوله: غضبان أسفا. أخبرني محمد بن عبد العزيز المروزي، فيما كتب إلي أن أبا الفضل الحدادي أخبرهم، عن محمد بن يزيد، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، نا معمر، عن سماك بن الفضل، قال: كنا عند عروة بن الزبير، وإلى جانبه وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وذكروا منه شيئا قبيحا، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل، حتى سال دمه، فضحك عروة، واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب. فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، يقول: أغضبونا. أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا أبو بكر ابن الأنباري، نا محمد بن أبي العوام، يقول:

سمعت أبي، يقول: سمعت شعيب بن حرب، يقول: قال عمر بن ذر: يا أهل المعاصي، لا تغتروا بطول حلم الله عز وجل عنكم، فاحذروا أسفه، فإنه قال عز من قائل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55] . فجعلناهم سلفا جمع سالف، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، يقال: سلف يسلف سلوفا، إذا تقدم ومضى. قال الفراء، والزجاج، يقول: جعلناهم متقدمين، ليتعظ بهم الآخرون. وقرأ حمزة: سلفا بالضم، وهو جمع سليف من سلف بضم اللام، أي: تقدم، فهو سليف، ومثلا للآخرين أي: عبرة وعظة لمن بقي بعدهم، والمعنى: أن حال غيرهم يشبه حالهم، إذا أقاموا على العصيان. قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ {57} وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ {58} إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {59} وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ {60} وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {61} وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {62} } [الزخرف: 57-62] . {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا} [الزخرف: 57] أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية. وقد ذكرنا تلك القصة، قال مقاتل: ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة، أي: فيما قالوه وعلي زعمهم. لأن الله تعالى لم يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك الآية، ولم

يرده بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية، وإنما أراد أوثانهم، ولكنهم ألزموه عيسى جدالا، وعنتا، وضربوه مثلا لآلهتهم، وشبهوه بها في أنه معبود للنصارى من دون الله، وقوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] يعني: قومه الكفار، كانوا يضجون ضجيج المجادلة حيث خاصموه، وقالوا: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى. وهو قوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] أي: ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فكذلك آلهتنا، وقرئ يصدون بكسر الصاد وضمها، قال الفراء، والزجاج، والأخفش، والكسائي: هما لغتان، معناهما: يضجون. قال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: 58] قال مقاتل: ما وصفوا لك ذكر عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات، ثم ذكر أنهم أصحاب خصومات، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] . ثم ذكر عيسى، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] أي: بالنبوة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] آية وعبرة لهم، يعرفون به قدرة الله على ما يريد، حيث خلقه من غير أب، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله. ثم خاطب كفار مكة، فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً} [الزخرف: 60] أي: لو نشاء أهلكناكم، وجعلنا بدلا منكم ملائكة، {فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] يكونون خلفا منكم، قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل، كقوله: جعلنا منكم، يريد: بدلا منكم. ثم رجع إلى ذكر عيسى، فقال: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] يعني: نزول عيسى من أشراط الساعة، يعلم به قربها، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] قال ابن عباس: لا تكذبون بها. واتبعون على التوحيد، هذا الذي أنا عليه، صراط مستقيم من دين إبراهيم. قوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُونِ {63} إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {64} فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ {65} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {66} الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ {67} } [الزخرف: 63-67] . {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} [الزخرف: 63] بني إسرائيل، بالبينات قال قتادة، ومقاتل: يعني: الإنجيل. وهو قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف: 63] وقال عطاء: يريد النبوة. {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] قال مجاهد: يعني: من أحكام التوراة. وقال ابن عباس: ما تختلفون فيه من أمري، وأمر دينكم. وقال قتادة: يعني: اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى. وقال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل، وإنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وما بعد هذا مفسر فيما مضى إلى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] أي: هل يرتقبون إلا القيامة، يعني: أن تأتيهم لا محالة، فكأنهم يرتقبونها، وإن كانوا أمواتا فهم أيضا يرتقبونها، ولكن لا يدري، متى تفجأ؟ وهو قوله: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الزخرف: 66] . الأخلاء في الدنيا، يومئذ يوم تأتي الساعة، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] يعني: أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر، صارت عداوة يوم القيامة، إلا المتقين يعني: الموحدين المؤمنين، الذين يخال بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة. قوله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ {68} الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ {69} ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73} } [الزخرف: 68-73] . {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 68] قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة، نادى مناد: يا

عبادي لا خوف عليكم، أي: من عذاب اليوم، فإذا سمعوا النداء، رفع الخلائق رءوسهم. فيقال: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 69] فينكس أهل الأديان رءوسهم غير المسلمين. ويقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] تكرمون، وتنعمون. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف: 71] جمع صحفة، وهي القصعة الواسعة العريضة، وأكواب جمع كوب، وهو إناء مستدير مدور الرأس، لا عرى لها، وفيها ما تشتهي الأنفس، وقرئ: تشتهيه بالهاء، وحذف الهاء ههنا كإثباتها، وأكثر ما جاء في التنزيل حذف الهاء من الصلة، كقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] ، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ، وإنما صنعوا كيد سحر، والأصل إثبات الهاء، والحذف حسن كثير، وقد جاءت مثبتة كقوله: {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وقوله: وتلذ الأعين يقال: لذذت الشيء ألذه، مثل استلذذته، والمعنى: أنه ما من شيء اشتهته نفس، أو استلذته عين، إلا وهو في الجنة، وقد عبر الله تعالى بهذين اللفظين عن جميع نعيم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس، أو العين، ثم تمم هذه النعم بقوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] لأنها لو انقطعت لم تطب. وتلك الجنة يعني: الجنة التي ذكرها في قوله: ادخلوا الجنة، التي أورثتموها قال ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنة الكافر. وهذا كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] وقد تقدم. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {74} لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {75} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ {76} وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ {77} لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {78} أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ {79} أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ {80} } [الزخرف: 74-80] . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: وما ظلمناهم أي: ما عذبناهم على غير ذنب، {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]

لأنفسهم، بما جنوا عليها من العذاب. وقوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] يدعون خازن جهنم، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] الموت، والمعنى: أنهم توسلوا بمالك إلى الله تعالى، ليسأل لهم الموت، فيستريحوا من شدة العذاب، فيسكت عنهم، ولا يجيبهم أربعين سنة في قول عبد الله بن عمرو، والكلبي، ومقاتل. وألف سنة فيما روي عن ابن عباس. ثم يقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] مقيمون في العذاب. {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 78] يقول الله تعالى: أرسلنا إليكم يا معشر قريش محمدا رسولنا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] قال ابن عباس: يريد: كلكم كارهون لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} [الزخرف: 79] بل أحكموا أمرا في كيد محمد، والمكر به، فإنا مبرمون محكمون في مجازاتهم، قال مجاهد: إن كادوا شرا، كدتهم مثله. {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80] سرهم: ما يسرونه من غيرهم، ونجواهم: ما يتناجون به بينهم، بلى نسمع ذلك، ورسلنا من الملائكة، يعني: الحفظة، لديهم يكتبون. قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] في قولكم، وعلى زعمكم، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] أول من عبد الله ووحده، والمعنى: فأنا أول الموحدين، لأن من عبد الله واعترف بأنه إلهه، فقد دفع أن يكون له ولد. قال ابن قتيبة: لما قال المشركون: لله ولد. ولم يرجعوا عن مقالتهم، بما أنزل الله على رسوله من التبرؤ من ذلك، قال الله عز وجل لرسوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ {81} سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {82} فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {83} } [الزخرف: 81-83] . قل لهم، {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] أي: عندكم، وفي ادعائكم، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] أول الموحدين، ومن وحد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدا أو ندا، فليس من العابدين، وإن اجتهد.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون، فأنا أول من غضب للرحمن أن يقال: له ولد. وعلى هذا القول العابد من العبد بمعنى الغضب، قال الفراء: عبد عليه، أي: غضب. وروي أن سفيان بن عيينة سئل عن هذه الآية، فقال: يقول: فكما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس لله ولد. وهذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، تريد: لست أنت كاتبا ولا أنا حاسب. ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف: 82] قال مقاتل: عما يقولون من الكذب. فذرهم يعني: كفار مكة، حين كذبوا بالعذاب في الآخرة، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، حتى يلاقوا يوم القيامة. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {84} وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {85} وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {86} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {87} وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ {88} فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {89} } [الزخرف: 84-89] . {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] قال قتادة: يعبد في السماء، وفي الأرض، وهو إله واحد لا إله إلا الله. وقال أبو علي الفارسي: المعنى عن الإخبار بإلهيته، لا عن الكون في السماء، أي: أنه تبارك اسمه يقصد بالعبادة في السماء والأرض. وهو الحكيم في ملكه، العليم بخلقه. ذكر أنه لا شفاعة لمعبوديهم عند الله، فقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86] ، ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة، فقال: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] قال قتادة: إنهم عبدوا من دون الله، ولهم عند الله شفاعة ومنزلة. ومعنى شهد بالحق: شهد أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وفي هذا دليل على أنه لا يتحقق إيمان، وشهادة حتى يكون ذلك عن علم بالقلب، لأن الله تعالى، شرط مع الشهادة العلم، وقد قال أصحابنا: إن شرط الإيمان طمأنينة القلب على ما اعتقده، بحيث لا يتشكك إذا شكك، ولا يضطرب إذا حرك. {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. وقال ابن عباس: شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان، قال: وتقدير الآية: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب. قال المبرد: العطف على المنصوب حسن، وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه. ومن قرأ بكسر اللام فعلى معنى: وعندهم علم الساعة وعلم قِيله يَا رَبِّ، والقيل: مصدر كالقول، قال أبو عبيد: يقال: قلت قولًا، وقيلًا، وقالا. {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] أعرض عنهم، وقل سلام قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي فيهم، ومعناه: المتاركة، كقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] . فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وهذا تهديد، ومن قرأ بالتاء فعلى الأمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم بأن يخاطبهم بهذا، قال مقاتل: نسخ السيف الإعراض والسلام.

تفسير سورة حم الدخان

تفسير سورة حم الدخان مكية، وهي خمسون وتسع آيات. 828 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَقْبُرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ {3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ {4} أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {5} رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {6} } [الدخان: 1-6] {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} } [الدخان: 1-2] قال ابن عباس: يريد القرآن، وما أنزل فيه من البيان، والحلال والحرام. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يعني: ليلة القدر، قال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي، على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر. وقد ذكرنا بيان هذا عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] . وقوله: فيها في تلك الليلة المباركة، يفرق يفصل ويبين، من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقًا، {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والأمر الحكيم: المحكم، يعني: أمر السنة إلى مثلها من العام القابل. قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر، ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق، والآجال، حتى الحجاج يقال: يحج فلا، ويحج فلان. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنك لترى الرجل يمشي في

الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى. {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 5] قال الزجاج: أمرًا نصب ب يفرق بمنزلة فرقًا، لأن أمرًا بمعنى: فرقًا. والمعنى أنا نأمر ببيان ذلك، ونسخه من اللوح المحفوظ، {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 5] محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام. {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل. نصبه على أنه مفعول له على تقدير للرحمة، وقال الزجاج: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] للرحمة. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الدخان: 6] لمن دعاه، العليم بخلقه. {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {7} لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {8} بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ {9} } [الدخان: 7-9] . {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان: 7] بالرفع على قوله: هو السميع العليم رب السموات، وبالخفض على البدل من ربك في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] ، وما بينهما من الخلق والهواء، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 7] بذلك، وهو أنه لا إله غيره. بل هم يعني: الكفار، في شك من هذا القرآن، يلعبون يهزءون به، لاهين عنه، وقال ابن عباس: في ضلال يتمادون. {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ {10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16} } [الدخان: 10-16] . فارتقب فانتظر يا محمد، {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على قومه لما كذبوه، فقال: «اللهم سبعًا كسنين يوسف» . فأجديت الأرض، فأصابت قريشًا المجاعة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان. 829 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العفار، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ، نا الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلامِ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ» ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَقَوْمُكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ". {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16} } قوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] إلى قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر، فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] وذلك يوم بدر. رواه البخاري، عن محمد بن كثير. قوله: يغشى الناس، من صفة قوله: بدخان، والناس هم أهل مكة، وهم الذين يقولون: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} [الدخان: 11-12] الجوع والدخان، إنا مؤمنون بمحمد، والقرآن. قال الله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 13] التذكر والاتعاظ، يقول: كيف يتذكرون ويتعظون، وحالهم أنه {قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان: 13] ظاهر الصدق، والدلالة. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان: 14] أعرضوا عنه، ولم يقبلوا قوله، وقالوا معلم أي: هو معلم، يعلمه بشر، مجنون بادعائه النبوة. قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} [الدخان: 15] يعني: عذاب الجوع، قليلًا أي: زمانا يسيرا، قال مقاتل: يعني: إلى يوم بدر. {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] في كفركم، وتكذيبكم. {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] أي: واذكر لهم ذلك اليوم، يعني: يوم بدر، وهذا قول الأكثرين، قالوا: لما كشف عنهم الجوع، عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم بيوم بدر. وقال الحسن: البطشة الكبرى يوم القيامة. وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة. ومعنى البطش: الأخذ بشدة، إنا منتقمون منهم ذلك اليوم.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ {17} أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {18} وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {19} وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ {20} وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ {21} } [الدخان: 17-21] . {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} [الدخان: 17] بلونا قبل هؤلاء، قوم فرعون بإرسال موسى إليهم، وهو قوله: {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] على ربه، وقال مقاتل: حسن الخلق. {أَنْ أَدُّوا} [الدخان: 18] بأن أدوا، {إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان: 18] هذا من وقول موسى لفرعون وقومه، يقول: أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير، فإنهم أحرار. كما قال: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] ، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18] على الرسالة. {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان: 19] لا تتجبروا عليه، بترك طاعته، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 19] بحجة بينة، تدل على صدقي. فلما قال هذا، توعدوه بالقتل، فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] تقتلون. {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} [الدخان: 21] لم تصدقوني، فاعتزلون فاتركوني، لا معي ولا علي، وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي. {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ {22} فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ {23} وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ {24} كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ {29} } [الدخان: 22-29] . فكفروا ولم يؤمنوا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ} [الدخان: 22] بأن هؤلاء، قوم مجرمون قال الكلبي، ومقاتل: مشركون، لا يؤمنون. فأجاب الله دعاه، وأمره أن يسري، وهو قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: 23] يعني: من آمن به من بني إسرائيل، إنكم متبعون يتبعكم فرعون وقومه، أعلمه الله أنهم يتبعونهم، إذا سروا ليلًا لطلبهم. ثم يكون ذلك سببًا لغرقهم {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: ساكنًا، والرهو: مشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوًا فهو راه، ويقال لكل شيء ساكن، لا يتحرك: راه. قال مجاهد: رهوًا ساكنًا كما هو، أي: كهيئته بعد أن ضربه. يقول: لا تأمره يرجع، اتركه

حتى يدخله آل فرعون وجنوده. وقال قتادة: لما قطع موسى البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: كما هو. ونحو هذا قال مقاتل. والمعنى: اترك البحر راهيًا، أي: ساكنًا على حاله، فسمي بالمصدر، أو يكون المعنى: ذا رهو، فحذف المضاف، وقال ابن عباس: اتركه طريقًا. والرهو يكون بمعنى الفرجة بين الشيئين، قال الأصمعي: ونظر أعرابي إلى فالج، قال: سبحان الله رهو بين سنامين! ويكون المعنى على هذا: ذا رهو، أي: ذا فرجة، يعني: الطريق الذي أظهره فيما بين الماء، قوله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] أخبر الله موسى أنه يغرقهم، ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه. ثم ذكر ما تركوا بمصر من عقارهم، ومساكنهم، فقال: كم تركوا يعني: بعد الغرق، من جنات والآية مفسرة في { [الشعراء. ونعمة وعيش لين رغد،] كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [سورة الدخان: 27] مفسر فيما تقدم. كذلك قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني. {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28] صيرناها إليهم، وأعطيناهم إياها، كما قال في الشعراء: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] . {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] . 830 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كوثر، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ،

عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَلَهُ بَابَانِ بَابٌ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] . وفي غير هذه الرواية، أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب، ولا عمل صالح، فيفقدهم، ويبكي عليهم، وهذا قول جماعة المفسرين، قالوا: لم تبك عليهم مصاعد أعمالهم من السماء، ولا مواضع سجودهم من الأرض. وقال مجاهد: ما مات مؤمن، إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا. {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة، ولا لغيرها. {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ {30} مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ {31} وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {32} وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ {33} } [الدخان: 30-33] . {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان: 30] يعني: قتل الأبناء، واستخدام النساء، والتعب في العمل. {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31] كان جبارًا عاصيًا من المشركين، والعالي في الإحسان صفة مدح، والعالي في الإساءة صفة ذم. ولقد اخترناهم يعني: بني إسرائيل، على علم علمه الله فيهم، على العالمين على عالمي زمانهم. {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان: 33] يعني: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، والنعم التي أنعمها عليهم، وهو قوله: {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] أي: نعمة ظاهرة. ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ {35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {36} أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {37} } [الدخان: 34-37] . {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان: 34-35] ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا، ثم لا بعث بعدها، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35] بمبعوثين. {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} [الدخان: 36] أي: ابعثوهم لنا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36] في البعث بعد الموت. ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] أي:

ليسوا خيرًا منهم، يعني: أقوى وأشد وأكثر، قالت عائشة رضي الله عنها: «وكان تبع رجلًا صالحًا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه، ولم يذمه» . قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ {38} مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {39} إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ {40} يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {41} إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {42} } [الدخان: 38-42] . {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شيء. {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39] أي: للحق، يعني: الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ولكن أكثرهم يعني: المشركين، لا يعلمون. قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان: 40] يعني: يوم يفصل الرحمن بين العباد، ميقاتهم ميعادهم، أجمعين يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون. ثم نعت ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41] لا ينفع قريب قريبًا، ولا يدفع عنه شيئًا، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41] لا يمنعون من عذاب الله. {إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان: 42] يريد: المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم في بعض، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} [الدخان: 42] في انتقامه من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين. قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ {44} كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ {45} كَغَلْيِ الْحَمِيمِ {46} خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ {47} ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ {50} } [الدخان: 43-50] . {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] تقدم تفسيره. طعام الأثيم ذي الإثم، وهو أبو جهل، لعنه الله. كالمهل

وهو دردي الزيت، وعكر القطران، وقد تقدم تفسيره، {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45] يعني: بطون الكفار، وقرئ بالتاء لتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام، واختار أبو عبيد الياء، قال: لأن المهل مذكر، وهو الذي يلي الفعل، فصار أولى به، للتذكير وللقرب. قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل، لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب. ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون، إنما يغلي ما شبه به، وهو قوله: كغلي الحميم يعني: الماء الحار إذا اشتد غليانه؟ خذوه أي: يقال للزبانية: خذوه، يعني: الأثيم، فاعتلوه العتل: القود بالعنف، يقال: عتله يعتله ويعتله، إذا جره بالعنف، وذهب به إلى مكروه، قال مقاتل، ومجاهد: ادفعوه على وجهه. {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47] وسطه، كقوله تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] . {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ} [الدخان: 48] قال مقاتل: إن خازن النار يضربه على رأسه، فيثقب رأسه عن دماغه، ثم يصب فيه ماء حميمًا قد انتهى حره. ويقول له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل هذا الوادي، وأكرمهم. فيقول له الملك: ذق العذاب، أيها المتعزز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقوله. وقرأ الكسائي أنك بفتح الألف، على تأويل: ذق العذاب بأنك، أو لأنك، قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا. ويقول لهم الخازن: إن هذا العذاب، {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] تشكون في الدنيا، وتكذبون به. ثم ذكر مستقر المتقين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ {51} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {52} يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ {53} كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ {54} يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ {55} لا يَذُوقُونَ

فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {56} فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {57} } [الدخان: 51-57] . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث، والمقام: المجلس كقوله: ومقام كريم، وقرئ بضم الميم، يراد به: موضع الإقامة، ومعنى القراءتين واحد. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: كذلك أي: الأمر كما وصفنا، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوجته بامرأة. وقال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجًا بهن، كما يزوج النعل بالنعل، أي: جعلناهم اثنين اثنين. ونحو هذا، قال الأخفش: جعلناهم أزواجًا بالحور. وهن البيض الوجوه، وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها. والعين جمع عيناء، وهي: العظيمة العينين. {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] من التخم، والأسقام، والأوجاع. {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وهذا قول الفراء، والزجاج، وقالا: إلا بمعنى سوى. كقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: سوى ما قد سلف، وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى، وهي في الدنيا، من موت في الجنة، لأن السعداء حين يموتون، يصيرون بلطف الله وقدرته، إلى أسباب من الجنة، يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، ويفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها. وقوله: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 57] أي: فعل الله ذلك بهم فضلًا منه. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {58} فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ {59} } [الدخان: 58-59] . {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58] هونا القرآن على لسانك، لعلهم يتذكرون لكي يتعظوا، فيؤمنوا به. فارتقب فانتظر بهم العذاب، إنهم مرتقبون منتظرون هلاكك.

تفسير سورة حم الجاثية

تفسير سورة حم الجاثية مكية، وهي ثلاثون وسبع آيات. 831 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الجاثية سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ {3} وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {4} وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {5} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ {6} } [الجاثية: 1-6] . حم مبتدأ، وخبره: تنزيل الكتاب. ثم أخبر لما يدل على قدرته، فقال: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] قال مقاتل: إن في خلق، السموات والأرض وهما خلقان عظيمان، لآيات للمؤمنين. قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلق السموات والارض، قوله: وفي خلقكم. قال ابن عباس، ومقاتل: وفي خلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانًا. {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية: 4] وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق، على اختلاف ذلك في الخلق والصور، والمشي، آية على توحيد من خلقها، وقدرته، لقوم يوقنون أنه لا إله غيره، وقرأ حمزة آيات، وكذلك تصريف الرياح آية بالكسر، وهي

في موضع نصب، نسقًا على قوله: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 3] على معنى: وإن في خلقكم آيات، ومن رفع فقال الفراء: الرفع على الاستثناف بعد إن تقول العرب: إن لي عليك مالا، وعلى أخيك مال. ينصبون الثاني ويرفعونه، والآية التي بعدها ظاهرة وقد تقدم تفسيرها. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية: 6] قال ابن عباس: يريد هذا الذي قصصنا عليك من آيات الله نقصها. {عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6] بعد كتاب الله تعالى، وآياته يؤمنون إن لم يؤمنوا بهذا، ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {9} مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {10} هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ {11} } [الجاثية: 7-11] . {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] كذاب صاحب إثم، يعني: النضر بن الحارث، والآية الثانية مفسرة في { [لقمان. ] وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا} [سورة الجاثية: 9] قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئًا. {اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 9] رد الكلام إلى معنى: كل في قوله: {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] . فلذلك جمع {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] قال ابن عباس: يريد أمامهم جهنم. يعني: أنهم في الدنيا، ولهم في الآخرة النار يردونها، ويدخلونها، {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} [الجاثية: 10] من الأموال، شيئًا ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة. هذا هدى هذا القرآن بيان من الضلالة، والذين كفروا به، {لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 11]

بالرفع على نعت العذاب، وبالكسر على نعت الرجز، والرجز: معناه: العذاب، كقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] . {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {12} وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {13} } [الجاثية: 12-13] . وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 13] من شمس وقمر، ونجوم ومطر، وثلج وبرد، وماء، {وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجاثية: 13] من دابة، وشجر، ونبات، وثمار، وأنهار ومعنى تسخيره لها هو: أنه خلقها لانتفاعنا بها، فهو مسخر لنا، من حيث إنا ننتفع به على الوجه الذي نريده، وقوله تعالى: جميعًا منه قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه لكم. وقال في رواية عكرمة: منه النور، ومنه الشمس، ومنه القمر. وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه، وإحسان. ويحسن الوقف على قوله: جميعًا ثم يقول: منه أي: ذلك التسخير منه لا من غيره، فهو فضله وإحسانه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] في صنع الله وإحسانه، فيوحدونه. {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {15} } [الجاثية: 14-15] قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14] الآية نزلت في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: شتمه رجل بمكة، فهم أن يبطش به عمر، فأمره الله بالعفو، والتجاوز. والمعنى: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكنه شبهه بالشرط والجزاء، كقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] وقد مر، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وقوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزي الله الكفار بما عملوا من

السيئات، كأنه قال: لا تكافئوهم أنتم، لنكافئهم نحن. ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، بقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الجاثية: 15] الآية. {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {16} وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {17} } [الجاثية: 16-17] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [الجاثية: 16] التوراة، والحكم الفهم في الكتاب، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الجاثية: 16] يعني: المن والسلوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] تقدم تفسيره. قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله، ولا أحب إليه منهم. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 17] يعني: العلم بمبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما بين لهم من أمره، فما اختلفوا إلى آخر الآية مفسر في مواضع. {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ {19} } [الجاثية: 18-19] ثم جعلناك يا محمد، {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 18] على دين وملة، ومنهاج وطريقة، يعني: بعد موسى وقومه، {فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] توحيد الله، يعني: كفار قريش، قالوا له: ارجع إلى دين آبائك، فهم كانوا أفضل منك. ثم ذكر أن اتباعهم لا ينفعه، ولا يدفعون عنه شيئًا، فقال: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا لو اتبعتهم، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية: 19] يعني: المشركين، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] يعني: المؤمنين، الذين اتقوا الشرك. {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {20} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {22} } [الجاثية: 20-22] هذا يعني: هذا القرآن، بصائر للناس فسرناها في آخر { [الأعراف. قوله:] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ

اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [سورة الجاثية: 21] الآية نزلت حين قال كفار مكة للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة من الخير، مثل ما تعطون من الآجر. والمعنى: بل أحسب، وهو استفهام إنكار الذين عملوا الشرك، واكتسبوا الآثام، أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين في الدرجة والثواب، وهو قوله: كالذين آمنوا أي: بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرآن، وعملوا الصالحات الطاعات من الصلاة والزكاة، وتم الكلام، ثم قال: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] وارتفع سواء بأنه خبر ابتداء مقدم، تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير فيهما يعود إلى القبيلين، المؤمنين والكافرين، يقول: المؤمن مؤمن محياه مؤمن مماته، والكافر كافر محياه ومماته. والمعنى: أن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه، يريد: أن محيا القبيلين ومماتهم سواء، ومن قرأ سواء نصبًا جعله مفعولًا ثانيًا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، يعني: أحسبوا أن حياتهم ومماتهم، كحياة المؤمنين وموتهم؟ كلا، فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين، والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وقد ميز الله بين الفريقين: فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في النار، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] بئس ما يقضون، حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين. أخبرنا أبو نصر المهرجاني، أنا أبو عبد الله بن بطة، أنا أبو القاسم ابن بنت منيع، نا علي بن الجعد، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا الضحى، عن مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كرب، أن يصبح يقرأ آية من القرآن يركع بها، ويسجد، ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الآية، ثم ذكر أنه خلق السموات والأرض، للحق والجزاء {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] كيلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره، وأنه يستوي مع المؤمن، وهو قوله: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الجاثية: 22] الآية. قوله:

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {23} وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ {24} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {26} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ {27} } [الجاثية: 23-27] . {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى به وعبد الآخر، فهو يعبد ما تهواه نفسه. وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئًا إلا ركبه. وهو قول عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا هوي شيئًا هو لله سخط اتبعه. وهذا كما يقال: الهوى إله يعبد من دون الله، يعني: أن ذا الهوى يترك أمر الله وطاعته لهواه. 832 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْخَصِيبِ بْنِ جَحْدَرٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَوًى» وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير: على علمه فيه. قال الزجاج: أي: على ما سبق في علمه، أنه ضال قبل أن يخلقه. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] طبع عليه، فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] يعني: ظلمة، فهو لا يبصر الهدى، وليس يبقي للقدرية مع هذا البيان في منع الكافر عن الإيمان عذر ولا حيلة، ثم أكد ذلك بقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ

اللَّهِ} [الجاثية: 23] أي: من بعد إضلال الله، أي: من يهديه بعد أن أضله الله؟ أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء. وقالوا يعني: منكري البعث، ما هي ما الحياة، {إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ما هم فيه من الحياة، نموت ونحيا قال مقاتل: نموت نحن، ويحيا آخرون ممن يأتون بعدنا. وهو قول المفسرين. وقال الزجاج: المعنى: نحيا ونموت والواو للاجتماع. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] إلا طول العمر، واختلاف الليل والنهار، قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] الذي قالوه، من علم أي: لم يقولوه عن علم علموه، قالوه ضلالًا شاكين، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] . وما بعد هذا ظاهر التفسير، سابق فيما تقدم، إلى قوله: يخسر المبطلون يعني: المكذبين الكافرين، الذين هم أصحاب الأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم بأن يصيروا إلى النار. قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {28} هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {29} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ {30} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ {31} } [الجاثية: 28-31] . {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] جالسة على الركب عند الحساب، كما يجثي بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة ساعة هي عشر سنين، يخر الناس فيها جثاء على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام ينادي: نفسي، لا أسالك إلا نفسي. وقوله تعالى: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28] يعني: إلى كتاب أعمالها، ويقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] . هذا كتابنا يعني: ديوان الحفظة، ينطق يشهد، عليكم بالحق أي: يبينه بيانًا شافيًا، حتى كأنه ناطق، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها، وإثباتها عليكم، وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه. قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل هو أن يستنسخ كتاب من كتاب. ثم ذكر الفريقين من المؤمنين والكافرين، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 30] الآية ظاهرة. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الجاثية: 31] فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] يعني: آيات القرآن، فاستكبرتم عن الإيمان بها، {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 31] متكبرين، كافرين.

{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ {32} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {33} وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {34} ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {35} } [الجاثية: 32-35] . وإذا قيل لكم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 32] بالبعث، حق كائن، {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} [الجاثية: 32] والقيامة آتية، كائنة بغير شك، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32] أنكرتموها، {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا} [الجاثية: 32] أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهما، {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ما نستيقن كونها. {وَبَدَا لَهُمْ} [الجاثية: 33] في الآخرة، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية: 33] في الدنيا. وقيل لهم: اليوم ننساكم نترككم في النار، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] كما تركتم الإيمان والعمل، للقاء هذا اليوم. ذلكم الذي فعلنا بكم، {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الجاثية: 35] القرآن، هزوا مهزوءًا به، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية: 35] حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب، {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] من النار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأن ذلك اليوم لا يقبل فيه منهم عذر، ولا توبة. ثم ذكر عظمته، فقال: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {36} وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {37} } [الجاثية: 36-37] . {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] . {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} [الجاثية: 37] العظمة والجبروت، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية: 37] . 833 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا كُرَيْبٌ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْكِبْرَيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ» .

تفسير سورة حم الأحقاف

تفسير سورة حم الأحقاف مكية، وهي ثلاثون وخمس آيات. 834 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدِدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» . بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ {3} } [الأحقاف: 1-3] . {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} } [الجاثية: 1-2] ذكرنا نظم هذه الآية في { [الجاثية. ] مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [سورة الأحقاف: 3] قال ابن عباس: لم يخلقهما باطلا لغير شيء، ما خلقناهما إلا للثواب والعقاب. وأجل مسمى يعني: يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائهما وانقضاء أمدهما، ذكر أن الكفار أعرضوا عن الإيمان، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] أي: خوفوا به في القرآن من البعث، والحساب والجزاء معرضون. قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ

هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {4} وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ {6} } [الأحقاف: 4-6] . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف: 4] مفسر في { [فاطر، إلى قوله:] ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [سورة الأحقاف: 4] من قبل القرآن، فيه برهان ما تدعون من عبادة الأصنام، أو أثارة أي: بقية، من علم يقال: ناقة ذات أثارة، أي: بقية من شحم. قال ابن قتيبة: أي: بقية من علم عن الأولين. وقال الفراء، والمبرد: يعني: ما يؤثر من علم من كتب الأولين. وهو معنى قول المفسرين. وقال عطاء: يريد: أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4] أن لله شريكًا. ثم ذكر ضلالتهم، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] يعني: الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونه، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] يعني: أبدًا ما دامت الدنيا، {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] لأنها جماد لا تسمع. ثم إذا قامت القيامة، صارت الآلهة أعداء لمن عبدها في الدنيا، وهو قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف: 6] وهذا كقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وذلك أنهم يتبرءون من عابديهم، كقوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] . ثم ذكر أنهم يسمون القرآن سحرًا، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {7} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {8} قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {9} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10} } [الأحقاف: 7-10] . {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأحقاف: 7] الآية. ويقولون: إن محمدًا أتى به من قبل نفسه، وهو قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8] . فقال الله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8] لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي: فكيف أفتري على الله من أجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابي عني، إن

افتريت عليه شيئًا؟ هو أي: الله، {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف: 8] بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه بأنه سحر، وكهانة، {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف: 8] أن القرآن جاء من عند الله، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] في تأخير العذاب عنكم، حين لا يعجل عليكم بالعقوبة، وقال الزجاج: هذا دعاء لهم من الله إلى التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر بمثل ما أوتيتم به، من الافتراء على الله وعليّ، ثم تاب، فالله غفور له رحيم به. قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ما أنا بأول رسول، قد بعث قبلي كثير من الرسل، والبدع والبديع من كل شيء: المبتدأ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] أيتركني بمكة، أو يخرجني منها، ويخرجكم؟ وقال الحسن: لا أدري أأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة؟ وهذا إنما هو في الدنيا، فأما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه في النار، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] أنذركم العذاب، وأبين لكم الشرائع. قل أرأيتم معناها: أخبروني، أي: ماذا تقولون؟ إن كان القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] هو أنزله، وكفرتم أنتم أيها المشركون، {بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف: 10] يعني: عبد الله بن سلام، كان شاهدًا على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نبوته، على مثله المثل صلة، معناه: عليه، أي: على أنه من عند الله، فآمن يعني: الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان به، وجواب قوله: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10]

محذوف على تقدير: أليس قد ظلمتم. ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم؟ كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] الآية، وقال أبو علي الفارسي: تقديره أتأمنون عقوبة الله. ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان، أن نمدهم في ضلالتهم، ونحرمهم الهداية. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ {12} } [الأحقاف: 11-12] . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحقاف: 11] يعني: المشركين، للذين آمنوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] لو كان ما جاء به محمد خيرًا، {مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] نظم الكلام يوجب أن يكون ما سبقتمونا إليه، ولكنه على ترك المخاطبة. أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، أنا أبو العباس الهروي، نا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كانت زنيرة امرأة ضعيفة البصر، فلما أسلمت كان الأشراف من مشركي قريش يستهزئون بها، ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله فيها وفي أمثالها هذه الآية. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] لم يصيبوا الهداية بالقرآن، فسيقولون: إنه كذب، وهو قوله: {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] أي: أساطير الأولين. ومن قبله قبل القرآن، كتاب موسى يعني: التوراة، إمامًا يقتدى به، ورحمة من الله للمؤمنين به، من قبل القرآن، قال الزجاج: إمامًا منسوب على الحال. وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إمامًا، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى، وتقديره: فلم يهتدوا به، ودل

عليه قوله في الآية الأولى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] ، وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة، فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ويعرفوا منها صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12] أي: للكتب التي قبله، لسانًا عربيًا منصوب على الحال، المعنى: مصدقًا لما بين يديه عربيًا، وذكر اللسان توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فيذكر رجلًا توكيدًا، لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: مشركي مكة، ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب، وبشرى وهو بشرى، يعني: الكتاب للمحسنين الموحدين، يقول: الكتاب لهم بشرى بالجنة. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {13} أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {14} } [الأحقاف: 13-14] . {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] تقدم تفسيره. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {16} } [الأحقاف: 15-16] . {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15] تقدم تفسيره في { [العنكبوت، وقرئ ههنا إحسانًا والمعنى: أمرناه بالإحسان إليهما، كقوله: وبالوالدين إحسانًا، ثم ذكر ما

قاسته الأم في حمل الولد، ووضعه، فقال:] حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [سورة الأحقاف: 15] يعني: حين أثقلت، وثقل عليها الولد، ووضعته كرهًا قال ابن عباس: يريد شدة الطلق. {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] يريد: أن مدة حمله إلى أن فصل من الرضاع، كانت هذا القدر، روى عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعته واحدًا وعشرين شهرًا، وإذا حملته ستة أشهر، أرضعته أربعة وعشرين شهرًا. وقال مقاتل، وعطاء، والكلبي، عن ابن عباس: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وكان حمله وفصاله هذا القدر. ويدل على صحة هذا قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] إلى آخر الآية، وقد علمنا أن كثيرًا من الناس ممن بلغ هذا المبلغ لم يكن منه هذا القول، وهو ما ذكر الله تعالى عنه {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] إلى آخر الآية، فدل على أنه إنسان بعينه، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله: بلغ أشده قال عطاء: يريد ثماني عشرة سنة. وذلك أنه صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة، في تجارته إلى الشام، فكان لا يفارقه في أسفاره وحضوره، فلما بلغ أربعين سنة، ونبئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ربه، فقال: رب أوزعني ألهمني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15] بالهداية والإيمان، حتى لا أشرك بك، وعلى والدي أبي قحافة عثمان بن عمرو، وأم الخير بنت صخر بن عمرو، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من الصحابة، رضي الله عنهم، المهاجرين أبواه غيره، وأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده. وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف: 15] قال ابن عباس:

أجابه الله تعالى، فأعتق تسعة من المؤمنين، يعذبون في الله، ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب الله له في ذريته إذ قال: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] فلم يبق له ولد، ولا والد، ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده. أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، أنا إسحاق بن أحمد الفارسي، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، قال: قال لي موسى بن عقبة: لم يدرك أربعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم وأبناؤهم إلا هؤلاء: أبو قحافة، وأبو بكر، وابنه عبد الرحمن , وأبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر. قال البخاري: أبو عتيق أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ابن عبد الرحمن بن أبي بكر. وقوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: إني رجعت إلى كل ما تحب، وأسلمت لك بقلبي ولساني. أولئك يعني: أهل هذا القول، {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16] يعني: الأعمال الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، فالأحسن بمعنى: الحسن، {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] قال عطاء: يريد ما كان في الشرك. {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 16] أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة، وعد الصدق يعني: ما وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنيهم، ويتجاوز عن مسيئيهم، {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] في الدنيا على لسان الرسل. {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {17} أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ {18} وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {19} } [الأحقاف: 17-19] . {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف: 17] المفسرون على أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام

وهو يأبي، ويسيء القول لهما، وهو قوله: أف لكما، وكانا يخبرانه بالبعث بعد الموت، فيقول: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] من القبر، {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17] يعني: الأمم الخالية، فلم أر أحدًا منهم بعث؟ أين عبد الله بن جدعان، أين فلان وفلان؟ وهما يعني: والديه، يستغيثان الله يدعوان الله له بالهدى، والاستغاثة بالله دعاء الله، ليعينك على ما نابك، والجار محذوف، لأن التقدير: يستغيثان بالله، ويقولان له: ويلك آمن صدق بالبعث. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ} [الأحقاف: 17] لهما، ما هذا الذي تقولان، {إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] ، والصحيح: أن الآية نزلت في كافر عاق لوالديه، قال الزجاج: قول من قال الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، يبطله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18] الآية، أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين، لا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب. قال صاحب النظم، رضي الله عنه: ذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه، وعمل بوصية الله، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية، فقال: {لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] يصفه بالعقوق، حين لم يطع الله في قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، ثم دخل في هذه الآية من

كان بهذه الصفة من الكفر والعقوق، لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18] . والآية مفسرة في حم السجدة. قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام، فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة. وقال مقاتل: ولكل فضائل بأعمالهم. وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثوابها. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] . {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 20] يعني: كفار مكة، ويقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] قرئ بالاستفهام والخبر، قال الفراء، والزجاج: العرب توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهب ففعلت كذا، وذهبت ففعلت كذا. والمعنى في القراءتين سواء، وهو التوبيخ لهم. قال الكلبي: يعني اللذات، وما كانوا فيه من المعايش، وتمتعهم بها في الحياة الدنيا. ولما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا، آثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه والصالحون اجتناب نعيم العيش ولذته، وآثروا التقشف والزهد، رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل. 835 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي

مَشْرُبَةٍ، وَإِنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى خَصَفَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَابِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَصْفَوَتُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرُ عَلَى سُرُرِ الذَّهَبِ، وَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عُمَرُ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ وَهِيَ وَشِيكَةُ الانْقِطَاعِ، وَإِنَّا أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا» . 836 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا نَعْبَأُ بِلَذَّاتِ الْعَيْشِ أَنْ نَأْمُرَ بِصِغَارِ الْمِعْزَى فَتُسْمَطُ لَنَا، وَنَأْمُرُ بِلُبَابِ الْحِنْطَةِ فَيُخْبَزُ لَنَا، وَنَأْمُرُ بِالزَّبِيبِ فَيُنْبَذُ لَنَا حَتَّى إِذَا صَارَ مِثْلَ عَيْنِ الْيَعْقُوبِ أَكَلْنَا هَذَا وَشَرِبْنَا هَذَا وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْتَبْقِيَ طَيِّبَاتِنَا لَأَنَّا سَمِعْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ قَوْمًا، فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] . 837 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ،

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدَيَّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابِرُ اشْتَرَيْتَ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا جَابِرُ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] 838 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادَ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَكْدِمُ كَعْكًا شَامِيًّا وَيَتَفَوَّقُ لَبَنًا جَازِرًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ أَنْ أَضَعَ لَكَ طَعَامًا أَلْيَنَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ فَرْقَدٍ أَتَرَى أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ أَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ أَقْوَامًا، فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] الآية. قوله: فاليوم يعني: يوم القيامة، {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] يعني: العذاب الذي فيه ذلك، وخزي، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20] تتكبرون عن عبادة الله، والإيمان به، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] تعصون. {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {21} قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {22} قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {23} فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {24} تُدَمِّرُ

كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ {25} } [الأحقاف: 21-25] . واذكر يا محمد، لقومك أهل مكة، أخا عاد هودًا، {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ} [الأحقاف: 21] حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا به، بالأحقاف وهي: جمع حقف، وهو المستطيل المعوج من الرمال، قال عطاء: يعني: رمال بلاد الشحر. وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف: 21] وقد مضت الرسل، من قبل هود ومن بعده، إلى قومهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [الأحقاف: 21] أي: لم أبعث رسولًا قبل هود، ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده، وهذا كلام اعترض بين إنذار هود، وكلامه لقومه، ثم عاد إلى كلام هود لقومه، بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] وتقدير الكلام: إذ أنذر قومه بالأحقاف، فقال: إني أخاف، الآية. فقالوا له: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22] لتصرفنا عن عبادتها بالإفك، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف: 22] من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] أن العذاب نازل بنا. قال هود: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 23] هو يعلم متى يأتيكم العذاب؟ {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأحقاف: 23] من الوحي والإنذار، يعني: أنا مبلغ، والعلم بوقت العذاب عند الله، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23] حين أدلكم على الرشاد، وأنتم تصدون، وتعرضون عنه. قوله: فلما رأوه أي: ما يوعدون في قوله: بما تعدنا، عارضًا سحابًا يعرض في ناحية من السماء، ثم يطبق السماء، مستقبل أوديتهم قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا، فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24] استبشروا، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] غيم فيه مطر، فقال هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24] ثم بين ما هو، فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب. قال ابن عباس:

كانت الريح تطير بهم بين السماء والأرض، حتى أهلكتهم. تدمر تهلك، كل شيء مرت به من الناس، والدواب، والأموال، فأصبحوا يعني: عادا، {لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] ، قال الزجاج: تأويله: لا يرى شيء إلا مساكنهم. وقرئ لا ترى بفتح التاء، إلا مساكنهم بالنصب، على معنى: لا ترى أيها المخاطب، أي: لا تشاهد شيئًا إلا مساكنهم، لأن السكان والأنعام بادت بالريح، وقال ابن عباس: فلم يبق إلا هود ومن آمن معه. ثم خوف كفار مكة، وذكر فضل عاد بالأجسام، والقوة عليهم، فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {26} وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {27} فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {28} } [الأحقاف: 26-28] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] أي: في الشيء الذي لم نمكنكم فيه من المال، والعمر، وشدة الأبدان، قال المبرد: ما في قوله: فيما بمنزلة الذي، وإن بمنزلة ما، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه. وجعلنا لهم الآية، أخبر الله تعالى: أنهم أعرضوا عن قبول الحجج، والتفكر فيما يدلهم على التوحيد، مع ما أعطاهم الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة. ثم زاد في التخويف، فقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] الخطاب لأهل مكة، وأراد: القرى المهلكة باليمن، والشام، وصرفنا الآيات بيناها، لعلهم لعل أهل القرى، يرجعون. ثم ذكر أنهم لم ينصرهم من الله ناصر، حين حل بهم العذاب، وهو قوله: فلولا نصرهم فهلا نصرهم؟ وهذا استفهام إنكار، أي: لم ينصرهم، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 28] قال ابن قتيبة: اتخذوهم آلهة، يتقربون بها إلى الله. والقربان: ما يتقرب به إلى الله، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف: 28] قال مقاتل: ضلت الآلهة عنهم، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم. وذلك إفكهم أي: اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم، وافتراؤهم، وهو قوله: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28] يكذبون من أنها آلهة شركاء. قوله تعالى:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ {29} قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ {30} يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {31} وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {32} } [الأحقاف: 29-32] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] قال المفسرون: لما أيس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف، ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة، قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، واستمعوا لقرآنه. قال ابن عباس: كانوا سبعة نفر. وقال الكلبي، ومقاتل: كانوا تسعة صرفوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليستمعوا منه، وينذروا قومهم. وهو قوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ} [الأحقاف: 29] أي: حضروا استماع القرآن، قالوا أنصتوا قال بعضهم لبعض: اسكتوا، أي: لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء، فلما قضي أي: فرغ من التلاوة، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] انصرفوا إليهم، محذرين إياهم عذاب الله إن لم يؤمنوا. ثم أخبر عنهم بما قالوا لقومهم، وهو قوله: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] يعنون: القرآن، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] الآية. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] يعنون محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثًا إلى الجن، كما كان مبعوثًا إلى الإنس، قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيًا إلى الإنس والجن قبله. {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي

الأَرْضِ} [الأحقاف: 32] لا يعجز الله، فيسبقه ويفوته، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} [الأحقاف: 32] أنصار يمنعونه من الله، أولئك الذين لا يجيبون الرسل، {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32] . ثم احتج على إحياء الموتى، بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {33} وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {34} فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ {35} } [الأحقاف: 33-35] . {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] لم يعجز عن ذلك، يقال: عيي فلان بأمره، إذا لم يهتد له، ولم يقدر عليه، بقادر قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة مؤكدة. وقال الفراء: العرب تدخل الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنك بقائم. وهو قول الكسائي، والزجاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] قال ابن عباس، وقتادة: يريد: نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام. وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر. وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد والقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا في الدين. وهذا قول السدي. وقال أهل المعاني والتحقيق: كل الرسل أولو العزم، ولم يبعث الله رسولًا إلا كان ذا عزم، وحزم، ورأي، وكمال عقل. ومن في قوله: من الرسل تبيين لا تبعيض، كما يقال: أكسيه من الخز، وكأنه قيل له: اصبر كما صبر الرسل قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم، لصبرهم ورزانتهم، ويدل على صحة هذا ما 839 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا

مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا السَّرِيُّ بْنُ حَيَّانَ، نا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، نا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ الدُّنْيَا لا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلا لِآلِ مُحَمَّدٍ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ إِلا الصَّبْرَ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرَ عَلَى مَحْبُوبِهَا، وَلَمْ يَرْضَ إِلا أَنْ كَلَّفَنِي مَا كَلَّفَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا بُدٌّ لِي مِنْ طَاعَتِهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوا، وَأَجْهَدَنَّ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ " وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] أي: العذاب، وكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضجر بعض الضجر، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال، ثم أخبر أن العذاب منهم قريب بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 35] أي: من العذاب في الآخرة، لم يلبثوا في الدنيا، {إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] أي: إذا عاينوا العذاب، صار طول لبثهم في الدنيا، والبرزخ كأنه ساعة من نهار، لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلًا، وتم الكلام، ثم قال: بلاغ أي: هذا القرآن، وما فيه من البيان، بلاغ عن الله إليكم، والبلاغ بمعنى: التبليغ، {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] أي: لا يقع العذاب إلا بالعاصين، الخارجين عن أمر الله، وقال قتادة: اعلموا، والله ما يهلك على الله إلا هالك مشرك ولى ظهره للإسلام، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله. وقال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وتفضله، إلا القوم الفاسقون. ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله تعالى آية أقوى، وأتم من هذه الآية.

تفسير سورة محمد صلى الله عليه وسلم

تفسير سورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي ثلاثون وثمان آيات، مدنية. 840 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ {1} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ {2} ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ {3} } [محمد: 1-3] . الذين كفروا بتوحيد الله، وصدوا الناس، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1] الإيمان، والإسلام، يعني: مشركي قريش، أضل أعمالهم أبطلها، وأذهبها حتى كأنها لم تكن، إذ لم يروا في الآخرة لها ثوابًا، وأراد بأعمالهم: إطعامهم الطعام، وصلتهم الأرحام. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [محمد: 2] يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] من آيات القرآن، وهو الحق الصدق، من ربهم من عند ربهم، {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2] سترها عنهم: بأن غفرها لهم، فلا يحاسبون عليها يوم القيامة، كما أضل أعمال الكفار، وأصلح بالهم قال المبرد: البال الحال ههنا. قال ابن عباس: عصمهم أيام حياتهم، يعني: أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لم يعصوا، ويعود إلى إصلاح حالهم في الدنيا من إعطاء المال. ثم ذكر السبب في ذلك، فقال:

{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 3] أي: ذلك الإصلاح والإضلال، باتباع الكافرين الشرك، وعبادة الشيطان، واتباع المؤمنين التوحيد، والقرآن، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 3] قال الزجاج: كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين. يعني: أن من كان كافرًا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنًا كفر سيئاته، كما ذكر ههنا في الفريقين. ثم علم المؤمنين كيف يصنعون بالكافرين إذا لقوهم، فقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ {5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ {6} } [محمد: 4-6] . {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 4] أي: في القتال، فضرب الرقاب أي: فاضربوا رقابهم، والمعنى: اقتلوهم، لأنه أكثر مواضع القتل ضرب العنق، فإن ضربه على مقتل آخر كان كما لو ضرب عنقه، لأن القصد قتله، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} [محمد: 4] بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل، فشدوا الوثاق يعني: في الأسر، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، والوثاق اسم من الإيثاق، يقال: أوثقه إيثاقًا ووثاقًا إذا شد أسره، كيلا يفلت، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] أي: بعد أن تأسروهم، إما مننتم عليهم منًا فأطلقتموهم بغير عوض، وإما أن تفدوا فداء، قال الوالبي، عن ابن عباس: لما كثر المسلمون، واشتد سلطانهم، أنزل الله على نبيه في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فجعل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمؤمنين بالخيار في الأسارى: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم. ويجوز الإطلاق بغير فداء، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4] والإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخلال الأربع: من القتل، والاسترقاق، والفداء، والمن وذهب جماعة من المفسرين إلى نسخ المن والفداء بالقتل، لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] الآية، وهو قول قتادة، ومجاهد، والحسن، والسدي. قال أبو عبيد: لم يزل رسول الله

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاملًا بهذه الأحكام كلها من القتل، والفداء، والمن، حتى توفاه الله على ذلك، ولا نعلمه نسخ شيئًا منها. وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام. وقال سعيد بن جبير: يعني: خروج المسيح. ومعنى الآية: حتى تضع حربكم، وقتالكم أوزار المشركين، وقبائح أعمالهم بأن يسلموا، فلا يبقى دين غير الإسلام، ولا يعبد وثن، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقاتل آخر أمتي الدجال» . قال الزجاج: أي: اقتلوهم وأسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر فالحرب قائمة أبدًا. وقال الفراء: المعنى: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. وقوله: ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4] أن أنه قادر على الانتصار من الكفار بإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء، ولكن أمركم بالحرب، {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] قال ابن عباس: يريد من قتل من المؤمنين صار إلى الثواب، ومن قتل من المشركين صار إلى العذاب. والمعنى: أن الله تعالى ابتلى الفريقين أحدهما بالآخرة، ليثيب المؤمن، ويكرمه بالشهادة، ويخزي الكافر بالقتل، وَالَّذِينَ قَاتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جاهدوا المشركين، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] كما أضل أعمال الكافرين، وقرأ أبو عمرو {وَالَّذِينَ قُتِلُوا} [محمد: 4] والوجه قراءة العامة، لأنها تشمل من قاتل ممن قتل ولم يقتل، وقراءة أبي عمرو تخص المقتولين.

ولأن الله تعالى قال: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5] ، قال ابن عباس: سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا. وهذا لا يحسن في وصف المقتولين. ويدخلهم الجنة في الآخرة، عرفها لهم بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة، تفرقوا إلى منازلهم، فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، هذا قول عامة المفسرين. وروى عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد طيبها لهم. وهذا من العرف وهو الرائحة الطيبة، وطعام معرف، أي: مطيب، والمعنى: طيبها لهم بما خلق فيها من الروائح الطيبة. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7} وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ {8} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ {9} } [محمد: 7-9] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] تنصروا دينه، ورسوله، ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم عند القتال. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد: 8] قال المبرد: فمكروها لهم وسوءًا. وهذا إنما يقال لمن دعي عليه بالشر والهلكة، يقال: تعس يتعس تعسًا، إذا انكب وعثر. قال ابن عباس: يريد في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار. وأضل أعمالهم ذكرنا تفسيره. ذلك التعس والإضلال، {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [محمد: 9] على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين من الفرائض من الصلاة والزكاة، فأحبط أعمالهم لأنها لم تكن في إيمان. ثم خوف كفار مكة، بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا {10} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ {11} إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ {12} وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً

مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ {13} } [محمد: 10-13] . أفلم يسيروا إلى قوله: وللكافرين أمثالها أي: أمثال عاقبة الأولين، من إهلاكهم بالعذاب، والتدمير عليهم. ثم ذكر سبب نصر المؤمنين، فقل: ذلك النصر، {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11] وليهم، وناصرهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] لا ولي، ولا ناصر لهم. 841 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أنا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الْكَوَّاءِ: مَنْ رَبُّ النَّاسِ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ مَوْلَى النَّاسِ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: كَذَبْتَ، اللَّهُ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ثم ذكر ما للفريقيين، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 12] إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} [محمد: 12] أي: في الدنيا، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد: 12] تأكل وتشرب، ولا تدري ما في غد، كذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة، {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] منزل، ومقام، ومصير. ثم خوفهم ليحذروا، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] يعني: مكة، التي أخرجتك أخرجك أهلها، الكلام على القرية والمراد الأهل، قال ابن عباس: كم من رجال هم أشد من أهل مكة. ولهذا قال: أهلكناهم فكنى عن الرجال، قال مقاتل: أي: بالعذاب حين كذبوا رسولهم. {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] قال ابن عباس: لم يكن لهم ناصر. ثم ذكر ما بين المؤمن والكافر، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {14} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ {15} } [محمد: 14-15] . {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [محمد: 14] يقين من دينه، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14] يعني: عبادة الأوثان، واتبعوا أهواءهم في عبادتها. ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله: مثل الجنة أي: صفتها، وقد تقدم تفسير هذا في { [الرعد،] الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [سورة محمد: 15] قال الكلبي، ومقاتل: هم أمة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقون الشرك. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] يقال: أسن الماء، يأسن ويأسن أسنًا وأسنًا وأسونا إذا تغير، وهو الذي لا يشربه أحد من نتنه فهو آسن وأسن، مثل حاذر وحذر، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] لم يحمض، كما يتغير ألبان أهل الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم،

{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] لذيذة لهم، كما قال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات: 46] ، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] من العكر والكدر، ولهم فيها في الجنة، {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد: 15] قال الفراء: أراد: أمن كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15] شديد الحر، تستعر عليه جهنم منذ خلقت، فقطع أمعاءهم في الجوف، من شدة الحر. 842 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَايِعُ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا أَبُو الْمُوَجَّهِ، أنا عَبْدَانُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [مُحَمَّد: 15] . أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفضل، أنا عبد المؤمن بن خلف، أنا أبو العباس أحمد بن محمد المسروقي، حدثني علي بن يحيى، عن محمد بن عبيد الله الكاتب، قال: قدمت من مكة، فلما صرت إلى طيزناباذ، ذكرت بيت أبي نواس: بطيزناباذ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء فهتف بي هاتف، أسمع صوته، ولا أراه:

وفي الجحيم حميم ما تجرعه حلق ... فأبقى له في البطن أمعاء والأمعاء: جميع ما في البطن من الحوايا، وأحدها معاء. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {16} وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ {17} فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ {18} فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ {19} } [محمد: 16-19] . ومنهم يعني: من المنافقين، كانوا يستمعون إلى خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة، وكان يعرض بهم، ويعينهم، فإذا خرجوا من المسجد، قالوا لأولي العلم من الصحابة: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] أي: الساعة، ومعنى الآنف من الائتناف، يقال: ائتنفت الأمر، أي: ابتدأته، وأصله من الأنف وهو ابتداء كل شيء، وإنما سألوا أولي العلم، لأنهم لم يعقلوا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمنع الله تعالى إياهم عن ذلك، وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] قال مقاتل: ختم الله على قلوبهم بالكفر، فلا يعقلون الإيمان. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] في الكفر والنفاق. والذين اهتدوا يعني: أهل الإسلام، زادهم ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هدى قال الضحاك: كلما أتاهم من الله تنزيل فرحوا به، فزادهم الله به هدى. وآتاهم تقواهم وفقهم للعمل بما أمروا به، وهو التقوى، ويجوز أن يكون المعنى: وآتاهم ثواب تقواهم، أي: في الآخرة. ثم خوف كفار مكة بقرب الساعة، وأنها إذا أتت لم يقبل منهم شيء، فقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد: 18] وقد تقدم تفسير هذا في آي كثيرة، وقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها واحدها شرط، قال ابن عباس: معالمها. يريد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشراطها، وقد قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» . وقال مقاتل: يعني: أعلامها من انشقاق القمر، والدخان، وخروج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد عاينوا هذا كله. {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] قال قتادة: يقول: أني لهم أن يتذكروا، أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة. وقال عطاء: من أين لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة؟ ومثله قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] . وقوله: {فَاعْلَمْ

أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] قال الزجاج: الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره، ويجوز أن يكون المعنى: أقم على ذلك العلم، واثبت عليه. ويجوز أن يكون هذا متعلقًا بما قبله، على معنى: إذا جاءتهم الساعة {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] ، يعني: أن الممالك تبطل عند ذلك، فلا ملك، ولا حكم لأحد إلا الله تعالى، واستغفر لذنبك إنما أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له، لتستن به أمته في الاستغفار. 843 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ حَمْدَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [مُحَمَّد: 19] الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ. 844 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحِذَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ السُّكَّرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيُّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [مُحَمَّد: 19] {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [مُحَمَّد: 19] ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا ذَرِبَ اللِّسَانِ عَلَى أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يُدْخِلَنِي لِسَانِي النَّارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ؟ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وقوله: وللمؤمنين والمؤمنات هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة، حين أمر نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم، ثم أخبر عن علمه بأحوال الخلق ومآلهم، بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] قال ابن عباس: متصرفكم في أعمالكم في الدنيا، ومصيرهم في الآخرة، إلى الجنة أو إلى النار. وقال مقاتل: منتشركم بالنهار، ومأواكم بالليل. والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ {20} طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ {21} فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ {23} أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا {24} } [محمد: 20-24] . {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد: 20] قال ابن عباس: إن المؤمنين سألوا ربهم أن ينزل { [فيها ثواب القتال في سبيل الله. قال الله تعالى:] فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} [سورة محمد: 20] أي: لم ينسخ منها شيء، {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد: 20] وهم المنافقون، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] قال ابن قتيبة، والزجاج: يريد: أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون نظرًا شديدًا، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت، وإنما ذلك لأنهم منافقون، يكرهون القتال. فأولى لهم تهديد، ووعيد لهم، قاله مقاتل، والكلبي، وقتادة. قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك، أي: وليك، وقاربك ما تكره. {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] ابتداء محذوف الخبر، تقديره: طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، والمعنى على هذا: أن الله تعالى، قال: لو أطاعونا، وقالوا قولًا معروفًا، كان أمثل وأحسن. ويجوز أن يكون هذا متصلًا بما قبله، على معنى: فأولى لهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي: لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم، وهذا معنى قول ابن عباس، في رواية عطاء، واختيار الكسائي، {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} [محمد: 21] أي: جد الأمر، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معزومًا عليه، وجواب إذا محذوف، يدل عليه قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] وتقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا، أو كذبوا فيما وعدوا من أنفسهم، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} [محمد: 21] في إيمانهم وجهادهم، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] من المعصية، والكراهية. {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] يقول: فلعلكم، إن توليتم أعرضتم عن الإسلام، وما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي

الأَرْضِ} [محمد: 22] يعني: تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا، ويقتل بعضكم بعضًا، وهو قوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وكأن الله تعالى يذكر منته عليهم بالإسلام حين جمعهم به، وأكرمهم بالألفة، بعدما كانوا عليه من القتل، والبغي، وقطيعة الرحم، فيقول: لعلكم إذا كرهتم الإسلام، تريدون أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه. ثم ذم من يريد هذا، بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] فلا يسمعون الحق، ولا يهتدون لرشد. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} [محمد: 24] فيعرفوا ما أعد الله للمتمسك بالإسلام، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] قال مقاتل: يعني: الطبع على القلب. والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الإسلام والقرآن، ومعنى تنكير القلوب: إرادة قلوب هؤلاء، ومن كان مثلهم من غيرهم، وفي إضافة الأقفال إلى القلوب تنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، إذ ليست للقلوب أقفال حقيقية، ومعنى الاستفهام في قوله: أم: الإخبار أنها كذلك، لأن معنى أم ههنا: بل. 845 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، نا وُهَيْبٌ، نا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقْرِئُ شَابًّا فَقَرَأَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّد: 24] فَقَالَ الشَّابُّ: عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا حَتَّى يُفَرِّجَهَا اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ» ثم ذكر اليهود، وسوء عاقبتهم حين ارتدوا بعد المعرفة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ {26} فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ {28} } [محمد: 25-28] . {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] رجعوا كفارا، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25] ظهر لهم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنعته، وصفته في كتابهم، {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] زين لهم القبيح، وأملى لهم الله أمهلهم موسعًا عليهم، ليتمادوا في طغيانهم، ولم يعجل عليهم بالعقوبة، كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] ويحسن الوقف على قوله: {سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] لأنه فعل الشيطان، والإملاء فعل الله تعالى. وعلى قول الحسن لا يحسن الوقف، لأنه يقول في تفسير وأملى لهم: مد لهم الشيطان في الأمل. وقرأ أبو عمرو وأملي لهم على ما لم

يسم فاعله، وهي حسنة للفصل بين فعل الشيطان وفعل الله، ويعلم يقينًا أنه لا يؤخر أحد مدة أحد، ولا يوسع فيها إلا الله عز وجل، وإن كان قد بني الفعل للمفعول. وقوله: ذلك أي: ذلك الإملاء لليهود، {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد: 26] يعني: المشركين، {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: 26] يعنى: في التعاون على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم قالوا ذلك سرًا فيما بينهم، فأخبر الله به عنهم، وأعلم أنه يعلم ذلك، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أسرارَهُمْ وقرئ بكسر الألف على المصدر. ثم خوفهم، فقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ} [محمد: 27] أي: فكيف يكون حالهم، {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] وقد مر تفسيره. ثم ذكر سبب ذلك الضرب، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد: 28] قال ابن عباس: بما كتموا من التوراة، وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] كرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان، وإذا كرهوا ما فيه الرضوان فقد كرهوا الرضوان، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] التي كانوا يعملونها من صلاة، وصدقة، وصلة رحم، لأنها في غير إيمان. ثم رجع إلى ذكر المنافقين، فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ {29} وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ {30} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {31} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ {32} } [محمد: 29-32] . {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29] أن لن يطلع الله على ما في قلوبهم، من الحقد والعداوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللمؤمنين، ومعنى يخرج الله: يظهر الله ذلك من ستر الكتمان، والضغن والضغينة: الحقد. {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد: 30] لأعلمناكهم، ولعرفناكهم، فلعرفتهم بسيماهم قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيماء، فلعرفتهم بتلك العلامة. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] قال أبو زيد يقال: لحنت له ألحن إذا

قلت له قولًا يفقهه عنك، ويخفى على غيره. ولحن القارئ فيما قرأ إذا ترك الإعراب الصواب وعدل عنه، قال المفسرون: ولتعرفنهم في فحوى القول ومعناه، ومقصده، ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك، وأمر المسلمين والاستهزاء بهم. وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه بكلامه لما نبهه الله على ذلك بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] استدل بفحوى كلامهم على فساد دخيلتهم. ولنبلونكم ولنعاملنكم معاملة المختبر، بأن نأمركم بالقتال والجهاد، حتى يتبين المجاهد، والصابر على دينه، من غيره وهو قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] أي: العلم الذي هو علم وجود، وهو الذي يقع به الجزاء، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] أي: نظهرها، ونكشفها، بإباء من يأبى القتال، ولا يصبر على الجهاد. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 32] يعني: قريظة والنضير، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 32] بما بين لهم في التوراة، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: 32] إنما يضرون أنفسهم، بتركهم الهدى، وسيحبط الله أعمالهم، فلا يرون لها في الآخرة ثوابًا. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ {33} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ {34} } [محمد: 33-34] . قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 33] إلى قوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] قال عطاء: بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرياء، والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه لا يضر مع الإخلاص لله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال. ثم قال للمسلمين: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ {35} إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ {36} إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ {37} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {38} } [محمد: 35-38] .

{فَلا تَهِنُوا} [محمد: 35] لا تضعفوا، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء، قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وأنتم الأعلون الغالبون، قال الكلبي: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات. والله معكم بالعون، والنصرة على عدوكم، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وترًا، وترة إذا نقصه حقه، قال مقاتل بن حيان: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة. أي: يؤتيكم أجورهم. ثم حض على طلب الآخرة، فقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] باطل وغرور، وتفنى وتزول عن قريب، وإن تؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتتقوا الفواحش والكبائر، يؤتكم أجوركم بجزاء أعمالكم في الآخرة، {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] كلها في الصدقة. {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد: 37] يجهدكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى فلان فلانًا إذا أجهده , وألحف عليه بالمسألة، تبخلوا بها فلا تعطوها، قال السدي: إن يسألكم جميع ما في أيديكم {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37] ويظهر بغضكم، وعداوتكم لله ورسوله، ولكنه فرض عليكم يسيرًا: ربع العشر. قال قتادة: علم الله تعالى أن في مسألة الأموال خروج الأضغان. {هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 38] يعني: ما فرض عليهم في أموالهم، أي: إنما تؤمرون بإخراج ذلك، وإنفاقه في طاعة الله، {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد: 38] بما فرض عليه من الزكاة، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] قال مقاتل: إنما يبخل بالخير، والفضل في الآخرة عن نفسه. والله الغني عما عندكم من الأموال، وأنتم الفقراء إليه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وإن تتولوا عن الإسلام، وعما افترضت عليكم من حقي، {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أمثل، وأطوع لله منكم، {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] بل يكونون خيرًا منكم وأطوع، قال الكلبي: لم يتولوا، ولم يستبدل بهم. 846 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، نا جَدِّي، أنا عَلِيُّ بْنُ

حُجْرٍ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ، فَقَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ» .

تفسير سورة الفتح

تفسير سورة الفتح وهي عشرون وتسع آيات، مدنية. 847 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَكَأَنَّمَا كَانَ مَعَ مَنْ شَهِدَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ» 848 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو نُوحٍ، أنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: " نَزَلَتْ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2] . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْقَعْنَبِيّ، عَنْ مَالِكٍ 849 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ السَّامَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَامِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا أَبُو الْأَشْعَثِ، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا، فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ

فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا» . {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {2} وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا {3} } [الفتح: 1-3] . بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] يعني: صلح الحديبية، كان فتحًا بغير قتال، قال الفراء: الفتح قد يكون صلحًا. ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا متعذرًا، حتى فتحه الله، قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير. قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 2] قال ابن الأنباري: سألت أبا

العباس عن اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 2] . فقال: هي لام كي، معناها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع، حسن معنى كي، وغلط من قال: ليس الفتح سبب المغفرة، ولكن المعنى: ليجمع لك مع المغفرة تمام النعمة. وقوله: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قال ابن عباس: ما تقدم ما كان عليك من إثم الجاهلية، وما تأخر مما يكون. وهذا على طريقة من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، وقال سفيان الثوري: ما تقدم مما عملت في الجاهلية، {وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ما لم تعمله. ويذكر هذا على طريقة التأكيد كما يقال: أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه. 850 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ الْبَزَّارُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا وقوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] قال ابن عباس: في الجنة. وروي عنه أي: بالنبوة والمغفرة، والمعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة، والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام. وينصرك الله على عدوك، نصرًا عزيزًا إذا عز لا يقع معه ذل.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {4} لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا {5} وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {6} وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {7} } [الفتح: 4-7] . {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] الطمأنينة والوقار، لئلا تنزعج نفوسهم بما يرد عليهم، وذلك لأنهم يجدون برد اليقين في قلوبهم، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وهو أنهم كلما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض، كالصلاة، والصيام، والصدقة صدقوا به، فازدادوا تصديقًا، وذلك السكينة التي أنزلها الله في قلوبهم، وقال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها، ازدادوا تصديقًا، وذلك بالسكينة إلى تصديقهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح: 4] قال ابن عباس: يعني: الملائكة، والجن، والإنس، والشياطين. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [الفتح: 4] بما في قلوب عباده، حكيمًا في حكمه وتدبيره. {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح: 5] . 851 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَدِينِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَنِيئًا لَكَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح: 5] وقوله: وكان ذلك أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم، عند الله في حكمه، فوزًا عظيمًا لهم، أي: حكم لهم بالفوز، فلذلك

وعدهم إدخال الجنة. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الفتح: 6] من أهل المدينة، والمشركين والمشركات من أهل مكة، أي: بأيدي المؤمنين، لأن نصرة الرسول والفتح عليه يقتضي ذلك، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6] هو أنهم ظنوا أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينصر، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] أي: العذاب والهلاك يقع بهم، وقد تقدم الكلام في هذا. قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا {9} إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {10} } [الفتح: 8-10] . {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الفتح: 8] على أمتك بتبليغ الرسالة، ومبشرًا بالجنة للمطيعين، ونذيرًا لأهل المعصية. ليؤمنوا بالله يعني: من آمن به وصدقه، ومن قرأ بالتاء فمعناه: قل لهم: لتؤمنوا به، وتعزروه وتعينوه، وتنصروه بالسيف واللسان، وتوقروه تعظموه وتبجلوه، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفتح: 9] تصلوا لله بالغداة والعشي، وكثير من القراء اختاروا الوقف على: وتوقروه لاختلاف الكناية فيه، وفيما بعده. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 10] يعني: بيعة الرضوان بالحديبية، بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يفروا ويقاتلوا، {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، والعقد كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] نعمة الله في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، أي: إحسان الله إليهم بأن هداهم للإيمان، أبلغ وأتم من إحسانهم إليك بالنصرة والبيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. أي: ثق بنصرة الله لك، لا بنصرتهم وإن بايعوك، فمن نكث نقض ما عقد من البيعة، {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] يرجع ضرر ذلك النقض عليه، قال ابن عباس: وليس له الجنة، ولا كرامة. ومن أوفى ثبت على الوفاء، {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} [الفتح: 10] من البيعة، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] يعني: الجنة فما فوقها. قوله:

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {11} بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا {12} وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا {13} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {14} } [الفتح: 11-14] . {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [الفتح: 11] وهم: الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية: شغلتنا عن الخروج معك، أموالنا وأهلونا يعني: النساء والذراري، أي: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، فاستغفر لنا تخلفنا عنك، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] أي: من أمر الاستغفار، لا يبالون استغفر لهم النبي أم لا، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الفتح: 11] قال ابن عباس: فمن يمنعكم من عذاب الله. {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} [الفتح: 11] يعني: سوءا، وقرئ بضم الضاد وهو سوء الحال، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] يعني: الغنيمة، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله أنه إن أراد بهم شيئًا، لم يقدر أحد على دفعه عنهم، {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11] كان عالمًا بما كنتم تعملون في تخلفكم. {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد، لأن العدو يستأصلهم، {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [الفتح: 12] زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، قال قتادة: ظنوا بنبي الله، وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم. وهو قوله {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] هلكى، لا تصلحون لخير، قال الزجاج: هالكين عند الله. وقد تقدم تفسيره. وما بعد هذا ظاهر، إلى قوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا

قَلِيلا {15} قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {16} } [الفتح: 15-16] سيقول المخلفون يعني: هؤلاء، إذا انطلقتم سرتم، وذهبتم أيها المؤمنون، {إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح: 15] يعني: غنائم خيبر، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية بالصلح، وعدهم الله فتح خيبر، وخص بغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها، قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] وقرئ كلم الله وهو جمع قلة، قال ابن عباس: يريدون مواعيد الله لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة. وقال مقاتل: يعني: أمر الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يسير معه منهم أحد. {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] أي: قال الله بالحديبية قبل خيبر مرجعنا إليكم، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح: 15] يمنعكم الحسد أن نصيب معكم الغنائم، فقال الله: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ} [الفتح: 15] لا يعلمون عن الله ما لهم، وما عليهم من الدين، إلا قليلًا يسيرًا منهم، وهو من صدق الله والرسول، ولم ينافق. {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] أكثر المفسرين: على أن هؤلاء بنو حنيفة أتباع مسيلمة، وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية، ولا نعلم من هم، فلما دعا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم. وقال ابن جريج: سيدعوكم عمر، رضي الله عنه، إلى قتال فارس. {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أو يكون منهم الإسلام، فإن تطيعوا أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} [الفتح: 16] يعني: الجنة، وإن تتولوا تعرضوا عن طاعتهما، {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 16] أعرضتم عن طاعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسير إلى الحديبية، يعذبكم في الآخرة، عذابًا أليمًا والآية تدل على خلافة الشيخين رضي الله عنهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة، وعلى مخالفتهما العذاب الأليم.

