التفسير الموضوعي 2 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم.

الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم) التعريف بالتفسير الموضوعي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فالتفسير الموضوعي: هو علم يبحث في القرآن الكريم، من حيث استخراج ما في القرآن من موضوعات، وجمع الآيات المتعلقة بكل موضوع، وتقسيمها إلى عناصر يسميها الباحث فصولًا، أو يجعل الفصول أبوابًا، أو يقسمها إلى فقرات يعرضها، فينتقل من فصل إلى فصل، ومن باب إلى باب، ومن فقرة إلى فقرة، إلى أن يوفي الموضوع حقه من البحث، وهو في ذلك يستعين بما يتطلبه البحث من الأحاديث النبوية، وأقوال الأئمة، وما جاء في كتب اللغة، وما إلى ذلك مما يتطلبه الموضوع في تجلية جوانبه، وجمع الآيات في موضوع واحد لدراسته واستخراج فوائده منهج بدأ من عهد نزول القرآن؛ حين كانت تنزل الآية مجملة في موضع، ومفصّلة في موضع آخر، أو عامة في موضع مخصصة في موضع آخر، وهكذا. وقد ألف العلماء في بداية القرن الثاني الهجري وما بعده كتبًا في موضوعات جمعوا فيها الآيات، فكانت بداية موفقة لدراسة موضوعات القرآن، كمن ألفوا في الناسخ والمنسوخ، وفي غريب القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي أسباب النزول، وفي أقسام القرآن، وفي أحكام القرآن، وفي هذه المؤلفات، ترى أن العلاقة التي تجمع بين أطراف الموضوع علاقة عامة، ولهذا اتجه التفسير الموضوعي نحو التحديد، ومن ذلك ما تراه من دراسة لموضوعات قرآنية محددة، كما ترى فيما كتبت في الإنسان في القرآن، والمرأة في

القرآن، والأخلاق في القرآن، في كتابي (شذرات من التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، وكما ترى فيما كتبه المرحوم الدكتور أحمد الشرباصي، ومن ذلك ما كتبه عن الرجولة في القرآن، القلة والكثرة في القرآن، حديث الغرور في القرآن، إلى غير ذلك مما تراه في كتابات الإخوة الأساتذة، وما تلمحه في موضوعات كتب فيها، وما يزالون يكتبون طلاب الدراسات العليا في الجامعات الإسلامية، أثرت المكتبة القرآنية في جملة من البحوث القرآنية النافعة. ولا بُدّ أن نفرق بين هذا النوع من التفسير وما نراها من كتابات إسلامية فيما يعرف بالدراسات الإسلامية، وفرق بين أن يقال: المرأة في الإسلام، والمرأة في القرآن، أو أن يقال: الأخلاق في الإسلام، والأخلاق في القرآن، وما إلى ذلك، فالموضوع إذا بحث من الناحية الإسلامية لا يعنيه جمع الآيات في الموضوع، إنما يدرسه دراسة عامّة، يستشهد في الفقرة التي يكتب فيها بما يراه من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، وما كتبه من سبقوه في دراسة موضوعه، أمّا إذا كان البحث في التفسير الموضوعي فالاعتماد فيه أولًا على جمع الآيات من القرآن، وتقسيمها إلى فقرات أو فصول أو أبواب كما ذكرنا، ودراسة هذه الآيات دراسة متأنية، يقارن بين الآيات ويستنبط منها الأحكام والدروس والعبر، وما إلى ذلك مما يتضح من وضع الآيات بجوار بعضها، والنظر فيها لتكوين رؤية متكاملة عن الموضوع. ويدخل في التفسير الموضوع ما يسمَّى أيضًا بالوحدة الموضوعية في السورة، بأن يجتهد المفسّر في تحديد الهدف والمحور الذي تدور حوله آيات السورة، وقد يكون للسورة أكثر من هدف، فيقسّم المفسر السورة إلى عناصر، ويعرض هذه العناصر من خلال هدف السورة ومحورها، ويبرز الأسرار العظيمة التي تدلّ

الأخلاق في القرآن الكريم.

على إعجاز هذا القرآن حين يتحدث حين يتحدث عن سر اختيار حروف معينة تتكرر في الصورة التي يدرسها دون غيرها، وحين يتكلم عن السبب في بسط قصة من قصص الأنبياء في موضع، واختصارها في كلمات في موضع آخر. وقد بذل قسم التفسير في كلية أصول الدين جامعة الأزهر جهدًا مشكورًا حين كلّف طلاب الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه بالكتابة في سور القرآن، تحت عنوان: سورة كذا والأهداف التي ترمي إليها، فتناول معظم سور القرآن بهذه الطريقة بالبحث والدراسة، وقد بدأ العمل في هذا المشروع في بداية عام ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين، واستمر لفترة طويلة من الزمن، وهو جهد مشكور وعمل مبرور، جزا الله الجميع خير الجزاء. الأخلاق في القرآن الكريم عرفها الإمام الغزالي في (الإحياء) فقال: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا، سُمّيت تلك الهيئة خلقًا حسنة، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا، فما يصدر عن النفس البشرية من أفعال دون تكلّف، هو الذي يطلق عليه بأنه خلق، وما يكون من الإنسان بتكلف وتحت أي ظروف لا يعد خلقًا؛ كمن طبعه السخاء والكرم، لكنه بخل في موقف من المواقف، بسبب من الأسباب، فلا يقال عنه بأنه بخيل، والعكس صحيح، فمن كان خلقه البخل، ولكنه لأمر ما، ساعد محتاجًا أو تبرع بمبلغ من المال، لا يقال عنه بأنه كريم".

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وليس معنى قولهم: "الأخلاق في القرآن" أن يستقصي الباحث في كتاب الله كل خلق حثّ عليه القرآن، وكل خلق نفّر منه؛ ليجمع فيه الآيات لدراستها دراسة موضوعية، فهذا يستغرق كما نرى زمن طويلًا، وقد يقع في مجلدات تشكل موسعة في أخلاق القرآن، مما تصعب الإحاطة به، وإنما يعني هذا القول أنّ يؤصِّل من يكتب في التفسير الموضوعي للأخلاق في القرآن، بأن يبيّن ما تعنيه الأخلاق في لغتتنا العربية، وعند العلماء الذين اعتنوا بدراسة الأخلاق، وأن يبيّن الأسس التي أقيمت عليها أخلاق القرآن، وكيف دعا القرآن لمكارم الأخلاق، وكيف نفّر من الأخلاق السيئة، ثم له أن يختار بعض الأخلاق في القرآن ليتحدث عنها وفق منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ندرس هذا الموضوع من خلال العناصر التالية: أولًا: ورود كلمة المعروف في القرآن الكريم وما تدل عليه. ثانيًا: ورود كلمة المنكر في القرآن الكريم وما يقصد بها. ثالثًا: ما ورد في السنة وأقوال السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. رابعًا: بواعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. خامسًا: من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. سادسًا: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح المجتمعات. وقد وردت مادة العين والراء والفاء عدة مرات في كتاب الله، كما وردت مادة النون والكاف والراء عدة مرات كذلك، وهي غالبًا تأتي مقترنة بالمعروف، وأحيانًا تنفرد كلّ منهما فتذكر وحدها، والذي يعنينا منها ما له صلة بموضوع

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالنظر في كتاب الله، نجد أنها قد وردت بهذا المعنى في سورة "آل عمران"، في ثلاثة مواضع، في سياق الحديث عن واجب الأمة المسلمة تجاه مجتمعها، بل والمجتمع البشري، في قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104). فهذا أمر من الله لأمة الإسلام أن تكون بكامل أفرادها قائمة على قدم وساق، لا يغفلون ولا يتهاونون ولا يتوانون في الدعوة إلى الخير، وفي الأمر بالمعروف والنهي عنه، كما دلّ على ذلك استعمال الفعل المضارع في قوله: {يَدْعُونَ} و {يَأْمُرُونَ} و {يَنْهَوْنَ} وقد حكم الله بأنّ الفلاح مختص بهذه الأمة وحدها إن هي فعلت ذلك، كما يفهم من أسلوب القصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وإنها قد بلغت الغاية التي لا تدرك، كما يرشد إليه استعمال اسم الإشارة البعيد في قوله: {وَأُولَئِكَ} ويجوز أن تكون "من" في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} للتبعيض، وهذا يعني أن يكون في الأمة أناس هم أعمدة الأمة وحداتها والحراس لدينه، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو خلت الأمة من هؤلاء انفرط عقدها، وانتشر الفساد في أرجائها، وكانت عرضة للزوال، ولذلك قال الضحاك في هذه الفرقة: "هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة" يعني المجاهدين والعلماء، وهذا لا يتعارض مع أن تكون أمة الإسلام بأكملها قائمة على شريعة الله حامية لحوزة الدين، وليقم كل واحد بدوره، حسب موقعه وظروفه. ومما يؤيد ذلك ما جاء في الموضع الثاني في السورة -سورة آل عمران- من بيان سبب خيرية الأمة الإسلامية، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)

يقول ابن كثير بعد أن ذكر بعض الأحاديث والأقوال: "والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذي بعث فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلوونهم، ثم الذين يلوونهم". والموضع الثالث في سورة "آل عمران" جاء في ذكر صفة فئة من أهل الكتاب، عرفوا الحق فاتبعوه؛ كعبد الله بن سلام، وغيره ممّن أسلموا من أهل الكتاب، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 113، 114)، فذكر من صفاتهم التي تميزوا بها، وكانوا بها من الصالحين، أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي سورة "النساء" في قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) ترى أنّ الله حصر خير الكلام في ثلاثة، في الأمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومع أنّ الأمر بالصدقة أمرٌ بالمعروف، وأن الأمر بالإصلاح بين الناس أمر بالمعروف، إلّا أن الأمر بالمعروف أعمّ وأشمل، فقد ذكر أمرًا خاصًّا ثم عامًّا ثم خاصًّا؛ ليكون هذا الأمر العام -وهو المعروف- واسطة العقد؛ إزهارًا لمنزلته وأهميته. وفي سورة "المائدة" في بيان ما كان من أمر بني إسرائيل، يقول تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 79)، وقد ذكر الله ذلك؛ ليبين لماذا استحق بني إسرائيل اللعنة على لسان داود وعيسى بن مريم، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78)،

ثم قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: 79) ومعنى {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} أي: لا ينهي بعضهم بعضًا عن المنكر الذي يشيع بينهم، وهذا يعني أنّ أي إنسان لا يسلم من النقص، ولا يخلو من الوقوع في خطأ، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون، وإذا كان المجتمع نابضًا بوحي الله، مشرقًا بنور ما أنزل الله، لم يقبل أن يرى أحد أفراده غارقًا في بحار المعاصي، ملوثًا بالخطيئة، فينبري كل واحد يأخذ بيد أخيه يدله على الطريق الصحيح، فإن لم يحدث هذا، واستمرأ الناس المعاصي، وسكت الآخرون فلم ينكروا المنكر، وإنما كما سنرى في الحديث ((آكلوهم وشاربوهم)) وكأنّ هؤلاء العصاة لم يرتكبوا منكرًا يستحق الإنكار، إن حدث هذا غرق الجميع وضاع الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفي سورة "الأعراف" نرى ذلك في بيان صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأن أهل الكتاب يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، كما قال ربنا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157). وفي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يأخذ العفو، ويأمر بالعرف -أي المعروف، وأن يعرض عن الجاهلين، قال تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199). وفي سورة "التوبة" في ذكر صفات المنافين والمنافقات، وأنهم كما قال تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: 67).

وفي بيان صفات المؤمنين والمؤمنات، وأنهم كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71). ثالثًا: في جعلها صفة من صفات المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله وجاهدوا في سبيله، فكانت لهم البشرى من الله بالنعيم المقيم في جنات النعيم، قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: 112). وفي سورة "النحل" يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90). وفي سورة "الحج" في ذكر عمل المؤمنين إن نصرهم الله ومكّن لهم في أرضه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41). في سورة "النور" حيث يحذّر الله من اتباع خطوات الشيطان؛ لأنه كما قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21). وفي سورة "العنكبوت" في موضعين، في ذكر ما كان من فعل قوم لوط -عليه السلام- يقول ربنا على لسان لوط: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (العنكبوت: 29) وفي بيان أثر الصلاة في

السلوك: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45). وفي سورة "لقمان" في قوله وصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17). وفي سورة "المجادلة" في بيان أن من يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، يقول منكرًا من القول وزورًا، كما ذكر ربنا ذلك فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2). وفي سورة "الممتحنة" فيما بايع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء، قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة: 12). هذه معاشر الأبناء هي الآيات التي وردت فيها كلمة المعروف وكلمة المنكر في كتاب الله، ومن سياق الآيات نستطيع أن نفهم المعنى المقصود بكلٍّ منهما؛ فليس المعروف أو المنكر ما تواضعت عليه المجتمعات، ورضيه الناس طريقًا لحياتهم، فكثيرًا ما يختار الناس ما فيه ضرر بهم، فقد يرى بعضهم أنّ الخمر لذة للشاربين، فيشربها ويستمتع بها، وينكر على من لا يحضر مجلسها، ويشارك الآخرين في شربها، مع أنها أم الخبائث، وقد قدر بعض الأمم أنّ الزنا لا حرمة فيه؛ لأنه متعة مشتركة بين الرجل والمرأة، وأمر يرجع إلى حرية الفرد في اختياره، وإنما يمنع ويعاقب المجتمع على ذلك، إذا ما كان هذا الأمر على فراش الزوجية، أو كان عن طريق الإجبار والإكراه، والحرمة هنا -كما نرى- لا لذات الزنا، وإنما للاعتداء على حرية الفرد.

وهكذا لو تتبعنا عادات الشعوب والأمم، وما وضعته من قوانين تحكم حياتها، لوجدنا أمورًا لا يصدقها عقل راجح وفكر صائب، ولا يرتضيها دين، ولذلك لا بُدّ من أن تكون المرجعية أولًا لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، في تحديد ما يُفعَل وما لا يفعل، وما يفعل قد يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، وما لا يفعل قد يكون نهي تحريم أو نهي تنزيه، وهكذا، وما يأتي به دين الله في التحريم والتحليل، وما يذكره من أنّ مِن المعروف وهذا من المنكر، لا يتعارض مع ما ترتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولعلكم لا ترضون معي ما ذكره الراغب في مفرداته، وذكره غيره، من أن المعروف اسم لكل فعل يعرَف بالعقل أو الشرع حسنه، وأن المنكر ما ينكر بهما؛ لأنّ الشرع هو الأصل، ولأن العقل تابعًا له، والعقل لا ينفرد بالحكم على الفعل بالحسن أو القبح؛ لأنه لا يستطيع ذلك، إنما يهديه ويرشده نور وحي الإلهي. ومن نور الوحي الإلهي ما جاء في السنة المطهرة، من ترغيب وحثٍّ على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت جملة من الأحاديث في ذكر ذلك، فلنذكر بعضها: روى الإمام البخاري بسنده، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلّا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر)) وروى بسنده عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقطابه في النار فيدور كما يدور

الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)). وروى الإمام مسلم بسنده، عن أبي ذر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتين يركعهما من الضحى)) وروى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)) وروى بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطة الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)). وروى بسنده عن حذيفة بن اليمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) وروى بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ منكم فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)).

وروى بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبي ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أي آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجل يعملون مثل عملكم)) قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: ((قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم، قال: بل أجر خمسين منكم)). وروى النسائي بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من والٍ إلّا وله بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو من التي تغلب عليه منهما)) وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل له)) وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 78) إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: كلّا والله، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا)) وفي رواية أخرى زاد: ((أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)).

وروى ابن ماجه بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) وروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدًا حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس)) وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). وروى النسائي بسنده عن طارق بن شهاب قال: قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيّره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيّره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان)). من هذه الآيات والأحاديث نستطيع أن نعرف الدوافع التي تدعو أيّ إنسان ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما نستطيع أن نعرف من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما للقيام بهذا الواجب من أثر في إصلاح المجتمع، فالذي يدعو أيّ إنسان ليكون مما أكرمهم الله واختارهم، ووصفهم في قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (التوبة: 112) هو الإيمان بالله، وعلى قدر إيمان المؤمن يكون جهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك رأينا في الحديث المرحلة الأخيرة وهي التغير بالقلب، وفيها يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((وذلك أضعف الإيمان)).

كما أنّ الظروف الاجتماعية لها أثرها في ذلك، فالمجتمع المتكافل في ضبط خطى أبنائه على طريق الثبات، وفي محاربة كل مظاهر الفساد، يساعد أفراده على القيام بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين ينبري أحد الناس آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فيجب بجانبه مجتمعًا يؤازره، وحكومة تحميه بقوانينها وسلطانها، فلا يخشى ظلم الظالمين وجهل الجاهلين، ولعل مما يصوّر هذا، أنّ الآيات التي جاءت تدعو إلى ذلك، جاءت تتحدث عن أمة وعن جماعة، فأتى الفعل فيها مستندًا إلى ضمير الجمع: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، أو جمعًا كما في قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ولم يرد الفعل مسندًا إلى المفرد إلّا فيما كان خطابًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أو جاء ذلك إخبارًا عنه، كما في قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 157) أو نصيحة يوجهها لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ} (لقمان: 17). ولهذا جاء توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهو يضرب لها مثلًا للعلاقة بين القائمين على حدود الله والواقعين فيها، فيقول: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوما استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). كما أنّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية إيمانية ونفسية، تجعل كل فرد في الأمة واثقًا من نفسه، يدرك أنه قادر على رد القافلة الشاردة ورأب الصدع في مجتمعه، وأنه إذا

قال: استمع الناس لقوله؛ لما يرون فيه من صدق اللهجة وحسن الأدب وقوة البيان والقدرة على الإقناع، إنها عوامل مشتركة، تؤدي في النهاية إلى القيام بهذا الأمر على أحسن الوجوه، وهذا يجعلنا نتساءل عمّن له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهناك فرق بين من له الحق في ذلك ومن يجب عليه القيام به، وهذا شأن ما جاء من تكاليف شرعية، تراها واجبة على أناس تحققت فيهم شروط الوجوب، وبقي الباب مفتوحًا لغيره؛ كما ترى في وجوب الصلاة على المسلم البالغ العاقل، فلو أداها صبي دون البلوغ صحّت منه، وهكذا في الصيام والحج وغير ذلك. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم مكلف قادر على ذلك، كل بحسب قدرته، كما بيّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده)) إلى آخر الحديث، واشترط قوم العدالة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، والواقع في المعاصي كيف تقبل نصيحته لغيره في ترك المعاصي، وقد عاب الله على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 3). وقال مؤنّبًا أهل الكتاب من بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفهاهم بمقاريض من نار، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون)) والواقع أنّ هذا شرط كمال. ومن الأدب أن يكون من يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، هو أول من يأتمر بما أمر به وينتهي عما نهى عنه، وما عاب الله على هؤلاء أنهم يأمرون بالمعروف

وينهون عن المنكر، وإنما عاب عليهم هذا التناقض بين قولهم وفعلهم، ولو أنّ كل من يريد أن يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، لا يفعل ذلك إلّا إذا ضبط سلوكه واستقام على الجادة، لما وجدت أحدًا يؤدي هذا الواجب؛ ولذا قال سعيد بن جبير: "إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلّا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء". ولو قام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بواجبهم وفق الضوابط الشرعية، بأن يجعلوا لكل حالة ما يناسبها من الوعظ أو الزجر أو التخويف أو التغيير باليد، وهكذا، لو فعلوا ذلك كلٌّ في موقعه الاجتماعي أو العلمي أو السياسي، وتعاون الجميع في ذلك، لما وجدت مقصرًا أو منحرفًا أو متهاونًا في أداء فرائض الله، أو مفسدًا في أرض الله، حين ذاك تكون الأمة في مجموعها جديرة بشرفي الخيرية، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110). ولعلكم تلاحظون معي أنّ الواو لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا، إلّا أنّ ذكر أمر قبل أمر آخر له أسراره في تعبيرات القرآن الكريم، وهنا جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سابقًا للإيمان بالله، فدل على مكانته ومنزلته، ولذلك قال الإمام الغزالي في (الإحياء) في مقدمة كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "أمّا بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربة البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلّا يوم التناد". ثم أخذ الإمام الغزالي يشكو من فساد زمانه، وما آل إليه حال الناس في تقصيرهم في أداء هذا الواجب، ومدى عظم أجر من قام به آن ذاك، فكان مما

قال: "فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتّباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق، لا تأخذه في الله لومة لائم"، ثم يقول: "فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلًا بعملها، أو متقلدًا لتنفيذها، مجددًا لهذه السنة الدائرة، ناهضًا بأعبائها، ومتشمّرًا في إحيائها، كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًّا بقربة تتضاءل القرب دون ذروتها". ولا أدري ماذا كان سيقول الإمام أبو حامد الغزالي، المتوفّى عام خمس وخمس مائة من الهجرة، وبعد أكثر من تسعة قرون، حين يرى ما آل إليه حال الدنيا من الفساد والانحراف عن دين الله، وعلى قدر انتشار الفساد وقوته، يكون أجر من يقاومه ما يستطيع من ألوان المقاومة، حتى يستقيم الناس على طريق الحق، فيعود الأمن والسلام والسعادة لبني الإنسان. والله المستعان، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 2 مفهوم العلة.

الدرس: 2 مفهوم العلة.

" الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (مفهوم العلة) "الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فنتحدث عن الأمر بالصفح كما جاء في كتاب الله: أولًا: الصفح والعفو في معالم اللغة: ذكر ابن منظور في (لسان العرب) عدَّة معاني للصفح: منها الجنب، وعرض الوجه، وعرض السيف، وعرض صدر الرجل. والمصافحة: الأخذ باليد، وصفح عنه يصفح صفحًا أعرض عن ذنبه، والصفوح الكريم؛ لأنه يصفح عمن جنى عليه، واستصفحه ذنبه استغفره إيَّاه، وطلب أن يصفح له عنه. وأما الصفوح من صفات الله فمعناه: العفو، يقال: صافحت عن ذنب فلان، وأعرضت عنه فلم أءخذه به، وضربت عن فلان صفحًا إذا أعرضت عنه، وتركته، فالصفوح في صفة الله العفوّ عن ذنوب العباد، معرضًا عن مجازاتهم بالعقوبة تكرمًا. أما العفو فقد ذكر ابن منظور كلامًا كثيرًا خلاصته: أن العفو هو محو الشيء حسيًّا ومعنويًّا، فيقال: عفت الرياح الآثار إذا درستها ومحتها، وعفا عن ذنبه إذا تجاوز عنه ولم يؤاخذه به، والعفو في أسماء الله فعول من العفو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وهو من أبنية المبالغة، وكل من استحقَّ عقوبة فتركتها؛ فقد عفوت عنه. فإذا ما انتقلنا إلى صاحب (القاموس المحيط) لنرى ماذا يقول، يقول: الصفح الجانب، وصفح أعرض وترك، وصفح عنه عفا، والصفوح الكريم والعفو، ويقول في بيان معنى العفو: العفو عفو الله -جلّ وعزَّ- عن خلقه، والصفح، وترك عقوبة المستحق، عفا عنه ذنبه، وعفا له ذنبه وعن ذنبه، والمحو والإمحاء، وأحل المال وأطيبه، وخيار الشيء وأجوده، والفضل والمعروف.

ومن قبل ابن منظوم وصاحب (القاموس) يجمع ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة) معاني هذه الكلمات، فيقول في الصفح ما خلاصته: الصاد والفاء والحاء أصل صحيح مضطرد يدل على عَرْض وعِرَض، ويسوق في ذلك بعض ما ورد في اللغة ثم يقول: ومن الباب المصافحة باليد، كأنه ألصق يده بصفحة يد ذاك، ويقول: فأما قولهم صفح عنه، وذلك إعراضه عن ذنبه فهو من الباب؛ لأنه إذا أعرض عنه فكأنه قد ولَّاه صفحته، ويقول في بيان المعنى العفو: العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء، والآخر على طلبه، ثم يرجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى. فالأول: العفو عفو الله تعالى عن خلقه، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم، فضلًا منه، قال الخليل: وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه، والأصل الآخر الذي معناه الطلب قول الخليل: إن العفاة طلاب المعروف. وأخيرًا يأتي حديث صاحب (معجمي المفردات) في بيان معاني هذه الكلمات فيقول: صفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف، وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، قال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}، وصفحت عنه: أوليته مني صفحة جميلة معرضًا عن ذنبه، أو لقيته صفحته متجافيًا عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبتُّ فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك: تصفَّحت الكتاب إلى آخر ما قال. ومما قال في معنى العفو: العفو القصد لتناول الشيء، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفًا عنه، وقوله في الدعاء ((أسألك العفو والعافية)) أي: أسأل ترك العقوبة والسلامة، هذا أيها الأبناء هو بعض ما ورد في كُتب اللغة.

كلمة الصفح في القرآن الكريم.

كلمة الصفح في القرآن الكريم وقد وردت كلمة الصفح في القرآن الكريم في ستّ مواضع: الموضع الأول: في قول الله تعالى في سورة "البقرة": {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109) ففي هذه الآية الكريمة يُبيّن الله -عز وجل- أن أمل كثير من أهل الكتاب أن يُخرجوا المسلمين من دينهم، وأن يردُّوهم من بعد إيمانهم كفارًا، وهذا كله بسبب الحسد الذي سيطر على قلوبهم فجعلهم لا يقبلون هذا الدين، ولا يدخلون هذا الدين، مع أن الحق قد تبيَّن لهم وهم أعرف الناس بأن الإسلام هو دين الحق، وقد قال الله للمسلمين: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فذكر أن العفو والصفح هو الرد العملي على كيد هؤلاء الحاقدين الحاسدين، وهذا العفو والصفح موقوتٌ بوقت محدد ألا وهو {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقد كانت هذه مرحلة من مراحل الجهاد الإسلامي، وهي مرحلة العفو والصفح إلى أن جاء الأمر بقتال هؤلاء الناس وقتال أهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة: 36) إلى آخر الآية الكريمة. الموضع الثاني: جاء في سورة "المائدة" في قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) فهذا الأمر بالعفو والصفح عن

هذا الفريق من أهل الكتاب من اليهود خاصة، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًّا عظيمًا مما ذُكّروا به، وما يزال هؤلاء يخونون أهل الإسلام ويدبِّرون لهم المؤامرات إلا من عصمه الله فدخل الإسلام كعبد الله بن سلام وأمثاله عليهم رضوان الله. وأن على الإسلام أن يواجهوا هذا الكيد بالعفو والصفح؛ لأنه لا قتال ولا شيء إنما هي الدسائس والمؤامرات، ومواجهة هذه المؤامرات إنما يكون بأن يعفو عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون، وأن يصفحوا عن كيد هؤلاء الماكرين الحاقدين، وعليهم أن يلتزموا جانب الإحسان في دينهم، فإن جانب الإحسان تجويد وتعلية، وإعلاء بما جاء به هذا الدين في سلوك منضبط بشرع الله وهدي الله، وبهذا يستطيع أهل الإسلام أن يردُّوا كيد هؤلاء الكائدين الحاقدين الحاسدين. الموضع الثالث: جاء في سورة "الحجر" في قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85)، وكم في هذه الآية الكريمة من تهديد ووعيد لهؤلاء؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- بيَّن أنه الإله القوي القادر القاهر حين قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وذكر سبحانه أن الموعد هو الساعة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل وعلى المؤمنين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصفحوا الصفح الجميل. والصفح الجميل هو الذي لا عتاب فيه، فهذا من الرَّدّ العملي على كيد الكائدين، وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين أنه لا يعاتبهم، ولا يتحدَّث إليهم، ولا يناقشهم، ولا يسألهم عن الأسباب التي دعتهم لكل هذا الكيد الرهيب العجيب الذي تآمر فيه أهل الكتاب مع كل أعداء الإسلام، يريدون إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.

الموضع الرابع: في قول الله تعالى في سورة "النور": {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22)، وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق الحديث عما كان من أمر الكريمة العظيمة السيدة الشريفة أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- حين رماها أهل الإفك بما نطقوا به، وقد فتن بهذه المسألة بعض المسلمين، ومنهم واحد من هؤلاء الذين كان أبو بكر يتعهَّدهم بالرعاية والعناية والإنفاق عليه، ذلكم هو مسطح بن أثاثة وهو ابن الخالة أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى- عن أبي بكر؛ إذ صار في ركاب هؤلاء الذين تحدَّثوا بما تحدَّثوا به من رمي السيدة عائشة بجريمة بشعة هي جريمة الزنا، فأقسم أبو بكر أن يقطع نفقته على مسطح هذا جزاء بما صنع، فجاء قول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}، ثم قال مرغبًا في العفو والصفح: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: "والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فأعاد نفقته على مسطح هذا"، فرضوان الله على أبي بكر الصديق. أما الموضع الخامس: ففي سورة "الزخرف" في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (الزخرف: 5)، وهذا في الواقع ليس من باب الصفح والعفو، وإنما يقول الله -سبحانه وتعالى- معاتبًا ومهددًا المشركين الذين أسرفوا في عداءهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} في عداءكم وإشراككم وإجرامكم. إننا لن نضرب عنكم الذكر صفحًا وإنما سنوالي إنزال هذا القرآن حتى تفيئوا إلى دين الله وإلى شرع الله وإلى هدي الله، فهذا القرآن نزل ليكون آخر الكُتب التي أنزلها الله لهذه الدنيا.

الموضع السادس: وهو في سورة "التغابن" في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14) فماذا نرى في هذه الآيات الكريمة نرى أن الله -سبحانه وتعالى- يُنادي المؤمنين، يحذّرهم من فتنة الأزواج والأولاد؛ لأن الإنسان بطبيعته مشدودٌ إلى زوجته وأبنائه، وقد يَدْعُه هذا إلى أن يرتكب ما حرم الله، وأن يكتسب لهم من المال الحرام، فالله -سبحانه وتعالى- نبَّه إلى هذا، وبيَّن أن الإنسان عليه أن يحذر هذا الأمر، بل إن هذه الآية نزلت في هؤلاء الذين منعهم أبناؤهم وأزواجهم من الهجرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما هاجروا ووجدوا ما وصل إليه الذين هاجروا من قبلهم من خير ومن علم ومن إحاطة بالقرآن الكريم، ومن حضور المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته حزنوا لذلك، وانقلبوا إلى أبنائهم وأزواجهم يلومونهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}. ولكن هذا الذي حدث ليس فيه ما يدعو إلى أن يُعَاقب هؤلاء، وإنما على هؤلاء الأزواج وهؤلاء الآباء أن يعفوا وأن يصفحوا عما كان من هؤلاء، وأن يغفروا لهم خطأهم؛ إذ كانوا سببًا في عدم إسراعهم في اللحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكم ولهم، هذا إذا هو العفو وهو الصفح كما جاء في كتاب الله عز وجل. أيضًا كلمة العفو وردت في كتاب الله وصفًا لله تعالى، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} عفو الله عنك كما جاءت وصفًّا للمؤمنين: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}،

العفو في السنة المشرفة.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فنرى من خلال هذه الآيات أن كلمة العفو تعني شيئًا زائدًا على مجرد الصفح، والذي هو كما رأينا في معانيه اللغوية يعني: أن يدير الإنسان صفحته بعيدًا عن هذا الذي أساء إليه، أو أخطأ، أو وقع منه ذنب. أما العفو فهو المحو التام للذنب وآثاره، ومن هنا جاءت هذه الآيات كما نرى وصفًا لله -سبحانه وتعالى-، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، {إِنَّ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، وأن الله سبحانه كما قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}، {عَفَا اللهُ عَنْكَ} بمعنى: أنه أزال هذا الذنب فلا تثريب، ولا مؤاخذة، ولا عتاب؛ فالمؤمنون حين يصفون بهذا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إلى آخر الآيات، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فهذا معناه: أن المؤمن يكظم غيظه، ولا يكفي هذا إنما يحتاج إلى أن يعفو عمن أساء إليه، {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فهذا العفو يعني: ألا يبقى للذنب أثر في نفس هذا الإنسان. وهذا هو الإسلام الذي جاء بالدعوة إلى الصفح وإلى العفو. العفو في السنة المشرفة يروي الإمام البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء)) فما أكرم هذا الرسول هذا الأعرابي يصنع هذا الصنيع بمن؟ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مع

أصحابه، وأنس بن مالك خادمه كان معه يشاهد هذا الموقف ويرى أن هذه الجذبة قد أثَّرت في صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان بإمكان هذا الأعرابي أن يطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون أن يصنع هذا، ولكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- مع ذلك التفت إليه فضحك، مما يدل سعة صدره، وحلمه، وحسن خلقه، وعظم صفحه وعفوه عما أساء إليه، ولم يكتفِ بهذا إنما أمر له بعطاء، فأعطاه ما أعطاه حتى رضي. أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان راكبًا على حمارٍ على قطيفة فدكيه، وأنه أردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة -أي: الغبار الذي يكون من أثر سير دابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه -أي: غطاه- ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نُحبّ ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون -أي: يمسك بعضهم برقاب بعض- فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخفّضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ -يريد عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا- قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعفُ واصفح عنه، فو الذي أنزل عليك الكتاب

لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجُوه فيعصِّبوه بالعصابة -أي: ليتوجوه ملكًا عليهم، أو رئيسًا عليهم- فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله؛ شرك بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم)) كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله -عز وجل-: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (آل عمران: 186) الآية، وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 109) إلى آخر الآية. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأوَّل العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجَّه، فبايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام فأسلموا، ولكن إسلام هؤلاء كان إسلامًا في الظاهر، أما الباطن فهو ما زال مظلمًا بظلام الكفر، فهؤلاء أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وما زالوا يكيدون للإسلام بكل ألوان الكيد، ولكن الله -سبحانه وتعالى- كان يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يعفو عن هؤلاء المنافقين، وأن يصفح عنهم ما وقعوا فيه من نفاق. أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال في التوراة: "يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدًا ومبشرًا وحرزًا للأمين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينًا عميًا، وأذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا"، فالعفو والصفح إذًا -كما نرى- في هذا الحديث صفة أو صفتان ملازمتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر الله بهما في التوراة.

وأيضًا إذا ما انتقلنا إلى ما رواه الإمام الترمذي سوف نجد جملة من الأحاديث، منها ما رواه الإمام الترمذي بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: سألت عائشة عن خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ((لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح)) قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبو عبد الله الجدلي: اسمه عبد الله بن عبد، ويقال: عبد الرحمن بن عبد. أن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- قد ذكرت من صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وهذا ما ذكره أيضًا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في الحديث السابق حين ذكر أنه قرأ في التوراة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح"، فتحقق ما أخبر الله به في الكُتب المنزلة السابقة على القرآن مما سيكون من أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتحقق ما أخبر به ربنا في كتبه المنزلة، وأخبرت السيدة عائشة بما كان من خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أيضًا في هذا السياق يروي الإمام أحمد بسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أفضل الفضائل: أن تصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتصفح عمن شتمك)) كما يروى أيضًا عن عائشة أنها قالت: ((لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح)) كما سبق أن ذكر ذلك الإمام الترمذي، هذا في الصفح. أما في العفو فهناك جملة منها الأحاديث، منها ما رواه الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم عُينية بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورتهم، كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي

هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فأستأذن الحر بن عيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: ها يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به -أي: أن يوقع به عقابًا- فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبييه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله". ففي هذا الحديث ما يبين كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من التزام ما جاء في كتاب الله -عز وجل. أيضًا يروي الإمام البخاري عن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- في قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: ما أنزل الله إلا في أخلاق الناس، وقال عبد الله بن براد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا هشام عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: "أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ العفو من أخلاق الناس" أو كما قال. ومعنى أن يأخذ العفو من أخلاق الناس أي: أن يتجاوز عما يكون منهم من سوء خلق، وإنما يقبل منهم عذرهم، وعليه أن يعفو عنهم، وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (المؤمنون: 96): "الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوك عصمهم الله وخضع لهم عدوهم". وعند الإمام مسلم نقرأ ما يلي: يروي الإمام مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما توضع أحد لله إلا رفعه الله))،

وعند الترمذي يروي بسنده عن شيخ من بني مرّة فقال: "قدمت الكوفة وأُخبرت عن بلال بن أبي بردة، فقلت: إن فيه لمعتبر؛ فأتيته وهو محبوس في داره التي قد كان بنى قال: وإذا كل شيء قد تغيَّر من العذاب والظرب، وإذا هو في قشاش فقلت: الحمد لله يا بلال، لقد رأيتك وأنت تمرّ بنا تُمسك بأنفك من غير غبار، وأنت في حالك هذا اليوم فقال: ممن أنت؟ فقلت: من بني مرة بن عباد، فقال: ألا أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به قلت: هات. قال: حدثني أبي أبو بردة عن أبيه أبي موسى -أي: الأشعري- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))، قال: وقرأ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} ". فهذا عفو الله عن عباده مع ارتكابهم للذنوب، ويروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: ((قلت يا رسول الله: أرأيت أن علمت أي ليلة ليلةُ القدر ما أقول فيها قال: قولي اللهم إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعفُ عني))، ويروي الإمام أبو داود بسنده عن ابن عمر أنه قال: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَدَع هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي -وقال عثمان: "عوراتي، وآمن روعاتي"- اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) فهذا هو ما كان يدعو به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان يسأل الله العافية، وكان يسأل الله العفو ... والعفو هو محو الذنب بكل ما في هذا الذنب من مساوئ، ولكن الأمل في الله كان عظيمًا في أن الله الإله الكريم يعفو ويصفح.

ويروي الإمام أحمد عن الحسن -رضي الله تعالى عنه- قال: ((استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس في الآثار يوم بدر، فقال: إن الله -عز وجل- قد أمكنكم منهم، قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قال: فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم، وإن ما هم أخوانكم بالأمس، قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله؛ اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ثم عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إن ترى أن تعفو عنهم وتقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغمّ، قال: فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء قال: وأنزل الله -عز وجل-: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 68))) إلى آخر ما نزل من الآيات. ففي هذا الحديث ما يبين عظم خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه مع شدة عداء أعدائه، ومع أنهم حاربوه وقتلوا من أصحابه من قتلوا إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- عفا عنهم، وقبل منهم الفداء -فصلوات الله وسلامه- على هذا الرسول الذي لا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. الإمام أبو الحسن الماوردي في (أدب الدنيا والدين)، ذكر كلامًا كثيرًا في الفصل الرابع في كتابه في الحلم والغضب، وذكر لنا أسباب الحلم الذي يؤدّي إلى الصفح وإلى العفو، فمما ذكر في ذلك قال: روى سفيان بن عيينة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين نزلت هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) قال: ((يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم عاد جبريل وقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك))، ثم يذكر ما رواه هشام عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان

إذا خرج من منزله قال: اللهم إني تصدَّقت بعرضي على عبادك))، ويروي أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله يُحب الحليم الحيي ويبغض الفاحش البذيء))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من حَلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد))، ويذكر عن بعض الأدباء قول من غرز شجرة الحلم اجتنى شجرة السلم، وقال بعض البلغاء: ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض، وذكر عن بعض الشعراء قوله: أُحبّ مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعاب وأصفح عن سباب الناس حلمًا ... وشر الناس من يهوي السباب ومن هاب الرجال تَهيَّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهاب ثم يقول: فالحلم من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد، وقد قال علي -رضي الله تعالى عنه-: "أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره، وحدّ الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب"، وهذا هو ما نذكره من الصفح والحلم. وقد ذكر الإمام الماوردي عشرة أسباب تؤدّي إلى ضبط النفس؛ منها" الرحمة بالجهال، والقدرة على الانتصار، والترفع عن السباب ... إلى آخر ما ذكر من هذه الأسباب، والتي تحتاج إلى قراءتها في هذا الكتاب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين.

الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين.

معنى كلمتي الإحسان والبر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الإحسان إلى الوالدين) معنى كلمتي الإحسان والبر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد: الإحسان إلى الوالدين: والإحسان إلى الوالدين، وبر الوالدين من الموضوعات المهمة التي لو أن الناس أحسنوا إلى آبائهم وأمهاتهم سوف يترتب على ذلك خير كثير للناس في الدنيا وفي الآخرة. كلمة الإحسان وكلمة البر في لغتنا العربية: يقول ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): الحاء والسين والنون أصل واحد، فالحسن ضد القبح، يقال: رجل حسن وامرأة حسنة، ويقول في البِّر: الباء والراء في المضاعف أربعة أصول الصدق وحكاية صوت وخلاف البحر ونبت؛ فأما الصدق فقولهم: صدق فلان وبر، وبرت يمينه: صدقت، وأبرها: أمضاها على الصدق، ومن هذا الباب قولهم: يبر قرابته، وأصله الصدق في المحبة، يقال للرجل: بار وبار، وبررت والدي وبررت في يميني. ومما قاله ابن منظور في (لسان العرب): الحسن ضد القبح والإحسان ضد الإساءة، والفرق بين الإحسان والإنعام أن الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره، تقول: أحسنت لنفسي، والإنعام لا يكون إلا لغيرك، ويقول في المراد بالبر: البر الصدق والطاعة، وبر يبر إذا صلح، وبر في يمينه يبر إذا صدّقه ولم يحنث، وبر رحمه يبر إذا وصلها، وفي أسماء الله تعالى البَّر دون البار وهو العطوف على عباده ببره ولطفه، والبِّر ضد العقوق. وفي (القاموس المحيط) يقول الفيروز أبادي: الحسن بالضم الجمال، والإحسان ضد الإساءة، والحسنة ضد السيئة، ويقول في البر: البر الصلة والجنة والخير

والاتساع في الإحسان والحج والصدق والطاعة، وضد العقوق، وبالفتح -أي: البر- من الأسماء الحسنة. أما الراغب في (معجم مفردات ألفاظ القرآن) فيقول: الحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه؛ وذلك ثلاثة أضرب؛ مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحس، ثم يقول: والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن على فلان. والثاني: إحسان في فعله، والإحسان أعم من الإنعام؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (الإسراء: 7)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل: 90) فالإحسان فوق العدل؛ وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، ولذلك عظم ثواب المحسنين؛ فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُحْسِنِين} وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} (البقرة: 195) ويقول في البِّر: البَّر خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تارة نحو {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم} (الطور:28) وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه؛ أي توسع في طاعته، فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة، وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد وضرب في الأعمال، وقد اشتمل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (البقرة: 177) الآية، وعلى هذا ما روي أنه سئل -عليه الصلاة والسلام- عن البر فتلا هذه الآية؛ فإن الآية متضمنة للاعتقاد وأعمال الفرائض والنوافل، وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهم وضده العقوق قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} (الممتحنة: 8) ويستعمل البر في الصدق لكونه بعد الخير المتوسع فيه، يقال: بر في قوله وبر في يمينه، وقول الشاعر:

الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم.

أكون ما كان البر منه قيل: أراد به الفؤاد، وليس كذلك، بل أراد ما تقدم؛ أي يحبني محبة البر، ويقال: بر أباه فهو بار وبر، مثل صائف وصيف وطائف وطيف، وعلى هذا قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} (مريم: 14) وبرا بوالدتي، وبر في يمينه فهو بار، وأبررته وبر يميني، وحج مبرور أي مقبول، وجمع البار أبرار وبررة قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الانفطار: 13). وقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} (المطففين: 18). وقال في صفة الملائكة: {كِرَامٍ بَرَرَة} (عبس: 16) فبررة خص بها الملائكة في القرآن من حيث أنه أبلغ من أبرار؛ فإنه جمع بر وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار، كما أن عدلًا أبلغ من عادل، والبر معروف، وتسميته بذلك لكونه أوسع ما يحتاج إليه في الغذاء ... إلى آخر ما قال عليه رحمة الله. من خلال هذا العرض لكلمتي الإحسان والبر في لغتنا العربية- يتضح لنا أن الإحسان معناه أن يبذل الشخص أقصى ما في وسعه حتى يصل إلى درجة التجويد في ما يؤديه من قول أو فعل، وأن البر معناه الطاعة والتوسع في الخير، وهذا التوسع على الأبناء أن يصلوا به إلى درجة تنشرح لها وبها صدور آبائهم؛ ليصلوا من هذا البر وبهذا البر إلى درجة الإحسان. الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم وقد وردت هذه الوصية في القرآن في ستة مواضع: أولها: في سورة "البقرة" في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (البقرة: 83) فهذه إذًا وصية الله لبني إسرائيل، فهي وصية

قديمة أخذها الله ميثاقًا على بني إسرائيل، جاءت الوصية جاءت الوصية بالوالدين فيما أوصى الله به وفيما أخذ من العهد والميثاق بعد عبادة الله -سبحانه وتعالى- وما بعد ذلك هذا هو الذي نراه في قوله: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} لكن بني إسرائيل لم يلتزموا بهدي الله وشرع الله، إنما كما قال ربنا في الآية الكريمة: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}. وفي سورة "النساء" يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36). وفي وصايا سورة "الأنعام" يقول تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 151). وفي سورة "الإسراء" يقول ربنا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24). فأنت ترى في هذه الآيات أن -سبحانه وتعالى- أمر بعبادته أولًا، ثم ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين ثانيًا؛ لتعرف قيمة هذه الوصية وقيمة هذا الأمر وقيمة ما أمر الله به في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

يقول الإمام الفخر الرازي: وإنما ثنى القرآن بهذا التكليف لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه، وفي الظاهر هو الأبوان، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة، وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ من الضياع والهلاك في وقت الصغر. وقد تأتي الوصية من الله مباشرة بالوالدين والإحسان إليهما كما نرى ذلك في سورة "العنكبوت" حيث يقول ربنا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8). وكما جاء في "الأحقاف" في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف: 16). هذه الآيات الستة التي وردت فيها كلمة الإحسان أو حسنى إلى الوالدين، ولكن وردت وصية من الله -عز وجل- بالوالدين دون ذكر كلمة الإحسان وذلك في سورة "لقمان" في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15).

الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة.

أما كلمة البر -والتي نتحدث فيها عن بر الوالدين- فلم ترد في كتاب الله إلا في سورة "مريم" في قول يحيى وعيسى، يحيى كما قال ربنا: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (مريم: 14)، وعيسى -عليه السلام- يقول: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (مريم: 32) الغاية إذا من هذا البر -كما ألمحت- هو يبذل الابن قصار جهده في أن يتوسع في الخيرات والعطاءات، وأن يقوم بواجبه تجاه والديه، إلى أن يصل بذلك إلى درجة الإحسان. الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة وحين نتأمل سوف نرى كلمة الإحسان قد جاءت في السنة المشرفة في قول الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- تبين المرحلة العليا في تجويد الإسلام والإيمان، فلما سئل الرسول -عليه الصلاة والسلام- وذكر الإسلام وذكر الإيمان وسئل عن الإحسان قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) فسوف نعرف كثيرًا من هذه المعاني حين نستعرض ما جاء في السنة المشرفة، وفيها الكثير من المعاني، هيا إذًا لنقتبس من نور المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يضيء للدنيا الطريق: روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك))، فترى أنه -صلى الله عليه وسلم- أوصى هذا الصحابي بأمه المرة تلو المرة، ثم جاء الأب في المرتبة الأخيرة، وما ذلك لم بذلته الأم من تعب ومن مشقة كما رأينا في الآيات: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أو كما قال ربنا: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} ثم إنها ضعيفة فتحتاج إلى مزيد من الرعاية.

سوف نجد أيضًا في ما رواه الإمام البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد إلا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد أي من المشقة والتعب، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله -عز وجل- في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا و َإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15). إذًا الطاعة والبر والإحسان إنما يكون في طاعة الله لا معصية الله، وأعظم المعاصي وأكبرها وأشدها جرمًا هو الكفر بالله والإشراك بالله فهذا لا طاعة فيه لأحد. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((أقبل رجل إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبياعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))، وفي هذا بيان لعظم صحبة الأبوين بالإحسان كليهما. وهناك أيضًا حديث عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجل عابد فاتخذ صومعة، فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جرير فقال: يا رب أمي وصلاتي -يعني: كيف أختار بينهما- فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج،

فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات -أي: المشتغلات بأمر الزنا- فتذاكر بنو إسرائيل جريج وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو لجريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا)). ففي هذا الحديث نرى ما كان من أمر هذا العابد وأنه فضل صلاته على إجابة دعوة أمه لجبر خاطرها، فلما غضبت منه دعت عليه بهذه الدعوة؛ أن ينظر إلى وجوه المومسات، فتحقق هذا وحدث، وجاءت هذه البغي وفعلت ما فعلت؛ لكنه لأنه حفظ الله -سبحانه وتعالى-؛ فلم يقترب منها ولم يرتكب المعصية، وإنما لاذ بدينه وإيمانه، ولكن هذه المرأة الفاجرة جاءت إلى راعٍ يأتي إلى هذه الصومعة ففعلت معه ما فعلت، وحملت بهذا الصبي، فارتكبت عدة جرائم: ارتكبت جريمة الزنا وجريمة الكذب وجريمة البهتان وادعت زورًا وظلمًا أن هذا الصبي هو ابن لجريج، ولكن الله -عز وجل- عنده الفرج وهو ولي الصالحين؛ لم يترك عبده هذا لجرم هؤلاء المجرمين، إنما أنطق هذا الصبي فذكر أن فلانًا الراعي هو أبوه، فأقبل القوم على جريج -كما جاء في الحديث- يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا، الشاهد في الحديث -كما رأينا- هو ما في طاعة الأم من فضل ومن خير ومن بركة.

وعند الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ثم سكت عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو استزدته لزادني)). في هذا الحديث ترى أن بر الوالدين يأتي قبل الجهاد في سبيل الله، وقد سبق أن رأينا الرسول -صلى الله عليه وسلم- نصح هذا الذي طلب منه أن يهاجر وأن يجاهد أن يعود إلى أبويه فيحسن صحبتهما. ويروي أيضًا الإمام الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال: وجلس وكان متكئًا، فقال: وشهادة الزور -أو قول الزور- فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولها حتى قلنا: ليته سكت)). ففي هذا الحديث بيان لجريمة عقوق الوالدين، وأن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، ويأتي بعد الإشراك بالله، وكما رأينا في الوصية بالوالدين والإحسان إليهما أن ذلك يأتي بعد الأمر بعبادة الله وإخلاص العبادة لله، هنا أيضًا هذا الأمر في عقوق الوالدين يأتي بعد الإشراك بالله. بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالمحافظة على كرامة الأبوين؛ ذلكم في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أب الرجل فيشتم أباه، ويشتم أمه فيسب أمه)) فعلى الإنسان أن يحافظ على كرامة والديه بمحافظته على ألا يسب أحدًا وألا يشتم أحدًا؛ لأنه إذا فعل ذلك هذا الذي شُتم لن يسكت، إنما سوف يشتم الرجل والديه ويشتم أمه، وهكذا.