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17] . {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة، الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية. ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم لله، وشهدوا بيعة الرضوان، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا {18} وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {19} وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {20} وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {21} } [الفتح: 18-21] . {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] يعني: بيعة الحديبية، وهي تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية، قال عطاء، عن ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية، وقفت ناقته، فزجرها، فلم تنزجر وبركت، فقال أصحابه: خلأت الناقة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل» . ودعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليرسله إلى أهل مكة، ليأذنوا له بأن يدخل مكة، ويحل من عمرته، وينحر هديه، فقال: يا رسول الله، ما لي بها حميم، وإني أخاف قريشًا على نفسي، ولقد علمت قريش شدة عداوتي

إياها، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان. قال: «صدقت» . فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأرسله، فجاء الشيطان، وصاح في عسكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوا عثمان بن عفان، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على قتال أهل مكة، قال عبد الله بن أبي أوفي: كنا يومئذ ألف وثلاث مائة. وقال جابر: كنا ألف وأربع مائة. وقال البراء: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ وتمضمض، ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنا أصدرنا، فأنشأنا نشرب نحن وركابنا. وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] أي: من الصدق والوفاء، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] يعني: فتح خيبر. {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] من أموال يهود خيبر، وكانت ذات عقار وأموال، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [الفتح: 19] غالبًا، حكيمًا في أمره: حكم لكم بالغنيمة، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة. ثم ذكر سائر المغانم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان، فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] قال مقاتل: مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن بعده إلى يوم القيامة. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني: غنيمة خيبر، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قصد خيبر، وحاصر أهلها، قبائل من أسد، وغطفان، أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله تعالى أيديهم، بإلقاء الرعب في قلوبهم، ولتكون الغنيمة التي عجلها الله لكم، آية للمؤمنين على صدقك، حيث وعدتهم أن يصيبوها، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20] يزيدكم هدى، بالتصديق لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما جاء به، مما

ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة. {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد فارس والروم، وما كانت العرب تقدر على القتال فارس والروم، وفتح مدائنهم. بل كانوا خولًا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] جعلها لكم، وحواها لكم، قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم، كأنه قال: حفظها لكم، ومنعها عن غيركم، حتى تفتحوها فتأخذوها. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [الفتح: 21] من فتح القرى، وغير ذلك، قديرًا. قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {22} سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا {23} وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا {24} هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {25} إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {26} } [الفتح: 22-26] . {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 22] يعني: أسدًا وغطفان، الذين أرادوا نهب ذراري المسلمين، لولوا الأدبار لانهزموا عنكم، لأن الله تعالى ينصركم عليهم، {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح: 22] قال ابن عباس: من تولى غير الله، خذله الله ولم ينصره. ثم ذكر أن سنة الله النصرة لأوليائه، فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 23] قال ابن عباس: يريد هذه سنتي في أهل طاعتي، وأهل معصيتي: أنصر أوليائي، وأخذل أعدائي. ثم ذكر منته بالمحاجزة بين الفريقين، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] وذلك أن المشركين جاءوا يصدون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت عام الحديبية.

852 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّيْدَلانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّيَّارِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلالٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدٍ، أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24] . 853 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا فَاسْتَحْيَاهُمْ

وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَّتَهُ بِحَجْزِهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى لَمْ يَقْتَتِلا، وَحَتَّى اتَّفَقَ بَيْنَهُمُ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ أَعْظَمَ مِنَ الْفَتْحِ ثم ذكر سبب منعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك العام دخول مكة، فقال: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 25] يعني: كفار مكة، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] أن تطوفوا به، وتحلوا من عمرتكم، والهدي وصدوا الهدي، وهي: البُدْن التي ساقها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه، وكانت سبعين بدنة، معكوفًا محبوسًا، يقال: عكفته عن كذا عكفًا، أي: حبسته فعكف عكوفًا، كما يقال: رجعته رجعًا، فرجع رجوعًا، {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] منحره، وهو حيث تحل نحره يعني: الحرم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] يعني: المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة بين الكفار، لم تعلموهم لم تعرفوهم، أن تطئوهم بالقتل وتوقعوا بهم، قال الزجاج: المعنى: لولا أن تطئوا رجالًا مؤمنين، ونساء مؤمنات. {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} [الفتح: 25] إثم، وجناية بغير علم، وذلك: أنهم لو كبسوا مكة وفيها قوم مؤمنون، لم يتميزوا من الكفار، لم يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة، وتلحقهم سبة بأنهم قتلوا من هو على دينهم، فهذه المعرة التي صان الله المؤمنين عنها، وقوله: بغير علم موضعه التقديم، لأن التقدير: لولا أن تطئوهم بغير علم، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح: 25] اللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام على تقدير: حال بينكم وبينهم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، يعني: من أسلم من الكفار بعد الصلح، لو تزيلوا لو تميزوا، يعني: المؤمنين من الكفار، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] يعني: بالقتل، والسبي بأيديكم. {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] وهي الأنفة والإنكار، يقال: فلان ذو حمية منكرة، إذا كان ذا غضب وأنفة، قال المقاتلان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا، ويدخلون علينا في منازلنا، فتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا رغم أنفنا! واللات والعزى لا يدخلونها عليها. فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ

سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية، فيعصوا الله في قتالهم، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وهي: لا إله إلا الله، الكلمة التي ينفى بها الشرك. 854 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّد بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، نا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. 855 - أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن حمدان، أنا أحمد بن جعفر القطيعي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حَدَّثَنِي أبي، نا عبد الوهاب الخفاف، نا شعبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن حمدان بن أبان، عن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حرم على النار» فَقَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنا أحدثك مَا هِيَ، هِيَ كلمة الإخلاص التي ألزمها الله تَعَالَى محمدًا وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي ألاص عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمه أبو طالب عند الموت، شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح: 26] من كفار مكة، وكانوا أهلها في علم الله، لأن الله تعالى اختار لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولدينه أهل الخير، ومن هم أولى بالهداية من غيرهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26] من أمر الكفار وما يستحقونه، وأمر المؤمنين وما يستحقونه. قوله:

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا {27} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {28} } [الفتح: 27-28] . {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] قال المفسرون: إن الله تعالى أرى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية، كأنه وأصحابه حلقوا، وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق. فلما انصرفوا، ولم يدخلوا مكة، قال المنافقون: والله ما حلقنا، ولا قصرنا، ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنه أرى رسوله الصدق في منامه لا الباطل، وأنهم يدخلونه، فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] يعني: العام المقبل، {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27] قال أبو عبيدة: إن بمعنى: إذ، يعني: إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: استثنى الله فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. يعني: أنه تعالى علم أنهم يدخلونه، ولكنه استثنى على ما أمر به في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] ، وقوله: آمنين أي: من العدو، محلقين رءوسكم يقال: حلق رأسه، وحلقه بمعنى، ومقصرين أي: من الشعر، يقال: قصر شعره: إذا جزه من طوله، وهذا يدل على أن المحرم بالخيار عند التحلل من الإحرام، إن شاء حلق، وإن شاء قصر، لا تخافون أي: غير خائفين عدوا من المشركين، {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح: 27] علم الله ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح، ولم تعلموا أنتم، وهو خروج المؤمنين من بيتهم، والصلح المبارك موقعة، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح: 27] من قبل الدخول، فتحًا قريبًا يعني: فتح خيبر، في قول عطاء، ومقاتل. وفي قول الآخرين يعني: صلح الحديبية. قوله: {هُوَ

الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [الفتح: 28] مفسر في { [براءة،] وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة الفتح: 28] أي: على ما أرسل. قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] . {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] قال ابن عباس: شهد له بالرسالة. والذين معه قال: يعني: أهل الحديبية. وقال مقاتل: والذين آمنوا معه من المؤمنين. {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] غلاظ عليهم، كالأسد على فريسته، رحماء بينهم متوادون ببعضهم لبعض، كالولد لوالده، والعبد لسيده، كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] إخبار عن كثرة صلاتهم، ومداومتهم عليها، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] يعني: الجنة، ورضا الله، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] لكثرة صلاتهم بالليل، يتبين في وجوههم أثر السهر، قال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفرًا. وقال عطية: مواضع السجود أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة. وهذا قول الزهري، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع. وهو قول ابن عباس، في رواية الوالبي، قال: الهدى والسمت الحسن. المعنى: أن السجود أورثهم ذلك الخشوع، والسمت الحسن الذي يعرفون به، وقال عكرمة: هو التراب على الجباه. قال أبو العالية: لأنهم يسجدون على الترب، لا على الأثواب. {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] يعني: ما ذكر من وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة أيضًا، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل، فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] أي: فراخه، وجمعه أشطاء، يقال: أشطأ الزرع إذا فرخ، والشطأ والشطأ لغتان، كالنهر والنهر، فآزره ستره، وأعانه، وقواه، قال المبرد: يعني: أن هذه الأفرخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها.

وقرأ ابن عامر: فأزره مقصورًا، قال الفراء: أزرت فلانًا آزره، إذا قويته. فاستغلظ أي: غلظ ذلك الزرع، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] قام على قصبه وأصوله، فأعجب ذلك زراعه، وهو قوله: يعجب الزراع وهذا مثل ضربه الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالزرع محمد، والشطأ أصحابه، والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما كان أول الزرع دقيقًا، ثم غلظ وقوي، وتلاحق، كذلك المؤمنون قوي بعضهم بعضًا، حتى استغلظوا، واستووا على أمرهم، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] أي: إنما كثرهم وقواهم، ليكونوا غيظًا للكافرين. 856 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخُ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، نا رسته، نا أَبُو غَزْوَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَذَكَرُوا رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ، وَفِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} [الفتح: 29] قال الزجاج: منهم تخليص للجنس، وليس يريد بعضهم، لأنهم كلهم مؤمنون. {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] يعني: الجنة.

تفسير سورة الحجرات

تفسير سورة الحجرات وهي ثماني عشرة آية، مدنية. 857 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْلِدِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ بْنِ خَالِدٍ، نا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ. . . . . . . . . .

مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأْعَطَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَثَانِيَ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ» 858 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، نا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَدْلُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَائِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَكَأَنَّمَا كَانَ مَعَ مَنْ شَهِدَ مَعَ مُحَمَّدٍ فَتْحَ مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَاهُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ {2} إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ {3} إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {4} وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} } [الحجرات: 1-5] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قدم ههنا بمعنى: تقدم، وهو لازم، يدل عليه قراءة الضحاك لا تَقْدَموا بفتح التاء والدال، قال أبو عبيدة: العرب

تقول: لا تقدم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب. أي: لا تعجل بالأمر والنهي دونه. ومعنى بين اليدين ههنا: الأمام والقدام، وذلك راجع إلى قدام الأمر والنهي، لأن المعنى: لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما، وبين اليدين عبارة عن الأمام، لأن ما بين يدي الإنسان أمامه، ومعنى الآية: لا تقطعوا أمرًا دون الله ورسوله، أي: ولا تعجلوا به، قال جابر: نزلت في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. وقالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في النهي عن صوم يوم الشك. 859 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْأَنْبَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، نا أَبِي، نا النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حبال بْنِ رُفَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قَالَتْ: لا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتقوا لله في تضييع حقه، ومخالفة أمره، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحجرات: 1] لأقوالكم، عليم بأفعالكم. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] قال أنس: لما نزلت هذه الآية، قال ثابت بن قيس الأنصاري: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجهر له بالقول، حبط عملي، وأنا من أهل النار. وكان ثابت رفيع الصوت، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:

«هو من أهل الجنة» . {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] قال الزجاج: أمرهم الله تعالى بتبجيل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يغضوا أصواتهم، وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] أي: لئلا تحبط، أو مخافة أن تحبط أعمالكم، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] لا تعلمون به، وهذا يدل على أنه يجب أن يعظم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية التعظيم، فقد يأتي الإنسان الشيء اليسير في بابه، فيكون ذلك محبطًا لعمله، مهلكًا إياه وهو لا يعلم ذلك. {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] قال عطاء، عن ابن عباس: لما نزل قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] تألى أبو بكر رضي الله عنه، أن لا يكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا كأخي السرار، فأنزل الله تعالى في أبي بكر هذه الآية. 860 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، نا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، نا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] الآية آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لا أُكَلِّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا كَأَخِي السِّرَارِ وقال ابن الزبير: ما حدث عمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] فيسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته، فأنزل الله تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] والغض: النقص من كل شيء. ذكرنا عند قوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبثه. وعلى هذا تقدير الكلام: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الحجرات: 3] فأخلصها للتقوى، فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه، ولهذا قال مقاتل، ومجاهد، وقتادة: أخلص الله قلوبهم. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] هم الجفاة من

بني تميم، قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفداء ذراري لهم سبيت، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا. وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نام للقابلة، فتأذى بأصواتهم، ولم يعلموا في أي حجرة هو، فكانوا يطوفون على الحجرات، وينادونه، {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وصفهم الله بالجهل، وقلة الصبر، وقلة العقل، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] . قال مقاتل: يعني بالخير: أنهم لو صبروا، لخلى سبيلهم بغير فداء، فلما نادوه، أعتق نصف ذراريهم، وفادى نصفهم. يقول الله تعالى: ولو صبروا، لكنت تعتق كلهم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] لمن تاب منهم. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {6} وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ {7} فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {8} } [الحجرات: 6-8] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدقًا إلى بني المصطلق، فلما سمعوا به، اجتمعوا ليتلقوه، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، ففرق الوليد، ورجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إنهم قد منعوا الصدقة، وارتدوا. فنزلت فيه هذه الآية، قوله: فتبينوا ذكرنا القراءة فيه في { [النساء،] أَنْ تُصِيبُوا} [سورة الحجرات: 6] أي: لئلا تصيبوا، {قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] بحالهم، وما هم عليه من الإسلام، والطاعة، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ} [الحجرات: 6] من إصابتهم بالخطأ، نادمين وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالإيقاع بهم حتى نزلت هذه

الآية. ثم وعظهم، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7] معناه: اتقوا أن تكذبوا، أو تقولوا باطلًا، فإن الله تعالى يخبره، فتفتضحوا، ثم قال: لو يطيعكم أي: الرسول، {فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ} [الحجرات: 7] مما تخبرونه فيه بالباطل، لعنتم أي: لوقعتم في عنت، وهو الإثم والهلاك، ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} [الحجرات: 7] جعله أحب الأديان إليكم، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] حتى اخترتموه، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: 7] جعل الكفر تكرهونه، والفسوق قال ابن عباس: يريد الكذب. والعصيان جميع معاصي الله. ثم عاد إلى الخبر عنهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] هم المهتدون إلى محاسن الأمور. ثم بين أن جميع ذلك تفضل من الله تعالى، فقال: {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 8] قال ابن عباس: يريد تفضلًا مني عليهم، ورحمة مني لهم. والله عليم بما في قلوبهم، حكيم فيهم بعلمه. قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10} } [الحجرات: 9-10] . {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] . 861 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى كِلاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ قال الحسن، وقتادة، والسدي: فأصلحوا بينهما

بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ترجع إلى طاعة الله، والصلح الذي أمر الله به. 862 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ شَاذَانَ، نا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، نا كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ " هَلْ تَدْرِي كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ، فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلا يُقْسَمُ فَيْئُهَا " وأقسطوا أي: اعدلوا في الإصلاح بينهما، وفي كل حكم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا» . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] قال الزجاج: أعلم الله أن الدين يجمعهم، وأنهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] يعني: بين كل مسلمين تخاصما، وتقاتلا، ومعنى الآيتين يأتي على الجميع، لأن تأويله بين كل أخوين. 863 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، نا أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَشْتُمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ كِلاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ

وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {11} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {12} يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13} قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {15} قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {16} يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {17} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18} } [الحجرات: 11-18] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] قال مقاتل: يقول: لا يستهزئ الرجل من أخيه، فيقول: إنك رديء المعيشة، لئيم الحسب، وأشباه ذلك مما ينتقصه به، ولعله خير منه عند الله. وهو قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11] ، وقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: لا تعيبوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم، كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] التنابز: التفاعل من النبز، وهو مصدر والنبز الاسم، والألقاب: جمع اللقب، وهو اسم غير الاسم الذي سمي به الإنسان، قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي، يا نصراني. يدعوه بما كان عليه في الشرك، وقال عطاء: هو كل شيء أخرجت به أخاك عن الإسلام، كقوله: يا كلب، يا حمار، يا خنزير. {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] أي: بئس الاسم أن تقول له: يا يهودي، يا نصراني، وقد آمن، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] من التنابز، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] . قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] قال الزجاج: هو أن تظن بأهل الخير سوءًا، فأما أهل السوء، والفسق، فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. وقال المقاتلان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن،

وأبداه أثم. وهو قوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] يعني: ما أعلنه مما ظن بأخيه المسلم، ولا تجسسوا التجسس: البحث عن عيوب المسلمين وعوراتهم، يقول: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه، حتى يطلع عليه إذا ستره الله. 864 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، أنا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَقَاطَعُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» وقوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، يقول: لا يتناول بعضكم بعضًا بظهر الغيب، بما يسوءه مما هو فيه، فإن تناوله بما ليس فيه، فهو بهت وبهتان. 865 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ، قَالُوا جَمِيعًا: أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَلاءِ 866 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ بِوَاسِطَ، نا أَبُو بَكْرٍ خَلِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، أنا جَدِّي تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، أنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ، فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا» ،

قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهَا» . 867 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرٍ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ يَزْدَادَ الرَّاسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اغْتَابَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ» 868 - حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمْلاءً، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا جعديةُ بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِفَاسِقٍ غِيبَةٌ» ثم ضرب للغيبة مثلًا، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قال الزجاج: تأويله: إن ذكرك بسوء من لم يحضرك، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك. قال مجاهد: لما قيل لهم: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قالوا: لا. قيل: فكرهتموه أي: فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبًا. ويقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس. 869 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، أنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: مَرَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ، فَقَالَ: لَأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْتَلِئَ جَوْفُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ. أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أنا إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أنا محمد بن إسحاق السراج، نا قتيبة، عن مروان بن سالم القرشي، نا

مسعدة بن اليسع، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي: أن رجلًا اغتاب عنده رجلًا، قال: فأخبرني أنه رأى في المنام، كأن زنجيًا أتاه بطبق عليه جنب لحم خنزير لم أر لحمًا أنتن منه، فقال: كل. فقلت: آكل لحم خنزير! قال: فتهددني، وقال لي: كل. فأكلت، قال يزيد: فحلف لي أنه لم يزل شهرًا يجد نتن ذلك في فيه. واتقوا الله في الغيبة، {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [الحجرات: 12] على من تاب، رحيم به. قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] يعني: آدم وحواء، أي: إنكم متساوون في النسب، لأن كلكم يرجع بالنسب إلى آدم وحواء، نزلت الآية في الزجر عن التفاخر بالأنساب. 870 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، نا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَطَفِّ الصَّاعِ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بِالتَّقْوَى» ثم ذكر أنه إنما فرق بين أنساب الناس، ليتعارفوا، لا ليتفاخروا، فقال: وجعلناكم شعوبًا وهي جمع شعب، وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، وهم كبكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول جماعة المفسرين، وروى عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب. وإلى هذا ذهب قوم، فقالوا: الشعوب من العجم، وهم من لا يعرف لهم أصل، ولا نسب كالهند، والجيل، والترك، والقبائل من العرب. وقوله: لتعارفوا أي:

يعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده، ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . 871 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَمَرْتُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكُمْ فِيهِ، وَرَفَعْتُمْ أَنْسَابَكُمْ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأُضَيِّعُ أَنْسَابَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أخبرنا أبو الحسن محمد أحمد بن محمد بن الفضل، أنا أبو يعلي النسفي، أنا محمد بن يونس الكريمي، نا أبو عاصم، نا موسى بن عبيد، عن سعيد المقبري، قال: سأل رجل عيسى ابن مريم عليه السلام: أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب، فقال: أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم عند الله أتقاهم. وقال قتادة: أكرم الكرم التقوى، وألأم واللؤم الفجور. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله بقوله» . {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14] نزلت في بني أسد، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة جدبة، وأظهروا الإسلام،

ولم يكونوا مؤمنين في السر، إنما كانوا يطلبون الصدقة، والمعنى: أنهم يقولون: صدقنا ما جئت به. {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] لم تصدقوا، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] انقدنا واستسلمنا، مخافة القتل والسبي، ثم بين أن الإيمان محله القلب لا اللسان، بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع، وقبول ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد، وتصديق بالقلب، فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: لم تصدقوا، إنما أسلمتم تعوذًا من القتل. 872 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، نا عَلِيُّ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ» {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات: 14] قال ابن عباس: تخلصوا الإيمان. {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] وقرأ أبو عمرو لا يألتكم بالألف، من ألت يألت ألتا إذا نقص، ويقال أيضًا: لات يليت ليتا بهذا المعنى، قال ابن عباس، ومقاتل: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. ثم نعت الصادقين في إيمانهم، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15] وذلك أن الجهاد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ كان فرضًا في ذلك الوقت، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] في إيمانهم، فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحلفون أنهم مؤمنون صادقون. وعرف الله غير ذلك منهم، فأنزل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16] علم ههنا بمعنى: أعلم، لذلك أدخلت الباء في بدينكم، يقول: أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه؟ أي: أنه عالم بذلك، لا يحتاج إلى إخباركم به، وهو قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحجرات: 16] الآية. وكان هؤلاء الأعراب يقولون لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئناك بالعيال، والمال، والأنفال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان. يمنون عليه بذلك، فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] الآية، وهي ظاهرة إلى آخر السورة.

تفسير سورة ق

تفسير سورة ق وهي أربعون وخمس آيات، مكية. 873 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ ق هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَارَاتِ الْمَوْتِ وَسَكَرَاتِهِ» بسم الله الرحمن الرحيم {ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ {1} بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ {2} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ {3} قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ {4} بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ {5} } [ق: 1-5] . ق قال المفسرون: هو اسم جبل محيط بالدنيا، من زبرجد أو زمردة، والسماء مقببة عليه، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة. وحكى الفراء، والزجاج: أن قومًا قالوا: معنى ق قضي الأمر ما هو كائن، كما قيل في حم: حم الأمر. والقرءان

المجيد الكريم على الله، الكثير الخير. {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق: 2] مفسر في { [ص،] فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [سورة ق: 2] معجب، عجبوا من كون محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا إليهم، فأنكروا رسالته، وأنكروا البعث بعد الموت، وهو قوله: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [ق: 3] أي: أنبعث إذا متنا؟ ذلك رجع رد إلى الحياة، بعيد غير كائن، أي: يبعد عندنا أن نبعث بعد الموت. قال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] أي: ما تأكل من لحومهم، ودمائهم، وأشعارهم، يعني: أن ذلك لم يعزب عن علمه، وأخبر أن عنده بذلك كتبًا، فقال: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] حافظ لعدتهم وأسمائهم، وهو اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه ما يكون. ثم أخبر بتكذيبهم، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] بالقرآن، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] مختلط ملتبس، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم، فقال: هو أنهم كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة: شاعر، ومرة: ساحر، ومرة: معلم. وللقرآن: إنه سحر، ومرة يقولون: إنه رجز , ومرة يقولون: مفترى. فكان أمرهم ملتبسًا، مختلطًا عليهم. ثم دلهم على قدرته على البعث بعظيم خلقه، فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ {6} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ {10} رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11} } [ق: 6-11] . {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] بغير عمد، وزيناها بالكواكب، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] فتوق، وشقوق، وصدوع. والأرض مددناها بسطناها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 7] جبالًا ثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] من كل لون حسن. تبصرة وذكرى قال الزجاج: أي: فعلنا ذلك لنبصر، ونذكر به. فهي تذكير لكل عبد منيب يرجع إلى الله، ويفكر في قدرته. {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] كثير الخير، وفيه حياة كل شيء، وهو المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] يعني: ما يقتات به، ويحصد من الحبوب، وأراد نبت الحب الحصيد.

والنخل باسقات طوالًا، يقال: بسقت النخلة بسوقًا إذا طالت، لها طلع وهو: أول ما يظهر من ثمر النخل قبل أن ينشق، نضيد منضود بعضه على بعض، وذلك قبل أن ينفتح وهو نضيد في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. رزقًا للعباد أي: أنبتنا هذه الأشياء للرزق، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] يعني: بالمطر أنبتنا الكلأ، كذلك الخروج من القبور، أي: كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم. ثم ذكر الأمم المكذبة، تخويفًا لكفار مكة، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ {12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ {13} وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ {14} أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ {15} } [ق: 12-15] . {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [ق: 12] إلى قوله: وقوم تبع وهو: تبع الحميري، الذي ذكر في قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] ، كل من هؤلاء المذكورين: {كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] أي: وجب عليهم عذابي، وحقت عليهم كلمة العذاب. ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق: 15] يعني: أعجزنا حين خلقناهم أولًا ولم يكونوا شيئًا؟ فكيف نعجز عن بعثهم؟ وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق، وأنكروا البعث، ويقال لكل من عجز عن شيء: عيي به. ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت، فقال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] أي: في ضلال وشك عن إعادة الخلق جديدًا. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18} وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ {19} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ {20} وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ {21} لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ {22} } [ق: 16-22] . قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [ق: 16] ابن آدم، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] يحدث به قلبه، أي: نعلم ما يخفي، ويكن في نفسه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] بالعلم، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وهو عرق يتفرق في البدن،

مخالط للإنسان في جميع أعضاءه، وذلك أن أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله عنه شيء. ثم ذكر أنه مع علمه، وكل به ملكين، يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزامًا للحجة، فقال: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] قال مقاتل: يعني: الملكين يتلقيان عمل ابن آدم ومنطقه، أي: يأخذان ذلك ويثبتانه. والتلقي: الأخذ، ذكر ذلك عند قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] أراد: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، والمراد بالقعيد ههنا: الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم. قال مجاهد: عن اليمين كاتب الحسنات، وعن الشمال كاتب السيئات. {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18] ما يتكلم عن كلام، فيلفظه، أي: يرميه من فمه، {إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [ق: 18] حافظ، يعني: الملك الموكل به: إما صاحب اليمين، وإما صاحب الشمال، عتيد حاضر معه أينما كان. 874 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلاءِ، نا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ، عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كَتَبَ وَاحِدَةً» 875 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ

إِسْمَاعِيلَ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقَطَّانُ، نا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ مَوْلَى عِيسَى الْعَطَّارِ، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَاحِبُ الْيَمِينِ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً فَأَرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: أَمْسِكْ , فَيُمْسِكُ عَنْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ". 876 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، نا هُشَيْمٌ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمَّازٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ قَالا: يَا رَبِّ قَدْ قَبَضْتَ عَبْدَكَ فُلانًا، فَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلائِكَتِي يَعْبُدُونَنِي وَأَرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يُطِيعُونَنِي، اذْهَبَا إِلَى قَبْرِ عَبْدِي فَسَبِّحَانِي، وَكَبِّرَانِي، وَهَلِّلانِي، وَاكْتُبَا ذَلِكَ فِي حَسَنَاتِ عَبْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] أي: غمرته، وشدته التي تغشى

الإنسان، وتغلب على عقله، بالحق قال مقاتل: يعني: أنه حق كائن. ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك أي: ذلك الموت، {مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] تهرب وتميل، يقال: حاد عنه يحيد حيدًا إذا مال عنه. قال أبو عباس: تكره. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20] يعني: نفخة البعث، ذلك اليوم، يوم الوعيد قال مقاتل: يعني بالوعيد: العذاب في الآخرة. والمعنى: ذلك يوم وقوع الوعيد. وجاءت في ذلك اليوم، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} [ق: 21] يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت، قال الكلبي: السائق هو الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. والمراد بالنفس ههنا: نفس الكافر، يدل عليه قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] أي: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22] الذي كان في الدنيا يغشي قلبك، وسمعك، وبصرك، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] فأنت اليوم عالم، نافذ البصر، تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ {23} أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ {24} مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ {25} الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ {26} قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {27} قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ {28} مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {29} يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ {30} } [ق: 23-30] . وقال قرينه يعني: الملك الذي كان يكتب عمله السيئ في الدنيا، يقول لربه: كنت وكلتني به، وقد أحضرته. وهو قوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] يعني: الشخص الذي أتى به، وما بمعنى من، وهذا قول مجاهد، وقال ابن قتيبة: يعني: ديوان أعماله، وما كتبه عليه، يقول: ما كتبته من عمله، حاضر عندي. يقول الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] هذا خطاب للواحد بلفظ الثنية على عادة العرب، يقولون للواحد: ارحلاها وازجراها. والخطاب لخازن النار، وقال الزجاج: هذا أمر للملكين الموكلين به، وهما السائق والشهيد. كل كفار للنعم، عنيد مجانب للإيمان. مناع للخير لا يبذل خيره، ولا يعطي في حق الله، معتد آثم ظالم، لا يقر بتوحيد الله، مريب شاك في الحق، وهو توحيد الله، من قولهم: أراب الرجل إذا صار ذا ريب. قال قرينه يعني: شيطانه، {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27] ما أضللته، وما أغويته، أي: لم أتول ذلك من نفسي، ولكنه كان في الدنيا في ضلال بعيد عن الحق، بخذلانك إياه، وذلك أن شيطانه يعتذر إلى ربه، فيقول: لم تكن لي قوة أن أضله بغير سلطانك. ومعنى: ضلال بعيد طويل، لا يرجع عنه إلى الحق. فيقول الله تعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28] وذكر الله اختصامهم في { [الصافات عند قوله:] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

يَتَسَاءَلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} } [سورة الصافات: 27-28] الآيات، {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] قد أخبرتكم على لسان الرسل، بعذابي في الآخرة لمن كفر. {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] لا خلف لوعدي، وقد قضيت ما أنا قاض عليكم من العذاب، فلا تبديل له، وقال قوم: معنى قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] : ما يكذب عندي، ولا يغير القول عن جهته، لأني أعلم الغيب، أعلم كيف ضلوا، وكيف أضللتموهم. وهذا قول الكلبي، واختيار الفراء، وابن قتيبة وهو أظهر، لأنه قال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] ولم يقل: ما يبدل قولي، {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] فأعاقب من غير جرم. {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} [ق: 30] وقرأ نافع: يقول بالياء، على معنى: يقول الله لجهنم، هل امتلأت قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله: لأملأن جهنم، فلما امتلأت، قال لها: هل امتلأت. {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] أي: قد امتلأت، ولم يبق في موضع لم يمتلئ، وهذا استفهام إنكار، هذا الذي ذكرنا قول عطاء، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إنها تستزيد إلى ما فيها. ووجه هذا القول، أن هذا السؤال في قوله: هل امتلأت كان قبل دخول جميع أهلها فيها، ويجوز أن يكون المعنى: أنها طلبت أن يزداد فيها في سعتها، لتضايقها بأهلها. قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ {31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ {32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ {33} ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ {34} لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ {35} } [ق: 31-35] . وأزلفت الجنة قربت الجنة، وأدنيت للمتقين الشرك، غير بعيد ينظرون إليها قبل دخولها. ويقال لهم: هذا الذي ترونه: {مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق: 32] راجع عن معاصي الله، قال مجاهد: هو الذي يذكر ذنبه، فيستغفر منه. وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب. حفيظ يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها، ويستغفر لها، ذكره يحيى بن وثاب، عن ابن عباس. {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} [ق: 33] أي: هو من خشي، يعني: الأواب

الحفيظ، {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] خافه، وأطاعه، ولم يره، {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] مخلص، راجع عن معاصي الله إلى طاعة الله. ادخلوها أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة، بسلام أي: بسلامة من الهموم، والعذاب، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 34] في الجنة، لأنه لا موت فيها. {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم، فيعطون ما شاءوا، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه، وهو قوله: ولدنيا مزيد. 877 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، أنا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قَالَ: يَتَجَلَّى لَهُمْ ثم خوف كفار مكة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ {36} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {37} } [ق: 36-37] . {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق: 36] ساروا، وتقلبوا، وطافوا، وأصله من النقب وهو: الطريق، كأنهم سلكوا كل طريق، فلم يجدوا محيصًا عن أمر الله. قال الزجاج: لم يروا محيصًا من الموت. وفي هذا إنذار لأهل مكة، وأنهم على مثل سبيلهم، لا يجدون مفرًا

من الموت، يموتون فيصيرون إلى عذاب الله. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [ق: 37] الذي ذكر من الإهلاك للقرى، لذكرى تذكرة، وموعظة، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] قال ابن عباس: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في العربية، أن تقول ما لك قلب، وما قلبك معك، أي: ما عقلك معك. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق: 37] أي: استمع ما يقال له، يقال: ألق سمعك إلىّ، أي: استمع مني، وهو شهيد شاهد القلب والفهم، وليس بغافل، ولا ساه. 878 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، نا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ قُلُوبُهُمْ قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ {38} فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ {39} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ {40} وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ {41} يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ {42} إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ {43} يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ {44} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ {45} } [ق: 38-45] . {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [ق: 38] الآية، قال جماعة المفسرين: إن اليهود قالت: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا يعمل فيه شيئًا. فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] يقال: لغب يلغب لغوبًا، إذا أعيا من التعب. {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] في بهتهم وكذبهم، وهذا من قبل أن أمر بالقتال، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] صل حمدًا لله تعالى، {قَبْلَ طُلُوعِ

الشَّمْسِ} [ق: 39] يعني: الفجر، وقبل الغروب يعني: الظهر، والعصر. 879 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعَفْرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، نا أَبُو شِهَابٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَنْ صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَاصِمِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] يعني: المغرب والعشاء، وإدبار السجود بكسر الهمزة، مصدر أدبر الشيء إدبارًا إذا ولى، ومن فتح الهمزة جعله جمع دبر، بمعنى: خلف، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الوتر، الذي جعله الله تعالى سنة بعد الصلاة. وأكثر المفسرين على أن المراد به: ركعتان بعد صلاة المغرب، وروي ذلك مرفوعًا. 880 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ رُشْدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ «رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ إِدْبَارُ النُّجُومِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ» واسمتع أي: صيحة القيامة، والبعث، والنشور، {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] قال مقاتل: هو إسرافيل ينادي بالحشر، فيقول: يأيها الناس، هلموا إلى الحساب. {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] قال قتادة: كنا نحدث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس. قال الكلبي: وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلًا. {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} [ق: 42] يعني: قول المنادي: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، إن الله يأمركن، أن تجتمعن لفصل القضاء. وقوله: بالحق قال الكلبي: بالبعث. وقال مقاتل: يعني: أنها كائنة حقًا. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] من القبور. قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43] أراد نميت في الدنيا، ونحيي بالبعث، وإلينا المصير بعد البعث. وهو قوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] أي: خارجين سراعًا يسرعون إلى الداعي، {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] جمع علينا هين. ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [ق: 45] في تكذيبك، يعني: كفار مكة، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] بمسلط، قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام، إنما بعثت مذكرًا. وذلك قبل أن يؤمر بالقتال، فذكر بالقرءان فعظ به، {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ما أوعدت من عصاني من العذاب.

تفسير سورة الذاريات

تفسير سورة الذاريات وهي ستون آية، مكية. 881 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الذَّارِيَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدِدِ كُلِّ رِيحٍ هَبَّتْ وَجَرَتْ فِي الدُّنْيَا» بسم الله الرحمن الرحيم. {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا {1} فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا {2} فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا {3} فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا {4} إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ {5} وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ {6} } [الذاريات: 1-6] . والذاريات ذروا يعني: الرياح تذرو التراب، وهشيم النبات، أي: تفرقه وهي مخفوضة على القسم. فالحاملات وقرًا يعني: السحاب يحمل ثقلًا من الماء. فالجاريات يسرًا يعني: السفن تجري ميسرة في الماء، جريًا سهلًا. فالمقسمات أمرًا يعني: الملائكة يقسمون الأمر بين الخلق على ما أمروا به، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، لما فيها من الدلالة على صنيعه وقدرته. ثم ذكر المقسم عليه، فقال: إنما توعدون أي: من الثواب والعقاب، {لَصَادِقٌ {5} وَإِنَّ الدِّينَ} [الذاريات: 5-6] الجزاء، لواقع لكائن. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ {7} إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ {10} الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ {11} يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ {12} يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ {13} ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ {14} } [الذاريات: 7-14] .

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7] ذات الخلق الحسن المستوي، هذا قول الأكثرين، وروى معمر، عن قتادة: ذات الخلق الشديد. وقال مقاتل، والكلبي: ذات الطرائق، كحبك الماء إذا ضربته الريح، وحبك الرمل، والشعر، الجعد. ولكنا لا نرى تلك الحبك، لبعدها عنا. ثم ذكر جواب القسم، فقال: إنكم يا أهل مكة: {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون. وفي القرآن تقولون: إنه سحر، وكهانة، ورجز، وما سطره الأولون. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] يصرف عن الإيمان به من صرف، حتى يكذب به، يعني: من حرمه الله تعالى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن. قوله: قتل الخراصون قالوا جميعًا: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر عن الله به كان بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله كان بمنزلة المقتول الهالك. وقال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، يقال: قد تخرص على فلان الباطل. قال الفراء: هم الذين، قالوا: محمد شاعر كذاب، مجنون، ساحر، خرصوا ما لا علم لهم به. {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [الذاريات: 11] غفلة وعمي، وجهالة عن أمر الآخرة، ساهون لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه. {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟ تكذيبًا منهم، واستهزاء. ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] يحرقون، ويعذبون بها، قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل في النار، قيل: فتن؟ وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا فتنتكم حريقكم، وعذابكم. {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] في الدنيا تكذيبًا به. ثم أعلم ما لأهل الجنة عنده، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {15} آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ {16} كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {17} وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {18} وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {19} وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ {21} وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ {23} } [الذاريات: 15-23] .

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {15} آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 15-16] ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الذاريات: 16] يعني: في الدنيا، محسنين في أعمالهم. ثم ذكر إحسانهم، فقال: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] الهجوع: النوم بالليل دون النهار، وما صلة، والمعنى: كانوا يهجعون قليلًا من الليل، يصلون أكثر الليل، قال عطاء: وذلك حين أمروا بقيام الليل، ثم نزلت الرخصة. ويجوز أن يكون المعنى: كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلًا، ويكون الليل اسمًا للجنس، وهذا معنى قول سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها. وقال مطرف بن الشخير: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها. وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل. واختار قوم الوقف على قوله: قليلًا على معنى: كانوا من الناس قليلًا، وهو قول الضحاك، ومقاتل، ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وهذا على نفي النوم عنهم البتة، قال عطاء: المراد بهؤلاء القليل: يمانون من نصارى نجران، والشام آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقوه. {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار. وقال الكلبي، ومقاتل، ومجاهد: وبالأسحار هم يصلون، وذلك أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم للمغفرة. ثم ذكر صدقاتهم، فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] وهو الذي ليس له في الغنيمة سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء، ومعناه في اللغة: الذي منع الخير والعطاء، وقال قتادة، والزهري: هو المتعفف الذي لا يسأل. وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يقطن بحاجته فيتصدق عليه. قوله: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] يعني: ما فيها من الجبال، والبحار، والأشجار، والأنهار، والثمار، والنبت عامًا بعام، ففيها آيات للموقنين

بالله، يعرفونه بصنعه. وفي أنفسكم آيات، إذ كانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا إلى أن نفخ فيها الروح، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد اختلاف الألسنة، والصور، والألوان، والطبايع. وقال ابن الزبير: يعني: سبيل الخلاء والبول، يأكل ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين. وتم الكلام، ثم عنفهم، فقال: أفلا تبصرون قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم، فتعرفون قدرته على البعث. قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قال ابن عباس، ومقاتل، ومجاهد: يعني: المطر الذي هو سبب الأرزاق. وما توعدون قال عطاء: من الثواب والعقاب. وقال الكلبي: من الخير والشر. وقال مجاهد: الجنة والنار. ثم أقسم الرب عز وجل بنفسه، فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] قال الكلبي: يعني: ما قص في الكتاب كائن. وقال الزجاج: وهو ما ذكر من أمر الرزق، والآيات. وقال مقاتل: يعني: أمر الساعة. {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] من قرأ بالرفع فهو من صفة الحق، ومن نصب جعل: مثل مع ما: بمنزلة شيء واحد، ذكر ذلك أبو عثمان المازني , وأبو علي الفارسي، قال: ومثله قول حميد: وويحًا لمن لم يدر ما هن ويحما فبنى ويح مع ما، ولم يلحقه التنوين، وقال الفراء: من نصب مثل مع ما، جعله في مذهبه مصدرًا،

كقولك: إنه لحق حقًا، ويجوز ذلك. قال الزجاج: والمعنى: إنه لحق كما أنكم تنطقون. شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه، بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما يقول: إنه لحق كما أنك تقول ههنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ {27} فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {28} فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ {29} } [الذاريات: 24-29] . هل أتاك قال ابن عباس، ومقاتل: يريد: قد أتاك، ولم يكن إذ ذاك أتاه. {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] يعني: عند الله، وذلك أنهم كانوا ملائكة كرامًا، وقد قال الله تعالى في صفتهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وذكر ابن عباس أسماءهم، فقال: يريد: إسرافيل، وجبريل، وميكائيل. وقال مقاتل: أكرمهم إبراهيم، فأحسن القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلما رأى هيأتهم حسنة، قام هو وامرأته سارة لخدمتهم. وقال الكلبي، أكرمهم بالعجل. 882 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [الذاريات: 25] مفسر في { [هود، قوم منكرون قال ابن عباس: قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم، وذلك أنه ظنهم من الإنس، ولم يعرفهم. ] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [سورة الذاريات: 26] أي: عدل ومال إلى سارة، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] وكان مشويًا، لأنه قال في آية أخرى: بعجل حنيذ. {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات: 27] ليأكلوا، فلم يأكلوا، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] وما بعد هذا مفسر إلى قوله: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] في ضجة وصيحة، أي: أخذت تولول، كما قال: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا} [هود: 72] ، فصكت وجهها قال مقاتل، والكلبي: جمعت أصابعها، فضربت جبينها تعجبًا. ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض، {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] أي: إني عجوز عقيم، فكيف ألد؟ كما: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] . {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {30} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {31} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ {32} لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ {33} مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ {34} فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {35} فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {36} وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ {37} } [الذاريات: 30-37] . {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [الذاريات: 30] أي: كما قلنا لك، قال ربك: إنك ستلدين غلامًا. وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: للمسرفين قال ابن عباس، ومقاتل: للمشركين. والشرك أسرف الذنوب، وأعظمها. {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} [الذاريات: 35] يعني: في قرى قوم لوط، من المؤمنين وذلك قوله: فأسر بأهلك الآية، وهو أن الله تعالى أمر لوطًا بأن يخرج هو ومن معه المؤمنين، لئلا يصيبهم العذاب. {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} [الذاريات: 36] غير أهل بيت، من المسلمين يعني: لوطًا وبنتيه، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وتركنا فيها في مدينة قوم لوط، آية علامة للخائفين، تدلهم على أن الله أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم. {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {38} فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ {40} } [الذاريات: 38-40] .

وفي موسى أيضًا، {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات: 38] بحجة ظاهرة، وهي العصا. فتولى بركنه أي: بجمعه، وجنده الذي كان يتقوى بهم، كالركن الذي يقوى البنيان، والباء في بركنه للتعدية، أي: جعلهم يتولون، وقال لموسى، {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {39} فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 39-40] فطرحناهم في البحر، يعني: حين أغرقهم، وهو مليم أتى ما يلام عليه، حين ادعى الربوبية، وكذب الرسول. {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ {41} مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ {42} وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ {43} فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ {44} فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ {45} وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ {46} } [الذاريات: 41-46] . وفي عاد أيضًا آية، أي: في إهلاكهم، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] وهي التي لا خير فيها، ولا بركة: لا تلقح شجرًا، ولا تحمل مطرًا، إنما هي ريح الإهلاك. ثم وصفها، فقال: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42] من أنفسهم، وأنعامهم، وأموالهم، {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. وفي ثمود أيضًا، {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} [الذاريات: 43] وذلك أنهم لما عقروا الناقة، قال لهم صالح: تمتعوا ثلاثة أيام. وهو قوله: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43] . فأخذتهم الصاعقة بعد مضي الأيام الثلاثة، وهي: الموت في قول ابن عباس، وقال مقاتل: يعني: العذاب. والصاعقة: كل عذاب مهلك، وقرأ الكسائي: الصعقة وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة، وهم ينظرون يرون ذلك عيانًا. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} [الذاريات: 45] قال قتادة: من نهوض. يعني: لم ينهضوا من تلك الصرعة، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 45] ممتنعين من العذاب. {وَقَوْمَ نُوحٍ} [الذاريات: 46] نصبه بالحمل على المعنى، وهو: أن قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 40] يدل على إغراقهم، فكأنه قال: فأغرقناهم، أغرقنا قوم نوح من قبل، أي: من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46] عاصين، خارجين عن أمر الله.

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {47} وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ {48} وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ {50} وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ {51} } [الذاريات: 47-51] . {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] بقدرة وقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] لذو سعة لخلقنا، والمعنى: قادرون على رزقهم، لا نعجز عنه، والموسع ذو الوسع والسعة، وهو: الغنى والجدة. والأرض فرشناها بسطناها، فنعم الماهدون نحن، قال ابن عباس: نعم ما وطأت لعبادي. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] صنفين، ونوعين: كالبحر والبر، والحلو والمر، الشمس والقمر، والسماء والأرض، والنور والظلمة، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] فتعلموا أن خالق الأزواج فرد. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] بالتوبة من ذنوبكم، والمعنى: فروا من الكفر والعصيان، إلى الطاعة والإيمان، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ} [الذاريات: 50] من الله، نذير مبين أنذركم العقاب على الكفر والمعصية. {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ {54} وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} } [الذاريات: 52-55] . كذلك أي: الأمر كذلك، وهو أنه: {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الذاريات: 52] من قبل كفار مكة، {مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا} [الذاريات: 52] هو: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] . يقول الله تعالى: أتواصوا أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، والاستفهام للتوبيخ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ} [الذاريات: 53] يعني: أهل مكة، طاغون قال ابن عباس: حملهم الطغيان فيما أعطيتهم، ووسعت عليهم، على تكذيبك. فتول عنهم أعرض عن هؤلاء المشركين، فقد بلغت وأنذرت، وهو قوله: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] لا لوم عليك إذا أديت الرسالة، قال ابن عباس، والمفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون، وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، حتى نزلت الآية الثانية. 883 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُعْتَمًّا مُشْتَمِلًا فِي قَمِيصِهِ، فَقَالَ: لَمَّا

نَزَلَتْ {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ إِذْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] طَابَتْ أَنْفُسُنَا قال مقاتل: عظ كفار مكة. {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] أي: من علم الله تعالى أن يؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ {59} فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {60} } [الذاريات: 56-60] . {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني: من آمن من الفريقين، وهذا قول الكلبي، والضحاك، واختيار الفراء، وابن قتيبة، والدليل على صحة هذا ما 884 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، نا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو وَهْبٍ الشَّامِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْقَافْلانِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلا لِيَعْبُدُونَ وقال أهل المعاني: إلا ليخضعوا لي، ويتذللوا. ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، خلقه على ما أراد، ورزقه كما قضى، لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه. {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] أن يرزقوا أحدًا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] أن يطعموا أحدًا، فقد أطعمه، وهذا كما يروى أن الله تعالى، يقول:

عبدي استطعمتك فلم تطعمني، أي: لم تطعم عبدي. وذلك أن الاستطعام، وسؤال الرزق يستحيل في وصف الله تعالى، ومعنى الآية: أنه ما أوجب على عباده، ولم يكلفهم القيام برزق الخلق والإطعام. ثم بين أن الرزاق هو لا غيره، فقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] يعني: خلقه، ذو القوة على ما خلق، المتين القوي، متن متانة إذا قوي. ثم ذكر أن لمشركي مكة من العذاب، مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة، فقال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] نصيبًا من العذاب، نصيب أصحابهم الذين أهلكوا، نحو قوم نوح، وعاد، وثمود، ومعنى الذنوب في اللغة: الدلو العظيمة، قال ابن قتيبة: كانوا يستقون، فيكون لكل واحد ذنوب، فجعل الذنوب مكان الحظ والنصيب. فلا يستعجلون بالعذاب، يعني: أنهم أخروا إلى يوم القيامة، يدل على ذلك: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] يعني: يوم القيامة.

تفسير سورة الطور

تفسير سورة الطور أربعون وتسع آيات، مكية. 885 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ. 886 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَسَدِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَايِنِيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَنْ يُنَعِّمَهُ فِي جَنَّتِهِ» . {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ {2} فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ {3} وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ {4} وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ {5} وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ {6} إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ {7} مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ {8} يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا {9} وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا {10} فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {11} الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ {12} يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا {13} هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {14} أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ {15} اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {16} } [الطور: 1-16] . بسم الله الرحمن الرحيم والطور أقسم الله تعالى بالجبل، الذي كلم عليه موسى عليه السلام. وكتاب مسطور يعني: ما أثبت على بني آدم من أعمالهم. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] الرق: ما يكتب فيه، والمنشور: المبسوط، قال مقاتل: تخرج إليهم أعمالهم يومئذ في رق، يعني: أديم الصحف. وقال الفراء: الرق: الصحائف التي تخرج إلى بني آدم

يوم القيامة، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله. وهذا كقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] ، والبيت المعمور. 887 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُجَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ نا هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ، فَإِذَا خَرَجَ انْتَفَضَ انْتِفَاضَةً خَرَّتْ مِنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكًا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا» . 888 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتِرَابَاذِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ، نا جَدِّي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَيْتُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِذَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَوْ سَقَطَ سَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا ". أخبرنا إسماعيل النصراباذي، أنا المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، أنا المفضل بن محمد الشعبي، نا محمد بن يوسف، نا أبو قرة، قال: سمعت عبد الله بن عتبة بن طاوس، يذكر عن عمه عبد الله بن طاوس، أنه سمعه، يقول: إن البيت المعمور في السماء السابعة بحذاء هذا البيت، تحج إليه الملائكة يوم حجكم هذا. والسقف المرفوع

يعني: السماء. والبحر المسجور المملوء، يقال: سجرت الإناء إذا ملأته، روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: هو بحر تحت العرش، فيه ماء غليظ، يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم. وهذا قول الكلبي، ومقاتل، قالا: يحيى الله تعالى به الموتى فيما بين النفختين. وقال مجاهد: البحر المسجور الموقد. من السجر وهو: إيقاد النار في التنور. وهذا كما يروى: إن الله تعالى يجعل البحار كلها نارًا، فتزداد في نار جهنم. أقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما قيل من عظيم القدرة، على أن تعذيب المشركين حق. وهو قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] لكائن في الآخرة. {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 8] يدفع عنهم ذلك العذاب، قال جبير بن مطعم: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأكلمه في أسارى بدر، فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ {7} مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ {8} } [الطور: 7-8] ، فكأنما صدع عن قلبي حين سمعت القرآن، ولم يكن أسلم يومئذ. ثم بين أنه متى يقع، فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9] تدور دورانًا وتضطرب، وتتحرك وتستدير، كل هذا من عبارات المفسرين، والمور في اللغة: الذهاب والمجيء، والتردد والدوران. وتسير الجبال عن أماكنها، حتى تستوي بالأرض. فويل فشدة عذاب، {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {11} الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ {12} } [الطور: 11-12] يخوضون في حديث محمد عليه السلام، بالتكذيب، والاستهزاء، يلهون بذكره. {يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] يدفعون، {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] دفعا بعنف وجفوة، قال مقاتل: تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعًا على وجوهم. حتى إذا دنوا منها، قال لهم خزنتها: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 14] في الدنيا. ثم وبخهم لما عاينوا ما كانوا يكذبون به، وهو قوله: أفسحر هذا الذي ترون، {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ؟ وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر، فلما شاهدوا ما وعدوا به من العذاب، وبخوا بهذا. وقيل لهم: اصلوها وآسوا شدتها، فاصبروا على العذاب، {أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] الصبر والجزع، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] أي: جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب. ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ {17} فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {18} كُلُوا وَاشْرَبُوا

هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {19} مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ {20} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {21} وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ {22} يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ {23} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ {24} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ {25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ {26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ {27} إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ {28} } [الطور: 17-28] . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ {17} فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور: 17-18] معجبين بذلك، ناعمين، وقد تقدم تفسيره، ووقاه ربهم وصرف عنهم، عذاب الجحيم. ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [الطور: 19] أكلا وشربا هنيئًا، مأمون العاقبة من التخمة والسقم، قال زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال النبي: «والذي نفسي بيده، إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع» . قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة. فقال: «عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر له بطنه» . ثم ذكر له حالهم في الأكل والشرب، فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ} [الطور: 20] جمع سرير، مصفوفة موضوعة بعضها إلى جنب بعض، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] مفسر في آخر { [الدخان. قوله:] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [سورة الطور: 21] يعني: أولادهم الصغار والكبار، لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمان منهم، والصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء، والولد يحكم له بالإسلام تبعًا لوالده، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] يدفعون إليهم، فتقر بهم أعينهم، وإن كانوا دونهم في العمل. 889 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ الرَّاذَانِيُّ، نا جِبَارَةُ بْنُ مُغَلِّسٍ، نا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ

ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يُلْحِقَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] إِلَى آخِرِ الآيَةِ. 890 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] " الآية {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] قال ابن عباس: لم ننقص الآباء من الثواب، حين ألحقنا بهم ذريتهم. وذكرنا تفسير الألت عند قوله: لا يلتكم، والفراء على فتح اللام في: ألتناهم، وقرأ ابن كثير بكسر اللام، وذلك لا يعرفه أهل اللغة وتم الكلام، ثم ذكر أهل النار، فقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] قال مقاتل: كل امرئ كافر، بما عمل من الشرك، مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنًا، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39} } [المدثر: 38-39] فاستثنى المؤمنين. ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة، فقال: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22] قال ابن عباس: زيادة غير الذي كان لهم. يتنازعون يتعاطون، ويتناولون، {فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] قال الزجاج: لا يجري بينهم ما يلغى، ولا ما فيه إثم، كما يجري في الدنيا لشربه الخمر. وقال ابن قتيبة: لا تذهب

بعقولهم، فيلغوا ويرفثوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم. والتأثيم تفعيل من الإثم، يقال: أثمه، إذا جعله ذا إثم، والمعنى: أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. ويطوف عليهم بالخدمة، {غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ} [الطور: 24] في الحسن، والبياض، لؤلؤ مكنون مستور، مصون لم تسمه الأيدي، قال قتادة: ذكر لنا أن رجلًا، قال: يا نبي الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: «والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور: 25] قال ابن عباس: يتذكرون ما كانوا فيه في الدنيا، من التعب والخوف. وهو قوله: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} [الطور: 26] في دار الدنيا، مشفقين خائفين من العذاب. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور: 27] بالمغفرة، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] يعني: عذاب جهنم، والسموم: اسم من أسماء جهنم في قول الحسن، ومقاتل، وقال الكلبي: عذاب النار. وهو قول أبي عبيدة، وقال الزجاج: عذاب السموم: عذاب سموم جهنم، وهو ما يوجد من لفحها، وحرها. {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} [الطور: 28] أي: في الدنيا، ندعوه نوحده، ونعبده، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] من فتح الهمزة كان المعنى: ندعوه لأنه هو البر الرحيم، أي: فلرحمته ندعوه، لأنه يجيب من دعاه، ومن كسر الهمزة قطع الكلام مما قبله. واستأنف قوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ {29} أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ {30} قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ {31} أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {32} أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ {33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ {34} أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ {36} أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ {37} أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {38} } [الطور: 29-38] .

فذكر فعظ بالقرآن أهل مكة، {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} [الطور: 29] بإنعامه عليك بالنبوة، {بِكَاهِنٍ} [الطور: 29] وهو: الذي يوهم أنه يعلم الغيب، ويخبر بما في غد، من غير وحي، يقال: كهن يكهن كهانة، مثل: كتب يكتب كتابة، أي: لست تقول ما تقوله كهانة، ولا تنطق إلا بوحي. أم يقولون أي: بل يقولون: شاعر هو شاعر، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] صروف الدهر وحوادثه، أي: ننتظر به حدثان الموت، وحوادث الدهر، فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، والمنون يكون بمعنى: الدهر، ويكون بمعنى: المنية. قال الله تعالى: قل تربصوا انتظروا بي الموت، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] من المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32] قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول، فأزرى الله بحلومهم، حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل. ثم أخبر عن طغيانهم، فقال: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32] قال ابن عباس: يريد حملهم الطغيان على تكذيبك. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] افتعل القرآن، وتكذبه من تلقاء نفسه، والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب، بل ليس الأمر على ما زعموا، لا يؤمنون بالقرآن استكبارًا. ثم ألزمهم الحجة، فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] مثل القرآن في نظمه، وحسن بيانه، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] أن محمدًا تقوله. ثم احتج عليهم بابتلاء الخلق، فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35] قال الزجاج: أم خلقوا لغير شيء، أي: أخلقوا باطلًا، لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون، ونحو هذا. قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون ولا ينهون. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] لأنفسهم، فلا يجب عليهم لله أمر. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور: 36] فيكونوا هم الخالقين؟ ليس الأمر على هذا، لا يوقنون بالحق، وهو توحيد الله، وقدرته على البعث. {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق. {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] أي: هم الأرباب المسلطون، فلا يكونوا تحت أمر ونهي، يفعلون ما شاءوا. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور: 38] مرقى ومصعد إلى السماء، يستمعون فيه، أي: عليه، كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] والمعنى: يستمعون الوحي، فيعلمون أن ما هم عليه حق، فليأت مستمعهم إن ادعى ذلك، بسلطان مبين بحجة واضحة.

{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ {39} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ {40} أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {41} أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ {42} أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ {43} } [الطور: 39-43] . {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] هذا انكار عليهم، حيث جعلوا لله ما يكرهون، كقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] . {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} [الطور: 40] يا محمد، على ما جئتهم به من الدين والشريعة، {أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم، فمنعهم ذلك عن الإسلام، قال قتادة: يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرًا فجهدهم، فلا يستطيعون الإسلام؟ {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} [الطور: 41] قال قتادة: هذا جواب لقولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] . يقول الله تعالى: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمدًا يموت قبلهم؟ فهم يكتبون قال ابن قتيبة: يحكمون بما يقولون. {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] مكرًا به، فيهلكون بذلك المكر، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] المجزيون بكيدهم، يريد: أن ضرر ذلك يعود عليهم، ويحيق بهم مكرهم، كما قصدوا المكر به لما اجتمعوا في دار الندوة، فجزاهم الله بكيدهم، أن قتلهم ببدر. {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] يرزقهم، ويحفظهم، وينصرهم، يعني: أن الذين اتخذوهم آلهة، ليست بآلهة تدفع وتنفع، ثم نزه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43] به من الآلهة. ثم ذكر عنادهم، وقساوة قلوبهم، فقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ {44} فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ {45} يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {46} وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {47} وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ {48} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ {49} } [الطور: 44-49] . {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44] يقول: إن عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم، لم ينتهوا عن كفرهم، وقالوا: هو قطعة من السحاب، وهو قوله: {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44] بعضه على بعض. فذرهم فخل عنهم، حتى يعاينوا يوم موتهم، وهو قوله: {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] أي: يموتون، من قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 68] من قرأ يصعقون بضم الياء، فهو من أصعقهم الله، إذا قتلهم وأهلكهم. وذلك اليوم لا ينفعهم كيدهم، ولا يمنعهم من العذاب مانع، وهو قوله: {لا يُغْنِي عَنْهُمْ

كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {46} وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الطور: 46-47] يعني: كفار مكة، عذابًا في الدنيا، دون ذلك قبل عذاب الآخرة، يعني: القتل ببدر، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] بما هو نازل بهم. {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] أي: إلى أن يقع بهم العذاب، الذي حكمنا عليهم، فإنك بأعيننا قال ابن عباس: أرى ما يفعل بك. وقال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك، ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أمر أن يقول حين يقوم من مجلسه: سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: صل لله حين تقوم من منامك. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور: 49] قال مقاتل: صل المغرب، والعشاء. وإدبار النجوم يعني: الركعتين قبل صلاة الفجر، وذلك حين تدبر النجوم، أي: تغيب بضوء الصبح.