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا لقدر الأبوين وأن الابن مهما بذل فلن يستطيع أن يوفيهما حقهما يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)). بل إن جريمة قطيعة الرحم -وفي مقدمة ذلك ما يفعله بعض الأبناء بالآباء حين يقاطعون آباءهم وينسون مودتهم وينشغلون عنهم بأبنائهم وأزواجهم- وفي هذا يروي الإمام الترمذي بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة قاطع)) قال ابن أبي عمر: قال سفيان: يعني قاطع رحم، فنسأل الله السلامة والعافية. بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد من الأبناء أن يواصلوا بر آبائهم حتى بعد وفاتهم، وفي هذا يروي الإمام مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر؛ أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار، وكان مع ابن عمر: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًّ لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)). وما زلنا نواصل الحديث من خلال أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما ذكره صاحب (الترغيب والترهيب) في كتاب البر والصلة الترغيب في بر الوالدين وصلتهما وتأكيد طاعتهما والإحسان إليهما وبر أصدقائهما من بعدهما، مما ذكر الإمام المنذري في هذا الباب وفي هذا الكتاب ذكر حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: ((أن رجلًا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما)).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)). وقريب من ذلك ما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -ربما لظروفه الصحية أو لعدم قدرته المالية- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: هل بقي من والداك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها فإن فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)) يقول الإمام الحافظ المنذري: رواه أبو يعلى والطبراني في (الصغير) و (الأوسط)، وإسنادهما جيد؛ ميمون بن نجيح وثقه ابن حبان، وبقية رواته ثقات مشهورون. وأيضًا في هذا الباب وفي هذا السياق يروي عن طلحة بن معاوية السلمي -رضي الله عنه- قال: ((أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الزم رجلها فثم الجنة)) أي فهناك الجنة عند رجلها. وعن معاوية بن جاهمة: ((أن جاهمة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة عند رجلها)). وما إلى ذلك من هذه الأحاديث التي تبين أن التزام الأم والتزام الوالدين والقيام بحقهما لا يقل عن الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بل ربما كان هذا أفضل من الجهاد. والمقصد من هذا الجهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الجهاد غير المفروض، فإن الجهاد إما فرض عين وإما فرض كفاية، فرض العين هو الجهاد الواجب على كل فرد من الأفراد وعلى كل مسلم من المسلمين، وله أسبابه المذكورة في كتب الفقه، أما غير الجهاد المفروض فهو الجهاد الكفائي الذي إذا قام به البعض سقط

الفرض عن الباقين، فالمقصد من هذا الجهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأراد هؤلاء الصحابة أن يخرجوا فيه هو الجهاد الكفائي. أيضًا، في طاعة الأبوين وطاعة الأب وطاعة الأم يروي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-: "أن رجلًا أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِع هذا الباب أو احفظه)) " قال الترمذي: حديث صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه: "أن رجلًا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني بطلاقها؟ قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك! غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعته يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة)) فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دعه قال: فأحسب عطاء قال: فطلقها". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرها، فقال لي: طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((طلقها)) ". والمقصد من ذلك أن هذا التفريق لهذه المرأة من وجهة نظر الأب ومن وجهة نظر الأم ربما كان لأسباب وجيهة، تقتضي من هذا الابن أن يستجيب لأوامرهما وأن يلبي رغبتهما، وأن يكون بارًّا بهما، وأن هذا الابن إنما كان يريد هذه الزوجة تغليبًا لهواها لا من باب العقل، ولكن الأب ولكن الأم وهما غالبًا يريدان السعادة لأبنائهما لا يمكن أن يتصور أن يأمر الأب أو تأمر الأم بأن يطلق الابن امرأته هكذا دون أسباب قائمة على الرأي السديد، فعلى الابن أن يكون بارًّا بهما وأن يستجيب لما ينصحان به في هذا الجانب.

من فضائل بر الوالدين: ما نقرؤه في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)). وعن معاذ بن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من بر والديه طوبى له -أي: الجنة له- زاد الله في عمره)). وفي المقابل نقرأ عن ثوبان -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) ومن المعلوم أن في مقدمة هذا البر في هذا الباب بر الوالدين. وعن سلمان -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)). ورغبة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أن يلتزم الأبناء جانب البر يقول فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)) رواه مسلم. ومعنى: ((رغم أنفه)) أي: لصق بالرغام وهو التراب وهو من باب الدعاء ومن باب التعجب من حال هذا الابن الذي عاش ما عاش مع والديه، ثم مات الوالدان أو مات أحداهما أو أدرك هو والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يقم ببرهما والإحسان إليهما؛ ليكون ذلك سببًا في دخول الجنة. وأيضًا في هذا السياق عن جابر -يعني ابن سمرة رضي الله عنه- قال: ((صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: آمين آمين آمين، قال: أتاني جبريل -عليه الصلاة والسلام- فقال: يا محمد، من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله فقل: آمين فقلت: آمين، فقال: يا محمد

من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، فقل: آمين فقلت: آمين قال: ومن ذكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله فقل: آمين فقلت: آمين)) فصلوات الله وسلامه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا -ومعنى لا أغبق قبلهم أهلًا ولا مالًا أي: ما كنت أقدم عليهما أحد في شرب نصيبهم من اللبن الذي يشربانه، والغبوق هو شرب آخر النهار- فنأى بي طلب شجر يومًا فلم أرح عليهم حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبست والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشرب غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج)) وتتابع زملاؤه في الدعاء كل منهما يذكر أمرًا فيه طاعة لله، فكان هذا من الأسباب التي أدت إلى انفراج هذه الصخرة، وأن هؤلاء الثلاثة خرجوا يمشون بفضل الله -سبحانه وتعالى. بل إن الإسلام ليجعل القيام بالإحسان إلى الوالدين حق واجب على الأبناء حتى لو كان هؤلاء الآباء على الكفر والشرك، فهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: قدِمت علي أمي وهي راغبة -أي أتت راغبة في زيارتي- أفأصل أمي؟ قال: ((نعم صِلي أمك)).

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد)) وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها)) رواه الترمذي واللفظ له. وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه- قال: ((بينا نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم ... الصلاة عليهما، -أي: الدعاء لهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)). وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لما أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده)) وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذاك. هذه إذًا جملة من هدي النبوة ترشدنا إلى كيف يكون الأبناء على درجة عالية من الإحسان إلى آبائهم، ومن القيام ببرهم وطاعتهم؛ سواء كان ذلك في حياتهم أو بعد مماتهم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأحاديث في الترهيب من عقوق الوالدين، ونضيف إلى ذلك ما روي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره قيل وقال وكثرة السؤال)).

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)) أي المرأة التي تتشبه بالرجال. رواه النسائي والبزار واللفظ له، بإسنادين جيدين، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. أرأيتم كيف جاء الإحسان إلى الوالدين في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون ذلك معلمًا لبني الإنسان ولأمة الإسلام خاصة، في كيف تنتشر السعادة في ربوع هذه الأمة، حين يقوم الأبناء بالإحسان إلى الآباء، ويقوم الآباء أيضًا بالإحسان إلى الأبناء؛ لتتواصل الأجيال قائمة على منهج البر والإحسان؛ لترفرف السعادة على مجتمعات المسلمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 4 إكرام الضيف.

الدرس: 4 إكرام الضيف.

معنى كلمة الضيف.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (إكرام الضيف) معنى كلمة الضيف الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأن م حمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على منهجه واتبع طريقه إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا الموضوع بعنوان إكرام الضيف: الضيف -كما جاء في كتب اللغة- والفرق بينه وبين ابن السبيل يقول صاحب معجم (مقاييس اللغة): ضيف، الضاد والياء والفاء أصل واحد صحيح، يدل على ميل الشيء إلى الشيء، يقال: أضفت الشيء على الشيء أملته، وضافت الشمس تضيف؛ أي: مالت، وكذلك تضيّفت إذا مالت إلى الغروب، والضيف من هذا، يقال: ضيفت الرجل تعرضت له ليضيفني وأضفته أنزلته عليَّ. أما السبيل: فالسين والباء واللام أصل واحد يدل على إرسال شيء من علوٍّ إلى سفل وعلى امتداد شيء، ثم يقول: والممتد طولًا السبيل وهو الطريق، سُمي بذلك لامتداده، فابن السبيل إذًا هو ابن الطريق. أما صاحب (لسان العرب) فيقول: ضيف ضفت الرجل ضيفًا وضيافة وتضيفته: نزلت به ضيفًا وملت إليه، وقيل: نزلت به وصرت له ضيفًا، وضفته وتضيفته: طلبت منه الضيافة، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: "ضافها ضيف، فأمرت له بملحفة صفراء"، هو من ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته، وأضفته وضيفته أنزلته عليك ضيفًا وأملته إليك وقربته، ويقول في السبيل: السبيل الطريق وما وضح منه، يذكر ويؤنث، وابن السبيل ابن الطريق، وتأويله: الذي قطع عليه الطريق، وهو المسافر انقطع به، وهو يريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد من يتبلغ به، فله في الصدقات نصيب، وقال

الشافعي: ابن السبيل عندي من أهل الصدقة، وابن السبيل الذي يريد البلد غير بلده لأمر يلزمه، ويعطى قدر ما يبلّغه الذي ينزله في نفقته وحمولته. أما صاحب (المفردات) الراغب الأصفهاني فيقول: ضيف أصل الضيف الميل يقال: ضفت إلى كذا وأضفت كذا إلى كذا، وضافت الشمس إلى الغروب وتضيفت، وضاف السهم عن الهدف وتضيف، والضيف: من مال إليك نازلًا بك، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم، وقد يجمع فيقال: أضياف وضيوف وضيفان، قال ضيفي إبراهيم: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} (هود:78) {إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي} (الحِجر: 68) ويقال: استضفت فلانًا فأضافني، وقد ضفته فأنا ضائف وضيف، أما السبيل فهو الطريق فيه سهولة، وجمعه سبل، وابن السبيل المسافر البعيد عن منزله، نُسب إلى السبيل لممارسته إياه. لعلكم لاحظتم أن الضيافة تعني الميل من شخص إلى شخص، فأنت لا تنزل ضيفًا إلا على من تحبه ومن تثق فيه ومن تعلم أنه سوف يرحب بك، وقد يكون هذا الضيف عابرًا لطريق وأن يكون رجلًا مسافرًا متنقلًا من بلد إلى بلد ينزل عند إخوانه وأهل دينه وأحبابه وأصدقائه وغير أصدقائه؛ ليجد عندهم الإكرام والمروءة والنجدة يزودنه بما يحتاج إليه من مال ومن متاع ومن مركب؛ حتى يصل إلى طريقه. فهذه الكلمات لأهل اللغة تعني أن هناك في المجتمع الإسلامي -بل والمجتمع الإنساني- ما يعرف بالضيافة، وهو أن يأتي شخصًا لينزل عند شخصٍ آخر ليقوم هذا الشخص بإكرامه وإنزاله المنزلة اللائقة به.

حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم.

حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم إذا كان هذا كلام أهل اللغة ... فماذا جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى- من الحديث عن الضيف؟: الواقع أننا حين نتصفح آيات القرآن سوف نجد كلمة الضيف قد وردت في خمس مواضع من القرآن الكريم، فلنستعرض هذه المواضع ثم لننظر فيما تعنيه: ثم يقول تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} (هود: 78). ويقول تعالى في سورة "الحجر ": {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} (الحجر: 69). ويقول في السورة نفسها: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الحجر: 53). ويقول في سورة "الذاريات": {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28). وأخيرًا في الموضع الخامس في سورة "القمر"، يقول: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} (القمر: 39).

نرى في سياق هذه الآيات الخمس أن الضيف أو الضيوف والضيفان هنا هم ملائكة الرحمن، ملائكة الرحمن جاءوا إلى إبراهيم -عليه السلام- وبشروه بغلام عليم وهو إسحاق -عليه السلام-، وتذكر الآيات ما كان من أمر هؤلاء الضيوف وأمر إبراهيم معهم حين قدّم إليهم هذا العجل السمين وأكرمهم، وأراد أن يقرّب إليهم أكلًا، فقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ فلما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة، فأظهروا له حقيقة أمرهم وأخبروه بأنهم جاءوا بأمر آخر وهو قرى لوط التي ارتكبت الفاحشة، وهؤلاء الضيوف الذين نزلوا على إبراهيم الخليل -عليه السلام- هم الذين ذكرهم الله في الآيات الأخرى في أمر لوط -عليه السلام-؛ حيث جاءوا إليه في صورة رجال في هيئة حسنة، ولما علم قومه بهؤلاء الضيوف جاءوا يطلبون منه أن يرتكبون الفاحشة مع هؤلاء الضيوف، فقال لهم لوط ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، فكان هؤلاء الضيوف كما رأينا في الآيات حين قال لوط -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} (هود: 78)، وقال لهم: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} (الحجر: 69). وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} (القمر: 39). إذًا المذكور في القرآن الكريم من أمر هؤلاء الضيوف هم ملائكة الرحمن الذين أتوا لإبراهيم -عليه السلام- ثم انتقلوا من عند إبراهيم إلى لوط -عليه السلام. والحديث عن هؤلاء الضيوف ليس هو الموضوع الذي نريد أن نتحدث فيه؛ لأن الموضوع الذي نتحدث فيه في أخلاق القرآن هو ما جاء به هذا الدين وما جاء به هذا الإسلام وما جاء في القرآن الكريم، من دعوة لإكرام الضيوف الذين هم إخوان والذين هم أخوة والذين هم أحبة.

حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة.

حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة ولعل مما يوضح هذه الحقيقة ما جاء في السنة المشرفة، وفيها بيان واضح وجلي لما يجب للضيف من كرامة ومن إكرام، فنتابع هذه الأحاديث وسوف نجد فيها الكثير بإذن الله تعالى. يروي الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث إلى نسائه فقلنا: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يضم أو يضيف هذا أي يجعله عنده ضيفًا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا -وسوف نعرف من هو هذا الرجل- فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء، فهيئت طعامها وأصبحت سراجها -أي: أطفأته- ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبحا غدا -أي: هذا الرجل- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (الحشر: 9)». في هذا الحديث المبارك الشريف نلحظ مدى طاعة الزوجة المسلمة لزوجها، ومدى تعاونها معه في تنفيذ ما رغِب فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي تنفيذ ما علما من هذا الدين من جزاء من يكرم الضيف؛ تعاونت مع زوجها واستطاعت أن تهيئ الطعام وأن تطفئ السراج وأن تنيم الصبية وأن تجلس هي وزوجها مع الضيف، ليظهران له أنهما يأكلان، حتى باتا طاويين، فلما أصبح الرجل وذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- بوحي من الله بأن الله عجب من

فعالكما أو ضحك الله -سبحانه وتعالى- مما حدث منكما، وأنزل على رسوله -عليه الصلاة والسلام-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. أيضًا يروي الإمام مسلم عن أبي هريرة: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضافه ضيف -أي: نزل به ضيف- وهو -أي: هذا الضيف- كافر فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)). فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الكريم الذي نظر إلى حاجة ضيفه إلى ما يكفيه، فجعله يشرب حلاب سبع شياه، ثم في اليوم التالي لما أسلم هذا الضيف جاء له أيضًا بما يكفيه فشرب مرة، ولم يستطع أن يتم الأخرى. أيضًا مما جاء في السنة المشرفة ما رواه الإمام أحمد قال: حدثني أبو دقانة قال: كنت جالسًا عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: ((أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضيف فقال لبلال: آتنا بطعام، فذهب بلال فأبدل صاعين من تمر بصاع من تمر جيد، وكان تمرهم دون فأعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- التمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: من أين هذا التمر؟ فأخبره أنه أبدل صاعًا بصاعين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: رد علينا تمرنا)). وفي هذا الحديث بيان لما يكون فيه الربا، وأن الربا إنما يكون بهذه الطريقة في أن يدفع شيئًا، وأن يأخذ أكثر منه، ولكن الصحيح أن يبيع التمر الذي كان معه ليشتري به هذا التمر الجيد، فهذا هو الطريق الذي يريده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن الشاهد في حديثنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين أتاهم هذا الضيف قال لبلال: ((اتئنا بطعام))،

وأن بلالًا ذهب ففعل ما فعل، لكن هذا هو الرسول الكريم -عليه الصلاة وأزكى السلام. أيضًا يروي الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا، أي: لم يقم هؤلاء القوم بحق ضيافته؛ فله أن يأخذ بقدر قِراه ولا حرج عليه)). ويروي أيضًا بسنده عن أبي أمامة قال: ((أنشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، قال: فسلمنا وغنمنا، قال: ثم أنشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوًا ثانيًا فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي بالشهادة، فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، قال: ثم أنشأ غزوًا ثالثًا، فأتيته فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك مرتين قبل مرتي هذه فسألتك أن تدعو الله لي بالشهادة فدعوت الله -عز وجل- أن يسلمنا ويغنمنا، فسلمنا وغنمنا، يا رسول الله، فادع الله لي بالشهادة؛ فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، قال: فسلمنا وغنمنا، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، مرني بعمل قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له، قال: فما رؤي أبو أمامة ولا امرأته ولا خادمه إلا صُيامًا قال: فكان إذا رؤي في داره دخان بالنهار قيل: اعتراهم ضيف، نزل بهم نازل قال: فلبس بذلك ما شاء الله، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، أمرتنا بالصيام، فأرجو أن يكون قد بارك الله لنا فيه، يا رسول الله فمرني بعمل آخر قال: اعلم أنك لم تسجد لله سجدة إلا رفع الله بك درجة وح ط عنك بها خطيئة)). وفي هذا الحديث الشريف حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، فلم يكن الجهاد غاية لأن يرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليموتوا في المعارك وفي مواقع

الجهاد، إنما كان يدعو الله أن يسلمهم وأن يغنمهم، ولكنه أيضًا في الجانب الآخر رأينا حرص أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم أبو أمامة على أن يحظى بالشهادة، ولكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يدعو دائمًا بأن يسلم أصحابه وأن يغنمهم وأن يعودوا سالمين غانمين، فلما رأى ذلك أبو أمامة طلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصية فأوصاه بالصوم، وبين له أن الصوم لا عدل له ولا مثل له، ولذلك كان أبو أمامة وكانت امرأته وكان خادمه دائمًا في صيام متواصل، فكان إذا رؤي في دارهم دخانٌ بالنهار قيل: اعتراهم ضيف نزل بهم، فهذا يدل على أن هؤلاء قد تعلموا فيما ما تعلموا إكرام الضيف، وأنهم إذا نزل بهم ضيف أفطروا ليأكلوا معه وليشاركوه ولئلا يحرجوه، فنعم هذا الخلق الكريم هذا الذي تعلمه هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أيضًا يروي الإمام البخاري عن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))، وفي رواية أخرى عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه)) ويروي في هذا أيضًا أبو داود عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يومه وليلته، الضيافة ثلاثة أيام، وما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي -أي: أن يقيم- عنده حتى يحرجه)).

وفي هذه الأحاديث نرى أن إكرام الضيف من الإيمان، وأن جائزة الضيف هي يوم وليلة، وأن الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد عن هذه الأيام الثلاثة فهو صدقة، وفي توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يرشد أهل الإيمان إلى أنه لا ينبغي ولا يحل ولا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت حتى يحرجه. لكنه إن رأى تمسك الضيف به وأنه يريد أن يقيم معه مدة من الزمان أخرى، ووجد أنه في ذلك صادق وأنه يريد هذا على وجه الحقيقة لا من باب الحياء؛ فلا حرج عليه. أيضًا يروي لنا الإمام البخاري حديثًا عظيم ًا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- فيقول: كان أبو هريرة يقول: ((يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه -أي: على طريق خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر- فمر أبو بكر فسألته عن آيات من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آيات من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول، قال: الْحقْ -أي: الْحَقْ بي- ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال -أي: أبو هريرة-: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله

وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قال: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكًا، قال: فأدن فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضل)). هذه معجزة عظيمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف أن هذا القدح وفيه هذا القدر من اللبن يكفي هذا الجمع الغفير من أهل الصفة، وعددهم عدد كبير! وكيف أن أبا هريرة شرب حتى شبع من هذا اللبن وأقسم قائلًا: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا!. وفي هذا نرى كيف يكون إكرام الضيف من خلال هذا الحديث، وأن توكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ربه وثقة رسول الله في عطاء الله له جعله ينادي على أهل الصفة وهو واثق أن الله -سبحانه وتعالى- سوف يبارك له في هذا القدر القليل من اللبن؛ ليكفي هذا العدد الكثير، فصلوات الله وسلامه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. يروي الإمام مسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: ((نزل علينا أضياف لنا قال: وكان أبي يتحدث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل قال: فانطلق وقال: يا عبد الرحمن، افرغ من أضيافك، قال: فلما أمسيت جئنا بقراهم -أي بما

أعددناه لهم من الطعام- قال -أي: عبد الرحمن-: فأبوا فقالوا: حتى يجيء أبو منزلنا يقصدون أبا بكر، فيطعم معنا قال: فقلت لهم: إنه رجل حديد، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى، قال: فأبوا، فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم، فقال: أفرغت من أضيافكم؟ قال: قالوا: لا والله ما فرغنا، قال: ألم آمر عبد الرحمن قال: وتنحيت عنه، فقال: يا عبد الرحمن، قال: فتنحيت، قال: فقال: يا غنثر؛ أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت، قال: فجئت فقلت: والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، قد أتيتهم بقراهم -أي: بطعامهم- فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، قال: فقال: ما لكم ألم تقبلوا عنا قراكم؟ قال: فقال أبو بك ر: فوالله لا أطعمه الليلة، قال: فقالوا: فوالله لا نطعمه حتى تطعمه، قال: فما رأيت كالشر كالليلة قط، ويلكم ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم، قال: ثم قال: أما الأولى فمن الشيطان، هلموا قراكم قال: فجيء بالطعام فسمّى فأكل وأكلوا، قال: فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بروا وحنثت، فأخبره فقال: بل أنت أبرهم وأخيرهم قال: ولم تبلغني كفارة)). وفي هذا الحديث الشريف نرى حرص أبي بكر الصديق على إكرام هؤلاء الضيوف، وكيف أنه أوصى ابنه عبد الرحمن وأوصى أهل بيته أن يقوموا بإكرام هؤلاء الضيوف، ولكن هؤلاء الضيوف رفضوا وأبوا أن يأكلوا إلا إذا حضر أبو بكر، فلما حضر ووجد أنهم لم يأكلوا طعامهم إلى هذا الوقت المتأخر من الليل غضب على ابنه عبد الرحمن وقال له ما قال، فأخبره بما كان من أمرهم إلى أن غضب أبو بكر فأقسم ألا يتناول هذا الطعام، وأقسم هؤلاء أيضًا أنهم لن يأكلوا، فلما رأى هذا رجع عما حلف فيه، وعاد واعتبر أن هذا الذي حدث من الشيطان، وقال: هلموا إلى قراكم -أي إلى طعامكم- فسمى فأكل وأكل هؤلاء الضيوف، وذهب في الصباح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ما قال. هذه هي أخلاق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في إكرامهم للضيوف.

إكرام الضيف عند الإمام الغزالي.

بقي لنا أيضًا حديث رواه الإمام البخاري عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: ((آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة -أي غير مهتمة بمظهرها- فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل؛ لأنه كان في صيامه صيام نفل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدق س لمان)). هذه هي إذًا حقوق وإكرام الضيوف، كما جاءت في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. إكرام الضيف عند الإمام الغزالي بقي لنا أن نتجول فيما ورد من أئمتنا فيما كتبوه في هذا الباب، وأمامنا في (إحياء علوم الدين) في الباب الرابع يذكر لنا آداب الضيافة، ويذكر الإمام الغزالي في آداب الضيافة أن مظان الآداب في ذلك ستة: الدعوة أولًا، ثم الإجابة، ثم الحضور، ثم تقديم الطعام، ثم الأكل، ثم الانصراف. فيتكلم لنا عن فضيلة الضيافة ويذكر فيها جملة من الأحاديث اخترت منها ما صح من الأحاديث؛ لأنه يذكر أحاديث كثيرة في كل جزئية من جزئيات الموضوع، وبعض هذه الأحاديث فيها ضعف ولا تصلح للاستشهاد في هذا المقام. فمما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: ما الإيمان فقال: ((إطعام الطعام وبذل السلام)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((في الكفارات والدرجات

إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام)) وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن الحج المبرور فقال: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)). ثم يتكلم لنا عن الدعوة فيذكر لنا أن الداعي ينبغي أن يعمل بدعوته الأتقياء دون الفساق، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أكل طعامكم الأبرار)) في دعائه لبعض من دعا له، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تأكل إلا طعام تقي، ولا يأكل طعامك إلا تقي)). فيقصد الفقراء دون الأغنياء على الخصوص، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء دون الفقراء)). ثم يقول: ينبغي أن لا يهمل أقاربه في ضيافته، فإن إهمالهم إيحاش وقطع رحم، وكذلك يراعي الترتيب في أصدقائه ومعارفه، فإن في تخصيص البعض إيحاشًا لقلوب الباقين، وينبغي إلا يقصد بدعواه المباهاة والتفاخر بل استمالة قلوب الإخوان والتسنن بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إطعام الطعام وإدخال السرور على قلوب المؤمنين، وينبغي ألا يدعو من يعلم أنه يشق عليه الإجابة، وإذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب، وينبغي ألا يدعو إلا من يحب إجابته ... إلى آخر ما ذكر في ذلك -عليه رحمة الله. ثم يذكر لنا خمس آداب يجب على المسلم أن يتأدب بها في مسألة إجابة الدعوة: أولها: ألا يميز الغني بالإجابة عن الفقير، فذلك هو التكبر المنهي عنه. الثاني: لا ينبغي أن يمتنع عن الإجابة لبعد المسافة، كما لا يمتنع لفقر الداعي وعدم جاهه، بل كل مسافة يمكن احتمالها في العادة لا ينبغي أن يمتنع لأجل ذلك. الثالث: ألا يمتنع لكونه صائمًا، بل يحضر، فإن كان يسر أخاه أن يفطر فليفطر، وليحتسب في إفطاره بنية إدخال السرور على قلبه ما يحتسب في الصوم وأفضل

وذلك في صوم التطوع، أما في صوم الفرض فلا مجال فيه لهذا الأمر، وإن لم يتحقق سرور قلبه فليصدّقه بالظاهر وليفطر، وإن تحقق أنه متكلف فليتعلل، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لمن امتنع بعذر الصوم: ((تكلف لك أخوك وتقول: إني صائم؟!)) إلى آخر ما ذكر في هذا المقام. الأمر الرابع: أيضًا أن يمتنع من الإجابة إن كان الطعام طعام شبهة أو الموضع أو البساط المفروش من غير حلال، أو كان يقام في الموضع منكرًا، إلى آخر ما ذكر في هذا. الأمر الخامس: ألا يقصد بالإجابة قضاء شهوة البطن، فيكون عاملًا في أبواب الدنيا، بل يحسّن نيته ليصير بالإجابة عاملًا للآخرة، وذلك بأن تكون نيته الاقتضاء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت)) وينوي إكرام أخيه المؤمن كما ينوي إدخال السرور على قلبه، وينوي أيضًا مع ذلك أن تكون الزيارة ليكون من المتحابين في الله؛ إذ شرط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه التزاور والتباذل لله، وقد حصل البذل من أحد الجانبين فتحصل الزيارة من جانبه أيضًا، وينوي صيانة نفسه عن أن يساء به الظن في امتناعه، ويطلق اللسان فيه بأن يحمل على تكبر أو سوء خلق أو استحقار أخ مسلم أو ما يجري مجاراة، فهذه نيات تجعل هذه القربات لله وفي سبيله. ثم يتحدث عن آد اب الحضور فيقول: وأما الحضور فأدبه أن يدخل الدار ولا يتصدر فيأخذ أحسن الأماكن، بل يتواضع ولا يطوّل الانتظار عليهم، ولا يعجل بحيث يفاجئهم قبل تمام الاستعداد، ولا يضيّق المكان على الحاضرين بالز حم ة، بل إن أشار إليه صاحب المكان بموضع لا يخالفه ألبتة، فإنه -أي: صاحب البيت- قد يكون رتب في نفسه موضع كل واحد، فمخالفته تشوش عليه، وإن أشار إليه بعض الضيفان بالارتفاع إكرامًا فليتواضع ولا ينبغي أن يجلس في مقابلة باب الحجرة التي للنساء، ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام، فإنه دليل على الشره، ويخص بالتحية والسؤال من يقرب منه إذا جلس، وإذا

دخل ضيف للمبيت فليعرّفه صاحب المنزل عند الدخول القبلة وبيت الماء وموضع الوضوء، كذلك فعل مالك بالشافعي -رضي الله عنهما- وغسل مالك يده قبل الطعام قبل القوم وقال: الغسل قبل الطعام لرب البيت أولى؛ لأنه يدعو الناس إلى كرمه فحكمه أن يتقدم بالغسل، وفي آخر الطعام يتأخر بالغسل لينتظر أن يدخل من يأكل فيأكل معه. هذه بعض آداب الحضور التي ذكرها الإمام الغزالي. وذكر لنا أيضًا في إحضار الطعام قال: له آداب خمسة: أولها: تعجيل الطعام، فذلك من إكرام الضيف فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) ومهما حضر الأكثرون وغاب واحد أو اثنان وتأخروا عن الوقت الموعود فحق الحاضر في التعجيل أولى من حق أولئك في التأخير، إلا أن يكون المتأخر فقيرًا أو أن ينكسر قلبه بذلك؛ فلا بأس في التأخير. الثاني: ترتيب الأطعمة بتقديم الفاكهة أولًا إن كانت فذلك أوثق في الطب فإنها أسرع استحالة، فينبغي أن تقع في أسفل المعدة، وفي القرآن تنبيه على تقديم الفاكهة في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُون} ثم قال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (الواقعة: 21) فهذه في الحقيقة ملاحظة طيبة، ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم والثريد ... إلى آخر ما ذكر في هذا. الثالث: أن يقدم من الألوان ألطفها حتى يستوفي منها من يريد، ولا يكثر الأكل بعده. الرابع: ألا يبادر إلى رفع الألوان قبل تمكنهم من الاستيفاء حتى يرفعوا الأيدي عنها، فلعل منهم من يكون بقية ذلك اللون أشهى عنده مما استحضروه أو بقيت فيه حاجة إلى الأكل فيتنغص عليه بالمبادرة.

الخامس: أن يقدم من الطعام قدر الكفاية، فإن التقليل نقص في المروءة، والزيادة عليه تصنع ومراءاة لا سيما إذا كانت نفسه لا تسمح بأن يأكل الكل، إلا أن يقدم الكثير وهو طيب النفس لو أخذ الجميع ولو أن يتبرك بفضلة طعامهم. يبقى لنا الأمر الأخير وهو الانصراف، وقد ذكر له ثلاثة آداب: أولها: أن يخرج مع الضيف إلى باب الدار، وهو سنة وذلك من إكرام الضيف، وقد أمر بإكرامه -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) وقال -عليه السلام-: ((إن من سنة الضيف أن يشيّع إلى باب الدار)) قال أبو قتادة: ((قدم وفد النجاشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: كلا إنهم كانوا لأصحابي مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم)). وتمام الإكرام طلاقة الوجه وطيب الحديث عند الدخول والخروج وعلى المائدة. الثاني: أن ينصرف الضيف طيب النفس وإن يرى في حقه تقصير. الثالث: ألا يخرج إلا برضا صاحب المنزل وإذنه، ويراعي قلبه في قدر الإقامة، وإذا نزل ضيفًا فلا يزيد على ثلاثة أيام، فربما يتبرم به ويحتاج إلى إخراجه، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فصدقة)) نعم، لو ألح رب البيت عليه -كما قلنا- عن خلوص قلب فله المقام إذ ذاك، ويستحب أن يكون عنده فراش للضيف النازل به. هذه جملة من الآداب ذكرها الإمام الغزالي، وذكرنا من الأحاديث ما ذكرنا، ولو أدينا حق الضيافة لشاع في مجتمعنا الأمن والسلام والاستقرار، ولكانت الأخوة هي المنهج وهي الطريق لأمة الإسلام. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته.

الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته.

المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (التغاضي عن الجار ومواساته) المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم، وسار على نهجهم واتبع طريقتهم إلى يوم الدين، أما بعد: فالمقصود بكل من: التغاضي، الجار، المواساة -كما جاءت في كتب اللغة-: معجم (مقاييس اللغة) لابن فارس، ذكر أن كلمة غض تتكون من الغين والضاد، فيقول: هما أصلان صحيحان يدل أحدهما على كفّ ونقص، والآخر على طراوة، فالأول فهو الكف والنقص "غض البصر" وكل شيء كففته فقد غضضته، والأصل الآخر: الغض: الطري من كل شيء، ويقال للطلع حين يطلع غضيض، والذي يعنينا هو المعنى الأول، ولم يذكر ابن فارس المراد بالجار إنما قال: جور "الجيم والواو والراء" أصلٌ واحد وهو الميل عن الطريق، يقال: جار جورًا. وفي (المواساة) قال: الهمزة والسين والواو أصل واحد يدل على المداواة والإصلاح، يقال: أسوت الجرح إذا داويته، ويقال: أسوت بين القوم إذا أصلحت بينهم. أما صاحب (لسان العرب) العلامة ابن منظور فيقول: الغض والغضيض: الطري، وذكر في بيان هذا المعنى بعض الأحاديث والشواهد من كلام العرب، ويقول: الغضاضة: الفتور في الطرف أي العين، يقال: غض وأغضى إذا دان بين جفنيه ولم يلاقِ، وغض من صوته، وكل شيء كففته فقد غضضته، وغض الطرف أي: كف البصر، كما قال في بيان معنى الجار: الجوار المجاورة، والجار الذي يجاوره، وجاور الرجل مجاورة وجوارًا وجوارًا، والكسر أفصح، وينقل عن ابن الأعرابي قوله: الجار الذي يجاورك بيت بيت، والجار النفيح: هو الغريب، يقصد بالنفيح هو

الذي يدخل فيما لا يعنيه، أما النفيج بالجيم فهو الأجنبي يدخل بين القوم لا يصلح ولا يفسد، ثم يقول: والجار: الشريك في العقار، والجار: المقاسم، والجار: الحليف، والجار: الناصر، والجار الشريك في التجارة، والجارة: امرأة الرجل وهو جارها. وأما (المواساة) فذكر فيها كلامًا طويلًا، الذي يعنينا في هذا هو قوله: بأن المواساة هي المشاركة في المعاش والرزق. ثم ننتقل إلى (معجم مفردات ألفاظ القرآن) للإمام الراغب: والذي يقول: الغض النقصان من الطرف والصوت، وما في الإناء، والغض: الطري الذي لم يطل مكثه، أما الجار فهو من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايفة، فإن الجار لا يكون جارًا لغيره إلا وذلك الغير جار له كالأخ والصديق، ولما استعظم حق الجار عقلًا وشرعًا عبّر عن كل من يعظم حقه أو يستعظم حق غيره بالجار، قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (النساء: 36). ويقال: أجرته فأجارني، وعلى هذا قوله تعالى: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (الأنفال: 48) وقال عز وجل: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: 88)، وقد تُصور من الجار معنى القرب فقيل لمن يقرب من غيره: جاره وجاوره وتجاوره، قال تعالى: {لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60). وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} (الرعد 4). وباعتبار القرب قيل: جار عن الطريق، ثم جُعل ذلك أصلًا في العدول عن كل حق، فبني منه الجور قال تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} (النحل: 9) أي عادل عن المحجة، وقال بعضهم: الجائر من الناس، هو الذي يمنع من التزام ما يأمر به الشرع.

وفي (المواساة): يذكر صاحب (المفردات): أن الآسي هو طبيب الجرح، ويقال: أسيت بين القوم أصلحت، فآسيته قال الشاعر: آسى أخاه بنفسه ما جاء في كتاب الله من الحديث عن الجار والجيران: حين ننظر في الآيات الواردة في كتاب الله، من خلال (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) سوف نجد أن هذه الكلمة -كلمة الجار- بمشتقاتها قد وردت في عدة مواضع؛ منها: ما جاء في سورة "الأحزاب" في قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60). وهذه الآية ليست في موضوعنا وهو موضوع "التغاضي عن الجار ومواساته"؛ لأنها تتحدث عن المنافقين الذين يجاورون والذي يعيشون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويسكنون معه في المدينة، ولكنهم يرجفون فيها وينشرون فيها الأكاذيب، الله -سبحانه وتعالى- يهددهم بقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}؛ أي: لنغرينك يا رسول الله بهم؛ لتنتقم منكم، {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} أي: إن الله -سبحانه وتعالى- سوف يجعل رسوله -صلى الله عليه وسلم- يخرج هؤلاء الذين يُرجفون في المدينة وينشرون في أرجائها الأقاويل الكاذبة والأحاديث الضالة، التي تهدد استقرار المجتمع، ويقول تعالى في سورة "الأحقاف": {يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: 31) وهذه الآية -كما نعلم- وردت في جملة حديث للجن الذين أرسلهم الله -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ليستمعوا إلى القرآن، فلما استمعوا إليه {قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين *

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم} (الأحقاف: 29 - 31)، وإجارة الله -سبحانه وتعالى- معناه: أنه يحميهم ويحفظهم من عذابه -سبحانه وتعالى. وقريبٌ من هذا ما جاء في سورة "المؤمنون" في قول الله تعالى إثباتًُا لوحدانيته: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون: 88، 89) والمقصود بقوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أنه -سبحانه وتعالى- هو الذي يجير من يجيره من أوليائه؛ يحميهم ويحفظهم، ولا يستطيع أحد أن يجير على الله -سبحانه وتعالى- بأن يقول: هذا إنسان في جواري، فلا يصل إلى هذا الإنسان من العذاب ما أراد الله له؛ لأنه كفَر بالله ورسوله وحارب الله ورسوله؛ لأنه أمثال هؤلاء ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير. وأيضًا نجد هذا في سورة "الملك": {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الملك: 28)، هذه أيضًا إجارة الله -سبحانه وتعالى-، ولا يمكن لأي مخلوق أن ينقذ الكافرين من عذاب الله جل وعلا. وأيضًا في هذا السياق نقرأ في سورة "الجن" قول الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ} (الجن: 22، 23) فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر عن ربه قائلًا: بأنه لن يجيره من الله أحدٌ وأنه لن يجد من دون الله ملتحدًا؛ لأنه مبلغ عن الله رسالته، ولو كذب فلن يستطيع أحدٌ أن يجيره من الله ولا أن يمنع عنه عذاب الله، فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأمين الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

وفي سورة "التوبة" نقرأ قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6) ومعنى الاستجارة: أن يقول المشرك: أنا في جوارك، فإن قال المشرك للمؤمن: أنا في جورك، وطلب الحماية، فالمؤمن عليه أن يقبل منه هذا المطلب حتى يسمع هذا الكافر وهذا المشرك كلامَ الله، وهذه الاستجارة ليست هي الجوار الذي نتحدث عنه في جوار إنسان لإنسان يقيم بجواره، يؤدي إليه ما عليه من الحقوق، لكننا في سورة "النساء" قد نجد شيئًا من هذا في قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36). ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله -سبحانه وتعالى- بالإحسان للوالدين والإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين، والإحسان للجار ذي القربى -الجار القريب- والجار الجنب -الذي يكون بجوار الإنسان وهو ملازم له- والصاحب بالجنب -الذي يصاحب الإنسان في سفر ونحوه- وابن السبيل -وهو الذي ينتقل من بلد إلى بلد- وما ملكت أيمانكم. يبقى لنا الموضع الأخير في هذه الآيات في سورة "الأنفال"؛ حيث يقول ربنا: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 48) فقول الشيطان للمشركين في أول معركة بدر: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ليس معناه أنه جار لهم يقيم معهم يقوم بأمرهم يؤدي لهم حقوقهم، وإنما هو كاذب فيما قال

المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء.

في إنه ملازم لهم، وسوف يكون معهم وسوف ينصرهم، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} المسلمة المؤمنة وهؤلاء الكفرة {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ و َقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} فقد رأى ملائكة الرحمن وقد نزلت إلى أرض المعركة تقاتل مع أهل الإسلام، {إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَاب}. نخلص من خلال عرض هذه الآيات إلى أن هذه الآيات قد جاءت تتحدث عن جوار وعن إجارة وعن أشياء ليست في موضوعنا، إلا فيما جاء في سورة "النساء" في قول الله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (النساء: 36). على آية حال، هذه الآية الكريمة بما فيها من أمر بالإحسان إلى هؤلاء الذين ذكرهم الله -سبحانه وتعالى- من الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين والجيران ... إلى آخره، هذه الآية الكريمة التي تعني الجوار الذي نتحدث عنه وفيها الأمر بالإحسان إلى هؤلاء الذين ذكرهم الله -سبحانه وتعالى-، ومعنى هذا الإحسان أن نقابل الإساءة بالإحسان، وأن نتغاضى عما يكون من الجيران من هفوات، ولا يكفي في الإحسان هذا إنما يعني هذا الإحسان أن نواسي هؤلاء، وأن نقدم لهم ما نستطيع من ألوان البِر وألوان الخير. المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء لعلنا حين نستعرض بعض ما جاء في السنة المشرفة -وهو كثير بحمد الله- يتضح لنا المراد بهذا الإحسان الذي ذكرته آية "النساء". ومن هذه الأحاديث الشريفة نستطيع أن نعرف كيف يكون التغاضي عن الجار وكيف تكون المواساة بين الجيران. يروي الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يمنع جار جاره أن يغرس خشبة في جداره)) ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم".

وهذا الحديث يعني: أن الجار عليه ألا يمنع جاره أن يغرس خشبة في جداره؛ لعل هذه الخشبة أن يقيم عليها شيئًا أو يعلّق عليها شيئًا، أو أن يعرش عليها شيئًا، فهي لا تؤثر في حائط جاره، وليس فيها من ضرر، فحق الجوار يقتضي أن يأذن له في ذلك، وألا يمنعه من هذا الذي يصنع. وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى عليه وسلم- قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء وأناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثلما يعمل، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثلما يعمل)) فهكذا يكون الحال بين الجيران في أن الجار يحاول أن يقتدي بجاره في الخير، هذا الرجل الذي علمه الله القرآن فهو يتلو هذا القرآن آناء الليل وآناء النهار، جاره يتمنى أن يكون كذلك، وأيضًا هذا جار أيضًا يرى جاره ينفق في سبيل الله وفي سبيل الحق وفي سبيل نصرة الحق ما ينفق من مال كثير؛ فيتمنى أن يكون كذلك هكذا يكون ما بين الجيران. يروي الإمام النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تعوّذوا بالله من جار السوء في دار المقام، فإن جار البادية يتحول عنك)) جار البادية هذا الذي يكون في البادية يقيم في خيمة ينتقل من مكان إلى مكان فأمره سهل، لكن الجار الذي يكون بجوارك أقام له بيتًا وأنت بجواره في بيتك هذا جوار مستمرّ مستقرّ قد يمتد إلى أجيال فيما بين الأبناء والأحفاد. فإذا كان الجوار جوار سوء كان فيه من المشاكل والآلام والأحداث ما ينغّص الحياة، الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر ونصح المسلمين أن يستعيذوا بالله من جار السوء.

ويروي أحمد بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا والله لا يؤمن، لا والله لا يؤمن، لا والله لا يؤمن، قالوا: ومن ذاك يا رسول الله؟ قال: جار لا يأمن جاره بوائقه، قيل: وما بوائقه؟ قال: شره)) فانظر كيف نفى الإيمان المرة تلو المرة عن هذا الإنسان، الذي يجعل جاره في حال من الخوف من شره. ومعنى نفي الإيمان: أنه إيمان ناقص، وليس معناه: أنه خرج من الإسلام ومن الإيمان، فمن الذي يقبل أن يصل به الحال إلى أن يقول فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والله لا يؤمن، لا والله لا يؤمن، لا والله يؤمن)). وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله، وابن السبيل، ورجل كان له جار فتصدق عليه فأهدى له)) وهذا معناه: أن على الجار أن ينظر حال جاره ليتصدق عليه، وليقدم له ما يستطيع من ألوان الهدية التي تجمع بين القلوب. ويروي الإمام أحمد عن سلمة بن سلامة بن وقش -وكان من أصحاب بدر- قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: "فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًّا، علي بردة مضطجعًا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال: ذلك لقوم أهل شكر أصحاب أوثان لا يرون أن بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! ترى هذا كائنًا، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به لودّ أن له بحظّه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا، يحمونه ثم يدخلونه إياها، فيطبق به عليه وأن ينجو من تلك النار غدًا، قالوا له: ويحك! وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة

واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو -أي: هذا اليهودي- حي بين أظهرنا، فآمنّا به وكفرَ به بغيًا وحسدًا، فقلنا: ويلك يا فلان! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى وليس به". في هذا الحديث الشريف نرى أن هذا الجار -من اليهود في بني عبد الأشهل- كان يعرف أن محمدًا قد قرب زمانه، هكذا قرأ في التوراة كما قال تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) إلى آخر الآية الكريمة، فهذا جار جاء إلى جيرانه أخذ ينصحهم ولكن حسده غلب عليه، فلم يؤمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم. يروي الإمام أحمد عن مطرف بن عبد الله قال: "بلغني عن أبي ذر حديثه، فكنت أحب أن ألقاه فلقيته فقلت له: يا أبا ذر، بلغني عنك حديث فكنت أحب أن ألقاك فأسألك عنه، فقال: قد لقيت فاسأل، قلت: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ثلاثة يحبهم الله عز وجل، وثلاثة يبغضهم الله عز وجل)) قال: نعم، قال: فما خالني أن أكذب على خليلي محمد -صلى الله عليه وسلم- ثلاث يقولها، قال: قلت: من الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ قال: رجل غزا في سبيل الله، فلقي العدو مجاهدًا محتسبًا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدون في كتاب الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} (الصف: 4)، ورجل له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يكفيه الله إياه بموت أو حياة، ورجل يكون مع قوم فيسيرون حتى يشق عليهم الكرى أو النعاس، فينزلون في آخر الليل فيقوم

إلى وضوئه وإلى صلاته، قال: قلت: من الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: الفخور المختال، وأنتم تجدون في كتاب الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} (لقمان: 18)، والبخيل المنان، والتاجر والبياع الحلاف؛ أي الذي يُكثر من الحلف". فهذا الحديث فيه ما ترون من هؤلاء الثلاثة، وهذا الرجل الذي له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يكفيه الله إياه بموت أو حياة. وما أعظم هذه الأخلاق التي نصحنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيضًا، نستطيع أن نتلقط من كنوز السنة المشرفة بعض ما ذكره صاحب (الترغيب والترهيب) في قوله: الترهيب من أذى الجار وما جاء في تأكيد حقه، يذكر لنا عدة أحاديث: منها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت))، وفي رواية لمسلم: ((ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليحسن إلى جاره)). ففي هذا الحديث: إكرام الضيف والإحسان إلى الجار من علامات إيمان المؤمن، ومن علامات إيمان المؤمن أن يمنع الأذية عن جيرانه. وأيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا ر سول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) وبوائقه هي شره، وفي رواية لمسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه)).

وعن أبي شريح الكعبي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: يا رسول الله، لقد خاب وخسر، من هذا؟ قالوا: من لا يأمن جاره بوائقه، قال: وما بوائقه؟ قال: شره)). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لجاره -أو قال: لأخيه- ما يحب لنفسه)) رواه مسلم. وروي عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله: إني نزلت في محلة بني فلان، وإن أشدهم إلي أذى أقربهم لي جوارًا، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعلى -رضي الله عنهم- يأتون المسجد فيقومون على بابه فيصيحون: ألا إن أربعين دارًا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه)). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه)). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه)). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله -عز وجل- قسّم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله -عز وجل- يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيدي لا يسلم عبدٌ حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قلت: يا رسول الله، وما بوائقه؟ قال: غُشمه وظلمه، ولا يكسب مالًا من حرام فينفق منه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان

زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)). وعن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره، قال: اطرح متاعك على طريق، فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس، قال: وما لقيت منهم؟ قال: يلعنوني، قال: قد لعنك الله قبل الناس، فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ارفع متاعك فقد كفيت)). وأيضًا روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره فقال له: اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق، ففعل؛ فجعل الناس يمرون ويسألونه، فيخبرهم خبر جاره فجعلوا يلعنونه، ففعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترَ مني شيئًا تكرهه))، وهذا بمعنى الحديث السابق. وروي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه، أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزّيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بختال ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)). يقول الإمام الحافظ المنذري: رواه الخرائطي من (مكارم الأخلاق)، قال الحافظ: ولعل قوله: "أتدري ما حق الجار؟ " إلى آخره من كلام الراوي غير

مرفوع، لكن قد روى الطبراني عن معاوية بن حيدة قال: ((قلت: يا رسول، ما حق الجار عليّ؟ قال: إن مرض عدته، وإن مات شيّعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعوذ سترته)) فذكر الحديث. وروى أبو القاسم الأصبهاني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، قالوا: يا رسول الله، وما حق الجار على الجار؟ قال: إن سألك فأعطِه)) فذكر الحديث بنحوه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا رسول الله اكسني، فأعرض عنه فقال: يا رسول الله، اكسني، فقال: أما لك جار له فضل ثوبين؟ قال: بلى غير واحد، قال: فلا يجمع الله بينك وبينه في الجنة)) رواه الطبراني في (الأوسط). وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كم من جارٍ متعلق بجاره يقول: يا ربي، سل هذا لمَ أغلق عني بابه ومنعني فضله؟)) وهذا إنما يكون -كما نرى- في يوم القيامة. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)). وقد سبق هذا الحديث في أول الأحاديث التي ذكرها الإمام الحافظ المنذري. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله،

فأخذ بيده فعد خمسًا، فقال: اتقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)). وعن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننته أنه سيورّثه)) وذلك لعظم حق هذا الجار. هذه إذًا جملة من الأحاديث نقلتها لكم لتروا كيف يكون التعامل والإكرام والإحسان إلى الجار والقيام بحق هذا الجار؛ في أن الجار يجب أن يواسي جاره، وأن يقوم بحقه وألا يمنع عنه خيره، فإذا كان هذا بين الجيران فإن الجيران تمثّل وحدة من وحدات هذه الأمة، ولو صلحت هذه الوحدات لصلح المجتمع الإسلامي كله، ولشاع الودّ والحب والأمان والسلام بين الناس، ولو أن كل جار منع شره عن جاره! بل تعدى هذا إلى أن يحسن إلى جاره، فليس المطلوب هو أن يمنع بوائقه، أو أن يمنع شره، فالذي يكون فيه الشر لجيرانه إنما نقص إيمانه لدرجة خطيرة، وإنما نتحدث عن جارٍ يتخطى هذا القدر إلى إكرام جيرانه والقيام بحقهم والبحث عما يحتاجون ليقف بجوارهم، فهذه الصورة المشرفة المنيرة المشرقة بتعاليم الله وتعاليم رسوله تجعل أمة الإسلام أمة جديرة بالخيرية التي أراد الله لها أن تكون هكذا حين قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110). يقول الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به لا بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه ... إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر.

قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه، ويرغّب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زلله له عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصرًا تأديبه على ذلك، مع إعلامه بالسبب، إلى آخر ما قال. وقد أورد الإمام البخاري في باب حق الجوار في قرب الأبواب، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا)) قال في (الفتح): أي أشدهما قربًا، قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من الملمات ولا سيما في أوقات الغفلة. قال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب؛ لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجبًا. ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل. واختلف في حق الجوار؛ فجاء عن على -رضي الله عنه-: "من سمع النداء فهو جار"، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار. وعن عائشة: "حد الجوار أربعون جارًا من كل جانب".

ويذكر الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- في حقوق الجوار: أن الجوار يقتضي حقًّا وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا))، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليكرم جاره))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه))، ثم يقول: واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى؛ فإن الجار أيضًا قد كف أذاه، فليس في ذلك قضاء حق، ولا يكفي احتمال الأذى، بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف. إذ يقال: "إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة فيقول: يا رب، سل هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني؟ ". وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام، وألا يطيل معه الكلام، وألا يكثر عن حاله السؤال، وأن يعوده في المرض، وأن يعزيه في المصيبة، وأن يقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، وأن يصفح عن زلاته، وألا يتطلع من السطح إلى عوراته، وألا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، وألا يضيق طرقه إلى الدار، وألا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، وأن يستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، وألا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، وألا يسمع عليه كلامًا، وأن يغض بصره عن حرمته، وأن يتلطف بولده في كلمته، وأن يرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه. هذا إلى جملة الحقوق التي هي لعامة المسلمين، فانظروا إلى هذا الذي ذكره الإمام الغزالي من حقوق الجوار؛ لتروا كيف أن هذه الحقوق لو أُديت على وجها الصحيح لكان فيها من ألوان السعادة والخير الكثير للمسلمين جميعًا.

قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) وهذا معناه: أن الجار إنما يقبل من جاره ما يهدى إليه مهما كان قليلًا حتى لو كان هذا القليل -كما ذكر الحديث- هو فرسن شاة وهو ظلف الشاه، وليس المقصود بذلك أن الجار سوف يقدم لجاره ظلف شاة، إنما هذا كناية عن قلة ما يهدى، وعلى المسلم والمسلمة أن تقبل هذه الهدية. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من سعادة المرء المسلم: المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني)). وقال عبد الله: قال رجل: ((يا رسول الله، كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت؟ قال: إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت)). هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو جوار المسلمين، وهو جوار يشيع أمنًا وسلامًا وحبًّا وسعادة وخيرًا، لو أن المسلمين التزموا به لسعدت أمتهم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1).

الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1).

الإيثار في كتب اللغة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الأخلاق في القرآن الكريم (1)) الإيثار في كتب اللغة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاد له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: الأخلاق في القرآن الكريم: الإيثار في كتاب اللغة: صاحب معجم (مقاييس اللغة) ابن فارس الهمزة والتاء والراء له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء، قال الخليل: فالآثر الذي يُؤثر خُفَّ البعير، والأثير من الدواب العظيم الأثر في الأرض بخُفّه أو حافره، والأثير الكريم عليك الذي تُؤثره بفضلك وصلتك، ومعنى هذا عند ابن فارس: أن الكريم الذي تؤثره بفضلك وصلتك، هو كريم عليك تصنع به معروفًا له أثره، يبقى هذا الأثر في حياته معلمًا بارزًا كما ترى في خفّ البعير الذي يسير في الأرض فيترك فيها أثرًا، كما قال بخفه أو حافره. أما صاحب (اللسان) الإمام ابن منظور فيقول: آثره أكرمه، ورجل أثير مكين مكرم، وآثره عليه فضله، وفي التنزيل {لَقَدْ آَثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا} (يوسف: 91) وآثرت فلانًا على نفسي من الإيثار، الأصمعي: آثرتك إيثارًا أي: فضلتك، فصاحب (لسان العرب) يُبيّن أن الإيثار معناه: أن تفضل واحدًا على نفسك. أما صاحب (مفردات القرآن الكريم) فيقول: آثر الشيء حصول ما يدل على وجوده، والمآثر ما يُروى من مكارم الإنسان، ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضّل، ومنه آثرته والاستئثار التفرد بالشيء من دون غيره. وفي (المعجم الوسيط): آثاره إيثارًا اختاره وفضله، ويقال: آثره على نفسه، والشيء بالشيء خصَّه به، وجعله يتبع أثره، والإيثار تفضيل المرء غيره على نفسه، والإيثارية عند علماء الأخلاق مذهب يُعارض الأثرة، ويرمي إلى تفضيل خير الآخرين على الخير الشخصي، وعند علماء النفس اتجاه اهتمام الإنسان

وميول الحب فيه نحو غيره، وقبل ذاته؛ سواء أكان هذا عن فطرة أم عن اكتساب. على أية حال ما جاء في كتب اللغة يعني: أن الإيثار هو أن تُفضّل غيرك على نفسك بأن تكون محتاجًا لشيء، فتؤثر الآخرين بهذا الشيء، فهذا هو الإيثار كما جاء في كتب اللغة. فإذا ما انتقلنا إلى الإيثار في القرآن فسوف نجد هذه المادة تُذكر في هذه الآيات الخمس: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 37 - 39) وهذه الآية ليست في موضوعنا، وهو إيثار شخص على شخص من باب الأخلاق في القرآن، وإنما هذا بيان يُبين ويتحدث عن نوع من الناس آثر وفضَّل الحياة الدنيا على الآخرة، يقول تعالى في سورة "الأعلى": {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16، 17). الموضع الثالث في سورة "يوسف" يقول ربنا: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 90 - 92). في سورة "طه" يقول ربنا في قصة أتباع موسى وفرعون وما كان من أمره: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي

هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 72، 73) أي: لن نُفضّل عندك من الدنيا والمتاع والرفعة حين نكون على ما أنت فيه من كفر، ومن معصية لله ومن محاربة لشرع الله ودين الله وموسى -عليه السلام- فهذا الإيثار ليس هو الإيثار الذي نتحدث عنه. لم يبقَ لنا سوى موضع واحد في سورة "الحشر" هو قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وهذه الآية -كما سنرى في الأحاديث- نزلت في أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وما كان من أمره، وأنه آثر ضيفه على نفسه، وكان في أشدّ الحاجة هو وأهل بيته للطعام، لكنهم فضَّلوا إطعام الضيف على أنفسهم، فذكر ذلك الله في كتابه فقال: {وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. هذا إذًا هو الإيثار الذي يريد أن نتحدث عنه في موضوعنا الإيثار في القرآن الكريم. وتأتي السنة المشرفة وهي باب واسع، لتبيّن هذا الإيثار وكيف يكون، والدواعي التي تدعو إليه: نذكر من البخاري ما رواه بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث إلى نسائه فقلنا: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يظن أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلح سراجها فأطفأته،

فجعل يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكم، فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ})). هذا أبو طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وما كان من أمره وأمر أهل بيته -رضوان الله عليهم جميعًا. ويروي الإمام البخاري في باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو ردٌّ عليه ليس له أن يتلف أموال الناس، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أخذ أموال يريد إتلافها؛ أتلفه الله، إلا أن يكون معروف بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة)) كفعل أبي بكر -رضي الله عنه- حين تصدَّق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلة الصدقة. وقال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: ((قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر))، ففي هذا الذي ذكره الإمام البخاري ما يُبيّن ما كان من أمر أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وأنه آثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإسلام، ودعوة الإسلام بماله، فتصدق به كله صدقة لله -فرضي الله عنه وأرضاه-، كما أن الأنصار أيضًا آثروا المهاجرين كما سنرى في أحاديث تالية بإذن الله. كذلك أيضًا في هذا السياق يروي الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: ((اجتمع أناس من الأنصار فقالوا: آثر علينا غيرنا -أي: آثر علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيرنا- فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فجمعهم ثم خطبهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، قال: ألم

تكونوا ضلالًا فهداكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله قال: ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، ثم قال: ألا تجيبوني ألا تقولون أتيتنا طريدًا فآويناك، وأتيتنا خائفًا فأمناك، ألا ترون أن يذهب بالشاء والبقران -يعني: البقر- وتذهبون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتدخلونه بيوتكم، لو أن الناس سلكوا واديًا أو شعبة وسلكتم واديًا أو شعبة سلكت واديكم أو شعبتكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، وإنكم ستلقون بعدي أثرًا، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)). يروي لنا الإمام الدارمي بسنده عن سعيد بن عامر عن هشام صاحب الدستوائي قال: قرأت في كتاب بلغني أنه من كلام عيسى يقول عيسى -عليه السلام- لأصحابه أو لبني إسرائيل: "تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، وإنكم علماء السوء الأجر تأخذون، والعمل تُضيّعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه، الله نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصلاة والصيام، كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه، واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته، كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئًا أصابه، كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من أخرته، وهو في الدنيا أفضل رغبة، كيف يكون من أهل العلم مَن مصيره إلى آخرته، وهو مقبل على دنياه، وما يضره أشهى إليه، أو قال: أحب إليه مما ينفعه، كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليُخبر به، ولا يطلبه ليعمل به، فنسأل الله السلامة والعافية". والشاهد في هذا الحديث هو قول عيسى -عليه السلام-: "كيف من يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته"، وكنا نذكر في آيات القرآن قول الله تعالى

الإيثار في السنة وأقوال العلماء.

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16، 17) ونذكر {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 37 - 39). الإيثار في السنة وأقوال العلماء ما ذكره الأئمة الأكارم من علمائنا في باب الإيثار والمواساة، ولنبدأ بالإمام النووي في كتابه الشهير المعروف (رياض الصالحين) حيث ذكر تحت هذا العنوان باب الإيثار والمواساة، ذكر فيه قول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9)، وقول الله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- فيما كان من أمر أبي طلحة وأهل بيته وضيفهم، وأن الله -سبحانه وتعالى- عجب من صنيعهم بضيفهما، وأنزل على رسوله هذه الشهادة التي تُتلى على مرّ الأيام والدهور، وهي قول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ثم يواصل الإمام النووي ذكر جملة من الأحاديث، فيذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة))، وفي رواية لمسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))، وهذا يعني أن المسلم لا بد أن يكون على هذا الفهم من إكرام الآخرين، وألا يبخل بما عنده من طعام؛ فإن طعام الواحد يكفي الاثنين ... إلى آخر ما جاء من توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم. ويذكر عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قوله: ((بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من

كان معه فضل ظهر، فليعُد به على من لا ظهر له)) أي: من كان معه مركوب فاضل عن حاجته فليعد به على من لا ظهر له، ((ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له))، يقول أبو سعيد فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. وتخيَّلوا لو أن المسلمين فعلوا هذا فأخرج كل مسلم ما زاد عن حاجته، لعلكم معي في أنه لن يبقى معنا وبيننا فقير أو مسكين أو محتاج. ويذكر عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: ((أن جاءت امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! قال: نعم، فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- في المجلس ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنها! لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يردّ سائلًا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه)) رواه البخاري. وفي هذا الحديث نعرف ويتبين لنا مدى ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إيثار أصحابه على نفسه، وأنه وإن كان محتاجًا إلى الشيء لكنه إن طُلب منه أعطاه لمن طلبه، وأيضًا هذا الحديث يُبيّن حب الصحابة وتعلق الصحابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم. ويختم الإمام النووي هذا الباب بحديث أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعامهم عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) أي: فرغ طعامهم أو قارب على الفراغ حين ذاك يجمعون ما عندهم في ثوب واحد، أو في مكان واحد، ثم يقتسمون هذا فيما بينهم بالسوية. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((فهم مني وأنا منهم)) وفي هذا من الإيثار ما فيه كما نرى.

يذكر أيضًا لنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- في الباب الثاني في حقوق الأخوة والصحبة كلامًا رائعًا فيقول: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقًا يجب الوفاء قيامًا بحق النكاح، فكذا عقد الأخوة فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف، وذلك يجمعه ثمانية حقوق، فيذكر الإمام الغزالي هذه الحقوق، اخترت لكم منها الحق الأول والثاني وهو الحق في المال والحق في النفس، واخترت لكم مما ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة يقول -عليه رحمة الله- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل الأخوين مثل اليدين تُغسّل إحداهما الأخرى)) ويقول: إنما شبههما باليدين لا باليد والرجل؛ لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الإخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافق في مقصد واحد، فهو من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السّرّاء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار، ثم يقول: والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب: أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت لك حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونُزلوه منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال. قال الحسن: كان أحدهم يشقّ إزاره بينه وبين أخيه. العليا: أن تؤثره على نفسك وتُقدم حاجته على حاجتك، وهذه رتبة الصديقين، ومنتهى درجات المتحابّين، ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا،

وهذه الرتبة هي التي وصف الله تعالى المؤمنين به في قوله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38)، وقد روي أن مسروقًا أدان دينًا ثقيلًا وكان على أخيه خيثمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، وهذه هي أخلاق السلف -عليهم رضوان الله-، ولعلنا نذكر أيضًا لما آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس، فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك فيهما" فأثره بما آثره به، وكأنه قبله ثم آثره به، وذلك مساواة، والبداية إيثار، والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من أخواني لاستقللتها له، واقتداء الكل في الحقيقة في الإيثار برسول الله -صلى الله عليه وسلم. هذا بعض ما ذكره الإمام الغزالي في الحق الأول، وهو حق الأخوة في المال، وقد ذكرنا شيء مما قال. أما الحق الثاني في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة، وهذه أيضًا لها درجات كما للمساواة بالمال، فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة. قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أنه قد يكون نسي، فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ عليه هذه الآية {وَالْمُوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} (الأنعام: 36) قال جعفر بن محمد: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردّهم فيستغنوا عني، هذا في الأعداء، فكيف في الأصدقاء.

ثم يقول الغزالي: وكان في السلف من يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم، ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياتهم، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت هل لكم ملح هل لكم حاجة، وكان يقوم بها حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه؛ فلا خير فيها. قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا وإن لله أواني في أرضه، -وهي القلوب- فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها)) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها على الإخوان، وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك، أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك في حقك، وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار. يقول عطاء: "تفقدوا أخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكروهم". وقال سعيد بن العاص: "لجليسي علي ثلاث إذا دنى رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له"، وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة إلى الشفقة والإكرام، ومن تمام الشفقة ألا ينفرد بطعام لذيذ، أو بحضور في مسرة دونه، بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.

أرأيتهم هذه الصورة الرائعة الجميلة في الإيثار التي كان عليها سلف هذه الأمة، فكان من أمرهم ما نرى من عزة ومن كرامة -عليهم جميعًا رضوان الله. أيضًا فيما ذكره الإمام الغزالي نذكر بعض ما قاله في سخاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوده، فهذا أيضًا عنوان الإيثار يقول: كان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وأسخاهم، وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة، لا يُمسك شيئًا. ويقول: كان علي -رضي الله عنه- إذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كان أجود الناس كفًّا، وأوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه))، يقول ناعته -أي: واصفه-: ((لم أر قبله ولا بعده مثله، وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه، وأن رجلًا أتاه فسأله فأعطاه غنمًا سدَّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمد يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وما سئل شيئًا قط فقال: لا. وحُمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم قام إليها فقسمها ما رد سائلًا حتى فرغ منها، وجاء رجل فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال عمر يا رسول الله: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال الرجل: أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالًا، فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم)). أرأيتم هذا الخلق وهذا الإيثار وهذا الجود وهذا الكرم الذي علَّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وقد صدق فيه قول الله -عز وجل-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4). يبقى لنا أن نعيش سويًّا فيما كتبته في حقوق الأخوة، والتي قسمتها إلى أربعة أقسام: أخوة الإنسان مع أخيه الإنسان، وهي التي تُعرف بالأخوة الإنسانية، وهناك أخوة النسب من نُنسب إليه وينسب إلينا من الآباء والأمهات والأحباب

والأرحام وما إلى ذلك، وأخوة الإيمان من نرتبط معهم برابطة الدين، وهناك الأخوة في الله. وقد سما الإسلام بهذه الألوان وبيَّن ما فيها من حقوق، وما فيها من معالم الإيثار، ولكننا نقف عند هذا النوع من الأخوة، وهو الأخوة في الإيمان والأخوة في الله لنقتطف بعض ما في حقوق هذه وتلك من معالم الإيثار في دين الله، وفي كتاب الله -عز وجل. لقد وصل الإسلام في هذا التآخي إلى صور فاقة أحلام الفلاسفة وأصحاب المدن الفاضلة، وضرب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في صدق هذه الأخوة، حتى لقد وجدنا في مجتمع المدينة لونًا من هذا الإخاء كان أعظم من إخاء النسب والرحم، به كان الأنصار والمهاجرون يتوارثون، ويتكافلون، ويتعاونون، واستحق الأنصار شهادة الفخار التي ما زالت تتردّد إلى يومنا هذا في سمع الزمان والتي ذكرناها في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} (الحشر: 9) الآية. فهؤلاء هم الأنصار الذين يُحبون من هاجر إليهم حبًّا جعلهم يقدون كل غالٍ ونفيسٍ في سبيل إخوانهم المهاجرين، حتى قال المهاجرون في الحديث الذي رواه أحمد عن أنس -رضي الله عنه-: ((يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال -صلى الله عليه وسلم- تطييبًا لخاطرهم: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)) وهؤلاء الأنصار -كما نعلم- لا يشعرون بضيق في الصدور إذا ما وجدوا إخوانهم المهاجرين، وقد سبقوهم بالفضل والثناء من الله، والمهاجرون أهل لذلك حقًّا، فهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8).

لقد آثر الأنصار إخوانهم المهاجرين بما عندهم رغم حاجتهم إلى النفقة، وتلكم والله أفضل الصدقة، وأعظم العطاء أن تُعطي الشيء وأنت في أشد الحاجة إليه، وهؤلاء كما رأينا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي: كان بهم حاجة شديدة إلى ما آثروا به غيرهم، وقد ذكرنا ما كان من أمر أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه. فهذه قلوب هيمن عليها الإيمان وجمعها رب العالمين على مائدته، وأقامها على قلب أتقى قلب رجل واحد، إنها منة إلهية، وتدبير رباني لا تستطيع الحصول عليه قوى الأرض مهما بذلت في سبيل من جهد ومن مال، بل لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما استطاعت أن تحصل على هذه الذي يسره لرسوله، وجعله من أسباب نصرته ونصرة دينه، حتى لقد كان هؤلاء الأحبة مثلًا حيًّا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ولمسلم: ((المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله)) إنها صورة حية نابضة بالإيمان تُرشدنا إلى كثير من حقوق أخوة الإيمان، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62، 63). ومما يجمع هذا الحقوق وصف الله لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول ربنا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) فهم قوة تُرهب أعداء الله تراهم في ساحات القتال جيوشًا تصول وتجول يخشى بأسهم أهل الكفر والضلال، ولكنك تراهم فيما بينهم يفيضون رقة وأدبًا وخلقًا

وتواضعًا، وودًّا وتراحمًا، والعجب فإن من صفات المؤمن أنه أليف مألوف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أقربهم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، المطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون))، فإحساس المؤمن بإخوانه، وشعوره بحاجتهم، وحرصه على ما ينفعهم أسس في العلاقات بين إخوة الإيمان. وإذا كنا نتحدث عن الإيثار في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن صور الإيثار بين الإخوة المتحابين في الله لا تراها إلا في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدهم من سلف الأمة الصالح، وإلى يومنا هذا ترى بعض هذه الصور المشرقة بنور الله لمن آمنوا بالله حق الإيمان، وربطت العلاقات الإيمانية والمحبة الإيمانية بين قلوبهم؛ فكان لقاؤهم لله ومن أجل الله، وما أجمل حياة هذا الإخاء أساسها، وما أكرم عيشًا يظله هذا الحب بظله الرحيم. وقد علمنا أن حقوق الإخوان كثيرة: هناك الحقوق المالية والحقوق الأدبية، وهي في النهاية تشكل سياجًا متينًا يحوط هذه الأخوة من كل جانب يحميها من كل خطر ويدفع عنها كل سوء، ولما لا وهي أخوة نبتت في جو طهر وسُقيت من معين الإيمان، ورعتها العناية الإلهية وحرصتها القوة الربانية، إنها أخوة لله وفي الله ومن أجل الله، لا يجتمع أصحابها من أجل غرض من أغراض الحياة الدنيا، ولا عرض من أعراضها الزائلة فتزول بزوال هذا الغرض، وتتحول بتحول هذا العرض إنما هي باقية ممتدة؛ لأنها مرتبطة بالباقي الذي لا يزول، ولذلك بقيت وامتدت إلى يوم القيامة وإلى ما بعد يوم القيامة كما قال ربنا: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف: 67 - 73).

فهذا الإيثار لا بد من أن ينبع من هذا المعين، وإلا فما الذي يدعو إنسانًا ليؤثر الآخرين على نفسه، إلا أن يكون هذا من منطلق الإيمان، وإن لم يكن هناك هذا الأساس، فلا فائدة على الإطلاق، ولا يمكن للإنسان من طُلَّاب الدنيا أن يكون من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. انظر في هذا الإيثار إلى ما كان من أمر الأنصار مع المهاجرين، وأنت تقرأ ما رواه الإمام البخاري عن أنس -رضي الله عنه- إذ قال: ((دعا النبي -صلي الله عليه وسلم- الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: أما لا فاصبروا حتى تلقوني -أي: على الحوض- فإنه سيصيبكم بعدي أثرًا)) إذ لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يكفي المهاجرين والأنصار، فدعاهم إلى الصبر وبيَّن لهم أنهم سوف لا يحصلون على الدنيا إلا على القليل، وسوف يتأثر بهذه الدنيا غيرهم، ولا بد لهم أن يصبروا حتى يلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحوض، وهناك في الآخرة يكون لهم الحظ الأوفر والنصيب الأعظم. فهذه إذًا هي معالم الإيثار في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والدوافع التي تدفع إنسان ليكون من هؤلاء الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، والأمر يحتاج إلى تربية إيمانية لأمتنا حتى تستقيم على طريق هذا الإيثار؛ لأن بهذا الإيثار السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وطاعته وحسن عبادته. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2).

الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2).

الصدق في اللغة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الأخلاق في القرآن الكريم (2)) الصدق في اللغة الحمد لله، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: الصدق: أولًا: الصدق في اللغة: ما جاء في كتب اللغة في بيان معنى الصدق: وسوف أنتقي من هذه الكتب ما يختصّ بموضوعنا يقول صاحب معجم (مقاييس اللغة) الإمام ابن فارس: صدق الصاد والدار والقاف، أصل يدل على قوة في الشيء قولًا وغيره، من ذلك الصدق خلاف الكذب، سمي لقوَّته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له هو باطل، وأصل هذا من قولهم شيء صدق أي: صلب، ورمح صدق، ويقال: صدقوهم القتال، وفي خلاف ذلك كذبوهم، والصديق الملازم للصدق، والصداق: صداق المرأة سُمي بذلك لقوته، وأنه حق يلزم، والصداقة مشتقة من الصدق في المودة، وفي (لسان العرب) يقول ابن منظور: الصدق نقيض الكذب، وصدقه الحديث أنبأه بالصدق، والمصدق الذي يصدقك في حديثك، والصديق الدائم التصديق، والذي يصدق قوله بالعمل والمبالغ في الصدق، والصَّدْق الثبت اللقاء، وقال ابن درستويه: ليس الصدق من الصلابة في شيء، وإنما الصدق الجامع للأوصاف المحمودة. قال الخليل: الصدق الكامل من كل شيء. ويقول صاحب معجم (مفردات ألفاظ القرآن): الصدق والكذب أصلهما في القول ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، ويقول: وقد يكونان -أي: الصدق والكذب- بالعرض في غيره من أنواع الكلام كالاستفهام والأمر والدعاء، ويسوق في ذلك الأمثلة، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معه، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا؛ بل إما ألا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن

الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

هذا يصحّ أن يقال: صدق لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يُقال كذب لمخالفة قوله ضميرًا، وبالوجه الثاني: أكذب الله المنافقين حين قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} (المنافقون: 1) الآية، والصديق من كثر منه الصدق، وقيل: لمن لم يكذب قط، وقيل: لمن لا يتأتَّى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل لمن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله ... إلى آخر ما قال الراغب الأصفهاني. هذه إذًا هي معاني الصدق التي ساقها الأئمة، وكلها قائمة على أن الصدق قوة وثبات، وإحاطة، وجمع للأوصاف المحمودة، وجمع للكمال في كل شيء. الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة فإذا ما نظرنا في كتاب الله لنرى كيف ساق القرآن هذه الكلمة، وهذه المادة مادة الصدق لنعرف، ولنستنتج منها العبر والدروس، حين نستعرض هذه المادة في القرآن الكريم نجدها قد ذُكرت خمس وخمسين ومائة مرة، وذكر الآيات التي وردت فيها هذه المادة لا يتَّسع له وقت هذه المحاضرة، ولكن في مجال التفسير الموضوعي للقرآن الكريم يكفينا أن نقف عند هذه الآيات لنقسّمها إلى مجموعات، كل مجموعة تمثل عنصرًا من عناصر الموضوع، وباجتماع هذه العناصر يبدو الموضوع مشرقًا متكاملًا يدل على عظمة القرآن فيما أرسى من القواعد، وأقام من البنيان. والصدق بناء قام على أساس من أخلاق القرآن، والتي بنيت على توحيد الله والإيمان برسوله، ولو تأمَّلت في الآيات سوف تجد أنها تتحدَّث عن الصدق باعتباره صفة لله وصفة لرسوله، بل وصفة لرسل الله وصفة لأهل الإيمان، وتتحدث عن الصدق وصفًا لمكان أو شيء له أهميته، كما ترى في قوله:

{قَدَمِ صِدْقٍ} (يونس: 2) و {مُبَوَّأَ صِدْقٍِ} (يونس: 93) و {مُدْخَلَ صِدْقٍ} (الإسراء: 80) و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} (الإسراء: 80) و {لِسَانَ صِدْقٍ} (مريم: 50) و {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} (القمر: 55)، وفي خمسين موضعًا يعبّر بالصادقين، فترى ألوانًا كثيرة من القضايا والأشخاص يطلب فيها الصدق فيما تقول، أو تفعل. وكما وصف الله الرجال بالصدق وصف النساء فقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}، وفي أفعل التفضيل لا ترد هذه الكلمة أصدق إلا وصفًا لله -عز وجل- وذلك في موضعين، وهما في سورة "النساء" في قوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} (النساء: 87)، وفي قوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} (النساء: 122). ومن مادة الصدق جاءت الصدقة مفردة في خمسة مواضع، وجمعًا في ثمانية مواضع، والصدقة يخرجها صاحبها طواعية؛ رغبة في ثواب الله فدلَّت على صدق إيمانه، كما أتت كلمة صدقات -بضم الدال- بمعنى إعطاء المهر للزوجة، وهو ليس ثمنًا لها؛ إنما هو عنوان صدق الرجل في زواجه من هذه الفتاة أو المرأة، والصديق سُمي صديقًا لصدقه في مودة أخيه ومحبته، وقد ذُكرت الكلمة في موضعين في "النور" في جملة من يباح للمؤمن أن يأكل من بيته دون حرج، كما قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} (النور: 61)، وفي "الشعراء" في تمنّي الكافرين أن يكون لهم صديق مخلص يشفع لهم عند الله قال تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشعراء: 100، 101). وقد رأينا ما تعنيه كلمة الصديق، وقد وصف الله بها الأنبياء إبراهيم وإدريس ويوسف -عليهما السلام-، وكانوا من جملة من أنعم الله عليهم، كما وُصفت بهذه الصفة السيدة مريم، والمصدق الذي يقرّ ما سمع ويعترف به، وذلك في عشرين آية تُبيّن أن القرآن مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة، وكل كتاب جاء

مصدقًا لما سبقه من الكتب، ويحيى -عليه السلام- مصدقًا بكلمة من الله، كما جاءت في موضع واحد في سورة "الصافات" في قوله تعالى: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} (الصافات: 51 - 53) وفي المتصدقين والمتصدقات نقرأ قول الله في أخوة يوسف ليوسف: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} (يوسف: 88)، وفي ثناء الله على المتصدقين والمتصدقات، وما لكل منهما من الأجر نقرأ في سورة الحديد {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ} (الحديد: 18)، وفي الأحزاب {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} إلى أن يقول: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35). وإذا كنا نتحدث عن الصدق في القرآن، فإن ماله صلة بموضوعنا هو الآيات التي تتحدَّث عن الصدق في سلوك البشر فتُعلي من قيمة الصدق، وتدعو إلى أن يكون خلقًا لبني الإنسان، ومنهجًا تقوم عليه حياتهم، وقد جاء كتاب الله في هذا الجانب من الجوانب التي تأصّل لحياة آمنة مطمئنة. وفي هدي النبوة ما يضيف بُعدًا أخر لهذا الذي جاء به كتاب الله -عز وجل- فماذا جاء في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ نقرأ من (صحيح البخاري) ما رواه بسنده عن طلحة بن عبيد الله: ((أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة. فقال: الصلوات الخمس إلا أن تتطوع شيئًا. فقال: أخبرني بما فرض علي من الصيام. فقال: شهر رمضان إلا أن تتطوع شيئًا. فقال: أخبرني بما فرض الله على من الزكاة فقال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق)).