تفسير سورة النجم

تفسير سورة النجم ستون وآيتان، مكية. 891 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا الْيَرْبُوعِيُّ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ وَجَحَدَهُ» . {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى {6} وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى {7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى {11} } [النجم: 1-11] . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] أقسم الله تعالى بالقرآن، إذ أنزل نجومًا متفرقة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرين سنة، والمراد بالنجم: القرآن، سمي نجمًا، لتفريقه في النزول، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق منجمًا، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وزاذان , وهوى معناه: نزل من أعلى إلى أسفل، يقال: هوى يهوي هويًا وهويًا، إذا سقط من علو إلى أسفل، وقال في رواية الوالبي، وعطية: يعني: الثريا إذا سقطت وغابت. والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة، وقال في رواية عكرمة: يعني: المرجوم من النجوم، وهو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع. وجواب القسم قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}

[النجم: 2] يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: ما ضل عن طريق الهدى. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وما يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا يقول القرآن من تلقاء نفسه. فقال الله تعالى: ما ينطق محمد بالقرآن من هوى نفسه. إن هو ما القرآن إلا من الله، وحي يوحى إليه، يأتيه به جبريل، وهو قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] يعني: جبريل، والقوى: جمع قوة. ذو مرة ذو قوة، وشدة في خلقه، فاستوى جبريل. وهو كناية عن جبريل، بالأفق الأعلى يعني: أفق المشرق والمغرب، والمراد بالأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، في صعيد الأرض لا في الهواء، قال المفسرون: إن جبريل كان يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة الآدميين، فسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض: ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بحراء، فطلع له جبريل عليه السلام من المشرق، فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيًا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين، فضمه إلى نفسه، وهو يقول: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] تقديره: ثم تدلى فدنا، أي: قرب بعد بعده وعلوه في الأفق الأعلى، فدنا من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الحسن، وقتادة: ثم دنا جبريل، بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو صالح: جبريل الذي دنا فتدلى. وقال الزجاج: معنى دنا وتدلى واحد، لأن المعنى: أنه قرب، وتدلى زاد في القرب، كما تقول: قد دنا مني فلان وقرب، ولو قلت: قرب مني ودنا جاز. {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] يقال: قاب قوس، وقيب قوس، أي: قدر قوس، وهذا قول جميع المفسرين في القاب، قال الكسائي: هي لغة حجازية، يقال: كان مني قاب قوسين، وقاد قوسين، وقيد قوسين. قال الزجاج: كان ما بينه وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدار قوسين. والقوس: ما يرمى به في قول

مجاهد، وعكرمة، وعطاء، عن ابن عباس، وخصت بالذكر على عادتهم، كما قال الكسائي، وقال عبد الله بن مسعود: قدر ذراعين. وهو قول شقيق بن سلمة، وأبي إسحاق الهمذاني، وروي ذلك مرفوعًا. 892 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، فِيمَا أَجَازَ لِي أَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَِّد بْنِ عَمْرٍو، عَنْ كَثِيرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] أَمَا قَابَ قَوْسَيْنِ , فَقَوْلُ ذِرَاعَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ ذِرَاعَيْنِ وَمَعْنَى الْقَوْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا يُقَاسُ بِهِ الشَّيْءُ، وَالذِّرَاعُ مَا يُقَاسُ بِهِ قال ابن السكيت: قاس الشيء يقوسه قوسًا، لغة في قاسه يقيسه إذا قدره. 893 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبُو أُسَامَةَ، نا زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} } [النجم: 8-10] قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ ومعنى قوله: أو أدنى قال الزجاج: أي: فيما تقدرون أنتم، والله تعالى عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا. ومعنى الآية: أن جبريل عليه السلام مع عظمه، وكثرة أجزائه، حتى سد الأفق بجناحيه، دنا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير تلك الصورة، حتى قرب منه، وفي ذلك بيان قدرة الله تعالى. 894 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِي، أنا أَبُو يَعْلَى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا زُهَيْرٌ، نا أَبُو

إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ دَارَةَ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، فَأَلْقَيْتُ عَلَى مَحَبَّةٍ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ شَبَابٌ، فَقَالُوا لِي: سَلْهُ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: أوحى جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى الله إليه. وقال قتادة: يوحي الله إلى جبريل، ويوحي جبريل إلى محمد صلى الله عليهما. قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] يقال: كذبه، إذا قال له الكذب ولم يصدقه، قال المبرد: معنى الآية: أنه رأى شيئًا فصدق فيه. وقال أبو الهيثم: ما رأى بمعنى: الرؤية، تقول: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، بل صدقه الفؤاد رؤيته. وما رأى مصدر في موضوع النصب، لأنه مفعول كذب، وهذا إخبار عن رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج ربه، قال ابن عباس: رأى محمد ربه بفؤاده، ولم يره بعينه. ويكون ذلك على أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرًا، حتى رأى ربه رؤية غير كاذبة، كما ترى بالعين، ومذهب جماعة من المفسرين: أنه رآه بعينه. وهو قول أنس، وعكرمة، والحسن، وكان يحلف بالله: لقد رأى محمد ربه. فكل هؤلاء أثبتوا رؤية صحيحة: إما بالعين، وإما بالفؤاد، ومذهب عبد الله بن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما في هذه الآية: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها. وقرأ ابن عامر ما كذب بالتشديد، وقال المبرد: في هذه القراءة بعد، لأنه إذا رأى بقلبه، فقد

علمه أيضًا، والقلب يكذب ويصدق، فإذا كان الشيء في القلب معلومًا، فكيف يكون معه تكذيب؟ وهذا على ما قال المبرد: إذا جعلت الرؤية للفؤاد، فإن جعلتها للعين زال الإشكال، وصح المعنى، فيقال: ما كذب فؤاده ما رآه ببصره. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قال ابن عباس: رأى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه. 895 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ. 896 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا قَيْسٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ، وَاصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلامِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ. 897 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا الْبَغَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبِ، قُلْتُ: أَخْبَرَكُمُ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، نا سُفْيَانُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَمِّهِ سُلَيْمِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا نَضْرٍ لا تَبْرَحْ حَتَّى أُشْهِدَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَإِذَا الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا أَخْبَرَكَ أَبُوكَ، عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي خُضْرٍ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: نَعَمْ كَذَا حَدَّثَنِي إِلا أَنَّهُ قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْأُفُقِ الأَعْلَى، وَمَرَّةً أُخْرَى رَآهُ مُنْهَبِطًا

مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا خَلْقُهُ مَا بَيْنَهُمَا وعلى قول ابن عباس معنى: نزلة أخرى هو: أنه كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرجات في تلك الليلة، لما استحط ربه من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزلة، فرأى ربه في بعض تلك النزلات. قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18} } [النجم: 12-18] . {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12] قال جماعة من المفسرين: أفتجادلونه. وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام، وغير ذلك مما جادلوه به، والمعنى: أفتجادلونه جدالًا، ترومون به دفعه عما علمه وشاهده؟ ومن قرأ: أفتمرونه كان معناه: أفتجحدونه، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، قال المبرد: أي: أفتدفعونه عما يرى. وعلى في موضع عن، والمعنيان متقاربان، لأن مجادلتهم جحود، وكل مجادل جاحد. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، نازلًا من السماء نزلة أخرى، وذلك أنه رآه في صورته مرتين على ما ذكرنا. {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14] يعني: رآه محمد وهو عند سدرة المنتهى، وقال الكلبي، ومقاتل: هي شجرة عن يمين العرش، فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كل ملك. 898 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمَّا رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ " وقال عبد الله بن مسعود: إليها ينتهي ما يصعد به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. والمنتهى: موضوع الانتهاء، وهذه الشجرة حيث تنتهي إليها الملائكة،

فأضيفت إليه. {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال مقاتل، والكلبي: جنة يأوي إليها أرواح الشهداء. {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] قالوا: فراش من ذهب يغشاها. وقال الحسن، ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان، حتى يقعن على الشجرة. وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا، قائمًا يسبح الله عز وجل» . {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17] ما مال بصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمينًا، ولا شمالًا، وما طغى وما جاوز ما رأى، وهذا وصف أدبه في ذلك المقام، إذ لم يلتفت إلى جانب، ولم يمل بصره، ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي. لقد رأى تلك الليلة، {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] يعني: الآيات العظام التي رآها تلك الليلة، وقال قوم: يعني: رأى من آيات ربه الآية الكبرى. وهو قول عبد الله بن عباس في رواية أبي صالح، قال: رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، له ست مائة جناح. ولما قص الله تعالى هذه الأقاصيص، قال للمشركين: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى {20} أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى {23} أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى {24} فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى {25} وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى {26} إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى {27} وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا {28} } [النجم: 19-28] . {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ} [النجم: 19-20] والمعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة، التي تعبدونها من دون الله،

هل لها قدرة توصف بها، كما يوصف الله تعالى بالقدرة والعظمة؟ وهذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة، فعبدوها من دون الله، وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى، فقالوا: من الله: اللات، ومن العزيز: العزى. وكان الكسائي يختار الوقف عليها بالهاء، وقال الزجاج: الوقف عليها بالتاء لاتباع المصحف، فإنها تكتب بالتاء. والعزى تأنيث الأعز، وهي بمعنى: العزيزة، وكانت شجرة بنخلة لغطفان يعبدونها، فبعث إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد فقطعها، وقال: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك وقال قتادة: كانت مناة للأنصار. وقال الضحاك، والكلبي: كانت لهذيل وخزاعة. وكان ابن كثير يقرأها بالمد والهمزة، والصحيح: قراءة العامة، لأن العرب سمت زيد مناة، وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد، والثالثة نعت لمناة يعني: الثالثة للصنمين في الذكر، والأخرى نعت لها أيضًا. {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} [النجم: 21] قال الكلبي: قال مشركو مكة: الأصنام، والملائكة بنات الله. فنحلوه البنات، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره. فقال الله تعالى منكرًا عليهم: ألكم الذكر يعني: البنين، وله الأنثى يعني: ما نحلوه من الأصنام، وهي إناث في أسمائها والملائكة. {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] جائرة غير معتدلة، يعني: القسمة التي قسمتم، من نسبة البنات إلى الله تعالى، وإيثاركم أنفسكم البنين،

قسمة غير عادلة، والقراء على ترك الهمز من ضيزى، وقرأ ابن كثير بالهمز، يقال: ضاز حقه يضيز، وضأز يضأز مثله، قال الفراء، وزجاج: ضيزى فعلى، فنقلت إلى فعلى لتسلم الياء، كما قالوا: بيض وعين فكسروا أولهما لتكونا بالياء، كذلك كرهوا أن يقولوا: ضوزى، فتصير بالواو وهي من الياء. {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ} [النجم: 23] أخبر الله تعالى أن هذه الأصنام التي سموها بهذه الأسامي لا معاني تحتها، لأنه لا ضر عندها ولا نفع، فهي تسميات ألقيت على جمادات، {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] قال مقاتل: لم ينزل كتابًا، لكم فيه حجة بما تقولون إنها آلهة. والمعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [النجم: 23] في أنها آلهة، وهو ما زين لهم الشيطان، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] البيان والرشاد، بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم، حيث لم يتركوا عبادتها، مع وضوح البيان. ثم أنكر على الكفار تمنيهم شفاعة الأصنام، فقال: أم للإنسان يعني: الكافر، ما تمنى من شفاعة الأصنام. {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} [النجم: 25] أي: لا يملك فيهما أحد شيئًا إلا بإذنه. ثم أكد هذا بقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم: 26] جمع الكناية لأن المراد بقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} [النجم: 26] الكثرة، {إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم: 26] في الشفاعة، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] أي: من أهل التوحيد، قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة، إلا لمن رضي الله عنه، كقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . ثم ذم صنيعهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النجم: 27] بالبعث، {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم: 27] حين زعموا أن الملائكة بنات الله. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] أي: التسمية، من علم قال مقاتل: ما يستيقنون أنهم إناث. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] لا يقوم مقام الحق، ولا يغني عن العلم، فالحق ههنا معناه: العلم، وهذا يدل على أن الظان غير عالم. ثم أمره بالإعراض عنهم، بقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {29} ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى {30} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ

الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {32} } [النجم: 29-32] . {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] يعني: القرآن، وهذا مما نسخته آية القتال. ثم صغر رأيهم، فقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] أي: لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأن الأصنام تشفع لهم، فاعتمدوا ذلك، وأعرضوا عن القرآن، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النجم: 30] أي: أنه عالم بهم، فهو يجازيهم، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 30] أي: أنه عالم بالفريقين، فلا يذهب عليه جزاؤهما. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النجم: 31] إخبار عن قدرته، وسعة ملكه، وهذا معترض بين الآية الأولى، وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} [النجم: 31] الآية، واللام في ليجزي متعلق بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهم، جازى كلا بما يستحقه، وهي لام العاقبة، وذلك لأن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك، لذلك أخبر به في قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ} [النجم: 31] في الآخرة، الذين أساءوا أشركوا، بما عملوا من الشرك، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} [النجم: 31] وحدوا ربهم، بالحسنى بالجنة. ثم نعتهم، فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [النجم: 32] وهو: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد، وقرأ حمزة كبير الإثم لأنه مضاف إلى واحد في اللفظ، وإن كان يراد به الكثرة، فلتوحيده في اللفظ وحد الكبير، وقوله: إلا اللمم يعني: صغائر الذنوب، كالنظرة، والقبلة، وما كان دون الزنا، وهذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، والشعبي، ويصدق هذا ما: 899 - أَخْبَرَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ النَّسَوِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ النَّسَوِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ

النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَشْتَهِي وَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ» . فَإِنْ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ الزِّنَا وَإِلا فَهُوَ اللَّمَمُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وقال ابن عباس: هو أن يلم بالذنب مرة، ثم يتوب منه، ولا يعود. وهو قول الحسن، والسدي، قال ابن عباس: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما وهذا القول اختيار أبي إسحاق، فقال: اللمم هو: أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية، ولم يقم على ذلك. ويدل على هذا قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] قال ابن عباس: لمن فعل ذلك، ثم تاب. وتم الكلام هاهنا، ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} [النجم: 32] يعني: قبل أن خلقكم، {إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [النجم: 32] يريد: ما كان من خلق آدم من التراب، {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} [النجم: 32] جمع جنين، {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] قال الحسن: علم الله تعالى من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صايرة. {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] لا تبرئوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها، يدل على هذا ما روي أن زينب بنت أبي سلمة، قالت: سميت برة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بالبر منكم» . {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] أي: بر، وأطاع، وأخلص العمل لله. قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى {33} وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى {34} أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى {35} أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ

مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {38} وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى {39} } [النجم: 33-39] . {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم: 33] أدبر عن الحق والإسلام، يعني: الوليد بن المغيرة، كان قد آمن، ثم عيره بعض المشركين بترك دينه، فقال: إني خشيت عذاب الله. فقال: أنا أتحمل عنك العذاب، إن أعطيتني من مالك كذا وكذا. فرجع إلى الشرك، وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال، ومنعه تمامه، وذلك قوله: {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} [النجم: 34] قال الفراء: أمسك من العطية وقطع. وقال المبرد: منع منعًا شديدًا. {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} [النجم: 35] ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يرى أي: يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} [النجم: 36] لم يخبر، ولم يحدث، {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] يعني: أسفار التوراة. وإبراهيم وفي صحف إبراهيم، الذي وفى وتمم، وأكمل ما أمر به، قال المفسرون: بلغ قومه، وأدى إليهم ما أمر به. وقال آخرون: أكمل ما يجب لله عليه من الطاعة، في كل ما أمر، وامتحن به. ثم بين ما في صحفهما، فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه: لا تؤاخذ نفس بإثم غيرها، وفي هذا إبطال لقول من ضمن للوليد أن يحمل عنه الإثم، وهذا عام في كل شريعة، وقد روي في شرعنا: أن رؤساء الكفر، والداعين إلى الضلالة، يزاد لهم الوزر، بسبب إضلالهم أتباعهم، وهو قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] فأما أن تحمل نفس ذنب نفس أخرى، حتى تصير المحمول عنها، كأنها لم تأت بذنب، فليس ذلك في شريعة. {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] عطف على قوله تعالى: ألا تزر وهذا أيضًا مما في صحف إبراهيم وموسى، ومعناه: ليس له جزاء إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرًا جزي خيرًا، وإن عمل شرًا جزي شرًا، وروى الوالبي، عن ابن عباس: أن هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] رفع الله درجة الذرية، وإن لم يستحقوها بأعمالهم. ونحو هذا قال

عكرمة، وكان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة: فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم، ومن قال: إنه غير منسوخ الحكم، قال: الآية تدل على منع النيابة في الطاعات، إلا ما قام عليه الدليل كالحج. وهو أن امرأة قالت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن إبي مات، ولم يحج. قال: «فحجي عنه» . {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى {41} وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى {42} وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا {44} وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {45} مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {46} وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى {47} وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى {48} وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى {49} وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى {50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى {51} وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى {52} وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى {53} فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى {54} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى {55} هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى {56} أَزِفَتِ الآزِفَةُ {57} لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ {58} أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ {59} وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ {60} وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ {61} فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {62} } [النجم: 40-62] . {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 40] يوم القيامة في منزلته، من أريته الشيء. ثم يجزاه يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزيت فلانًا سعيه. يتعدى إلى مفعولين، الجزاء الأوفى الأكمل الأتم. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] منتهى العباد، ومرجعهم إليه. {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] هذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره، حتى الضحك والبكاء، قال الكلبي: أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار. وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ} [النجم: 44] في الدنيا، وأحيا بالبعث. {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النجم: 45] الصنفين، الذكر والأنثى من كل حيوان. {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 46] تصب في الرحم. {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم: 47] الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى} [النجم: 48] الناس، بالأموال ومولهم، وأقنى أعطى القنية، وأصول الأموال، وما يدخرونه بعد الكفاية، وقال مقاتل، ومجاهد: أقنى: قنع، ورضي بما أعطى الفقير. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49] وهو كوكب خلف الجوزاء، كانت خزاعة تعبدها، فقال الله تعالى: أنا رب الشعرى

فاعبدوني. {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم: 50] وهم: قوم هود، أهلكوا بريح صرصر، وكان لهم عقب، فكانوا عادا الأخرى. وثمودًا وهم: قوم صالح، أهلكهم الله بالصيحة، فما أبقى منهم أحدًا. {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [النجم: 52] أهلك الله قوم نوح من قبل عاد، وثمود، {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم: 52] من غيرهم، لطول دعوة نوح إياهم، وعتوهم على الله بالمعصية، والتكذيب. والمؤتفكة قرى قوم لوط، المخسوف بها، أهوى أسقط، أي: أهواها جبريل، بعد أن رفعها، وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله: فغشاها ألبسها الله، ما غشى يعني: الحجارة. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم: 55] هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله ما فعله مما يدل على وحدانيته، قال: فبأي نعم ربك، التي تدلك على وحدانيته، تتشكك؟ قال ابن عباس: يريد: تكذب يا وليد، يعني: الوليد بن المغيرة. هذا نذير يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} [النجم: 56] من الرسل قبله، قال قتادة: يقول أنذر محمد، كما أنذر الرسل من قبله. أزفت الآزفة دنت القيامة، واقتربت الساعة. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] أي: إذا غشيت الخلق بشدائدها، وأهوالها، لم يكشفها عنهم أحد، ولم يردها، وهذا قول عطاء، والضحاك، وقتادة. وتأنيث كاشفة على تقدير: نفس كاشفة، ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا، كالجاثية، والعاقبة، والمعنى: ليس لها من دون الله كشف، أي: لا يكشف عنها غيره، ولا يظهرها، كقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الأعراف: 187] . قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} [النجم: 59] يعني: القرآن، تعجبون أي: من إنزاله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتكذبون به. وتضحكون تستهزئون به، ولا تبكون مما فيه من الوعيد. وأنتم سامدون لاهون، غافلون، معرضون، والسمود: الغفلة والسهو عن الشيء. فاسجدوا لله الخالق، واعبدوا فإنه المستحق للعبادة. 900 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا فَمَا بَقِيَ مِنَ الْقَوْمِ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَدْ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَا، فَوَضَعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ.

تفسير سورة القمر

تفسير سورة القمر وهي خمسون وخمس آيات، مكية. 1144 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فِي كُلِّ غِبٍّ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ أَفْضَلَ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مُسْفِرٌ عَلَى وُجُوهِ الْخَلائِقِ ". بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ {1} وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {2} وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ {3} وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ {4} حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ {5} } [القمر: 1-5] . {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وقال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: إن كنت صادقًا، فشق لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فعلت تؤمنون» . قالوا: نعم. وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يعيطه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا. 1145 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْهَدُوا " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ

كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، وَحَدِيثُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ روينا عن جميعهم ذلك في مسند التفسير، وجميع المفسرين على هذا، إلا ما روى عثمان بن عطاء، عن أبيه، أنه قال: معناه: سينشق القمر. والعلماء كلهم على خلافه وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة، قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد، وما عليه أهل العلم أن تأويله: أن القمر ينشق يوم القيامة. والأمر بين في اللفظ وإجماع أهل العلم، لأن قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] يدل على أن هذا كان في الدنيا، لا في القيامة، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد. فقال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} [القمر: 2] ، يعني: انشقاق القمر، يعرضوا عن التصديق، والإيمان بها، {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] قوي شديد، يعلو كل سحر، من قولهم: استمر الشيء إذا قوي واستحكم. ثم ذكر تكذيبهم، فقال: وكذبوا يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عاينوا من قدرة الله، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 3] وما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم عليه، {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 3] قال الكلبي: لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة: وكل أمر مستقر فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر. وقال الفراء: يقول: يستقر قرار تكذيبهم، وقرار قول المصدقين، حتى يعرفوا حقيقته بالثواب

والعقاب. ولقد جاءهم يعني: أهل مكة، من الأنباء من أخبار الأمم المكذبة في القرآن، {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] مصدر بمعنى الازدجار، أي: نهي وعظة، يقال: زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء. حكمة بالغة يعني: القرآن حكمة تامة، قد بلغت الغاية، {فما تغني النذر} يجوز أن تكون ما نفيا على معنى: فليست تغني النذر، وهو جمع نذير، ويجوز أن تكون استفهامًا، والمعنى: فأي شيء تغني النذر، إذا لم يؤمنوا؟ كقوله: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] . ثم أمره بالإعراض عنهم، بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ {6} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ {7} مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ {8} } [القمر: 6-8] . فتول عنهم وههنا وقف التمام، وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] قال مقاتل: هو إسرافيل، ينفخ قائمًا على صخرة بيت المقدس. {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6] إلى أمر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظامًا له. {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7] وقرئ خاشعًا، ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، والجمع، والتأنيث، تقول: مررت بشباب حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم، وفي قراءة عبد الله خاشعة أبصارهم أي: ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب، {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [القمر: 7] وهي القبور، {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] ينبت بعضها في بعض، والمعنى: أنهم يخرجون فزعين، لا جهة لأحد منهم فيقصدها، والجراد لا جهة لها، تكون أبدًا مختلفة بعضها في بعض. {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 8] مقبلين إلى صوت إسرافيل، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8] صعب شديد، قال ابن عباس: عسير على الكافرين، سهل يسير على المؤمنين. كقوله: {يَوْمٌ عَسِيرٌ {9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ {10} } [المدثر: 9-10] .

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ {9} فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ {10} فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12} وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ {14} وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {15} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {16} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {17} } [القمر: 9-17] . {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر: 9] إلى قوله: {وَازْدُجِرَ} [القمر: 9] زجروه عن دعوته بالشتم، والوعيد. فدعا نوح، {رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] فانتقم لي ممن كذبني. {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] منصب انصبابًا شديدًا، لا ينقطع أربعين يومًا. {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12] وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء ماء كما يسيل من أفواه القرب، وانفتحت الأرض بعيون الماء، حتى اجتمع الماءان، وهو قوله: فالتقى الماء يعني: ماء السماء وماء الأرض، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] قضي عليهم، وقال مقاتل: قدر الله تعالى أن يكون الماءان سواء، فكانا على ما قدر. وحملناه يعني: نوحًا، على سفينته، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} [القمر: 13] وهي خشباتها العريضة التي منها جمعت، ودسر قال الزجاج: يعني: المسامير التي تشد بها الألواح، واحدها دسار، وكل شيء أدخل في شيء بشدة فهو الدسر. تجري تلك السفينة، بأعيننا بمنظر ومرأى منا، وحفظ، كقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] ، {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] قال الفراء: يقول: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم، ثوابًا لمن كان كفر به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام. {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} [القمر: 15] يعني: الفعلة التي فعلنا، آية علامة يعتبر بها، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر، ويخاف. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} [القمر: 16] استفهام عن تلك الحالة، ومعناه: التعظيم لذلك العذاب، ونذر وهو اسم من الإنذار يقوم مقام المصدر، وفي هذا تخويف لمشركي مكة. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] للحفظ والقراءة، قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] من ذاكر يذكره، وقارئ يقرأه، ومعناه: الحث على قراءة القرآن، ودرسه، وتعلمه. وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {18} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ {19} تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ {20} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {21} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {22} } [القمر: 18-22] .

وما بعده ظاهر إلى قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 19] شديدة الهبوب، وقال ابن عباس: ريحًا باردة. وقد مر، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] دائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسته، قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقال الزجاج: قيل: في يوم الأربعاء، في آخر الشهر. تنزع الناس تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم، فتصرعهم على الأرض موتى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [القمر: 20] جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، منقعر منقلع ساقط، يقال: قعرت النخلة إذا قعلتها من أصلها، حتى تسقط وقد انقعرت هي. شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح، وكبتهم على وجوههم، بالنخيل الساقطة على الأرض التي ليست لها رءوس، وذلك أن الريح قلعت رءوسهم أولًا، ثم كبتهم على وجوههم. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ {23} فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {24} أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ {25} سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ {26} إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ {27} وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ {28} فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ {29} فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {30} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ {31} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {32} } [القمر: 23-32] . قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23] بالإنذار الذي جاءهم به صالح. {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] أي: هو آدمي مثلنا، وهو واحد فلا نكون له تبعًا، إنا إذا إن فعلنا ذلك، لفي ضلال خطأ، وذهاب عن

الحق، وسعر شقاء وعناء، وشدة عذاب مما يلزمنا من طاعته، وقال عطاء، عن ابن عباس: وجنون من قولهم: ناقة مسعورة، إذا كان بها جنون. ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه، فقالوا: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25] كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي، {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ} [القمر: 25] فيما يقول، أشر بطر متكبر، يريد أن يتعظم علينا بالنبوة. قال الله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} [القمر: 26] حين ينزل بهم العذاب، وقال الكلبي: يعني: يوم القيامة. {مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر: 26] أهم، أم صالح؟ {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] قال ابن عباس: إنهم تعنتوا على صالح، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء، تضع لهم، ثم ترد ماءهم فتشربه، ثم تغدون عليهم بمثله لبنًا. فقال الله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] أي: باعثوها بإنشائها، فتنة لهم محنة واختبارًا، فارتقبهم فانتظر، ما هم صانعون واصطبر على ما يصيبك من الأذى. {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، وهو قوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] يحضر القوم يومًا، وتحضر الناقة يومًا، وحضر واحتضر واحد. فنادوا صاحبهم قدار بن سالف عاقر الناقة، فتعاطى تناول الناقة بالعقر، فعقر وقد مضى تفسير العقر. {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر: 31] قال عطاء: يريد: صيحة جبريل عليه السلام. {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31] الهشيم: حطام الشجر والبقل، والمحتظر: الذي يتخذ لغنمه حظيرة، يمنعها من برد الريح، يقال: احتظر على غنمه، إذا جمع الشجر، ووضع بعضها فوق بعض، قال الزجاج: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة. والمعنى: أنهم بادوا وأهلكوا، فصاروا كيبيس الشجر إذا تحطم.

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ {33} إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ {34} نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ {35} وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ {36} وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {37} وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ {38} فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {39} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {40} } [القمر: 33-40] . {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34] قال ابن عباس: يريد: ما حصبوا به من السماء من الحجارة. قال أبو عبيدة، والنضر: الحاصب: الحجارة في الريح. وقد يكون الحاصب: الرامي، ويكون المعنى على هذا: إنا أرسلنا عليهم عذابًا يحصبهم يرميهم بحجارة، {إِلا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34] يعني: لوطًا وبنتيه، نجيناهم بسحر من ذلك العذاب الذي أصاب قومه. {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [القمر: 35] للإنعام عليهم، كذلك كما أنعمنا عليهم، {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 35] قال مقاتل: من وحد الله، لم يعذب مع المشركين. ولقد أنذرهم لوط، بطشتنا أخذنا إياهم بالعذاب، فتماروا بالنذر أي: شكوا بالإنذار، ولم يصدقوه. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر: 37] طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه، فطمسنا أعينهم وهو أن جبريل عليه السلام صفق أعينهم بجناحه صفقة فأذهبها، والقصة مذكورة في { [هود وتم الكلام، ثم قال: فذوقوا أي: فقلنا لقوم لوط لما أرسلنا عليهم العذاب: ذوقوا، عذابي ونذر وما أنذركم به لوط من العذاب، سمي العذاب باسم الإنذار. ] وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} [سورة القمر: 38] أتاهم صباحًا، عذاب مستقر نازل بهم، قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة. {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ {41} كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ {42} أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ {43} أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ {44} سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {45} بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ {46} } [القمر: 41-46] . {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ} [القمر: 41] يعني: القبط، النذر يجوز أن يكون بمعنى: الإنذار، ويجوز أن يكون: جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وذلك قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا

فَأَخَذْنَاهُمْ} [القمر: 42] بالعذاب، أخذ عزيز غالب في انتقامه، مقتدر قادر على إهلاكهم. ثم خوف كفار مكة، فقال: أكفاركم يا معشر العرب، خير أشد وأقوى، من أولئكم وهذا استفهام معناه: الإنكار، أي: ليسوا أقوى من قوم نوح، وعاد، وثمود وقد أهلكناهم، {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] يقول: ألكم براءة من العذاب في الكتب، أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] قال الكلبي: نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا. والمعنى: نحن يد واحدة على من خالفنا، ننتصر ممن عادانا، فيدلون بقوة واجتماع عليك، ووحد المنتصر للفظ الجميع وهو واحد في اللفظ، وإن كان اسمًا للجماعة، كالرهط والجيش. قال الله تعالى: سيهزم الجمع يعني: جميع كفار مكة، ويولون الدبر ينهزمون، فيولونكم أدبارهم في الهزيمة، أخبر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه يظهره عليهم ويهزمهم، فكانت هذه الهزيمة يوم بدر. ثم قال: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] يعني: أن موعد الجميع للعذاب يوم القيامة، والساعة أدهى أعظم في الضر، وأفظع من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، وأمر أشد مرارة من القتل، والأسر في الدنيا. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ {50} وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {51} وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ {52} وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ {53} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ {55} } [القمر: 47-55] . قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] . 1146 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْكَعْبِيُّ، نا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ

فِي النَّارِ} [القمر: 48] إِلَى قَوْلِهِ {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ 1147 - أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّارُ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ جَنْدَلٍ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خُرَاسَانَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّقْرِ الْحَافِظَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ عُفَيْرَ بْنَ مَعْدَانَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ» {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} } [القمر: 47-48] . 1148 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ عَبْدُونُ الْقُرْقُسَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 47-48]

1149 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الزِّيَادِيُّ، نا أَبُو الْعَاصِ أُمَيَّةُ بْنُ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو السَّكْسَكِيُّ، حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْخَلائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي نِدَاءً يَسْمَعُهُ الْأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ، فَيَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ فَيَؤُمُّهُمْ إِلَى النَّارِ» يقول الله تعالى {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} } [القمر: 48-49] . وإنما سموا خصماء الله، لأنهم يقولون: يكتب الله علينا المعاصي ثم يعذبنا. هذا ما لا يكون أبدًا، يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها، فقوله تعالى: إن المجرمين يريد: القدرية المشركين، وإخوانهم من قدرية هذه الأمة، {فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] ذهاب عن طريق الجنة في الدنيا، وسعر ونار متسعرة في الآخرة. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} [القمر: 48] يجرون في النار، على وجوههم ويقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] أصابتهم إياهم بعذابها، وحرها. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أي: كل ما خلقناه فمقدور، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. 1150 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يُوسُفَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، نا قُتَيْبَةُ، نا مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» رَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وقال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال الكلبي، عنه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كلمح البصر. ومعنى اللمح: النظر بالعجلة. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} [القمر: 51] أشباهكم، ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 51] متعظ، يعلم أن ذلك حق فيخاف، ويعتبر. ثم أخبر أن جميع ما فعلته الأمم قبلهم كان مكتوبًا عليهم، فقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] قال مقاتل: مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} [القمر: 53] من الخلق، والأعمال، مستطر مكتوب على فاعليه، قبل أن يفعلوه. قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] أراد: أنهارًا، يعني: أنهار الجنة من الماء، والخمر، واللبن، والعسل، فوحد لوفاق الفواصل. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] في مجلس حسن، {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] عند ملك قادر، لا يعجزه شيء، والمعنى: في المكان الذي كرمه لأوليائه.

تفسير سورة الرحمن

تفسير سورة الرحمن وهي سبعون وثماني آيات، مكية. 1151 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السِّجِسْتَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ رَحِمَ اللَّهُ ضَعْفَهُ وَأَدَّى شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْءَانَ {2} خَلَقَ الإِنْسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ {5} وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ {6} وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ {7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ {8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ {9} وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ {10} فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ {11} وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ {12} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {13} } [الرحمن: 1-13] . {الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْءَانَ {2} } [الرحمن: 1-2] قال الكلبي: علم القرآن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته. وقال الزجاج: معنى علم القرآن: يسره لأن يذكر. خلق الإنسان يعني: آدم. علمه البيان أسماء كل شيء، ويقال: الإنسان اسم للجنس، ومعناه: الناس جميعًا، علمه البيان النطق، والكتابة، والخط، والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول، وما يقال له، وهذا قول أبي العالية، ومرة، وابن زيد، والحسن، والسدي. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يجريان بحساب، ومنازل لا يعدوانهما، وهما يدلان على عدد الشهور والسنين،

والأوقات. والنجم يعني: نبت الأرض مما ليس له ساق، والشجر ما كان له ساق، يبقى في الشتاء، يسجدان يعني: سجود ظلالهما، كقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] ، وكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الحج: 18] إلى قوله: والنجوم. والسماء رفعها فوق الأرض، ووضع الميزان يعني: آلة الوزن، ليتوصل به إلى الإنصاف والانتصاف، وقال الزجاج، وصاحب النظم: المراد بالميزان: العدل. والمعنى: أنه أمر بالعدل، يدل عليه قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8] أي: لا تجاوزوا العدل. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] قال عطاء: لا تخونوا من وزنتم له، أقيموا لسان الميزان بالعدل. {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] لاتنقصوا، ولا تبخسوا الوزن. {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] بسطها على الماء، لجميع الخلق الذين ثبتهم فيها. فيها فاكهة يعني: ما يتفكه من ألوان الثمار، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن: 11] الأوعية والغلف، وثمرها يكون في غلف ما لم ينشق. والحب يريد: جميع الحبوب، مما يحرث في الأرض من الحنطة، والشعير، وغيرهما، ذو العصف يعني: الورق، فإذا يبس وديس صار تبنًا، وقال السدي، والفراء: هو بقل الزرع، وهو أول ما ينبت منه. قال ابن كيسان: يبدو أولًا ورقًا وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يحدث الله فيه أكمامًا، ثم يحدث الله في الأكمام حبًا. وقوله: والريحان يعني: الرزق في قول الأكثرين، وقال الحسن، وابن زيد: هو ريحانكم الذي يشم. وقرأ ابن عامر: والحب ذا العصف حمله على قوله: والأرض وضعها المعنى: وخلق الحب، والوجه الرفع نسقًا على قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ} [الرحمن: 11] ، والحب أي: وفيها الحب والريحان، وقرأ حمزة بالخفض حملًا على ذو كأنه قيل: والحب ذو العصف وذو الريحان، وهو رزق الناس والعصف رزق

الدواب، فذكر قوت الناس والأنعام. ثم خاطب الجن والإنس، بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؟ لأنها كلها منعم عليكم بها، وكررت هذه الآية في هذه السورة، تقريرًا للنعمة، وتأكيدًا في التذكير بها، على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع. 1152 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَيْضِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمٍ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ حَدَّثَهُمْ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَذْكُورِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إِلا قَالُوا: وَلا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامٍ. {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ {14} وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ {15} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {16} رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ {17} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {18} مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ {19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ {20} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {21} يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ {22} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {23} وَلَهُ

الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ {24} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {25} } [الرحمن: 14-25] . قوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} [الرحمن: 14] تقدم تفسيره في { [الحجر،] كَالْفَخَّارِ} [سورة الرحمن: 14] وهو: الخزف الذي طبخ بالنار، معناه: من طين يبسه كالخزف. {وَخَلَقَ الْجَانَّ} [الرحمن: 15] يعني: أبا الجن، {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وهو الصافي من لهب النار. رب المشرقين يعني: مشرق الصيف، ومشرق الشتاء، وكذلك: المغربين. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] تفسير هذه الآية، والتي بعدها قد تقدم في { [الفرقان، والمعنى: أن الله تعالى ذكر عظيم قدرته، حيث خلق البحرين العذب والمالح، يلتقيان ثم لا يختلط أحدهما بالآخر، وهو قوله: بينهما برزخ أي: حاجز من قدرة الله تعالى، لا يبغيان فلا يبغي المالح على العذب فيفسده، ولا العذب على المالح فيختلط به. قوله: يخرج منهما أكثر القراء على يخرج بضم الياء، من الإخراج، لأنه يخرج ولا يخرج بنفسه، ومن قرأ يخرج فهو اتساع، وذلك أنه إذا أخرج خرج، وقال: منهما وإنما يخرج من المالح دون العذب، ولكن الله تعالى ذكرهما جميعًا، وجمعهما وهما بحر واحد، فإذا خرج من أحدهما، فقد خرج منهما، هذا قول الزجاج. وقال أبو علي الفارسي: أراد: من أحدهما، فحذف المضاف. وقوله: اللؤلؤ والمرجان قال الفراء: اللؤلؤ: العظام، والمرجان: ما صغر. وهو قول جميع أهل اللغة، وقال عطاء: اللؤلؤ: الكبير، والمرجان: الصغير. وذكر مقاتل على الضد من هذا، وهو قول مجاهد، والسدي. وله الجوار يعني: السفن الجارية في الماء، المنشآت المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض فركب، حتى ارتفعت وطالت، والوجه فتح الشين، ومن كسر أراد: المنشئات السير، أي: اللاتي ابتدأن وأنشأن السير، وقوله: كالأعلام أي: كالجبال، والعلم: الجبل الطويل، قال مقاتل: شبه السفن في البحر، كالجبال في البر.

[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ {27} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {28} يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ {29} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {30} } [سورة الرحمن: 26-30] . {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] على الأرض، {فَانٍ} [الرحمن: 26] هالك، يعني: أن كل من دب ودرج على الأرض من حيوان، فهو فان هالك، يفنى ولا يبقى. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] أي: ربك الظاهر بأدلته، ظهور الإنسان بوجهه، {ذُو الْجَلالِ} [الرحمن: 27] العظمة والكبرياء، واستحقاق الصفات بإحسانه، وإنعامه، {وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] إكرامه أنبياءه وأولياءه، فهو مكرمهم بلطفه مع جلاله وعظمته. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن: 29] قال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماء، ولا أهل الأرض. وقال أبو صالح: يسأله من في السموات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق. وقال مقاتل: يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأل الملائكة لهم أيضًا الرزق والمغفرة. {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويعز ويذل، ويشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا، ويكشف كربًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله، وأحداثه في خلقه ما يشاء. 1153 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، نا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّسَوِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا الْوَزِيرُ بْنُ صُبَيْحٍ، نا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَضَعَ آخَرِينَ.

1154 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدُوسٍ النَّحْوِيُّ إِمْلاءً، أنا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْحًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ وَقَنَاةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ يَنْظُرُ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ {31} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {32} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ {33} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {34} يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ {35} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {36} } [الرحمن: 31-36] . {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن: 31] هذا وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة، ولا يشغله شأن عن شأن، وإنما حسن لفظ الفراغ لسبق ذكر الشأن، والمعنى: سنترك ذلك الشأن إلى هذا، قال الزجاج: سنقصد لحسابكم. وهذا قول ابن الأعرابي، واختيار أبي علي الفارسي، قال: ليس الفراغ ههنا فراغًا من شغل، ولكن تأويله القصد. والمفسرون على أن هذا تهديد منه لبعاده، وقرئ بالياء سيفرغ لتقدم قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} [الرحمن: 24] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، وقوله: {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] يعني: الجن والإنس، يدل عليه قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33] أي: تخرجوا، يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا أخلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية، {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن: 33] جوانبها ونواحيها، واحدها: قطر، والمعنى: إن استطعتم أن تهربوا من الموت، بالخروج من أقطار السموات والأرض، فاهربوا واخرجوا منها، والمعنى: أنكم حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال الله

تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ، ولن تستطيعوا أن تهربوا منه، {لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] يقول: إلا بملكي، أي: حيث توجهتم فتم ملكي، وأنا آخذكم بالموت، ومعنى السلطان: القوة التي يتسلط بها على الأمر، ثم الملك، والقدرة، والحجة كلها سلطان. قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 35] جاء في الخبر: يحاط على الخلق بلسان من نار، ثم ينادون: يا معشر الجن والإنس، {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33] الآية، وذلك قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 35] والشواظ: اللهب الذي لا دخان معه، وقرأ ابن كثير بكسر الشين، وهو لغة أهل مكة، ومثله صوار من بقي وصوار، وقوله: {وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] وهو الدخان، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وسعيد بن جبير، والوالبي، وأكثر القراء فيه على الرفع، بالعطف على قوله: {شُوَاظٌ} [الرحمن: 35] والمعنى: يرسل عليكما شواظ، ويرسل نحاس، أي: يرسل هذا مرة وهذا مرة، ويجوز أن يرسلًا معًا من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، وقرئ بالكسر وهو ضعيف، لأنه لا يمكن أن يعطف به على نار، في قوله: من نار لأنه لا يكون شواظ من نحاس، قال أبو علي: وهو يجوز من وجه، على أن تقديره: يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس، على أنه قد حكي أن الشواظ لا يكون إلا من النار والدخان جميعًا. ونحو هذا حكي عن أبي عمرو، وقوله: {فَلا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] أي: لا تمتنعان من الله، ولا يكون لكم ناصر منه. {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ {37} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {38} فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ {39} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {40} يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ {41} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {42} هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ {43} يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ {44} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {45} } [الرحمن: 37-45] . {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الرحمن: 37] لنزول الملائكة، {فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] كلون الفرس الورد، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة، قال قتادة: هي اليوم خضراء كما ترون، ولها يوم القيامة لون

آخر إلى الحمرة. {كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] جمع دهن، قال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها، بالدهن واختلاف ألوانه. وهذا قول الضحاك، ومجاهد، وقتادة، والربيع. {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ} [الرحمن: 39] يعني: لا يسأل لتعرف ذلك بالمسألة من جهته، لأن الله تعالى قد أحصى الأعمال، وحفظها على العباد، فلا يسألون سؤال استفهام، ولكن يسألون سؤال تقريع وتوبيخ. {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] قالوا: بسواد الوجوه، وزرقة الأعين، يدل على هذا قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ، وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] ، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف، ويلقون في النار، روى الحسن، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «والذي نفسي بيده، لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام، فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم، حتى يقبضوا على من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام، فيستجير بالله منهم ومن جهنم» . أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد، نا محمد بن موسى الحلواني، نا الفضل بن زياد، نا مروديه الصايغ، قال: صلى بنا الإمام صلاة الصبح، فقرأ { [الرحمن ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلما قرأ الإمام:] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [سورة الرحمن: 41] الآية، خر عليّ مغشيًا عليه، ففرغنا من الصلاة، فلما كان بعد ذلك قلنا له: يا علي، أما سمعت الإمام يقول: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] . قال: شغلني عنها: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] . قوله: هذه جهنم أي: يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، أي: أنها لا تكون. ثم أخبر عن حالهم فيها، فقال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] قال الفراء: هو الذي قد انتهى حره. قال الزجاج: أنى

يأني فهو آن إذا انتهى في النضج والحرارة. وقال الحسن: قد بلغ منتهى حره. والمعنى: أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وعذاب الحميم، فإذا استغاثوا من النار، جعل غياثهم الحميم الآني، الذي قد صار كالمهل، وهو قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] الآية. وكل ما ذكر الله تعالى من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] إلى ههنا مواعظ ومزاجر، وتهديد وتخويف، وهي كلها نعمة من الله تعالى الانزجارية عن المعاصي، ولذلك ختم كل آية بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 28] . ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه، فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ {46} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {47} ذَوَاتَا أَفْنَانٍ {48} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {49} فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ {50} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {51} فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ {52} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {53} } [الرحمن: 46-53] . {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] أي: مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية والشهوة، قال مجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله، فيدعها. جنتان قال مقاتل: يعني: جنة عدن وجنة النعيم. وقال الضحاك: هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله، فما عرض له من محرم تركه من خشية الله، وما عمل من خير أفضى به إلى الله، لا يحب أن يطلع عليه أحد فله جنتان. وقال قتادة: إن المؤمنين خافوا ذلك المقام، فعملوا لله، ودأبوا له بالليل والنهار. 1155 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَثْمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ،

قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ ثم وصف الجنتين، فقال: ذواتا أفنان الأفنان: الأغصان، واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولًا، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية , والكلبي، وقال الزجاج: الأفنان: الألوان، واحدها فن وهو الضرب من كل شيء. قال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة. وهو قول سعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين، فقال: يريد: في كل غصن فنون من الفاكهة. {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] قال الحسن: إحداهما السلسبيل، والأخرى التسنيم. {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] أي: ضربان، وصنفان، ونوعان، يعني: أن فيهما من كل ما يتفكه ضربين رطبًا ويابسًا، لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، ولا رطبه عن يابسه في العدم، كما يكون في الدنيا. {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ {54} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {55} فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ {56} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {57} كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ {58} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {59} هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ {60} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {61} } [الرحمن: 54-61] . {مُتَّكِئِينَ} [الرحمن: 54] فيها، حال الذين ذكروا في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] ، {عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 54] جمع فراش، {بَطَائِنُهَا} [الرحمن: 54] جمع بطانة، وهي: التي تحت الظهارة، قال الزجاج: وهي ما يلي الأرض. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وهو كل ما غلظ من الديباج، قال ابن مسعود: أخبرتم بالبطائن، فكيف بالظهاير؟ وقال أبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق، فما الظواهر؟ فقال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] . وقال ابن عباس: وصف البطائن، وترك الظواهر، لأنه ليس في

الأرض أحد يعرف ما الظواهر. وقوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] الجنى: ما يجتنى من الثمار، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائمًا، وإن شاء قاعدًا. وقال قتادة: لا ترد أيديهم عنها بعد ولا شوك. فيهن يعني: في الفرش التي ذكرها، ويجوز أن يكون في الجنان، لأنها معلومة وإن لم يذكر، قاصرات الطرف قال قتادة: قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهن. وقال ابن زيد: إنها تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك، فالحمد الله الذي جعلني زوجك، وجعلك زوجي. لم يطمثهن قال الفراء: الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية، يقال: طمث ويطمث وطمثت الجارية إذا افترعتها. قال المفسرون: لم يطأهن، ولم يغشاهن، ولم يجامعهن. قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، فعلى قوله: هؤلاء من حور الجنة. وقال الشعبي: هن من نساء الدنيا، لم يمسسن منذ أنشئن خلقًا. وهو قول الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الجني يغشى الإنس. {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] أراد لهن صفاء الياقوت في بياض المرجان. {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] أي: ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا الجنة. 1156 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بِهْرَامٍ، نا حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، نا قُتَيْبَةُ، نا بِشْرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ رَبُّكُمْ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ رَبَّكُمْ، يَقُولُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلا الْجَنَّةُ. {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ {62} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {63} مُدْهَامَّتَانِ {64} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {65} فِيهِمَا

عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ {66} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {67} فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ {68} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {69} فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ {70} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {71} حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ {72} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {73} لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ {74} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {75} مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ {76} فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {77} تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ {78} } [الرحمن: 62-78] . {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أي: من دون الأوليين في الفضل، روى أبو موسى، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» . ثم نعتهما، فقال: مدهامتان قال أبو عبيدة، والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من الري وكل نبت أخضر، فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد، يقال: ادهام الزرع إذا علاه السواد ريًا ادهيمامًا فهو مدهام. {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66] فوارتان، والنضخ: فوران الماء من العين، قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك، والعنبر، والكافور. قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} [الرحمن: 68] يعني: ألوان الفاكهة، {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] حكى الزجاج، عن يونس النحوي، قال: وهو مثل الخليل في القدم والحذق: أن الرمان والنخل من أفضل الفاكهة، وإنما فُصِلا بالواو لفضلهما، واستشهد بقوله: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] قال: فصلا بالواو لفضلهما. قال الأزهري: ما علمت أحدًا من العرب، قال في النخيل، والكروم وثمارها إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال ذلك، لقلة علمه بكلام العرب، وعلم اللغة، وتأويل القرآن العربي المبين، والعرب تذكر أشياء جملة، ثم تخص شيئًا منها بالتسمية، تنبيها على فضل فيه، قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] إلى قوله: وميكال فمن قال: إنهما ليسا من الملائكة لإفراد الله إياهما بالتسمية، فهو كافر، ومن قال ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة لإفراد الله إياهما بالتسمية بعد ذكر الفاكهة، فهو جاهل. هذا كلام الأزهري. قوله: فيهن يعني: في الجنان الأربع، خيرات جمع خيرة، قال المفسرون: خيرات الأخلاق حسان الوجوه.

1157 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْبَيْرُوتِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] قَالَ: خَيِّرَاتُ الْأَخْلاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} [الرحمن: 72] محبوسات، {فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] يعني: أنهن خدرن فيها، وهذا قول مقاتل، وأبي عبيدة، وقال المفسرون: قصرن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم. والخيام جمع خيم، وخيم جمع خيمة، وهي: أعواد تنصب وتظلل بالنبات، فتكون أبرد من الأخبية، وأما خيام الجنة، فروى قتادة، عن ابن عباس، قال: الخيمة درة مجوفة، فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب. 1158 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أنا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا مَكِيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا أَبُو الْأَزْهَرِ رَوْحٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيَّ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلُ الْمُؤْمِنِ لا يَرَاهُمُ الآخَرُونَ» {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ

خُضْرٍ} [الرحمن: 76] قال أبو عبيدة: الرفارف البسط. وهو قول الضحاك، ومقاتل، والحسن، قالوا: المحابس والبسط. وقال الزجاج: قالوا: الرفرف ههنا رياض الجنة، وقالوا: الرفرف: الوسائد، وقالوا: الرفرف المحابس. وقوله: {وَعَبْقَرِيٍّ} [الرحمن: 76] يعني: عتاق الزرابي، والطنافس المخملة الموشية، قال أبو عبيدة: كل شيء من البسيط عبقري. وعبقري ههنا جمع، واحدتها عبقرية، لذلك قال: {حِسَانٍ} [الرحمن: 76] . ثم ختم ال { [بما ينبغي أن يمجد به ويعظم، فقال:] تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [سورة الرحمن: 78] وقرأ ابن عباس: ذو الجلال إجراء على الاسم، وذلك يدل على أن الاسم هو المسمى.

تفسير سورة الواقعة

تفسير سورة الواقعة وهي تسعون وست آيات. 1159 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُتِبَ لَيْسَ مِنَ الْغَافِلِينَ» . أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن مسروق، قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا والآخرة، فليقرأ { [الواقعة. بسم الله الرحمن الرحيم] إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {1} لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ {2} خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ {3} إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا {4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا {5} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا {6} وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً {7} فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {8} وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {9} وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {12} } [سورة الواقعة: 1-12] . {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] قال ابن عباس: إذا قامت القيامة. والواقعة اسم للقيامة، كالآزفة وغيرها. ليس لوقعتها لمجيئها وظهورها، كاذبة كذب، أي: أنها تقع صدقًا وحقًا، وليس فيها، ولا في

الإخبار عن وقوعها كذب. خافضة رافعة قال ابن عباس: تخفض ناسا، وترفع آخرين. وقال عطاء عنه: تخفض أقوامًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقوامًا كانوا في الدنيا متضعين. وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا في كرامة الله. والمعنى: أنها تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في النار، وترفع أقوامًا آخرين إلى أعلى عليين في الجنة. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4] حركت حركة شديدة، قال قتادة، ومقاتل: زلزلت زلزالًا. وقال جماعة من المفسرين: ترج كما يرج الصبي في المهد، حتى ينهدم كل بناء عليها، وينكسر كل ما عليها من الجبال. وهو قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] قال عطاء: فتتت فتًا. وهذا قول مقاتل، ومجاهد، وقال السدي: كسرت كسرًا. وقال الحسن: قلعت من أصلها. يقال: بس الشيء إذا فتّته حتى يصير فتاتًا. {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6] غبارًا متفرقًا، كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة وهو الهباء. ثم ذكر أحوال الناس، فقال: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة: 7] أي: أصنافًا ثلاثة. ثم فسرها، فقال: فأصحاب الميمنة يعني: اليمين، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، ويجوز أن يراد بهم: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8] تعجيب من شأنهم، كقولك: زيد ما زيد، ومثله: {الْحَاقَّةُ {1} مَا الْحَاقَّةُ {2} } [الحاقة: 1-2] . {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 9] يعني: أصحاب الشمال، وتفسير هذه الآية على الضد من تفسير التي قبلها. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] يعني: الذين سبقوا إلى توحيد الله، والإيمان برسوله، وقال مقاتل: إلى الأنبياء بالإيمان. {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] إلى جزيل ثواب الله، وعظيم كرامته، مثل النبيين والمرسلين. ثم أخبر أين محلهم، فقال: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] . {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ {14} عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ {15} مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ {16} يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ {17} بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ {18} لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ {19} وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ {20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ {21} وَحُورٌ عِينٌ {22} كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ {23} جَزَاءً بِمَا كَانُوا

يَعْمَلُونَ {24} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا {25} إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا {26} } [الواقعة: 13-26] . {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] يعني: من لدن آدم إلى زمان نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثلة: جماعة غير محصورة العدد، قال مقاتل: يعني: سابق الأمم. {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] من هذه الأمة، قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين، وصدقوا بهم، أكثر ممن عاين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة: 15] منسوجة، كما توضن حلق الدرع، فيدخل بعضها في بعض، قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] غلمان لا يهرمون، ولا يتغيرون، قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد. قال: ويقال: مخلدون مقرطون، يقال: خلد جاريته، إذ أخلدها بالخلد، وهي القرطة. قال ابن عباس: غلمان لا يموتون. بأكواب هي الأقداح المستديرة الأفواه، لا آذان لها ولا عرى، والأباريق ذات الخراطيم، واحدها: إبريق، وهو الذي برق لونه من صفائه. وما بعد هذا مفسر في { [والصافات، إلى قوله: مما يتخيرون أي: يختارون، يقال: تخيرت الشيء أخذت خيره. ] وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [سورة الواقعة: 21] قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلًا بين يديه على ما اشتهى. وحور عين أكثر القراءة بالرفع على معنى: ولهم أو عندهم حور عين، ومن قرأ بالخفض، فقال الفراء: هو وجه الكلام على أن يتبع آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في الآخرة ما حسن في الأول، يعني: أنه عطف على الأول في الظاهر، وإن لم يعطف في المعنى، كما قال الشاعر: وزججن الحواجب والعيونا.

فعطف العيون على الحواجب وهي لا تتزجج، على معنى: كحلن العيون. لذلك ههنا معناه: ويكرمون بفاكهة، ولحم طير، وحور عين. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] أي: يفعل ذلك بهم جزاء أعمالهم. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [الواقعة: 25] أي: لا لغو فيها فيسمع، {وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أي: لا يقولون بعضهم لبعض: أثمت، لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، وهذا معنى قول ابن عباس: لا يتكلمون بالإثم كما يتكلم أهل الدنيا. إلا قليلًا أي: لكن يقولون قيلًا، أو يسمعون قيلًا، سلامًا يسلمون فيه من اللغو والإثم، وقال عطاء: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام. ثم ذكر أصحاب اليمين، وعجب من شأنهم، فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ {27} فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ {28} وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ {29} وَظِلٍّ مَمْدُودٍ {30} وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ {31} وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ {32} لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ {33} وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ {34} إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً {35} فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا {36} عُرُبًا أَتْرَابًا {37} لأَصْحَابِ الْيَمِينِ {38} ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ {40} } [الواقعة: 27-40] . {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ {27} فِي سِدْرٍ} [الواقعة: 27-28] وهو نوع من الشجر، مخضود منزوع الشوك، خضد شوكه أي: قطع شوكه، فلا شوك فيه. وطلح وهو من أعظم أشجار العرب، منضود نضد بالحمل من أوله إلى آخره، فليست له سوق بارزة. وظل ممدود دائم باق لا يزول، ولا تنسخه الشمس، والعرب تقول لكل شيء طويل، لا ينقطع: ممدود. وماء مسكوب مصبوب، يجري الليل والنهار لا ينقطع عنهم، فهو مسكوب بسكب الله إياه في مجاريه. وفاكهة كثيرة يعني: ألوان فواكه الجنة. لا مقطوعة قال ابن عباس: لا تنقطع إذا جنيت. ولا ممنوعة لا تمنع من أحد أراد أخذها، وقال ابن قتيبة: يعني: أنها غير محظورة عليها، كما يحظر على بساتين الدنيا. فينظر الناظر إلى ثمارها، ولا يصل إليها فهي محظورة مقطوعة، ممنوعة عن الناس ممنوعة، ويجوز أن يكون المعنى: أنها غير مقطوعة بالأزمان، كما تنقطع أكثر فواكه الدنيا في الشتاء، ولا ممنوعة بالأثمان، لا يتوصل إليها إلا بالثمن، يدل على هذا ما روي أن ابن شوذب، قال: مررت بالحجاج بن فرافصة، وهو واقف على أصحاب الفاكهة،

فقلت له: ما يقيمك ههنا. قال: أنظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة. وفرش مرفوعة على الأسرة، وهو قول علي رضي الله عنه، قال: فوق السرير. وجماعة المفسرين، قالوا: بعضها فوق بعض، فهي مرفوعة عالية. قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] خلقناهن خلقًا جديدًا، قال ابن عباس: يعني: النساء الآدميات العجز الشمط، يقول: خلقناهن بعد الكبر والهرم في الدنيا خلقًا آخر، وقال الضحاك: أنشأهن الله بعد إذ كن عجزًا. فجعلناهن أبكارًا عذارى، وقال مقاتل: يعني: الحور العين أنشأهن الله تعالى، لم تقع عليهن ولادة. ثم نعتهن، فقال: عربًا جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها. أترابًا أمثالًا، مستويات في السن على سن واحد. لأصحاب اليمين يريد: أنشأناهن لأصحاب اليمين. ثم نعتهم، فقال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 39] من المؤمنين الذين كانوا قبل هذه الأمة. {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] من مؤمني هذه الأمة، وهذا قول عطاء، ومقاتل، وذهب جماعة: أن الثلثين جميعًا من هذه الأمة، وهو قول مجاهد، والضحاك، واختيار الزجاج، قال: جماعة ممن تبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده. وروي مرفوعًا: 1160 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ {39} وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ {40} } [الواقعة: 39-40] ، قَالَ: جَمِيعُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ أُمَّتِي ثم ذكر أصحاب الشمال، وذكر منازلهم، فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ {41} فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ {42} وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ {43} لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ {44} إِنَّهُمْ كَانُوا

قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ {45} وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ {46} وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ {47} أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ {48} قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ {49} لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ {50} ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ {51} لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ {52} فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ {53} فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ {54} فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ {55} هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ {56} } [الواقعة: 41-56] . {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ {41} فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41-42] أي: في حر النار، {وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 42] ماء حار يغلي. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43] من دخان جهنم، واليحموم: يفعول من الأحم وهو الأسود، والعرب تقول: أسود يحموم، إذا كان شديد السواد. ثم نعت ذلك الظل، فقال: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44] قال ابن عباس: يريد: لا بارد المدخل، ولا كريم المنظر. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعًا لكل شيء نعت عنه وصفًا ينوي به الذم، تقول: ما هو بسمين ولا كريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة. ثم ذكر أعمالهم التي أوجبت لهم هذا، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] كانوا في الدنيا منعمين، متكبرين في ترك أمر الله. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] الحنث: الذنب الكبير. قال أهل التفسير: عنى به الشرك، أي: كانوا لا يتوبون عن الشرك. وقال الشعبي: {الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] : اليمين الغموس. ومعنى هذا: أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكذبوا في ذلك، فهذا إصرارهم على الحنث العظيم، ويدل على هذا قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا} [الواقعة: 47] الآية وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] وقرئ بضم الشين، قال المبرد: الفتح على أصل المصدر، والضم اسم للمصدر، والمعنى فيهما واحد، تقول: شغله شغلًا والاسم الشغل، وضعف ضعفًا والاسم الضعف. والهيم الإبل العطاش، وقال ابن عباس: هي التي بها الهيام لا تروى. وقال مقاتل: يلقى على أهل النار العطش، فيشربون كشرب الهيم. هذا نزلهم يعني: ما ذكر من الزقوم، والشراب غذاؤهم، يوم الدين يوم يجازون بأعمالهم. ثم احتج عليهم في البعث، بقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ {57} أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ {58} أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ

الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ {61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذْكَّرُونَ {62} } [الواقعة: 57-62] . نحن خلقناكم قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، وأنتم تعلمون ذلك. فلولا فهلا، تصدقون بالبعث. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] ما تقذفون، وتصبون في أرحام النساء من النطف. أأنتم تخلقون ما تمنون بشرًا، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا} [الواقعة: 59-60] وقرأ ابن كثير مخففًا، وهما لغتان: قدرت الشيء وقدرته، {بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرًا، ومنكم من يموت صغيرًا، وشابًا، وشيخًا. وقال الضحاك: تقديره: أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء. وعلى هذا يكون معنى قدرنا: قضينا. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60] بمغلوبين. {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 61] أي: نأتي بخلق مثلكم بدلًا منكم، قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم، لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] من الصور، أي: إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق، ولا فاتنا ذلك. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} [الواقعة: 62] ابتداء الخلق، حين خلقتم من نطفة، وعلقة، ومضغة، {فَلَوْلا تَذْكَّرُونَ} [الواقعة: 62] فلا تنكروا قدرة الله على النشأة الأخيرة. قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ {73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {74} } [الواقعة: 63-74] . {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] تعملون في الأرض، وتلقون فيها من البذر. {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة: 64] تنبتونه، أم نحن المنبتون، قال المبرد: يقال: زرعه الله أي: أنماه. {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة: 65] جعلنا ما تحرثون، {حُطَامًا} [الواقعة: 65] قال عطاء: تبنا لا قمح فيه. قال الزجاج: أي: أبطلناه حتى يكون متحطمًا، لا حنطة فيه ولا شيء. والمعنى: أنه يقول: لو نشاء لجعلنا ما تحرثون كلأ، يصير بعد يبسه حطامًا متكسرًا، لا حنطة فيه، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] قال الفراء: تفكهون: تتعجبون مما نزل

بكم في زرعكم. وهو قول عطاء، والكلبي، ومقاتل، قال: ويقال: معناه: تندمون. وهو قول عكرمة، وقتادة، والحسن، وقال أبو عمرو، والكسائي: هو التلهف على ما فات. ويقولون: إنا لمغرمون المغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، تقولون: إنا قد غرمنا الحب الذي بذرناه، فذهب من غير عوض. وهو قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 71] تستخرجونها وتقدحونها، يقال: أوريت النار إذا قدحتها. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة: 72] التي تقدح منها، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73] قال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن. وقال عكرمة، ومجاهد، ومقاتل: جعلنا النار تذكرة للنار الكبرى. أي: إذا رآها الرائي، ذكر جهنم وما يخافه من العذاب، فذكر الله، واستجار به منها، {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] المقوي: الذي ينزل بالقوى، وهي الأرض الخالية، والمعنى: ينتفع بها أهل البوادي والأسفار، النازلين في الأرض القي، ومنفعتهم بما بها أكثر من منفعة المقيم، وذلك أنهم يوقدونها ليلًا لتهرب منهم السباع، ويهتدي بها الضال من الطريق، وقال عكرمة، ومجاهد: للمقوين: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين، يستضيئون بها في الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز. وعلى هذا القول المقوي من الأضداد، يقال للفقير: مقو، لخلوه من المال، وللغني: مقو، لقوته على ما يريد، يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حالة القوة، والمعنى: ومتاعًا للأغنياء والفقراء، وذلك لأنه لا غنى لأحد عنها. ولما ذكر الله تعالى ما يدل على توحيده، وما أنعم به عليهم، قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] أي: فبرئ الله مما يقولون في وصفه. {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ {75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ {76} إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ {78} لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ {79} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {80} أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ {81} وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ {82} } [الواقعة: 75-82] .

فلا أقسم لا زائدة، والمعنى: فأقسم، ويجوز أن تكون ردًا لما يقوله الكفار في القرآن، من أنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، وقوله: بمواقع النجوم قال ابن عباس: أقسم بنزول القرآن، نزل متفرقًا قطعًا نجومًا. وقال جماعة من المفسرين: يريد: مغارب النجوم ومساقطها. وقرئ بموقع النجوم على واحد، وقال المبرد: موقع ههنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع. ثم أخبر عن عظم هذا القسم، فقال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] قال الفراء، والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن. والضمير في: إنه يعود على القسم، ودل عليه أقسم، والمعنى: وإن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون. ثم ذكر المقسم عليه، بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] قال مقاتل: كرمه الله وأعزه، لأنه كلامه. وقال أهل المعاني: القرآن الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين. وقال الأزهري: الكريم: اسم جامع لما يحمد، والقرآن الكريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان، والعلم، والحكمة. {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] مستور من خلقه عند الله، في اللوح المحفوظ. {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله: لا يمسه تعود إلى الكتاب المكنون، والمطهرون هم الملائكة، قال المبرد: لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة، الذين وصفوا بالطهارة. ومذهب قوم: أن الضمير يعود إلى القرآن، والمراد به: المصحف، كما روي في الحديث: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» ، يعني به: المصحف، والمراد بقوله: المطهرون أي: من الأحداث والجنايات، وقالوا: لا يجوز للمحدث، والحائض، والجنب مس المصحف. وهذا قول محمد بن علي، وعطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، ومذهب مالك، والشافعي.

1161 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: لا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا عَلَى طُهْرٍ {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80] يعني: القرآن، منزل من عند رب العالمين على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: أفبهذا الحديث يعني: القرآن، أنتم يا أهل مكة، مدهنون تكفرون وتكذبون، قال الزجاج: أي: أفبالقرآن تكذبون، قال: والمدهن المداهن: الكذاب المنافق. ومعنى المدهن: من الإدهان، وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر، هذا أصله، ثم قيل للمكذب: مدهن. وإن صرح بالتكذيب والكفر. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] قال المفسرون: تجعلون شكركم، أنكم تكذبون بنعم الله عليكم، فتقولون: سقينا بنوء كذا. وذلك أنهم كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا. ولا ينسبون السقيا إلى الله تعالى، فقيل لهم: أتجعلون رزقكم، أي: شكركم بما رزقتم التكذيب، والمعنى: شكر رزقكم فحذف المضاف، قال الأزهري: معنى الآية: وتجعلون بدل شكر رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب، فإنه من عند الله الرزاق. قال: ومن جعل الرزق من عند الله، وجعل النجم وقتًا وقته الله للغيث، ولم يجعله المغيث الرازق، رجوت أن لا يكون مكذبًا. والله أعلم. 1162 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا ابْنُ بَطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، نا عَمْرُو بْنُ

مَرْزُوقٍ، نا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُصْبِحُ النَّاسُ مُجْدِبِينَ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِزْقٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُونَ مُشْرِكِينَ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا» . 1163 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا حَرْمَلَةُ وَعْمَرُو بْنُ سَوَادٍ السَّرْحِيُّ، قَالا: أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ وَبِالْكَوَاكِبِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَرْمَلَةَ وَعَمْرِو بْنِ سَوَادَةَ. {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ {83} وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ {84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ {85} فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ {86} تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {87} } [الواقعة: 83-87] . {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] يقول: فهلا إذا بلغت الروح، أو النفس الحلقوم عند الموت. {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة: 84] قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال، ترون الميت قد صار إلى أن يخرج نفسه. وقال صاحب النظم: معنى تنظرون ههنا: لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئًا. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85] أي: بالعلم، والقدرة، والرؤية، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] لا تعلمون ذلك، والخطاب للكفار، وقال المفسرون: ونحن أقرب يعني: ملك الموت وأعوانه. والمعنى: ورسلنا القابضون روحه، {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] أولئك الذي حضروه. فلولا فهلا، {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] غير مملوكين، وقال أكثرهم: غير محاسبين. ترجعونها تردونها إلى موضعها، إن كنتم محاسبين، ولا مجزيين كما تزعمون، يقول: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء، ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا تردون

نفس من يعز عليكم، إذا بلغت الحلقوم! وإذ لم يمكنكم ذلك بوجه، فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله عز وجل. ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت، بقوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ {88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ {89} وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {90} فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {91} وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ {92} فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ {93} وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ {94} إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ {95} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {96} } [الواقعة: 88-96] . {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} [الواقعة: 88] الذي بلغت روحه الحلقوم، {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] عند الله. {فَرَوْحٌ} [الواقعة: 89] أي: فله روح، وهو الراحة والاستراحة، وقال مجاهد: الروح: الفرح. {وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] يعني: الرزق في الجنة، وقال الحسن، وأبو العالية: يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} [الواقعة: 90] المتوفى، {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {90} فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {91} } [الواقعة: 90-91] أي: أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقال مقاتل: هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيئاتهم، ويقبل حسناتهم. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} [الواقعة: 92] بالبعث، الضالين عن الهدى. {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] فالذي يعد له حميم جهنم. وتصلية جحيم وإدخال لنار عظيمة، كما يقال: ويصلى سعيرًا في قراءة من شدد. 1164 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ

جُنَادَة، قَالَ: نا فُلانٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، فَأَنْشَأَ الْقَوْمُ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ {88} فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ {89} } [الواقعة: 88-89] قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ وَاللَّهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ {92} فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ {93} وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ {94} } [الواقعة: 92-94] فَيَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ وَاللَّهُ لِلِقَائِهِ أَكْرَهُ ". قوله: إن هذا يعني: ما ذكر من قصة المحتضرين، {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] حق الأمر اليقين. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] نزه الله عنه السوء، والباء زائدة، والاسم يكون بمعنى: الذات والنفس، كأنه قيل: فسم اسم ربك العظيم.

تفسير سورة الحديد

تفسير سورة الحديد وهي عشرون وتسع آيات، مدنية. 1165 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَدِيدِ كُتِبَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {2} هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {3} } [الحديد: 1-3] . {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 1] قال المقاتلان: يعني: كل شيء من ذي الروح وغيره، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وقد تقدم الكلام في تسبيح الجماد، في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وفي مواضع. يحيي الموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا. قبل كل شيء كان هو ولا شيء موجود، فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، يفني الأشياء ويبقي آخرًا، كما كان أولًا، والظاهر الغالب العالي على كل شيء، ويجوز أن يكون معناه: الظاهر بالأدلة والشواهد، والباطن العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان. أي: يعلم دخله أمره، ويجوز أن يكون معنى الباطن: أنه محتجب عن الأبصار. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4} لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {5} يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {6} } [الحديد: 4-6] . {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الحديد: 4] مفسر في { [الأعراف، إلى قوله:] يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي

الأَرْضِ} [سورة الحديد: 4] وهو مفسر في { [سبأ، إلى قوله:] وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد: 4] يعني: بالعلم والقدرة، فليس يخلو أحد من تعلق علم الله، وقدرته به، أين ما كان من أرض، وسماء، وبر، وبحر، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ {7} وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {8} هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {9} وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {10} مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ {11} } [الحديد: 7-11] . {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7] يخاطب كفار قريش، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] يعني: المال الذي كان بيد غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشًا ذلك المال، وكانوا فيه خلفاء عمن مضوا، ثم ذكر ثواب من أنفق في سبيل الله، بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] . {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الحديد: 8] هذا استفهام إنكار، أي: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} [الحديد: 8] حين أخرجكم من ظهر آدم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] بالحجة والدليل، فقد بان وظهر على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعثه، وإنزال القرآن عليه، ويدل على هذا قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} [الحديد: 9] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آيات بينات يعني: القرآن، ليخرجكم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9] حين بعث الرسول، ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق، فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 10] يقول: أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله تعالى، وأنتم ميتون تاركون أموالكم، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، فقال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] يعني: فتح مكة، قال مقاتل: لا يستوي في الفضل من أنفق ماله، وقاتل العدو من قبل فتح مكة، مع من أنفق من بعد وقاتل. قال الكلبي، في رواية محمد بن فضيل: نزلت في أبي بكر رضوان الله عليه، يدل على هذا أنه كان أول من أنفق المال على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله، وأول من قاتل على الإسلام. قال ابن مسعود: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه، وقد شهد

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنفاق ماله قبل الفتح. 1166 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، نا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّلِيطِيُّ إِمْلاءً، نا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمُقْرِي، نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُحْرِمِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ الشَّيْبَانِيُّ، نا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَقْرَأَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السَّلامَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا لِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا عَلَى صَدْرِهِ بِخِلالٍ؟ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ أَنْفَقَ مَالَهُ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَقْرِئْهُ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى السَّلامَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: عَلَى رَبِّي أَغْضَبُ أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ وقوله: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ. {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] كلا الفريقين وعد الله الحسنى الجنة، وقرأ ابن عامر: وكل بالرفع على لغة من يقول: زيد ضربت. قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] قال مقاتل: طيبة به نفسه. وقد تقدم تفسيرة في { [البقرة، قال أهل

العلم: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف: أن يكون من الحلال، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله طيب، لا يقبل إلا الطيب» . وقد قال أيضًا: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» . وأن يكون من أكرم ما يملك، دون أن يقصد الرديء بالإنفاق، لقوله تعالى:] وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [سورة البقرة: 267] ، وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو الحياة، لما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الصدقة، فقال: " أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ". وأن تضعه في الأحق الأحوج الأولى بأخذه، ولذلك خص الله تعالى أقوامًا بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان، وأن يكتمه ما أمكن، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، وأن لا تتبعه المن والأذى، لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] ، وأن يقصد به وجه الله تعالى، ولا يرائي بذلك، لأن المرائي مذموم على لسان الشرع، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، لأن الدنيا كلها قليلة، لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ، وأن تكون من أحب ماله، لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فهذه أوصاف عشرة، إذا استكملتها الصدقة كانت قرضًا حسنًا إن شاء لله تعالى عز وجل، وقوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] يعني: الجنة.

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ {13} يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ {14} فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {15} } [الحديد: 12-15] . {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] يعني: على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة، قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نوره، كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه. وقال ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورًا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى. وقوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] قال الضحاك، ومقاتل: وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم. وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} [الحديد: 12] الآية. ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد: 13] الآية، قال أبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نورًا، ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا. فيمضي المؤمنون، ويقول المنافقون: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] قال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فإذا سبقهم المؤمنون، قال: انظرونا نقتبس من نوركم، أي: انتظرونا، ونظر بمعنى: انتظر، كثير في التنزيل. وقرأ حمزة: انظرونا بقطع الألف من الإنظار، قال الزجاج: معناه: انتظرونا أيضًا، وأنشد بيت عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا ... وانظرنا نخبرك اليقينا

قوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد: 13] قال ابن عباس: يقول المؤمنون لهم. وقال مقاتل: قالت لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم، من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا نورًا. فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا، فينصرفون إليهم ليلحقوهم، فيميز بينهم وبين المؤمنين، وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} [الحديد: 13] أي: بين المؤمنين والمنافقين، {بِسُورٍ} [الحديد: 13] وهو الحائط، له لذلك السور، {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] في باطن ذلك السور الرحمة، وهي: الجنة التي فيها المؤمنين، وظاهره وخارج السور، {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] أي: من قبله يأتيهم العذاب، يعني: جهنم والنار، قال قتادة: هو حائط بين الجنة والنور. والمعنى: أن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب والنار، وبينهم السور الذي ذكره الله تعالى. {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] وهو أن المؤمنين إذا فاتوا المنافقين ينادونهم من وراء السور، {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] نصلي بصلاتكم في مساجدكم، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] استعملتموها في الكفر، والمعاصي، والشهوات، وكلها فتنة، {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد: 14] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت، وقلتم: يوشك أن يموت، فنستريح منه، {وَارْتَبْتُمْ} [الحديد: 14] شككتم في نبوته، وفيما أوعدكم، {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] يعني: ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد: 14] يعني: الموت، قال قتادة: ما زالوا في خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار. وهو قوله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] أي: وغركم الشيطان بحلم الله، وإمهاله. {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] بدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد: 15] هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعاصي، والمعنى: أنها هي التي تلي عليكم، لأنها قد ملكت أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء. قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {16} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {17} } [الحديد: 16-17] . {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 16] يقال: أني لك يأني إنى إذا حان، يقول: أما حان للمؤمنين، {أَنْ تَخْشَعَ} [الحديد: 16] ترق، وتلين قلوبهم، لذكر الله أي: يجب أن يورثهم الذكر خشوعًا، {وَلا يَكُونُوا} [الحديد: 16] كمن يذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر.

قال ابن مسعود: لم يكن بين إسلامهم وبين أن أعلمهم الله بهذه الآية إلا أربع سنين. وقال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله تعالى بالرقة والخشوع فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] يعني: القرآن، ومن قرأ بالتخفيف فالمعنى فيهما واحد، لأنه لا ينزل إلا بأن ينزله الله تعالى، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد: 16] يعني: اليهود والنصارى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد: 16] الزمان بينهم وبين أنبيائهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله. والمعنى: أنه ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى، الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر، ولهذا قال القرظي: يجب أن يزداد المؤمن إيمانًا، ويقينًا، وإخلاصًا في طول صحبة الكتاب. 1167 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَأُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ وَلا يَطُولَنَّ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] يعني: الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما السلام. {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ {18} وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {19} } [الحديد: 18-19] .

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 18] قرأه العامة بتشديد الصاد، على معنى: المتصدقين، فأدغمت التاء في الصاد، ومن قرأ بالتخفيف فهو من التصديق الذي هو بمعنى: الإيمان، ومعناه: إن المؤمنين والمؤمنات، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18] تقدم تفسيره، يضاعف لهم ذلك القرض الحسن، بأن أثبت لهم أضعافه، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] ثواب حسن. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديقه ثم قرأ هذه الآية. وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم، ولم يكذبوهم ساعة. وقال الضحاك: وهم ثمانية نفر من هذه الأمة، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته. {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] يعني: أولئك هم الشهداء عند ربهم، وقال مسروق: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم. وهذا قول مقاتل بن حيان، واختيار الفراء، والزجاج، وقال مقاتل بن سليمان، وابن جرير يعني: الذين استشهدوا في سبيل الله. {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ {20} سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {21} } [الحديد: 20-21] .

وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد: 20] يعني: الحياة في هذه الدار، {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] يعني: حياة الكافر تكون باطلًا وغرورًا، لأنها في غير طاعة الله تعالى، وهي تنقضي عن قريب، {وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] يعني: أن الكافر يشتغل في جميع حياته بالتزين للدنيا، دون العمل للآخرة، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20] قال ابن عباس: يفاخر الرجل قريبه وجاره. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20] قال: يجمع ما لا يحل له تكاثرًا به، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده. والمعنى: أنه يفني عمره في هذه الأشياء، ثم بين أن لهذه الحياة الدنيا شبها، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد: 20] يعني: مطرًا، {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} [الحديد: 20] الزراع، {نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] ما ينبت من ذلك الغيث، {ثُمَّ يَهِيجُ} [الحديد: 20] ييبس، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد: 20] بعد خضرته وريه، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20] يتحطم، وينكسر بعد يبسه، وشرح هذا المثل للحياة الدنيا قد تقدم في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} [الكهف: 45] الآية، وفي { [يونس أيضًا،] وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الحديد: 20] قال مقاتل: لأعداء الله. {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20] لأولياه، وأهل طاعته، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] لمن اغتر بها، ولم يعمل لآخرته، قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. قوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] الآية تقدم تفسيرها في { [آل عمران، وقوله:] أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد: 21] في هذا أعظم رجاء، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن، ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر، ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21] فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {23} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {24} } [الحديد: 22-24] . {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} [الحديد: 22] يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد: 22] يعني: الأمراض، وفقد الأولاد، {إِلا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يعني: اللوح المحفوظ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] بخلق الأنفس، يعني: أنه أثبتها في اللوح المحفوظ، وقدرها قبل خلق الأنفس، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] يعني: إثبات ذلك على كثرته هين على الله. {لِكَيْلا تَأْسَوْا} [الحديد: 23] تحزنوا، {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] من الدنيا، {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] بما أعطاكم الله منها، والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما قضي عليه من مفرح أو محزن سيصيبه لا محالة، قل فرحه وحزنه لعلمه بذلك قبل وقوعه، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم مقصورًا، من الإتيان عادل به، فاتكم ونقيض الفوت الإتيان، قال

ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرًا، وللخير شكرًا. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه، ويبطر. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد: 24] مفسر في { [النساء، ومن يتول أي: عن الإيمان، فإن الله غني عن عبادته، حميد إلى أوليائه، وقرأه العامة:] فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة الحديد: 24] وقرأ ابن عامر فإن الله الغني، فمن أثبت هو كان فصلًا ولم يكن مبتدأ، ومن حذف قال: فلأن الفصل حذفه سهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، فحذفه لا يخل بالمعنى. قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] . {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] بالآيات والحجج، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد: 25] الذي يتضمن الأحكام، والميزان قال قتادة، ومقاتل بن حيان: الميزان العدل. ويكون المعنى: وأمرنا بالعدل، وهذا كقوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] وقال مقاتل بن سليمان: هو ما يوزن به. ويكون المعنى على هذا القول: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به، كقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] ، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ليتبعوا ما أمروا به من العدل، فيعاملوا بينهم بالنصفة، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] روى ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله عز وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح» . وقال أهل المعاني: معنى وأنزلنا الحديد: أنشأناه وأحدثناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] . وهذا معنى قول مقاتل: بأمرنا كان الحديد. وقال قطرب: معنى أنزلنا ههنا: هيأنا، وخلقنا من النزل، وهو ما يهيأ للضيف. والمعنى: أنعمنا بالحديد، وجعلناه مهيأ لكم، {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] قال الزجاج: يمتنع به ويحارب. والمعنى أنه يتخذ منه آلتان للحرب، آلة الدفع، وآلة الضرب، كما قال مجاهد: فيه جنة وسلاح. ومنافع للناس ما ينتفعون به في

معاشهم مثل السكين، والفأس، والإبرة، وليعلم الله معطوف على قوله: ليقوم الناس أي: ليعامل بالعدل، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحديد: 25] وذلك أن الله تعالى أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، وقوله: بالغيب أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يحمد ويثاب إذا أطاع بالغيب، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} [الحديد: 25] في أمره، عزيز في ملكه. وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {26} ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {27} } [الحديد: 26-27] . {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [الحديد: 27] يعني: الحواريين، وأتباعهم اتبعوا عيسى، رأفة ورحمة يعني: المودة، كانوا متوادين بعضهم لبعض، كما وصف الله تعالى أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: رحماء بينهم، وقوله: ورهبانية ليس بعطف على ما قبله، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه ما بعده، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية، أي: جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] قال ابن عباس: ما فرضناها عليهم. وتلك الرهبانية: غلوهم في العبادة، من حمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم، والمشرب، والملبس، والنكاح، والتعبد في الجبال، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] حين ضيعوها وكفروا بدين عيسى، حتى أدركوا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا به، وهو قوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] الذين تهودوا، وتنصروا. 1168 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا شَيْبَانُ، نا الصَّعْقُ بْنُ حَزْنٍ، نا عَقِيلُ بْنُ يَحْيَى الْجَعْدِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهَا ثَلاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ، فِرْقَةٌ وَازَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ اتَّخَذُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَقَطَّعُوهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ، وَلا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَيَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى فَسَاحُوا فِي الْبِلادِ وَتَرَهَّبُوا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] الآية فَقَالَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي، فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْنِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ هَانِئٍ، عَنْ يَحْيَى الشَّهِيدِ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الصَّعْقِ. 1169 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " لا تَشِدُّوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] ". 1170 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ بَاذَّةُ الْهَيْئَةِ، فَسَأَلَتْهَا: مَا شَأْنُكِ، فَقَالَتْ: زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ لَهُ فَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ «إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا فَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ

وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ لَأَنَا» . 1171 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {28} لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {29} } [الحديد: 28-29] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحديد: 28] الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى، يقول: يأيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، اتقوا الله في محمد، وآمنوا به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} [الحديد: 28] ضعفين، وأجرين، ونصيبين، من رحمته وذكرنا تفسير الكفل في { [النساء،] وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [سورة الحديد: 28] يعني: الصراط، كما قال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8] فهذا علامة المؤمنين في القيامة، وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، ويجوز أن يكون المعنى: ويجعل لكم سبيلًا واضحًا في الدين تهتدون به، وهذا معنى قول مجاهد: يعني: الهدى والبيان. وعد الله تعالى لمن آمن من أهل الكتاب أجرين اثنين: أجرًا لإيمانهم بالنبي الأول والكتاب الأول، وأجرًا لإيمانهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتابه، كما قال في موضوع آخر: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] . 1172 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا،

فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، قَالَ عَبْدَةُ: قَالَ صَالِحٌ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَعْطَيْتُكُمَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ لَيَرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِد. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَة، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَان كُلُّهُمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ. ولما نزلت هذه الآية، وآمن من آمن من أهل الكتاب، حسدهم الذين لم يؤمنوا، فأنزل الله تعالى قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29] أي: لأن يعلم، ولا صلة، أهل الكتاب يعني: الذين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسدوا المؤمنين منهم، {أَلا يَقْدِرُونَ} [الحديد: 29] أنهم لا يقدرون، {عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 29] والمعنى: جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم، ولا نصيب لهم في فضل الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 29] فآتى المؤمنين منهم أجرين، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين، وهذه الآية مشكلة ليس للمفسرين، ولا لأهل المعاني فيها بيان ينتهي إليه، ويلقى به بين هذه الآية والتي قبلها، وأقوالهم مختلفة متدافعة، وقد بان واتضح المعنى فيما ذكرنا، والله المحمود.

تفسير سورة المجادلة

تفسير سورة المجادلة عشرون وآيتان، مدنية. 1173 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {1} الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {2} وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {3} فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {4} } [المجادلة: 1-4] . {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] الآيات، قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت،

وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم، فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فقال لها: ما أراك إلا وقد حرمت عليّ. فقالت: والله ما ذكرت طلاقًا، ثم أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمي، وأحب الناس إليّ، ظاهر مني، والله ما ذكر طلاقًا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . فهتفت، وشكت، وبكت، وجعلت تراجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا هي في ذلك، إذ تربد وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوحي، ونزل عليه قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] الآيات، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهي تحاور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات. قوله: {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] أي: في قول زوجها، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما قال لها: «حرمت عليه» ، قالت: والله ما ذكر طلاقًا. فكان هذا جدالها، {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] وهو قولها: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وإن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا. وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] تخاطبكما، ومراجعتكما الكلام، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [المجادلة: 1] لمن يناجيه، ويتضرع إليه، بصير لمن يشكو إليه. ثم ذم الظهار والمظاهر، فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] أي: يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا. وذكرنا القرآن واللغات في ابتداء { [الأحزاب، ماهن أمهاتهم ما اللواتي تجعلونهن من الزوجات كالأمهات بأمهات، وقراءة العامة بكسر التاء، وهي في موضع نصب على خبر ما، المعنى: ليس هن بأمهاتهم، وقرأ عاصم في بعض الروايات برفع التاء. قال الفراء: وهي لغة أهل نجد، وأنشد على لغتهم:

ويزعم حسل أنه فرع قومه ... وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل ] إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [سورة المجادلة: 2] ما أمهاتهم إلا الوالدات، وإنهم يعني: المظاهرين، {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} [المجادلة: 2] لا يعرف في شرع، وزورًا كذبًا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] عفا عنهم، وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يمتنعون منهن، أي: من جماعهن بهذا اللفظ، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] كثر الاختلاف في معنى العود ههنا من المفسرين والفقهاء، والذي ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه: أن معنى العود لما قالوا: السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا، يمكنه أن يطلق فيه. وذلك أنه إذا ظاهر فقد قصد التحريم، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ولا كفارة، وإذا سكت عن الطلاق، فذلك للندم منه على ما أبتدأ به، فهو عود منه إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة، ويدل على هذا أن ابن عباس فسر العود في هذه الآية: بالندم، فقال: يندمون فيرجعون إلى الألفة. قال الفراء: يعودون لما قالوا إلى ما قالوا، وفيما قالوا، معناه: يرجعون عما قالوا، يقال: عاد لما فعل، أي: نقض ما فعل. وهذا الذي ذكره الفراء يبين لك صحة ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه، وقال أهل العراق: معنى العود: العزم على الوطء، فإذا عزم على وطئها كان عودًا، ويلزمها الكفارة. وقال مقاتل، والحسن، وطاوس، والزهري: العود لما قالوا هو: الوطء. وهو مذهب مالك، قال: إن وطئها كان عودًا، وإن لم يطأها لم يكن عودا. قال أصحابنا: العود المذكور ههنا: صالح للجماع كما قال مالك، وللعزم على الجماع كما قال أهل

العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فوجب تعلق الحكم به، لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر. وقال أبو العالية: إذا كرر اللفظ بالظهار كان عودًا، وإن لم يكرر لم يكن عودًا. وإلى هذا ذهب أهل الظاهر: فجعلوا العود تكرير لفظ الظهار، واحتجوا بأن ظاهر قوله: ثم يعودون يدل على تكرير اللفظ، وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا ظاهر كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه قبل، وسميت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها أحد ثم صار إليها. وقال الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم، فتحرير رقبة لما قالوا، ثم يعودون إلى نسائهم، أي: فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من ذلك التحريم، والتقديم والتأخير كثير في التنزيل. وقال ابن قتيبة: أجمع الناس على أن الظهار يقع بلفظ واحد، وتأويل قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] هو: أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية، فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يريد: في الجاهلية، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] في الإسلام. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أي: يجامعا، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] قال الزجاج: ذلكم: التغليظ في الكفارة. توعظون به أي: أن غلظ الكفارة وعظ لكم، حتى تتركوا الظهار. ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة، فقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] أي: الرقبة، فصيام شهرين فعليه صيام شهرين، {مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة: 4] الصيام، فكفارته {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ} [المجادلة: 4] أي: الغرض من ذلك الذي وصفنا، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4] لتصدقوا بما أتى به الرسول، وتصدقوا أن الله أمر به،

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] يعني: ما وصف من الكفارة في الظهار، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] قال ابن عباس: لمن جحد هذا، وكذب به. 1174 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَكَلَّمَنِي بِشَيْءٍ وَهُوَ فِيهِ كَالضَّجَرِ فَرَادَدْتُهُ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَأَرَادَنِي عَلَى نَفْسِي، فَامْتَنَعْتُ، فَشَادَّنِي فَشَادَدْتُهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ الضَّعِيفَ، فَقُلْتُ: كَلا وَالَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لا تَصِلُ إِلَيَّ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيكَ بِحُكْمِهِ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو مَا لَقِيتُ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكَفَّارَةِ ثُمَّ قَالَ: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُ رَقَبَةً يَعْتِقُهَا، قَالَ: مُرِيهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُ، فَقَالَ: بَلَى سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ مَكِيلٍ يَسَعُ ثَلاثِينَ صَاعًا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ {5} يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

شَهِيدٌ {6} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {7} } [المجادلة: 5-7] . {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] يعادونهما، ويخالفون أمرهما، كبتوا أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلانًا إذا أذله، والمردود بالذي يقال له: مكبوت، قال المقاتلان: أخزوا كما أخزي من قبلهم من أهل الشرك. {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [المجادلة: 5] قال ابن عباس: فرائض قيمة معروفة. وللكافرين لمن لم يعمل، ولم يصدق بها، عذاب مهين. ثم بين وقت ذلك العذاب، فقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة: 6] حفظ الله أعمالهم، ونسوه. ثم أخبر أنه يعلم ما يجري وما يكون، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} [المجادلة: 7] أي: من سرار ثلاثة، قال ابن عباس: ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم بالعلم. يعني: أن نجواهم معلومة عنده، كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم، وباقي الآية ظاهر التفسير إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ {8} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {9} إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {10} } [المجادلة: 8-10] . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] الآية، قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم ألا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 8] يعني: في مخالفة الرسول في النهي عن النجوى،

وهو قوله: ومعصيت الرسول وذلك: أنه نهاهم عن النجوى، فعصوه، ويجوز أن يكون الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم، لأنه شيء يسوء المسلمين، ويوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول، وترك أمره، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8] وذلك أن اليهود كانوا يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: السام عليك. والسام: الموت، وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك، {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] وذلك: أنهم قالوا: لو كان محمد نبيًا، لعذبنا الله بما نقول. قال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8] . 1175 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الزَّاهِدُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقُلْتُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَفَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ تَرَى مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: أَلَسْتِ تَرَيْنَ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا يَقُولُونَ؟ أَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] قَالَتْ: بِمَا يَقُولُونَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة: 8] الآية ثم نهى المنافقين عن التناجي، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} [المجادلة: 9] قال مقاتل: يعني: المنافقين. وقال عطاء: يريد: آمنوا بزعمهم. {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} [المجادلة: 9] تقدم تفسيره، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9] بالطاعة، وترك المعصية، ثم خوفهم، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9] فيجزيكم بأعمالكم، وذكر أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، وأنهم نهوا أن يفعلوا كفعل المنافقين واليهود، وهو اختيار الزجاج. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون من جهة الشيطان، وأن ذلك لا يضر المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] أي: من تزيين الشيطان، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] أي: إنما يزين لهم ذلك، ليحزن المؤمنين، وذلك: أن المؤمنين إذا رأوهم

متناجين، قالوا: لعلهم يتناجون بما بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل، أو موت، أو هزيمة، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} [المجادلة: 10] وليس الشيطان بضارهم شيئًا، {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] إلا ما أراد الله ذلك، قال مقاتل: يقول: إلا بإذن الله في الضرر. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] أي: يكلون أمورهم على الله. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11] الآية، قال مقاتل بن حيان: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرم أهل بدر، فجاء ناس منهم يومًا وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يوسع، فشق ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لمن حوله: قم يا فلان، قم يا فلان. وشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى: تفسحوا توسعوا، وذلك: أنهم كانوا قد جلسوا متضايقين حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منضمين إليه، فلم يجد غيرهم مجلسًا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمروا أن يتنحوا عنه في الجلوس ويتوسعوا، ليجد غيرهم مكانًا يجلس فيه، ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه، وتظهر فضيلة أهل بدر بالجلوس قرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرئ: في المجالس لأن لكل جالس مجلسًا، ومعناه: ليتفسح كل رجل منكم في مجلسه، والوجه التوحيد، لأنه يعنى به مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: فافسحوا أي: فأوسعوا، يقال: فسح يفسح فسحًا، إذا وسع في المجلس، {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] يوسع الله لكم في الجنة، والمجالس فيها، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] قال عكرمة، والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة، فانهضوا. وقال مجاهد: إلى كل خير من قتال عدو، وأمر بمعروف، أو حق ما كان. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قال ابن عباس: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين، على الذين لم يؤتوا العلم درجات.

قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {12} ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {13} } [المجادلة: 12-13] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال ابن عباس في رواية الوالبي: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت ضن كثير من الناس، فكفوا عن المسألة. قال المفسرون: إنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا، فلم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، تصدق بدينار. 1176 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو قَبِيصَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي , وَلَنْ يَعْمَلَ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، آيَةُ النَّجْوَى: كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُنَاجِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ دِرْهَمًا فَنُسِخَتْ بِالآيَةِ الأُخْرَى {ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية. وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] يعني: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من طاعة الله، {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] يعني: الفقراء الذين لا مال لهم، فمن لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه. {ءَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] قال ابن عباس: أبخلتم. والمعنى: أخفتم العيلة إن قدمتم، {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به، وتاب الله عليكم بعفوه، إياكم عن هذه الصدقة، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة: 13] المفروضة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] الواجبة. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {14} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {15} اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ

مُهِينٌ {16} لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {17} يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ {18} اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ {19} } [المجادلة: 14-19] . قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا} [المجادلة: 14] الآية نزلت في المنافقين، تولوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المسلمين، وأراد بقوله: {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] اليهود، {مَا هُمْ مِنْكُمْ} [المجادلة: 14] يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} [المجادلة: 14] وذلك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن نبتل المنافق: على ماذا تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلفوا أنهم لم يفعلوا، ولم يوالوا اليهود، فذلك قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] أنهم كذبة. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] يتوقون بها من القتل، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16] صدوا المؤمنين عن جهادهم، وأخذ مالهم. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] من أيمانهم الكاذبة، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] في قولهم وأيمانهم. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] غلب واستولى، قال المبرد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به، ومعناه: استدار عليهم الشيطان وأحاط بهم. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21} لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} } [المجادلة: 20-22] .

{أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] قال عطاء: يريد الذل في الدنيا، والخزي في الآخرة، أي: هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة. كتب الله قضى الله قضاء ثابتًا، {لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب، فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير حرب، فهو غالب الحجة. قوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة: 22] الآية، أخبر الله: أن إيمان المؤمنين يفسد بمودة الكفار، وإن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه، أو ابنه، أو أخاه، أو واحدًا من عشيرته، نزلت في الذين عادوا عشائرهم الكفار وقاتلوهم، غضبًا لله ولدينه، قال الله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22] أثبت التصديق في قلوبهم، ومعناه: جمع الله في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] قال ابن عباس: قواهم بنصر منه في الدنيا على عدوهم. وهو قول الحسن، سمى نره إياهم روحًا، لأن به يحيا أمرهم، وما بعد هذا إلى آخر السورة ظاهر.

تفسير سورة الحشر

تفسير سورة الحشر عشرون وأربع آيات، مدنية. 1177 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَشْرِ لَمْ تَبْقَ جَنَّةٌ وَلا نَارٌ وَلا عَرْشٌ وَلا الْكُرْسِيُّ، وَالْحُجُبُ وَالسَّمَواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ، وَالْهَوَامُّ وَالرِّيَاحُ، وَالطَّيْرُ وَالْجِبَالُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَالشَّمْسُ وَالْمَلائِكَةُ، إِلا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ كَانَ شَهِيدًا» . بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ {2} وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ {3} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {4} مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ {5} } [الحشر: 1-5] . سبح لله الآية تقدم تفسيرها. {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] يعني: يهود بني النضير، غدروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين يدًا واحدة، فحاصرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رضوا بالجلاء، وذكر الله تلك القصة في هذه ال { [، وكان ابن عباس يسمي هذه

السورة سورة بني النضير،] لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [سورة الحشر: 2] كان جلاؤهم ذلك أول حشر إلى الشام، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: «اخرجوا» . قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» . وقال الكلبي: إنهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم زمن عمر رضي الله عنه، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة. ما ظننتم أيها المؤمنون، أن يخرجوا من ديارهم، لعزهم، ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون، وعقار، ونخيل كثيرة، وحلقة، وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم وذلك قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2] أي: من سلطان الله، فأتاهم الله أي: أمر الله وعذابه، {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] وهو أنه أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، وإجلائهم، وكانوا لا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحتسبونه، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2] بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وذلك: أنهم لما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج، قال الزجاج: ومعنى تخريبها بأيدي المؤمنين: أنهم عرضوها لذلك. وقرأه العامة: يخربون من الإخراب، وقرأ أبو عمرو مشددًا من التخريب، وهما واحد مثل فرحته وأفرحته، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] معنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، والمعنى: تدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل اللب، والعقل، والبصائر. {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} [الحشر: 3] قضى عليهم أنهم يخرجون من أوطانهم إلى الشام وخيبر، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] بالقتل، والسبي كما فعل بقريظة، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3] مع ما حل بهم في الدنيا، ذلك الذي لحقهم، {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] خالفوهما ولم

يطيعوهما، والآية مفسرة في الأنفال. قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] وهي النخل كله ما خلا البرني والعجوة، وجمعها ليان، قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخيل، ونهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين. وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو. ونزل القرآن بتصديق من نهى عن القطع، وتحليل من قطعه من الإثم، فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية. 1178 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَمْرُو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ قال الزجاج: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع، وترك. والتقدير: وليخزي الفاسقين إذن في ذلك، ودل على هذا المحذوف قوله: فبإذن الله. قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} } [الحشر: 6-7] . {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] أي: رده عليه من مال الكفار، يقال: فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله منهم من يهود بني النضير، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6] يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجيفًا وهو: سرعة السير، وأوجفه

صاحبه إذا حمله على السير السريع، وقوله: عليه أي: على ما أفاء الله من: {خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وهي الإبل التي تحمل القوم، واحدتها راحلة، قال المفسرون: إن بني النضير لما جلوا عن أوطانهم، وتركوا رباعهم وضياعهم، طلب المسلمون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخمسها بينهم، كما فعل بغنائم بدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يبين أنها في إذا لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابًا، ولم يقطعوا إليه مسافة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] فجعل الله تعالى أموال بني النضير لرسوله خاصة، يفعل فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئا منها، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. ثم ذكر حكم الفيء، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية، من أموال كفار أهل القرى، فلله يأمركم فيه بما أحب، ولرسوله بتمليك الله إياه، ولذي القربى يعني: بني هاشم وبني المطلب، لأنهم قد منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] أربعة أخماسه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والباقي لهؤلاء الذي ذكرهم الله تعالى، {كَيْ لا يَكُونَ} [الحشر: 7] الفيء، دُولَةً وهي: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، {بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] يعني: الرؤساء يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، قال مقاتل: يغلب الأغنياء الفقراء، فيقسمونه بينهم. ثم قال للرؤساء: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} [الحشر: 7] من الفيء، فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عن أخذه، فانتهوا وهذا نازل في أمر الفيء، ثم هو عام في كل ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهى عنه، واتقوا الله في أمر الفيء، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] . ثم بين من المساكين الذين لهم الحق، بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {10} } [الحشر: 8-10] .

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] يعني: أن كفار مكة أخرجوهم، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 8] رزقًا يأتيهم، ورضوانًا رضا ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] في إيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] يعني: المدينة، وهي دار الهجرة، تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، وتقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وعطف الإيمان على الدار في الظاهر لا في المعنى، لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، والتقدير: وآثروا الإيمان، أو اعتقدوا الإيمان، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم، {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] أي: حسدًا، وحزازة مما أوتي المهاجرين دونهم، ويؤثرون المهاجرين، على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فقر وحاجة، بين الله تعالى أن إيثارهم لم يكن عن غنى وعن مال، ولكن كان حاجة، وكان ذلك أعظم لأجرهم. 1179 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ بِيَدِي مِيزَانًا قَطُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، نا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَصَابَهُ الْجَهْدُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَزْوَاجِهِ، هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ، فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يُضِيفُ هَذَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأكْرِمِيهِ وَلا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلا قُوتُ الصِّبْيَةِ، فَقَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا وَلا يَطْعَمُوا شَيْئًا، ثُمَّ أَسْرِجِي وَابْرُزِي، فَإِذَا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكَ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ، فَأَطْفِئِيهِ وَتَعَالَيْ نَمْضُغُ أَلْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَشْبَعَ، فَقَامَتْ إِلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا عَنْ قُوتِهِمْ، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَلَمَّا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ، فَأَطْفَأَتْهُ وَجَعَلا يَمْضُغَانِ أَلْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ مَعَهُ حَتَّى شَبِعَ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَا غَدَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا تَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] " وقال داود بن أبي هند: كان أنس بن مالك يحلف بالله عز وجل: ما في الأنصار بخيل، ويقرأ هذه

الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] قال مقاتل: حرص نفسه. وقال أبو زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فقد وقي شح نفسه. وقال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام، ومنع الزكاة. وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: لقد خفت ألا تصيبني هذه الآية: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] والله أقدر أن أعطي شيئًا أطيق منعه. فقال عبد الله: إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حقه. 1180 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ اللَّجْلاجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» . 1181 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ

بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» . قال المفسرون: يعني: أن الأنصار ممن وقي الشح، حين طابت أنفسهم عن الفيء. قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم، ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة، بقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] أي: غشًا وحسدًا وبغضًا، فكل من لم يترحم على جميع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في قلبه غل على أحد منهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجًا عن أقسام المؤمنين. 1182 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ أَبُو دَاوُدَ، نا أَبُو عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَنَالُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْتَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أَمِنَ الْأَنْصَارِ أَنْتَ؟ ، قَالَ: لا، قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ {12} لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {13} لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ {14} كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {15} كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {16} فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ {17} } [الحشر: 11-17] . قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر: 11] يعني: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} [الحشر: 11] أي: في الدين، لأنهم

كفار مثلهم، وهم اليهود، وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} [الحشر: 11] أي: من المدينة، {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ} [الحشر: 11] في خذلانكم، أحدًا أبدًا ووعدوهم النصر، بقولهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] وكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] . ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر، بقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} [الحشر: 12] فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا من ديارهم، فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصروهم، أظهر الله كذبهم، وبان صدق ما قال الله، وقوله: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} [الحشر: 12] معناه: ولئن قدر وجود نصرهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده، قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود، لولوا الأدبار منهزمين، ثم لا ينصرون. يعني: ابن النضير لا يصيرون منصورين، إذا انهزموا ناصروهم. لأنتم أيها المؤمنون، {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] قال ابن عباس: هم منكم أشد خوفًا منهم من الله. ذلك الخوف الذي لهم منكم من أجل، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] عظمة الله. ثم أخبر عن اليهود، فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] أي: لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران، وهو قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] ومن قرأ جدار فالمراد بالإفراد الجمع أيضًا، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلونهم من وراء جدار واحد، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر: 14] بعضهم فظ على بعض، وبينهم مخالفة وعداوة، وهو قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] أي: أنهم مختلفون، لا تستوي قلوبهم ونياتهم، لأن الله خذلهم، ذلك أي: ذلك الاختلاف، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] ما فيه الحظ لهم. ثم ضرب لليهود مثلًا، فقال: كمثل الذين أي: مثلهم، {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} [الحشر: 15] يعني: مشركي مكة، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر: 15] يعني: القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلًا، فقال: كمثل الشيطان أي: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ} [الحشر: 16] وهو عابد في بني إسرائيل ذكر ابن عباس قصته، فقال: كان في بني إسرائيل عابد، عَبَدَ الله زمانًا من الدهر، حتى كان يؤتي بالمجانين يداويهم، ويعودهم فيبرأون على يده، وإنه أتى

بامرأة في شرف قد جنت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها، فحملت، فلما استبان حملها، قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنه دفنها في مكان كذا وكذا، ثم أتى بقية إخوانها رجلًا رجلًا، فذكر ذلك فجعل الرجل يلقى أخاه، فيقول: والله لقد أتاني آت ذكر لي شيئًا يكبر عليّ ذكره. فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه، فأقر لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على خشبة، تمثل له الشيطان، فقال: أنا الذي زينت لك هذه الفتنة، وألقيتك فيها، وهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك مما أنت فيه؟ قال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة. قال: فسجد له وقتل الرجل. فهو قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} [الحشر: 16] تبرأ منه الشيطان، وهو قوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] ذكرنا تفسيره في { [الأنفال، ضرب الله هذه القصة مثلًا لبني النضير، حين اغتروا بالمنافقين، ثم تبرءوا منهم عند الشدة، وأسلموهم. ثم ذكر أنهما صارا إلى النار، بقوله: فكان عاقبتهما أي: عاقبة الشيطان وذلك الإنسان،] أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [سورة الحشر: 17] قال مقاتل: يعني: فكان عاقبة المنافقين واليهود أن صاروا إلى النار، وذلك جزاؤهم. ثم رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18} وَلا

تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {19} لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ {20} } [الحشر: 18-20] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] يعني: ليوم القيامة، والمعنى: ينظر أحدكم أيش قدم ليوم القيامة لنفسه أعملًا صالحًا ينجيه؟ أم سيئًا يوبقه؟ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر: 19] تركوا أمر الله، فأنساهم أنفسهم حظوظ أنفسهم، حتى لم يعملوا بطاعة الله، ولم يقدموا كذلك خيرًا، قال ابن عباس: يريد: قريظة، والنضير، وبني قينقاع. وهو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] . ثم ذكر فضيلة أصحاب الجنة بالآية التي بعد هذه. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {21} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ {23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {24} } [الحشر: 21-24] . قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] الآية، أخبر الله تعالى أن من شأن القرآن وعظمته وبيانه، أنه لو جعل في الجبل تمييز، وأنزل عليه القرآن، لخشع وتشقق من خشية الله، والمعنى: أن الجبل على قساوته وصلابته، يتشقق من خشية الله، وحذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه، معرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها، وهذا وصف للكافر بالقسوة، حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن، الذي لو نزل على جبل لخشع، وهذا تمثيل يدل على ذلك قوله: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] . ثم أخبر بربوبيته وعظمته، فقال: هو الله وتفسير هذا سبق فيما تقدم، إلى قوله: القدوس وهو الطاهر من كل عيب، المنزه عما لا يليق به، السلام الذي سلم من النقص والعيب، المؤمن الذي أمن أولياءه عذابه، المهيمن الشهيد على عباده بأعمالهم، وهو قول قتادة، ومجاهد، ومقاتل، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن. إذا كان رقيبًا على الشيء، وذهب كثير من المفسرين إلى أنه: مؤيمن على الأصل من آمن يؤمن، فيكون بمعنى: المؤمن، وذكرنا هذا فيما تقدم، الجبار العظيم، وجبروت الله عظمته، والعرب تسمى الملك: الجبار العظيم، ويجوز أن يكون فعالًا من جبر، إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير، يجوز أن يكون من جبره على كذا، إذا أكرهه على ما أراد، وهو قول السدي، ومقاتل، قالا: هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراد. وهو اختيار الزجاج، {الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] قال قتادة: الذي تكبر على كل سوء. وقال ابن الأنباري: المتكبر: ذو الكبرياء وهو الملك. وقال أهل المعاني: المتكبر في صفة الله تعالى الكبير. والعرب تضع تفعل في موضوع فعل، مثل: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى: شتم، والباقي إلى آخر السورة تقدم تفسيره فيما سبق.

1183 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ صَالِحٍ الأَنْطَاكِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ، نا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ، حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فِي سِتِّ آيَاتٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ» .

تفسير سورة الممتحنة

تفسير سورة الممتحنة ثلاث عشرة آية، مدنية. 1184 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {1} إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ {2} لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {3} } [الممتحنة: 1-3] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . 1185 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْقِلِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَِّد بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالْمِقْدَادَ وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخَرَجْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ،

فَقُلْنَا لَهَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ فَقَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَقَالَ: مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَاتِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ لِي بِمَكَّةَ قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ شَكًّا فِي دِينِي، وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقْتَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَنَزَلَتْ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْحُمَيْدِيّ، وَرَوَاه مُسْلِم، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَمَاعَةٌ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَان قال المفسرون: إن الآية نزلت في حاطب، حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم لما قصد فتح مكة، ينهاه الله عن موالاة الكفار. وقوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره، بالمودة التي بينكم وبينهم، وقد كفروا والواو للحال، لأن المعنى: وحالهم، {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] يعني: القرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] من مكة، أن تؤمنوا لأن تؤمنوا، كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم، {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} [الممتحنة: 1] هذا شرط جوابه متقدم، وهو قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ، وقوله: {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة: 1] منصوبان لأنهما مفعول لهما، {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]

قال مقاتل: النصيحة. ثم ذكر أنه لا يخفي عليه من أحوالهم شيء، فقال: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} [الممتحنة: 1] من المودة للكفار، وما أعلنتم أظهرتم بألسنتكم، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 1] يعني: الإسرار والإلقاء إليهم، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفار، فقال: إن يثقفوكم يظفروا بكم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [الممتحنة: 2] بالضرب، وألسنتهم بالشتم، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] كما كفروا، والمعنى: التقريب إليهم بنقل أخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة: 3] يعني: قراباتهم، والمعنى: ذوو أرحامكم، يقول: لا تدعونكم، ولا تحملنكم قراباتكم، وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فلن ينفعكم أولئك الذي عصيتم الله لأجلهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ} [الممتحنة: 3] الله، بينكم فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، وأهل معصيته والكفر به إلى النار، وقرأ ابن كثير: يفصل بضم الياء، والمعنى: راجع إلى الله، كما أن قوله: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] معناه: خلق الله الإنسان، وقرئ من التفضيل بالوجهين أيضًا، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3] يعني: بما عمل حاطب من مكاتبته أهل مكة، حيث أخبر نبيه بذلك. ثم ضرب لهم إبراهيم عليه السلام مثلًا حين تبرأ من قومه، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {4} رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {5} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {6} } [الممتحنة: 4-6] . {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 4] اقتداء حسن، يقال: لي به أسوة في هذا الأمر. أي: اقتداء، أعلم الله تعالى أن إبراهيم وقومه تبرءوا من قومهم وعادوهم، وقال لهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 4] قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب

بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من قومه. وقوله {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] قال ابن عباس: {كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} [الممتحنة: 4] في صنيع إبراهيم، إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك. وقال مجاهد: نهوا أن يتأسوا بإبراهيم في استغفاره للمشركين. وهذا مذكور في آخر { [براءة، وقوله:] وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الممتحنة: 4] من قول إبراهيم لأبيه، يقول: ما أغني عنك، ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] . وقوله: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5] قال الزجاج: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} [الممتحنة: 6] أي: في إبراهيم، والذين معه من المؤمنين، أسوة حسنة قال ابن عباس: إنهم كانوا يبغضون من خالف الله. وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الممتحنة: 6] بدل من قوله: لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عقاب الآخرة، وهو قوله: {وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ} [الممتحنة: 6] يعرض عن الإيمان، ويوالي الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الممتحنة: 6] عن خلقه، الحميد إلى أوليائه وأهل طاعته. قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادوا أقرباءهم، فأنزل الله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {7} لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {9} } [الممتحنة: 7-9] . {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} [الممتحنة: 7] أي: من كفار مكة، مودة ففعل بأن أسلم كثير منهم بعد الفتح: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وكانوا من رؤساء الكفار، والمعادين لأهل الإسلام، والله قدير على جعل المودة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] بهم بعد ما تابوا

وأسلموا. قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] يعني: أهل العهد، الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة، وقوله: أن تبروهم أي: لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم، وهذا يدل على جواز البر بين المسلمين والمشركين، وإن كانت الموالاة منقطعة، وتقسطوا إليهم يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج: أي: وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد. ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم، فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] إلى قوله: أن تولوهم أي: إنما ينهاكم الله أن تتولوا هؤلاء، يعني: أن مكاتبتهم بإظهار سر المسلمين موالاة لهم. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {10} وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ {11} } [الممتحنة: 10-11] . قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] لما صالح قريشًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية، على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجرت إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، وهو قوله: فامتحنوهن وذلك أن تستحلف ما هاجرت لبغض زوجها، ولا لحدث أحدثته، ولا خرجت عشقًا لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، هذا معنى الامتحان المأمور به، وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، والأمر بالامتحان غير واجب، ولا يجوز رد المرأة إلى الكفار، إذا هاجرت إلى المسلمين، وأظهرت الإيمان، وهو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وإنما يعلم إيمانها بإقرارها، {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ

وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] قال ابن عباس: لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح كافرة لمؤمن. وآتوهم يعني: أزواجهن الكفار، ما أنفقوا عليهن من المهر، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] أباح الله نكاحها بشرط المهر، لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر، {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] يقول: لا تعتد بامرأتك الكافرة، فإنها ليست لك بامرأة، يعني: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما، قال ابن عباس: يريد بالعصمة: النكاح فيما بينهما. {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها، ولم يدفعوها إليكم، فعليهم أن يغرموا لها صداقها كما يغرم لهم، وهو قوله: {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} [الممتحنة: 10] يعني: ما ذكر في هذه الآية. فإن كانوا أهل حرب ولم يكونوا أهل عهد، فالحكم ما ذكر في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] قال المفسرون: فغنمتم. قال الزجاج: تأويله: فكانت العقبي لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم. ومعنى الآية: فغنمتم من العدو شيئًا بأن صارت العاقبة في الظفر لكم، فاعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر، وهو قوله: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] . {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] . قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، جاءته النساء يبايعنه، فأنزل الله هذه الآية، وشرط في مبايعتهن أن يأخذ عليهن هذه الشروط، وهو قوله: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايعهن وهو على الصفا، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء، خوفًا أن يعرفها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا. فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمرًا، ما رأيناك أخذته على الرجال. وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد

فقط، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: إن أبا سفيان رجل مسيك، وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي من شيء، فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك. فقال: {وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: أوتزني الحرة؟ فقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] فقالت هند: ربيناهم وهم صغار، وقتلتموهم وهم كبار، فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال المفسرون: يعني: الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية. قوله: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] قال ابن عباس: لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه. قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى. {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] وذلك أن المولود إذا وضعته الأم، سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى نهيهن من أن يأتين بولد من الزنا، فينسبنه على الأزواج، لأن الشرط بنهي الزنا قد تقدم، ولما قال هذا، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. وقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] لما قال هذا، قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا في وقتنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

فأقرت النسوة بما أخذ عليهن، ومعنى: في معروف في كل أمر وافق طاعة الله، وقال عطاء: في كل بر وتقوى. وقال الكلبي، والمقاتلان: عنى بالمعروف النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجه، والدعاء بالويل. وروي عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية الأنصاري، عن جدته أم عطية، قالت: قلت: ما المعروف الذي نهيتني عن المعصية فيه؟ قال: النياحة. 1186 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ فُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَبِيوَرْدِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا أَبُو لَبِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَةِ {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلانَ وقوله: فبايعهن جواب إذا في أول الآية، أي: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] .

قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13] قال المقاتلان: يقول للمؤمنين: لا تتولوا اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسملين، ويتواصلون إليهم بذلك، فيصيبون من ثمارهم، فنهى الله عن ذلك، وقوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة: 13] يعني: أن اليهود بتكذيبهم محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعرفون صدقه، وأنه رسول صادق، يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} [الممتحنة: 13] الذين ماتوا وصاروا في القبور، من أن يكون لهم في الآخرة حظ، وتبينوا أنه ليس لهم في الخير نصيب، قال مجاهد: {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة: 13] بكفرهم. {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] من ثواب الآخرة، حين تبين لهم عملهم، وقال سعيد بن جبير: {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} [الممتحنة: 13] الذين ماتوا فعاينوا الآخرة.

تفسير سورة الصف

تفسير سورة الصف وهي أربع عشرة آية، مكية. 1187 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، كَانَ عِيسَى مُصَلِّيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لَهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ رَفِيقُهُ» . {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ {3} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ {4} } [الصف: 1-4] . 1188 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الصَّنْعَانِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: قَعَدْنَا نَقْرَأُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ

مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ {3} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 1-4] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال المفسرون: إن المؤمنين، قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا. فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] فكرهوا الموت، وأحبوا الحياة، وتولوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] . ثم ذم القول إذا لم يشفعه الفعل، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] أي: عظم ذلك عند الله في المقت، والبغض عند الله، أي: إن الله يبغضه بغضًا شديًا أن تعدوا من أنفسكم شيئًا ثم لم تفوا به. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] أي: يصفون أنفسهم عند القتال صفًا، {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] يقال: رصصت البناء أرصه رصًا، إذا صممت بعضه إلى بعض، قال مقاتل: مرصوص ملتزق بعضه إلى بعض. أعلم الله أنه يحب من يثبت في القتال، ويلزم مكانه، كثبوت البناء المرصوص. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {5} وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {6} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {7} يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9} } [الصف: 5-9] .

قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} [الصف: 5] يعني: حين رموه بالأدرة، وذكرنا ذلك عند قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] ، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] هذا إنكار عليهم إيذاءه بعد ما علموا أنه رسول الله، والرسول يعظم ولا يؤذى، وقوله: فلما زاغوا قال مقاتل: عدلوا عن الحق. {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] أمالها عن الحق، يعني: أنهم تركوا الحق بإيذاء نبيهم، أمال الله قلوبهم عن الحق، جزاء لما ارتكبوا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق. وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] هذا بيان أن عيسى بشر قومه بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] يحتمل معنيين: أحدهما: أن نجعل أحمد مبالغة من الفاعل، فيكون معناه: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، والآخر: أن يجعل مبالغة من المفعول، فيكون معناه: أنه يحمد بما فيه من الأخلاق، والمحاسن أكثر مما يحمد غيره، وأحمد معروف في أسماء نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1189 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا الشَّافِعِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وما بعد هذا ظاهر مفسر في { [براءة، إلى قوله:] يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {13} } [سورة الصف: 10-13] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] نزل هذا لما قالوا: لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله. وجعل ذلك العمل بمنزلة التجارة، لأنهم يربحون فيها رضا الله تعالى، ونيل جنته،

والنجاة من النار. ثم بين تلك التجارة ما هي، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 11] إلى قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] قال الزجاج: هذا جواب تؤمنون وتجاهدون، لأن معناه الأمر، كأنه قال: آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا يغفر لكم. وقوله: وأخرى تحبونها قال الفراء: وخصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة. {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] قال الكلبي: يعني: النصر على قريش، وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم. وبشر يا محمد، المؤمنين بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. ثم حض المؤمنين على نصرة دينه، فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14] أي: دوموا على ما أنتم عليه من النصرة، واختار أبو عبيدة قراءة من قرأ: كونوا أنصار الله بغير تنوين، كقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] ، ولم يقل: أنصارًا لله، قوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} [الصف: 14] أي: انصروا دين الله، مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] أي: من ينصرني مع الله؟ فقالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] . {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف: 14] قال ابن عباس: يعني: في زمن عيسى. وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق، فرقة قالوا: كان الله فارتفع. وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه. وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة، فذلك قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] غالبين عالين، وروى مغيرة، عن إبراهيم، قال: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عيسى كلمة الله، وروحه.

تفسير سورة الجمعة

تفسير سورة الجمعة إحدى عشرة آية، مدنية. 1190 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْعَزَايِمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ أُعْطِيَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَأْتِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {1} هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {2} وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {3} ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {4} } [الجمعة: 1-4] . يسبح لله الآية، قال أهل المعاني: إنما أعيد ذكر التسبيح في هذه ال { [، لاستفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له، كما يستفتح ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وإذا جعل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به. قوله:] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [سورة الجمعة: 2] يعني: العرب , وكانت أمة أمية، لا تكتب ولا تقرأ، ولم يبعث إليهم نبي، رسولًا منهم يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسبه نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2] والهداية إلى دينه. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] ذو المن العظيم على خلقه ببعثه محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة: 2] أي: ما كانوا قبل بعثه فيهم، إلا في ضلال مبين وهو الشرك، وكانوا يعبدون الأوثان من الحجارة وآخرين وبعث في آخرين يعني: الأعاجم، ومن لم يتكلم بلغة العرب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إلى من شاهده، وإلى كل من كان بعدهم من العرب، والعجم، وقوله: منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، والمسلمون كلهم يد واحدة، وأمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ومن لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم ليسوا ممن عناهم الله بقوله: وآخرين منهم وإن كان مبعوثًا إليهم بالدعوة، لأنه قال: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ} [الجمعة: 2] ، ومن لم يؤمن فإنه ليس ممن زكاه، وعلمه القرآن والسنة، وقوله: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] أي: في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4] يعني: الإسلام. ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا، فقال:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {5} قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {7} قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {8} } [الجمعة: 5-8] . {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] كلفوا القيام بها، والعمل بما فيها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] أي: حق حملها من أداء حقها، والعمل بموجبها، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة، وهي دالة على الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالحمار يحمل كتب العلم، ولا يدري ما فيها، وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل به، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن، اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، ثم تلا هذه الآية. وقوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة: 5] ذم لمثلهم، والمراد به ذمهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة، حين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء، يعني: من سبق في علمه أنه لا يهديهم. قوله: {قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ} [الجمعة: 6] الآية والتي بعدها سبق تفسيرها في { [البقرة. قل يا محمد لليهود: {إِنَّ

الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [سورة الجمعة: 8] وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يكرهون الموت أشد الكراهة، فقال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهم: إنكم وإن فررتم من الموت وكرهتموه، فإنه لا بد ينزل بكم ويلقاكم، ثم تردون بعد الموت إلى عالم الغيب والشهادة، ما غاب عن العباد وما شهدوه. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {9} فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {10} وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {11} } [الجمعة: 9-11] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9] يعني: النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نداء سواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا كان على عهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقوله: للصلاة يعني: لوقت الصلاة، يدل على ذلك قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] والصلاة لا تكون من اليوم، والجمعة يوم يخص بهذا الاسم، لاجتماع الناس فيه. 1191 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْقَرْثَعِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَدْرِي مَا الْجُمُعَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فِيهِ جُمِعَ أَبُوكَ، يَعْنِي تَمَامَ خَلْقِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ " ونذكر هاهنا أحاديث يحتاج إليها في سنن هذا اليوم، وفضله.

1192 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» . رَوَاهُ البخاري عن عبد الله بن يوسف، ورواه مسلم، عن قتيبة كلاهما عن مالك. 1193 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا أَبُو الدَّرْدَاءِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، نا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ، نا الضَّحَّاكُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسِلَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإِذَا رَاحَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أُجِيزَ بِعَمَلِ مِائَتَيْ سَنَةٍ» . 1194 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا ابْنُ عَبَّاسٍ، ونا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَدِيعَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ، وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ أَوْ دُهْنِهِ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ. 1195 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْقِلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ , إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» . 1196 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِيكَالَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، نا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، نا الْأَزْوَرُ بْنُ غَالِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ سِتَّ مِائَةِ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلَّهُمْ قَدِ اسْتَوَجَبَ النَّارَ» . 1197 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الحنينِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الثَّقَفِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ سَلامِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِتَارِكٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا غُفِرَ لَهُ» . 1198 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ الْهَاشِمِيُّ، نا جَنْدَلُ بْنُ وَالِقٍ، نا مِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الضَّيْعَةَ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، فَلا يَشْهَدُهَا ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ» . 1199 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، نا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا وَتُرْزَقُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا أَلا فَلا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَلا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلا لا صَلاةَ لَهُ، أَلا لا زَكَاةَ لَهُ، أَلا لا صِيَامَ لَهُ، أَلا لا حَجَّ لَهُ، إِلا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال عطاء: يعني: الذهاب والمشي إلى الصلاة. قال الفراء: المضي، والسعي، والذهاب في معنى واحد. يدل على ذلك قراءة ابن مسعود: فامضوا إلى ذكر

الله. وقال الشافعي، رحمه الله: السعي في هذا الموضع هو العمل. وتلا قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ويكون المعنى على هذا: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله من التفرغ له، والاشتغال بالطهارة والغسل، والتوجه إليه بالقصد والنية، {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة، لم يحل الشراء والبيع. قال أصحابنا من باع في تلك الساعة فقد خالف الأمر، وبيعه منعقد، لأن هذا نهي تنزيه، لقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9] فدل هذا على الترغيب في ترك البيع. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] أي: ما هو خير لكم وأصلح. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] فإذا صليتم الفريضة، وفرغتم من الصلاة، {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] هذا أمر إباحة. قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فصل إلى العصر، وإن شئت فاقعد. وكذلك قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، ويروى أن عراك بن مالك، كان إذا صلى الجمعة انصرف، فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا} [الجمعة: 11] الآية، قال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع، وغلاء سعر، فقدمت عير، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها وخرجوا إليها، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم كما هو، فقال: «لو ابتع آخرهم أولهم، التهب عليهم الوادي نارًا» .

1200 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَدْلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ قَدْ قَدِمَتْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ، إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11] الآية رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُصَيْنٍ. وَعَنَى بِالتِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ الْعِيرَ وَالطَّبْلَ وقوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أي: تفرقوا عنك خارجين إليها، وقال المبرد: مالوا إليها والضمير للتجارة، وخصت برد الضمير إليها، لأنها كانت أهم إليهم. {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة، قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إلا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه. {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} [الجمعة: 11] أي: من ثواب الصلاة، والثبات مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] قال الزجاج: أي: ليس يفوتهم من أرزاقهم لتخلفهم عن النظر إلى الميرة شيء، ولا بتركهم البيع في وقت الصلاة.

تفسير سورة المنافقون

تفسير سورة المنافقون إحدى عشرة آية، مدنية. 1201 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1} اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {2} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ {3} وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {4} } [المنافقون: 1-4] . {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وتم الخبر عنهم، ثم ابتدأ فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] أي: أنه أرسلك، فهو يعلم إنك رسوله، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا، فدل هذا على أن حقيقة الإيمان بالقلب، ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم: نشهد إنك لرسول الله. وسماهم الله تعالى كاذبين. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] تقدم تفسيره في { [المجادلة، قال الضحاك: حلفهم إنهم لمنكم. ] فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة المنافقون: 2] منعوا الناس عن الجهاد والإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذلك أي: ذلك الكذب، بأنهم آمنوا باللسان، ثم كفروا في السر، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] بالكفر، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] الإيمان والقرآن. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] يعني: أن لهم أجسامًا ومناظر، {وَإِنْ يَقُولُوا} [المنافقون: 4] إنك لرسول الله، تسمع لقولهم فتحسب أنه حق وصدق منهم، كأنهم خشب لا أرواح فيها، فلا

تعقل ولا تفهم، وكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلونه، قال الزجاج: وصفهم بتمام الصور، وحسن الإبانة، ثم أعلم أنهم في تركهم التفهم، والاستبصار بمنزلة الخشب. وقوله: مسندة أي: ممالة إلى الجدار، من قولهم: أسندت الشيء. أي: أملته، والتفعيل للتكثير، لأنه صفة خشب، وهي جمع، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر وتنمو، أو تحسن منظرها، بل هي خشب مسندة إلى حائط، ثم عابهم بالجبن، فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] لا يسمعون صوتًا إلا ظنوا أنهم قد أوتوا، إن نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة، ظنوا أنهم هم المرادون، مما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، ثم أخبر بعداوتهم، فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] أي: احذر أن تأمنهم على سرك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] مفسر في { [براءة. ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ {5} سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {6} هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ {7} يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ {8} } [سورة المنافقون: 5-8] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] وذلك: أن عبد الله بن أبيّ لما رجع من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون وعنفوه، فقال له بنو أبيه: إيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يستغفر لك. فقال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي. فذلك قوله: لووا رءوسهم قال مقاتل: عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار. ورأيتهم يصدون عن الاستغفار، وهم مستكبرون متكبرون عن استغفار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم. ثم ذكر أن استغفاره لا ينفعهم، فقال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 6] الآية. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7] الآية. 1202 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي، " فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ

الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي، فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَهُمْ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون: 7] أي: أنه هو الرازق لهؤلاء المهاجرين لا هؤلاء، لأن خزائن الرزق من السموات والأرض، هو المطر والنبات لله، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] قال ابن عباس: لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون: 8] من هذه الغزوة، وهي غزوة بني المصطلق، {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] عنى بالأعز نفسه، والأذل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرد الله عليه، فقال: ولله العزة المنعة والقوة، ولرسوله وللمؤمنين بإعزاز الله، ونصره إياهم، وإظهار دينهم على سائر الأديان، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] ذلك، ولو علموا ما قالوا هذه المقالة. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {11} } [المنافقون: 9-11] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} [المنافقون: 9] يعني: لا تشغلكم أموالكم، {وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] عن الصلوات المفروضة، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [المنافقون: 9] أي: من شغله ماله، وولده عن ذكر الله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] . {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] قال ابن عباس: يريد زكاة الأموال. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] فيسأل الرجعة إلى الدنيا، وهو

قوله: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10] يعني: استزاده في أجله، حتى يتصدق ويتزكى، وهو قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] قال الضحاك: لا ينزل بأحد الموت لم يحج، ولم يؤد الزكاة، إلا سأل الله تعالى الرجعة. وقرأ هذه الآية، وقال في قوله: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] يعني: الحج. وروي ذلك عن أبي عباس. 1203 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، نا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا فَيَّاضُ بْنُ زُهَيْرٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَبَّةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلِ اللَّهَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ» ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّمَا كُنَّا نَرَى هَذَا الْكَافِرَ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ بِهَا قُرْآنًا: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] . قال الزجاج: معناه: هلا أخرتني، وجزم أكن عطف على موضع فأصدق، لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن. ومن قرأ وأكون فهو على لفظ فأصدق. ثم أخبر الله تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته، وحضر أجله، فقال: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} [المنافقون: 11] أي: الموت، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] من خير وشر.

تفسير سورة التغابن

تفسير سورة التغابن ثماني عشرة آية، مدنية. 1204 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ التَّغَابُنِ دُفِعَ عَنْهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {2} خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3} يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {4} } [التغابن: 1-4] . {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن: 1] الآية مفسرة فيما تقدم. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] قال عطاء: فمنكم مصدق، ومنكم جاحد. وقال الوالبي، عن ابن عباس: إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا. قال الزجاج: جاء في التفسير: أن يحيى بن زكريا، عليهما السلام، خلق في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {5} ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ

بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {6} } [التغابن: 5-6] . {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن: 5] يخاطب أهل مكة، ويخوفهم بما نزله بمن قبلهم من الكفار، وهو قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن: 5] يعني: ما لحقهم من العذاب في الدنيا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن: 5] في الآخرة. ذلك الذي لحقهم من العذاب، {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التغابن: 6] فينكرون ذلك، ويقولون: أبشر آدمي مثلنا، {يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] عن إيمانهم وعبادتهم. ثم أخبر عن إنكارهم البعث، بقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {7} فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {8} يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {9} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {10} } [التغابن: 7-10] . {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الآية. {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} [التغابن: 9] أراد: لتنبؤن يوم يجمعكم، {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9] يعني: يوم القيامة، يجمع فيه أهل السموات وأهل الأرض، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، فلا غبن أبين منه، هؤلاء يدخلون الجنة، وهؤلاء يدخلون النار. وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {11} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {12} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {13} } [التغابن: 11-13] . {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] قال ابن عباس: بعلمه وقضائه. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيسلم لقضائه ويسترجع. قال أبو ظبيان: كنا

نعرض المصاحف عند علقمة بن قيس، فنمر بهذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] فسألناه عنها، فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {15} فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16} إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ {17} عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} } [التغابن: 14-18] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قال ابن عباس: هؤلاء رجال من أهل مكة، أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فلم تدعهم أزواجهم وأولادهم. فهو قوله: {عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة، قوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14] قال: هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر، رأى الناس قد سبقوه في الهجرة، وتفقهوا في الدين، هَمَّ أن يعاقب زوجته، وولده الذين ثبطوه عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير. فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 14-15] بلاء وشغل عن الآخرة، والإنسان بسبب المال والولد يقع في العظائم، ويتناول الحرام إلا من عصمه الله، ويشهد لهذا ما: 1205 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ، وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] ثواب جزيل وهو الجنة، والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ما أطقتم، وقال الربيع: اتقوا الله جهدكم. وهذه الآية نسخت قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، واسمعوا لله ولرسوله، وأطيعوهما فيما يأمرانكم، وأنفقوا من أموالكم في حق الله، {خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] حتى يعطي حق الله من ماله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] وقد مر هذا في سورة الحشر، وباقي السورة مفسر فيما تقدم.

تفسير سورة الطلاق

تفسير سورة الطلاق اثنتا عشرة آية، مدنية. 1206 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَاتَ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خاطب أمته، لأنه السيد المقدم، فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع، كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب، ومعنى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] إذا أردتم التطليق، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ، {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} [الإسراء: 45] ، فطلقوهن لعدتهن نزلت في عبد الله بن عمر، لما طلق امرأته وهي حائض، فأمر الله تعالى الزوج أن يطلق امرأته إذا شاء الطلاق في طهرها، وهو قوله: لعدتهن أي: لزمان عدتهن وهو الطهر، والطلاق نوعان: سني، وبدعي، والسني: أن يقع في طهر لم يجامع فيه، فذلك هو الطلاق للعدة، لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها، وتحصل في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة، والآية دلت على إيقاع الطلاق في الطهر، ودلت السنة على أن ذلك الطهر يجب أن يكون غير مجامع فيه، حتى يكون الطلاق سنيًا، وهو ما: 1207 - أَخْبَرَنَاهُ

مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جومعت فيه، وهو واقع، وصاحبه آثم. 1208 - حَدَّثَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمْلاءً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَسْعُودٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إِنْ شَاءَ» ، قُلْتُ: يَحْتَسِبُ بِهَا، قَالَ: «فَمَهْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَن سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْر، عَنْ شَهْرٍ كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ. 1209 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ، حَدَّثَكُمْ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، نا إِدْرِيسُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَبِي غَالِبٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: اعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ؟ فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] إنما أمر بإحصاء العدة لتوزيع الطلاق على الأقراء، إذا أراد أن يطلق ثلاثًا، وهو أحسن من جمعها

في قرء واحد، وللعلم ببقاء زمان الرجعة، ولمراعاة النفقة والسكنى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: 1] فلا تعصوه فيما أمركم به، {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يساكنها فيه قبل الطلاق. {وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وعلى المرأة أيضًا ألا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت، سواء خرجت ليلًا أو نهارًا، وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة ههنا: الزنا، وهو أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، وقال السدي، والكلبي: الفاحشة: خروجها من البيت في زمان العدة. وقال الضحاك، وقتادة: هي النشوز، وسوء الخلق. فهي إذا زنت، أو خرجت في عدتها، أو نشزت، كان للزوج إخراجها من البيت، وقطع سكناها، وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق: 1] يعني: ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [الطلاق: 1] فيطلق لغير السنة، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] أثم فيما بينه وبين الله تعالى، {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يوقع في قلب الزوج المحبة، لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين، وهذا يدل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقًا، وأن لا يجمع بين الثلاث، قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثًا في وقت واحد، فلا معنى لقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {3} } [الطلاق: 2-3] . {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] قاربن انقضاء أجل العدة، فأمسكوهن بأن تراجعوهن، بمعروف بما أمر الله به، وهذا مفسر في { [البقرة،] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: 2] قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق، وعند

الرجعة. ثم قال للشهداء: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وهو مفسر فيما سبق، إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنًا له، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له بذلك، وشكا إليه الفاقة أيضًا، فقال له: " اتق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه، وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلًا، وجاء بها إلى أبيه. فذلك قوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . 1210 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ، نا سَعِيدُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ: مِنْ شُبُهَاتِ الدُّنْيَا، وَمِنْ غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَشَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". 1211 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ الْعَنَزِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، نا مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا» وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: ومن يثق به فيما نابه، كفاه الله ما أهمه، كما ورد في الحديث: «من سره أن يكون أقوى من الناس، فليتوكل على الله» ، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] سيبلغ أمره فيما يريد منكم، ومن أضاف حذف التنوين وهو مراد، كقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] و {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 3] من الشدة، والرخاء أجلا ينتهي إليه قدر الله ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر. وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {4} ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا {5} } [الطلاق: 4-5] . {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4] الآية، لما نزلت عدة النساء المطلقة، والمتوفى عنها زوجها في { [البقرة، قال أبيّ بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيه شيء. قال: ما هو؟ قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل. فنزلت:] وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [سورة الطلاق: 4] شككتم، فلم تدروا ما عدتهن، {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي: هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، عدتها ثلاثة أشهر، وأولات الأحمال يعني: الحوامل،

أجلهن عدتهن، {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها، مطلقة كانت، أو متوفى عنها زوجها، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 4] في جميع ما أمره الله بطاعته فيه، {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة. ذلك يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 5] بطاعته، {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم له في الآخرة، أجرًا. {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى {6} لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا {7} } [الطلاق: 6-7] . {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] من صلة معناه: أسكنوهن حيث سكنتم، من وجدكم سعتكم وطاقتكم، والوجد معناه: المقدرة، قال الفراء: يقول على ما يجد، فإن كان موسعًا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان مقترًا فعلى قدر ذلك. قال قتادة: وإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه. {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] نهى الله تعالى عن مضارتهن، بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة، {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن عدتها تكون بوضع الحمل، فلها النفقة إلى أن تضع حملها، وإن كانت مطلقة ثانية أو ثالثة، فإنها تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني: حق الرضاع وأجرته، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال مقاتل: يتراضى الأب والأم أجر مسمى. والخطاب للأزواج من الرجال والنساء، يأمرهم أن يأتوا المعروف وما هو الأحسن، ولا يقصدوا التعاسر والضرار، وإن تعاسرتم في الأجرة، ولم يتراض الوالدان على شيء، {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن، على قدر سعتهم، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: كان رزقه بمقدار القوت، {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فلينفق على قدر ذلك، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] أعطاها من الرزق، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] بعد ضيق وشدة غنى وسعة، وكان الغالب على

أكثرهم في ذلك الوقت الفقر، ثم فتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يسرًا بعد عسر. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا {8} فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا {9} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا {11} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {12} } [الطلاق: 8-12] . وكأين وكم، {مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق: 8] قال ابن عباس: عتوا على الله، وعلى أنبيائهم. {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 8] قال مقاتل: حاسبها الله تعالى في الدنيا، فجازاها بالعذاب. وهو قوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] ثقل عاقبة أمر كفرها، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] خسرانًا في الدنيا والآخرة، وهو قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 10] يخوف الله كفار مكة، ثم قال للذين آمنوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا {10} رَسُولا} [الطلاق: 10-11] يعني: أنزل إليكم قرآنا، وأرسل ورسولًا، وإنزال الذكر يدل على إرسال الرسول، يتلو عليكم يعني: الرسول، {آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 11] إلى قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] خلق من الأرض بعدد السموات، {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه، خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. {لِتَعْلَمُوا} [الطلاق: 12] أي: أعلمكم هذا، لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه، وهو قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .

تفسير سورة التحريم

تفسير سورة التحريم اثنتا عشرة آية، مدنية. 1212 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا الْمَدَايِنِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أَعْطَاهُ اللَّهُ تَوْبَةً نَصُوحًا ". {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {1} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {2} وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ {3} إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ {4} عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا {5} } [التحريم: 1-5] . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] قال المفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت، أبصرت مارية في بيتها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت، وقالت: إني رأيت من كان معك في البيت. وكان ذلك يوم عائشة، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجه حفصة الغيرة والكآبة، قال لها: «لا تخبري عائشة، ولك عليّ ألا أقربها أبدًا» . فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا

متصافيتين، فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى حلف ألا يقرب مارية، فأنزل الله هذا ال { [. قال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: جعلت امرأتي علىّ حرامًا. قال: كذبت، ليست عليك بحرام. ثم تلا هذه ال::] يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية، عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة، وقوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] أي: تطلب رضاهن بتحريم مارية على نفسك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] غفر لك ما فعلت من تحريم الجارية على نفسك. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} [التحريم: 2] أي: بين وأوجب، {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] تحليلها بالكفارة، وتحلة أصلها: تحللة، على وزن تفعلة فأدغمت، وتفعلة من مصادر التفعيل، كالتوضية والتسمية، قال مقاتل: قد بين الله كفارة إيمانكم في { [المائدة. أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ] وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} [سورة التحريم: 2] وليكم وناصركم، وهو العليم بخلقه، الحكيم فيما فرض من حكمه. قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال جماعة المفسرين: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى الغيرة، والكراهية في وجه حفصة، أراد أن يترضاها، فأسر إليها بشيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر

رضي الله عنهما. {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3] أخبرت به حفصة عائشة، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فأخبر النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة عند ذلك ببعض ما قالت، وهو قوله: عرف بعضه أي: عرف حفصة بعض ما أخبرت به عائشة، {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] يعني: ذكر الخلافة، كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتشر ذلك في الناس، فأعرض عنه. 1213 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا سَلامُ بْنُ عِصَامٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، نا عَمِّي، نا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ» {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي، وإياك أن تخبري أحدًا» . وقرئ عَرَفَ بالتخفيف ومعناه: جازي عليه، ولا يكون أن العلم، لأنه لا يجوز أن يعرف البعض مع إطلاع الله إياه على جميعه، وهذا كما تقول لمن يحسن إليك أو يسيء: أنا أعرف لك هذا. أي: لا يخفى علي فأجازيك بما يكون وفقًا له. قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] أي: أخبر حفصة بإفشائها السر، {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3] من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] . ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] أي: من التعاون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] عدلت ومالت عن الحق، وهو: أنهما أحبتا ما كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اجتناب جاريته، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4] أي: تتظاهرا، وتتعاونا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيذاء. 1214 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرَوِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا رَأَيْتُ مَوْضِعًا فَمَكَثْتُ سَنَتَيْنِ، فَلَمَّا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَذَهَبَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَجَاءَ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ

مِنَ الْمَاءِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ. قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم: 4] أي: وليه في العون، يعني: يتولى نصرته، وجبريل وليه، وصالح المؤمنين قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يواليان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينصرانه. 1215 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُثَنَّى، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّ أَبَا زُمَيْلٍ الْحَنَفِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّ مَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلامٍ إِلا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ. 1216 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] ، قَالَ: صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَعْنَى الآيَةِ، إِنْ تَعَاوَنْتُمَا عَلَى إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَبَوَيْكُمَا يُوَافِقَانِكُمَا، وَلا يَتَظَاهَرَانِ مَعَكُمَا، فَإِنَّهُمَا وَلِيَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ} [التحريم: 4] قال مقاتل: بعد الله جبريلُ وصالحُ المؤمنين. ظهير أعوان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ

رَفِيقًا} [النساء: 69] . ثم خوف نساءه، فقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] أي: واجب من الله إن طلقكن رسوله، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] ، ثم نعت تلك الأزواج التي كان يبدله لو طلق نساءه، فقال: مسلمات خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات مصدقات بتوحيد الله، قانتات طائعات، سائحات صائمات، وذكرنا تفسيره عند قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] ، ثيبات جمع ثيب، وهي: المرأة التي قد تزوجت، ثم بانت عن زوجها، فعادت كما كانت غير ذات زوج، وأبكارًا يريد: عذارى. {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} يَأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {7} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {8} } [التحريم: 6-8] . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] قال عطاء، عن ابن عباس: أي: بالانتهاء عما نهاكم الله عنه، والعمل بطاعته. وأهليكم قال عمر: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ قال: «تنهونهم عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهم بما أمركم الله به» . قال مقاتل بن حيان: هو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله، فيعلمهم الخير، وينهاهم عن الشر. وذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه، وأهله، وعبيده وإمائه، في تأديبهم وتعليمهم، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم، وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة. وهو قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وقد سبق تفسيره، عليها ملائكة يعني: خزنة النار، غلاظ على أهل النار، شداد أقوياء، يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفًا في جهنم، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] يعني: ينصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، قال أبو زيد: توبة نصوح صادقة، يقال: نصحته. أي: صدقته، وروى عكرمة، عن ابن عباس،

قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، ما التوبة النصوح؟ قال: «أن يتوب التائب، ثم لا يرجع في ذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع» . وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن. ثم قرأ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] . وقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] أي: لا يعذبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] مفسر في { [الحديد،] يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [سورة التحريم: 8] إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا الله أن يتمم لهم نورهم، ويبلغهم به الجنة، قال ابن عباس: ليس أحد من الموحدين إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق. فهو يقول: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] من إطفاء نور المنافقين، وإثبات نور المؤمنين. {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {9} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ {10} } [التحريم: 9-10] . {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] مفسر في { [براءة. ثم خوف عائشة وحفصة في تظاهرهما على الرسول، وذكر أنهما إن عصتا ربهما، لم يغن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهما شيئًا، وضرب لهما امرأة نوح، وامرأة لوط مثلًا، فقال:] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [سورة التحريم: 10] ثم ذكر حالهما، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم: 10] يعني: نوحا ولوطا، {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين: كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف: إذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت، ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان. {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10] لم يدفعا عنهما عذاب الله أعلم الله تعالى، أن الأنبياء لا يغنون عمن عمل بالمعاصي شيئًا، فقطع الله تعالى بهذه الآية طمع من ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، وهو قوله:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {11} وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ {12} } [التحريم: 11-12] . {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] وهي: آسية ابنة مزاحم، كانت قد آمنت بموسى، وسألت الله بيتًا في الجنة، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] أي: حيث لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة، قال أبو هريرة: إن فرعون أوتد لامرأته بأوتاد في يديها ورجليها، فكانت إذا تفرقوا عنها، ظللتها الملائكة. فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] فكشف الله لها بيتها في الجنة، حتى رأته قبل موتها، وقوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال مقاتل: وعمله الشرك. وروى أبو صالح، عن ابن عباس: {وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال: جماعة: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] المشركين أهل دينه. قال مقاتل: يقول الله تعالى لعائشة، وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية، كونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم. وهو قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] وقد تقدم تفسيره، {فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] أي: في جنب درعها، وذلك: أن جبريل عليه السلام مد جيب درعها بإصبعه، ثم نفخ في جيبها، فحبلت، والكناية من غير مذكور. 1217 - أَخْبَرَنَا بِالْإِسْنَادِ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12] يعني: الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة في كتبه، وهو قوله: وكتبه قال ابن عباس: يعني: التي أنزلت على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى عليهم السلام. وقرئ: وكتابه والمراد به الكثرة أيضًا، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] قال قتادة: من القوم المطيعين لربهم. وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء. ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم مريم، وكانوا مطيعين لله، أهل بيت صلاح وطاعة.

تفسير سورة الملك

تفسير سورة المُلك ثلاثون آية، مكية. 1218 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ تَبَارَكَ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» 1219 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . 1220 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أُتِيَ رَجُلٌ مِنْ جَوَانِبِ قَبْرِهِ فَجَعَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاثُونَ آيَةً تُجَادِلُ عَنْهُ حَتَّى مَنَعَتْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ، فَلَمْ نَجِدْهَا إِلا تَبَارَكَ. بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2} الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ

فُطُورٍ {3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ {4} وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ {5} } [الملك: 1-5] . {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 1-2] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة. وقال قتادة: يعني: موت الإنسان أذل الله به ابن آدم، والحياة حياته في الدنيا. {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] اللام في: ليبلوكم تتعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة، وفيها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] : «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله» ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتمكم عقلًا، أشدكم خوفًا لله، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرًا» . وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا، وأترك لها. وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب إليه. ثم أخبر عن صنعه الذي يدل على توحيده، فقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] بعضها فوق بعض، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] قال مقاتل: يعني: ما ترى يابن آدم في خلق السموات من عيب. وقال قتادة: ما ترى خللًا ولا اختلافًا. وقال الكلبي: وهو الذي يفوت بعضه بعضًا. وقرئ تفاوت وهما بمنزلة واحدة، مثل: تصعد وتصاعد، وتعهد به وتعاهدته، فارجع البصر كرر النظر، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] شقوق، وصدوع، وخروق. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] قال ابن عباس: مرة بعد مرة.