فهذا صدق مع الله في أداء فرائضه، ولا شك أن الصدق في أداء الفرائض سوف يؤدِّي إلى أداء النوافل، فهذا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعليم المسلمين أن يبدأ بالفرائض، ثم تأتي النوافل بعد ذلك. أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما ثلاثة نفر ممن كان قبلهم يمشون إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا يُنجيكم إلا الصدق، فليدعو كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فأخذ كل واحد منهم يذكر أمرًا ذكره)) الحديث؛ ففرج الله عنهم فخرجوا، فهذا الحديث الطويل الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيّن عاقبة الصدق مع الله فيما فرض، وفيما شرع، وأيضًا يبيّن عاقبة الصدق فيما يؤدِّي الإنسان للناس من أمور هي من حقّهم مخلصًا لله -سبحانه وتعالى- في ذلك، وملتزمًا في التعامل مع الآخرين بشرع الله، وهدي الله؛ طاعة لله وطلبًا لثواب الله. ويروي لنا الإمام البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب بن مالك قال: "سمعت كعب بن مالك يُحدّث حين تخلف عن قصة تبوك: فوالله ما أعلم أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم هذا كذبًا، وأنزل الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (التوبة: 17) إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) "، فهذا الصحابي الجليل صدق الله وصدق رسوله فكان سببًا لقبول توبته، وأصبح حديثه قرآنًا يُتلى على مر الزمان.

يروي لنا الإمام مسلم أيضًا بسنده عن أنس بن مالك قال: ((نهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك آله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك آله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا. قال: صدق. قال: ثم ولَّى، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد علينهنَّ ولا أنقص منهنَّ. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لئن صدق ليدخلنَّ الجنة)) وهذا الحديث شبيه وكأنه هو الحديث الذي رواه الإمام البخاري، وذكرناه من قبل. وعن أبي الدرداء قال: ((كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشَخَص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أَوَانٌ يُختلس العلم من الناس حتى لا يقدر منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا، وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنَّك

بأول علم يُرفع من الناس الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا)) هذا الحديث رواه الإمام الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. وروى بسنده عن الحارث قال: "مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث، قال: وقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إن سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم". يقول الإمام الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث -أي: راوي هذا الحديث- مقال. على أية حال الذي يعنينا من هذا الحديث الطويل هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال به صدق"؛ فالذي يريد الصدق ويريد أن يتحلَّى بالصدق عليه أن يلتزم بهذا القرآن الكريم في آدابه وأخلاقه ومعاملته، وما جاء به فهذا هو طريق الصدق.

أيضًا يروي لنا بسنده عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رأيت في المنام أن أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، فرأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته بأخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر)). الشاهد في هذا الحديث هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق)) فثواب الصدق ثواب عظيم، نصر في هذه الدنيا، وتمكين لأهل الإسلام، وربما نعود إلى الحديث عن جزاء الصادقين، كما جاء في كتاب الله -عز وجل. وفي الحديث أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا)) فهذا الصدق هو طريق السعادة، وطريق الجنة، وهو يدل الإنسان على كل ألوان البر. والبر -كما نعلم- كلمة جامعة تشمل كثيرًا من شرائع الإسلام، لعل قول الله -سبحانه وتعالى- في سورة "البقرة": {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177).

فانظر إلى ختام الآية في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} فهؤلاء الذين صدقوا فيما آمنوا به، وفيما التزموا به من شرائع الله، هذا الصدق يهديهم دائمًا إلى البر، ولا شك أن هذا البر الذي التزموا به سوف يؤدّي بهم إلى دخول الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند الله صديقًا، له جزاء الصديقين، والكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ... إلى آخر ما جاء في هذا الحديث. أيضًا يروي لنا الإمام الترمذي بسنده عن أبي الجوزاء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة))، وفي قوله: ((فإن الصدق طمأنينة)) ما يُبيّن جزاء الصادقين في الدنيا، وجزاؤهم طمأنينة في القلوب، وهذه الطمأنينة يُحرم منها أهل الكذب، فهم دائمًا في حالة ارتياب وفي حالة هلع، فهذا إذا هو ما أعدَّ الله للصادقين في هذه الدنيا. أيضًا يروي لنا الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر: ((أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما عمل الجنة؟ قال: الصدق، وإذا صدق العبد برَّ، وإذا برَّ آمن، وإذا آمن دخل الجنة. قال: يا رسول الله؛ ما عمل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل)) يعني: النار. الصدق إذًا هو طريق الجنة، وهو باب البر، وهو وسيلة الإيمان، والكذب بخلاف ذلك، وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعًا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعًا)) فهذا الصدق وهذا الكذب لا يجتمعان على الإطلاق في قلب إنسان مؤمن؛ لذلك كان الصدق وسيلة إلى حياة آمنة مستقرة مطمئنة.

أهل الصدق في القرآن.

أهل الصدق في القرآن نرجع إلى كتاب الله -سبحانه وتعالى- لنرى الآيات التي تختم ببيان أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المعينة هم الصادقون، رأينا سورة "البقرة" وآية البر التي ذكرناها الآن، وفي نهايتها قرأنا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177)، فهذا إذا تعريف الصادقين كما ذكرته سورة البقرة، والآية ذكرناها تجمع خمسة عشرة صفة هي صفات أهل الصدق. نقرأ أيضًا في سورة "الحجرات" قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15). وفي سورة "الحشر" يقول سبحانه في صفة المهاجرين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8). وفي سورة "الحديد" يقول عز من قائل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 18، 19). وإذا كنا قد عرفنا ما في آية سورة "البقرة" من المعاني على وجه الإجمال، فلنقف عند ما جاء في سورة "الحجرات" من قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) فهنا نجد الصفتين: الإيمان، والجهاد: الإيمان بالله ورسوله إيمانًا جازمًا لا ارتياب فيه ولا شك فيه ولا شبهة،

والجهاد بالمال والنفس جهادًا مبرأً من كل هون، جهادًا خالصًا لله وفي سبيله، ومن أجل إعلاء كلمته. وقد نزلت هذه الآية الكريمة في معرض الرّدّ على الأعراب من بني أسد، الذين ادَّعوا الإيمان دون أن يحقّقوه بالأعمال، فإنما الإيمان قول وعمل، فبين الله لهم الحق، وأوضح لهم الطريق قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 14)، ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15). وقال ابن زيد في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} قال: لم يُصدقوا إيمانهم بأعمالهم فردَّ الله عليهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، وأخبرهم أن المؤمنين: {الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} صدقوا إيمانهم بأعمالهم، فمن قال منهم أنا مؤمن فقد صدق، قال وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل؛ فقد كذب وليس بصادق، فهذا تحديد جيد وتوضيح بين لمن هم الصادقون. كذلك نجد في سورة "الحشر" بعض ملامح هؤلاء الصادقين؛ حيث يقول ربنا في صفة المهاجرين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، فهنا أيضًا صفتان قريبتان من الصفات الأولى المذكورة في سورة البقرة والحجرات، فهؤلاء المهاجرون -رضوان الله عليهم- آمنوا بالله ورسوله إيمانًا لا تزحزحه العواصف، ولا تؤثر فيه وطأة الظالمين من جبابرة الكفر، إنهم بالإيمان عاشوا،

وعلى الإيمان ثبتوا، وإلى الإيمان ركنوا، وبه تعلقوا؛ فتحملوا في سبيل الله ذلك الإيذاء كل الإيذاء، لقد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أخرجهم الطغاة من بلدهم الحبيب مكة المكرمة، فتركوا ديارهم وأموالهم، وخرجوا ليس لهم من حُطام الدنيا شيء، لا يريدون بهذا كله إلا وجه الله والدار الآخرة، وهم بعد أن خرجوا قبل أن خرجوا إنما أوقفوا حياتهم على نُصرة الله ورسوله، ولذلك قال: {وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} هكذا بالفعل المضارع الذي يدلّ على التجدّد والاستمرار، فهؤلاء وقفوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينصرونه بكل ألوان النصر قبل الهجرة وبعد الهجرة، فكانوا صادقين فيما فعلوا وفيما كانوا عليهم من ثبات على الإيمان، ولذلك خصَّهم الله بهذه الصفة حين قال: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هكذا بتعريف الطرفين، وقوله: {هُمُ} التي تفيد حصر الصدق فيهم، وكأنهم هم الصادقون وحدهم. كما نجد في سورة "الحديد" بعض ملامح صفات الصادقين ذلكم حين قرأنا {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 18، 19) ففي هذا بيان قرآني يوضح لنا من هم الصادقون إنهم المؤمنون إيمانًا راسخًا ثابتًا بالله ورسله، والإيمان -كما نعلم- إذا استقر في القلب أثمر ثماره وآتى أكله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 25). هذه إذًا صفات الصادقين، وهؤلاء هم الصادقون، فماذا لهؤلاء الصادقين من جزاء في الدنيا، وفي الآخرة،

أشرنا فيما سبق إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) فهذا أول جزاء للصادقين في الدنيا إنه طمأنينة القلب، وإصلاح البال والشعور بالرضا والسكينة، وهناك أمر آخر جعله الله للصادقين، هذه البركة في الرزق والبركة في العمر والبركة في الأبناء والبركة في الحياة، وهذا ما يرشد إليه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه عن أبي خالد حكيم بن حزام -رضي الله عنه- حيث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)) فانظر إلى المعاملات بين الناس لتعلم أن الصدق هو الأساس في التعامل بين البشر، مسلمهم وغير مسلمهم، وأن البيعان إذا صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وليست البركة كلمة هائمة ليس لها حقيقة، وإنما هي واقع ملموس مشاهد، يُراه الفرد في واقعه وتعرف الأمم ذلك في حياتها، حين يشيع الصدق والإخلاص ترى نماءً في كل بين يديه وإشراقًا في كل ما حولك، وحين ينتشر الكذب ويغيظ معين الإخلاص يشعر الناس بوطأة الحياة، وضياع الأعمار، وذهاب الخير من نفوسهم ومما حولهم، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96). وإذا كان هذا هو جزاء الصادقين في الدنيا طمأنينة في القلب، وبركة في الرزق، فإن جزاءهم عند الله في الآخرة أعظم، فإن الصدق -كما ذكرنا- يهدي الإنسان إلى طُرق الخير، وهذا الطريق الذي هو طريق الخير يؤدِّي به إلى الجنة، كما ذكرنا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة))، وفي كتاب الله -عز وجل- بشارات عظيمة للصادقين بما لا عينٌ ولا آذن

سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلنلتقط من جواهر القرآن ولآلئه ما يبين ذلك، نقرأ في سورة "الأحزاب" قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} (الأحزاب: 7، 8). فالله يسأل الصادقين عن صدقهم على رءوس الأشهاد ليعطي هؤلاء الصادقين؛ جزاء صدقهم، ودليل ذلك ما جاء في قوله وما نقرأه في ختام الآية: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}، ومقتضى هذا أنه أعد للصادقين جزاءً عظيمًا. أيضًا نقرأ في سورة "الأحزاب" قول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 22 - 24). فهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقوا ما عاهدوا عليه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: قضى ما عليه فمات شهيدًا، ومنهم من يتشوف، ومن ينتظر أن يموت شهيدًا، إنها الغايات العظمى التي يحيا لها هؤلاء الرجال، ولذلك استحقُّوا نصر الله ومدد الله وتأييد الله، وما بدلوا تبديلًا، يقول ربنا: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} لم يذكر لنا جزاء الصادقين هنا، وإنما سيذكره في آيات أخرى، ولكنه تركه هكذا لتذهب فيه النفس فيه كل مذهب حين تتخيل ما يمكن أن يعطيه الإله الكريم للصادقين مع الله -سبحانه وتعالى-، وهؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

ومرة أخرى تعود سورة "الأحزاب" فتذكر لنا جزاء الصادقين، ولكنها في هذه المرة تضع هذه الصفة بين صفات كلها صفات عظيمة؛ حيث يقول ربنا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35) فهذه عشر صفات في آية واحدة: الإسلام، والإيمان، والقنوت، وهو العبودية والطاعة لله وحده، والصدق، والصبر، والخشوع، وهو التواضع والخوف من الله، والتصدق، والصيام فرضًا ونفلًا، وحفظ الفروج عن الحرام، والإكثار من ذكر الله من جمع هذه الصفات العشر فلينتظر جزاءه الأوفى، ولينتظر منزلته العظمى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. وأخيرًا نقرأ في نهاية سورة "الأحزاب" قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71) والقول السديد هو القول الصائب الذي لا يلتوي كالسهم يصيب الهدف في وضوح، ولذلك قالوا بأن القول السديد هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وهذا هو الصدق بعينه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119). والجزاء كما نرى هنا إصلاح الأعمال بتسديدها وتوفيقها، ومغفرة الذنوب، والفوز العظيم في الدنيا والآخرة. أيضًا نقرأ في كتاب الله في جزاء الصادقين ما يستحق أن نقف عنده لنرى عظم ما فيه من الثواب، ذلكم ما نقرأه في أواخر سورة "المائدة" من قول الله تعالى:

{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة: 119) الآية، {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فأنت ترى أن الله منحهم جنات، وليست جنة واحدة، وفي حديث الإمام البخاري عن أنس قال: ((أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال: ويحك أوجنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه لفي جنة الفردوس))، ومن طريق قتادة: ((وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) إنها جنان كثيرة، وفي كل جنة ما لا عين رأت ولا أذنت سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهي جنات يصفها الله -سبحانه وتعالى- بأنها تجري من تحتها الأنهار، فيها أنهار جارية، وقوله {مِنْ تَحْتِهَا} يشير إلى منازل أهل الجنة العالية، وأنهم في قصور قال تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (الزمر: 20). وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أهل الجنة لا يتراءون أهل الغرف من فوقكم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق -أي: الكوكب المضيء الذاهب بعيدًا في السماء من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم- قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين)) وإذا كانت الأنهار تجري من تحت تلك القصور، فهي بلا شك أيضًا تجري بين الأشجار، وهي أنهار وليست نهرًا واحدًا؛ قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (محمد: 15).

وأيضًا من جملة هذا النعيم هذا الخلود الذي لا يزول ولا يفنى، ولا يفنى أصحابه، كما قال ربنا وكما استمعنا في الآية: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، فهم إذا في نعيم باقٍ، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا دخل أهل الجنة ينادي منادٍ إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا -أي: تصيروا شبابًا- فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا))، وفي رواية: ((فلا تبتئسوا)) فذلك قوله -عز وجل-: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43). هذه إذا منازل الصادقين وهؤلاء هم الصادقون، فهل لنا أن نكون من هؤلاء الصادقين الذين يقولون {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 16) إنهم كما قال ربنا: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: 17) ... أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء الصادقين. والحمد لله رب العالمين.

الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم.

الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم.

تعريف الأسرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم) تعريف الأسرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم، إلى يوم الدين، أما بعد: فنتناول نظام الأسرة في الإسلام: هل وردت كلمة الأسرة في أيِّ آية من كتاب الله؟ أو هل وردت في أي حديث من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ لعلكم لم تجدوا ذكرًا لهذه الكلمة في القرآن. وأما في السنة فلم ترد إلا في حديث واحد رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث أبي هريرة في قصة محاولة اليهود أن يحصلوا على حكم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُبيح لهم عدم رجم الزاني المحصن، مع أن الموجود في التوراة هو هذا، وفي سياق هذا الحديث يذكر الراوي: ((أن ملكًا من بني إسرائيل زنى فلم يقيموا عليه الحد، ثم زنى رجل في أسرة من الناس، فأراد -أي: الملك- رجمه فحال قومه دونه، وقالوا: لا يُرجم صاحبنا حتى يرجم صاحبكم فنرجمه)). فالأسرة هنا في هذا الحديث ليست هي الأسرة التي نريد أن نتحدث عنها في القرآن الكريم وإنما الأسرة في الحديث جماعة الرجل وأهله وعشيرته، ولذلك فنحن سنبحث عن الأسرة من حيث دلالتها في لغتنا العربية وما لذلك من وجود بارز في كثير من آيات القرآن، وعناية فائقة في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي بيان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- ومن بعدهم من فقهاء الإسلام وعلمائه إلى يومنا هذا. يقول علماء اللغة أسرة الرجل: رهطه؛ لأنه يتقوى بهم، وفي (المعجم الوسيط) وهو من المعاجم الحديثة: الأسرة: الدرع الحصين، وأهل الرجل وعشيرته والجماعة يربطها أمر مشترك، وليس في كتب اللغة أكثر من ذلك، ولكننا من هذا المنطلق نقول في مقدمة أهل الرجل زوجه وأبناؤه، وآيات القرآن شاهدة على ذلك يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية.

الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33)، قال تعالى لنوح -عليه السلام-: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} (هود: 40). وقال ربنا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (هود: 45، 46). وقال أعز من قائل في لوط -عليه السلام-: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امرأتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81)، وقال سبحانه لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132). فإذا كنا نريد أن نتحدث عن نظام الأسرة في القرآن وما شرع الله لها في كتابه مما يضمن سعادتها وبقاءها، فإننا نستطيع ذلك من خلال الآيات التي وردت فيها كلمة الزوج والزوجة، والأب والأم، والوالدين، والأقارب على اختلاف درجاتهم من الأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولكن هذا يحتاج إلى مؤلفات تبيِّن هداية القرآن في كل هذه العلاقات الثلاث، والمكتبة القرآنية عامرة بهذا الفيض بحمد الله. الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية ما هي الأسس التي بنا عليها الإسلام، وبنى عليها القرآن هذه العلاقة؟ الأساس الأول: يتمثَّل في هذا الإنسان الذي تربى في أحضان دين الله فأضحى هو الإنسان بالإنسان ينبض وجدانه وقلبه وكيانه إيمانًا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ويتحرك أو يسكن وفق منهج الاستسلام لله والرضا به {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163). فكل خُلُق جميل، وكل قول

وكل فعل يشع نورًا من محيَّ الإنسان المسلم، وهذا الإنسان هو الذي يكوِّن الأسرة المسلمة، وهو الذي أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتزويجه فقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، أو وفساد عريض)). فإذا كان هذا هو الأساس الأول فإن الأساس الثاني يقوم على أن العلاقة التي ستكون بين الرجل والمرأة ليست كالعلاقة التي تقوم بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان، والطيور، وما إلى ذلك، وليست لمجرَّد قضاء متعة ينطلق كل منهما لشأنه، فإذا ما كان هناك حملٌ وأبناء تولَّت الدولة القيام على أمرهم؛ ظنًّا منها أن هذا الأسلوب يُمكن أن يوجد أسوياء، وما علم هؤلاء أن الأبناء في عالم الإنسان في حاجة إلى دفء الأمومة ورعاية الأبوة، والتنشئة من خلال الأسرة الممتدة مع الإخوة والأخوات والأقارب والأهل، يقول أبو الأعلى الموجود في كتاب له عنوانه (نظام الحياة في الإسلام): إن البيت هو المؤسسة التي تدرّب فيها كل سلالة أخلافها؛ لتعدهم لتحمل تبعات التمدّن الإنساني العظيمة بغاية من الحب والمواساة والتودد والنصح. فهذه المؤسسة لا تُهيّئ الأفراد لبقاء التمدن البشر ونموه فحسب، بل هي مؤسسة يودّ أهلها من صميم قلوبهم وأعماق صدورهم أن يخلفهم من هو خيرٌ منهم وأصلح شأنًا، وأقوم سبيلًا؛ فالحقيقة التي لا تُنكر على هذا الوجه أن البيت هو جذر التمدن البشري وأصله، وأنه يتوقف على صحة الجذر وقوته صحة التمدن البشري نفسه وقوته، ومن ثَمَّ نرى أول ما يهتم به الإسلام ويعتني به من وسائل الاجتماع إنما هو أن يقيم مؤسسة البيت، ويقرها على أصح الأسس وأقومها.

ويقول العقاد في (الفلسفة القرآنية): ليست العلاقة بين الرجل والمرأة صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة، ولا ضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية، ولا تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة، ولا هي علاقة عدمها خير من وجودها إذا تأتَّى للرجل أو للمرأة أن يستغني عنها. أقول: ولكنها قبل هذا وبعده علاقة إنسانية جديرة بالاحترام والتقديس، فهي علاقة بين الزوج والزوجة، وبين الزوجين والأبناء، وبين هؤلاء جميعًا والأبوين، إلا أنها مع هذه العلاقات المتعدَّدة التي تُشكّل حجر الأساس في البناء الاجتماعي، وتشمل الزوجين والأبناء والآباء تبدأ في حقيقتها باجتماع رجل وامرأة في حياة واحدة ذات هدف مشترك، هو إسراء الحياة بمزيد من الحبّ والنسل الصالح. وهذا هو الأساس الذي وضعه الإسلام لنظام الأسرة في القرآن، والذي يتلخص في أن الزواج علاقة من نوع خاص، علاقة باقية وصحبة دائمة ممتدَّة عبر أيام الحياة وبعد الممات في دار الخلود، ولذلك سمى الزوجة صاحبة فقال: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} (المعارج: 11 - 14)، وقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 33 - 37). وقال في إثبات وحدانيته، وأنه ليس له ولد؛ لأنه ليست له زوجة، ومحال أن يكون له زوجة وقد وصفها -جل وعلا- بأنها صاحبة فقال: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام: 101). فأنت ترى لم يسمِّ أبًا ولا أخًا ولا ابنًا ولا أحدًا بأنه صاحب، إنما سمى الزوجة صاحبة.

أما الأساس الثالث: فهو الإحساس بعمق هذه العلاقة وأصالتها، وأنها علاقة يشعر فيها كل من الزوجين بأنه جزء من الأخر يحنّ إليه وينجذب إليه، فالرجل مهما حصل من مال وجاه، ووفر لنفسه من ألوان المتع المادية لا يستغني عن زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه، وتؤنسه في وحدته، وتُذهب عنه وحشته، وكذلك الفتاة في حاجة إلى زوج تعيش معه أيام العمر، وإن عانت معه مشقات الحياة مع أن أبويها ربما كان على حال من اليسار فغمروها بالمال والمتاع، فليست في حاجة إلى مال ولا إلى متاع، ولكنها في الحقيقة في حاجة إلى شريك العمر تشاركه أيام عمرها، وأيام عمره، وقد جاءت الآيات تذكر أن الله خلق الناس من نفس واحدة، وأنه خلق منها أو جعل منها زوجها ليسكن إليها. وقد ذكرنا الآية الأولى في سورة "النساء" والتي ينادي فيها ربنا الإنسانية لتئوب إلى واحة التقوى بتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن تلتزم بما ينبني على هذا التوحيد من أخلاق وآداب وعبادات ومعاملات، وما إلى ذلك مما جاءت به شريعة الله، وتوضح الآية سبب استحقاق الله لأن يعبد وحده، فتذكر أنه الخالق للناس وحده، وفي كيفية خلق الناس دليل على قدرته وعلمه وحكمته، وما اتصف به من صفات الجلال والكمال؛ إذ خلق الناس من نفس واحدة هي آدم -عليه السلام- وقد ذكر في عدة مواضع من القرآن كيف خلق آدم، ومن آدم خلق حواء، خلقها من ضلع آدم الأيسر فوجدها آدم بجانبه، فأنس لها وسكن إليها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، وقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر: 6).

وقال أعز من قائل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (النحل: 72)، إلى غير ذلك من الآيات التي تُبرز هذه الحقيقة؛ لتكون معلمًا يهدي السائرين إلى خالقهم، ويرشدهم إلى أن أمرهم كله بيده؛ لأنه هو الذي خلقهم على هذا النحو البارع، فعليهم أن يعبدوه وحده. كما أن هذه الحقيقة منارة للزوجين، فتعلم الزوجة أنها جزء من زوجها، وهل يستغني الجزء عن أصله، ويعلم الزوج أن زوجه جزء انفصل منه فهو دائمًا يشعر بحاجته إلى أن يعود إليه هذا الجزء، وهذه هي الفطرة التي خلق الله الناس عليها، فمن تنكَّر من الزوجين لصاحبه ولم يشعر بحاجته إليه؛ فقد تنكر لهذه الفطرة. وهذا الذي قرره القرآن أساس مهم في بناء الأسرة في القرآن. الأساس الرابع: هو أن العلاقة التي تربط بين الزوجين ليست كما قال العقاد: صفقة تجارية يساوم كل منهما الآخر؛ لينال منه أقصى ما يستطيع من أرباح مادية، إنما هي علاقة السكن والمودة والرحمة، والقرآن حين يذكر ذلك يذكره في سياق بيان آياته في خلقه، والتي تُثبت أنه الإله الواحد الأحد، وأنه قادر على بعث خلقهم بعد موتهم يقول -عز وجل-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، والسكن راحة واطمئنان، والمودة محبة تجمع بين القلوب، والرحمة عطف وحنان ورعاية، وكل من الزوجين يؤدِّي هذا إلى صاحبه دون أن تكون هناك سابق معرفة من قرابة، أو رحم قبل الزواج، فلمَّا تمَّ هذا الارتباط بعقد الزواج كان ما ترى من التجانس والالتقاء والمحبة والرحمة، أليست هذه آية من آيات الله تدعو إلى التفكر في قدرة الله التي تُصرّف القلوب

وفق ما تشاء، وقد قالوا بأن المودة تكون في أيام الشباب، والرحمة في مرحلة الكبر، ولو أن هذه العلاقة كانت قائمة على مجرد استمتاع كل منهما بالآخر، وحاجة كل منهما لقضاء وطره؛ لما بقي بيت قائم، وإلا فماذا يكون عليه حال زوجين كبر سنّ واحد منهما، أو أصيب أحدهما بما يجعله غير قادر على إعطاء الآخر ما يطلبه من متعة الفراش، وكثيرًا ما يحدث فتور في هذا الأمر للانشغال بتربية الأولاد وكثرة مشاكل الحياة، فتبقى المودة التي جمعت بين الزوجين في سنوات الشباب نبراسًا يضيء جوانب الرحمة، ويدعو إليها وفاء لأيام وسنوات عمر خلت، فما أجمل هذا المنهج الرباني، وما أعظمه. وقارن بين هذا الذي تراه من رعاية كلٍّ من الزوجين لصاحبه في سنوات العجز والكبر والمرض، وما هناك في دول تدَّعي الحضارة والمدنية من ضياع للكبار والمرضى، حتى أنشأت هذه الدول لهؤلاء دُورًا تُعرف بدور المسنين لرعايتهم، فهل تغني رعاية هذه الدور عن رعاية زوج لزوجته، أو زوجة لزوجها، وكل ما في هذه الرعاية من مودة ورحمة، واحترام لإنسانية الإنسان، وصون لكرامته، وهو بين زوجه وأبنائه وأحفاده وإخوته وأخواته، وأهله وعشيرته، وكل منهم حريص على أن يُقدِّم العون، ويواسي بالنظرة والكلمة، وما يستطيع من كل ما يخفّف الألم، ويدخل السعادة والسرور على القلوب. هذه بعض الأسس التي تقوم عليها الأسرة في القرآن الكريم، فإن بداية تكوين هذه الأسرة يبدأ بالتفكير في الزواج، ومَن هذه التي تصلح لتكون رفيقة ضرب الحياة، وقد وضع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مؤشرات ترشد من يريد الزواج إلى حسن الاختيار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تنكح المرآة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين الدين تربت يداك)) وجعل هذا الدين هو الأساس أيضًا

في الموافقة من جانب ولي الفتاة على من يتقدم إلى لخطبة ابنته، ذلكم في الحديث الذي ذكرناه من قبل، رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)). وهذه المؤشرات التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسألة من يريد أن يتزوَّج الشاب بها، أو الرجل بها، وهي -كما نرى- لمالها ونسبها وحسبها وجمالها ودينها، فأوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتركيز على ذات الدين فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) لكن هذا لا يمنع من أن يختار الإنسان الذي يريد الزواج مَن تتوافر فيها هذه الصفات أو بعضها؛ فالمال قد يكون مطلبًا لبعض الناس لتساعده هذه الزوجة على أعباء الحياة، لكن لا بد أن يكون معلومًا أن النفقة إنما هي على الزوج، وهي عنوان قوامة الرجل على المرأة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34). ومن المعلوم أنه لا حق للزوج في مال زوجته مهما بلغ هذا المال، إلا أن يكون ذلك عن طريق الرضا، فهذا جائز كما قال ربنا: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، كما أن الجمال أيضًا مطلب، ومن حق من يريد أن يقترن بفتاة أو امرأة أن يختار ذات الجمال؛ ليكون في هذا ما يُعينه على العفَّة، لكن هذا الأمر أيضًا لا بد أن يكون في حدود المطلوب الذي يؤدِّي إلى غضّ البصر، وألا يكون هو المطلب الأساسي في الموضوع؛ لأن هذا قد يكون فيه ما فيه من الخطر عليه. فلا بد أن يكون هذا الجمال محصنًا بالدين، وإلا كان أمرًا خطيرًا كما هو معلوم. أما الحسب والنسب فمن شأن الإنسان أن يطلب الأسرة الأصيلة الكريمة التي تشتهر بأدبها وأخلاقها وحسبها ونسبها، لكن يجب ألا يكون هذا المطلب مطلب

من المطالب الأساسية، فقد يختار الرجل فتاة أو امرأة من بيت مغمور فقير، لا جاه له، فيكون في هذا الاختيار، وفي هذه الفتاة، وفي هذه المرأة الخير والبركة، لكن الأساس الذي يجب أن يكون هو المطلب الأساسي الذي يحمي هذه الأشياء، هو الدين؛ فبالدين تطيب الحياة، وفي ظلال الدين يتربَّى الأبناء وتحلو الحياة مع زوجة تعرف حق ربها، فتعرف حق زوجها؛ ليكون من ذلك السعادة في الدنيا وفي الآخرة. فإذا ما اقتنع الشاب أو الرجل ووجد المرأة الصالحة بادر فتقدم لوليّها؛ لتتم الخطبة، وليتم الزواج بإذن الله تعالى، هذا الذي تقدم إلى وليّ الفتاة كما ذكرنا أيضًا من الواجب على وليّ الفتاة أن يُحسن اختيار من يتقدَّم لخطبة ابنته والزواج منها؛ لأن الإنسان الذي يتزوج من السهل عليه أن يغيِّر وأن يطلق، لكن الفتاة إذا ما ارتبطت كرجل كان من الصعب عليها أن تفارقه، ولهذا كان السلف يعرضون بناتهم على الصالحين؛ لأنهم يبحثون عن أهل الصلاح، ولا حرج في ذلك. فالأساس هو هذا الذي ذكرناه، ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يُعلّم أصحابه هذا اقرؤوا في (صحيح البخاري) ما ورد من أنه: ((مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)) وهذا الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقرير لأهل الإسلام بأن الواجب عليهم أن لا يأخذوا الناس بما ظهر منهم، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الصلاح فإن وجدوا الرجل صالحًا؛ كان هذا الرجل حريًّا إن خطب أن يُنكح وإن شفع أن يُشفع، وإن قال يستمع لقوله.

وللخطبة -كما أوضح الإسلام- آداب منها أنه لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، كما ورد من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أنه قال: ((لا يبع حاضر لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على يبيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها))، وحدثنا -هكذا يقول البخاري- مكي بن إبراهيم حدثنا ابن جريج قال: سمعت نافعًا يُحدّث أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: ((نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب))، فقد ورد هذا النهي، وهذا التوجيه النبوي في عدة أحاديث، منها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يَخْطِب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تُنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها، ولتنكح -أي: ولتتزوج- فإنما لها ما كتب الله لها))، ومثل هذا الحديث رواه أيضًا البخاري في ما رواه أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يخطب الرجل على خطبة ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها، ولتنكح فإنما لها ما كتب الله لها)). وروى الإمام الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: قال قتيبة: يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال أحمد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) قال -أي: الإمام الترمذي-: وفي الباب عن سمرة وابن عمر قال أبو عيسى -أي: الترمذي-: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. قال مالك بن أنس: إنما معنى كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إذا خطب الرجل المرآة فرضيت به؛ فليس لأحد أن يخطب على خطبتها.

قال الشافعي: معنى هذا الحديث ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) هذا عندنا إذا خطب الرجل المرأة فرضيت به وركنت إليه؛ فليس لأحد أن يخطب على خطبته. فأما قبل أن يعلم رضاها أو ركونها إليه فلا بأس أن يخطبها، والحجة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس: ((حيث جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له أن أبا جهل ابن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطبها، فقال -أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما أبو جهل فرجل لا يرفع عصاه عن النساء، أي: كثير الضرب إلى النساء، وأما معاوية فصعلوك أي: رجل فقير لا مال له، ولكن انكحي أسامة)) أي: تزوجي أسامة، فمعنى هذا الحديث عندنا -والله أعلم- أن فاطمة لم تخبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته لم يُشر عليها بغير الذي ذكرت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال بأنه لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. فهذه توجيهات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب. أيضًا يُشترط أن تكو ن من يريد خطبتها ألا تكون معتدَّة عدَّة رجعية، فقد يراجعها زوجها، ولا في عدة وفاة؛ حفاظًا على حق الأخوة إلا أن يكون ذلك تلميحًا لا تصريحًا في عدة الوفاة، كما قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة: 235) فإذا ما اتضح أنه ليس هناك مانع من الخطبة بدأ كلٌّ من الخاطب والمخطوبة ووليها في البحث عن مدى صلاحية كل منهما للآخر؛ ليكون زوجًا لها، فإذا ما توافرت الشروط، واقتنع كل منهما بالآخر تمت الخطبة، وهي طلب والتماس من خاطب من وليّ الفتاة يطلب منه أن يزوجه ابنته،

وهذه الخطبة مشروعة لمن أراد الزواج، وهي في الحقيقة من الأمور المستحبة، ووجه الاستحباب فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها في زواجه من أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ حيث خطبها من أبي بكر -رضي الله عنه- كما خطب -عليه الصلاة والسلام- أم المؤمنين حفظة -رضي الله عنها-، فهذا وجه الاستحباب في هذه المسألة، وهي في الحقيقة فترة مهمة؛ لأنها هي الطريق ليتعرَّف كل من الخاطبين على الأخر، إذ تتيح الفرصة لمعرفة أخلاق وطبائع وميول الطرفين، ولكن هذا لا بد أن يكون في حدود ما جاءت به شريعة الإسلام. والتعدي في هذه المرحلة على حدود الله، والخروج عما جاء به دين الله يؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه، فما هي الأسس والمبادئ والأخلاق التي وضعها ربنا -سبحانه وتعالى-، وجعلها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- منهجًا للطرفين حتى تتمّ أيام الخطبة فتؤدي إلى النتيجة المرجوة من زواج قائم على هدي الله، وعلى دين الله -سبحانه وتعالى. هناك بعض الجاهلين بدينهم قد يُبيحون لبناتهم الخلوة، وأحاديث لهوًا لتستطيع الفتاة أن تختار عن معرفة بمن تُريد أن ترتبط به برباط الزواج، وقد لا تتم الخطبة فتصل إلى نهايتها، والبعض لا يتورَّع عن ذلك إذا تمت الخطبة، فترى الخاطب يخلو بمخطوبته ويخرج بها، ويسافر هنا وهناك، وقد لا يتمّ الزواج لأمر ما، فيكون الندم والتعاسة والضياع، ولات ساعة مندم؛ فقد حدث ما لا تُحمد عقباه، وبعض أولياء أمور الفتيات يسارعون بعقد الزواج؛ خروجًا من هذا الحرج، وهذا مر جيد لو تم الدخول بعد العقد بوقت قصير، ولكن الدخول قد يتأخَّر لزمن بعيد، لما اعترى المجتمعات الإسلامية من ظروف اقتصادية، وقد تجدّ مشكلات تؤدِّي إلى الانفصال، فماذا تصنع الفتاة، وماذا يصنع أهلها؟ والرجل الذي ارتضوه لابنتهم يُنكره أنه دخل بها، حتى لا يتحمل ما يلزم الزواج من حقوق، وقد تكون حملت منه وهو يُنكر هذا، والعرف قد جرى أن الرجل لا

يدخل بمن عقد عليها إلا في جوّ من الفرج والبهجة والسرور، وإقامة وليمة تُعرف بوليمة العرس يحضرها الأهل والأحباب، فإذا حدث لقاء بين الزوجين قبل هذا الإعلان؛ فهذا أمر مستعجل لما فيه من ضرر بالغ، إذ كيف يكون الحال وقد انتقلت المرأة إلى بيت زوجها وهي حامل فوضعت مولودها بشهور قلائل، وما هو أشد أن يحدث خلاف فيتم الطلاق، وينكر الزوج أنه قد دخل بها؛ لذلك كثيرًا ما أنصح أولياء الأمور بأن يؤخروا عقد الزواج إلى قُبيل الزفاف حتى لا يكون هذا العقد بابًا للوقوع في الكثير من المشاكل. فقد أصبحت بهذا العقد حلالًا له، وقد لا يصبر إلى أن يُعلن دخلوهما، فيحدث ما لا نُحبه وما لا نرضاه. ومن الآثار المترتبة على هذه الخطبة أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته؛ لأن هذا النظر مما يحببه ويرغّبه في الزواج منها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، لكن لا بد أن يعلم هذا الخاطب، وأن تعلم المخطوبة، وأن يعلم الجميع أن هذه الفتاة ما زالت أجنبية عن هذا الخاطب، فهي تُعامل كما تُعامل المرأة الأجنبية. بمعنى: أنه لا يجوز له أن يخلو بها، ولا أن يسافر معها، وأن يخرج معها إلا إذا كان هناك محرم، وإذا حدَّثها حدثها في حدود الضوابط الشرعية التي فيها قول الله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32). وأن هذه المحادثة وهذا الخروج وهذه الخلوة في وجود المحرم إنما تتمّ إذا كان الخاطب عازمًا على خطبته لا لاهيًا ولا عابثًا، فهذه مسألة شاعت في هذا الزمان في بعض الشباب يُريد المتعة، وأن يحقق رغبة، وليس عازمًا على الزواج. يبقى في مسألة الزواج أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو التعرف على المخطوبة عن طريق الوسائل الحديثة، ومن ذلك مثلًا النظر إلى الصورة

الفوتوغرافية للمخطوبة، يجوز للخاطب أن ينظر للصورة الفوتوغرافية للمخطوبة؛ بشرط أن تكون الصورة لا تُظهر إلا الوجه والكفين؛ لأن هذا سوف يدخل في توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلي ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)). لكن لا بد أن ننبّه إلى أن هذه الصورة يمكن أن تنتقل إلى عدد كبير من الأشخاص، فالأمر لا يقتصر على الخاطب إنما سوف يرى هذه الصورة أمه وأخته وخالته وعمته وغيرهم من الرجال، وفي هذا -كما ترى- ضررٌ كبير للمخطوبة وأسرتها، وهناك أمر آخر وهو ما يكون محادثة بين المخطوبة وخطيبها، وهذه مسألة لا بد أن نعرف ما فيها من خطر، ولنبتعد عن هذا الخطر، لا بد أن تكون المحادثة جادة، وتؤدِّي إلى المقصود، وأن تكون بعلم وليّ الفتاة، بل وبحضور واحد منهم أثناء المحادثة، ومن الواضح أن المحادثة التي تكون بعيدة عن معرفة الأهل، وعلمهم تجلب الشك والظنون، كما أن الشيطان قد يلعب، وقد يتلاعب بعقول الخاطب ومخطوبته؛ فيؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه، لذلك لا بد أن نكون على بينة من أمرنا. هذه هي بعض الأمور المتعلقة بالخطبة وما فيها من آداب، وما جاء فيها من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا ما تمَّت هذه الخطبة، واقتنع كل من الطرفين بصاحبه، بدأت إجراءات عقد الزواج. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدَا وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله.

الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله.

المقصود بالعشرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (عِشرة الرجل مع أهله) المقصود بالعشرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فما هي العشرة في لغتنا العربية حتى نعرف المقصود بعشرة الرجل مع أهله؟: يقول ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): "العين والشين والراء أصلان صحيحان؛ أحدهما في عدد معلوم، ثم يُحمل عليه غيره، والآخر يدل على مداخلة ومخالطة". والذي يعنينا أيها الأبناء هو الثاني وفيه يقول: "فأما الأصل الآخر الدال على المخالطة والمداخلة فالعشرة والمعاشرة، وعشيرك الذي يعاشرك، وإنما سميت عشيرة الرجل لمعاشرة بعضهم بعضًا، حتى الزوج عشير امرأته. وجاء في الحديث في ذكر النساء: ((إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)). ويقال: عاشره معاشرة جميلة. وقال زهير: لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي ويقول ابن منظور في (لسان العرب): "العشرة: المخالطة، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأَدْنَون، والعشير: المعاشر، والعشير: القريب والصديق، وعشير المرأة: زوجها؛ لأنه يعاشرها وتعاشره كالصديق والمصادق. وقوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج: 13) أي: لبئس المعاشرة". أما الراغب في مفرداته فيقول: "العشيرة: أهل الرجل الذين يتكثر بهم، أي: يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشرة هو العدد الكامل. قال تعالى: {وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} فصار العشيرة اسمًا لكل جماعة من أقارب الرجل الذين يتكثر بهم، وعاشرتُه صرت له كعشرة في المصاهرة. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والعشير: المعاشر قريبًا كان أو معارف".

إذا نظرنا إلى هذه الأقوال التي ذكرها أئمة اللغة نرى أن العشرة: مخالطة بين أناس، هذه المخالطة تعنى الكثرة، وفي الكثرة قوة، وهذه المخالطة تؤدي إلى التجاذب والتصافي والمودة والمحبة، وهذه حال الأصدقاء والأزواج، بالمخالطة تقاربت المشاعر واختلطت الأحاسيس، مما يجعل كل طرف يحن للآخر إذا غاب عنه، ويشتاق إليه إذا بعد عنه، وبهذه المعاشرة يحيا الناس في أسرهم ومع أهاليهم وفي بيوتهم ومع أزواجهم في مودة ومحبة، ويتحقق للزوجين على وجه الخصوص ما شرع الله الزواج من أجله، وهو السكن والمودة والرحمة. ولكن هذه المخالطة بكل ما فيها من إحساس بالأنس والاطمئنان والقوة -التي هي من مقتضيات الجماعة- قد تؤدي إلى تعارض المصالح وتنافر الطباع، مما يؤدي إلى التعادي والتناكر. قد رأينا قول زهير: ...................... ... وفي طول المعاشرة التقالي ولذلك جاءت الآيات والأحاديث وأقوال السلف ترغب في أن تكون المعاشرة بالمعروف؛ لأنها إذا كانت بغير المعروف كانت بلاء شديدًا يجلب الأمراض والهموم، ويؤدي إلى تشريد الأبناء والقضاء على كل أسباب السعادة، كما ترى في البيوت التي يدب فيها دبيب الشقاق والخلاف وتنافر الطباع. الآيات الواردة في كتاب الله ليس فيها ما يتحدث عن عشرة الرجل مع زوجه إلا ما جاء من قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19) وما عدا ذلك حديث عن عشيرة الرجل الذين هم أهله، وهذا ما تراه في قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214). وفي قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ

كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24) إلى آخر الآية. وقد وردت أيضًا بمعنى الصاحب الملازم لصاحبه، وهذا قول الله تعالى في المشركين وعبادتهم لأصنامهم: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج: 13). لكنك قد تجد الحديث عن حسن العشرة حين تقرأ الآيات التي تتحدث عن الطلاق فتقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229). وتقول: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 236، 237). ويقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228). وهكذا نجد هذا التوجيه القرآني في الآيات التي تتحدث عن حضانة الأم لطفلها، وما لها من حقوق في ذلك، وعن المطلقات وما لهن من متعة بالمعروف، وهذه توجيهات تأتي في حالة الطلاق، وأن الواجب أن يتم هذا دون ضرر لأحد الطرفين؛ لتبقى المودة بين الناس وإن انتهت بهذا الطلاق، ونحن كما تعلمون نتناول موضوع العشرة التي تعني أسرة من زوج وزوجة، يعيشان في جو من السعادة والأمان. ولا يتم ذلك إلا إذا قامت الحياة بينهما على المعروف، بأن يؤدي كل واحد منهما لصاحبه ما يُدْخِل السرور على قلبه، ولا يكون هذا إلا بأن يعرف كل منهما ما عليه من حقوق للآخر، وما بينهما من حقوق مشتركة، فتؤدى هذه الحقوق في إطار من المحبة، وحرص كل منهما أن يؤديها لصاحبه على وجه التمام والكمال.

بداية العشرة الزوجية.

بداية العشرة الزوجية وقبل أن نعرف هذه الحقوق علينا أن نتوقف قليلًا لنرى بداية العشرة الزوجية وكيف تتم، إنها تتم بعقد الزواج، وبعد أن تم اقتناع كل طرف بصاحبه، تأتي الخطوة التالية وهي عقد النكاح، وعقد النكاح لا بد أن يكون قائمًا على رضا طرفي العقد. وهناك عبارات تعرب عن هذا الرضا يسميها الفقهاء بالإيجاب والقبول، بأن يقول ولي الفتاة في حضور شاهدي عدل: زوجتك ابنتي، ويقول الخاطب: قبلت منك زواجها وبهذا يتم العقد، ولا يصلح أن يكون العقد لفترة زمنية محدودة، كما ترى في زواج المتعة وزواج التحليل؛ لأن الغاية من الزواج ليست مجرد الاستمتاع. وإنما مقصد الزواج استقرار الأسرة وإنجاب الأولاد والمحافظة على النسل، فمن تزوج لفترة من الزمان فزواجه باطل، ومن تزوج امرأة بانت من زوجها ليحللها له فزواجه باطل، فإذا ما تم الزواج وأصبح كل من الزوجين في بيت الزوجية، فلا بد أن يؤدي كل طرف للآخر ما عليه من حقوق، وجماع هذه الحقوق قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228). ومن المعروف أن أول هذه الحقوق على الزوج أن يدفع الزوج مهرًا، فقد سمى الله المهر صداقًا، ولعل هذا لأن المهر ليس ثمنًا للمرأة، إنما هو دليل على الرغبة الصادقة في الزواج ودليل تكريم لها، ولذلك رغب الإسلام في عدم المغالاة فيه

حتى لا يكون عقبة في طريق الناس، ليحيوا حياة العفة والطهر بزواج سعيد لا مشقة فيه. ومن المعروف أن كثيرًا من المشكلات الاجتماعية في عالمنا الإسلامي سببها مغالاة الكثير من الناس في المهور، ومع أن المهر حق واجب على الزوج إلا أن الله سماه نحلة -أي: عطية وهبة وهدية- فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وجعل من حق المرأة أن تتنازل عن جزء منه لزوجها فقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4). وما دام حقًّا لها فهو دين تطالب بها، ومن حقها ألا تنتقل إلى بيت الزوج حتى يؤدي لها ما تم الاتفاق عليه في مقدم الصداق، والمؤخر منه يبقى في ذمة الزوج تستوفيه في أقرب الأجلين الطلاق أو موت الزوج، فإن طلقها قبل الدخول والخلوة الصحيحة وجب لها نصف المهر إن كان قد سمى مهرًا، وإلا وجبت لها متعة بقدر وسع الزوج ويساره أو عدم يساره. اقرءوا في هذا قول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 236، 237). فإذا ما ساق لها مهرها وعقد عليها ودخل بها وجبت عليه النفقة لها، مِن مأكل ومشرب وملبس ومسكن وما إلى ذلك، ما ييسر للناس حياة كريمة بقدر طاقة الزوج. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7).

كما يجب عليه أن يعدل في النفقة والمبيت إن كانت له زوجة أو زوجات أخريات. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء: 3). ولا يكلف بما لا يقدر عليه من العدل في الميل القلبي لواحدة منهن. قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 129). وبهذا نرد على من فهم أن الإسلام لا يجيز التعدد؛ لأنه اشترط لذلك العدل، ولكنه قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فنقول لهم: هذا في الميل القلبي، والمطالب به الرجل هو العدل في المبيت والنفقة، وما إلى ذلك مما هو في مقدور كل إنسان، فإذا ما أدى ما افترض الله عليه وجبت عليها طاعته في غير معصية له، فلا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تسافر دون رضاه، ولا تتصرف في ماله إلا بموافقة منه، ولا تدخِل في بيته من لا يرغب فيه. ولا يعني هذا تسلطًا وتجبرًا وإذلالًا للمرأة وإنقاصًا من كرامتها ومنزلتها ومكانتها، إنما هو نابع من فلسفة الإسلام في القيادة: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) وربما كان هؤلاء الثلاثة في سفر لأيام معدودات، لكن أمرهم لا ينتظم إلا بأن يكون لهم أمير يأتمرون بأمره، فما بالنا وهذه رفقة الحياة بكل ما فيها، ولَكَم تحتاج إلى من يتولى أمرها، فلمن تكون الإمارة في مملكة البيت؟ لعل النظر الصحيح يقول: الرجل هو الأجدر والأحق بذلك. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

الحقوق المشتركة بين الزوجين.