{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] مبعدًا صاغرًا، لم ير ما يهوى، وهو حسير كليل منقطع، قال الزجاج: أي: وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللًا. وهو فعيل بمعنى: فاعل، من الحسور وهو الإعياء. {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: 5] الأولى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس، بمصابيح واحدها: مصباح وهو السراج، ويسمى الكوكب أيضًا مصباحًا لإضاءته. قال ابن عباس: بنجوم لها نور. {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع، وأعتدنا لهم في الآخرة، عذاب السعير النار الموقدة. {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6} إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ {7} تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ {9} وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ {11} } [الملك: 6-11] . {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الملك: 6] الآية، وهي ظاهرة. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} [الملك: 7] صوتًا مثل أول نهيق الحمار، وهو أقبح الأصوات، {وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] تغلي بهم كغلي المرجل، وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل. {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] تنقطع من تغيظها عليهم، قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار. {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك: 8] جماعة منهم، سألهم خزنتها سؤال توبيخ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] الهدى، أو نعقله، قال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر. ما كنا من أهل النار. 1221 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ السُّلَمِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ

شَيْءٍ دِعَامَةً وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ مَا يَعْقِلُ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ نَدِمَ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] . 1222 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ، نا مَنْصُورُ بْنُ سُفْيَانَ، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَمِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، وَمِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ» . 1223 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا سَلامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَثْنَى قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَبْلَغُوا الثَّنَاءَ فِي خِصَالِ الْخَيْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ عَقَلَ الرَّجُلُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُخْبِرُكَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَصْنَافِ الْخَيْرِ، وَتَسْأَلُنَا عَنْ عَقْلِهِ؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَحْمَقَ لَيُصِيبُ بِحُمْقِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ الْعِبَادُ غَدًا فِي الدَّرَجَاتِ وَيَنَالُونَ الزُّلْفَى مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» . وقال الله تعالى: فاعترفوا بذنبهم يعني: بتكذيبهم الرسل، وهو قولهم: {فَكَذَّبْنَا} [الملك: 9] ، فسحقًا فبعدًا، {لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] من رحمة الله. ثم أخبر عن المؤمنين، وعما أعد لهم في الآخرة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14} هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {15} } [الملك: 12-15] . {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12] يخافون عذاب ربهم، ولم يروه، فيؤمنون به خوفًا من عذابه، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] وهو الجنة. ثم عاد إلى خطاب الكفار، فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ

اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد. فأنزل الله تعالى هذه الآية. ألا يعلم ما في الصدور من خلقها، وهو اللطيف لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما فيها من السر، والوسوسة. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا} [الملك: 15] لم يجعلها بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة، والغلظ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] جبالها وإكامها، وقال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: طرقها، وأطرافها، وجوانبها. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] مما خلقه رزقًا لكم في الأرض، وإليه النشور وإلى الله تبعثون من قبوركم. ثم خوف كفار مكة، فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ {17} وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {18} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ {19} } [الملك: 16-19] . {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قال المفسرون: يعني: عقوبة من السماء، أو عذاب من في السماء. والمعنى: من في السماء سلطانه، وملكه، وقدرته، لا بد من أن يكون المعنى هذا، لاستحالة أن يكون الله في مكان أو موصوفًا بجهة، وأهل المعاني يقولون: من في السماء هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل. والمعنى: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] بأمره، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] تضطرب، وتتحرك، والمعنى: أن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتلعو عليهم، وهم يخسفون فيها، والأرض تمور فوقهم، فتقلبهم إلى أسفل. {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17] كما أرسل على قوم لوط، فستعلمون في الآخرة، وعند الموت، كيف نذير أي: إنذاري إذا عاينتم العذاب. {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك: 18] يعني: كفار الأمم السابقة، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 18] أي: إنكاري عليهم بالعذاب. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] تصف أجنحتها في الهواء، ويقبضن أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو: بسط الأجنحة، وقبضها بعد البسط، {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19] أي: في الحالين: في حال الصف، والقبض،

وفي هذا أكبر آية على قدرة الله تعالى، إذ أمسكها في الهواء على ثقلها ضخم أبدانها، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] الآية. قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ {20} أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ {21} أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {22} قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {23} قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ {26} فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ {27} } [الملك: 20-27] . {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] لفظ الجند موحد، لذلك قيل: هذا الذي هو استفهام إنكار، أي: لا جند لكم، ينصركم يمنعكم من عذاب الله، قال ابن عباس: ينصركم مني إن أردت عذابكم. {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي: من الشيطان، يعدهم بأن العذاب لا ينزل بهم. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] أي: من الذي يرزقكم بالمطر، إن أمسكه الله عنكم؟ {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21] أي: ليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، بل لجوا في طغيانهم، وتماديهم، وتباعدهم عن الإيمان. ثم ضرب مثلًا، فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22] الآية، والإكباب مطاوع الكب، يقال: كببته فأكب. ضرب المكب على وجهه مثلًا للكافر، لأنه ضال أعمى القلب، فهذا {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] معتدلًا يبصر الطريق، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] يعني به: الإسلام، وقال قتادة: هذا في الآخرة، يحشر الله الكافر مكبًا على وجهه يوم القيامة. كما قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] ، والمؤمن يمشي سويًا. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] إلى قوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] قال مقاتل: يعني: أنهم لا يشكرون رب هذه النعم، فيوحدونه. وذكر الله أنهم يستعجلون العذاب بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك: 25] . ثم ذكر حالهم عند معاينة العذاب، فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك: 27] يعني: رأوا العذاب قريبًا،

{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] اسودت، وعلتها الكآبة، ومعنى سيئت أي: قبحت وجوههم بالسواد، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ، إذا قبح، وقيل لهم، هذا العذاب، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27] قال الفراء: يريد: تدعون وهما واحد، مثل تذكرون، والمعنى: كنتم به تستعجلون، وتدعون الله بتعجيله. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {28} قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {29} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ {30} } [الملك: 28-30] . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} [الملك: 28] بعذابه، ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا فلم يعذبنا، {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} [الملك: 28] يمنعهم، ويؤمنهم، {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] والمعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟ أي: أنه لا رجاء لكم كما للمؤمنين. قل لهم، {هُوَ الرَّحْمَنُ} [الملك: 29] الذي نعبده، {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} [الملك: 29] عند معاينة العذاب، من الضال منا، أنحن أم أنتم؟ ومن قرأ بالياء فهو إخبار عن الكافرين الذين تقدم ذكرهم. ثم احتج عليهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ} [الملك: 30] يعني: ماء زمزم، غورًا ذاهبًا في الأرض غائرًا، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] ظاهر تراه العيون، وتناله الدلاء.

تفسير سورة القلم

تفسير سورة القلم اثنتان وخمسون آية، مكية. 1224 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ حَسُنَ أَخْلاقُهُمْ» بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ {1} مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ {2} وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ {3} وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ {4} فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ {5} بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ {6} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {7} } [القلم: 1-7] . ن قال ابن عباس: يعني: الحوت الذي على ظهر الأرض. وهو قول مجاهد، ومقاتل، والسدي، قالوا: هو الحوت الذي يحمل الأرض. وروى عكرمة، عن ابن عباس، أن: {ن} [القلم: 1] ههنا آخر حروف الرحمن. {وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] قال جماعة المفسرين:

هو القلم الذي كتب الله به اللوح المحفوظ. 1225 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا الْمُحَارِبِيُّ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: ثُمَّ خَلَقَ نُونًا فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: {ن} [القلم: 1] الدواة. وهو قول الحسن، وقتادة، وروي ذلك مرفوعًا. 1226 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا أَبُو مَرْوَانَ هِشَامُ بْنُ خَالِجٍ الْأَزْرَقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ختَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ وَلا يَنْطِقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وقوله: وما يسطرون يعني: ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] هذا جواب لقولهم: {يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ، فأقسم الله بنون، وبالقلم، وبأعمال بني آدم، فقال: ما أنت يا محمد بنعمة ربك، أي: بإنعامه عليك بالإيمان والنبوة، بمجنون. وقال الزجاج: هذا كما تقول: أنت بنعمة الله فهم، وما أنت بنعمة الله بجاهل. {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} [القلم: 3] بصبرك على بهتهم، وافترائهم عليك، ونسبتهم إياك إلى الجنون، {غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] غير منقوص، ولا مقطوع. قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى

خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: دين عظيم، لم أخلق دينًا أحب إلىّ ولا أرضى عندي منه. وهذا قول الأكثرين، قالوا: يعني: الإسلام والدين. وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: يعني: القرآن. وهو قول الحسن، والعوفي: أدب القرآن. وفسره قتادة، فقال: هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عنه من الله. واختاره الزجاج، فقال: المعنى: إنك على الخلق الذي أمرك الله في القرآن. 1227 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَاسَرْجِسِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، نا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَخُلُقُهُ الْقُرْآنُ. 1228 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيُّ، نا مَرْوَانُ، نا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، نا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، يَسْخَطُ لِسَخَطِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ قوله: فستبصر يا محمد، ويبصرون يعني:

أهل مكة، قال مقاتل: هذا وعيد بالعذاب ببدر. يعني: سترى، ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر. بأيكم الباء زائدة، والمعنى: أيكم، المفتون المجنون الذي فتن بالجنون، أأنت أم هم؟ يعني: أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين عبدوا الأصنام، وتركوا دينك لا بك. أخبر أنه عالم بالفريقين، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [القلم: 7] الآية. {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ {8} وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {9} وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ {10} هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ {11} مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ {12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ {13} أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ {14} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {15} سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ {16} } [القلم: 8-16] . {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] يعني: رؤساء أهل مكة، وذلك: أنهم دعوه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم. {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] تلين لهم، فيلينون لك، قال مجاهد: تركن إليهم، وتترك ما أنت عليه من الحق، فَيُمَالئونك. قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد ألهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة. {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} [القلم: 10] كثير الحلف بالباطل، مهين فعيل من المهانة، وهي: القلة في الرأي والتمييز، قال عطاء: يعني: الأخنس بن شريق. وقال مقاتل: يعني: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المال ليرجع عن دينه. هماز مغتاب، طعان للناس، مشاء بنميم يمشي بالنميمة بين الناس، ليفسد بينهم. مناع للخير بخيل بالمال، معتد ظلوم، يتعدى الحق، أثيم في جميع أفعاله. عتل قال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الزجاج: الغليظ الجافي. وقال الليث: هو الأكول المنوع. والمفسرون يقولون: هو الشديد الخلق، الفاحش الخلُق. بعد ذلك أي: مع ما وصفناه به، زنيم قال عطاء، عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش ليس منهم. والزنيم: الملصق في القوم، وليس منهم. 1229 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحِذَامِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا إِسْرَائِيلُ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا قال ابن قتيبة: ولا نعلم أن الله وصف أحدًا، ولا بلغ من ذكر عيوبه ما بلغه من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والغيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدعوة، فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة. قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قال الفراء، والزجاج: {أَنْ كَانَ} [القلم: 14] أي: لأن كان. والمعنى: لا تطع كل حلاف مهين {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] أي: لا تطعه لماله وبنيه، ومن قرأ: أأن كان فإنه توبيخ له، أي: جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا، وهو قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم: 15] . ثم أوعده، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16] قال أبو عبيدة، وأبو زيد، والمبرد: الخرطوم الأنف. قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك: أنه يسود وجهه قبل دخول النار. وهو قول الأكثرين، قال الفراء: والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العَلَم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وقال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه. واختاره ابن قتيبة، وقال: العرب تقول: قد وسمه ميسم سوء. يريدون: ألصق به عارًا لا يفارقه، لأن السمة لا ينمحي، ولا يعفو أثرها. وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وأبين ما يكون الوسم على الوجه. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ

نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ {20} فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25} فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ {28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31} عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ {32} كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {33} } [القلم: 17-33] . {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] أي: بلونا أهل مكة بالجوع والقحط، كما ابتلينا أصحاب الجنة حين هلكت جناتهم، وهم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنان وزروع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظًا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقال بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا. وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه، وهو قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] حلفوا ليقطعن ثمر نخيلهم، إذا أصبحوا بسدفة من الليل، من غير أن يشعر المساكين. ولا يستثنون لا يقولون: إن شاء الله. {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] قال ابن عباس: أحاطت بها النار، فاحترقت. وقال قتادة: طرقها طارق من أمر الله. وقال مقاتل: بعث الله نارًا بالليل على جنتهم، فأحرقتها حتى صارت سوداء. فذلك قوله: فأصبحت كالصريم كالليل المظلم، والصريمان: الليل والنهار، لانصرام أحدهما من الآخر. {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} [القلم: 21] لما أصبحوا، قال بعضهم لبعض: {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} [القلم: 22] يعني: الثمار، والزروع، والأعناب، {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22] قاطعين للنخل. فانطلقوا ذهبوا على جنتهم، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] يسرون الكلام بينهم، بألا {يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] . {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] الحرد في اللغة يكون بمعنى: المنع، والغضب، والقصد، قال قتادة: على جد من أمرهم. وهو قول مقاتل، والكلبي، والحسن، ومجاهد، وهذا بمعنى:

القصد، لأن القاصد إلى الشيء جاد، وقال أبو عبيدة، والمبرد، والقتيبي: غدوا من بيتهم إلى جنتهم على منع المساكين. وقال الشعبي، وسفيان: على حنق، وغضب على المساكين. قادرين عند أنفسهم على جنتهم وثمارهم، لا يحول بينهم وبينها آفة. {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26] لما رأوا الجنة محترفة، قالوا: إنا قد ضللنا طريق جنتنا. أي: ليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المساكين. قال أوسطهم أعدلهم، وأفضلهم، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] هلا تستثنون، فتقولون: إن شاء الله؟ أنكر عليهم ترك الاستثناء في قوله: {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلا يَسْتَثْنُونَ {18} } [القلم: 17-18] وسمى الاستثناء تسبيحًا، لأنه تعظيم الله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل شيئًا إلا بمشيئة الله تعالى. {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} [القلم: 29] نزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] بمنعنا المساكين. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم: 30] يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم. ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم: 31] حين لم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل. ثم رجعوا إلى الله، وسألوه أن يبدلهم بها خيرًا منها، وهو قوله: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32] . قال الله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} [القلم: 33] يعني: كما ذكر من إحراقها بالنار، وتمت قصة أصحاب الجنة، ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] يعني: المشركين. ثم أخبر بما عنده للمتقين، فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ {37} إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ {38} أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ {39} سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ {40} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ {41} } [القلم: 34-41] . {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34] قال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما يعطون. فقال الله تعالى، مكذبًا لهم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} } [القلم: 35-36] إذ حكمتم أن لكم ما للمسلمين. {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] تقرءون. إن لكم في ذلك الكتاب، لما تخيرون تختارون. {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39] يقول: ألكم عهود على الله بالغة؟ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القلم: 39] أي: مؤكدة، وكل شيء مُتَنَاهٍ في الجودة والصحة فهو: بالغ، ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها، وتأكدها، {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: 39] لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله. ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] أيهم كفيل لهم، بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله، والمعنى: أم عندهم لله شركاء؟ فليأتوا بهؤلاء الشركاء، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم: 41] في أنها شركاء لله. قوله:

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ {43} فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ {44} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {45} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ {46} أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47} } [القلم: 42-47] . {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يوم ظرف لقوله: {فَلْيَأْتُوا} [القلم: 41] أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم، وتشفع لهم، قال المفسرون: في قوله: {عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي: عن شدة من الأمر. قال مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو أشد ساعة في يوم القيامة. 1230 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فَقَالَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاق هُوَ يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ. أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا حماد بن مسعدة، أنا عمر بن أبي زائدة، قال: سمعت عكرمة سئل عن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قال: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحرب عن ساق. أخبرهم الله تعالى عن شدة ذلك اليوم، وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، شمر عن ساقة، فاستُعِيرَ الكشف عن الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة قوله:

كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلاء طلاع أنجد وتأويل الآية: يوم يشتد الأمر، كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن الساق، {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون، يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء، فيقع من كان آمن به في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا به في الدنيا. 1231 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَارَةَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: وَفَدْتُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي حَوَائِجِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ حَوَائِجِي أَتَيْتُهُ فَوَدَّعْتُهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُ بِهِ، لِمَا أَوْلانِي مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: لَقَدْ رَدَّ الشَّيْخَ حَاجَةٌ، فَلَمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ قَالَ: مَا رَدَّكَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَضَيْتُ حَوَائِجَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، فَيَذْهَبُ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيَبْقَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا رَبًّا كُنَّا نَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا نَرَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ لا شَبَهَ لَهُ، فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنِ الْحِجَابِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، وَيَبْقَى أَقْوَامٌ ظُهُورُهُمْ مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عِبَادَي ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ قَدْ جَعَلْتُ بَدَلَ كُلِّ

رَجُلٍ مِنْكُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي النَّارِ "، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيُحَدِّثُكَ أَبُوكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَحَلَفْتُ لَهُ ثَلاثَةَ أَيْمَانٍ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا سَمِعْتُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ، حَدِيثًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا، رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاج فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْبَزَّاز، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] يعني: حين أيقنوا بالعذاب، وعاينوا النار، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] يغشاهم ذل الندامة والحسرة، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 43] يعني: بالأذان في دار الدنيا والإقامة، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة، {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] معافون، ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد، قال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح، فلا يجيبون. وفي هذا وعيد لمن قعد عن الصلاة في الجماعة. قوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] يقول: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن. قال الزجاج: معناه: لا تشغل قلبك به، كله إلىّ فإني أكفيك أمره. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وهذا مفسر في { [الأعراف مع ال: التي بعدها. وقوله:] أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [القلم: 46] مفسر مع الآية التي بعدها في { [الطور. ] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ {48} لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ {49} فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {50} وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ {51} وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {52} } [سورة القلم: 48-52] . قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48] اصبر على أذاهم، لقضاء ربك الذي هو آت، ولا تكن في الضجر، والغضب، والعجلة، {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] يونس بن متى، ثم أخبر عن عقوبة يونس حين لم يصبر، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83] من بطن الحوت، بقوله: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ، وهو مكظوم مملوء غمًا، ومثله: {كَظِيمٌ} [يوسف: 84] . {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] أدركه، نعمة رحمة، من ربه وهو أن رحمه، وتاب عليه، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} [القلم: 49] لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض، {وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] يذم، ويلام

بالذنب. {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [القلم: 50] استخلصه، واصطفاه، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50] قال ابن عباس: رد إليه الوحي، وشفعه في قومه وفي نفسه. قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51] من أزلقه عن موضعه إذا نحاه، يقال: زلق من مكانه، وأزلقته أنا. وقرأ نافع بفتح الياء، يقال: زلق هو وزلقته، مثل حزن وحزنته، والأولى أكثر وأوسع، نزلت الآية في قصد الكفار أن يصيبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعين، فكانوا ينظرون إليه نظرًا شديدًا، وليس هذا بالوجه، قال الزجاج: مذهب أهل اللغة والتأويل: أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم، يكادون بنظرهم نظر البغضاء، أن يصرعوك، وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل: نظر إلىّ نظرًا كاد يصرعني، ونظرًا كاد يأكلني. وقال ابن قتيبة: ليس يريد الله تعالى، يقال: إنهم يصيبوك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن، نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك، كما قال الشاعر: نظرًا يزيل مواطئ الأقدام ويدل على صحة هذا المعنى: أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية، فيحدون إليه النظر بالبغضاء، والإصابة بالعين تكون مع الإعجاب والاستحسان، ولا تكون مع البغض، والقول الأول هو قول الكلبي، ولم يعرف معنى الآية، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] أي: ينسبونه إلى الجنون، إذا سمعوه يقرأ القرآن، فقال الله: وما هو يعني: القرآن، {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين.

تفسير سورة الحاقة

تفسير سورة الحاقة اثنتان وخمسون آية، مكية. 1232 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا» بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَاقَّةُ {1} مَا الْحَاقَّةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ {3} كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ {4} فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ {5} وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ {6} سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ {7} فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ {8} وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ {9} فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً {10} إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ {11} لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ {12} } [الحاقة: 1-12] . الحاقة يعني: القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود. وقوله: ما الحاقة استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما هو؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في التهويل، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] أي: كأنك لست تعلمها، إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن المكذبين بها، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 4] وهي التي تقرع قلوب العباد بالمخافة. {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] يعني: بطغيانهم وكفرهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد،

وقال آخرون: يعني: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت المقدار. {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة: 6] وقد سبق تفسيرها، عاتية عتت على خزانها، فلم يكن لهم عليها سبيل، ولم يعرفوا كم خرج منها. أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، نا محمد بن يحيى، نا سعيد بن أبي مريم، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: ما يخرج من الريح شيء إلا عليها خُزَّان يعلمون قدرها، وعددها، وكيلها، حتى كانت التي أرسلت على عاد، فاندفق منها شيء لا يعلمون قدره غضبًا لله تعالى، ولذلك سميت عاتية. وقوله: سخرها عليهم قال مقاتل: سلطها. وقال الزجاج: أقامها عليهم كما شاء. {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] ولاء متتابعة، يعني: أن هذه الأيام والليالي تتابعت عليهم بالريح المهلكة، فلم يكن فيها فتور، ولا انقطاع. قال الفراء: والحسوم التتابع إذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوله عن آخره، قيل له: حسوم، وقال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى حسومًا أي: تحسمهم حسومًا تفنيهم وتذهبهم. وهذا معنى قول النضر بن شميل: حسمتهم فقطعتهم، وأهلكتهم. {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} [الحاقة: 7] أي: في تلك الليالي والأيام، {صَرْعَى} [الحاقة: 7] جمع صريع، يعني: أنهم صرعوا بموتهم، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أصول نخل ساقطة، وهذا كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] وقد مر. {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: من نفس باقية، يعني: لم يبق منهم أحد. {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] من الأمم الكافرة، وقرئ ومن قِبَلَهُ يعني: من يليه، ويحف به من جنوده وأتباعه، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة: 9] يعني: قرى قوم لوط، ويكون المعنى: وأهل المؤتفكات، ويجوز أن يريد: الأمم والجماعات الذين ائتفكوا بخطيئتهم، وقوله: {بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9] يعني: الشرك والكفر، وهي: مصدر كالخطأ والخطيئة. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10] يعني: لوطًا، وموسى، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] نامية، زائدة على

عذاب الأمم، قال الزجاج: تزيد على الأخذات. وقال صاحب النظم: بالغة في الشدة، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وتضاعف. قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] أي: تجاوز حده حتى علا كل شيء، وارتفع فوقه، يعني: زمن نوح، {حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، {فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] في السفينة، التي تجري في الماء. لنجعلها لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها، من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملناه، تذكرة لكم عبرة، وموعظة، {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] تحفظها، وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. قال قتادة: أذن وسمعت، وعقلت ما سمعت. وقال الفراء: لتحفظها كل أذن، فتكون عظة لمن يأتي بعد. قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ {13} وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً {14} فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ {15} وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ {16} وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ {18} } [الحاقة: 13-18] . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] قال عطاء: يريد النفخة الأولى. وقال الكلبي، ومقاتل: يريد النفخة الأخيرة. {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة: 14] رفعت من أماكنها، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] كسرتا كسرة واحدة لا تثنى، حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود. {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15] قامت القيامة. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة: 16] لنزول من فيها من الملائكة، {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16] قال الزجاج: يقال لكل ما ضعف جدًا: قد وهي فهو واه. وقال الفراء: وَهْيُهَا تشققها. {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] أطرافها ونواحيها، واحدها: رجى، مقصور، وتثنيته: رجوان، مثل: قفا وقفوان، قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها، حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بالأرض ومن عليها. {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} [الحاقة: 17] فوق رءوسهم، يعني: الحملة، يومئذ يعني: يوم القيامة، ثمانية ثمانية أملاك، على صورة الأوعال، بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء،

ويقال: ثمانية صفوف من الملائكة. يومئذ تعرضون على الله لحسابكم، لا تخفى على الله، منكم خافية أي: نفس خافية، أو فعلة خافية، قال الكلبي: لا يخفى على الله من أعمالكم شيء. 1233 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَازِمٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوهَا قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ غَدًا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] . وقال أبو موسى الأشعري: يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان: فجدال، ومعاذير، وأما الثالثة: فعندما تتطاير الصحف، فآخِد كتابه بيمينه، وآخذ بشماله. وذلك قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ {19} إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ {20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ {21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ {22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ {23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ {24} } [الحاقة: 19-24] . {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فيقول: تعالوا اقرءوا حسابيه. وأهل اللغة يقولون: في تفسير {هَاؤُمُ} [الحاقة: 19] : خذوا. قال ابن السكيت: يقال: هاء يا رجل، هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال. إني ظننت علمت، وأيقنت في الدنيا، {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] أي: حسابي في الآخرة. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ} [الحاقة: 21] حالة من العيش، {رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] يرضاها، بأن لقي الثواب، وآمن العقاب. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22] المنازل. {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] ثمارها قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف، وهو ما يقطف من الثمار. 1234 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، أنا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،

قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] : يَتَنَاوَلُ الرَّجُلُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَهُوَ نَائِمٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَسْعُودٍ البدشي، قَالا: نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدُكُمْ إِلا بِجَوَازِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلانِ بْنِ فُلانٍ أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ» قوله: كلوا واشربوا، أي: ويقال لهم: كلوا وشربوا في الجنة، {هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة: 24] قدمتم من أعمالكم الصالحة، {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] الماضية، يريد: أيام الدنيا. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ {25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ {26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ {27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ {28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ {29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ {30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ {31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ {32} إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ {33} وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {34} فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا حَمِيمٌ {35} وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ {36} لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ {37} } [الحاقة: 25-37] . {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] يتمنى أنه لم يؤت، لما يرى فيه من قبائح أعماله، التي يسود بها وجهه. {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 26] ولم أدر أي شيء حسابي، لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كله عليه. {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 27] ليت الموتة التي متها لم أحي بعدها، ومعنى القاضية: القاطعة للحياة، تمنى دوام الموت، وأنه لم يبعث للحساب. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] ضلت عني حجتي، قال مقاتل: يعني: حين شهدت عليه الجوارح بالشرك. وحينئذ يقول الله تعالى: خذوه فغلوه اجمعوا يده إلى عنقه. {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] أدخلوه الجحيم. {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة: 32] وهي: حلق منتظمة، {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32] قال نوف الشامي: كل ذراع سبعون باعا، كل باع أبعد مما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو.

فاسلكوه اجعلوه فيها، يقال: سلكته في الطريق، وفي القيد، وغيره. إذا أدخلته فيه، قال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ. قال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة. {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33] لا يصدق بتوحيد الله، وعظمته. {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 34] لا يطعم المسكين في الدنيا، ولا يأمر أهله بذلك. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا} [الحاقة: 35] في الآخرة، حميم قريب ينفعه، أو يشفع له. {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] وهو صديد أهل النار، وما ينغسل من أبدانهم من القيح، والدم. وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: لو أن قطرة من الغسلين وقعت في الأرض، أفسدت على الناس معايشهم. ثم ذكر أن الغسلين أكل من هو، فقال: {لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] قال الكلبي: يعني: من يخطأ بالشرك. 1236 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَبُو تُمَيْلَةَ، نا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَرَأَ نَافِعٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ {لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] فَقَالَ: مَهْ كُلُّنَا نُخْطِئُ. {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ {38} وَمَا لا تُبْصِرُونَ {39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ {41} وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {42} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {43} } [الحاقة: 38-43] . قوله: فلا أقسم لا رد لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون. {أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ {38} وَمَا لا تُبْصِرُونَ {39} } [الحاقة: 38-39] قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها، ما يبصر منها، وما لا يبصر، ويدخل في هذا جميع المكونات، والموجودات في الدنيا والآخرة. إنه إن القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] يعني: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: إنه لتلاوة رسول كريم وتلاوته قوله. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] لا تصدقون بأن القرآن من عند الله، وأريد بالقليل نفي إيمانهم أصلًا، كما تقول لمن لا يزورك: قلَّ ما تأتينا. وأنت تريد: لا يأتينا أصلًا، ومن قرأ: يؤمنون بالياء، فهو إخبار عن المشركين. {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42] وهو الذي يقضي على الغائب.

1237 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، نا صَفْوَانُ، نا شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ {41} } [الحاقة: 40-41] قَالَ: قُلْتُ: كَاهِنٌ، قَالَ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {42} تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {43} } [الحاقة: 42-43] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ. {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ {44} لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ {46} فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ {47} وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ {48} وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ {49} وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ {50} وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ {51} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {52} } [الحاقة: 44-52] . {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} [الحاقة: 44] محمد ما لم نقله، أي: يكلف القول، وأتى به من عند نفسه. {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] لأخذناه بالقوة، والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج. قال ابن قتيبة: وإنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه. {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، إذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه، والمفسرون يقولون: إنه نياط القلب. {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ليس منكم أحد يحجزنا عنه، أي: أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم، مع علمه بأنه لو تكلف ذلك لعاقبناه، ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه. ثم ذكر أن القرآن ما هو، فقال: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة: 49] علمنا: أن بعضكم يكذبه. {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة: 50] يعني: يوم القيامة، يندمون على ترك الإيمان به. {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] أنه من عند الله. ثم أمره بتنزيهه عن السوء، بقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 52] .

تفسير سورة المعارج

تفسير سورة المعارج أربعون وأربع آيات، مكية. 1238 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَأَلَ سَائِلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ {1} لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا {5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا {6} وَنَرَاهُ قَرِيبًا {7} } [المعارج: 1-7] . {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] نزلت في النضر بن الحارث، حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية، والمعنى: دعى داع على نفسه، وهو قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] الآية، وقوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] أي: كائن، يعني: أن العذاب كائن للكفار، واقع بهم، فاستعجله النضر، والباء في بعذاب زيادة للتوكيد، كقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] ، وتأويل الآية: سأل سائل عذابًا واقعًا،

ومن قرأ سال بغير همز، فإنه خفف الهمزة وقلبها ألفًا، وقوله: للكافرين تقدير الكلام: بعذاب للكافرين واقع، والمعنى: أن العذاب الذي سأله النضر في الدنيا هو للكافرين في الآخرة، لا يدفعهم عنهم أحد، وهو قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 2] من الله، أي: بعذاب. {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] وهي الدرجات، قال الكلبي: ذي السموات، وسماها معارج، لأن الملائكة تعرج فيها. وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] أي: إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم، فجعل عروجهم إلى ذلك الموضع عروجًا إليه، كقول إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أي: إلى حيث أمرني ربي بالذهاب إليه، وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال عكرمة، وقتادة: يعني يوم القيامة. 1239 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا زُهَيْرٌ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا دَرَّاجٌ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» وروى ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أنه قال: في هذه الآية، وفي قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47] : يومان ذكرهما الله في كتابه، أكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم. وقال قوم: معنى الآية: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] لو ولي الحساب غير الله. هذا معنى قول عطاء، عن ابن عباس، ومقاتل. قال عطاء: ويفرغ الله في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. قوله: فاصبر يا محمد على تكذبيهم إياك، صبرًا

جميلًا لا جزع فيه، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. إنهم يرونه يرون العذاب، بعيدًا غير كائن. ونراه قريبًا كائنًا، لأن ما هو آت قريب. ثم أخبر متى يقع بهم العذاب، فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ {8} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ {9} وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا {10} يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ {11} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ {12} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُئْوِيهِ {13} وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ {14} كَلَّا إِنَّهَا لَظَى {15} نَزَّاعَةً لِلشَّوَى {16} تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى {17} وَجَمَعَ فَأَوْعَى {18} } [المعارج: 8-18] . {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] قال ابن عباس: كدردي الزيت. وقال عطاء: كعكر القطران. وقال الحسن: مثل الفضة إذا ذيبت. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9] كالصواف الأحمر في ختفها، وسيرها. {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10] لا يسأل الرجل قرابته، من شدة الأهوال، والمعنى: لا يسأل قرابة عن قرابته اشتغالًا بنفسه، وروي عن ابن كثير بضم الياء، أي: لا يقال لحميم أين حميمك؟ قال الفراء: ولست أشتهي ضم الياء، لأنه مخالف للتفسير، ولما أجمع عليه القراء. يبصرونهم يعرفونهم، ويرونهم، أي: يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، ومع ذلك لا يسأل عن شأنه، لشغله بنفسه، ويقال: بصّرتُ زيدًا بكذا، إذا عرفته إياه، ثم يحذف الجار، فيقال: بصرته كذا. والآية على حذف الجار، يود المجرم المشرك الكافر، {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج: 11] لشدة ما يرى، يتمنى أن لو قبل منه أولاده فداء وأعزته، وهو قوله: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ {12} وَفَصِيلَتِهِ} [المعارج: 12-13] عشيرته الأقربين، التي تئويه تضمه، ويأوي إليها، يقول الله تعالى: يود لو يفتدي بهذه الأشياء. ثم ينجيه ذلك الفداء. كلا لا ينجيه ذلك، إنها لظى وهي من أسماء النار، ومعناها في اللغة: اللهب الخالص، يقال: لظيت النار، تلظى لظى. نزاعة أي: هي نزاعة، {لِلشَّوَى} [المعارج: 16] وهي الأطراف: اليدان والرجلان، قال مقاتل: تنزع النار الأطراف، فلا تترك لحمًا، ولا جلدًا، إلا أحرقته. وقال الضحاك: تنزع الجلد، واللحم عن العظم.

ومن قرأ: {نَزَّاعَةً} [المعارج: 16] بالنصب، فعلى أنها مؤكدة، كما قال: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] . {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 17] تدعو النار من أدبر، وتولى عن الحق، فتقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا منافق، إليّ يا فاسق، إليّ يا ظالم. وجمع المال، فأوعى أي: أمسكه في الوعاء، ولم ينفقه في طاعة الله، فلم يؤد زكاة، ولا وصل رحمًا. {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} إِلا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ {23} وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ {24} لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {25} وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ {26} وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ {27} إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ {28} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {29} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {30} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {31} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {32} وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ {33} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {34} أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ {35} } [المعارج: 19-35] . {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] ضجورًا، شحيحًا، جزوعًا، من الهلع وهو: شدة الحرص، وقلة الصبر، والمفسرون يقولون: تفسير الهلوع: ما بعده، وهو قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} } [المعارج: 20-21] إذا أصابه الفقر لا يصبر، ولا يحتسب، وإذا أصابه المال منعه من حق الله. ثم استثنى الموحدين، فقال: {إِلا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ {23} } [المعارج: 22-23] يقيمونها في أوقاتها، لا يدعونها بالليل والنهار، يعني: المكتوبة. 1240 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ، أنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ أَبَدًا؟ قَالَ: لا وَلَكِنَّهُ الَّذِي إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ وَلا عَنْ شِمَالِهِ وهذا القول اخيتار الزجاج، قال: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] يعني: الزكاة المفروضة. للسائل وهو الذي يسأل، والمحروم الفقير الذي لا يسأل، يتعفف عن السؤال، وقد سبق تفسيره.

وما بعد هذا مفسر في { [المؤمنين إلى قوله: والذين هم بشهادتهم قائمون، وقرئ:] بِشَهَادَاتِهِمْ} [سورة المعارج: 33] والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، والمعنى: أنهم يقومون فيها بالحق، ولا يكتبونها. قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ {36} عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ {37} أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ {38} كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ {39} فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ {40} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {41} فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ {42} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ {43} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {44} } [المعارج: 36-44] . {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج: 36] نزلت الآية في جماعة من الكفار، جلسوا حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستهزئون بالقرآن، ويكذبون به، فقال الله تعالى: ما لهم ينظرون إليك، ويجلسون عندك، وهم لا ينتفعون بما يسمعون. وتفسير المهطع قد تقدم. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 37] جماعات في تفرقة، واحدتها: عزة، وهي العصبة من الناس، وكانوا يقولون: إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة، فإنما ندخلها قبلهم. فقال الله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج: 38] قال ابن عباس: أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي، كما يدخلها المسلمون، ويتنعم فيها، وقد كذب بنبيي. كلا لا يكون ذلك، {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] أي: من المقاذير والأنجاس، أي: فمتى يدخلون الجنة، ولم يؤمنوا بي، ولم يصدقوا رسولي؟ نبه الناس بهذا على أن الناس كلهم من أصل واحد، وإنما يتفاضلون بالإيمان، والطاعة.

1241 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الصَّائِغُ، نا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ جَحَّاشٍ، قَالَ: تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] ثُمَّ بَزَقَ عَلَى كَفِّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتُ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟ قوله: فلا أقسم معناه: فأقسم، {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] يعني: مشرق كل يوم من السنة، ومغربه، {إِنَّا لَقَادِرُونَ {40} عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} [المعارج: 40-41] على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصواهم، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 41] مفسر في { [الواقعة. ] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} [سورة المعارج: 42] مفسر في { [الطور. يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون أي: يخرجون بسرعة، كأنهم يستبقون إلى علم نصب لهم، والنصب: كل شيء نصب، ومن قرأ:] نُصُبٍ} [سورة المعارج: 43] بضمتين، فقال الحسن: يعني: أنصابهم. وهي الأصنام يسرعون إليها، أيهم يستلمها أولًا، ومعنى يوفضون: يسرعون، يقال: أوفض إيفاضًا. وباقي السورة مفسر فيما سبق.

تفسير سورة نوح

تفسير سورة نوح عشرون وثمان آيات، مكية. 1242 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ نُوحٍ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي تُدْرِكُهُمْ دَعْوَةُ نُوحٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {1} قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {2} أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ {3} يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {4} } [نوح: 1-4] . {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ} [نوح: 1] بأن، {أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] يعني: الطوفان، والغرق، والمعنى: أرسلناه لينذرهم بعذاب أليم إن لم يؤمنوا. فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 2] أنذركم، وأبين لكم. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ {3} يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3-4] قال مقاتل: من ههنا صلة، يريد: يغفر لكم ذنوبكم. وقال أهل المعاني: يعني: ما سلف من ذنوبهم إلى وقت الإيمان، وهو بعض ذنوبهم. {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] أي: عن العقوبات والشدائد، والمعنى: يعافيكم إلى منتهى آجالكم، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] يقول: آمنوا قبل الموت، تسلموا من العقوبات، فإن أجل الموت إذا حل لم يؤخر، فلا يمكنكم الإيمان إذا جاء الأجل. {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا {6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا {7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا {8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا {9} فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10} يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} } [نوح: 5-11] . {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا {6} } [نوح: 5-6] قال مقاتل: يعني: تباعدا من الإيمان.

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} [نوح: 7] إلى طاعتك، والإيمان بك، {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] لئلا يسمعون صوتي، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] غطوا بها وجوهم، لئلا يروني، وأصروا على كفرهم، واستكبروا عن دعوتي، والإيمان بك. {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح: 8] معلنًا لهم بالدعاء، قال ابن عباس: بأعلى صوتي. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} [نوح: 9] أي: كررت لهم الدعاء، معلنًا وإسرارًا، وهو قوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] قال ابن عباس: يريد: الرجل بعد الرجل، أكلمه سرًا، فيما بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدتك. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح: 10] قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زمانًا طويلًا، حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك. أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] كثير الدر، وهو التخلب بالمطر. 1243 - أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أنا أَبُو يَزِيدَ الْخَالِدِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ يَسْتَسْقِي، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلا الاسْتِغْفَارَ حَتَّى نَزَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ، قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْقَطْرُ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} } [نوح: 11] ، وقرأ التي في هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] . وقوله:

{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {12} مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا {13} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {14} أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا {15} وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا {16} وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا {17} ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا {18} وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا {19} لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا {20} } [نوح: 12-20] . {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] قال عطاء: يكثر أموالكم، وأولادكم. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} [نوح: 12] يعني: البساتين، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12] أعلمهم نوح: أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخر الخصب والغنا في الدنيا. {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] لا تخافون لله عظمة، فالرجاء ههنا بمعنى: الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم، والمعنى: لا تعلمون حق عظمته فتوحدوه، وتطيعوه، وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده: من خلقه إياكم، ومن خلق السموات والأرض، وهو قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] يعني: نطفة، ثم علقة شيئًا بعد شيء إلى آخر الخلق، وطورًا بعد طور، بتقليبكم من حال إلى حال، قال ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه أطوار. وتلا هذه الآية. {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] قال ابن عباس: وجهه في السموات، وقفاه في الأرض. وهذا قول عبد الله بن عمر، وقال في هذه الآية: وجوههما إلى السماء، وأقفاهما إلى الأرض، يضيئان في السماء، كما يضيئان في الأرض. ونحو هذا قال قتادة، وقال أهل المعاني: هذا على المجاز، كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركب إلى بغداد في السفر، وتوارى في دور بني فلان، فيقام البعض مقام الكل، كذلك القمر جعل نورًا في السماء الدنيا، ثم جاز أن يقال فيهن. {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] يستضاء به، ويضيء العالم. {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [نوح: 17] يعني: مبتدأ خلق آدم، وآدم خلق من الأرض، والناس ولده، وقوله: نباتًا اسم جعل في موضع المصدر، والمعنى: ينبتون نباتًا. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} [نوح: 18] بعد الموت،

قوله: ويخرجكم إخراجًا للبعث. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] فرشها، وبسطها، {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} [نوح: 20] طرقًا واسعة. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا {21} وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا {22} وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا {23} وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا {24} } [نوح: 21-24] . {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح: 21] لم يجيبوا دعوتي، واتبعوا اتبع السفلة والفقراء الرؤساء والكبراء، الذين لم يزدهم كثرة المال، والأولاد، إلا ضلالًا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وهو قوله: {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا {21} وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا {22} } [نوح: 21-22] عظيمًا، يقال: كبير وكبار وكبار، ومعنى المكر: السعي بالفساد، وذلك بمنع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح. وقوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 23] أي: عبادتها، {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا} [نوح: 23] إلى قوله: ونسرًا وهذه أسماء آلهتهم، قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم، يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم، وأشوق إلى العبادة. ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم. فعبدوهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم المسلمين، المسمين بهذه الأسماء، والفتح في ود أشهر وأعرف، قال الأخفش: لعل الضم أن يكون لغة في اسم الصنم. وقوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] قال مقاتل: أضل كبراؤهم كثيرًا من الناس. ويجوز أن يكون المعنى: أضل الأصنام كثيرًا، أي: ضلوا

بسببها، كقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] ، {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} [نوح: 24] الكافرين، إلا ضلالا هذا دعاء عليهم، بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، وهو قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] . قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا {25} وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا {26} إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا {27} رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا {28} } [نوح: 25-28] . مما خطيئاتهم وما صلة، والمعنى: من خطيئاتهم، أي: من أجلها وسببها، وقرئ خطاياهم وكلاهما جمع خطيئة، أغرقوا بالطوفان، فأدخلوا نارًا قال مقاتل: أدخلوا في الآخرة نارًا. وقال الكلبي: سيدخلون في الآخرة نارًا. وجاء لفظ المضي بمعنى الاستقبال، لصدق الوعد به، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] لم يجدوا أحدًا يمنعهم من عذاب الله. {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] نازل دار، يعني: لا تدع أحدًا منهم إلا أهلكته، يقال: ما بالدار ديار، أي: ما بها أحد. {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: 27] قال الكلبي، ومقاتل: هو أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح، يحذره تصديقه، والإيمان به، {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] أخبر الله نوحًا، عليه السلام، أنهم لا يلدون مؤمنًا، لذلك علم فقال: {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا} [نوح: 27] خارجًا عن طاعتك، كفارًا لنعمتك. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] يعني: لمك بن متوشلخ، وسمخا بنت أنوش، وكانا مؤمنين، {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] قال الضحاك، والكلبي: يعني مسجده. وللمؤمنين والمؤمنات عام في كل من آمن بالله تعالى، وصدق بالرسل، {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} [نوح: 28] يعني: قومه، إلا تبارًا هلاكًا، فاستجاب الله دعاءه، وأهلكهم.

تفسير سورة الجن

تفسير سورة الجن عشرون وثمان آيات، مكية. 1244 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْجِنِّ أُعْطِيَ بِعَدَدِ كُلِّ جِنِّيٍّ وَشَيْطَانٍ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبَ بِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ» . بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا {1} يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {2} وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا {3} وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا {4} وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {5} وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا {6} وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا {7} } [الجن: 1-7] . {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} [الجن: 1] الآية. 1245 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أنا أَبُو عُمَروَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو يَعْلَى، نا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمُ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلا لِشَيْءٍ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا

نَحْوَ تِهَامَةَ، بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلٍ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ. 1246 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ، نا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، نا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَّا مَعَهُ أَحَدٌ، فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتُطِيرَ، فَانْطَلَقْنَا نَطْلُبُهُ فِي الشِّعَابِ فَلَقِينَاهُ مُقْبِلًا مِنْ نَحْوِ حِرَاءَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ؟ لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَيْكَ، وَقُلْنَا: بِتْنَا اللَّيْلَةَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ حِينَ فَقَدْنَاكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ أُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، فَذَهَبَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ فَلَمْ يَصْحَبْهُ 1247 - قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، يَأْخُذُونَهُ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ

أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسْتَنْجُوا بِالْعِظَامِ وَلا بِالْبَعْرِ، فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قَالَ دَاوُدُ: وَلا أَدْرِي هَذَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ إِلا ذِكْرَ الزَّادِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّة، عَنْ دَاوُد ومعنى قوله: قرآنا عجبًا قال ابن عباس: بليغًا. والمعنى: قرآنا ذا عجب، يعجب منه لبلاغته. {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان، فآمنا به بذلك القرآن، ولن نشرك لن نعدل، بربنا أحدًا يعنون: إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله. قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3] الاختيار كسر إن، لأنه من قول الجن لقومهم، فهو معطوف على قوله: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا} [الجن: 1] ، وقالوا: وإنه تعالى جد ربنا، وأما من فتح، فقال الفراء: رد أن في كل ال { [على قوله:] فَآمَنَّا بِهِ} [سورة الجن: 2] وآمنا بكل ذلك، ففتح أنه: لوقوع الإيمان عليه، ومعنى: جد ربنا جلال ربنا، وعظمته، يقال: جد فلان. أي: عظم، ومنه الحديث: " كان الرجل إذا قرأ البقرة جد فينا، أي: عظم قدره "، قال الزجاج: تعالى جلال ربنا، وعظمته عن أن يتخذ صاحبة، أو ولدًا. وهو قوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: 3] . {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] يعني: الكفار والمشركين منهم، وقال مجاهد، وقتادة: هو إبليس. {عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4] كذبًا، وجورًا، وهو وصفه بالشرك والولد. وأنا ظننا قالت الجن: إنا ظننا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله، بأن له شريكًا، وصاحبة، وولدًا. أي: كنا نظنهم صادقين حتى سمعنا القرآن. قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] وهو أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر، فأمسى في قفر

من الأرض، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، من شر سفهاء قومه. فيبيت في جوار منهم حتى يصبح. 1248 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، نا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المفر، أنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَرْدَمِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى صَاحِبِ غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ، فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَنَادَى: يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ، فَنَادَى مُنَادٍ لا نَرَاهُ: يَا سَرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَإِذَا الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ الْغَنَمَ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يَعْنِي

سَفَهًا وَطُغْيَانًا وَظُلْمًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا يقولون: سدنا الجن والإنس. وأنهم ظنوا يقول الله تعالى: ظن الجن، كما ظننتم أيها الإنس المشركون، أنه لا بعث يوم القيامة. أي: كانوا لا يؤمنوا بالبعث، كما أنكم لا تؤمنون به. وقالت الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا {8} وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا {9} وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا {10} } [الجن: 8-10] . {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] قال الكلبي: أتينا السماء. {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن: 8] وهم: الملائكة الذي يحرسون السماء من استراق السمع، وشهبًا وهي: النار التي ترجم بها الشياطين، كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] . {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] من السماء، مقاعد للسمع أي: كنا نستمع، والآن حين حاولنا الاستماع رمينا بالشهب، وهو قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] أرصد له ليرمى به، قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أقرأت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] الآية. قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه. وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث، منعوا من ذلك أصلًا. ثم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن: 10] أي: بحدوث الرجم بالكواكب، وحراسة السماء، أم صلاح وهو قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] . ثم أخبروا عن أحوالهم، فقالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا {11} وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا {12} وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا {13} وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا {14} وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا {15}

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا {16} لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا {17} } [الجن: 11-17] . {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن: 11] المؤمنون، المخلصون، {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] دون الصالحين، {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] جماعات متفرقين، وأصنافًا مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، وصار القوم قددًا إذا تفرقت حالاتهم، قال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين. وقال الحسن: الجن أمثالكم، فمنهم قدرية، ومنهم مرجئة، ورافضة، وشيعة. وأنا ظننا علمنا وأيقنا، {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن: 12] لن نفوته إذا أراد بنا أمرًا، {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12] أي: أنه يدركنا حيث كنا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن: 13] القرآن، وما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آمنا به صدقنا أنه من عند الله، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا} [الجن: 13] نقصانًا من عمله وثوابه، ولا رهقًا ولا مكروهًا يغشاه. {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] وهم الذين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنا القاسطون الجائرون الظالمون، قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله ندًا. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] قصدوا طريق الحق، وقال الفراء: أموا الهدى. وأما القاسطون الذين عدلوا، وكفروا بربهم، {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وكانوا وقودًا للنار في الآخرة. ثم رجع إلى كفار مكة، فقال: وأن لو استقاموا على الطريقة. لو آمنوا، واستقاموا على الهدى، {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] كثيرًا، قال مقاتل: ماء كثيرًا من السماء، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين. وقال ابن قتيبة: لو آمنوا

جميعًا لوسعنا عليهم في الدنيا. وضرب الماء الغدق مثلًا، لأن الخير كله والرزق بالمطر يكون، وهذا كقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] الآية، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] الآية. لنفتنهم فيه لنختبرهم، فنعلم كيف شكرهم، {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} [الجن: 17] يعني: القرآن، نسلكه ندخله، عذابًا صعدًا شاقًا، والمعنى: ذا صعد، أي: ذا مشقة. قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا {20} قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا {21} قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا {22} إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا {23} حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا {24} } [الجن: 18-24] . {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] يعني: المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله، {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله، فأمر الله أن يخلص المسلمون له الدعوة إذا دخلوا مساجدهم. وقال سعيد بن جبير: المساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد. وهذا القول اختيار ابن الأنباري، قال: يقول: هذه الأعضاء التي يقع السجود عليها مخلوقة لله، فلا يسجدوا عليها لغيره. وقال الحسن: أراد البقاع كلها. يعني: أن الأرض كلها مواضع للسجود، وجعلت مسجدًا لهذه الأمة،

يقول: الأرض كلها مخلوقة لله، فلا يسجدوا عليها لغير خالقها. وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19] يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الجميع، وذلك حين كان يصلي ببطن نخلة، ويقرأ القرآن، يدعوه أي: يعبده، {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] كادوا يركبونه حرصًا على القرآن، وحبًا لاستماعه، قال الزجاج: ومعنى لبدًا: يركب بعضهم بعضًا. ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش، ومن قرأ: لبدًا بضم اللام، فهو بمعنى: الكثير، من قوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} [البلد: 6] ، وإنما قيل للكثير لبدا لركوب بعضه بعضًا. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن: 20] قال مقاتل: إن كفار مكة، قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك جئت بأمر عظيم لم نسمع بمثله، فارجع عنه. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن: 20] ومن قرأ قال حمل هذا على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجابهم بهذا، فقال: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا {20} قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} [الجن: 20-21] لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًا، ولا أسوق إليكم رشدًا، أي: خيرًا، يعني: أن الله يملك ذلك لا أنا. {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن: 22] إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 22] ملجأ وحرزًا، والملتحد معناه في اللغة: فمال، والمعنى: موضعًا أميل إليه في الالتجاء. {إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن: 23] أي: لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، قال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من عذابه. يعني: التبليغ، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الجن: 23] في التوحيد، فلم يؤمن، {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا {23} حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [الجن: 23-24] يعني: من العذاب

يوم القيامة، فسيعلمون عند نزول العذاب، {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} [الجن: 24] أهم أم المؤمنين؟ وأقل عددًا يعني: جندا وناصرًا. فلما سمعوا هذا، قال النضر بن الحارث: متى هذا الوعد الذي يوعدنا؟ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا {25} عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {27} لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا {28} } [الجن: 25-28] . {قُلْ إِنْ أَدْرِي} [الجن: 25] ما أدري، {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25] من العذاب، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن: 25] غاية وبعدًا، قال عطاء: يريد: أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده. والمعنى: أن علم وقت ذلك العذاب غيب، ولا يعلمه إلا الله، وهو قوله: عالم الغيب أي: ما غاب عن العباد، فلا يظهر فلا يطلع، علي غيبه على الغيب الذي يعلمه، أحدًا من الناس. ثم استثنى، فقال: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] يعني: الرسل، لأنه يستدل على نبوتهم بالآية المعجزة بأن يخبروا بالغيب، والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة والنبوة، فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه، وفي هذا دليل على أن من النجوم ما يدله على ما يكون من حادث، فقد كفر بما في القرآن، ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول، {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] أي: يجعل بين يديه وخلفه مرصدًا من الملائكة، يحوطون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فيلقوه إلى الكهنة، والرصد من الملائكة يدفعون الجن من أن يستمع ما ينزل من الوحي. ليعلم محمد،

{أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28] أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، كما بلغ هو، إذ كانوا محروسين من الشيطان، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] علم الله ما عند الرسل، فلم يخف عليه شيء، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] قال ابن عباس: أحصى ما خلق، وعرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر، والخردل.

تفسير سورة المزمل

تفسير سورة المزمل عشرون آية، مكية. 1249 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أيها المزمل رُفِعَ عَنْهُ الْعُسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا {2} نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا {4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا {5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلا {6} إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا {7} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا {8} رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا {9} } [المزمل: 1-9] . {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يتزمل بالثياب في أول ما جاءه جبريل فرقًا منه، حتى أنس به، وقال السدي: يعني: يأيها النائم، وكان قد تزمل للنوم. ومعنى التزمل: التلفف في الثوب، وخوطب بهذه الآية في أول ما بدئ بالوحي ولم يكن قد بلغ شيئًا، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول. قم الليل أي: للصلاة، وكان قيام الليل فريضة على الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: إلا قليلًا تقدير الآية: قم الليل، نصفه إلا قليلًا، أي: قم نصف الليل، أي: صل من الليل النصف إلا قليلًا، وهو قوله: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] أي: من النصف. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] على النصف، قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلًا إلى الثلث، أو زد على النصف قليلًا إلى الثلثين، جعل له سعة في مدة قيامه في الليل، وخيره في الساعات للقيام، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى؟ وكم بقي من الليل؟ فكان يقوم الليل كله، مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة. 1250 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ وقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: بينه بيانًا. قال الزجاج: والبيان لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. قال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إني رجل في قراءتي، وفي كلامي عجلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ البقرة أرتلها، أحب إلىّ من أن أقرأ القرآن كله. {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5] ليس على ثقل الحفظ له، ولكن ما قال الحسن: إنهم ليهذونه هذّا. ولكن العمل به ثقيل، وقال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال مقاتل: ثقيل لما فيه من الأمر والنهي، والحدود. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما

ثقل في الدنيا، يثقل في الموازين يوم القيامة. أخبرنا أبو سعد النصروي، أنا أبو العباس محمد بن إبراهيم المحاملي، أنا أحمد بن سلمة، أنا محمد بن عماد الرازي، نا سليمان بن حرب، نا جرير بن حازم، عن الحسن في قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5] قال: العمل به العمل به. قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] يعني: ساعات الليل وآناءه، قال الزجاج: ناشئة الليل: كل ما نشأ منه أي حدث فهو نائشة. قال المفسرون: الليل كله ناشئة. وقال عبد الله بن مسعود: هي بالحبشية قيام الليل. وهو قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، قال: هي بلسان الحبشة نشأ فلان إذا قام. وقالت عائشة، رضي الله عنها: الناشئة: القيام بعد النوم. قال ابن الأعرابي: إذا نمت من أول الليل ثم قمت، فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل. {هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6] أشد على المصلي من النهار، لأن الليل للنوم، قال ابن قتيبة: أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وطأة السلطان. إذا ثقل عليهم ما يلزمهم، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» . ومن قرأ

بكسر الواو والمد، فهو فعال من أوطأت فلانا على كذا موطأة، ووطأ إذا وافقته عليه، ومنه قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] قال ابن عباس: يواطئ السمع القلب. والمعنى: أن صلاة ناشئة الليل يواطئ السمع القلب فيها، أكثر مما يواطئ في ساعات النهار، لأن البال أفرغ للانقطاع عن كثير مما يشغل بالنهار، وأقوم قيلًا وأشد استقامة، وقال الكلبي: وأبين قولا بالقرآن. {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] فراغًا وسعة لتصرفك، وقضاء حوائجك، والمعنى: إن لك في النهار فراغًا للنوم، والتصرف في الحوائج، فصل من الليل، والتسبح التقلب، ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، قال ابن قتيبة: أي: تصرفًا، وإقبالًا، وإدبارًا في حوائجك وأشغالك. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] انقطع إليه في العبادة، وهو رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله، والبتل في اللغة: القطع وتمييز الشيء عن الشيء، وصدقة بتلة: منقطعة من مال صاحبها، والتبتل تفعيل منه، قال: بتله فتبتل. ومعنى تبتل إليه: بتل إليه نفسك، فلذلك جاء تبتيلًا. رب المشرق بالخفض بدلًا من قوله: اسم ربك، وبالرفع على الابتداء، وخبره: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9] أي: كفيلًا بما وعدك أنه سيفعله. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا {10} وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا {11} إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا {12} وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا {13} يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا {14} إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا {15} فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا

وَبِيلا {16} فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا {17} السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا {18} } [المزمل: 10-18] . {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10] لك من التكذيب، والأذى، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل: 10] لا جزع فيه، وهذا قبل الأمر بالقتال. وذرني والمكذبين أي: لا تهتم بهم، فإني أكفيكهم، أولي النعمة ذوي النعمة، ذوي الغنى، وكثرة المال، قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} [المزمل: 11] لم يكن إلا قليلًا، حتى كانت وقعة بدر. قوله: إن لدينا أي: عندنا في الآخرة، أنكالا واحدها: نكل، وهو القيد، قال الكلبي: أغلالا من حديد. وقال أبو عمران الجوني: هي قيود لا تحل. {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 13] لا يسوغ في الحلق، يعني: الزقوم، وقال عكرمة: شوك يأخذ بالحلق، لا يدخل ولا يخرج. قال الزجاج: يعني: الضريع، كما قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] . 1251 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرَائِضِيُّ، أنا طَاهِرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ، نا وَكِيعٌ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ حِمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قَارِئًا قَرَأَ {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] فَصُعِقَ، رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَكِيعٍ. أخبرنا أبو

نصر الجوزقي فيما أجاز لي، أنا محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ، نا محمد بن إسحاق الثقفي، نا حاتم بن الليث الجوهري، نا خالد بن خداش، نا صالح المري، عن خليد بن حسان الهجري، قال: أمسى الحسن صائمًا، فلما أتي بإفطاره، عرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا {12} وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 12-13] فقلصت يداه عن عشائه. فقال: ارفعوه. فرفع، فأصبح صائمًا، فلما أتي بإفطاره، عرضت له أيضًا هذه الآية فرفع، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني، ويزيد الضبي، ويحيى البكاء، وناس من أصحابه، فقال: أدركوا أبي فإنه لم يذق طعامًا منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه الطعام، عرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] فيتركه. فأتوه، فلم يزالوا به حتى سقوه شربة من سويق. ثم أخبر متى يكون ذلك، فقال: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14] تزلزل، وتتحرك، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا} [المزمل: 14] رملًا، مهيلًا سائلا، ويقال لكل شيء أرسلته إرسالا من رمل، أو تراب، أو طعام: هلته أهيله هيلًا. قال الكلبي: هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئًا، تبعك آخره. قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} [المزمل: 15] يعني: أهل مكة، رسولًا يعني: محمدًا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شاهدا عليكم بالتبليغ والبيان، وإيمان من آمن به وأجاب، وكفر من عصى، {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] موسى. {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ولم يجبه إلى ما دعاه إليه، {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [المزمل: 16] وهو الثقيل، الغليظ جدًا، والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، يعني: الغرق، يخوف كفار مكة. {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17] ولم تؤمنوا برسولكم، يومًا أي: عذاب يوم، {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] وصف لذلك اليوم وشدته، كما يقال: هذا أمر يشيب منه الوليد. إذا كان عظيمًا شديدًا، والمعنى: بأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم. ثم وصف من

هول ذلك اليوم، فقال: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] أي: لنزول الملائكة، كما قال: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] ، {كَانَ وَعْدُهُ} [المزمل: 18] بكل ما وعد من البعث، والحساب، مفعولًا كائن. {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {19} إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {20} } [المزمل: 19-20] . إن هذه يعني: آيات القرآن، تذكرة تذكير وموعظة، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [المزمل: 19] بالطاعة، والتصديق. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] أقل، {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] ومن نصب عطفه على الأدنى، وهو في موضع نصب، {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] يعني: المؤمنين، كانوا يقومون معه، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20] قال عطاء: يريد: لا يفوته علم ما يفعلون، أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي يقومونه من الليل. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] لن تطيقوه، قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] . وقال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فقال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] لن تطيقوا معرفة ذلك. فتاب عليكم فعاد عليكم بالعفو، والتخفيف، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} [المزمل: 20] يعني: في الصلاة من غير أن يوقت وقتًا، قال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. 1252 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَزْدِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ الْبَجَلِيُّ، نا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: صَلَيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ وَأَوَّلِ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قَامَ فِي الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ بِالْحَمْدِ، وَالآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ

مِنْهُ} [المزمل: 20] قال علي بن عمر: في هذا حجة لمن يقول: فاقرأ ما تيسر منه فيما بعد الفاتحة. ثم ذكر عذرهم، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] فلا يطيقون قيام الليل، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يعني: المسافرين للتجارة، يطلبون من رزق الله، فلا يطيقون قيام الليل، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يعني: المجاهدين، لا يطيقون قيام الليل، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] من القرآن، قال المفسرون: كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين، وثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة. وذلك قوله: وأقيموا الصلاة قال ابن عباس: يريد: هذه فريضة عليكم في أوقاتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20] قال ابن عباس: يريد: سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف. {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [المزمل: 20] يعني: من صدقة فريضة، أو تطوع، {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل: 20] تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم، وأعظم أجرًا مما تؤخره إلى وصيتك عند الموت. 1253 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، نا أَبِي، نا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِنْ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ واستغفروا الله لذنوبكم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [المزمل: 20] لذنوب المؤمنين، رحيم بهم.

تفسير سورة المدثر

تفسير سورة المدثر خمسون وست آيات، مكية. 1254 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَبَقَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبَ بِهِ بِمَكَّةَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7} فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ {8} فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ {9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ {10} } [المدثر: 1-10] . {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] 1255 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ «اقْرَأْ» ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلَ؟ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ «اقْرَأْ» ؟ فَقَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} } [المدثر: 1-2] قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، أتاه جبريل، فرآه رسول الله صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سرير بين السماء والأرض، كالنور المتلألئ، ففزع ووقع مغشيًا عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء فصبه عليه، وقال: دثروني. فدثروه بقطيفة، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنْذِرْ {2} } [المدثر: 1-2] كفار مكة العذاب، إن لم يوحدوا ربك. وربك فكبر فعظمه مما يقول له عبدة الأوثان. وثيابك فطهر قال قتادة، ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس. وقال عكرمة: يقول: البسها على غير غدرة، وغير فجرة. وقال: أما سمعت قول الشاعر: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع وهذا معنى قول من قال في هذه الآية: وعملك فأصلحه. قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب. وإذا كان فاجرًا: إنه لخبيث الثياب. وقال ابن سيرين، وابن زيد: أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز صلاة معها. وقال الزجاج: وثيابك فقصر، لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه. وهذا قول طاوس. والرجز فاهجر قال جماعة المفسرين: يريد: عبادة الأوثان فاهجر. والرجز معناه في

اللغة: العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزًا، لأنه سبب العذاب المؤدي إليه. {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] لا تعط شيئًا من مالك لتأخذ أكثر منه، ومعنى: ولا تمنن ولا تعط، قال المفسرون: لا تعط مالك مصانعة، لتعطى أكثر منه في الدنيا. أعط لربك وأرد به الله، وهذا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة أدبه الله تعالى بأشرف الآداب. ولربك فاصبر على طاعته، وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك، أي: لأجل ثوابه، وقال مقاتل: يعني: على الأذى والتكذيب. قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] أي: نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، يعني: النفخة الثانية. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] يعني: يوم النفخ في الصور، يوم عسير: يعسر فيه الأمر. {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] غير هين. {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا {12} وَبَنِينَ شُهُودًا {13} وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا {16} سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا {17} إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} } [المدثر: 11-30] . {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] أي: ومن خلقته في بطن أمه وحيدًا، لا مال له ولا ولد، يعني: الوليد

بن المغيرة، قال مقاتل: يقول: خل بيني وبينه، وأنا أنفرد بهلاكه. ثم ذكر أنه رزقه المال والولد، فقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا} [المدثر: 12] قال عطاء، عن ابن عباس: ما بين مكة إلى الطائف الإبل الموبلة، والخيل المسومة، والنعم المرحلة، وأحبة بالطائف، ومال وعين كثير، وعبيد وجواري. والأولى في تفسير الممدود: أن يكون ما يمد له بالزيادة والنماء كالزرع، والضرع، والتجارة، ويكون له مدد يأتي شيئًا بعد شيء، قال الزجاج: مال غير منقطع عنه. وبنين شهودًا أي: حضورًا معه بمكة، كانوا لا يسافرون ولا يحتاجون أن يتفرقوا ويغيبوا عنه، وكانوا عشرة. {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر: 14] بسطت له في العيش، وطول العمر. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر: 15] ثم يرجو أن أزيد في ماله، وولده. كلا لا أفعل، ولا أزيده، {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر: 16] معاندًا لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سأرهقه صعودًا سأكلفه مشقة من العذاب. 1256 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ السَّرَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، أنا شَرِيكٌ، عَنْ عَمَّارٍ الذهني، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] قَالَ: جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ، فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ، وَإِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ وقال الكلبي: هو جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف أن يصعدها، حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم تكلف أيضًا أن يصعدها، فذلك دأبه أبدًا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة. إنه فكر تفكر، ودبر ماذا يقول في القرآن، وقدر القول في

نفسه. فقتل لعن وعذب، كيف قدر قال صاحب النظم: معناه: لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع، أي: على أي حال كانت منه. {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] هذا تكرير للتأكيد. ثم نظر في طلب ما يدفع به القرآن، ويرده به. {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] كلح وكره وجهه، ونظر بكراهة شديدة، كالمهتم المتفكر في شيء. ثم أدبر عن الإيمان، واستكبر تكبر حين دعي إليه. {فَقَالَ إِنْ هَذَا} [المدثر: 24] ما هذا القرآن، {إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] يروى عن السحرة. أخبرنا أبو عمرو بن عبد العزيز، أنا محمد بن الحسين الحدادي، أنا محمد بن بريد الخالدي، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن سواء، نا روح بن القاسم، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن الوليد بن المغيرة قال لقريش: إن لي إليكم حاجة فاجتمعوا. قال: فاجتمعوا في دار الندوة، فقال لهم: إنكم ذوو أحساب وذوو أحلام، وإن العرب يأتونكم من كل قوم، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إنه شاعر. فعبس عندها، فقال: قد سمعنا الشعر، فما يشبه قوله للشعر. فقالوا: نقول: إنه كاهن. فقال: إذًا يأتونه فلا يجدونه يحدث به الكهنة. قالوا: نقول: إنه مجنون. فقال: إذًا يأتونه فلا يجدونه مجنونًا. فقالوا: نقول: إنه ساحر. قال: وما الساحر. قالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين. قال: فهو ساحر. فخرجوا، فجعل لا يلقى أحد منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قالوا: يا ساحر، يا ساحر. فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} } [المدثر: 24-25] . يعني: أنه كلام الإنس، وليس

من عند الله. قال الله تعالى: سأصليه سقر سأدخله النار، وسقر: اسم من أسماء جهنم. ثم ذكر عظيم شأنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 27] . ثم أخبر عنها، فقال: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر: 28] لا تبقي لهم لحمًا إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أعيدوا خلقًا جديدًا. لواحة للبشر مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لاحه السقم والحزن. إذا غيره. قال أبو رزين: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادًا من الليل. {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال المفسرون: يقول: على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألفًا فيرميهم حيث أراد من جهنم، ولما نزلت هذه الآية قال اللعين أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر، يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار. فقال أبو الأشدين، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة وأنا أمشي بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي ندخل الجنة. فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ

يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ {31} كَلَّا وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ {34} إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ {35} نَذِيرًا لِلْبَشَرِ {36} لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ {37} } [المدثر: 31-37] . {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} [المدثر: 31] يعني: خزانها، أي: فمن يطيق الملائكة، ومن يغلبهم؟ {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر: 31] أي: عددهم في القلة، {إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31] ضلالة لهم، حتى قالوا ما قالوا، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر: 31] لأن عدد الخزنة في كتابهم تسعة عشر، فيعلمون أن ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافق لما في كتابهم، فيستيقنوا صدقه، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] يعني: من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا وجدوا ما يخبرهم به من عدد الخزنة موافقًا لما في كتابهم، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدثر: 31] ولئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر: 31] شك، ونفاق، والكافرون مشركو العرب، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [المدثر: 31] أي شيء أراد الله بهذا الحديث والخبر؟ يعني: أنهم لا يصدقون بهذا العدد، وهذا الحديث الذي ذكره الله تعالى، والمثل يكون الحديث نفسه، أي: تقولون: ما هذا من الحديث؟ كذلك أي: كما أضل من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدق ذلك، {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] وأنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر: 31] وقال عطاء: يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله. والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار، لهم من الأعوان، والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله، ثم رجع إلى ذكر سقر، فقال: {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] تذكرة، وموعظة للعالم. ثم أقسم على عظم شأنهم، فقال: كلا أي: حقًا، {وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} } [المدثر: 32-33] ذهب، وهو مثل دبر في المعنى، يقال: دبر الليل وأدبر. إذا ولى ذاهبًا، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] أضاء، وتبين. إنها إن سقر، لإحدى الكبر قال مقاتل، والكلبي: أراد بالكبر: دركات جهنم وأبوابها، وهي سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية. أعاذنا الله منها، والكبر جمع الكبرى. {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36] قال الكسائي، والزجاج: هو حال من قوله: {قُمْ} [المدثر: 2] في أول

السورة { [. ورواه عطاء، عن ابن عباس، قال: يريد: قم نذيرًا للبشر. لمن شاء بدل من قوله: للبشر، أن يتقدم أي: في الخير والإيمان، أو يتأخر عنه، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن آمن، أو كفر. ] كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39} فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ {40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ {47} فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ {48} } [سورة المدثر: 38-48] . {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] مأخوذة بعملها، قال ابن عباس: مرتهنة في جهنم. {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39] وهم المؤمنون، قال الكلبي: هم الذين قال الله تعالى: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وهم الذين كانوا على يمين آدم. وقال مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، لا يرتهنون بذنوبهم في النار. وهو قوله: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ {40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} } [المدثر: 40-42] وما أدخلكم النار؟ فأجابوا عن أنفسهم، فقالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] لله في الدنيا، {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] لم نتصدق على المساكين، ولم نطعمهم في الله. {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] مع أهل الباطل في الباطل والتكذيب، قال قتادة: كلما غوى غاو، غوينا معه. {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46] الجزاء، والحساب. {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47] الموت. 1257 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا الْعَسْكَرِيُّ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَدْنَى أَهْلِ النَّارِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عَبْدِي أَتَفْتَدِي مِنِّي بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَيَقُولُ: نَعَمْ إِنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ كُنْتُ أَسْأَلُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي فَأُعْطِيَكَ

وَتَسْتَغْفِرَنِي فَأَغْفِرَ لَكَ وَتَدْعُوَنِي فَأَسْتَجِيبَ لَكَ، قَالَ ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا لَمْ يَخَفْنِي سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ قَطُّ وَلَمْ يَرْجُ مَا عِنْدِي قَطُّ، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابِي سَاعَةً قَطُّ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ، أَيْ مَاذَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} . قال: يقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] قال: بلغنا أن هذا بعد الشفاعة. قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: شفاعة الملائكة، والنبيين، كما نفعت الموحدين. وقال الحسن: لم تنفعهم شفاعة ملك، ولا شهيد، ولا مؤمن. وقال عمران بن حصين: الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون. 1258 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِىُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، أنا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَشْفَعُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ: جِبْرِيلُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى أَوْ عِيسَى، ثُمَّ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَشْفَعُ أَحَدٌ فِي أَكْثَرِ مِمَّا يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، وَيَبْقَى قَوْمٌ فِي جَهَنَّمَ فَيُقَالُ لَهُمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ، قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَبْقُونَ فِي جَهَنَّمَ. {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ {50} فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ {51} بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً {52} كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ {53} كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ {54} فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ {55} وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ {56} } [المدثر: 49-56] .

{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] يعني: كفار قريش، حين نفروا عن القرآن والتذكرة، والتذكير بمواعظ القرآن، والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة، إذ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به. ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة، فقال: كأنهم حمر يعني: الحمر الوحشية، مستنفرة نافرة، يقال: نفروا ستنفر. مثل: عجب واستعجب، وقرئ بفتح الفاء وهي بمعنى: مذعورة، يقال: استنفرت الوحش ونفرتها. {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] يعني: الأسد، في قول عطاء، والكلبي. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، كذلك هؤلاء المشركون، إذا سمعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ القرآن، هربوا منه. وقال الضحاك، ومقاتل: هم الرماة، رجال القنص. لا واحد له من لفظه. {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله بأنك رسوله، تؤثر فيه باتياءك. والصحف: الكتب، واحدتها: صحيفة، ومنشرة معناها: منشورة. كلا لا يؤتون الصحف، {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} [المدثر: 53] يعني: عذاب الآخرة، والمعنى: أنهم لو خافوا النار، لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة. كلا حقًا، إنه إن القرآن، تذكرة تذكير، وموعظة. {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] اتعظ به. ثم رد المشيئة إلى نفسه، فقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] . 1259 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْبُخَارِيُّ، نا بَشِيرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، نا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ:

{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلا يُجْعَلُ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا فَإِنِّي أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ وقال قتادة: أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب.

تفسير سورة القيامة

تفسير سورة القيامة أربعون آية، مكية. 1260 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقِيَامَةِ شَهِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَاءَ وَوَجْهُهُ مُسْفِرٌ عَلَى وُجُوهِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2} أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ {4} بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ {5} يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {6} فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ {7} وَخَسَفَ الْقَمَرُ {8} وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9} يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ {10} كَلَّا لا وَزَرَ {11} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {12} يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ {13} بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} } [القيامة: 1-15] . {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] معناه: أقسم، ولا صلة، وقال الفراء: لا رد على الذين أنكروا البعث، والجنة والنار. ويدل على أن المعنى إثبات القسم: قراءة من قرأ لأقسم، يجعلها لا ما دخلت على أقسم، قال ابن عباس: يريد: أقسم بيوم القيامة. وهو قول الجميع. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] قال الحسن: أقسم بالأولى، ولم يقسم بالثانية. وقال الآخرون: معناه: أقسم كالأول. قال الفراء: ليس من نفس برة، ولا فاجرة، إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا ازددت. وإن كانت عملت سوءا، قالت:

ليتني لم أفعل. وهذا قول عطاء، عن ابن عباس. وقال الحسن: هي النفس المؤمنة، لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال. قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ} [القيامة: 3] يعني: الكافر بالبعث، {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] قال ابن عباس: يريد: أبا جهل، يقول: أيحسب أن لن يبعث. بلى نجمعها، {قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] على ما كانت، وإن قل عظامها وصغرت، نردها كما كانت، ونؤلف بينها حتى يستوي البنان، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع أكابرها أقدر، وهذا قول، الزجاج، وابن قتيبة. والمفسرون يقولون: نجعلها كخف البعير، أو كحافر الدابة. والمعنى: نجعل بنانه مع كفه صفحة مستوية، لا شقوق فيها، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة، والخياطة. {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ} [القيامة: 5] يعني: الكافر، ليفجر أمامه يقدم الذنب، ويؤخر التوبة، والمعنى: يريد أن يعصي، ويكفر أبدًا ما عاش، قال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه. {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6] أي: متى يكون ذلك؟ تكذيبًا به. قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] فزع، وتحير لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها، قال الكلبي: وذلك عند رؤية جهنم، يبرق أبصار الكفار. والفتح في برق لغة. {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] ذهب ضوءه. {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] كالبعيرين القرينين، وقال مجاهد: كُورا يوم القيامة. وهو اختيار الفراء، والزجاج، قالا: جمعا في ذهاب نورهما. يقول الإنسان المكذب بيوم القيامة: أين المفر أين الفرار؟ ويجوز أن يكون الفرار موضع الفرار. قال الله تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة: 11] لا جبل، ولا حصن، ولا ملجأ من الله. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12]

المنتهى والمرجع. {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] بأول عمله وآخره، وقال قتادة: ما عمل من طاعة الله، وما آخر من طاعة الله، فلم يعمل به. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله، وما خلف للورثة. {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] يعني: أن جوارحه تشهد عليه بما عمل، فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه، قال الفراء: يقول: على الإنسان من نفسه بصيرة، يعني: رقباء يشهدون عليه بعمله: اليدان، والرجلان، والعينان، والذكر. ودخول الهاء في البصيرة، لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] ولو اعتذر، وجادل عن نفسه، لم ينفعه ذلك، يقال: معذرة ومعاذر ومعاذير. قال الفراء: أي: وإن اعتذر، فعليه من يكذب عذره. وقال الضحاك، والسدي: يعني: ولو أرخى الستور. وقال الزجاج: المعاذير: الستور، واحدها معذار. وقال المبرد: هي لغة يمانية. والمعنى على هذا القول: وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه. قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19} كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ {20} وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ {24} تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ {25} } [القيامة: 16-25] . {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حفظه، فكان إذا نزل عليه الوحي، يحرك لسانه وشفتيه، قبل فراغ جبريل عليه السلام من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفظ. فقال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ} [القيامة: 16] أي: بالوحي، أو بالقرآن، لسانك يعني: بالقراءة، لتعجل به أي: تأخذه، كما قال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] . {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة: 17] أي: نجمعه في صدرك، {وَقُرْءَانَهُ} [القيامة: 17] وقراءته عليك، أي: أن جبريل يقرؤه

عليك حتى تحفظه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] قال ابن عباس: فإذا قرأه جبريل. {فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18] أي: قراءته، والمعنى: اقرأه إذا فرع جبريل من قراءته، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا إذا نزل عليه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله تعالى. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أي: علينا أن نحفظه عليك، حتى تبين للناس بتلاوتك إياه، وقراءتك عليهم، وقال الزجاج: علينا أن ننزله قرآنا عربيًا، فيه بيان للناس. 1261 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أبو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا عُبَيْدَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُعَالِجُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً كَانَ يَتَلَقَّاهُ وَيُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ كَيْلا يَنْسَى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] يَقُولُ: لِتَعْجَلَ بِأَخْذِهِ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ} [القيامة: 17] إن علينا أن نجمعه في صدرك، فتقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18] يقول: إذا أنزلناه فاستمع له. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أي: نبينه بلسانك. فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله. رواه البخاري، ومسلم، عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن موسى بن أبي عائشة. قوله: كلا قال عطاء: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وببيانه. بل يحبون العاجلة يعني: كفار مكة يحبون الدنيا، ويعملون لها. ويذرون العمل للآخرة، فيؤثرون الدنيا عليها، وقرئ بالتاء على تقدير: قل لهم يا محمد: بل تحبون وتذرون. قوله عز وجل: وجوه يومئذ يعني: يوم القيامة، ناضرة ناعمة، غضة، حسنة، يقال: شجر ناضر، وروض ناضر. يقال: وجهه ينضر، ونضر ينضر، ونضره الله، وأنضره ونضره. والمفسرون يقولون: مضيئة، مشرقة، مسفرة. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد إلى الله ناظرة. وقال في رواية الكلبي: تنظر إلى الله

يومئذ، لا تحجب عنه. وقال مقاتل: تنظر إلى ربها معاينة. وقال الحسن: حق لها أن تنظر، وهي تنظر إلى الخالق. وقال الزجاج: نضرت بنعيم الجنة، والنظر إلى ربها عز وجل. 1262 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ ". 1263 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدَانُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُعَاوِيَةُ، نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ يَنْظُرُ فِي سُرُرِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: وَثُوَيْرُ وَإِنْ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ، فَلَمْ يُنْقَمْ عَلَيْهِ غَيْرُ التَّشَيُّعِ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] كالحة، عابسة، كئيبة، مصفرة. {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] تستيقن أن يعمل بها عظيم من

العذاب، والفاقرة: الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر، قال ابن زيد: هي دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية ربها، فلا تنظر إليه. قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ {26} وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ {27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ {28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ {29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ {30} فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {32} ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى {33} } [القيامة: 26-33] . كلا أي: لا يؤمن الكافر بهذا، إذا بغلت النفس، أو الروح، التراقي جمع ترقوة، وهي: عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عند الإشراف على الموت. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] طبيب يرقي، ويشفي برقيته، قال قتادة: التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا. {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة: 28] أيقن الذي بلغت روحه تراقيه، أنه الفراق من الدنيا. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] قال عطاء: شدة الموت بشدة الآخرة. وقال المفسرون: تتابعت عليه الشدائد. وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت. وقال الحسن: هما ساقاه إذا لفتا في الكفن. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] هو مرجع العباد إلى الله تعالى، يساقون إليه. قوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] يعنى: أبا جهل، يقول: لم يصدق بالقرآن، ولا صلى لله. ولكن كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} [القيامة: 33] رجع إليهم، يتمطى يتبختر، ويختال في مشيه.

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى {36} أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى {37} ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى {38} فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {39} أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى {40} } [القيامة: 34-40] . {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] هذا تهديد من الله لأبي جهل، والمعنى: وليك المكروه يا أبا جهل وقرب منك. قال المفسرون: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد أبي جهل، ثم قال له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} } [القيامة: 34-35] توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني، لا تستطيع أنت، ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعز أهل هذا الوادي. فأنزل الله تعالى كما قال له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1264 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] أَشَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى ". أيحسب الإنسان يعني: أبا جهل، {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] هملا، ولا يؤمر، ولا ينهى، ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدى معناه: المهمل. ألم يك هذا الإنسان في ابتداء خلقه، نطفة، {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] يصب في الرحم، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث النطفة. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ} [القيامة: 38] فيه الروح، فسوى خلقه. {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [القيامة: 39] خلق من مائه أولادا: ذكورًا، وإناثًا. أليس ذلك الذي فعل هذا، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] وهذا تقرير لهم، أي: من قدر على الابتداء، قدر على البعث بعد الموت. 1265 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو بَكْرٍ

الْقَطِيعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ الصَّفَّارُ، نا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ الطَّوِيلُ جَلِيسٌ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَكَ وَبَلَى» . 1266 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إذا قَرَأَ أَحَدُكُمْ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ وَبَلَى.

تفسير سورة الإنسان

تفسير سورة الإنسان إحدى وثلاثون آية، مدنية. 1267 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ هَلْ أَتَى كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى اللَّهِ جَنَّةً وَحَرِيرًا» . بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا {1} إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {3} } [الإنسان: 1-3] . هل أتى قال المفسرون، وأهل المعاني: قد أتى، فهل ههنا خبر، وليس باستفهام. على الإنسان يعني: آدم، {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] قدر أربعين سنة، {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] لا في السماء، ولا في الأرض، يعني: أنه كان جسدًا ملقى من طين، قبل أن ينفخ فيه الروح، قال عطاء، عن ابن عباس: إنما تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة. وسمع عمر بن الخطاب رجلًا يقرأ هذه الآية، فقال: ليت ذلك تم. يعني: ليته بقي على ما كان عليه. فكان لا يلد، ولا يبتلى بأولاده. {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان: 2] يعني: ولد آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] أخلاط، وأحدها: مشج، وهو شيئان مخلوطان، يعني: اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة، أحدهما أبيض والآخر أصفر، فما كان من عصب، وعظم، وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم، ودم، وشعر، فمن ماء المرأة، وتم الكلام، ثم قال: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] قال الفراء: المعنى: جعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه. ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر. قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] قال عطاء: بينا له سبيل الهدى. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] إما موحدًا طائعًا لله، وإما مشركًا بالله في عمله، والمعنى: أنه بين له سبيل التوحيد

بنصب الأدلة، وبعث الرسل، شكر الإنسان فآمن، أو جحد فكفر. ثم بين ما أعد للكافرين، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا {4} إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا {5} عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا {6} يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا {9} إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا {10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا {11} وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا {12} } [الإنسان: 4-12] . {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} [الإنسان: 4] يعني: في جهنم، كقوله تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} [الحاقة: 32] الآية، وتقرأ: سلاسلًا بالتنوين، وكذلك قواريرًا و {قَوَارِيرَا} [الإنسان: 15] وفيه وجهان: أحدهما: أن من العرب من يصرف جميع ما لا ينصرف، وهو لغة الشعر، إلا أنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت على ألسنتهم كذلك، والآخر: أن هذا الجمع أشبه الآحاد، لأنهم قالوا: صواحبات يوسف. ويقولون: مواليات. في جمع الموالي، فمن حيث جمعوه جمع الآحاد المنصرفة، جعلوه في حكمها، فصرفوه، وقوله: وأغلالًا يعني: في أيديهم تغل إلى أعناقهم، وسعيرًا وقودًا شديدًا. ثم ذكر ما أعد للشاكرين، فقال: إن الأبرار يعني: المطيعين لله، {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5] من إناء فيه شراب، {كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] ما يمازجها، كافورًا قال

عطاء، والكلبي: هو اسم عين ماء في الجنة. وقال مقاتل، ومجاهد: يعني: الكافور الذي له رائحة طيبة، يمازجه ريح الكافور، وليس ككافور الدنيا. ويدل على صحة القول الأول قوله: عينًا قال الفراء: وهي كالمفسرة للكافور. وقال الأخفش: نصب {عَيْنًا} [الإنسان: 6] على وجه المدح، على أعني عينًا. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى من عين يشرب بها عباد الله. قال ابن عباس: أولياء الله. {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] يفجرون تلك العين، بحيث يريدون يقودونها حيث شاءوا، قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] هذا من صفاتهم في الدنيا، أي: كانوا في الدنيا كذلك يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج، وهو قول قتادة، ومجاهد، ومعنى النذر في اللغة: الإيجاب، والمعنى: ما أوجبه الله تعالى عليهم من الطاعات، وقال عكرمة: إذا نذروا في طاعات الله وفوا به. {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] فاشيًا، منتشرًا، يقال: استطار الحريق. إذا انتشر، واستطار الصبح، إذا انتشر ضوءه، قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السموات: فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس والقمر، وفي الأرض: فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل، وبناء، ففشا شر يوم القيامة فيهما. قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] على حب الطعام، والمعنى: يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه، وصفهم الله تعالى بالأثرة على أنفسهم. 1268 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عُبَيْدَةُ، نا هِشَامٌ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ إِلا أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا أَخَاهُ عَلَى عُرْيٍ إِلا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظِمَاءٍ مَاءً سَقَاهُ اللَّهُ الرَّحِيقَ» . وقوله: مسكينًا يعني: فقيرًا، لا مال له، ويتيمًا لا أب له، وأسيرًا قال عطاء،

عن ابن عباس، وذلك أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أجر نفسه يسقي نخلًا بشيء من شعير ليله حتى أصبح، فلما أصبح وقبض الشعير، طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، يقال له: الحريرة، فلما تم إنضاجه أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم انضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه، ثم عمل الثالث الباقي، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. وهذا قول الحسن، وقتادة: أن الاسير كان من أهل الشرك.

وقال أهل العلم: الآية تدل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من غير أهل ملتنا، حسن يرجى ثوابه، فأما فريضة الكفارات والزكوات، فلا يجوز وضعها في فقراء المشركين. وقال عطاء، وسعيد بن جبير: الأسير هو المسجون من أهل القبلة. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] قال المفسرون: إنهم لن يتكلموا بهذا، ولكن علمه الله تعالى من قلوبهم، فأثنى به عليهم وعلم من نياتهم، أنهم فعلوا ذلك خوفًا من الله، ورجاء ثوابه. ومعنى: لوجه الله لطلب رضا الله، وخاصة لله مخلصًا من الرياء، وطلب الجزاء، وهو قوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وهو مصدر القعود، والخروج. {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا} [الإنسان: 10] قال مقاتل، والكلبي: تعبس فيه الوجوه، من هول ذلك اليوم، فلا تنبسط. قمطريرًا يقبض الوجوه، والجباه بالتعبيس، وقال الفراء، وأبو عبيدة، والمبرد: يوم قمطرير وقماطر، إذا كان صعبًا شديدًا. {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان: 11] بما أطاعوه في الدنيا، ولقاهم نضرة حسنًا، وبياضًا في الوجوه، وسرورًا لا انقطاع له. {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان: 12] على طاعته، واجتناب معصيته، جنة وحريرًا يعني: لباس أهل الجنة. {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا {13} وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا {14} وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15} قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا {16} وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا {17} عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا {18} } [الإنسان: 13-18] . {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الإنسان: 13] مفسر في { [الكهف،] لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [سورة الإنسان: 13] لا يجدون الحر، والبرد، وقال

مقاتل: يعني: شمسًا يؤذيهم حرهم، ولا زمهريرًا يؤذيهم برده. لأنهما يؤذيان في الدنيا، والزمهرير: البرد الشديد. {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} [الإنسان: 14] قال مقاتل: يعني: شجرها قربت منهم. {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} [الإنسان: 14] قال ابن عباس: إذا همّ أن يتناول من ثمارها، نزلت إليه حتى يتناول منها ما يريد. والمعنى قريب منهم، مذلل كيف شاءوا، كقوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] . {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} [الإنسان: 15] أقداح، لا عرى لها، كانت قواريرا أي تلك الأكواب هي قوارير، يعني: الزجاج قوارير من فضة، قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من الفضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير. قال الزجاج: القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله أن تلك القوارير أن أصلها من فضة، ويرى من خارجها ما في داخلها. قدروها تقديرًا قدروا الكأس على قدر ريهم، لا يزيد ولا ينقص من الري، وهو ألذ الشراب، والضمير في قدروا للسقاة والخدم الذين يسقونهم يقدرونها، ثم يسقون، وقال القرطبي: أي: كانت كما يشتهون، يعني: أن الأكواب على ما اشتهوا لم يعظم، ولم يثقل الكف حملها. ويسقون يعني: أهل الجنة في الجنة، {كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} [الإنسان: 17] قال مقاتل: لا يشبه زنجبيل الدنيا. وقال ابن عباس: كلما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له مثل في الدنيا. ولكن الله سماه بالاسم الذي يعرف، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه جدًا، فلذلك ذكره الله تعالى في القرآن، ووعدهم أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة. {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا} [الإنسان: 18] يقول: يمزج الخمر بالزنجبيل، والزنجبيل من عين تسمى تلك العين سلسبيلًا، قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن. وقال الزجاج: سلسبيل صفة لما كان في غاية السلاسة. والمعنى: أنها سلسة تتسلسل في الحلق، لذلك سميت سلسبيلًا.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا {19} وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا {20} عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا {21} إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا {22} } [الإنسان: 19-22] . {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان: 19] سبق تفسيره، وقد وصف الله تعالى في هذه ال { [الأقداح وما فيها من الشراب، والسقاة الذين يطوفون بها، وهو قوله:] إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [سورة الإنسان: 19] قال عطاء: يريد في بياض اللؤلؤ، وحسنه. واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظومًا، وقال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفًا لشبهوا بالمنظوم. قوله: وإذا رأيت أي: إذا رميت ببصرك، ونظرت، ثم يعني: الجنة، رأيت نعيمًا لا يوصف، وملكًا كبيرًا قال مقاتل، والكلبي: هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليهم إلا بإذنهم. {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} [الإنسان: 21] من نصب عاليهم جعله ظرفًا، بمنزلة قولك فوقهم ثياب سندس، ويجوز أن تكون نصبًا على الحال من

قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان: 12] ومن أسكن الياء كان في موضع رفع بالابتداء، وخبره: ثياب سندس، خضر بالرفع صفة لقوله: ثياب وبالخفض صفة لقوله: سندس وهو إن كان واحدًا أريد به الجنس، وإستبرق فيه الجر والرفع أيضًا، فالجر من حيث عطف على السندس، ومن رفع أراد العطف على الثياب، وهذه الآية مفسرة في { [الكهف،] وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [سورة الإنسان: 21] قال الفراء: يقول طهور ليس بنجس كما كانت في الدنيا مذكورة بالنجاسة. والمعنى: أن ذلك الشراب طاهر، ليس كخمر الدنيا، قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش، وغل، وحسد. وقال أبو قلابة، وإبراهيم: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بذلك بطونهم، ويغيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك. إن هذا يعني: ما وصف من نعيم أهل الجنة، {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 22] بأعمالكم، وكان سعيكم عملكم في الدنيا بطاعة الله، مشكورًا قال عطاء: يريد شكرتكم عليه، وأثبتكم أفضل الثواب. قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلا {23} فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا {25} وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا {26} إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا {27} نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا {28} } [الإنسان: 23-28] .

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلا} [الإنسان: 23] يعني: فصلناه في الإنزال، فلم ننزله جملة واحدة. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24] مفسر في مواضع، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الإنسان: 24] من مشركي مكة، آثما يعني: عتبة بن ربيعة، أو كفورًا يعني: الوليد بن المغيرة، قالا له: ارجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال، والتزويج. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [الإنسان: 25] اذكره بالتوحيد في الصلاة، بكرة وأصيلًا يعني: الفجر والعصر. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26] يعني: المغرب والعشاء، {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] يعني: التطوع بعد المكتوبة. إن هؤلاء يعني: كفار مكة، يحبون العاجلة الدار العاجلة، وهي الدنيا، ويذرون وراءهم يعني أمامهم، يومًا ثقيلًا عسيرًا، شديدًا، والمعنى: يتركونه، فلا يؤمنون به، ولا يعملون له. ثم ذكر قدرته، فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] الأسر: شدة الخلق، يقال: شدد الله أسر فلان. أي: قوى خلقه، قال الحسن: يعني: أوصالهم بعضًا إلى بعض بالعروق والعصب. وروي عن مجاهد، أنه قال في تفسير الأسر: الشرج، يعني: موضعي مصرفي البول والغائط، إذا خرج الأذى تقبضتا. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا} [الإنسان: 28] إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلًا منهم. {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا {29} وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {30} يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {31} } [الإنسان: 29-31] . إن هذه ال { [، تذكرة تذكير وموعظة،] فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [سورة الإنسان: 29] بالإيمان، والطاعة. {وَمَا تَشَاءُونَ} [الإنسان: 30] اتخاذ السبيل، {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ذلك لكم، قال الزجاج: أي: لستم تشاءون إلا بمشيئة الله. {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] قال عطاء: من صدق نيته، أدخله جنته. والظالمين المشركين من كفار مكة، {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] .

تفسير سورة المرسلات

تفسير سورة المرسلات خمسون آية، مكية. 1269 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْمُرْسَلاتِ كُتِبَ لَيْسَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا {1} فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا {2} وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا {3} فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا {4} فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا {5} عُذْرًا أَوْ نُذْرًا {6} إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ {7} فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ {8} وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ {9} وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ {10} وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ {11} لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ {12} لِيَوْمِ الْفَصْلِ {13} وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ {14} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {15} } [المرسلات: 1-15] . والمرسلات عرفًا يعني: الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس. فالعاصفات عصفًا يعني: الرياح الشديدة الهبوب. والناشرات نشرًا يعني: الرياح التي تأتي بالمطر، وهي تنشر السحاب. فالفارقات فرقًا يعني: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وقال مجاهد: هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده. وقال قتادة: هي آي القرآن، فرقت بين الحق والباطل، والحلال والحرام. وهو قول الحسن. فالملقيات ذكرًا يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء. عذرًا أو نذرًا أي: للإعذار أو الإنذار، ومن أول ال { [إلى ههنا أقسام ذكرها الله تعالى على قوله: إنما توعدون أي: من أمر الساعة والبعث، لواقع لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال:] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [سورة المرسلات: 8] محي نورها. {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9] شقت. {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات: 10] قلعت من مكانها، كقوله تعالى: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] . {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] الهمزة في أقتت بدل من الواو المضمومة، وكل واو

انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز إبدالها بالهمزة، كقولهم: أجوه وأدور. ومن قرأ بالواو فهو على الأصل ولم يبدله، والمعنى: جمعت لوقتها، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم، وهو قوله: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} [المرسلات: 12] أي: أخرت، وضرب لهم الأجل لجمعهم يعجب العباد من ذلك اليوم. ثم بين، فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 13] قال ابن عباس: يوم يفصل الرحمن بين الخلائق. ثم عظم ذلك اليوم، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات: 14] . ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم، فقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] . ثم أخبر بما فعل بالكفار من الأمم الخالية، فقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ {16} ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ {17} كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {18} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {19} أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ {20} فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ {21} إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ {22} فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ {23} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {24} أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا {25} أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا {26} وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا {27} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {28} } [المرسلات: 16-28] . {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} [المرسلات: 16] قال مقاتل: يعني: بالعذاب في الدنيا، حين كذبوا رسلهم. {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} [المرسلات: 17] يعني: كفار مكة حين كذبوا بمحمد. كذلك الذي فعلنا بمن تقدم من الأمم، نفعل بالمجرمين بالمكذبين من أهل مكة. ثم ذكر بدو خلقهم، فقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] يعني: النطفة. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 21] يعني الرحم. {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات: 22] يعني: مدة الحمل. فقدرنا قال الكلبي: يعني: خلقه كيف يكون قصيرًا أو طويلًا، ذكرًا أو أنثى. وفيه قراءتان: التخفيف والتشديد، قال الفراء: والمعنى فيهما واحد. ومعنى: فنعم القادرون المقدرون. ثم بين لهم صنعه ليعتبروا، فيوحدوه، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] معنى الكفت في اللغة: الضم والجمع، يقال: كفت الشيء. إذا ضمه وجمعه، ومن هذا يقال للجراب والقدر: كفت. قال الفراء: تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم، ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها، أي: تحوزهم. وهو قوله: أحياء وأمواتًا وهذا قول جماعة المفسرين. {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [المرسلات: 27] جبالًا ثوابت، شامخات عاليات، وكل عال فهو شامخ، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] تقدم تفسير هذا في آيتين، قال

مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث. قال الله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 28] أي: بالبعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة، فقال: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {29} انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ {30} لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ {31} إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ {32} كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ {33} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {34} هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ {35} وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {36} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {37} هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ {38} فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ {39} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {40} } [المرسلات: 29-40] . {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات: 29] تقول لهم الخزنة: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون في الدنيا. {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} [المرسلات: 30] من دخان نار جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وهو قوله: {ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] فكونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب. ثم وصف ذلك الظل، فقال: لا ظليل لا يظل من الحر، {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] لا يدفع عنكم من حره شيئًا، قال الكلبي: لا يرد لهب جهنم عنكم، والمعنى: أنهم إذا استظلوا بذلك الظل، لم يدفع عنهم حر اللهب. ثم وصف النار، فقال: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] يقال: شررة وشرر. وهي ما تطاير من النار متفرقًا، والقصر: البناء العظيم كالحصن، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، فقال: كَأَنَّهُ جِمَالات صُفْرٌ وهي جمع جمال، من قرأ جمالة فهو جمع جمل، كما قالوا: حجر وحجارة. والصفر معناها: السود في قول المفسرين. قال الفراء: الصفر سود الإبل، لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرًا. قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] قال المفسرون: إن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواهم فلا يتكلمون. أخبرنا أبو عمرو بن المروزي، فيما كتب إليّ، أن أبا الفضل الحدادي، أخبرهم عن محمد

بن يزيد، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن قتادة، قال: جاء رجل إلى عكرمة، فقال: أرأيت قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] . قال: إنها مواقف منها، فتكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون، وهو قوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] . وهذا يوم الفصل بين أهل الجنة والنار، جمعناكم يعني: مكذبي هذه الأمة، والأولين الذين كذبوا أنبياءهم. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39] قال مقاتل: يقول: إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكرالمؤمنين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ {41} وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ {42} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {43} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {44} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {45} كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ {46} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {47} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ {48} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {49} فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ {50} } [المرسلات: 41-50] . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ} [المرسلات: 41] الشجر، وظلال أكنان القصور، وعيون ماء. {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 42] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] في الدنيا بطاعتي. ثم قال لكفار مكة: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا} [المرسلات: 46] أي: في الدنيا إلى منتهى آجالكم، {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46] مشركون بالله. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] إذا أمروا بالصلوات الخمس، لا يصلون. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] يقول: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب يصدقون، ولا كتاب بعد القرآن؟

تفسير سورة النبإ

تفسير سورة النبإ أربعون آية، مكية. 1270 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عُمَرَوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرْدَ الشَّرَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ {1} عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ {2} الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ {3} كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {4} ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {5} أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا {6} وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا {7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا {8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا {11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا {12} وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا {13} وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا {15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا {16} } [النبأ: 1-16] . {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] أصله: عن ما، فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف ما، كقولهم: فيم وبم. قال المفسرون: لما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرهم بتوحيد الله، والبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم، فيقولون: ماذا جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما الذي أتى به؟ فأنزل الله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] . قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى: تفخيم القصة، كما تقول: أي شيء زيد؟ إذا عظمت شأنه. ثم ذكر أن يسألهم عما ذا فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2] وهو: القرآن في قول الجميع. ومعناه: الخبر العظيم الشأن، لأنه ينبئ على التوحيد، وتصديق الرسول، والخبر عما يجوز وعما لا يجوز، وعن البعث والنشور، وقال الضحاك: يعني نبأ يوم القيامة. ويدل على أن المراد به القرآن، قوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 3] وذلك أنهم اختلفوا في القرآن، فجعله

بعضهم سحرًا، وبعضهم كهانة وشعرًا، وبعضهم أساطير الأولين. ثم أوعد الله من كذب بالقرآن، فقال: كلا وهو نفي لاختلافهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا، سيعلمون عاقبة تكذيبهم، حين تنكشف الأمور. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 5] وعيد على أثر وعيد. ثم ذكر صنعه، ليعرفوا توحيده، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] فراشًا، وبساطًا، والجبال أوتادًا للأرض حتى لا تميد. 1271 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا حَامِدُ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُقْرِئُ، نا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ مَدَّ الْأَرْضَ حَتَّى بَلَغَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قَالَ: وَكَانَتْ هَكَذَا تَمِيدُ، وَأَرَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] وَكَانَ أَبُو قُبَيْسٍ مِنْ أَوَّلِ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ. وخلقناكم أزواجًا ذكرانًا وإناثًا. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] قال الزجاج: السبات هو أن ينقطع عن الروح والحركة في بدنه، أي: جعلنا نومك راحة لكم. وقال ابن الأنباري: جعلنا نومك قطعًا لأعمالكم، لأن أصل السبت القطع. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] ساترًا بظلمته ستر اللباس من الثوب. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] المعاش: العيش، وكل شيء يعاش به فهو معاش، والمعنى: وجعلنا النهار مبتغى معاش، أو مطلب معاش، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: تبتغون فيه من فضل ربكم، وما قسم لكم فيه من رزقه. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] يريد: سبع سموات، غلظ كل واحدة مسيرة خمس مائة عام. {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] يعني: الشمس، قال الزجاج: الوهاج: الوقاد، وهو الذي وهج، يقال: وهجت تهج، وهجًا ووهجانًا.

قال مقاتل: جعل فيه نورا وحرًا، والوهج يجمع النور والحرارة. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ: 14] قال مجاهد، ومقاتل، والكلبي، وقتادة: يعني الرياح. وقال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير. ومن معناه الباء، كأنه قال: بالمعصرات، وذلك أن الريح تستدر المطر. وقال أبو العالية، والربيع، والضحاك: هي السحاب. وهي رواية الوالبي، عن ابن عباس. قال الفراء: المعصر: السحابة التي تتجلب المطر. وقوله: ماء ثجاجًا أي: صبابًا، يقال: ثج الماء يثج ثجوجًا. إذا انصب. لنخرج به أي: بذلك الماء، حبًا وهو ما يأكله الناس، ونباتًا ما تنبته الأرض، مما يأكل الناس، والأنعام. وجنات ألفافًا ملتفة من الشجر، واحدها: لف، بالكسر، وقال أبو العباس: واحدها لفا: وحمعها لف. ثم يجمع ألفافًا. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا {17} يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا {18} وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا {19} وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا {20} إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا {21} لِلطَّاغِينَ مَآبًا {22} لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا {23} لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا {24} إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا {25} جَزَاءً وِفَاقًا {26} إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا {27} وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا {28} وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا {29} فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا {30} } [النبأ: 17-30] . {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [النبأ: 17] يوم القضاء بين الخلق، {كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 17] لما وعد الله من الثواب، والعقاب. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18] زمرًا من كل مكان للحساب. وفتحت السماء لنزول الملائكة، فكانت أبوابًا أي: ذات أبواب. {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20] عن أماكنهم، فكانت سرابًا أي: هباء منبثًا لعين الناظر، كالسراب بعد شدتها وصلابتها. {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] قال الزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو. وقال المبرد: مرصادًا يرصدون به، أي: هو معد لهم، يرصد بها خزنتها الكفار. ثم بين أنها مرصاد لمن، فقال: {لِلطَّاغِينَ} [النبأ: 22] قال ابن عباس: للمشركين الضالين. {مَآبًا} [النبأ: 22] مرجعًا يرجعون إليه. {لابِثِينَ فِيهَا} [النبأ: 23] وقرأ حمزة لبثين فيها وهما بمعنى واحد، مثل

طمع وطامع، وفره وفاره، أحقابًا واحدها حقب، وهو ثمانون سنة، وقد مضى الكلام فيه، قال المفسرون: الحقب الواحد بضع وثمانون سنة، السنة ثلاث مائة وستون يومًا، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا. وقال الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدة، بل قال: {أَحْقَابًا} [النبأ: 23] فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب، دخل آخر ثم آخر، كذلك إلى الأبد. 1272 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ كوهي بْنُ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ هُوَ الْبَصْرِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَالْحُقْبُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَالسَّنَةُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فلا يَتَّكِلْنَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ» . 1273 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الْأَوْدِيُّ، نا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَفَعَهُ قَالَ: لَوْ عَلِمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي النَّارِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَفَرِحُوا، وَلَوْ عَلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي الْجَنَّةِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَحَزِنُوا {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ: 24] قال ابن عباس: يريد النوم والماء.

وقال مقاتل: لا يذوقون في جهنم بردًا ينفعهم من حرها، ولا شرابًا ينفعهم من عطشها. {إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] تقدم تفسيرها. {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] قال مقاتل: وافق عذاب النار الشرك، لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الزجاج: أي: جوزوا جزاء وفق أعمالهم. ثم أخبر عنهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ: 27] لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى: كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا بأنهم يحاسبون. {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [النبأ: 28] بما جاءت به الأنبياء، كذابًا تكذبيًا، وفعال من مصادر التفعيل، قال الفراء: هي لغة فصيحة يمانية، قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلق أحب إليك أم القصار؟ {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] أي: وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] . فذوقوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون، فلن نزيدكم إلا عذابًا. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا {31} حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا {32} وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا {33} وَكَأْسًا دِهَاقًا {34} لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا {35} جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا {36} } [النبأ: 31-36] . إن للمتقين الذين لم يجعلوا لله شريكًا، مفازًا فوزًا بالجنة، ونجاة من النار. ثم فسر ذلك الفوز، فقال: حدائق وأعنابًا يعني: أشجار الجنة، وثمارها، وكواعب جواري تكعبت ثديهن، أترابًا مستويات في السن. وكأسًا دهاقًا ممتلئة. 1274 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نِسْطَاسٍ،

قَالَ: دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلامًا، فَقَالَ: اسْقِنَا دِهَاقًا فَجَاءَ الْغُلامُ بِهَا مَلْأَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الدِّهَاقُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُتَتَابِعَةُ. أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] قال: ممتلئة. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [النبأ: 35] يعني: في الجنة إذا شربوها، {لَغْوًا} [النبأ: 35] باطلًا من الكلام، ولا كذابًا ولا يكذب بعضهم بعضًا، قال ابن عباس: وذلك أن أهل الدنيا، إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتكلموا عليها بشيء يكرهه الله عز وجل. وروي عن الكسائي التخفيف في هذه الآية، قال الفراء: وهو حسن المعنى، لا يكذب بعضهم بعضًا. قال أبو عبيدة: الكذاب: مخفف مصدر المكاذبة. وقال أبو علي: هو مصدر كذب، كالكتاب في مصدر كتب. {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ: 36] قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء. وكذلك: {عَطَاءً} [النبأ: 36] أي: وأعطاهم عطاء، {حِسَابًا} [النبأ: 36] قال أبو عبيدة: كافيًا. وقال ابن قتيبة: كثيرًا، يقال: أحسبت فلانًا. أي: أكثرت له وأعطيته ما يكفيه. قال الزجاج: أي في ذلك الجزاء كل ما يشتهون. {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا {37} يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا {38} ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا {39} إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا {40} } [النبأ: 37-40] . {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 37] فيه ثلاثة أوجه من القراءة: رفعهما بالقطع من الخبر الذي قبله رب السموات ابتداء، الرحمن خبره، وخفضهما باتباع الجر الذي قبلهما، وهو قوله: من ربك، ومن خفض الأول أتبعه الجر الذي قبله، واستأنف بقوله: الرحمن، وجعل لا يملكون في

موضع خبره، ومعنى: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ: 37] قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38] أي: في ذلك اليوم، قال مجاهد، وقتادة، وأبو صالح: الروح خلق من خلق الله عز وجل على صورة بني آدم، وليسوا بناس يقومون صفًا والملائكة صفًا، هؤلاء جند وهؤلاء جند. وقال عطاء، عن ابن عباس: الروح ملك من الملائكة، ما خلق الله مخلوقًا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفًا، وقامت الملائكة كلهم صفًا واحدًا، فيكون عظم صفه مثل صفوفهم. لا يتكلمون يعني: الخلق كلهم، {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38] وهم: المؤمنون، والملائكة، وقال في الدنيا، صوابًا أي: شهد بالتوحيد، وقال: لا إله إلا الله. {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39] الكائن، الواقع، يعني: يوم القيامة، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39] مرجعًا بالطاعة، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته. ثم خوف كفار مكة، فقال: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] يعني: العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] يعني: أن كل أحد يرى عمله في ذلك اليوم، ما قدم من خير وشر مثبتًا عليه في صحيفته، فيرجو ثواب الله على صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله، وأما الكافر فإنه يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] قال الحسن: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة، فقضى بين الثقلين الجن والإنس، وأنزلهم منازلهم، قال لسائر الخلق: كونوا ترابًا. فكانوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا. وقال الزجاج: وقيل: إن معنى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] أي: ليتني لم أبعث.

تفسير سورة النازعات

تفسير سورة النازعات أربعون وست آيات، مكية. 1275 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ والنازعات لَمْ يَكُنْ حَبْسُهُ أَوْ حِسَابُهُ فِي الْقِيَامَةِ إِلا كَقَدْرِ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا {1} وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا {2} وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا {3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا {4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا {5} يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ {9} يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً {11} قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ {12} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ {14} } [النازعات: 1-14] . والنازعات غرقًا يعني: الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المد، والغرق اسم أقيم مقام الإغراق. والناشطات نشطًا هم الملائكة، ينشطون روح الكافر من قدميه إلى حلقه نشطًا، كما ينشط الصوف من سفود الحديد، والنشط الجذب، يقال: نشطت الدلو نشطًا. إذا نزعتها. والسابحات سبحًا يعني: الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلًا رفيقًا، ثم يدعونها حتى تستريح، كالسابح بالشيء في الماء يرفق به، وقال أبو صالح، ومجاهد: هم: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كالفرس الجواد السابح. فالسابقات سبقًا هم الملائكة سبقت ابن آدم بالخير، والعمل الصالح، والإيمان، والتصديق. فالمدبرات أمرًا يعني: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، يدبرون أمر الله في أهل الأرض، قال عطاء، عن ابن عباس: هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: أما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم. وجواب هذه الأقسام محذوف على تقدير: لتبعثن،

ولتحاسبن. {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] يعني: النفخة الأولى التي تموت فيها جميع الخلائق، والراجفة: صيحة عظيمة، فيها تردد واضطراب، كالرعد إذا تمخض. تتبعها الرادفة يعني: النفخة الثانية ردفت النفخة الأولى. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8] مضطربة، قلقة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة. أبصارها خاشعة ذليلة، وذلك عند معاينة النار، كقوله: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] الآية، قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام. ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث، فقال: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات: 10] أنرد إلى أول حالنا، وابتداء أمرنا، فنصير أحياء كما كنا! يقال: رجع فلان من حافرته. أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء، وابتداء الأمر. أئذا كنا عظامًا ناخرة ونخرة، أي: بالية، يقال نخر العضم، ينخر فهو ناخر. ونخر إذا بلي وتفتت، قال الأخفش: هما جميعًا لغتان أيهما قرأت فحسن. والمعنى: أنهم أنكروا البعث، فقالوا: أنرد أحياء إذا متنا، وبليت عظامنا! {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12] قالوا: إن رددنا بعد الموت، لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقول محمد. ثم أعلم الله تعالى سهولة البعث عليه، فقال: {فَإِنَّمَا هِيَ} [النازعات: 13] يعني: النفخة الأخيرة، {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13] صيحة واحدة من إسرافيل، يسمعونها وهم في بطون الأرض أموات فيحيون. وهو قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] يعني: وجه الأرض وظهرها في قول الجميع. قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15} إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {16} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17} فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى {20} فَكَذَّبَ وَعَصَى {21} ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى {22} فَحَشَرَ فَنَادَى {23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى {24} فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى {25} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى {26} } [النازعات: 15-26] . هل أتاك يقول: هل جاءك يا محمد: حديث موسى {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} [النازعات: 16] دعاه ربه، فقال: يا موسى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] علا، وتكبر، وكفر بالله. {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] تتطهر من الشرك، وقال ابن عباس: تشهد أن لا إله إلا الله. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: 19] أدعوك إلى عبادته، وتوحيده، فتخشى عقابه؟ {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20] يعني: اليد، والعصا، فكذب بأنهما من عند الله،

وعصى نبيه، فلم يطعه. ثم أدبر أعرض عن الإيمان، يسعى يعمل بالفساد في الأرض. فحشر فجمع قومه، وجنوده، فنادى لما اجتمعوا. {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: لا رب فوقي. 1276 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَمَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّوَّارِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، نا عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَمْهَلْتَ فِرْعَوْنَ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] يُكَذِّبُ بِآيَاتِكَ وَيَجْحَدُ رُسُلَكَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ سَهْلَ الْحِجَابِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُكَافِئَهُ قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25] يعني بالآخرة والأولى: كلمتى فرعون، حين قال: ما علمت لكم من إله غيري، وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] وكان بينهما أربعون سنة. أخبرنا أبو نصر بن عباس، أنا إسماعيل بن نجيد، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع، نا روح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الآخرة والأولى قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] . وهذا قول الأكثرين. وقال الحسن، وقتادة: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذبه في الآخرة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النازعات: 26] الذي فعل بفرعون، حين كذب وعصى، لعبرة عظة، {لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26] الله. ثم خاطب منكري البعث، فقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29} وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ {33} } [النازعات: 27-33] . {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] يعني: أخلقكم بعد الموت أشد عندكم، أم السماء في تقديركم، وهما في قدرة الله تعالى واحد؟ ! وهذا كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] ثم وصف خلق السماء، فقال: {بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 27-28] سقفها، وما ارتفع منها، فسواها بلا شقوق، ولا فطور. وأغطش ليلها جعله مظلمًا، والغطش:

الظلمة. وأخرج ضحاها أبرز نهارها، وأضافهما إلى السماء لأن الظلمة والنور كلاهما ينزل من السماء. {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات: 30] بعد خلق السماء، دحاها بسطها، من الدحو وهو البسط. {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} [النازعات: 31] قال ابن عباس: فجر الأنهار، والبحار، والعيون. ومرعاها ما يأكل الناس والأنعام، وهو قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33] . {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى {34} يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى {35} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى {36} فَأَمَّا مَنْ طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {41} يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا {42} فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا {43} إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا {44} إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا {45} كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46} } [النازعات: 34-46] . {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34] يعني: النفخة الثانية التي فيها البعث، والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها، أي: تعلو فوقه، ومن هذا يقال: فوق كل طامة، والقيامة تطم على كل شيء. {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات: 35] ما عمل من خير وشر. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق. ثم ذكر مأوى الفريقين، فقال: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] في كفره، {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38] على الآخرة، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 39-40] تقدم تفسيره، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] عن المحارم التي تشتهيها، قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب فيتركها. قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 42] متى وقوعها، وقيامها. {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] لست في شيء من عملها، وذكرها أي: لا تعلمها. {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 44] منتهى علمها. {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] إنما أنت مخوف من يخاف قيامها، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها، فأما من لا يخاشها، فكأنك لم تنذره، قال الفراء: والتنوين وتركه في: {مُنْذِرُ} [النازعات: 45] صواب، كقوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] وبالغ أمره و {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] وموهن كيد كأنهم يعني: كفار قريش، يوم يرونها يعاينون القيامة، لم يلبثوا في الدنيا، {إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] إلا قدر آخر نهار أو أوله، كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] وقد مر بيانه، والمعنى: أن ما أنكروه سيرونه، حتى كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة ثم مضت، كأنها لم تكن.

تفسير سورة عبس

تفسير سورة عبس أربعون وثنتان آية، مكية. 1277 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ عبس وتولى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ» . بسم الله الرحمن الرحيم {عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى {4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى {5} فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى {6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {7} وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى {10} كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ {11} فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ {13} مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ {14} بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ {16} } [عبس: 1-16] . عبس يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتولى أعرض، أن جاءه لأن جاءه، الأعمى وهو ابن أم مكتوم، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده رهط من أشراف قريش، وهو مقبل عليهم يدعوهم إلى الله، وإلى الإسلام، ويرجو أن يجيبوه إلى ذلك، إذ أتى الأعمى، فجعل يناديه وهو يقول: علمني يا رسول الله مما علمك الله. ولا يدري أنه مشتغل عنه بغيره، فكلح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرض عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3] يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلمه منك. أو يذكر يتذكر، فيتعظ بما تعلمه من مواعظ القرآن، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] ومن قرأ بالنصب فعلى جواب لعل. {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس: 5] قال ابن عباس: عن الله تعالى، وعن الإيمان، بما له من المال. {فَأَنْتَ لَهُ

تَصَدَّى} [عبس: 6] تقبل عليه بوجهك، وتميل إليه، يقال: تصدى له. أي: تعرض له، وفيه قراءتان: التشديد على الإدغام، والتخفيف على الحذف. {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] أي: أن لا يؤمن ولا يهتدى، والمعنى: أي شيء عليك في ألا يسلم؟ فإنه ليس عليك إلا البلاغ. {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8] يعمل في الخير، يعني: ابن أم مكتوم. وهو يخشى الله عز وجل. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 10] تتشاغل، وتعرض عنه. كلا لا تفعل ذلك، إنها إن آيات القرآن، تذكرة تذكير للخلق. {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 12] قال ابن عباس: فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به. ثم أخبر بجلالته عنده، فقال: في صحف كتب، مكرمة قال المفسرون: يعني: اللوح المحفوظ. مرفوعة يعني: في السماء السابعة، مطهرة لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة. بأيدي سفرة يعني: الكتبة من الملائكة، واحدهم سافر، مثل: كاتب وكتبة، وقال الفراء: السفرة ههنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله، من السفارة وهي السعي بين القوم. ثم أثنى عليهم، فقال: كرام أي: على ربهم، بررة مطيعين، جمع بار، قال مقاتل: كان ينزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، إلى الكتبة من الملائكة، ثم ينزل به جبريل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ {17} مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {18} مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ {19} ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ {20} ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ {21} ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ {22} كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ {23} فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا {25} ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا {26} فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا {27} وَعِنَبًا وَقَضْبًا {28} وَزَيْتُونًا وَنَخْلا {29} وَحَدَائِقَ غُلْبًا {30} وَفَاكِهَةً وَأَبًّا {31} مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ {32} } [عبس: 17-32] . قوله: قتل الإنسان يقول: لعن الكافر. يعني: عتبة بن أبي لهب، ما أكفره ما أشد كفره بالله، قال الزجاج: معناه: اعجبوا أنتم من كفره. ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه، فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] لفظه استفهام، ومعناه التقرير. ثم فسر، فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] أطوارًا نطفة، ثم علقة إلى آخر خلقه، وذكرًا أو أنثى، وشقيًا أم سعيدًا، وقال الكلبي: قدر خلقه، ورأسه، وعينيه،

ويديه، ورجليه. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] قال السدي، ومقاتل: أخرجه من الرحم، وهداه للخروج من بطن أمه. {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] جعل له قبرًا يوارى فيه، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير. {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] بعثه بعد الموت. كلا قال الحسن: حقًا. {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] ما عهد إليه في الميثاق الأول، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] لينظر كيف خلق الله طعامه، الذي جعله سببًا لحياته. ثم بين، فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] ومن فتح أنا فقال الزجاج: الكسر على الابتداء، والاستئناف، والفتح على معنى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبا. وأراد بصب الماء المطر. {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] بالنبات. {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] يعني: الحبوب التي يتغذى بها. وعنبًا وقضبًا وهو القت الرطب يقضب مرة بعد أخرى، يقطع يكون علقًا للدواب. وزيتونًا وهو ما يعتصر منه الزيت، ونخلًا جمع نخلة. وحدائق غلبًا يريد: الشجر العظام، الغلاظ الرقاب، وقال مجاهد، ومقاتل: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وفاكهة يعني: ألوان الفاكهة، وأبا وهو المرعى، والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الأنعام. {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] أي: منفعة لكم، ولأنعامكم. ثم ذكر القيامة، فقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ {33} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ {37} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ {38} ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ {39} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ {40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ {41} أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ {42} } [عبس: 33-42] . {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس: 33] يعني: صيحة القيامة، وهي الصاخة لشدة صوتها تصخ الآذان. ثم ذكر في أي وقت تجيء، فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] إلى قوله: وبنيه أي: لا يلتفت إلى واحد من أدانيه، لعظم ما هو فيه. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] لكل إنسان شأن يشغله عن الأقرباء،

ويصرفه عنهم. 1278 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاكِمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا يُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، وَيَبْلُغُ شَحْمَةَ الْأُذُنِ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاسَوْأَتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: شُغِلَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . 1279 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، نا بَقِيُّةُ، عَنِ الزَّبِيدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38] مشرقة، مضيئة، ضاحكة بالسرور، مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] سواد، وكآبة للهم، ترهقها تعلوها، وتغشاها، قترة سواد، وكسوف عند معاينة النار. ثم بين من أهل هذه الحالة، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42] جمع الكافر، والفاجر.

تفسير سورة التكوير

تفسير سورة التكوير عشرون وتسع آيات، مكية. 1280 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَرَأَ: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أَعَاذَهُ اللَّهُ أَنْ يَفْضَحَهُ حِينَ تُنْشَرُ صَحِيفَتُهُ» . 1281 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْفَقِيهُ، أنا الْمُؤَمَّلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَحِيرٍ الْقَاضِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ الصَّنْعَانِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْفَرَّاء، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ. بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ {1} وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ {2} وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ {3} وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ {4} وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ {5} وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ {6} وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ {7} وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ {9} وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ {10} وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ {11} وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ {12} وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ {13} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ {14} } [التكوير: 1-14] . {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي، أكورها كورًا، وكورتها تكويرًا، إذا لففتها. قال مقاتل، وقتادة، والكلبي: ذهب ضوءها. وقال مجاهد: اضمحلت. قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف، فيرمى بها. قال ابن عباس: يكور الله الشمس، والقمر، والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحًا، فتضربها فتصير نارًا. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2] تهافتت، وتناثرت، وتساقطت، يقال: انكدر الطائر من الهواء. إذا انقض، قال الكلبي، وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجومًا، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض. وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض، تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] عن وجه الأرض، فكانت هباء منبثًا. وإذا العشار وهي النوق الحوامل إذا أتت عليها عشرة أشهر، وبعد الوضع تسمى عشارًا أيضًا، واحدها عشرًا، وهي أنفس مال عند العرب، وقوله: عطلت أي: تركت هملًا بلا راع، أهملها أهلها، لما جاءهم من أهوال يوم القيامة، وخوطبوا بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم من الإبل. وإذا الوحوش يعني: دواب البر، حشرت جمعت حتى يقتص بعضها من بعض، وقال ابن عباس: حشر البهائم موتها. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] قال ابن عباس: أوقدت، فصارت نارا تضطرم. وقال الفراء: ملئت بأن صارت بحرًا واحدًا، وكثر ماؤها. وهو قول الكلبي.

{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] 1282 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] قَالَ: يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ بِقَرِينِهِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقْرَنُ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ السُّوءَ بِصَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَنْفُسِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ قوله: وإذا الموءودة كانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية، مخافة العار، والحاجة، يقال: وأد يئد وأدا فهو وائد. والمفعول به موءودًا. 1283 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَوْءُودَةُ هِيَ الْمَدْفُونَةُ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا هِيَ حَمَلَتْ وَكَانَ أَوَانُ وِلادَتِهَا حَفَرَتْ حَفِيرَةً، فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحَفِيرَةِ، فَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً رَمَتْ بِهَا فِي الْحَفِيرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلامًا حَبَسَتْهُ وقوله: {سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ {9} } [التكوير: 8-9] قال الفراء: سئلت الموءودة، فقيل لها: بأي ذنب قتلت؟ ثم يجوز قتلت، كما تقول: سألته: بأي ذنب قتل؟ وبأي ذنب قتلت؟ ومعنى سؤالها: توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب. 1284 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ

بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: " جِئْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّنَا هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ تَقْرِي الضَّيْفَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَفْعَلُ، وَتَفْعَلُ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ أُمَّنَا؟ قَالَ: لا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا وَارَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَبْلُغْ الْحِنْثَ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ أُمَّنَا؟ فَقَالَ: لا، الْوَائِدُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ إِلا أَنْ تُدْرِكَ الْوَائِدَةُ الْإِسْلامَ فَيُغْفَرُ لَهَا ". قوله: وإذا الصحف يعني: صحائف أعمال بني آدم، نشرت للحساب. {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] قال الفراء: نزعت وطويت. وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف. وقال مقاتل: يكشف عمن فيها. ومعنى الكشط دفعك شيئًا عن شيء قد غطاه، كما يكشط الجلد عن السنام. {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] أوقدت لأعداء الله من الكفار. {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] قربت لأولياء الله من المتقين. وجواب هذه الأشياء، قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] أي: إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرته من خير، أو شر تجزى به. ثم أقسم، فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ {16} وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ {17} وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ {18} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {19} ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {21} وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ {22} وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ {23} وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ {24} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ {25} فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ {26} إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {27} لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29} } [التكوير: 15-29] . فلا أقسم ولا زائدة، معناه: فأقسم، {بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ {16} } [التكوير: 15-16] يعني: النجوم وهي تخنس بالنار فتخفى ولا ترى، وتكتس في وقت غروبها، فهذا وقت خنوسها وكنوسها. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] أدير وذهب، وقال الحسن: أقبل بظلامه.

قال أهل اللغة: هو من الأضداد، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر. ويدل على أن المراد ههنا أدبر، قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] أي: امتد ضوءه حتى يصير نهارًا. ثم ذكر جواب القسم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] يعني: جبريل، يقول: إن القرآن نزل به جبريل، فأخبر به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله تعالى وقد تقدم هذا. ثم وصف جبريل، فقال: {ذِي قُوَّةٍ} [التكوير: 20] أي: فيها كلف وأمر به، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] يعني: في المنزلة، يقال: مكن فلان عند فلان تمكن مكانه. {مُطَاعٍ ثَمَّ} [التكوير: 21] أي: في السموات تطيعه الملائكة، قال المفسرون: من طاعة الملائكة لجبريل، أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج بمحمد، حتى فتح لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبوابها فدخلها، ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتح له عنها، حتى نظر إليها. فذلك قوله: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] أي: على وحي الله، ورسالته إلى أنبيائه. 1285 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ فِيمَا أَجَازَ لِي، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، نا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: مَا أَحْسَنَ مَا أَثْنَى عَلَيْكَ رَبُّكَ {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {21} } [التكوير: 20-21] فَمَا كَانَتْ قُوَّتُكَ؟ وَمَا كَانَتْ أَمَانَتُكَ؟ قَالَ: أَمَّا قُوَّتِي، فَإِنِّي بُعِثْتُ إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ وَهِيَ أَرْبَعُ مَدَائِنَ وَفِي كُلِّ مَدِينَةٍ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ سِوَى الذَّرَارِيَّ، فَحَمَلْتُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ السُّفْلَى حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ الدَّجَاجِ وَنُبَاحَ الْكِلابِ، ثُمَّ هَوَيْتُ بِهِنَّ فَقَلَبْتُهُنَّ، وَأَمَا أَمَانَتِي فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِشَيْءٍ فَعَدَوْتُهُ إِلَى غَيْرِهِ قوله: وما صاحبكم يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بمجنون والخطاب لأهل مكة، وهذا أيضًا من جواب القسم، أقسم الله أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا ليس كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا مجنون، وهذا الذي أتى به يتقوله من نفسه. ولقد رآه رأى محمد جبريل، بالأفق المبين حيث تطلع الشمس , وهذا مفسر في { [النجم. ثم أخبر أنه ليس بمتهم فيما يأتي به من القرآن، فقال:] وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ} [سورة التكوير: 24] يعني: على خبر السماء، وما أطلع عليه مما كان غائبًا علمه عن أهل مكة من الأنباء، والقصص، مما لم يعرفوه، بظنين بمتهم، يقول: ما محمد على القرآن بمتهم. أي: هو

ثقة فيما يؤدي عن الله، ومن قرأ بالضاد فمعناه ببخيل، أي: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن حتى يأخذ عليه حلوانًا. ثم ذكر أنه ليس من تعليم الشيطان، فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] قال الكلبي: يقول: إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة، كما قالت قريش. ثم بكتهم بقوله: فأين تذهبون قال الزجاج: معناه: أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ ثم بين أن القرآن ما هو، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] يقول: ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] على الحق والإيمان، والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على حق. ثم رد المشيئة إلى نفسه، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، وهذا إعلام بأن الإنسان لا يعمل خيرًا إلا بتوفيق الله، ولا شرًا إلا بخذلانه. أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى، نا العسكري، نا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] ، قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] .

تفسير سورة الانفطار

تفسير سورة الانفطار تسع عشرة آية، مكية. 1286 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ قَبْرٍ حَسَنَةً، وَبِعَدَدِ كُلِّ قَطْرَةِ مَاءٍ حَسَنَةً، وَأَصْلَحَ لَهُ شَأْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ {1} وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ {2} وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ {3} وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ {4} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ {5} يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ {6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ {8} كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ {9} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَامًا كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ {12} } [الانفطار: 1-12] . {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] قال المفسرون: انفطارها انشقاقها كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان: 25] . {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2] تساقطت. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] فجر بعضها في بعض، فصارت بحرًا واحدًا، واختلط العذب بالملح. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4] قلب ترابها، وبعث الموتى الذين فيها، يقال: بعثر يبعثر بعثرة. إذا قلب التراب، قال ابن عباس، ومقاتل: يريد عند البعث، بحث عن الموتى فأخرجوا منها. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] وهذا كقوله: {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقد تقدم تفسيره. 1287 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَطَّانُ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهِلالِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] قَالَ: مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ

حَسَنَةٍ اسْتُنَّ بِهَا بَعْدَهُ، فَلَهُ أَجْرُ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ عُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ وِزْرٌ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ويدل على صحة هذا التفسير ما 1288 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ حَكِيمٍ، نا أَبُو الْمُوَجِّهِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَنَّ خَيْرًا، فَاسْتُنَّ بِهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقَصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنْتَقَصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» ، قَالَ: وَتَلا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] . قوله: يأيها الإنسان مخاطبة للكافر، {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ما خدعك، وسول لك الباطل حتى أضعت، فأوجب عليك؟ والمعنى: ما الذين أمنك من عقابه؟ يقال: غره بفلان. إذا أمّنه المحذور من جهته وهو غير مأمون. قال عطاء: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي، ومقاتل: نزلت في أبي الأشدين، ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يعاقبه الله تعالى، وأنزل هذه الآية. يقول: ما الذي غرك بربك الكريم، المتجاوز عنك، إذ لم يعاقبك عاجلا بكفرك؟ قال قتادة: غره عدوه المسلط عليه، يعني: الشيطان. وقال مقاتل: غره عفو الله عنه، حين لم يعاقبه في أول أمره. أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو عَلِيِّ بْنُ جَيْشٍ الْمُقْرِي، نا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْفَضْلِ الْمُقْرِي، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، نا الْمُقَدَّمِيُّ، نا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنِي

صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ {يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ثم قَالَ: جَهْلُهُ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول: يابن آدم ما غرك بي؟ يابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال إبراهيم بن الأشعث: قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة، فقال: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول: غرني ستورك المرخاة. فنظمه محمد ابن السماك، فقال: يا كاتم الذنب أما تسحتي ... والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا وتلا السري بن مغلس هذه الآية، فقال: غره رفق الله به. وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني الله بين يديه، فقال: ما غرك بي؟ قلت: غرني بك برك بي سالفًا وآنفًا. وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ لقلت: غرني كرم الكريم. وقال منصور بن عمار: لو قال لي: ما غرك برك الكريم؟ قلت: يا رب، ما غرني إلا ما علمته من فضلك على عبادك. وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى: يا من غلا في الغي والتيه ... وغره طول تماديه أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غب معاصيه

وقوله: الذي خلقك أي: من نطفة، ولم تك شيئًا، فسواك رجلًا، تسمع وتبصر، فعدلك جعلك معتدلًا، قال عطاء: جعلك قائمًا، معتدلًا، حسن الصورة. وقال مقاتل: عدل خلقك في العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين. والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان، وقرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف، قال الفراء: فصرفك إلى أي صورة ما شاء. قال: والتشديد أحسن الوجهين، لأنك تقول: عدلتك إلى كذا. كما تقول: صرفتك إلى كذا. ولا يحسن عدلتك فيه، ولا صرفتك فيه، وقال أبو علي الفارسي: معنى التخفيف: عدل بعضه ببعض، وكنت معتدل الخلقة متناسبها، فلا تفاوت فيها، ولا يلزم على هذا ما ألزم الفراء. وقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] قال مقاتل، والكلبي: في أي شبه من أب، أو أم، أو خال، أو عم. يدل على صحة هذا التفسير ما 1290 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ زَكَرِيَّا الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُحْتُرِيِّ، نا أَبُو كَامِلٍ، نا وَهْبُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي سَوَّارٌ، أَنَّ أَبَا قِلابَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وُلِدَ لَهُ غُلامٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا فُلانٍ مِثْلُ مَنْ أُشْبِهَ ابْنُكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ إِلا أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ؟ قَالَ: فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أُخِذَ فِي خَلْقِهِ أُحْضِرَ كُلُّ عِرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] . 1291 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ الْبَصْرِيُّ، نا

أُنَيْسُ بْنُ سَوَّارٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ عَبْدٍ جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَطَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلَّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ، وَفِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ» . 1292 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أنا جَدِّي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّحَّاسُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُظْهِرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الطَّائِيُّ، نا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِرَجُلٍ: مَا وُلِدَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَسَى أَنْ يُوَلَدَ لِي؟ إِمَّا غُلامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ، قَالَ: فَمَنْ يُشْبِهُ، قَالَ: يُشْبِهُ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَهْ لا تَقُولَنَّ هَذَا، إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَتْ فِي الرَّحِمِ أَحْضَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ، أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الآيَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] أَيْ مِنْ نَسَبِكَ. وذكر الفراء، والزجاج قولًا آخر: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] : إما طويلًا وإما قصيرًا، وإما مستحسنا، وإما غير ذلك. قوله: كلا أي: لا يؤمن هذا الإنسان الكافر، {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار: 9] بالجزاء والحساب، فتزعمون أنه غير كائن. ثم أعلم أن أعمالهم محفوظة عليهم، فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم. ثم نعتهم، فقال: كرامًا أي: على ربهم،

كاتبين يكتبون أعمال بني آدم. {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] من خير أو شر، فيكتبونه عليكم، قال مجاهد: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه يكتب الخير، والذي عن شماله يكتب الشر. 1293 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ". وقال قتادة: سمعت عقبة بن صهبان، يقول: أتى ابن عمر، رضي الله عنهما، على قوم يعقدون التسبيح. فقال: أتعدون على الله حسناتكم؟ إن معكم حافظين كرامًا كاتبين. {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ {15} وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ {16} وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {17} ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {18} يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ {19} } [الانفطار: 13-19] . قوله: إن الأبرار قال عطاء، ومقاتل: يريد أولياءه المطيعين في الدنيا. لفي نعيم الجنة في الآخرة. 1294 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَدَّادٍ بِالْأُبُلَّةِ، أنا أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ دَاوُدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَرِيزِيُّ، نا أَبِي، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا سُمُّوا أَبْرَارًا، لَأَنَّهُمْ بَرُّوا آبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] قوله: وإن الفجار يعني: الذين كذبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفي جحيم عظيم من النار. أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن الفضل، أنا عبد المؤمن بن خلف، حدثني محمد بن عبد بن حميد، بكش، نا يحيى بن المغيرة المخزومي، نا عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، قال:

قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، فإنك تعلم ما لك عند الله. قال: وأين أجده من كتاب الله؟ قال: عند قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} } [الانفطار: 13-14] قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين. قوله: يصلونها يعني: يلزمونها مقاسين وهجها، يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال، وهو يوم القيامة. ثم عظم ذلك اليوم، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] تعظيمًا له، لشدته، قال الكلبي: الخطاب للإنسان الكافر، لا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم كرر تفخيمًا لشأنه، فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 18] . ثم أخبر عنه، فقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ} [الانفطار: 19] أي: هو يوم لا تملك، {نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19] ومن نصب يومًا فهو ظرف، على معنى: أن هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، قال مقاتل: يعني نفس كافرة شيئًا من المنفعة. {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] يقول: لا يملك الأمر يومئذ غيره، قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئًا، أو يصنع شيئًا، إلا الله رب العالمين. والمعنى: أن الله لا يملك في ذلك اليوم أحدًا شيئًا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا.

تفسير سورة المطففين

تفسير سورة المطففين ثلاثون وست آيات، مكية. 1295 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ المطففين سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6} } [المطففين: 1-6] . ويل للمطففين وهم الذين ينقصون المكيال والميزان، قال أبو عبيدة، والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن. قال الزجاج: وإنما قيل للذين ينقص الميكال والميزان: مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. قال الكلبي: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم، فنزلت هذه الآيات. وقال السدي: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. 1296 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْنَا، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ وروى

الضحاك، ومجاهد، وطاوس، عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «خمس بخمس» . قالوا: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله عز وجل إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيه الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الميكال إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» . وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي، وقد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار. فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر. قال: فقمت، فجعلت أضرب أحدهما بالآخر. فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازدادا عظمًا. فمات في مرضه. ثم بين أن المطففين من هم، فقال: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] الاكتيال: الأخذ بالكيل، قال الفراء: يريد اكتالوا من الناس، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان. وقال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، ولم يذكر اتزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر. قال المفسرون: يعني: الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا، أو وزنوا لغيرهم نقصوا. وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك الطعام. أي: كلت لك، كما تقول: نصحتك ونصحت لك. قال الفراء: وهو من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم. وقوله: يخسرون أي: ينقصون كقوله: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] وقد مر. ثم خوفهم، فقال: ألا يظن ألا يعلم، أولئك الذين يفعلون ذلك، {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} } [المطففين: 4-5] وهو يوم القيامة، قال ابن عباس: يريد: ألا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث، ومحاسب. وقال مقاتل: ألا يستيقن المطفف في الكيل والوزن بالبعث يوم القيامة؟ ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] قال الزجاج: يوم منصوب بقوله: {مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] ، المعنى: ألا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة. والمعنى: يوم يقوم الناس من قبورهم، لرب العالمين أي: لأمره، أو لجزائه، أو حسابه، وقال جماعة من المفسرين: يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم. ويدل على صحة هذا الحديث المجمع على صحته وهو ما

1297 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَارُودِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قَالَ: يَقُومُونَ حَتَّى يَبْلُغَ الرَّشْحُ إِلَى أَطْرَافِ آذَانِهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن أَبِي نَصْرٍ التَّمَّار، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ. 1298 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْمُذَكِّرُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ الطُّوسِيُّ، أَنَّ أَبَا حُذَافَةَ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيَّ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَنْصَافِ أُذَنَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَعْنٍ، عَنْ مَالِكٍ. 1299 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ التَّاجِرِ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَإِنَّهُ لَيْبَلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ» شَكَّ ثَوْرٌ فِي أَيَّهِمَا قَالَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ. 1300 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاسَرْجِسَ، نا ابْنُ

الْمُبَارَكِ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَد ِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، قَالَ سُلَيْمٌ: فَلا أَدْرِي أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ؟ أَمِ الْمِيلُ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ ثُمَّ قَالَ: تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، قَالَ: تُلْجِمُهُ إِلْجَامًا "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ وروى القاسم بن أبي بزة، أن ابن عمر قرأ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: فبكى حتى خر، وامتنع من القراءة. {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {7} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ {8} كِتَابٌ مَرْقُومٌ {9} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ {10} الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ {11} وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ {12} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {13} كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ {16} ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ {17} } [المطففين: 7-17] . قوله: كلا هو ردع وزجر، أي ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا، وتمام الكلام ههنا، وعند أبي حاتم: كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى: حقًا، {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] وهو قول الحسن. وسجين: الأرض السابعة السفلى، وهو قول قتادة، ومقاتل، ومجاهد، والضحاك. وروي ذلك مرفوعًا. 1301 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا الْحُسْيَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ، نا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِجِّينٌ أَسْفَلَ سَبْعِ أَرَضِينَ» وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار.

فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل تحت سبع أرضين، فتهبط حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع خد إبليس. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى، وفيها إبليس وذريته. والمعنى في الآية: إن كتاب عملهم يوضع في الأرض السابعة، وذلك علامة خسارهم، ودليل على خساسة منزلتهم، ولا يصعد به إلى السماء كما يصعد بكتاب المؤمن، وهو قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] . أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين القاضي، أنا حاجب بن أحمد، نا محمد بن حماد، نا يحيى بن سليم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب، فيجعل كتاب الفاجر تحتها. 1302 - أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، أنا مُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَاضِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، نا مَسْعُودُ بْنُ مِشْكَانَ، نا نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى، وَسِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مَفْتُوحٌ» والدليل على أن سجينًا ليس مما كانت العرب تعرفه، قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين: 8] قال الزجاج: أي: ليس ذلك ما كنت تعلم أنت ولا قومك. وقوله: كتاب مرقوم ذكر قوم أن هذا تفسير السجين، وهو بعيد، لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء على ما حكينا عن المفسرين، والوجه أن يجعل هذا بيانًا للكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] على تقدير: هو كتاب مرقوم، أي: مكتوب قد ثبتت حروفه، وقال قتادة، ومقاتل: رقم لهم بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه

لكافر. {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور: 11] ذكر صاحب النظم أن هذا منتظم بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] ، وأن قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] وما اتصل به معترض بينهما، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله: كلا قال مقاتل: أي: لا يؤمنون. ثم استأنف، فقال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال أبو عبيدة: ران على قلوبهم: غلب عليها، والخمر ترين على عقل السكران رينًا ورينونًا. وقال أبو عبيد: كل ما غلبك وعلاك، فقد ران بك وران عليك. وقال الفراء: هو أنه كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب، والذنب على الذنب حتى يعمى القلب. وقال ابن مسعود: إن الرجل ليذنب الذنب، فينكت في قلبه نكته سوداء، ثم يذنب الذنب، فينكت أخرى، يصير قلبه مثل لون الشاة الربداء. وقال إبراهيم التيمي في هذه الآية: إذا عمل الرجل الذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، ثم يعمل الذنب بعد ذلك، فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم كذلك حتى يسود قلبه، فإذا أتاح الله للعبد يسر له عملًا صالحًا، فيذهب من السواد ببعضه، ثم ييسر له العمل الصالح أيضًا، حتى يذهب السواد كله. ونحو هذا روي مرفوعًا. 1303 - أَخْبَرَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَارِزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا ضَمْرَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ كَانَتْ نُكْتَةٌ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ جُلِيَتْ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، وَهُوَ الرَّيْنُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قوله: كلا قال ابن عباس: يريد لا

يصدقون. ثم استأنف: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب، لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم. وقال الكلبي، عن ابن عباس: إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لحجوبون. والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه، وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد، لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية، فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه. سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، يقول: سمعت الحسن بن محمد بن جعفر السدوسي، يقول: سمعت أبا على الحسن بن أحمد النسوي، يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي، يقول: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي، رحمه الله، وجاءه كتاب من الصعيد، يسألونه عن قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فكتب فيه: لما حجب قومًا بالسخط، دل على أن قومًا يرونه بالرضا. فقلت له: أو تدين بهذا يا سيدي؟ فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد، لما عبده في الدنيا. أخبرنا أبو بكر الحارثي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا عبد الله بن نصر، نا أبو إبراهيم المزني، عن ابن هرم، قال: قال الشافعي، رحمة الله عليه: قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] دلالة على أن أولياء الله يرون الله تعالى. سمعت أبا عثمان الحيري الزاهد، سمعت أبا الحسن بن مقسم المقرئ ببغداد، يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج، يقول: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا

خسست منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله تعالى. ولما أعلم أن المؤمنين ينظرون إليه في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] أعلم أن الكفار محجوبون عنه. ثم أخبر أنهم بعد حجبهم عن الله تعالى يدخلون النار، وهو قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16] وتقول لهم الخزنة: هذا العذاب، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 17] . {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ {18} وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ {19} كِتَابٌ مَرْقُومٌ {20} يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ {21} إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {22} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {23} تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ {24} يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ {25} خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ {26} وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ {27} عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ {28} } [المطففين: 18-28] . قوله: كلا قال مقاتل: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار، فقال: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} [المطففين: 18] يعني: المطيعين له، لفي عليين قال المفسرون: يعني: السماء السابعة. قال الفراء: {عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] : ارتفاع بعد ارتفاع، لا غاية له. وقال الزجاج: أعلى الأمكنة. وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، لأنه على لفظ الجمع، ولا واحد له من لفظه، نحو ثلاثين، وعشرين، وقنسرين. 1304 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا الْمُسَيِّبُ الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ» وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 20] ليس بتفسير عليين، وهو يحتمل تأويلين: أحدهما: أن المراد به كتاب أعمالهم، كما ذكرنا في كتاب الفجار، والثاني: أنه كتاب في عليين كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب، وهو معنى قول مقاتل: مكتوب لهم بالخير في ساق العرش. ويدل على صحة هذا قوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21] يعني: الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، ويحضرون ذلك

المكتوب، أو ذلك الكتاب الذين إذا صعد به إلى عليين. قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {22} عَلَى الأَرَائِكِ} [المطففين: 22-23] قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن، فزعم أن الأريكة عنده الحجلة، إذا كان فيها سرير. قوله: ينظرون يعني: إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة، وقال مقاتل: ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون. {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24] إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة، مما ترى من النور، والحسن، والبياض، وقال عطاء: وذلك أن الله تعالى زاد في جمالهم، وفي ألوانهم، ما لا يصفه واصف. وسبق تفسير النضرة عند قوله تعالى: {نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] . {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} [المطففين: 25] قال أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج: الرحيق من الخمر: ما لا غش فيه، ولا شيء يفسده. {مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] وهو الذي له ختام، أي: عاقبة. وقال مجاهد: مختوم مطين. كأنه ذهب إلى معنى الختم الطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار. ثم فسر المختوم، بقوله: ختامه مسك أي: آخر طعمه ريح المسك، إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه، وجد ريحه كريح المسك. 1305 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، نا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، نا الْيَسَعُ بْنُ سَعْدَانَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ لِلَّهِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» . ومعنى: ختامه عاقبته، وما يختم به، والمعنى: لذاذة المقطع، وذكاء الرائحة، والختام آخر كل شيء، وكذلك الخاتم والخاتم، وهو قراءة الكسائي. وقال مجاهد: طيبه مسك. وهو قول ابن زيد. قال: ختامه عند الله مسك، وختامها اليوم في الدنيا طين. ثم رغب فيه، فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] أي: فليرغب الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله، والتنافس

كالتشاح على الشيء والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه. ومزاجه أي: ما يمزج به ذلك الشراب، من تسنيم وهو اسم عين في الجنة. أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الزاهد، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، نا قتيبة، نا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق في قوله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] قال: عين في الجنة، يشربها المقربون صرفًا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وروى ميمون بن مهران، أن ابن عباس سئل عن قوله: {تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] فقال: هذا مما يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] . ونحو هذا قال الحسن: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. ثم فسره، فقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28] أي: يشربها، كقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] وقد مر، قال عبد الله: يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ {33} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} } [المطففين: 29-36] . {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: 29] يعني: كفار قريش، {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المطففين: 29] يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل عمار، وخباب، وبلال، وغيرهم، يضحكون على وجه السخرية منهم. {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} [المطففين: 30] يعني: المؤمنين مروا بالكفار، يتغامزون من الغمز وهو الإشارة بالجفن والحاجب، أي: يشيرون إليهم بالأعين استهزاء. وإذا انقلبوا يعني: الكفار، {إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم. وإذا رأوهم رأوا أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] قال الله تعالى: وما أرسلوا يعني: الكفار، عليهم يعني: على الذين آمنوا، حافظين يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يوكلوا بحفظ أعمالهم. فاليوم يعني: في الآخرة، {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار، فيضحكوا منهم، كما ضحكوا هم في

الدنيا منهم. وقال المبرد، وأبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا. وتفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت، أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها، غلقت دونهم. فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} } [المطففين: 34-35] إلى عذاب عدوهم. {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] أي: هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا؟ ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوب بمعنى أثيب.

تفسير سورة الانشقاق

تفسير سورة الانشقاق عشرون وخمس آيات، مكية. 1306 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرٍو عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ انَشَقَّتْ أَعَاذَهُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ {2} وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ {3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ {4} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ {5} يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ {6} فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا {9} وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ {10} فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا {11} وَيَصْلَى سَعِيرًا {12} إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا {13} إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ {14} بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا {15} } [الانشقاق: 1-15] . {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] قال المفسرون: انشقاقها من علامات القيامة. وذكر ذلك في مواضع من القرآن. وأذنت لربها قالوا: سمعت لربها، وأطاعت في الانشقاق. من الإذن وهو الاستماع للشيء، والإصغاء إليه، وحقت وحق لها أن تطيع ربها الذي خلقها. {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] قال ابن عباس: تمد مد الأديم، ويزداد في سعتها. وقال مقاتل: سويت كمد الأديم، فلا يبقى عليها بناء، ولا جبل إلا دخل فيها. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} [الانشقاق: 4] من الموتى، والكنوز، وتخلت وخلت منها، وجواب إذا محذوف تقديره: إذا كانت هذه الأشياء: يرى الإنسان الثواب والعقاب، ويدل

على صحة هذا المحذوف قوله: {يَأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ} [الانشقاق: 6] أي: ساع إليه في عملك، والكدح: عمل الإنسان من الخير والشر. قال قتادة، والكلبي، والضحاك: عامل لربك عملًا. فملاقيه فملاق عملك، أي: ثوابه وجزاءه. قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} } [الانشقاق: 7-8] قال مقاتل: لأنه يغفر له ذنوبه، ولا يحاسب بها. وقال المفسرون: هو أن يعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له، فهو الحساب اليسير. 1307 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثِمِ الَأْنَبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا قَبِيصَةُ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا {8} } [الانشقاق: 7-8] قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، عَن عَمْرِو بْنِ عَلِي، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ كِلاهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ. 1308 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، نا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ السِّمَنَانِيُّ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، نا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْوَرْدِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ مَنْ حُوسِبَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ هَلَكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَقُولُ: {يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ يَا عَائِشَةُ، فَأَمَّا كُلُّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ هَلَكَ ".

1309 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا حَرَمِيٌّ، نا الْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَافِعَةٌ يَدَيَّ وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَتَدْرِينَ مَا ذَاكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَنْ حُوسِبَ خصم ذَلِكَ الممر بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . 1310 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أنا أَبُو عَلِيٍّ حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا أَبُو الْمُثَنَّى، نا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْيَمَامِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ. قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَمَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تُحَاسَبَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيُدْخِلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَالُوَيْه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ الْجَوْهَرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَان. قوله: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} [الانشقاق: 9] يعني: في الجنة من الحور العين، والآدميات، مسرورًا بما أوتي من الخير والكرامة. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] خلف ظهره، قال الكلبي: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلف ظهره. وقال مقاتل: تخلع يده اليسرى، فيكون من وراء ظهره. {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 11] إذا قرأ كتابه، قال: يا ويلاه، يا ثبوراه. كقوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] . ويصلى سعيرًا ويقاسي حر نارها، وشدتها، وقرئ

ويُصَلّى بضم الياء وتشديد اللام، كقوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] . {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ} [الانشقاق: 13] يعني: في الدنيا، مسرورًا باتباع هواه، وركوب شهوته. {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] لن يرجع إلى الآخرة، أي: لن يبعث، قال مقاتل: حسب أن لا يرجع إلى الله. والحور الرجوع. قال الله تعالى: بلى ليحورن، وليبعثن، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15] بصيرًا به، من يوم خلقه إلى يوم بعثه، قال الزجاج: كان به بصيرًا قبل أن يخلقه، عالمًا بأن مرجعه إليه. قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ {16} وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ {17} وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ {18} لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ {19} فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {20} وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ {21} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ {22} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ {23} فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {24} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {25} } [الانشقاق: 16-25] . {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] يعني: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة جميعًا. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصنوع كأنه الشفق، وكان أحمر. وروي مثل هذا مرفوعًا. 1311 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَايِعُ، أنا عَلِيُّ بْنُ جَنْدَلٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا أَبُو حُذَافَةَ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ» {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] قال الليث: الوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، والراعي يَسِقُها أي: يجمعها. والمفسرون يقولون: وما جمع وضم، وحوى ولف. والمعنى: جمع وضم ما كان منتشرًا بالنهار في تصرفه، وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18] استوى، واجتمع، وتكامل، وتم،

قال الفراء: اتساقه: امتلاؤه واجتماعه، واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة إلى ست عشرة. وهو افتعل من الوسق الذي هو الجمع. {لَتَرْكَبُنَّ} [الانشقاق: 19] يا محمد، {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] قال الشعبي، ومجاهد: سماء بعد سماء. قال الكلبي: يعني يصعد فيها، ويجوز أن تزيد درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة، في القربة من الله تعالى، ورفعة المنزلة. 1312 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، نا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، نا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: لَتَرْكَبَنَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] قَالَ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْبَاءِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّاسِ والمعنى: لتركبن حالًا بعد حال، ومنزلًا بعد منزل، وأمرًا بعد أمر، يعني في الآخرة، يعني: أن الأحوال تنقلب بهم، فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا، وعن بمعنى بعد، وتم الكلام عند هذا، لتمام جواب القسم. ثم قال: فما لهم يعني: كفار مكة، لا يؤمنون بمحمد، والقرآن، والمعنى: أي شيء لهم إذا لم يؤمنوا؟ وهو استفهام إنكار، أي: لا شيء لهم من النعيم والكرامة، إذا لم يؤمنوا. {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وقال الكلبي، وعطاء: لا يصلون لله عز وجل. 1313 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا حَمَّادُ بْنُ

مَسْعَدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلاةَ الْعَتَمَةِ فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ، قُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: سَجَدْتُ بِهَا مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ: سَجَدَ بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مَعَهُ فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ 7، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذ كِلاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ. 1314 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَرْيَابِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا ". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: ثُمَّ قَرَأَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَسَجَدَ، قَالَ يَحْيَى: ثُمَّ قَرَأَهَا أَبُو سَلَمَةَ فَسَجَدَ، قَالَ الْوَلِيدُ: ثُمَّ قَرَأَهَا الْأَوْزَاعِيُّ فَسَجَدَ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: ثُمَّ قَرَأَهَا الْوَلِيدُ فَسَجَدَ قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22] بالبعث، والقرآن، والثواب، والعقاب. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 23] في صدورهم من التكذيب، ويضمرون في قلوبهم، ويكتمون، قاله ابن عباس، وقتادة، ومقاتل. {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] أي: اجعل لهم ذلك بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة. {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [الانشقاق: 25] منهم، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] غير منقوص، ولا مقطوع، لأن نعيم الآخرة لا ينقطع.

تفسير سورة البروج

تفسير سورة البروج عشرون وآيتان، مكية. 1315 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَزَايِمِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْبُرُوجِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَكُلِّ يَوْمِ عَرَفَةَ يَكُونُ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ {3} قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ {4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ {5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ {6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ {7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ {10} } [البروج: 1-10] . {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ذكرنا تفسير البروج عند قوله: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] وهي النجوم، أو منازلها. واليوم الموعود يعني: يوم القيامة، في قول جميع المفسرين. وشاهد ومشهود. 1316 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا رَوْحٌ، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» 1317 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَلِيٍّ

حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشَجُّ، نا يَحْيَى بْنُ نَصْرِ بْنِ حَاجِبٍ، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى يَوْمٍ وَلا غَرَبَتْ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوافِقُهَا مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلا اسْتَعَاذَ مِنْ شَرٍّ إِلا أَعَاذَهُ مِنْهُ» . وهذا قول الأكثرين. وسمي يوم الجمعة شاهدًا، لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، وكذلك كل يوم، ويوم عرفة يوم مشهود، يشهد الناس فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. 1318 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْلَوَيْهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، نا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ ضَيْغَمٍ الرَّاسِبِيُّ، نا أَبُو سَهْلٍ الْمُنْذِرَانِيُّ، عَنْ خَبَّابٍ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا الشَّاهِدُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَيَوْمُ عَرَفَةَ، فَجُزْتُهُ إِلَى آخَرَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الشَّاهِدُ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ، فَجُزْتُهُمَا إِلَى غُلامٍ كَأَنَّ وَجْهَهُ الدِّينَارُ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الشَّاهِدُ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] فَسَأَلْتُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَقَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَأَلْتُ عَنِ الثَّانِي، فَقَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، وَسَأَلْتُ عَنِ الثَّالِثِ، فَقَالُوا: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قوله: {قُتِلَ

أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 4] معناه: لعن في قول الجميع. كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] وقد مر، والأخدود الشق في الأرض يحفر مستطيلًا، وجمعه الأخاديد، ومصدره الخد وهو الشق، وأما حديث أصحاب الأخدود: 1319 - حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِمْلاءً، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نُصَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ عَاصِمٍ الرَّازِيُّ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا مَرِضَ السَّاحِرُ، قَالَ: إِنِّي قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، فَارْفَعْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمُهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ السَّاحِرِ وَالْمَلِكِ رَاهِبٌ فَمَرَّ الْغُلامُ بِالرَّاهِبِ فَأَعْجَبَهُ كَلامُهُ وَأَمْرُهُ، فَكَانَ يُطِيلُ عِنْدَهُ الْقُعُودَ، فَإِذَا أَبْطَأَ عَنِ السَّاحِرِ ضَرَبَهُ، وَإِذَا أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ ضَرَبُوهُ، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِذَا اسْتَبْطَأَكَ السَّاحِرُ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا اسْتَبْطَأَكَ أَهْلُكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ مَرَّ بِالنَّاسِ وَقَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فَظِيعَةٌ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ السَّاحِرِ أَفْضَلُ أَمْ أَمْرُ الرَّاهِبِ، فَأَخَذَ حَجَرًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَةَ، فَرَمَى فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ الرَّاهِبَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، قَالَ: وَجَعَلَ يُدَاوِي النَّاسَ، الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَمِيَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ، فَأَتَاهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ: اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا وَلَكِنْ يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، قَالَ: فَآمَنَ بِاللَّهِ، فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ فَذَهَبَ فَجَلَسَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا فُلانُ مَنْ شَفَاكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لا، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَقَالَ: أَوَ أَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الْغُلامِ، فَبَعَثَ إِلَى الْغُلامِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تَشْفِيَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فَقَالَ: مَا أُشْفِي أَحَدًا وَلَكِنْ رَبِّي يَشْفِي، قَالَ: أَوَ أَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الرَّاهِبِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَأَشَرَهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَعْمَى، فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَأَشَرَهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْغُلامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، وَأَرْسَلَ مَعَهُ نَفَرًا، وَقَالَ: اصْعَدُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَدَهْدِهُوهُ

مِنْهُ، قَالَ: فَعَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَتَدَهْدَهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا صَنَعَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ فَلَجِّجُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ رَجَعَ وَإِلا فَغَرِّقُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِهِ فِي قُرْقُورٍ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، وَجَاءَ حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا صَنَعَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ، اجْمَعِ النَّاسَ ثُمَّ اصْلُبْنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْهُ عَلَى كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ رَبِّ الْغُلامِ، فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي، قَالَ: فَجَمَعَ النَّاسَ وَصَلَبَهُ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَوَضَعَهُ عَلَى كَبْدِ الْقَوْسِ، وَقَالَ: بِسْمِ رَبِّ الْغُلامِ، وَرَمَى فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَخَافُ قَدْ نَزَلَ وَاللَّهِ بِكَ، آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ، فَخُدَّتْ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ، ثُمَّ أَضْرَمَهَا، فَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، فَدَعُوهُ وَمَنْ أَبَى فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، فَجَعَلُوا يَقْتَحِمُونَهَا وَجَاءَتِ امْرَأةٌ بِابْنٍ لَهَا، فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ، فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي، فَإِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: أن حربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجدوا عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده انبعثت دمًا، وإذا تركت ارتدت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله، فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه. وروي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في أصحاب الأخدود، قول آخر، وهو: 1320 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَالِينِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، أنا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، نا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ اسفندهان، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا هُمْ يَهُودُ وَلا نَصَارَى، وَلا لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَانُوا مَجُوسًا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بَلَى قَدْ

كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُ رُفِعَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا لَهُمْ وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، أَوْ قَالَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَهَا: كَيْفَ الْمَخْرَجُ مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ؟ قَالَتْ: تَجْمَعُ أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ تَرَى ذَلِكَ حَلالًا، وَتَأْمُرُهُمْ أَنْ يُحِلُّوهُ، فَجَمَعَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، وَأَوْقَدَ فِيهِ النِّيرَانَ وَعَرَضَهُمْ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَبَى قَبُولَ ذَلِكَ قَذَفَهُ فِي النَّارِ، وَمَنْ أَجَابَ خَلَّى سَبِيلَهُ وقال الحسن: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر عنده أصحاب الأخدود، تعوذ بالله من جهد البلاء. قوله: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج: 5] بدل من الأخدود، كأنه قال: قتل أصحاب النار ذات الوقود. يعني: الذين أوقدوها لإحراق المؤمنين، وهو قوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 6] يعني: عند الأخدود يعذبون المؤمنين، قال ابن عباس: عندها جلوس. وقال مقاتل: يعني: عند النار قعود، يعرضونهم على الكفر. وقال مجاهد: كانوا قعودًا على الكراسي عند الأخدود. وهو قوله: وهم يعني: الملك وأصحابه الذين خدوا الأخدود، {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 7] من عرضهم على النار، وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم، شهود حضور، قال الزجاج: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم، وحقيقة إيمانهم، إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله. {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8] الآية، قال ابن عباس: ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا. وقال مقاتل: ما عابوا منهم. وقال الزجاج: ما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم. وهذا كقوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [البروج: 9] من فعلهم بالمؤمنين، شهيد لم يخف عليه ما صنعوا. ثم أعلم ما أعد لأولئك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] حرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء أحرقته. ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10] من فعلهم ذلك، ومن الشرك الذي كانوا عليه، {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] بكفرهم، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] بما أحرقوا المؤمنين، قال الربيع بن أنس: وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم. وهو قول الكلبي. ثم ذكر ما أعد للمؤمنين الذين حرقوا بالنار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ {11} إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ {15} فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {16} هَلْ أَتَاكَ

حَدِيثُ الْجُنُودِ {17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ {19} وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ {20} بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ {22} } [البروج: 11-22] . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البروج: 11] الآية، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب، إذا أخذ الظلمة، والجبابرة لشديد. كقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ} [البروج: 13] الخلق، يخلقهم أولًا في الدنيا، ويعيدهم أحياء بعد الموت. وهو الغفور لذنوب المؤمنين، وأوليائه من أهل طاعته، الودود المحب لهم، وقال الأزهري في تفسير أسماء الله: يجوز أن يكون ودود فعولًا بمعنى: مفعول، كركوب، وحلوب، ومعناه: أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه، لما عرفوا من فضله، ولما أسبغ عليهم من نعمائه، ويجوز أن تكون فعولًا بمعنى فاعل، أي: محبًا لهم. قال: وكلتا الصفتين مدح، لأنه جل ذكره إن أحب عبادة المطيعين فهو فضل منه، وإن أحبه عباده العارفون، فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه. قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] أكثر القراءة الرفع في: المجيد على صفة: ذو العرش، لأن الله تعالى هو الموصوف بالمجد، ولأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى، وإن سمع الماجد، ومن كسر المجيد جعله من صفة العرش، قال عطاء، عن ابن عباس: من قرأ بالخفض، فإنما يريد العرش وحسنه. ويدل على صحة هذا: أن العرش وصف بالكرم في قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] فجاز أن يوصف بالمجد، لأن معناه الكمال، والعرش على ما ذكر أحسن شيء، وأكمله، وأجمعه لصفات الحسن. {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] أي: من الإبداء والإعادة، وقال عطاء: لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه. 1321 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُحَارِبِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا هَنَّادٌ، نا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمٌ يَعُودُونَهُ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ أَلا تَدْعُو لَكَ طَبِيبًا يَنْظُرُ إِلَيْكَ، قَالَ: قَدْ نَظَرَ إِلَيَّ، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ: إِنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ ثم ذكر خبر الجموع الكافرة، فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج: 17] يريد: قد أتاك، وهم الذين تجندوا على أنبياء الله. ثم بين من هم، فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ

الَّذِينَ كَفَرُوا} [البروج: 18-19] يعني: مشركي مكة، في تكذيب لك وللقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار. {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20] يقدر أن ينزل بهم، ما أنزل بمن قبلهم. {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] قال ابن عباس، ومقاتل: كريم، لأنه كلام الرب، ليس هو كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر. {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] عند الله، وهو أم الكتاب، منه نسخ القرآن والكتب، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان، وقرأ نافع: محفوظ رفعًا على نعت القرآن، كأنه قيل: بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، وذلك أن القرآن وصف بالحفظ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فكما وصف بالحفظ في تلك الآية، كذلك وصف في هذه الآية بأنه محفوظ، ومعنى حفظ القرآن: أنه يؤمن من تحريفه، وتبديله، وتغييره، فلا يلحقه من ذلك شيء، قال أبو الحسن الأخفش: والأول هو الذي يعرف. وقال أبو عبيد: الوجه الخفض، لأن الآثار الواردة في اللوح المحفوظ تصدق ذلك. 1322 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا زِاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ، نا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. 1323 - حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

تفسير سورة الطارق

تفسير سورة الطارق سبع عشرة آية، مكية. 1324 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرٍو َمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الطَّارِق أَعْطَاهُ اللَّهُ بِعَدَدِ كُلِّ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ {2} النَّجْمُ الثَّاقِبُ {3} إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ {4} فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ {5} خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ {6} يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ {7} إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ {8} يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ {9} فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ {10} } [الطارق: 1-10] . {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] قال المفسرون: أقسم الله تعالى بالسماء والطارق، يعني: الكواكب تطرق بالليل، وتخفى بالنهار. قال الفراء: {الطَّارِقُ} [الطارق: 2] : النجم، لأنه يطلع بالليل، وما أتاك ليلًا فهو طارق. ونحو هذا قال الزجاج، والمبرد. ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق: 2] وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلًا، ولم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله تعالى: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3] أي: المضيء، والنجم الثاقب اسم الجنس وأريد به العموم، قال ابن زيد: أراد به الثريا. والعرب تسميه النجم، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، وجواب القسم قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أقسم الله تعالى بما ذكر، أنه ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها، وقولها، وفعلها، ويحصي ما تكتسب من خير أو شر. وفي قوله: لما عليها قراءتان: التخفيف والتشديد، فمن خفف كان ما لغوا، والمعنى: لعليها حافظ،

ومن شدد جعل لما بمعنى إلا، تقول: سألتك لما فعلت. بمعنى إلا فعلت. ثم نبه على البعث، بقوله: فلينظر الإنسان قال مقاتل: يعني: المكذب بالبعث. مم خلق من أي شيء خلقه الله، والمعنى: فلينظر نظر التفكر والاستدلال، حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته. ثم ذكر من أي شيء خلقه، فقال: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] قال ابن عباس: يعني: المني الذي يكون منه الولد، وهو ماء مهراق في رحم المرأة. والدفق صب الماء، يقال: دفقت الماء. أي: صببته، و {دَافِقٍ} [الطارق: 6] ههنا بمعنى: مدفوق، قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم، كقولهم: سر كاتم، وهمّ ناصب، وليل نائم. وذكرنا مثل هذا عند قوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} [هود: 43] : ثم وصف ذلك الماء، فقال: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وهي موضع القلادة من الصدر، واحدها تريبة. قال عطاء: يريد صلب الرجل، وترائب المرأة، لا يكون إلا من الماءين. {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] قال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل. وقال عكرمة، والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب. وقال مقاتل بن حيان: يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبى، ومن الصبى إلى النطفة. وقال قتادة: إن الله تعالى على بعث الإنسان وإعادته لقادر. وهذا هو الاختيار، لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أي: إنه قادر على بعثه يوم القيامة، ومعنى الرجع: رد الشيء إلى أول حاله، و {تُبْلَى} [الطارق: 9] قال قتادة: تختبر. وقال مقاتل: تظهر. والسرائر: أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليهم، وهي سرائر بين الله وبين

العبد، فتختبر تلك يوم القيامة، حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤداها عن مضيعها. 1325 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، نا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خُلَيْدٍ الْعِصْرِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ أَرْبَعَ خِصَالٍ: الصَّلاةَ، الزَّكَاةَ، وَصَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابِةِ " وَهُنَّ السَّرَائِرُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] . 1326 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، فِيمَا أَجَازَ لِي أَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى الْهَمَذَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذِهِ السَّرَائِرُ الَّتِي يُبْلَى بِهَا الْعِبَادُ فِي الآخِرَةِ؟ فَقَالَ: هِيَ سَرَائِرُكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ مِنَ الصَّلاةِ، وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكُلِّ مَفْرُوضٍ لَأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا سَرَائِرُ خَفِيَّةٌ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ الرَّجُلُ: صَلَيْتُ وَلَمْ يُصَلِّ، وَإِنْ شَاءَ، قَالَ: تَوَضَّأْتُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] وقال ابن عمر: يبدئ الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زينا في الوجوه، وشيئًا في الوجوه، يعني: أن من أداها كان وجهه مشرقًا، ومن ضيعها كان وجهه أغبر. فما له أي: لهذا الإنسان المنكر للبعث، من قوة يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره من الله. ثم ذكر قسمًا آخر، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ {11} وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ {12} إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ {13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ {14} إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا {15} وَأَكِيدُ كَيْدًا {16} فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا {17} } [الطارق: 11-17] .

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11] يعني: ذات المطر في قول جميع المفسرين. قال الزجاج: {الرَّجْعِ} [الطارق: 11] المطر، لأنه يجيء ويرجع، ويتكرر. {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12] قال أبو عبيدة، والفراء: تتصدع بالنبات. وهو معنى قول المفسرين: تتشقق عن النبات والأشجار. والصدع الشق، وجواب القسم قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] أي: أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما. {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14] أي: أنه لم ينزل باللعب، فهو جد ليس بالهزل. ثم أخبر عن مشركي مكة، فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15] قال الزجاج: يخاتلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويظهرون ما هم على خلافه. {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] كيد الله: استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون. {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17] قال ابن عباس، ومقاتل: هو وعيد من الله لهم. {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] يريد: قليلًا حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك ببدر، ونسخ الإمهال بآية السيف، ومعنى أمهل ومهل: أنظر ولا تعجل.

تفسير سورة الأعلى

تفسير سورة الأعلى تسع عشرة آية، مكية. 1327 - أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَعْلَى أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ، أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ» . 1328 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا وَكِيعٌ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. 1329 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُسيبي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نا أَبُو إِسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتِرُ بَعْدَهُمَا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَيَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ { [، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. بسم الله الرحمن الرحيم

] سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى {3} وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى {4} فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى {5} سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى {6} إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى {7} وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى {8} فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى {9} سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى {10} وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى {11} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى {12} ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا {13} } [سورة الأعلى: 1-13] . {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] أي: نزهه من السوء، وقل: سبحان ربي الأعلى. قال صاحب النظم: قد احتج بهذا الفصل من يقول: إن الاسم والمسمى واحد. لأن أحدًا لا يقول: سبحان اسم الله، وسبحان اسم ربنا. فمعنى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] : سبح ربك، والرب أيضًا اسم، فلو كان غير المسمى، لم يجز أن يقع التسبيح عليه. 1330 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الزُّهْرِيُّ، نا آدَمُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ فِي سُجُودِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأَعْلَى: 1] فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُولَ فِي سُجُودِنَا: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى وَيُسَنُّ لِلْقَارِئِ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلاةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. 1331 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] قال الكلبي: خلق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه: اليدين، والرجلين، والعينين. وقال الزجاج: خلق الإنسان مستويًا. ومعنى سوى: عدل قامته. {وَالَّذِي قَدَّرَ} [الأعلى: 3] وقرئ بالتخفيف، وهما

بمعنى واحد، قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. قال صاحب النظم: معنى هدى: هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها، لأن إيتان ذكران الحيوان مختلف، لاختلاف الصور، والخلق، والهيئات، فلولا أنه عز وجل جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثاه، لما اهتدى لذلك. وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم، ثم هدى للخروج. {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] أنبت العشب، وما يرعاه النعم. فجعله بعد الخضرة، غثاء هشيما، جافًا، كالغثاء الذي نراه فوق السيل، أحوى أسود بعد الخضرة، وذلك: أن الكلأ إذا جف يبس واسود. قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] أي: سنجعلك قارئًا، بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرأه، قال الزجاج: أعلم الله أنه سيجعل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية، يتبين بها له الفضيلة، وهي أن ينزل عليه جبريل، فيقرئه حتى يقرأ، فيقرأ ولا ينسى شيئًا من ذلك، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، قال المفسرون: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه القرآن، أكثر تحريك لسانه، مخافة أن ينساه، وكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله، مخافة النسيان، فقال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وهذا كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} [طه: 114] الآية، وكقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية. {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] أن ينسيك بنسخه، ورفع حكمه، وتلاوته، كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] والإنساء نوع من النسخ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} [الأعلى: 7] من القول والفعل، {وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7] منها، والمعنى: يعلم السر والعلانية. {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] قال مقاتل: يهون عليك عمل الجنة. وهو معنى قول ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرًا، واليسرى عمل الخير. {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] أي: عظ يا محمد أهل مكة بالقرآن، إن نفعت الموعظة والتذكير، والمعنى: إن نفعت أو لم تنفع، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مبلغًا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال، نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] الآية. وقد نبه الله تعالى على تفصيل الحالتين، بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ

يَخْشَى} [الأعلى: 10] سيتعظ بالقرآن من يخشى الله، ويتجنبها ويتجنب الذكرى، {الأَشْقَى {11} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى {12} } [الأعلى: 11-12] العظيمة الفظيعة، لأنها أعظم، وأشد حرًا من نار الدنيا {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا} [الأعلى: 13] فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى {15} بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {17} إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى {18} صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {19} } [الأعلى: 14-19] . {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] تطهر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله. {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} [الأعلى: 15] بالخوف، فعبده، وصلى له، وهذا قول عطاء، عن ابن عباس، ويدل على صحته ما: 1332 - مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، نا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأَعْلَى: 14] قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حين ينادى بها، والاهتمام بمواقيتها ". وجماعة من المفسرين يحملون الآيتين على زكاة الفطر، وصلاة العيد. قال الكلبي: أفلح من تصدق قبل مروره إلى العيد، وصلى مع الإمام. وهو قول عكرمة، وأبي العالية، وابن سيرين، وابن عمر. وروي ذلك مرفوعًا. 1333 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا رحيم، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأَعْلَى: 14] قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى.

وقال نافع: كان ابن عمر إذا صلى الغداة، قال: يا نافع أخرجت الصدقة؟ فإن قلت: نعم، مضى إلى المصلى، وإن قلت: لا، قال: فالآن فأخرج، فإنما نزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى {15} } [الأعلى: 14-15] في هذه الصدقة. قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] قرأه العامة بالتاء، لما روي أن في حرف أبي: بل أنتم تؤثرون، قال الكلبي: تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة. وقال ابن مسعود: إن الدنيا أحضرت لنا، وعجل طعامها، وشرابها، ونساؤها، ولذتها، وبهجتها، وإن الآخرة زويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل. وقرأ أبو عمرو يؤثرون بالياء، وقال: يعني الأشقين الذين ذكروا في قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى: 11] . ثم رغب في الآخرة، فقال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] أي: والدار الآخرة، يعني: الجنة، خير أفضل، وأبقى وأدوم من الدنيا. 1334 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُعَاوِيَةَ الطَّلْحِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَتَّاتُ، نا أَبُو نُعَيْمٍ صرادُ بْنُ صُرَدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ طَلَبَ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» إن هذا يعني: ما ذكر من عند قوله: قد أفلح أربع آيات، لفي الكتب، الأولى التي أنزلت قبل القرآن، ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلى، وإيثار الخلق الدنيا على الآخرة، وأن الآخرة خير، قال ابن قتيبة: لم يرد الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى، وذكر اسم الله فصلى، في {الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] كما هو في القرآن. ثم بين أن الصحف الأولى ما هي، فقال: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] يعني: كتبًا أنزلت على إبراهيم، وتوراة موسى، وقال عكرمة: هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي: نزلت هذه السورة كلها على موسى، وعلى إبراهيم.

تفسير سورة الغاشية

تفسير سورة الغاشية عشرون وست آيات، مكية. 1335 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْغَاشِيَةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا» . بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ {1} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ {2} عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ {3} تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {4} تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ {5} لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ {6} لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ {7} } [الغاشية: 1-7] . هل أتاك يريد: قد أتاك، {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] خبر القيامة، وذلك: أنها تغشى الناس بأهوالها، وشدائدها. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] ذليلة بالعذاب، قال مقاتل: يعنى الكفار، لأنها تكبرت عن عبادة الله. عاملة ناصبة قال عطاء، عن ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، من عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله منهم، إلا ما كان لوجهه خالصًا، لا يقبل اجتهادًا في بدعة وضلالة، لكنه يقبل رفقًا في سنة. وهذا قول سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبي الضحى، عن ابن عباس. قالوا: هم الرهبان، وأصحاب الصوامع. والكلام خرج على الوجوه، والمراد بها أصحابها، ومعنى النصب: الدؤب في العمل بالتعب، والمعنى: عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، لأنها عملت في الدنيا بالمعاصي، فصارت ناصبة في النار يوم القيامة. 1336 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْخَضِرُ بْنُ أَبَانٍ، نا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ، يَقُولُ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَيْرِ رَاهِبٍ فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ

إِلَيْهِ وَيَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4] فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي ثم ذكر نصبها، فقال: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4] قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله. وقرأ أبو عمرو بضم التاء، من أصليته النار. {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] متناهية في الحرارة، قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردًا عطاشًا. وقال المفسرون: لو وقعت منها نقطة على جبال الدنيا لذابت. هذا شرابهم. ثم ذكر طعامهم، فقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وهو نوع من الشوك، يقال له: الشبرق. وأهل الحجاز يسمونه الضريع، إذا يبس أخبث طعام وأبشعه، لا ترعاه دابة، قال أبو الجوازاء: هو السلاء. 1337 - أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ أَجَازَهُ، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّارِ يُشْبِهُ الشَّوْكَ، أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ سَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الضَّرِيعَ» قال أبو الدرداء، والحسن: إن الله عز وجل يرسل على أهل النار الجوع، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة، ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم، سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها. فذلك قوله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا

فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، ولما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع. وكذبوا في ذلك، فإن الإبل لا ترعاه. فقال الله تعالى تكذبيًا لهم: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7] . ثم وصف أهل الجنة، بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ {8} لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ {9} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ {10} لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً {11} فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ {12} فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ {13} وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ {14} وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ {15} وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ {16} } [الغاشية: 8-16] . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] قال مقاتل: في نعمة وكرامة. لسعيها في الدنيا، راضية حين أعطيت في الجنة بعملها. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 10] مرتفعة. {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11] وقرئ بالياء أيضًا، لأن المراد باللاغية اللغو، فالتأنيث على اللفظ، والتذكير على المعنى، وقرأ حمزة: لا تسمع بتاء مفتوحة، لاغية نصبًا على الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] قال الكلبي: لا أدري بماء أو بغيره. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13] قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها. وأكواب أقداح لا عرى لها، موضوعة عندهم. ونمارق يعني: الوسائد في قول الجميع. واحدها نمرقة بضم النون، وزاد الفراء سماعًا عن العرب نمرقة بكسر النون، قال الكلبي: وسائد. مصفوفة بعضها إلى بعض. وزرابي يعني: البسط والطنافس، واحدها: زربية وزربي، مبثوثة مبسوطة ومنشورة، ويجوز أن يكون المعنى: أنها مفرقة في المجالس. 1338 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْخَالِدِيِّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: يَجِيئُونَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَسَاسُ بُيُوتِهِمْ مِنْ جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ، وَسُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهَا لَهُمْ لَالْتَمَعَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمَا يَرَوْنَ، فَيُعَانِقُونَ الْأَزْوَاجَ وَيَقْعُدُونَ عَلَى السُّرُرِ، وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا.

وقال قتادة: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20} فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ {21} لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ {22} إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ {23} فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ {24} إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ {25} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ {26} } [الغاشية: 17-26] . {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وكانت الإبل عيشًا من عيشهم، يقول: أفلا ينظرون إليها، وما يخرج الله من ضروعها، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا، سائغًا للشاربين؟ ! يقول: فكما صنعت هذا لكم، فكذلك أصنع لأهل الجنة في الجنة. وقال أبو عمرو بن العلاء: خص الإبل، لأنها من ذوات الأربع، تبرك فتحمل عليها الحمولة. وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه، إلا وهو قائم، وقال الزجاج: نبههم على عظيم من خلقه، قد ذلله الصغير، يقوده، وينيخه، وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره، فأراهم عظيمًا من خلقه، ليدل بذلك على توحيده. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة. فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو خنزير لا يركب ظهره، ولا يؤكل لحمه، ولا يحلب دره، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه، تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، ويأخذ الصبي بزمامها، فيأخذ بها حيث شاء من عظمها في نفسها. ويحكى: أن فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجره وهي تتبعها، حتى دخلت في الجحر، فجرت الزمام، فبركت، فجرت، فقربت فمها من جحر الفأرة، وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة، حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. ثم قال الله: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] يعني: من الأرض، حتى لا ينالها شيء، بغير عمد. {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] على الأرض مرساة لا تزول. {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] بسطت، والسطح بسط الشيء، ويقال لظهر البيت إذا كان مستويًا: سطح. قال عطاء، عن ابن عباس: يقول: هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض، غيري؟ وهل يفعل مثل هذا الفعل أحد سواي؟ قوله: {فَذَكِّرْ

إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] فعظ إنما أنت واعظ، ولم يؤمر إذ ذاك إلا بالتذكرة، يدل عليه قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] أي: بمسلط فتقتلهم، وتكرههم على الإيمان، ثم نسختها آية القتال، وقد تقدم تفسير المسيطر عند قوله: {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] . وقوله: {إِلا مَنْ تَوَلَّى} [الغاشية: 23] استثناء منقطع عما قبله، معناه: لكن من تولى وكفر بعد التذكير: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 24] وهو: أن يدخله النار، ولا عذاب أعظم منها. ثم ذكر أن مرجعهم إليه، فقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] رجوعهم، ومصيرهم بعد الموت، يقال: آب يئوب أوبًا وإيابًا. وأما إيابهم بتشديد الياء، فشاذ، لم يجزه أحد غير الزجاج، فإنه قال: يقال: أيب إيابًا على فيعل فيعالًا. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] يعني: جزاءهم بعد المرجع إلى الله تعالى.

تفسير سورة الفجر

تفسير سورة الفجر ثلاثون آية، مكية. 1339 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا سَائِرَ الْأَيَّامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ {2} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ {3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ {4} هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ {5} أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} } [الفجر: 1-14] . والفجر أقسم الله تعالى بفجر النهار، وهو انفجار الصبح كل يوم، وهذا قول عكرمة، ورواية أبي نصر، وأبي صالح، عن ابن عباس. وقال في رواية عثمان بن محيصن: هو فجر المحرم. وهو قول قتادة. قال: أقسم بأول يوم من المحرم ينفجر منه السنة. وقال الضحاك: هو في ذي الحجة، لأن الله تعالى قرن الأيام بها، فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] وهي عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين. 1340 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُسَيِّبِيُّ، أنا

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عِصْمَةَ، نا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَيَّاثٍ، نا أَبِي، نا الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اللَّيَالِي الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِنَّ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالشَّفْعِ { [الفجر: 3] يوم النحر،} وَالْوَتْرِ { [الفجر: 3] يوم عرفة. وقال الضحاك: أقسم بعشر الأضحى، ليفضلهن على سائر الأيام،} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 3] أقسم بهما ليفضلهما على سائر العشر. 1341 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، فَقَالَ: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. أخبرنا إسماعيل بن أبي القاسم النصراباذي، أنا عبد الله بن عمر بن علك الجوهري، نا عبد الله بن محمود السعدي، نا موسى بن بحر، نا عبيدة بن حميد، حدثني منصور، عن مجاهد، قال: الشفع الخلق، {وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] الله الواحد الصمد. وهذا قول عطية العوفي، قال: الشفع الخلق، قال الله عز وجل: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8] والوتر هو الله عز وجل. وقال أبو صالح: خلق الله من كل شيء زوجين اثنين، والله وتر واحد. وقال قتادة: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] الصلاة

منها شفع ومنها وتر. وهو رواية عمران بن حصين، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1342 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْأُمَوِيُّ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا هَمَّامٌ وَخَالِدُ بْنُ قَيْسٍ جَمِيعًا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَقَالَ: «مِنَ الصَّلاةِ شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ» . 1343 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الصُّوفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ كَثِيرٍ الْقَيْسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَلُونِي فَعَلَيْنَا كَانَ التَّنْزِيلُ، وَنَحْنُ حَضَرْنَا التَّأْوِيلَ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيَالِي الْعَشْرِ، فَقَالَ: أَمَّا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فَهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، وَأَمَّا اللَّيَالِي الْعَشْرُ فَالثَّمَانِ وَعَرَفَةُ وَالنَّحْرُ قال أبو عبيدة: الشفع الزوج، والوتر الفرد. وقال الفراء: الكسر قراءة الحسن، والأعمش، وابن عباس، والفتح قراءة أهل المدينة، وهي لغة حجازية. وقال الأصمعي: كل فرد وتر. وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد. وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] أي: إذا يمضي فيذهب، كما قال: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] أقسم الله تعالى بالليل، يمضي حتى ينقضي بالنهار المقبل،

والمراد به كل ليلة، وقال مقاتل، والكلبي: يعني ليلة المزدلفة، ليلة جمع. وقرئ يسري بإثبات الياء وحذفها، فمن أثبتها فلأنها لام فعل، والفعل لا يحذف منه في الوقف نحو هو يقضي، وأنا أقضي. قال الزجاج: والحذف أحب إلي، لأنها فاصلة، والفواصل يحذف منها الياءات، وتدل عليه الكسرات. {هَلْ فِي ذَلِكَ} [الفجر: 5] أي: فيما ذكر، {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] لذي عقل ولب، والمعنى: أن من كان ذا عقل ولب، علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل على صنع الله وقدرته وتوحيده، فهو حقيق بأن يقسم به، لدلالته على خالقه، وجواب القسم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] واعترض بين القسم وجوابه قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] يخوف أهل مكة، يعني: كيف أهلكهم، وهم كانوا أطول وأشد قوة من أهل مكة. ثم قال: إرم قال محمد بن إسحاق: هو جد عاد، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى هي إرم، وهي التي قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم: 50] . وقوله: ذات العماد يعني: أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وقول قتادة، ومجاهد. وقال مقاتل: ذات العماد يعني: طولهم اثنا عشر ذراعًا، يقال: رجل طويل العماد أي: القامة. ثم وصفهم، فقال: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8] لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] . {وَثَمُودَ

الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ} [الفجر: 9] ثقبوها، وقطعوها، قال ابن عباس: كانوا يجوبون الجبال، فيجعلون منها بيوتًا، كما قال الله عز وجل: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] . وقوله: بالواد يعني: وادي القرى. {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر: 10] ذكرنا تفسير الأوتاد في سورة ص. 1344 - وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَازِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا هُدْبَةُ، نا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْتَدَ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ فِي يَدَيْهَا وَفِي رِجْلِهَا. وَنَحْو هَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَتَدَ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًا عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ. وقوله: الذين يعني: عادًا، وثمودًا، وفرعون، {طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 11] عملوا فيها بالمعاصي، وتجبروا على أنبياء الله، وهو قوله: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 12] قال الكلبي: يعني: القتل والمعصية. {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] يعني: ما عذبوا به، وأجاد الزجاج في تفسيره هذه الآية، فقال: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قال الكلبي: يقول عليه طريق العباد، لا يفوته أحد. والمعنى: لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من بالمرصاد، وهذا معنى قول الحسن، وعكرمة: يرصد أعمال بني آدم. والمرصاد والمرصد الطريق، ذكرنا ذلك عند قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] وروى مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: إن على جسر جهنم سبع محابس، يسئل العبد عند باب أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني، فيسئل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث، فيسئل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع، فيسئل عن الصوم، فإن جاء به تامًا جاز إلى الخامس، فيسئل عن الحج، فإن جاء به تامًا جاز إلى السادس، فيسئل عن العمرة، فإن جاء بها تامة

جاز إلى السابع، فيسئل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا يقال: انظروا فإن كان له تطوع، أكملوا به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة. {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ {17} وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {18} وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا {19} وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا {20} } [الفجر: 15-20] . {فَأَمَّا الإِنْسَانُ} [الفجر: 15] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة، وأبا حذيفة بن المغيرة. وقال الكلبي: هو الكافر أبي بن خلف. وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف. {إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15] اختبره بالغنى واليسر، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] رزقه، وأنعم عليه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] فضلني بما أعطاني، يظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه، فيقول: هذه كرامة من الله لي. {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ} [الفجر: 16] بالفقر، {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] ضيق عليه، بأن جعله على مقدار البلغة، قال: هذا هوان من الله لي. {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] أذلني بالفقر، قال الزجاج: وهذا يُعْنَىَ به الكافر، الذي لا يؤمن بالبعث، إنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وصفة المؤمن أن الإكرام عنده بتوفيق الله إياه إلى ما يؤديه إلى حظ الآخرة. ولهذا رد الله على هذا الكافر، فقال: كلا أي: ليس الأمر كما تظن، قال مقاتل: يقول الله تعالى: كلا لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه. فقوله: كلا رد لتوهم من ظن أن سعة الرزق إكرام من الله، وإن الفقر إهانة، فإن الله يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه، وقد أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا عبد الله بن حامد، أنا أحمد بن شاذان، أنا جيغويه بن محمد، نا صالح بن محمد، نا إبراهيم بن محمد، عن أبان، عن سليمان بن قيس العامري، عن كعب، قال: إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بالأكاليل، فلا يصدع، ولا ينبض منه عرق يوجع. 1345 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَائِعُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا مَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ» . ثم أخبر عن الكفار، فقال: {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيمًا في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه. والآية تحتمل معنيين: أحدهما: أنهم لا يبرونه، ولا يحسنون إليه، والآخر: أنهم لا يعطونه حقه من الميراث، على ما جرت به عاداتهم من حرمان اليتيم ما كان له من الميراث، ويدل على هذا المعنى قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} [الفجر: 19] ويدل على المعنى الأول قوله: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 18] أي: لا يأمرون بإطعامه، ومن قرأ لا تحاضون أراد لا يتحاضون فحذف الياء، والمعنى: لا يحض بعضكم بعضًا. وتأكلون التراث أصله الوراث، فأبدلت من الواو المضمومة تاء، أكلًا لما شديدًا، أي: تلمون جميعه في الأكل، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أموالهم. {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] كثيرًا، شديدًا، والمعنى: يحبون جمع المال، ويولعون به، فلا ينفقونه في خير. قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا {21} وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى {23} يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي {24} فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ {25} وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ {26} يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 21-30] . كلا قال مقاتل: أي: لا يفعلون ما أمروا في اليتيم والمسكين. ثم خوفهم بقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21] كسر كل شيء عليها من جبل، أو بناء، أو شجر حين زلزلت، فلم يبق على ظهرها شيء، قال ابن قتيبة: دقت جبالها وأنشازها حتى استوت. {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] قال ابن عباس في رواية الكلبي، والحسن: وجاء أمر ربك، وقضاء ربك، لأن في يوم القيامة

تجيء جلائل آيات الله، وتظهر العظائم. وقال أهل المعاني: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أي: وجاء ظهوره بضرورة المعرفة، وضرورة المعرفة بالشيء تقوم مقام ظهوره ورؤيته، ولما صارت هذه المعارف بالله في ذلك اليوم ضرورة، صار ذلك كظهوره، وتجليه للخلق فقيل: وجاء ربك. أي: زالت الشبهة، وارتفعت الشكوك، كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. وقوله: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] قال عطاء: يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة. وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة، كانوا صفًا محيطين بالأرض ومن فيها، فيكونون سبع صفوف. فذلك قوله: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] . {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] قال جماعة المفسرين: جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه، يقول: يا رب نفسي نفسي. 1346 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَيَّاثٍ، نا أَبِي، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» . 1347 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا ابْنُ مَاجَهْ، نا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ، نا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَرَبِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: نا عَطِيَّةُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] تَغَيَّرَ لَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا رَأَوْا مِنْ حَالِهِ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ قَدْ رَأَيْنَاهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ بَيْنَ عَاتِقَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا الَّذِي حَدَثَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَقْرَأَنِي: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] قُلْتُ: كَيْفَ يُجَاءُ بِهَا؟ قَالَ: يَجِيءُ بِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَقُودُونَهَا بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، فَتَشْرُدُ

شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْجَمْعِ، ثُمَّ أَتَعَرَّضُ لِجَهَنَّمَ، فَتَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ لَحْمَكَ عَلَيَّ، فَلا يَبْقَى أَحَدٌ إِلا قَالَ: نَفْسِي نَفْسِي وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي وقوله: يومئذ يعني: يوم يجاء بجهنم، يتذكر الإنسان يتعظ، ويتوب الكافر، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] قال الزجاج: يظهر التوبة، ومن أين له التوبة؟ ! يقول الكافر، {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أي: قدمت الخير والعمل الصالح لآخرتي التي لا موت فيها، قال الحسن: علم والله إنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها. قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25] يعذب عذاب الله أحد من الخلق. {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 26] من الخلق، أي: لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، والمعنى: لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ، يعني: مثل عذابه، ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ، أي: مثل وثاقه، وقرأ الكسائي لا يعذب، ولا يوثق بفتح العين فيهما، وهو قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما 1348 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِد ُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي جَدِّي، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، نا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَالَ: أَقْرَأَنِي مَنْ أَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ {25} وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ {26} } [الفجر: 25-26] وَالْمَعْنَى: لا يُعَذَّبُ أَحَدٌ تَعْذِيبَ هَذَا الْكَافِرِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَافِرٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ تَعْذِيبَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] الآيات. قوله {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] بالإيمان، المؤمنة، الموقنة، المصدقة بما وعد الله، والطمأنينة: حقيقة الإيمان. {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] هذا عند خروجها من الدنيا، يقال لها: ارجعي إلى الله. راضية بالثواب، مرضية عنك. أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، أنا جدي، أنا محمد بن إسحاق السراج، نا قتيبة، نا جرير، عن

منصور، عن مجاهد {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته. أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، نا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، نا سعيد بن عثمان، نا محمد بن حاتم، عن إبراهيم المكي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] ، قال: الراضية بقضاء الله الذي قدر الله، فعلمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وأن ما أخطأها لم يكن ليصيبها. 1349 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَاتِبُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، نا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، نا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قُرِئَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] الآية، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ» وقال عبد الله بن عمرو: إذا توفي العبد المؤمن، أرسل الله عز وجل ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راض. فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه. وقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أي: جملة عبادي الصالحين المطيعين. قال أبو صالح: فإذا كان يوم القيامة قيل: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 29-30] . 1350 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، أنا ابْنُ بَطَّةَ، أنا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، نا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِالطَّائِفِ، فَشَهِدْتُ جَنَازَتَهُ، فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ، فَدَخَلَ فِي نَعْشِهِ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ، تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، لَمْ يُدْرَ مَنْ تَلاهَا: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } [الفجر: 27-30] .

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد عشرون آية، مكية. 1351 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ قَرَأَ: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْنَ مِنْ غَضَبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ {2} وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ {4} أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ {5} يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا {6} أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ {7} أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ {8} وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ {9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {10} } [البلد: 1-10] . {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة، ولا أقسم بمعنى: أقسم، وقد تقدم بيانه، والإشارة بهذا إلى مكة، وال { [نازلة بها. ] وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [سورة البلد: 2] الحل، والحلال، والمحل واحد، وهو ضد المحرم، أحل الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح حتى قاتل وَقَتَلَ، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» . والمعنى: أن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة، دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حرامًا، فوعد نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا. ثم عطف على القسم بقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] يعني: آدم وذريته. {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] قال ابن عباس، في رواية مقسم: قائمًا على قدمية منتصبًا، وكل شيء خلق مكبًا إلا الإنسان، فإنه خلق منتصبًا. والكبد: الاستواء والاستقامة، وقال في رواية الوالبي: في نصب. وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير،

والحسن. قالوا: في شدة. والكبد على هذا القول: من مكابدة الأمر، وهو معاناة شدته ومشقته، والرجل يكابد الليل إذا قاسى هوله، وصعوبته. أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنا أبو عمرو بن مطر، نا أحمد بن محمد بن منصور الحاسب، نا علي بن الجعد، نا علي بن علي الرفاعي، عن الحسن في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] قال: لا أعلم خليقة تكابد من الأمر ما يكابد هذا الإنسان. قال: وقال سعيد: أجده يكابد مضائق الدنيا، وشدائد الآخرة. 1352 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ الْقُرَشِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ بَهْرَامٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النَّاسِ هَمًّا الْمُؤْمِنُ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ» . وقال الحسن: ابن آدم لا يزال يكابد أمرًا حتى يفارق الدنيا. قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5] قال الكلبي: يعني: أبا الأشدين، وهو رجل من جمح، وكان قويًا شديد الخلق. يقول الله تعالى: أيظن من شدته أن لن يقدر عليه الله، وأن لا يعاقبه؟ ثم أخبر عن مقالة هذا الإنسان، فقال: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} [البلد: 6] وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته. وقال الكلبي، ومقاتل: يقول أهلكت في عداوة محمد مالًا كثيرًا. قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ

يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7] قال قتادة: أيظن أن لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذبًا لم ينفق ما قال. فقال الله عز وجل: أيظن أن لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق؟ ثم ذكره النعم ليعتبر، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8] قال الزجاج: ألم نفعل به ما يدله على أن الله قادر على أن يبعثه؟ {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 9] قال قتادة: نِعم الله متظاهرة، يقررك بها كيما تشكره. وروى عبد الحميد المدني، عن أبي حازم، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إن الله تعالى، يقول: «ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» . قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] النجد: الطريق في ارتفاع، قال ابن عباس، والمفسرون: بينا له طريق الخير وطريق الشر. وقال الزجاج: المعنى: ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر، بتبيين كتبيين الطريقين العاليين؟ ! 1353 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْدَيْنِ، فَقَالَ: «هُمَا النَّجْدَانِ نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ» . {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ {13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ {14} يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ {15} أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ {16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {17} أُولَئِكَ

أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {18} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {19} عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ {20} } [البلد: 11-20] . {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] أي: لم يقتحمها ولا جاوزها، والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة ههنا مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة، يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهو قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12] أي: ما اقتحام العقبة؟ ثم ذكره، فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] وهو تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب. ومن قرأ فك رقبة على الفعل، فهو تفسير لاقتحام العقبة بالفعل، كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] ثم فسر المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فكذلك قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . 1354 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، نا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، نا أَبُو نُعَيْمٍ، نا عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «إَنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: «لا عِتْقُ النَّسَمَةِ، أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ» .

1355 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ الْإِشْكَابِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شبويه، أنا مُحَمَّدُ بْنُ.... ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَعَمَدَ إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ. 1356 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ، أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، أَوْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ يُجْزَى مَكَانَ كُلِّ عَظٍم مِنْ عِظَامِهَا عَظْمٌ مِنْ عِظَامِهِ» وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] ذي مجاعة، يقال: سغب يسغب سغبًا. إذا جاع، قال ابن عباس: يريد بالمسغبة الجوع. 1357 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، نا هَاشِمُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ وَاقِدٍ، نا يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشْبَعَ جَائِعًا فِي يَوْمِ سَغَبٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، لا يَدْخُلُهُ إِلا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ» وروى جابر بن عبد الله، أن

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان» . وقوله: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] معناه: ذا قربة، قال مقاتل: يعني: يتيمًا بينه وبينه قرابة. {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قد لصق بالتراب من فقره، وضره، وروى مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو المطروح في التراب، لا يقيه شيء. والمتربة مصدر من قولهم: ترب يترب تربًا. ومتربة إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرًا. ثم بين أن هذه القربة، إنما تنفع مع الإيمان، فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد: 17] على فرائض الله وأمره، وتواصوا بالمرحمة بالبر فيما بينهم، والرحمة لليتيم، والمسكين، والضعيف، أي: كان من الجملة الذين هذه صفتهم. ثم ذكر أن هؤلاء من هم، فقال: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 18] وقد سبق تفسير أصحاب الميمنة في { [الواقعة، وكذلك تفسير أصحاب المشأمة. وقوله:] عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [سورة البلد: 20] مطبقة، يقال: أصدت الباب، وأوصدته. إذا أغلقته وأطبقته، لغتان: مهموز وغير مهموز، قال مقاتل: يعني أبوابها عليهم مطبقة، فلا يفتح لهم باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.

تفسير سورة الشمس

تفسير سورة الشمس خمس عشرة آية، مكية. 1358 - أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ والشمس، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِكُلِّ شَيْءٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا {1} وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا {2} وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا {3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا {4} وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا {5} وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا {6} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا {10} } [الشمس: 1-10] . {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] الضحى: حين تطلع الشمس فيصفو ضوءها، قال مجاهد، والكلبي: يعني ضوء الشمس. وقال قتادة: هو النهار كله. {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس: 2] تبعها، يقال: تلا يتلو تلوًا إذا تبع. قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة، وخلفها في النور. وقال الزجاج: {تَلاهَا} [الشمس: 2] حين استدار، فكان يتلو الشمس في الضياء والنور. يعني: إذا كمل ضوءه فصار تابعًا للشمس في الإنارة، وذلك الليالي البيض. {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] جلى الظلمة وكشفها، وجازت الكتابة عن الظلمة، وإن لم تذكر، لأن المعنى معروف. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 4] يعني: يغشى الشمس

فيذهب بضوئها، فتغيب وتظلم الآفاق. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] قال عطاء: يريد والذي بناها. قال الكلبي: ومن بناها. وقال الفراء، والزجاج: ما بمعنى المصدر بتقدير: وبنائها. {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] في: ما وجهان كما ذكرنا، والمعنى: وسعها، وبسطها على الماء. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] خلقها، وسوى أعضاءها. وقال عطاء: يريد جميع ما خلق من الإنس والجن. {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قال ابن عباس في راوية علي بن أبي طلحة: بين لها الخير والشر. وقال في رواية عطية: علمها الطاعة والمعصية. وقال في رواية أبي صالح: عرفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا القول، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان، وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، لأن التبيين، والتعليم، والتعريف دون الإلهام يوقع في قلبه، ويجعل فيه، فإذا أوقع الله في قلب عبده شيئًا، فقد ألزمه ذلك الشيء، كما ذكره سعيد بن جبير، وهذا صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره. أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد التميمي، أنا عبد الله بن محمد الحافظ، نا جعفر بن أحمد بن سنان، نا بندار، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا حماد بن سلمة، عن حنظلة بن أبي حمزة، عن سعيد بن جبير: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قال: ألزمها. يروى هذا مرفوعًا إلى ابن عباس. 1359 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحِيرِيُّ،

نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قَالَ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1360 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ إِجَازَةً، أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ عُلَيَّةَ، نا عِمْرَانُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، أنا الْمُؤَمَّلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قَالَ: أَلْزَمَهَا ". 1361 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْكَرِيزِيُّ، نا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَى قَوْمٍ فَأَلْهَمَهُمُ الْخَيْرَ وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَابْتَلَى قَوْمًا فَخَذَلَهُمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَغْيِيرَ مَا ابْتَلاهُمْ بِهِ، فَعَذَّبَهُمْ وَقَدْ عَدَلَ فِيهِمْ» وقد روي في هذه الآية الحديث الصحيح , وأن تفسيرها: التوفيق من الله تعالى للخير، والخذلان للشر، وهو: 1362 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا شختويه بْنُ مازيار، نا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، نا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، نا يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ذَاتَ يَوْمٍ غَدَوْتُ عَلَيْهِ: يَا أَبَا الْأَسْوَدِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَاتُّخِذَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: لا، بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، فَقَالَ لِي: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلا وَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ وَمُلْكُ يَدِهِ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ: سَدَّدَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُكَ إِلا لِأَحْزِرُ عَقْلَكَ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتُّخِذَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: لا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَفِيمَ يَعْمَلُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ هَيَّأَهُ لِعَمَلِهَا، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} } [الشمس: 7-8] رَوَاهُ مُسْلِم، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَن عَزْرَةَ بْنِ ثَابِت. قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] قال ابن عباس: قد أفلحت نفس زكاها الله، وأصلحها وطهرها. والمعنى: وفقها للطاعة. {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] خابت، وخسرت نفس أضلها الله وأغواها، ودساها أصله: دسسها من التدسيس وهو: إخفاء الشيء، فأبدلت من السين الثانية ياء، ومعنى دساها هنا: أخملها، وخذلها، وأخفى محلها، ولم يشهرها بالطاعة، والعمل الصالح، وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي ذكرها من خلقه، لأنها تدل على وحدانيته، وعلى فلاح من طهره، وخسارة من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه، أو إهلاكها بالمعصية، يدل على صحة هذا

ما 1363 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا نَافِعٌ ابْنِ عُمَر، عَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: انْتَبَهْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» وروينا هذا التفسير الذي ذكرناه مرفوعًا فيما 1364 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا {10} } [الشمس: 9-10] أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ، وَخَابَتْ نَفْسٌ خَيَّبَهَا اللَّهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ ". {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا {11} إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا {12} فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا {13} فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا {14} وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا {15} } [الشمس: 11-15] . قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] الطغوى: اسم من الطغيان، كالدعوى من الدعاء، قال المفسرون: كذبت ثمود بطغيانها أي: الطغيان حملهم على التكذيب. {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] أي: كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحًا لما انبعث الأشقى للعقر، ومعنى انبعث: انتدب، وقام به، يقال: بعثته على الأمر، فانبعث له. والأشقى عاقر الناقة، وهو أشقى الأولين على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1365 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، نا

سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا رِشْدِينُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟ قَالَ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَمَنْ أَشْقَى الآخِرِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى نَافُوخِهِ ". 1366 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّد بن كعب القرظي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ نَائِمَيْنِ فِي صَوْرٍ مِنَ النَّخْلِ، وَدَقْعَاءَ مِنَ التُّرَابِ، فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا إِلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ، فَقَالَ: أَلا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْنِهِ حَتَّى يُبَلَّ مِنْهَا هَذِهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: صَالِحٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقة الله قال الزجاج: ناقة الله منصوبة على معنى: ذروا ناقة الله. وقال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير فهو نصب. وسقياها عطف على ناقة الله،

وهي شربها من الماء، وما يسقاها، قال الكلبي، ومقاتل: قال لهم صالح: ذروا ناقة الله فلا تعقروها، وذروا أيضًا سقياها، وهي شربها من النهر، فلا تعرضوا للماء يوم شربها. فكذبوه بتحذيره إياهم العذاب بعقرها، فعقروها وتفسير العقر قد تقدم، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] قال عطاء، ومقاتل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] . وقال المؤرج: الدمدمة إهلاك باستئصال. وقال ابن الأعرابي: دمدم إذا عذب عذابًا تامًا. فسواها فسوى الدمدمة عليهم، وعمهم بها، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم، وقال الفراء: سوى الأمة: أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها، بمعنى: سوى بينهم. {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم. وهو قول الحسن، قال: ذاك الرب صنع بهم ولا يخاف تبعة. والمعنى: لا يخاف أن يتعقب عليه في شيء مما فعله، وفي مصاحف الشام، والحجاز: فلا يخاف بالفاء، قال الفراء: وكل صواب.

تفسير سورة الليل

تفسير سورة الليل إحدى وعشرون آية، مكية. 1367 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا أَبُو عَمْرٍو السَّخْتِيَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَاللَّيْلِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَرْضَى، وَعَافَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعُسْرِ، وَيَسَّرَ لَهُ الْيُسْرَ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى {1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى {2} وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى {4} فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {10} وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى {11} } [الليل: 1-11] . {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] قال ابن عباس، ومقاتل: أقسم الله تعالى بالليل إذا يغشى بظلمته النهار. قال الزجاج: يغشى الليل الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض، فيذهب ضوء النهار. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] بان، وظهر من بين الظلمة. قال قتادة: هما آيتان عظيمتان، يكررهما الله تعالى على الخلائق. {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] قال الكلبي: والذي خلق. وهو قول الحسن، وما على هذا بمعنى: من، وقال مقاتل: يعني: وخلق الذكر والأنثى. وما على هذا القول للمصدر، قال مقاتل، والكلبي: يعني: آدم وحواء.

وجواب القسم قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة: عمل للجنة، وعمل للنار. 1368 - حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِمْلاءً بِجُرْجَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّرْقُفِيُّ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، نا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ نَخْلَةٌ، فَرْعُهَا فِي دَارِ رَجُلٍ فَقِيرٍ ذِي عِيَالٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَ فَيَدْخُلُ الدَّارَ، فَيَصْعَدُ النَّخْلَةَ لِيَأْخُذَ مِنْهَا التَّمْرَ، فَرُبَّمَا سَقَطَتِ التَّمْرَةُ، فَيَأْخُذُهَا صِبْيَانُ الْفَقِيرِ، فَيَنْزِلُ الرَّجُلُ مِنْ نَخْلَتِهِ حَتَّى يَأْخُذَ التَّمْرَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي فَمِ أَحَدِهِمْ أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ حَتَّى يُخْرِجَ التَّمْرَةَ مِنْ فِيهِ، فَشَكَا ذَلِكَ الرَّجُلُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا يَلْقَى مِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ، وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ، فَقَالَ لَهُ: تُعْطِينِي نَخْلَتَكَ الْمَائِلَةَ الَّتِي فُرُوعُهَا فِي دَارِ فُلانٍ وَلَكَ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّ لِي نَخْلًا كَثِيرًا وَمَا فِيهِ نَخْلَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ ثَمَرَةً مِنْهَا، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ يَسْمَعُ الْكَلامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُعْطِينِي مَا أَعْطَيْتَ الرَّجُلَ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ إِنْ أَنَا أَخَذْتُهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ وَلَقِيَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ فَسَاوَمَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي بِهَا نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا وَإِنَّ لِي نَخْلًا كَثِيرًا، فَمَا فِيهِ نَخْلَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ ثَمَرًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الآخَرُ: أَتُرِيدُ بَيْعَهَا، فَقَالَ: لا إِلا أَنْ أُعْطَى بِهَا مَا لا أَظُنُّهُ أُعْطَى، قَالَ: فَمَا مُنَاكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ نَخْلَةً، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: جِئْتَ بِعَظِيمٍ تَطْلُبُ بِنَخْلَتِكَ الْمَائِلَةِ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، فَقَالَ لَهُ: أَشْهِدْ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَمَرَّ نَاسٌ فَدَعَاهُمْ فَأَشْهَدَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ نَخْلَةً ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّخْلَةَ قَدْ صَارَتْ فِي مِلْكِي فَهِيَ لَكَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ: النَّخْلَةُ لَكَ وَلِعِيَالِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى {1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى {2} وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى {3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى {4} } [الليل: 1-4] وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 1369 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، نا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ،

نا ابْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَرَى بِلالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] يَعْنِي سَعْيَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَيَّةَ وَأُبَيٍّ ثم فصل وبين، فقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل: 5] تصدق من ماله، واتقى معصية ربه، يعني: الصديق رضى الله عنه. وصدق بالحسنى بالجنة، وثواب الله، والخلف من الله. فسنيسره لليسرى فسنهيئه لعمل الخير، والمعنى: نيسر له الإنفاق في سبيل الخير، والعمل بالطاعة لله. قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، اشترى ستة نفر من المؤمنين، كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله. قال عروة بن الزبير: أعتق أبو بكر على الإسلام قبل أن يهاجر من مكة ست رقاب، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عميس، وزئيرة، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت: وبيت الله لا تضر اللات والعزى، ولا تنفعان. فرد الله إليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها، وكانت لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما يطحنان لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا. فقال أبو بكر، رضي الله عنه: حلا يا أم فلان؟ قالت: حلا أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: أخذتهما وهما حرتان. ومر أبو بكر، رضي الله عنه، بجارية من بني نوفل وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة. فابتاعها أبو بكر فأعتقها، فقال عمار بن ياسر، وهو يذكر بلالًا وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء، وإعتاق أبي بكر إياهم، وكان اسم أبي بكر عتيقًا: جزى الله خيرًا عن بلال وصحبه ... عتيقًا وأخزى فاكهًا وأبا جهل عشية هما في بلال بسوءة ... ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل بتوحيده رب الأنام وقوله ... شهدت بأن الله ربي على مهل فإن تقتلوني فاقتلوني فلم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة القتل فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم لا تمل لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير حق كان منه ولا عدل

قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8] بالنفقة في الخير والصدقة، واستغنى عن ثواب الله، فلم يرغب فيه، يعني: أبا سفيان، ثم هو عام في الكفار. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] بما صدق به أبو بكر. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] قال مقاتل: نعسر عليه أن يعطي خيرًا. وقال عكرمة، عن ابن عباس: {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] : للشر عليه أن الشر يؤدي إلى العذاب، والعسرة في العذاب. والمعنى: سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه. 1370 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحَذَّاءُ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَفِي يَدِهِ أَوْ قَالَ: مَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآيات رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ كِلاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ ثم ذكر أن ما أمسك من ماله عن الإنفاق لا ينفعه، فقال: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} [الليل: 11] الذي بخل به عن الخير، {إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] مات، وهلك، وقال ابن عباس، وقتادة: إذا تردى في جهنم، أي: سقط.

{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى {12} وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى {13} فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى {16} وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى {17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى {21} } [الليل: 12-21] . {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12] يعني: البيان، قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال. وهو قول قتادة: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل: 13] يعنى الدارين، والمعنى: لنا ملكهما، فليطلبا منا. فأنذرتكم يا أهل مكة، نارًا تلظى تتوقد، وتتوهج. 1371 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ حَتَّى لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي أَقْصَى السُّوقِ لَسَمِعَهُ، أَسْمَعَ النَّاسَ صَوْتَهُ» {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15] يعني: المشرك، الذي كذب الرسول والقرآن، وتولى أعرض عن الإيمان. وسيجنبها سنبعدها، ويجعل منها على جانب، الأتقى يعني: أبا بكر في قول الجميع. ثم وصفه، فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، لا يطلب رياء، ولا سمعة. {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] قال المفسرون: لما اشترى أبو بكر، رضي الله عنه، بلالًا من صاحبه، وكان قد سلح على الأصنام، فأسلمه مولاه إلى المشركين ليعذبوه بما فعل، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فقال المشركون: ما فعل هذا أبو بكر إلا ليد كانت عنده لبلال، أراد أن يجزيه بها. فقال الله: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] أي: لم يفعل ما فعل ليد أسديت إليه، ولكنه ابتغى وجه الله، وهو قوله: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] أي: إلا طلب ثواب الله الآجل بصفاته الكريمة. 1372 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مِيكَالَ، أنا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ،

نا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، نا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} } [الليل: 19-20] ثم وعده أن يرضيه في الآخرة بثوابه، فقال: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] بما يعطيه في الجنة من الكرامة، والثواب.

تفسير سورة الضحى

تفسير سورة الضحى وهي إحدى عشرة آية، مكية. 1373 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَامِعِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالضُّحَى كَانَ فِيمَنْ يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، وَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ يَتِيمٍ وَسَائِلٍ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى {4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى {5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى {8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ {10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {11} } [الضحى: 1-11] . {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] 1374 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُعَاذٍ، نا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلا قَدْ وَدَّعَكَ، فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} } [الضحى: 1-3] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ كِلاهُمَا عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ. أقسم الله تعالى بالضحى، والمراد به النهار كله، لقوله في المقابلة: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] إذا سكن، قال عطاء: إذا غطي بالظلمة. وقال قتادة: إذا سكن، يعني: استقر ظلامه، فلا

يزداد بعد ذلك. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: {سَجَى} [الضحى: 2] امتد ظلامه. وقال الأصمعي: سجو الليل تغطيته للنهار. {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] هذا جواب القسم، قال المفسرون: أبطأ جبريل على النبي، عليهما السلام، فقال المشركون: قد قلاه الله وودعه. فأنزل الله تعالى هذه الآية، قالوا: وإنما أبطأ. لأن اليهود سألته عن الروح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال: سأخبركم غدًا. ولم يقل: إن شاء الله. 1375 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، نا أَبُو نُعَيْمٍ، نا حَفْصُ بْنُ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أُمِّهَا خَوْلَةَ وَكَانَتْ خَادِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْ جَرْوًا دَخَلَ الْبَيْتَ، فَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَمَاتَ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا لا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ مَا حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ جِبْرِيلُ لا يَأْتِينِي، قَالَتْ خَوْلَةُ: فَقُلْتُ: لَوْ هَيَّأْتُ الْبَيْتَ وَكَنَسْتُهُ، فَأَهْوَيْتُ بِالْمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَإِذَا شَيْءٌ ثَقِيلٌ، فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَإِذَا جَرْوٌ مَيِّتٌ، فَأَخَذْتُهُ فَأَلْقَيْتُهُ خَلْفَ الْجِدَارِ، فَجَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَدُ لِحْيَاهُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اسْتَقْبَلَتْهُ الرَّعْدَةُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ، دَثِّرِينِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} } [الضحى: 1-3] والمعنى: ما تركك ربك، وما أبغضك، والقلى: البغض، يقال: قلاه يقليه قلى. قال أبو عبيدة: ودعك من التوديع كما يودع المفارق. وقال الزجاج:

لم يقطع الوحي، ولا أبغضك. {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4] قال عطاء، ومقاتل: الجنة خير لك من الدنيا. 1376 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، نا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِالشَّرِيطِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ وحَشَوُهَا لِيفٌ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَانْحَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحِرَافَةً، فَرَأَى عُمَرُ أَثَرَ الشَّرِيطِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَبْكِي وَكِسْرَى وَقَيْصَرُ يَعْبَثَانِ فِيمَا يَعْبَثَانِ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنْتَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَرَى!!! ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: هُوَ كَذَلِكَ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] قال مقاتل: يعطيك ربك في الآخرة من الخير، فترضى بما تُعْطى. 1377 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَارِذِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ الْعَسْقَلانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْبَيْرُوتِيُّ، نا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَفْرًا كَفْرًا فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلْفَ أَلْفِ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ

وذكر آخرون أن هذه الآية في الشفاعة، وهو قول علي، والحسن، وعطاء، عن ابن عباس. قال: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى. أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نا ابن رستة، نا شيبان، نا حرب بن سريح، قال: سمعت محمد بن علي، يقول: يا أهل العراق، تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز وجل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] وهي والله الشفاعة، ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول: رب رضيت، وزدتني على أمتي في أمتي. 1378 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنَّهُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] ذكر المفسرون في هذه الآية الحديث الذي 1379 - أَخْبَرَنَاهُ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلَةً وَدِدْتُ، أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: أَيْ رَبِّ إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ أَنْبِيَاءُ قَبْلِي، مِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ وَذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ

كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَذَكَرَ عِيسَى، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، قَالَ: فَقَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَيْ رَبِّ " والمعنى: ألم يجدك يتيمًا صغيرًا حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالًا، ولا مأوى، فضمك إلى عمك أبي طالب، حتى أحسن تربيتك؟ ثم ذكر نعمة أخرى، فقال: {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7] قال أكثر المفسرين: {وَوَجَدَكَ ضَالا} [الضحى: 7] عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، غافلًا عنها، فهداك إليها. دليله قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] ، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] وهذا القول هو اختيار الزجاج، قال: معناه: أنه لم يكن يدري القرآن، ولا الشرائع، فهداه الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام. {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أي: فقيرًا لا مال لك، فأغناك الله بمال خديجة، عن أبي طالب، وقال الكلبي: رضاك بما أعطاك من الرزق. واختاره الفراء، فقال: لم يكن غنى عن كثرة المال، ولكن الله رضاه بما آتاه. وذلك حقيقة الغنى. ثم أوصاه باليتامى والفقراء، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] قال مجاهد: لاتحقر اليتيم، فقد كنت يتيمًا. وقال الفراء، والزجاج: لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه. وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى: تأخذ أموالهم، وتظلمهم حقوقهم، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحسن إلى اليتيم ويبره، ويوصي باليتامى. 1380 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ،

عَنْ أَبِي الْوَرْقَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ غُلامٌ، فَقَالَ: غُلامٌ يَتِيمٌ، وَأُخْتٌ لِي يَتِيمَةٌ، وَأُمٌّ لِي أَرْمَلَةٌ، أَطْعِمْنَا مِمَّا أَطْعَمَكَ اللَّهُ، وَأَعْطَاكَ اللَّهُ مِمَّا عِنْدَهُ حَتَّى تَرْضَى، قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتَ يَا غُلامُ اذْهَبْ يَا بِلالُ فَأْتِنَا بِمَا كَانَ عِنْدَنَا، فَجَاءَ بِوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ تَمْرَةً، فَقَالَ: سَبْعُ تَمَرَاتٍ لَكَ، وَسَبْعٌ لِأُخْتِكَ، وَسَبْعٌ لأُمِّكَ، فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: جَبَرَ اللَّهُ يُتْمَكَ، وَجَعَلَكَ خَلَفًا مِنْ أَبِيكَ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ رَأَيْتُكَ يَا مُعَاذُ وَمَا صَنَعْتَ، قَالَ: رَحِمْتُهُ، قَالَ: لا يَلِي أَحَدٌ مِنْكُمْ يَتِيمًا فَيُحْسِنُ وِلايَتَهُ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَى عَنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ دَرَجَةً ". 1381 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَتْحِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نا قَطَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا الْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَى يَدِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] قال المفسرون: يريد السائل على الباب. يقول: لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردًا لينا. يقال: نهره وانتهره. إذا استقبله بكلام يزجره، وقال قتادة: رد السائل برحمة ولين. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تردوا السائل ولو بظلف محرق» . 1382 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، نا أَبُو عَوَانَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَزِيدَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هُدْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَاكَ سَائِلٌ عَلَى فَرَسٍ بَاسِطٌ كَفَّيْهِ، فَقَدْ وَجَبَ الْحَقُّ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] قال مجاهد: بالقرآن. وهو قول الكلبي. قال: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرئه. قال الفراء: وكان يقرؤه، ويحدث به. وروى أبو بشر، عن مجاهد، قال: بالنبوة التي أعطاك ربك. واختاره الزجاج، فقال: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله، وهي أجل النعم. وقال مقاتل: يعني: اشكر لما ذكر من النعمة عليك، في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة، وجبر اليتيم، والإغناء بعد العيلة، فاشكر هذه النعم، والتحدث بنعمة الله شكر. يدل على ذلك ما: 1383 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، نا أَبُو يَعْلَى، نا ابْنُ حَمُّوَيْهِ، نا سَوَّارٌ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْبَصْرِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لا يَشْكُرُ الْقَلِيلَ لا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ، وَإِنَّ حَدِيثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ كُفْرٌ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ» . 1384 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ النَّسَوِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو رَجَاءٍ الْغَنَوِيُّ، نا ابْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ، نا أَبِي وَالْحُمَيْدِيُّ، قَالا: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ وَالضُّحَى، قَالَ: كَبِّرْ إِذَا خَتَمْتَ كُلَّ سُورَةٍ حَتَّى تَخْتِمَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا. 1385 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ، نا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، قَالا: نا ابْنُ أَبِي بَزَّةَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ وَالضُّحَى قَالَ: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ بِهِ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَحْيَ لَمَّا فَتَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ هَجَرَهُ شَيْطَانُهُ وَوَدَّعَهُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ وَالضُّحَى كَبَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحًا بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ سُنَّةً.

تفسير سورة الشرح

تفسير سورة الشرح ثمان آيات، مكية. 1386 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ أَلَمْ نَشْرَحْ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ، كَمَنْ لَقِيَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْتَمًّا فَفُرِّجَ عَنْهُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ {3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8} } [الشرح: 1-8] . {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] معنى شرح الصدر: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك، والله عز وجل فتح صدر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق، قال ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال: نعم. قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذهاب الشواغل التي تصد عن حقيقة الإيمان، وذلك أن صدق الإيمان بالله ووعده، يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت، فإنه باب الآخرة، وهذا معنى قول الحسن في هذه الآية: ملئ حكمًا وعلمًا. يعني أن معنى شرح صدره: أن ملأه الله علمًا وحكمًا حتى علم حقيقة الأشياء، فحكم لها بحكمها، علم حقيقة الدنيا،

وأنها فانية فتركها، وأن الآخرة باقية فيها، وكذلك كل شيء، ومعنى هذا الاستفهام التقرير أي: قد فعلنا ذلك، يدل على هذا قوله في النسق عليه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: حططنا عنك إثمك الذي سلف منك في الجاهلية. وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد مر. ثم وصف ذلك الوزر بقوله: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3] قال المفسرون: أثقل ظهرك. قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض، أي: صوت. وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملًا يحمل، لسمع نقيض ظهره، قال قتادة: كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له. وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت به، وذكر منته عليه بذلك. وقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الأذان والإقامة، والتشهد، والخطبة على المنابر يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وخطبة النكاح، وفي كل موطن، وعلى الدنانير والدراهم، وكلمة الشهادة، ولو أن رجلًا عبد الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله، لم ينتفع بشيء، وكان كافرًا. وقال الحسن في هذه الآية: ألا ترى أن الله تعالى لا يذكر في موضع إلا ذكر معه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قتادة: رفع ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادي به: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. 1387 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ

ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» وقال الضحاك: أي لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به، ولا يذكر الله إلا ذكر معه، فذلك الذي رفع به ذكره. قال: ورفع ذكره بالأذان. وفي هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ثم وعده اليسر، والرخاء بعد الشدة، وذلك: أنه كان بمكة في شدة، وهو قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] قال الكلبي: مع الفقر سعة. وقال مقاتل: يعني: تتبع الشدة الرخاء. ثم كرر ذلك، فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] قال ابن عباس، في رواية عطاء: يقول الله تعالى: خلقت عسرًا واحدًا، وخلقت يسرين، فلن يغلب عسر يسرين. 1388 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَسْرُورًا، فَرِحًا

وَهُوَ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} { [الشرح: 5-6] . وقال ابن مسعود: لو أن العسر دخل في حجر، لجاء اليسر حتى يدخل معه. قال الله تعالى:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} { [الشرح: 5-6] وكتب عمر، رضي الله عنه، إلى أبي عبيدة وهو محصور: إنه مهما تنزل بامرئ شدة، يجعل الله بعده فرجًا، فإنه لن يغلب عسر يسرين. وهذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابة، والمفسرين على أن العسر واحد، واليسر اثنان، وفي ظاهر التلاوة عسران ويسران، إلا أن المراد عسر واحد، لأنه مذكور بلفظ التعريف، واليسر مذكور بلفظ التنكير، فكان كل واحد منهما غير الآخر. أخبرنا أبو الحسن الفارسي، نا محمد بن محمد بن إبراهيم، نا أبو عمر، عن تغلب، عن سلمة، عن الفراء، قال: العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة، مثلهما صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهما فأنفق درهمًا. فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي هي كقولك: إذا كسبت درهمًا، فأنفق

الدرهم. فالثاني هو الأول. ونحو هذا قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام، ثم ثنى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. وقد أحسن صاحب النظم في تفسير هذه الآية، فقال: إن الله بعث نبيه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك، حتى قالوا له: إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى، جمعنا لك مالًا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فكرث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره، فعدد الله عليه مننه في هذه ال} [، ووعده الغنى، وأنزل:] أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} { [سورة الشرح: 1-2] أي: ما كنت فيه من أمر الجاهلية، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنمًا، ثم ابتدأ فيما وعده من الغنى، ليسليه بذلك عما خامره من الهم بقول من عيره بالفقر، فقال:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا { [الشرح: 5] والتأويل: لا يحزنك ما يقولون، وما أنت فيه من الإقلال، فإن مع ذلك يسرًا في الدنيا عاجلًا، ثم أنجز ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية، وعامة بلاد اليمن، وحتى أهل البوادي، فكان يعطي المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. ثم ابتدأ فضلًا آخر، فقال:} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا { [الشرح: 6] والدليل على ابتدائه تعريه من فاء أو واو وهو وعد لجميع المؤمنين، لأنه يعني بذلك: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران: يسر الدنيا وهو ما ذكر في الآية الأولى، ويسر الآخرة وهو ما ذكر في الآية الثانية، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن يغلب عسر يسرين» ، أي: يسر الدنيا والآخرة، فالعسر بين يسرين، إما فرج في الدنيا، وإما ثواب في الآخرة. سمعت أبا إسحاق المقرئ رحمه الله، يقول: سمعت الحسن بن محمد النيسابوري، سمعت محمد بن عامر البغدادي، يقول: سمعت عبد العزيز بن يحيى، يقول: سمعت عمي، يقول: سمعت العتبي، يقول: كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم، فألقي في روعي بيت شعر، فقلت: أرى الموت أصبح ... مغمومًا له أروح

فلما أن جن الليل، سمعت هاتفًا يهتف من الهواء: ألا يأيها المرء ... الذي الهم به برح وقد أنشد بيتًا لم ... يزل في فكره يسنح إذا اشتد بك العسر ... ففكر في ألم نشرح فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح قال: فحفظت الأبيات، وفرج الله غمي. أنشدنا أبو إسحاق، رحمه الله، قال: أنشدنا الحسن بن محمد بن الحسن، قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن إسحاق الجيرنجي، قال: أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي: فلا تيأس وإن أعسرت يومًا ... فقد أيسرت في دهر طويل ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل فإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل وأنشدنا أبو إسحاق، قال: أنشدني الحسن، قال: أنشدني محمد بن سليمان بن معاذ الكرخي، قال: أنشدنا أبو بكر ابن الأنباري: إذا بلغ العسر مجهوده ... فثق عند ذلك بيسر سريع ألم تر نحس الشتاء الفظيع ... يتلوه سعد الربيع البديع وأنشدنا أبو إسحاق، قال: أنشدنا الحسن، قال: أنشدني عيسى بن زيد العقيلي، قال: أنشدني سليمان بن أحمد الرقي: توقع إذا ما غرتك الخطوب ... سرورًا يشردها عنك قسرًا فما الله يخلف ميعاده ... وقد قال إن مع العسر يسرا قوله:} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ { [الشرح: 7] أي: فاتعب، يقال: نصب ينصب نصبًا. قال قتادة، والضحاك، ومقاتل، والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في

المسئلة يعطك. ونحو هذا روى عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، قال: إذا صليت، فاجتهد في الدعاء والمسألة. وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد، فادع لدنياك وآخرتك. ونحو هذا قال الزهري: إذا قضيت التشهد، فادع الله بعد التشهد بكل حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل. وسئل علي بن أبي طلحة عن هذه الآية، فقال: القول فيه كثير، وقد سمعنا أنه يقال: إذا صححت، فاجعل صحتك وفراغك نصبًا في العبادة. ويدل على هذا ما روي: أن شريحًا مر برجلين يصطرعان، فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، إنما قال الله عز وجل:} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8} [الشرح: 7-8] . قال عطاء: يريد: تضرع إليه راهبًا من النار، راغبًا في الجنة. وقال الزجاج: أي: اجعل رغبتك إلى الله وحده.

تفسير سورة التين

تفسير سورة التين ثمان آيات، مكية. 1389 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالتِّينِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَصْلَتَيْنِ الْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ مَا دَامَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِعَدَدِ مَنْ يَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ صِيَامَ يَوْمٍ» . 1390 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَفَّالُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرَّسْعَنِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ الصَّيَّادِ، نا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمِسْعَرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ زَادَ مِسْعَرٌ: فَمَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْر، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِسْعَرٍ. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ {1} وَطُورِ سِينِينَ {2} وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {6} فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ {7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ {8} } [التين: 1-8] .

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] قال أكثر المفسرين: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت. وإنما ذكر الله تعالى القسم بالتين، لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، وفيه أعظم العبرة، لدلالته على من هيأها على تلك الصفة، وجعلها على مقدار اللقمة، فالله عز وجل المنعم به على عباده، وقد روى أبو ذر، رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: في التين: «لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها، فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس» . وأما الزيتون، فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة مع الاصطباغ به والأدهان، واتخاذ الصابون. وقال قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. ونحو هذا قال عكرمة: هما جبلان بالشام، وإنما سيما بهما، لأنهما ينبتانهما. {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] يعني: الجبل الذي كلم عليه موسى عليه، السلام، و {سِينِينَ} [التين: 2] : المبارك الحسن بلغة الحبشة، وقال الكلبي: هو الجبل ذو الشجرة. وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء بلغة النبط. {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] يعني: البلد الحرام مكة، يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام، وسأل خزيمة بن حكيم السلمي رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن البلد الأمين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] : مكة ". وهذه أقسام. ثم ذكر المقسم عليه، فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي

أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] يعني: آدم وذريته، خلقهم الله في أحسن صورة، قال المفسرون: إن الله تعالى خلق كل ذي روح مكبًا على وجهه إلا الإنسان، خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده. وقال الكلبي: أقسم الله تعالى بما ذكر، لقد أنعم على الإنسان بتقويم الخلق. ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قومته فاستقام. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يريد إلى الهرم، وأرذل العمر، فيخرف وينقص عقله، والسافلون هم: الضعفاء، والزمن، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعًا، وقال مجاهد: ثم رددناه إلى النار. وهو قول الحسن، وأبي العالية. والنار أسفل سافلين، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض، والمعنى إلى أسفل سافلين. ثم استثنى المؤمنين، فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6] أي: إلا هؤلاء، فإنهم لا يردون إلى النار، ومن قال بالقول الأول، قال: إن المؤمن لا يرد إلى الخرف، وأرذل العمر، وإن عمر طويلًا. أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسن الكاتب، أنا محمد بن أحمد بن شاذان الرازي، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، نا أبو سعيد الأشج، نا وكيع، عن حماد، عن إبراهيم، قال: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل، كتب له ما كان يعمل، وهو قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] . وقال عكرمة: من رد منهم إلى أرذل العمر، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه، وذلك أجر غير ممنون. 1391 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحِيرِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ

الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ {5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5-6] . قَالَ: إلا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. 1392 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ القرباني، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا خَالِدٌ الزَّيَّاتُ، نا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَوْلُودُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحِنْثَ مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنَةٍ كُتِبَتْ لِوَالِدَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَلا عَلَى وَالِدَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحِنْثَ وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَيْنِ الَّذَيْنِ مَعَهُ يَحْفَظَانِهِ، وَيُسَدِّدَانِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْإِسْلامِ أَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَلايَا الثَّلاثَةِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ، فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ وَبِمَا يُحِبُّ، فَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ كَتَبَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَفَّعَهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَكَانَ اسْمُهُ أَسِيرَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ كَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عَلْمٍ شَيْئًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ» . وقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7] أي: بمجازاتي إياك بعملك

أيها الإنسان، وأنا أحكم الحاكمين، قال مقاتل: يقول: فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان الصورة الحسنة، والشباب، ثم الهرم بعد ذلك بالحساب. والمعنى: ألا يتفكر في صورته، وشبابه، وهرمه فيعتبر، ويقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني، ويحاسبني. ومعنى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7] : ما الذي يجعلك تكذب بالمجازاة بعد هذه الحجج؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] بأقضى القاضين، قال مقاتل: يحكم بينك وبين أهل التكذيب يا محمد. 1393 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَتْحِ بْنِ الشِّخِّيرِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَيَانِ بْنِ مُسْلِمٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ التين عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ لَهَا فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى تَبَيَّنَ لَنَا شِدَّةُ فَرَحِهِ فَسَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ: وَالتِّينِ بِلادُ الشَّامِ وَالزَّيْتُونِ بِلادُ فِلَسْطِينَ {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] مَكَّةُ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] عَبَدَةُ الَّلاتِ وَالْعُزَّى {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ {7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ {8} } [التين: 7-8] إِذْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا وَجَمَعَكَ عَلَى التَّقْوَى يَا مُحَمَّدُ.

تفسير سورة العلق

تفسير سورة العلق تسع عشرة آية، مكية. 1394 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْمُفَصَّلَ كُلَّهُ» . بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5} } [العلق: 1-5] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول يوم نزل جبريل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم على حراء، علمه خمس آيات من أول هذه السورة، وبيان ذلك فيما 1395 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أنا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ، أنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي

فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ. 1396 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ، أنا جَدِّي، نا أَبُو حَامِدِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] " رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ قال أبو عبيدة: مجازه: اقرأ اسم ربك، يعني أن الباء زائدة، والمعنى: اذكر اسمه، كأنه أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبًا. الذي خلق قال الكلبي: يعني الخلائق. ثم ذكر ذلك، فقال: خلق الإنسان يعني: ابن آدم، من علق جمع علقة. اقرأ تكرير للتأكيد، ثم استأنف، فقال: وربك الأكرم، قال الكلبي: الحليم عن جهل العباد: لا يعجل عليهم بالعقوبة. الذي علم الكتابة، بالقلم قال الزجاج: علم الإنسان الكتابة بالقلم. {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى {6} أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى {7} إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى {8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْدًا إِذَا صَلَّى {10} أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى {11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى {12} أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى {13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {14} كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ {15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ {16} فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ {17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {18} كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {19} } [العلق: 6-19] . {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] نزلت هذه الآية وما بعدها إلى آخر ال { [في أبي جهل، ومعنى: كلا حقًا، إن الإنسان يعني: أبا جهل، ليطغى قال مقاتل: كان إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه، ومركبه، وطعامه، وشرابه، فذلك طغيانه. ونحو هذا قال الكلبي: يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام. {أَنْ رَآهُ

اسْتَغْنَى} [سورة العلق: 7] أي: رأى نفسه غنيًا. 1397 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأُمَوِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، وَلا يَسْتَوِيَانِ، أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ، فَيَزْدَادُ رِضًا لِلرَّحْمَنِ، وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا، فَيَزْدَادُ فِي الطُّغْيَانِ، ثُمَّ قَرَأَ: {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى {6} أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى {7} } [العلق: 6-7] قال مقاتل: ثم خوفه الله تعالى بالرجعة، فقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] أي: المرجع، والرجعى مصدر على فعلى، قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] . 1398 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُكْرَمٍ الْبِرْتِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمديني، نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَبِالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: هَا هُوَ ذَاكَ يُصَلِّي، فَانْطَلَقَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَمَا فَجَأَهُمْ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ ومعنى: أرأيت ههنا: تعجيب للمخاطب، وكرر هذه اللفظة للتأكيد في التعجيب، وهو قوله: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11] يعني: العبد المنهي وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق: 12] يعني: بالإخلاص، والتوحيد، ومخافة الله. {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ} [العلق: 13] أبو جهل، وتولى عن الإيمان، وتقدير نظم الآية: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْدًا إِذَا صَلَّى {10} } [العلق: 9-10] وهو على الهدى، أمر بالتقوى، والناهي مكذب عن الإيمان؟ ! أي: فما أعجب من هذا! ألم يعلم يعني: أبا جهل، {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ذلك فيجازيه به. كلا لا يعلم ذلك، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} [العلق: 15] عن تكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشتمه، وإيذائه، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] السفع: الجذب الشديد، والمعنى: لنجرن

بناصيته إلى النار، وهو كقوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] ، قال مقاتل: ثم أخبر عنه أنه فاجر خاطئ، فقال: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] . تأويله: صاحبها كاذب خاطئ، ولما نهى أبو جهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو جهل: أتنتهرني يا محمد؟ فوالله لقد علمت ما بها رجل أكثر ناديًا مني. فأنزل الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أي: أهل مجلسه، يعني عشيرته، أي: فليستنصر بهم. 1399 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَجَرَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرُ مِنِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ {17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {18} } [العلق: 17-18] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ قال أبو عبيدة، والمبرد: واحد الزبانية زبينية، وهو الشديد الأخذ، وأصله من زبنته إذا دفعته. قال ابن عباس: يريد: الأعوان زبانية جهنم. وقال الزجاج: هم الملائكة، الغلاظ الشداد. ثم قال: كلا أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل، لا تطعه في ترك الصلاة، واسجد صلّ لله، واقترب إليه بالطاعة. 1400 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُسْلِمٌ، نا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرَوَيْهِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» . 1401 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّرَّكِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِيكَالِيُّ، أنا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، نا أَبُو هَمَّامٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ إِذَا كَانَ سَاجِدًا» .

تفسير سورة القدر

تفسير سورة القدر خمس آيات، مكية. 1402 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُؤَذِّنُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقَدْرِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {5} } [القدر: 1-5] . {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: القرآن أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم فرق في السنين بالإنزال على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1403 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أنا جَدِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ وقال مقاتل: أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة، وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا، فكان ينزله ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في السنة كلها، إلى مثله من القابل حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ونزل به جبريل على محمد، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في عشرين سنة. وليلة القدر ليلة تقدير الأمور والأحكام، قدر الله في ليلة القدر أمر السنة في عباده، وبلاده إلى السنة المقبلة، كقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والأخبار في ليلة القدر، وبيان فضلها، وأي ليلة هي، كثيرة نذكر منها ما لا بد منه، والناس مختلفون في ليلة القدر، فذهب كثير منهم إلى أنها إنما كانت على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رفعت،

وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلها. ومن علق طلاق امرأته على ليلة القدر لم تقع إلى مضي سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، رحمة الله عليه، وجمهور أهل العلم على أنها في رمضان كل سنة. 1404 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ، حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ أَشْيَاءَ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَتَفَلَّتَتْ مِنِّي، فَبَلَغْتُ أَرْمِي بِبَصَرِي نَحْوَ السَّمَاءِ أَتَذَكَّرُ، فَذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلَ النَّاسِ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَشَيْءٌ يَكُونُ فِي زَمَانِ الأَنْبِيَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْوَحْيُ فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي فِي أَيِّ شَهْرٍ هِيَ؟ قَالَ: فِي رَمَضَانَ، قُلْتُ: فِي أَيٍّ؟ قَالَ: لَوْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِهَا لأَخْبَرْتُكُمْ الْتَمِسْهَا فِي أَحَدِ السَّبْعَيْنِ، ثُمَّ لا تَسْأَلْنِي عَنْهَا بَعْدَ مَرَّتِكَ هَذِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ يُحَدِّثُهُمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَطْلَقَ لَهُ الْحَدِيثُ، قُلْتُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي فِي أَيِّ السَّبْعَيْنِ هِيَ، قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضْبَةً لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْهَا؟ إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَذِنَ لِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِهَا لأَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لا آمَنُ أَنْ تَكُونَ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ. 1405 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، نا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: مَنْ قَامَ الْحَوْلَ كُلَّهُ أَدْرَكَهَا، فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَقَدْ عَلِمَ، أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ يَحْلِفُ لا يَسْتَثْنِي، قُلْتُ: مَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَسَبْنَا وَعَدَدْنَا، فَإِذَا هِيَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ، يَعْنِي أَنَّ الشَّمْسَ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي الْعَشْرُ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي الأَوْتَارِ مِنْهَا. 1406 - حَدَّثَنَا أَبُو

الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أنا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ. 1407 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، نا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى أَوْ فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» ثُمَّ إِنَّهَا قَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. 1408 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ. 1409 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ، قُلْنَا: ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ وَبَقِيَ ثَمَانٍ، فَقَالَ: مَضَى ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ وَبَقِيَ سَبْعٌ اطْلُبُوهَا اللَّيْلَةَ، الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ". 1410 - أَخْبَرَنَا أَبُو

بَكْرٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . 1411 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، نا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، نا ابْنُ ثَوْبَانَ، قَالَ: سُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ قَالَ: لا أُرَاهَا إِلا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ فَقَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ثُمَّ جَعَلَ رِزْقَهُ فِي سَبْعَةِ أَصْنَافٍ {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] وَإِلَى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ثُمَّ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَرَامَةً لِدِينِهِ وَعِيدًا، وَجَعَلَ السَّمَوَاتِ سَبْعًا، وَجَعَلَ الأَرْضِينَ سَبْعًا، وَجَعَلَ الْمَثَانِيَ سَبْعًا، فَلا أَرَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ. 1412 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادَ بْنِ شختويه، نا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُومَهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَة. 1413 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، أَنَّ حَامِدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْهَرْمِيَّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَمْرُو بْنُ حَكَّامٍ، نا سَلامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَحَرَّوْهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ» 1414 - أَخْبَرَنَا أَبُو

إِسْحَاقَ الْمُقْرِي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: ذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَالِبِهَا بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ أَوْ ثَلاثٍ يَبْقَيْنَ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ» فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ صَلَّى كَمَا يُصَلِّي فِي السَّنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ، وَمِنْ فَضْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ قِيَامَهَا مَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ كُلِّهَا. 1415 - أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَن مُعَاذِ بْنِ هِشَام، عَن أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. 1416 - أَخْبَرَنِي الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّاذَيَاخِيُّ، أنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، نا مُعَاذُ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرْيَرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ» . وقد ذكر الله، عز وجل، فضلها في قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، قال مجاهد: قيامها، والعمل فيها خير من قيام شهر، وصيامه ليس فيه ليلة القدر. وهذا قول مقاتل، وقتادة، واختيار

الفراء، والزجاج، وذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيه من الخير والنفع، فلما جعل الله تعالى الخير الكبير في ليلة القدر، كانت خيرًا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما يكون في هذه الليلة، وقال عطاء، عن ابن عباس: ذكر لرسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب لذلك رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عجبًا شديدًا، وتمنى أن يكون مثل ذلك في أمته، فقال: يا رب، جعلت أمتى أقصر الأمم أعمارًا، وأقلها أعمالًا. فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك، ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان. ثم أخبر بما يكون في تلك الليلة، فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] يعني: جبريل فيها، قال المفسرون: تنزل الملائكة ومعهم جبريل في ليلة القدر، بالرحمة من الله، والسلام على أوليائه، فيسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله. وهو قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] أي: بكل أمر من الخير والبركة، وهذا كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي: بأمره. سلام قال عطاء: يريد: سلام على أولياء الله، وأهل طاعته. وقال الكلبي: كلما لقي الملائكة مؤمنًا، أو مؤمنة في ليلة القدر، سلموا عليه من ربه. وقال مجاهد: إن ليلة القدر سالمة من أن يحدث فيها داء، أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها. وسلام يعني سلامة، أي: سلامة، {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] والمطلع مصدر بمعنى: الطلوع، ومن قرأ بكسر اللام، فهو اسم لوقت الطلوع.

تفسير سورة البينة

تفسير سورة البينة ثماني آيات، مدينة. 1417 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ لَمْ يَكُنْ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ مُسَافِرًا وَمُقِيمًا» . 1418 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ النُّعْمَانِ، نا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كفروا لَعَطَّلُوا الأَهْلَ وَالْمَالَ وَلَتَعَلَّمُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: مَا فِيهَا مِنَ الأَجْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَقْرَؤُهَا مُنَافِقٌ أَبَدًا، وَلا عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ شَكٌّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَقْرَءُونَهَا مُنْذُ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَفْتُرُونَ مِنْ قِرَاءَتِهَا، وَمَا عَبْدٌ يَقْرَؤُهَا بِلَيْلٍ إِلا بَعَثَ اللَّهُ مَلائِكَتَهُ يَحْفَظُونَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنْ قَرَأَهَا بِنَهَارٍ أُعْطِيَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ مِثْلُ مَا أَضَاءَ عَلَيْهِ النَّهَارُ، وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَقَالَ رَجُل ٌمِنْ قَيْسِ عَيْلانَ: زِدْنَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَلَّمُوا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] وَتَعَلَّمُوا {ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَتَعَلَّمُوا {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] وَتَعَلَّمُوا {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] فَإِنَّكُمْ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِنَّ لَعَطَّلْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَتَعَلَّمْتُمُوهُنَّ وَتَقَرَّبْتُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ بِهِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ إِلا الشِّرْكَ بِاللَّهِ،

وَاعْلَمُوا أَنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ. بسم الله الرحمن الرحيم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ {1} رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ {3} وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4} وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ {5} } [البينة: 1-5] . {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] يعني: اليهود والنصارى، والمشركين يعني: مشركي العرب، منفكين منفصلين، وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك. أي: انفصل منه، قال ابن عباس، في رواية عطاء، والكلبي: لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله، وعبادتهم غير الله. حتى تأتيهم أي: حتى أتتهم، لفظه مستقبل ومعناه المضي، كقوله عز وجل: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تلت، وقوله: البينة قال ابن عباس: يريد محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو قول مقاتل. يعني محمدًا، فبين لهم ضلاتهم وشركهم، ومعنى الآية: إخبار الله تعالى عن الكفار، أنهم لم ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان، وهذا بيان عن النعمة، والإنقاذ به من الجهل والضلالة، والآية فيمن آمن من الفريقين، وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقًا لا تفضي بهم إلى الصواب، والوجه ما أخبرتك به، فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال، ويدل على أن المراد بالبينة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه فسرها، وأبدل منها، فقال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا} [البينة: 2] يعني: ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن، ويدل على ذلك، أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، مطهرة من الباطل، والكذب، والزور. فيها كتب يعني: الآيات، والأحكام المكتوبة فيها، قيمة عادلة، مستقيمة، غير ذات عوج، تبين الحق من الباطل. ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بعثه الله، فلما بعث، تفرقوا في أمره واختلفوا، وآمن به بعضهم، وكفر آخرون. ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم، فقال: {وَمَا أُمِرُوا

إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] قال ابن عباس: وما أمروا في التوراة، والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله، موحدين لا يعبدون معه غيره. حنفاء على دين إبراهيم، ويقيموا الصلاة المكتوبة في أوقاتها، ويؤتوا الزكاة عند محلها، وذلك الذي أمروا به، هو: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] دين الملة المستقيمة. أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، أنا عبد الله بن عبد الملك، نا عبد الله بن عبد الوهاب، نا ابن نمير، نا أحمد الزبيري، عن معقل، قال: قلت للزهري: قوم يزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان. فقرأ هذه الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة: 5] إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فمن زعم أن هذا ليس من الإيمان، فقد كذب. ثم ذكر مال الفريقين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {6} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ {7} جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ {8} } [البينة: 6-8] . إن الذين كفروا إلى قوله: شر البرية يعني: شر الخليقة من أهل الأرض، وقراءة العامة بغير همز، وهي من برأ الله الخلق، والقياس فيها الهمز، إلا أنه مما ترك همزه كالنبي، والذرية، والجابية، والهمز فيه كالرد إلى الأصل المرفوض في الاستعمال. ثم ذكر مستقر المؤمنين، فقال: إن الذين آمنوا وهو ظاهر التفسير، إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] يعني: في الدنيا، وتناهى عن معاصيه.

تفسير سورة الزلزلة

تفسير سورة الزلزلة ثماني آيات، مدنية. 1419 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَاضِحٍ الْكَرَجِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: " سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا فُلانُ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: لا وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ ". 1420 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، نا الْحَسَنُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ صَالِحٍ، نا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَت عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ ". 1421 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ إِذَا زُلْزِلَت فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا {5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَنْ يَعْمَلْ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 1-8] . {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] إذا حركت حركة شديدة، وذلك عند قيام الساعة، تحرك الأرض فتضطرب حتى يتكسر كل شيء عليها، وتخرج كل شيء أدخل فيها، وهو قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] لفظت ما فيها من كنوزها وموتاها، والأثقال: جمع ثقل، والموتى أثقال في بطن الأرض. ثم ذكر أن الكافر ينكر تلك الحالة، فقال: {وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 3] يقول الكافر الذي لم يؤمن بالبعث: لأي شيء زلزالها. قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] تخبر بما عمل عليها. 1422 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أنا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّوْطِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاشِعٍ، نا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْعُمَرِيُّ، نا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَخْبَارُهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا أَخْبَارُهَا ". 1423 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرَجَانِيُّ، نا ابْنُ بَطَّةَ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا أَبُو الأَسْوَدِ، أنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «حَافِظُوا عَلَى الْوُضُوءِ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الأَرْضِ، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ يَعْمَلُ فِيهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلا وَهِيَ مُخْبِرَةٌ بِهِ» . وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله، وإذنه لها. قال ابن عباس: أذن لها لتخبر بما عمل عليها. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6] يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين: أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] و {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] ، ليروا أعمالهم قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم. والمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقًا، لينزلوا منازلهم من

الجنة والنار. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] وزن نملة أصغر ما يكون من النمل، قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا، {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] يوم القيامة في كتابه، فيفرح به. وكذلك من الشر يراه في كتابة فيسوءه ذلك، قال: وكان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير، ويقول: إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وليس اليسير مما نحب. ويتهاون بالذنب اليسير، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر. فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يرغبهم في القليل من الخير، ويحذرهم عن اليسير من الشر. 1424 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، نا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " قَدِمَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {8} } [الزلزلة: 7-8] قَالَ: حَسْبِي مَا أُبَالِي أَنْ لا أَسْمَعَ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا ". 1425 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، نا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نا مَيْسَرَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَى مَا يَنْتَهِي النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِلَى أَعْمَالِهِمْ، مَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ".

تفسير سورة العاديات

تفسير سورة العاديات إحدى عشرة آية، مكية. 1426 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَالْعَادِيَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَشَهِدَ جَمْعًا» بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا {1} فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا {2} فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا {3} فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا {4} فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا {5} إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ {6} وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ {7} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ {8} أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ {9} وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ {10} إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ {11} } [العاديات: 1-11] . {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] قال ابن عباس: هي الخيل في الغزو. وهو قول عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والربيع. قالوا: أقسم الله تعالى بالخيل العادية لغزو الكفار، وهي تضبح ضبحًا. وضبحها: صوت أجوافها إذا عدت، ليس بصهيل، ولا حمحمة، ولكنه صوت نفس. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2] قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها، فأورت منها النار، مثل الزناد، إذا قدح. وقال مقاتل: يقدحن بحوافرهن في الحجارة. وقال الزجاج: إذا عدت بالليل، وأصاب حوافرها الحجارة، انقدح منها النيران. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات: 3] هي التي تغير على العدو عند الصباح. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات: 4] يقال: ثار الغبار والدخان، وأثرته. أي: هيجته، والنقع: الغبار، والمعنى: {فَأَثَرْنَ} [العاديات: 4] بمكان عدوها: {نَقْعًا} [العاديات: 4] . {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 5] يقال: وسطت المكان. أي: صرت في وسطه، يعني: صرن بعدوهن وسط جمع العدو، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، فقال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] وهو الكفور للنعمة. 1427 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ

جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] قَالَ: الْكَنُودُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ} [العاديات: 7] قال عطاء، عن ابن عباس: وإن الله على كفره، لشهيد. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل، يقال للبخيل: شديد ومتشدد. {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات: 9] أفلا يعلم هذا الإنسان إذا بعث الموتى؟ وبعثر معناه: انتثر، وأخرج. {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10] أي: ميز، وبيّن ما فيها من الخير والشر، والتحصيل: تمييز ما يحصل. {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ويكون المعنى: الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، ومثله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم.

تفسير سورة القارعة

تفسير سورة القارعة إحدى عشرة آية، مكية. 1428 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ سَعِيدٌ الْمُقْرِي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْقَارِعَةِ ثَقَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مِيزَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {الْقَارِعَةُ {1} مَا الْقَارِعَةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3} يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ {4} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ {5} فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ {6} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ {7} وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ {8} فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ {9} وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ {10} نَارٌ حَامِيَةٌ {11} } [القارعة: 1-11] . القارعة اسم من أسماء القيامة، لأنها تفزع القلوب بالقرع، وتفزع أعداء الله بالعذاب. وقوله: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 2] تهويل وتعظيم. ثم عجب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 3] تعظيمًا لشأنها. ثم بين أنها متى تكون، فقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] الفراش ما تراه يتهافت في النار، شبه الناس في وقت البعث بالفراش، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم في بعض، والفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، فدل على أنهم إذا بعثوا فزعوا، فاختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة، كما قال: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] و {الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] المفرق، يقال: بثه، إذا فرقه. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وهو الذي نفش بالندف، والمعنى: أنها تصير خفيفة في السير. ثم ذكر أحوال الناس بقوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6] يعني: رجحت حسناته. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] قال الزجاج: أي: ذات رضا، يرضاها صاحبها. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] رجحت سيئاته على حسناته. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] فمسكنه جهنم، وقيل لمسكنه: أمه. لأن الأصل في السكون إلى الأمهات، والهاوية: من أسماء جهنم، وهي المهواة لا يدرك قعرها، ويدل على صحة هذا التفسير ما روي، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " إذا

مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين، فتقول له: ما فعل فلان. فإذا قال: مات. قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية ". ثم أخبر الله عز وجل عنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] يعني: الهاوية، والهاء في هيه للوقف. ثم فسر، فقال: نار حامية حارة، قد انتهى حرها.

تفسير سورة التكاثر

تفسير سورة التكاثر ثمان آيات، مكية. 1429 - رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ السَّابِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، لَمْ يُحَاسِبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالنَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ» بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ {2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ {7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8} } [التكاثر: 1-8] . {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قال المفسرون: شغلكم التكاثر بالأموال، والأولاد، والتفاخر بكثرتها. {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2] حتى أدرككم الموت على تلك الحال، نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان. شغلهم ذلك عن الإيمان حتى ماتوا ضلالا، ثم يدخل في هذا كل من اشتغل بالتكاثر، والتفاخر عن طاعة الله حتى يأتيه الموت وهو على ذلك، ويدل على هذا ما: 1430 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ " رَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ

ثم رد الله تعالى عليهم هذا، فقال: كلا أي: ليس الأمر الذي ينبغي أن تكونوا عليه التكاثر، ثم أوعدهم فقال: سوف تعلمون ثم وكد ذلك وكرره، فقال: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 4] قال الحسن، ومقاتل: هو وعيد بعد وعيد، والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم، إذا نزل بكم الموت. {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] كلام آخر، يقول: لو تعلمون الأمر علمًا يقينًا، لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر، وجواب لو محذوف وهو ما ذكرنا. ثم أوعدهم وعيدًا آخر، فقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] وقرأه العامة بفتح التاء، وقرئ بضمها من أريته الشيء، والمعنى: أنهم يحشرون إليها فيرونها. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] أي: مشاهدة، تقول: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال مقاتل: يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم، حيث عبدوا غيره، وأشركوا به، ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم. وهذا قول الحسن. قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال قتادة: إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه. وعلى هذا ورد أكثر الأخبار. 1431 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْدِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ " عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ إِنَّمَا هُوَ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ ". 1432 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرٍ، نا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّازُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ الْحِمَّانِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، نا عَامِرُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَطْعَمْنَاهُمْ رُطَبًا، وَسَقَيْنَاهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ» 1433 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ قال، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِيعِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، نا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، نا أَبُو نَصْرٍ، عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلا، فَدَعَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَنَحْنُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: أَطْعِمْنَا بُسْرًا، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلا مِنْ ثَلاثٍ خِرْقَةٍ يُوَارِي الرَّجُلُ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ يَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ» .

تفسير سورة العصر

تفسير سورة العصر ثلاث آيات، مكية. 1434 - أَخْبَرَنَا ابْنُ الزَّعْفَرَانِيِّ، أنا ابْنُ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْعَصْرِ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالصَّبْرِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} } [العصر: 1-3] . قوله تعالى: والعصر أقسم الله تعالى بالدهر، لأن فيه عبرة للناظرين من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار، وقال مقاتل: أقسم الله تعالى بصلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى. وقال الزجاج: قال بعضهم: معناه ورب العصر. إن الإنسان يعني: جميع الناس، {لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] الخسر كالخسران، وهو النقصان، وذهاب رأس المال، والمعنى: إن كل إنسان، يعني: الكافر، لاستثنائه المؤمنين، لفي ضلال حتى يموت ويدخل النار، وقال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال، والإنسان في هلاك نفسه وعمره، وهما أكثر رأس ماله، إلا المؤمن العامل بطاعة الله. وهو قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] وصدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعته، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] أوصى بعضهم بعضًا بالقرآن، وقال مقاتل: بتوحيد الله تعالى. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] عن معاصي الله، وعلى فرائض الله، وروى أبو أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعصر، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما تفسيرها؟ فقال: " {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار، {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] أبو جهل بن هشام، إلا الذين آمنوا أبو بكر الصديق، وعملوا الصالحات عمر بن الخطاب، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] عثمان بن عفان، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم ".

تفسير سورة الهمزة

تفسير سورة الهمزة مكية، تسع آيات. 1435 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ {1} الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ {2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ {3} كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ {4} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ {5} نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ {7} إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ {8} فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ {9} } [الهمزة: 1-9] . {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قال أبو عبيدة، والزجاج: الهمزة اللمزة: الذي يغتاب الناس. قال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. ثم وصفه، فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالا} [الهمزة: 2] وقرئ: جمع بالتشديد، وهو جمع بالشيء بعد الشيء، وعدده قال الفراء: أحصاه. وقال الزجاج:

وعدده للدهور، فيكون من العدة، يقال: أعددت الشيء، وعددته إذا أمسكته. ثم ذكر طول أمله، فقال: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] أي: يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يموت. كلا لا يخلد ماله، ولا يبقى له، {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 4] ليلقين في جهنم، وليطرحن فيها، والحطمة من أسماء جهنم، قال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب. وذلك قوله: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ {7} } [الهمزة: 6-7] قال: يخلص حرها إلى القلوب. ثم يكسى لحمًا جديدًا، ثم تقبل عليه فتأكله. {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] مطبقة، في عمد وقرئ عمد وكلاهما جمع عمود، وقال أبو عبيدة: كلاهما جمع العماد، وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم سدت بأوتاد من حديد من نار، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يفتح عنهم باب، ولا يدخل عليهم روح. وممددة من صفة العمد، أي: أنها ممدودة مطولة، وهي أرسخ من القصيرة.

تفسير سورة الفيل

تفسير سورة الفيل خمس آيات، مكية. 1436 - فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفِيلِ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيَّامَ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَدُوِّ وَالْمَسْخِ» . بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ {1} أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ {2} وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ {3} تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ {4} فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ {5} } [الفيل: 1-5] . ألم تر قال الفراء: ألم تخبر. وقال الزجاج: ألم تعلم. وقال صاحب النظم: معناه التعجب. و {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] يعني: الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة. {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} [الفيل: 2] مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها، في تضليل عما قصدوا له، ضلل كيدهم حتى لم يصلوا إلى البيت، وإلى ما أرادوه بكيدهم. {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] أقاطيع يتبع بعضها بعضًا، كالإبل المؤبلة، قال أبو عبيدة: الأبابيل: جماعات في تفرقة، يقال: جاءت الخيل أبابيل من ههنا وههنا، ولم نر أحدًا يجعل لها واحدًا. وقال ابن عباس: كانت طيرًا لها خراطيم، وأكف كأكف الكلاب. وقال عطاء عنه، وقتادة: طير سود، جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقارة، لا يصيب شيئًا إلا هشمه. فذلك قوله: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 4] قال ابن مسعود: ما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] كزرع، وتبن قد أكلته الدواب، ثم راثته، وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث.

تفسير قريش

تفسير قريش أربع آيات، مكية. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة لإيلاف قريش، أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من طاف بالكعبة، واعتكف بها» . بسم الله الرحمن الرحيم لإِيلافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ {4} } [سورة قريش: 1-4] . {لإِيلافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلافِهِمْ} [قريش: 1-2] وقرئ: إلافهم وإلفهم يقال: ألفت الشيء إلافا وإلفًا، وألفته إيلافًا بمعنى واحد. يقال: آلفت الظباء الرمل. إذ ألفته، واللام في الإيلاف تتعلق بالتي قبلها، وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم النعمة عليهم، فيما صنع بالحبشة، ثم قال: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} [سورة قريش: 1] يقول: فعلنا ذلك بهم لتألف قريش رحلتيها. قال الزجاج: المعنى: فجعلهم

كعصف مأكول لإلف قريش، أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2] . وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا، فقال: هاتان سورتان متصلتا الألفاظ، والمعنى: أن قريشًا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه، وأن يعرض لها أحد بالسوء، إذا خرجت منه لتجارتها، والحرم واد جديب، إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة، رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل إلى مكة، ليهدموا الكعبة، أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما تعيشهم ومقامهم بمكة. وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الأسم، فقال الأكثرون: سموا قريشًا للتجارة وجمع المال، وكانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب ضرع ولا زرع. والقرش: الكسب، يقال: هو يقرش لعياله ويقترض. أي: يكتسب. 1437 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا، قَالَ: بِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَعْظَمِ دَوَابَّهِ يُقَالُ لَهَا: الْقِرْشُ لا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلا أَكَلَتْهُ، قَالَ: فَتُنْشِدُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ إِذْ يَقُولُ: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلا تَتْرُكُ ... فِيهِ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا هَكَذَا فِي الْبِلادِ حَتَّى قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلادَ أَكْلا كَمِيشَا وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا

{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3] يقول: فليوحدوا رب هذه الكعبة. {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] أي: بعد جوع، كما تقول: كسوتك من عرى. وذلك: أن الله تعالى أمنهم بالحرم، وجعلهم من أهله حتى لم يتعرض لهم في رحلتيهم، وكان ذلك سبب إطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع، قال عطاء، عن ابن عباس: إنهم كانوا في ضر، ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني، حتى كان فقيرهم كغنيهم، فلم يكن بنو أب أكثر مالًا، ولا أعز من قريش. وقد قال الشاعر فيهم: الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي وقوله: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] هو أنهم كانوا يسافرون آمنين، لا يتعرض لهم أحد، وكان غيرهم لا يأمن في سفره، ولا في حضره.

تفسير سورة الماعون

تفسير سورة الماعون سبع آيات، مكية. 1438 - / فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالإِسْنَادِ السَّابِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ أَرَأَيْتَ الَّذِي غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا إِنْ كَانَ لِلزَّكَاةِ مُؤَدِّيًا» . بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ {1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {3} فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7} } [الماعون: 1-7] . {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] قال عطاء، عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين. وقال الكلبي: نزلت في العاصي بن وائل. ومعنى: {يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] : بالجزاء والحساب. ثم أخبر عنه بقوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] يدفعه عن حقه دفعًا بعنف وجفوة. {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] ولا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه، لأنه يكذب بالجزاء. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ {5} } [الماعون: 4-5] نزلت في المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابًا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7} } [الماعون: 6-7] أكثر المفسرين على أن الماعون: اسم لما يتعاوره الناس بينهم من الدلو، والفأس، والقدر، ما لا يمنع كالماء، والملح يدل على هذا ما: 1439 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيُّ، نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، نا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ، نا دَلْهَمُ بْنُ دَهْثَمٍ الْعِجْلِيُّ، نا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، " أَنَّهُمْ وَفَدُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ شُرَيْحٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَانْطَلَقُوا وَاتَّبَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ شُرَيْحٍ حَتَّى صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَاهُ كِتَابَهُ، فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَالَ: لا تَمْنَعُوا الْمَاعُونَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: الْمَاعُونُ فِي الْحَجَرِ وَالْحَدِيدَةِ وَالْمَاءِ، قَالُوا: فَأَيُّ الْحَدِيدَةِ، قَالَ: قِدْرُ النُّحَاسِ وَحَدِيدُ الْفَأْسِ الَّذِي يَمْتَهِنُونَ بِهِ، قَالُوا: مَا الْحَجَرُ؟ قَالَ: قُدُورُكُمُ الْحِجَارَةُ ". أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، نا محمد بن يعقوب، نا أحمد بن عبد الجبار، نا وكيع، عن سنام، عن عكرمة، قال: الماعون: الفأس، والقدر، والدلو. قلت: من منع هذا فله الويل؟ قال: لا، ولكن من جمعهن من رايا في صلواته، وسها فيها، ومنع هذا، فله الويل.

تفسير الكوثر

تفسير الكوثر ثلاث آيات، مكية. في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة إنا أعطيناك الكوثر، سقاه الله عز وجل من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل قربان قربه العباد من المسلمين في يوم عيد، وكل قربان ما يقربون من أهل الكتاب، والمشركين» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [سورة الكوثر: 1-3] . {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] أكثر المفسرين على أن الكوثر نهر في الجنة، يدل عليه ما: 1440 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْحِيرِىُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [الكوثر: 1-3] ثم قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِي عَلَيْهِ رَبِّي خَيْرًا كَثِيرًا هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي،

فَيَقُولُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. 1441 - وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أنا مُحَمَّدٌ، أنا أَحْمَدُ، نا هُدْبَةُ، نا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَضَرَبَ الْمَلَكُ بِيَدِهِ، فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ. 1442 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَهْوَازِيُّ، نا مَعْمَرُ بْنُ سَهْلٍ، نا عَامِرُ بْنُ مُدْرِكٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا أَبُو الْيَقْظَانِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ قِيلَ: هَذَا الْكَوْثَرُ، فَأَصْبَحَ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ مُنَافِقٌ لِصَاحِبٍ لَهُ: سَلْهُ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا نَهْرًا قَطُّ إِلا عَلَى شَطِّهِ نَبَاتٌ، مَا نَبْتُهُ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَهْرٍ إِلا عَلَى شَطِّهِ نَبْتٌ فَمَا نَبْتُهُ؟ قَالَ: قُضْبَانُ الذَّهَبِ الرَّطْبِ مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهِ تُظِلُّهُ، قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَبْتًًا إِلا لَهُ ثَمَرٌ فَمَا ثَمَرُهُ؟ قَالَ: الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالزُّمُرُّدُ، قَالُوا: إِنَّا لَمْ نَرَ نَهْرًا إِلا لَهُ حَمْأَةٌ فَمَا حَمْأَتُهُ؟ قَالَ: الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، قَالُوا: فَإِنَّا لَمْ نَرَ نَهْرًا قَطُّ إِلا يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضٍ، فَمَا رَضْرَاضُهُ؟ قَالَ: جَنَادِبُ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ "، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخبرنا أبو نصر الجوزقي، أنا بشر بن أحمد بن بشر، أنا أحمد بن علي بن المثنى، نا شيبان، نا

مبارك، عن الحسن، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] قال: العلم والقرآن. قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [الكوثر: 2] يعني: الصلوات الخمس، وانحر البدن بمنى، وقال محمد بن كعب: إن ناسًا كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون صلاته ونحره له. وقال ابن عباس، في رواية أبي الجوزاء في قوله: {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: تضع يدك اليمنى على اليسرى في الصلاة. وهو قول علي رضي الله عنه، {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وروي مرفوعًا: أنه رفع اليمين في الصلاة. 1443 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَشَّاطُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْمَاطِيُّ، نا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ أَبِي مَرْحُومٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ، عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} } [الكوثر: 1-2] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: " مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا، فَقَالَ: لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ، وَإِذَا رَكَعْتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهَا مِنْ صَلاتِنَا، وَصَلاةِ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَفْعُ الأَيْدِي مِنَ الاسْتِكَانَةِ» قال الله عز وجل: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .

{إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر: 3] مبغضك، {هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] المنقطع عن الخير، يعني: العاص بن وائل، كان يمر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول له: إني لأشنؤك، وإنك لأبتر من الرجال. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] يعني: العاص من خير الدنيا، وخير الآخرة. 1444 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، إِذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ، لا عَقِبَ لَهُ، لَوْ قَدْ هَلَكَ لانْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنا أعطيناك الكوثر مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. والكوثر العظيم من الأمر {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ {3} } [الكوثر: 2-3] العاص بن وائل.

تفسير سورة الكافرون

تفسير سورة الكافرون ست آيات، مكية. في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة قل يأيها الكافرون، فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر» . 1445 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى، أنا خَيْثَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي، قَالَ: فَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَاقْرَأْ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ ". 1446 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، نا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلا يُحَدِّثُ، قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ سِرْنَا، فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ غُفِرَ لَهُ ". بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ {4} وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} } [الكافرون: 1-6] .

{قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] قال جماعة المفسرين: لما قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { [النجم بمكة على المشركين، وألقى في قراءته الشيطان ما ألقى، طمع مشركو مكة فيه، وقالوا: إن محمدًا قد دخل في بعض ديننا. فأتوه، وقالوا له: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، ثم تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: معاذ الله أن اشرك به غيره. وأنزل الله: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} . قال ابن عباس، ومقاتل: لا أعبد آلهتكم التي تعبدون اليوم،] وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} [سورة الكافرون: 3] إلهي الذي أعبد اليوم. ومعنى: ما أعبد من أعبد، ولكنه يقابل قوله: ما تعبدون أي: من الأصنام، فحمل الثاني عليه. {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4] يعني: فيما بعد اليوم. {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] فيما بعد اليوم، قال الزجاج: نفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه ال { [عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال، وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال، وفيما يستقبل. قال: وهذا في قوم أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون. كقوله في قصة نوح عليه السلام:] أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [سورة هود: 36] . لكم دينكم كفركم بالله، ولي دين التوحيد، والإخلاص، وهذا قبل أن يؤمر بالحرب.

تفسير النصر

تفسير النصر ثلاث آيات، مدنية. في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ النصر، فكأنما شهد مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح مكة» . بسم الله الرحمن الرحيم] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {3} } [سورة النصر: 1-3] . {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] قال المفسرون: إذا جاء يا محمد نصر الله على من عاداك، وهم قريش. والفتح فتح مكة. {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] قال الحسن: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، قالت العرب: أما إذا أظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان. فكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا أي: جماعات كثيرة، بعد أن كانوا يدخلون واحدًا واحدًا، واثنين اثنين، صارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة، علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نعيت إليه نفسه. وقال الحسن: أعلم أنه قد أقترب أجله، فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اغفر لي، إنك أنت التواب.

قال قتادة، ومقاتل: وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين. 1447 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِيرِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، أنا أَبُو سَعِيدٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَنْدِيُّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِ مِائَةٍ، نا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّخْمِيُّ، نا أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو قُرَّةَ: قَالَ لِي سُفْيَانُ: يَتَأَوَّلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ كِلاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ.

تفسير سورة المسد

تفسير سورة المسد خمس آيات، مكية. في حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ سورة تبت، رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» . 1448 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهُ، قَالَ: فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ، أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا جَمِيعًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِهَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ {5} } [المسد: 1-5] . قال مقاتل: قيل: سمي أبو لهب، لأن وجنتيه كانتا حمراوين، كأنما تلتهب منهما النار. قال مقاتل: خسرت يداه بترك الإيمان، وخسر هو بترك الإيمان. وقال الفراء: الأول دعاء، والثاني خبر، كما تقول:

أهلكه الله، وقد أُهلك. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شديد المعاداة له، قال طارق المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب يقول: يأيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، يقول: أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا محمد، يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وكان ابن كثير يقرأ أبي لَهْب ساكنة الهاء، ويشبه أنه لغة في اللهب، كالنهر والنهر، واتفقوا في الثانية على الفتح لوفاق الفواصل، ولما أنذره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما تقوله حقًا، فإني أفتدي بمالي وولدي. فقال الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من ماله وما كسب، يعني: ولده، لأن ولده من كسبه. ثم أوعده بالنار، فقال: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] يعني: نارًا تلتهب عليه. وامرأته وهي: أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعقره، وقال قتادة، ومجاهد، والسدي: كانت تمشي بالنميمة بين الناس، فتلقي بينهم العداوة وتهيج نارها، كما يوقد النار بالحطب. وتسمى النميمة حطبًا، يقال: فلان يحطب على فلان. إذا كان يغري به، ومن نصب {حَمَّالَةَ} [المسد: 4] فعلى معنى: أعني حمالة. {فِي جِيدِهَا} [المسد: 5] عنقها، {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 5] يعني: سلسلة من حديد في النار، طولها سبعون ذراعًا، والمسد: الفتل، والمسد ما فتل وأحكم من أي شيء كان، والمعنى: أن السلسلة التي في عنقها فتلت من الحديد فتلًا محكمًا.

تفسير سورة الإخلاص

تفسير سورة الإخلاص أربع آيات، مكية. 1449 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ الْمَازِنِيُّ، نا ابْنُ عَائِشَةَ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، نا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، نا أَبُو حَازِمٍ، نا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَشِدُوا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ، قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَشِدُوا اقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ دَخَلَ، مَا هَذَا إِلا لِشَيْءٍ، قَالَ: فَسَمِعَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ. 1450 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، أنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] جُزْءٌ ". 1451 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ

مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِلَى آخِرِهَا ومن حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ { [قل هو الله أحد، فكأنما قرأ ثلث القرآن، وأعطي من الآجر عشر حسنات، بعدد من آمن بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، ومثل أجر مائة شهيد» . بسم الله الرحمن الرحيم] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} } [سورة الإخلاص: 1-4] . {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله عز وجل والمعنى الذي سألتم، تبين نسبته {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . قال ابن عباس: الواحد الذي ليس كمثله شيء. وقال مقاتل: أحد لا شريك له. {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] قال ابن عباس، في رواية عطاء: لما نزل {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] قالوا: وما الصمد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السيد الذي يصمد إليه في الحوائج» . ويقال: صمدت. أي: قصدت، وقال الزجاج: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : السيد الذي انتهى إليه السؤدد. ومعنى هذا: أن السؤدد قد انتهى إليه، فلا سيد فوقه. لم يلد كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيسى، وقال مقاتل: إن مشركي العرب، قالوا: الملائكة بنات الله. وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. فأكذبهم الله تعالى، فقال: لم يلد يقول: لم يكن له ولد، ولم يولد من أحد كما ولد عيسى، وعزير، ومريم. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] لم يكن لا له أحد مثلًا له، والكفو: المثل المكافئ.

تفسير سورة الفلق

تفسير سورة الفلق خمس آيات، مكية. 1452 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، أنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ، نا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ تَنْزِلْ مِثْلُهُنَّ، الْمَعُوذَتَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِد وفي حديث أبيّ بن كعب: «ومن قرأ قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء عليهم السلام» . بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5} } [الفلق: 1-5] . {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] قال مقاتل، والكلبي: إن لبيد بن أعصم اليهودي، سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى عشرة عقدة في حبل معقد، ودسه في بئر يقال له: ذروان. فمرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واشتد ذلك عليه ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بمكان السحر، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليًا، رضي الله عنه، فجاء بها، فقال جبريل للنبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حل عقدة واقرأ آية. ففعل، وجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة، وذهب عنه ما كان يجد. و {الْفَلَقِ} [الفلق: 1] : الصبح وبيانه، يقال: هو أبين من فلق الصبح. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] من الجن والإنس. {وَمِنْ شَرِّ

غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] قال ابن عباس: الغاسق: الليل إذا أقبلت ظلمته من المشرق، فدخل في النهار. وقال مقاتل: يعني

ظلمة الليل، إذا دخل سواده في ضوء النهار. وقال الفراء: ويقال: غسق الليل وأغسق. إذا أظلم. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يعني: السحرة، والسواحر، والنفث: النفخ، كما يفعل كل من يرقي، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد السحرة الذين عقدوا السحر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو عبيدة: هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي، سحرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] يعني: اليهود حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

تفسير سورة الناس

تفسير سورة الناس ست آيات، مكية. بسم الله الرحمن الرحيم] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} } [سورة الناس: 1-6] . {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 1-4] قال الزجاج: هو الشيطان ذو الوسواس. {الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب. وهذا معنى ما: 1453 - أَخْبَرَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْغَازِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ بُجَيْرٍ، نا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، نا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ» وقد وصفه الله تعالى بهذا، فقال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] أي: بالكلام الخفي، الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع. ثم ذكر أن هذا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس: من الجنة وهم الشياطين، وعطف قوله: والناس على الوسواس المعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس، كأنه أُمِرَ أن يستعيذ من شر الجن والإنس. 1454 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ الْمَعُوذَتَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ جِبْرِيلُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] فَقُلْتُهَا: {قُلْ أَعُوذُ

بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] " فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1455 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ، نا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سِيرِينَ أُمِّ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَفِي عُنُقِهَا مَيْرٌ أَوْ خَيْطٌ مَعْقُودٌ مِنْ مَرَضٍ بِهَا، وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ فَاجْتَذَبَهُ حَتَّى اخْتَنَقَتْ، فَقَطَعَهُ فَنَبَذَهُ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ غَنِيًّا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ شِرْكٌ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: أَوَ شِرْكٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ وَالتِّوَلَةُ شِرْكٌ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: وَمَا التِّوَلَةُ؟ قَالَ: مَا تَحَبَّبْنَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِكُنَّ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: إِنَّ إِحْدَانَا يَأْخُذُهَا الضَرَبَانِ فِي عَيْنِهَا، فَإِذَا اسْتَرْقَتْ سَكَنَ، فَقَالَ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ عَدُوُّ اللَّهِ يَنْزِعُ فِي عَيْنِ إِحْدَاكُنَّ فَإِذَا اسْتَرْقَتْ كَفَّ، وَلَوْ أَنَّهُ إِذَا أَحَسَّتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَخَذَتْ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَتْهُ فِي عَيْنِهَا، وَقَرَأَتْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ سَكَنَ أَوْ ذَهَبَ. وهذا آخر الكتاب، قال الشيخ الإمام علي بن أحمد الواحدي مصنف هذا التفسير: والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلواته على المبعوث بالقرآن الكريم، والذكر الحكيم، وتحياته وتسليمه. وتقدم الفراغ منه منتصف رجب، سنة إحدى وستين وأربع مائة، اللهم اقبل تقربي إليك، وسهل لي الطريق إلى كل خير من خير الدنيا والآخرة، إنك سميع الدعاء، قدير على ما تشاء.

§1/1