فالتعبير القرآني: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ليس فيه أن الرجال أفضل من النساء، وإنما يشير إلى أن الرجل أفضل من المرأة في جوانب، وهي أفضل منه في جوانب أخرى، فليس في قدرتها إلا بمشقة شديدة أن تقوم بما يقوم به الرجال من أعمال تحتاج إلى جهد ومجالدة وتعب، وليس في قدرة الرجل أن يقوم بما تقوم به المرأة من حمل وإرضاع وسهر وجهد في رعاية الأبناء، وما إلى ذلك مما لا يتحمله الرجال. فهذه القوامة إذًا مسئولية يقوم بها الرجل بشروطها، مِن العدل والحكمة والمشورة والمودة، وفي النساء بحمد الله كثرة عظيمة لهن حسن الرأي وصدق المشورة، مما جعل أزواجهن يأخذون برأيهن في كل أمر، والمسلمون لا ينسون مشورة أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في الحديبية، حين أشارت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أشارت به، فكان في رأيها الخير للمسلمين. الحقوق المشتركة بين الزوجين وإذا كانت هذه حقوق كل من الزوجين على الآخر، فإننا لا ننسى أن هناك حقوقًا يشترك فيها الزوجان، ويؤديها كل واحد منهما للآخر، ومن هذه: الحقوق حق الاستمتاع، وثبوت النسب، وحرمة المصاهرة، وحسن المعاشرة، والتوارث، فلكل من الزوجين أن يستمتع بالآخر، وهذا أيضًا من حسن العشرة، ولا يقال بأن هذا حق للزوجة فحسب، وعلى زوجها أن يؤدي لها هذا الحق، بل هو حق عليها لزوجها كذلك. وهنا نجد كلامًا للأئمة والباحثين في تحديد المدة التي يحق للزوجة التي تطالب فيها بهذا الحق، وهل هي ما زاد على أربعة أشهر أو في كل طهر أو في ليلة من أربع

ليالٍ؟ وأولى الآراء أن ذلك لا ضابط له إلا الابتعاد عن قصد الضرر، وتعمد الحرمان، وعلى الزوج أن يجتهد في إعفاف زوجته بقدر طاقته، كما يسوقون كثيرًا من الأحاديث التي توجب على الزوجة أن تستجيب لزوجها إذا ما دعاها لفراشه على أية حال كانت، وأنها إن أبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، ما دام ليس لديها مانع شرعي من حيض أو نفاس أو صيام فرض، أو ما إلى ذلك، وسواء كانت مشغولة بعمل أم لا في ليل أو نهار. ولكن ثقة التوجيهات النبوية والآيات القرآنية في هذا الأمر، وأن الزواج سكن ومودة ورحمة وعلاقة أبدية في الدنيا والآخرة، ترشدنا إلى ما يجب على الزوج إذا ما رغب في ذلك من التلطف والمداعبة؛ حتى لا يكون لقاء الرجل بامرأته وكأنه حالة اغتصاب وقهر. وقد قال بذلك أعداء الإسلام في مؤتمراتهم، وطالبوا بالتحرر من قيد الزواج لتكون العلاقة بين الذكر والأنثى بعيدة عن فراش الزوجية، ومن هنا كان البحث في هذه المؤتمرات عن حكم الإجهاض لو حملت المرأة من هذه العلاقة الفاسدة، التي لا يترتب عليها أي حق لطرف منهما على الآخر، وتؤدي إلى خراب الدنيا وفساد أجيالها وهدم بيوتها. أما في الإسلام فيستطيع كل من الزوجين أن يصل إلى ما يريد من صاحبه بالوسائل التي رسمها ديننا العظيم؛ ليكون لقاء الزوجين متعة وسعادة وأنسًا وودًا وحبًّا، تتوثق به القلوب وتنمو العواطف، وتحل به المشكلات، وينشأ في ظله الأبناء، ويبقى حنين كل منهما للآخر مشبوبًا، لا يؤدي كل منهما لصاحبه ما يؤديه على أنه حق شرعي يريد أن يتخلص منه، فيسلم جسده للآخر لقضاء وطره. وإنما هناك تعانق الأرواح وتلاقي القلوب، ولحظات الرضا التي تذوب فيها الهموم، وتشفى بها الجروح، وتستقيم بها الحياة، ويشرق دين الإسلام على

أرض الله نورًا يشع في كل مكان وفي كل زمان، ليقول للدنيا بأن هذا هو المنهج الذي هو واحة الإنسانية، وإلا لفح الإنسانية هجير صحراء مجدبة يؤدي بهم إلى الهلاك. وإذا كان هذا هو الحق الأول المشترك بين الزوجين وهو حق الاستمتاع، فهناك حق ثانٍ وهو ثبوت النسب، إذا ما حملت الزوجة ووضعت حملها نسب هذا المولود لأبيه، فيقال: هذا ولد فلان، كما يقال بأن هذه أُمه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الولد للفراش وللعاهر الحَجَر)) أي: لمن يزنى له الحجر وهو حد الرجم. ومعناه أن النسب إنما يثبت بعقد النكاح لا بمجرد اتصال رجل بامرأة، فولد الزنا لا نسب له، والزاني والزانية إن كانا محصنين لهما الحجر، أي: الرجم بالحجارة، والمسلمون يحفظون المولود من الزنا، ويقومون بتربيته، ولا يحاسب نفسيًّا ولا اجتماعيًّا، ولا في الدنيا ولا في الآخرة عما كان قد حدث في الحرام، فأدى إلى وجوده في هذه الدنيا، ومَن عيّره بذلك فهو قاذف يقام عليه حد القذف. أيضًا يثبت بعقد النكاح حق ثالث وهو حرمة المصاهرة، وهذه الحرمة المترتبة على عقد الزواج أو على الدخول بعقد الزواج. والمثال الأول: حرمة أم الزوجة بمجرد العقد على الزوجة. ومثال الثاني: حرمة بنت الزوجة بالدخول بالزوجة، فالقاعدة أن العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات، كما قال تعالى في تحريم من حرم الزواج بهن: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23).

ومن ذلك تحريم الزواج من زوجة الابن، وتحريم الجمع بين المرأة وأختها، كما قال تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 23). وقد حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. أما الحق الرابع فهو حق التوارث، فكل من الزوجين يرث صاحبه وفق قاعدة الإسلام في الميراث، والتي تقوم على أن الغُرْم بالغُنم، وما دام الإسلام قد حمّل الرجال مسئولية الإنفاق، فإنه بعدله أعطاهم في الميراث غالبًا ضعف ما أعطى النساء. يقول تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء: 24). يبقى لنا الحق الخامس وهو حسن المعاشرة، حسن المعاشرة يعني حسن الخلق مع الوثاق واحتمال الأذى منهن. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ومن المعلوم أن العقد الذي تم بين الزوج وزوجه ميثاق غليظ، كما قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 21). وقال في المرأة حين أوصى بالإحسان إلى من أوصى بهن في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (النساء: 36) قالوا: أن الصاحب بالجنب هي الزوجة. ولعلنا نذكر أن آخر ما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الأخير كان يقول: (((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في

النساء فإنهن عوانٍ في أيديكم -عوانٍ يعني أسرى- أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) والأحاديث في هذا كثيرة. وليس حسن الخلق مع الزوجة أن تكف الأذى عنها فقط، بل عليك أن تحتمل الأذى منها اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل، وراجعت امرأة عمر -رضي الله عنها- عمر في الكلام فقال: "أتراجعينني! فقالت: إن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراجعنه وهو خير منك، فقال عمر: خابت حفصة وخسرت إن راجعته، ثم قال لحفصة: لا تغتري بابنة ابن أبي قحافة -يقصد أبا بكر رضي الله عنه- فإنها حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوّفها من المراجعة". وهذه أيضًا أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معاملته لنسائه؛ لتكون نبراسًا يهتدي به أهل الإسلام، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- في معاملته لأهل بيته على أحسن حال، وهو القائل: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا)). وسئلت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- عما كان يصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته فقالت: ((كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)). وعن عروة قال: ((قلت لعائشة: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم)). وهذا أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول: ((خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا، وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت)) مما يدل على تواضعه وهو القائل: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه)). إذا كانت هذه هي معاملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخادمه وللإماء، فما بالكم بمعاملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته وأهل بيته؟!:

إننا إذا نظرنا في كتب السيرة والحديث التي تحدثت عن زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- نجد أن أمهات المؤمنين كن على درجة عالية من القرب من الله -عز وجل، فكل واحدة منهن صوامة قوامة، ومن هنا كن جديرات بأن يكن أمهات للمؤمنين، وزوجات لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وهذه صور جميلة من الملاطفة والدلال وحسن العشرة، نتعلمها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، انظروا وهو ينادي السيدة عائشة بأحب الأسماء إليها، فيصغر اسمها أو يرخمه من باب المداعبة فيقول: ((يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام)). وكان يقول لها: ((يا حميراء))، والحميراء تصغير حمراء يراد بها البيضاء. وقال الذهبي: "الحمراء في لسان أهل الحجاز: البيضاء بحمرة، وهذا نادر فيهم". ونقرأ في صحيح مسلم من حديث عائشة في الصيام قالت: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقبل إحدى نسائه وهو صائم، ثم تضحك رضي الله تعالى عنها)). ومن هذه الصور العظيمة الجميلة التي تقرب ما بين الزوجين: ما نقرأه في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: ((وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك)) اللقمة ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي لك صدقة، وانظروا كم تصنع هذه اللقمة في كسب القلوب، وليست المسألة مجرد كسب القلوب فقط، إنما هي صدقة يؤجر عليها الرجل، وهذا أمر يسير وسهل لمن أراد أن يحيا حياة إسلامية عظيمة جميلة. أيضًا هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدر مشاعر الزوجة، ويظهر لها ما يحمله لها من حب، فقد سألت السيدة عائشة -رضي الله عنها- النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كيف حبُّك لي؟ فقال -عليه السلام-: كعقدة الحبل، ثم سألته: كيف العقدة؟ فقال: على حالها)) أي: لم تتغير. والنبي -عليه الصلاة والسلام- يصف لعائشة -رضي الله عنها- حبه لها كعقلة الحبل، أي: أن الحب ما زال مربوطًا في قلبه.

فانظروا إلى كمْ كانت السيدة عائشة سعيدة مسرورة منشرحة الصدر بهذا القول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال لها بأنها فضلت على النساء كتفضيل الثريد على باقي الطعام، فإظهار مشاعر المودة والمحبة للزوجة من حسن العشرة التي يجب علي الأزواج أن يدركوها وأن يَعلموها. ومن الأشياء التي من حسن العشرة أن يتزين وأن يتجمل وأن يتطيب الرجل لزوجته. سئلت السيدة عائشة: بأي شيء كان يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل بيته؟ قالت: ((بالسواك)) وكان يفعل ذلك ليستقبل زوجاته بالتقبيل وما إلى ذلك. وعند البخاري أن عائشة قالت: ((كنت أطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأطيب ما أجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته)). وانظروا إلى ما رواه الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((كنت أُرَجِّل رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا حائض)). وانظروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنه وجلالة قدره وعظيم منزلته، وهو يجعل السيدة عائشة تسرح له شعر رأسه، ومع أنها تكون حائضًا. وهي تشير بذلك إلى عظمة الإسلام؛ لأن اليهود وقد كانوا يساكنون المسلمين في المدينة، كانت المرأة إذا حاضت لا يأكل معها الرجل ولا يبيت معها في فراشها، فجاء الإسلام بعكس ذلك، وفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نرى، فهل منا من يجعل زوجته تسرح له شعره، وماذا في هذا العمل من تقارب الأفئدة والأرواح، وما إلى ذلك، ولذلك كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستعطف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها علي". قال ابن عباس: "إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ". ويذكر لنا التاريخ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو خليفة المسلمين: "أن رجلًا دخل عليه أشعث أغبر، ومع الرجل امرأته وهي تقول: "لا أنا ولا هذا؛ لأنها

لا تريده، تنفر من زوجها على هذا النحو ... انظروا إلى ما فعل عمر -رضي الله تعالى عنه- أرسل الزوج فاغتسل، وأخذ من شعر رأسه وقلم أظافره، فلما حضر أمره أن يتقدم مِن زوجته فنفرت منه؛ لأنها لم تعرفه ثم عرفته، فقبلت به ورجعت عن دعواها، فقال عمر: هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن، كما تحبون أن يتزينَّ لكم". قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: "أتيت محمد بن الحنفية، فخرج إليّ في ملحفة حمراء، ولحيته تقطر من الغالية -والغالية هي خليط من الطيب، فالخليط أفضل الطيب- يقول يحيى: فقلت له: ما هذا؟ قال محمد: إن هذه الملحفة ألقتها عليّ امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتيه منهن". فالمرأة تريد من الرجل أن يتجمل وأن يتزين، فهذا من العشرة التي أمر الله بها حين قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ولعلكم تذكرون من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان دائم البِشر، جميل العشرة، يداعب أهله ويتلطف بهم ويضاحك نساءه، وتذكرون كان يسابق السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- في البرية في بعض سفراته؛ يتودد إليها بذلك. تقول: ((سابقني رسول الله فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك)). وكم في ذلك من مداعبة لطيفة. وأنتم تذكرون أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤنسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- معيار خيرية الرجال في حسن عشرة الزوجات، فقال: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله)).

وسأل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: ((يا رسول، من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: مِن الرجال؟ قال: أبوها)) رواه الترمذي. ولعلكم تذكرون ما كان من أمر عائشة -رضي الله عنها- وأنها قالت: ((كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل يَنْقَمِعْن -أي: يتغيبن منه- فيُسَرِّبُهن إليّ فيلعبن معي)). وقصتها في رؤية من كانوا يلعبون في المسجد من الأحباش دليل على حسن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحسن معاشرته. تقول -رضي الله عنها-: ((لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقْدُروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو)). ومن حسن معاشرته -صلى الله عليه وسلم- ما تقرؤه في سنته عليه الصلاة والسلام، من قول عائشة: ((كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله -أي: أناول الرسول صلى الله عليه وسلم- القدح فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأتعرق العِرْق وأنا حائض ثم أناوله النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع فيّ)). وكم في هذا من إناس ومن رحمة ومن لطف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولعلكم قرأتم ما كان من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى. قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولي: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك)) صلوات الله وسلامه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وسيد الأوفياء محمد -عليه الصلاة والسلام- انظروا إليه في وفائه لخديجة -رضي الله تعالى عنها- تقول السيدة عائشة: ((ما غِرت على امرأة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما غرت على خديجة؛ لكثرة ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياها وثنائه عليها)).

ومن صور وفائه مع زوجاته أنه -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت عليه آية التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب: 28) بدأ بعائشة وقال لها: ((إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك)) خشية منه -صلى الله عليه وسلم- أن تختار زينة الحياة الدنيا لصغر سنها، فتخسر الخير الكثير في الدنيا والآخرة، لكنها -رضي الله تعالى عنها- كانت أحرص على خير نفسها من أبويها، فقالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة". ثم استقرأ -عليه الصلاة والسلام- الحُجَر، أي: حجرات أمهات المؤمنين، يخبر نساءه ويقول لهن: ((إن عائشة -رضي الله عنها- قالت كذا وكذا فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة)) رضي الله عنهن كلهن. ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). فأفعاله وأقواله وتقريراته وصفاته تشريع لأمته وهدي كريم، يجب على أهل الإسلام أن يلتزموا به في حياتهم؛ لتطيب حياتهم وعشرتهم لزوجاتهم، ولتحيى بيوتهم في جو من الأمان والاستقرار. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق.

الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق.

الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق) الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق: وهذا الموضوع ينقسم كما يبدو من عنوانه إلى مرحلتين: الأولى: الأحكام عند سوء العشرة. والثانية: الأحكام عند الافتراق بأي شكل من أشكال الافتراق، طلاقًا أو خلعًا. والمرحلة الثانية نتيجة للأولى، وحين نعرض لهذه الأحكام إنما نأمل أن نصل بالبيت المسلم إلى شاطئ الأمان، فهذا يقتضي أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة، فما يتزوج من يتزوج ليحيا في جو من التعاسة والألم، فيدمر نفسه وأبناءه، وينتهي حاله بالطلاق والفراق وتشريد الأبناء والأمراض النفسية والاجتماعية. وكم يحتاج كل من الرجل والمرأة من الزمن ليبرأ من علته، ويصحو من رقدته، ويعود ليبحث له عن زوجة، وهذه الزوجة الثانية التي تأتي لبيت قد يكون به أبناء من الزوجة السابقة، هل تستطيع أن تتقبل هؤلاء الأبناء، وماذا في ذلك من بلاء قد يؤدي بدوره إلى الطلاق، والمطلقة ومعها أبناؤها الذين حُرموا من أبيهم، كيف ستتولى تربيتهم، وهل ستبقى هكذا دون زواج، وربما كانت في مقتبل العمر، ولو رغبت في الزواج مَن هذا الذي سيقبل الزواج منها وهي على هذا الحال؟! كثير من المشاكل ترتبت على سوء العشرة. فما الذي جعل الزوجين أو أحدهما يعامل الآخر معاملة سيئة، زرعت بذور الكراهة والبغض فأنبتت حنظلًا مرًّا ودمارًا وضياعًا للزوجين وأبنائهم، وأثمرت

نفورًا وبغضًا بين أسرتين بما فيهما الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، وما إلى ذلك، وقد كان أفراد كل أسرة إذا ما التقوا وجدتهم أصهارًا متحابين، يعانق كل منهم الآخر في ود ظاهر وسعادة غامرة، فماذا عن حالهم بعد هذه النكبة التي حلت بابنهم وابنتهم؟!. درسنا نظام الأسرة في القرآن، وكيف تكون عشرة الرجل مع أهله، وكيف تكون عشرة الزوجة مع زوجها، ورأينا خطة محكمة وضع كتاب الله خطواتها، وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مراحل تنفيذها، وبدأت هذه الخطة بإعداد الفرد المسلم في بيته من أول لحظات اختيار الأبوين كل منهما للآخر، فقَل أن ينبت في البيت الفاسد أبناء بررة، وإذا طاب أصل المرء طابت فروعه، ومن عجب جادت يد الشوك بالورد. فهذا إذًا أول الأسباب في أن الاختيار لم يكن موفقًا، وعلاجه حسن الاختيار للبيئة التي تربى فيها كل من الزوج والزوجة، وقريب من هذا السبب لحظات الاختيار حين الإقدام على الزواج، وقد أرشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اختيار الفتاة إلى دينها، وعرض إلى ما يُرَغِّب الناس في الزواج من ذات المال والجمال والحسب، وبيّن أن هذا لا مانع من طلبه، لكن بشرط أن يكون الدين في المقدمة، حارسًا وحافظًا للمال والجمال والحسب، وإلا كان المال لها طغيانًا وإذلالًا لزوجها، وكان الجمال انحرافًا وغيرة قاتلة وهمًّا عظيمًا، وكان الحسب تعاليًا وكبرًا وغرورًا، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فاظفر بذات الدين ترتب يداك)) أي: التصقت يداك بالتراب إن لم تظفر بذات الدين، وهو كناية عن الخسارة والضياع. فليتساءل عمن أساءت زوجته عشرتها معه، فعاملته بالغلظة والتعالي والغطرسة، والمنِّ عليه بمالها وحسبها، على أي أساس كان اختياره لها، هل طلب ذات

الدين والخلق؟ إنه لو كان قد فعل ذلك لوجد زوجة صالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله وأبنائه، وكانت له عونًا على مشقات الحياة، وكم في الحياة من مشقات، وولي الفتاة في اختياره لمن سيكون زوجًا لابنته وصهرًا له ولأسرته على أي أساس اختار هذا الزوج؟. تذاكرنا ما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولياء الفتاة بل والفتاة نفسها، ومن له صلة بالرأي والمشورة من أم وعم وخال، أن يكون أساس اختيارهم لزوج ابنتهم قائمًا على أساس من الخلق والدين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض -أو وفساد كبير)). ولا بد من ملاحظة الأمرين معًا: الخُلق والدين، ترى شابًّا مهذبًا دَمِث الأخلاق يفيض رقة وأدبًا، ولكنه لا يؤدي فرائض الله أو يؤديها مرة ويقطع مرات، ومثل هذا لا يصلح أن يكون صهرًا ولا أن يكون زوجًا للفتاة، ولعلنا نتساءل: كيف يجتمع حسن الخلق مع عدم الالتزام بدين الله؟! والواقع خير شاهد، بل إنك لترى كثيرًا من غير المسلمين على أعلى ما يكون من الرقة والأمانة، وحسن أداء العمل والصدق في القول وأداء الحقوق لأصحابها، وما ذلك إلا لأنهم علموا أن الحياة لا تصلح إلا بهذه الأخلاق، وأن هذه الأخلاق من أعظم وسائل النجاح في الحياة فالتزَموها، فمطلبهم ليس هو الله والدار الآخرة، إنما مطلبهم هذه الدنيا يصيبونها، فنجحوا في ذلك نجاحًا عظيمًا. وقد يأتي لابنتك من يحافظ على أداء الصلاة في الجماعة، ومَن يحرص على الصيام والقيام وأداء النوافل، ولكنه فظ غليظ تحادثه فلا تستريح له، تتعامل

معه فتجد المكر والدهاء وسوء الأخلاق، فتدينه لم يؤتِ أكله ولم يثمر ثمرته من التخلق بالأخلاق الكريمة، فإذا ما تزوج كان وبالًا على زوجته، وكانت لحظات الحياة معه كأنها القرون، فيها من سوء العشرة بكل ما تعنيه سوء العشرة في قول أو فعل ما يُعَجِّل بالشقاء والفناء. فليكن هو السبب الثاني: وهو عدم التدقيق في أهم شرط في اختيار من ستتزوجها، وأهم شرط فيمن ستزوجه وهو الدين والخلق، فليتحقق هذا الشرط أولًا، ثم ليكن ما بعده لمن شاء من مال أو جمال أو وظيفة، أو أسرة لها منزلتها في مجتمعها، دون أن تكون هذه الأسباب أسبابًا أصيلة في الاختيار؛ لأنها كلها أعراض زائلة قد تبقى وقد تزول وقد تتغير. فإذا ما اقتنع كل من الطرفين بصاحبه تقدم الشاب ومعه بعض أهله وعشيرته لخطبة الفتاة، والخطبة ليست زواجًا قائمًا على الإيجاب والقبول والشهود وحضور الولي، يبيح للخاطب ما يبيحه عقد الزواج من جواز الخلوة والاستمتاع، ويوجب المهر والنفقة، إنما الخطبة وعْد بالزواج، والخاطب -كما ذكرنا- ما زال رجلًا أجنبيًّا كأي رجل، لا يجوز له أن يخرج مع مخطوبته ولا أن يخلو بها إلا في وجود محرم، والخطبة فترة يكتشف فيها كل من الجانبين ما عند صاحبه من خلق ودين؛ لأن رؤية الخاطب للفتاة ورؤية الفتاة للشاب تعطي صورة أولية وعامة للشكل الخارجي، وهل هو مقبول. كما أن معرفة الخاطب أو المخطوبة عن طريق السؤال قد لا تعطي الصورة الحقيقية، أو الصورة الكاملة، فتأتي أيام الخطبة وما فيها من التزاور والمناقشات والمعاملات أحيانًا ما يكشف حقيقة كل منهما. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَم

وفي هذه الفترة يكون الانتقاء لما يمكن التغاضي عنه، وما لا يمكن السكوت عليه أو قبوله. ولعلي ذكرت أنني أفضل تأخير إجراء عقد النكاح؛ حتى يتم اقتناع كل واحد منهما بالآخر، وحتى يتم الاتفاق على كل شيء، ولم يبق إلا وقت قصير على موعد الدخول؛ خشية أن تطول أيام الخطبة؛ نظرًا للظروف الاقتصادية للناس، وقد لا يصبر العروسان فيحدث اللقاء وربما ترتب عليه الحمل، فكيف يكون حال الفتاة وحال أهلها وحال ابنتهم، وابنتهم ستلد في بيتهم قبل زفافها، وبعض من لا خلاق له قد يساوم إذا ما أراد ألا يتم هذا الزواج. وإذا لم يتم كانت فتاتنا في أسوأ حالتها، ولم لا فقد أصبحت في وثيقة رسمية مطلقة ومعها طفل، وهي في بيت أبيها، كيف سيجبر هذا الكسر، وكيف ستتزوج مرة ثانية؟! إنه كما ترون موقف صعب وبلاء شديد، وحزن خيم على هذه الأسرة، ألا ترون أن عدم الالتزام بتوجيهات ديننا هي التي أدت إلى هذا المصير المشئوم، بما فيه من ضياع وحسرات. فهذا إذًا هو السبب الثالث الذي يؤدي إلى سوء العشرة، ألا وهو عدم الالتزام بحدود الله وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام الخطبة. فإذا ما مرت أيام الخطبة بسلام بدأت إجراءات العقد والزفاف، فليكن هذا وفق شريعة الله وتوجيهات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عدم المغالاة في المهر، وألا يطلب كل طرف من الآخر ما يلحقه في إعداد طعام وشراء فراش، وما يتبعه من أجهزة منزلية، وما يطلبه كثير من أهل العروس في مواصفات بيت الزوجية وإعداده، وما إلى ذلك مما يراه كثير من الناس ضرورة من ضرورات الزواج.

وليس هذا من الضرورة في شيء، لكن الإصرار عليه قد يؤدي إلى عدم إتمام الزواج، أو يلقي بظلاله على الزوجين بعد الزواج، حين يستيقظ الزوج في صباح يوم الدخول ليرى ديونًا للآخرين، يعجز عن الوفاء بها، وقد يستمر لفترة طويلة من الزمان يسدد في أقساطها، مما يجعله ينظر إلى زوجته وأهلها نظرة الكاره لهم ولها، وما بمثل هذا الأسلوب تنتظم حياة الأسر ويقام بيت من السعادة والحب. فهذا هو السبب الرابع من أسباب سوء العشرة، أدى إليه الانقياد الأعمى إلى عادات وتقاليد بالية، دون مراعاة لظروف من يريد الزواج، بل ودون نظر إلى ما يتحمله كثير من الآباء من ديون في سبيل تجهيز بناتهم، فليت الناس يتقون الله في أنفسهم وبناتهم، وليتهم يقتدون في ذلك بإمام المرسلين -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، في عدم مغالاتهم في المهور، وعدم تحملهم لتكاليف الزواج الباهظة، فما كانت في بيوتهم الأسِرّة الفاخرة، والمقاعد الوفيرة، والتحف الغالية، وما إلى ذلك مما تراه في بيوتنا، إنما كان فراشهم بسيطًا ومتاعهم قليلًا. بل إن هذا التيسير في الصداق وإعداد البيت كان سمة لمجتمعاتنا إلى وقت قريب، وقد رأيت بنفسي ذلك، حيث كان مهر الفتاة لا يتجاوز الخمسين جنيهًا، وبهذا المبلغ تجهز العروس بجهاز لا يتجاوز فرش حجرة، وبعض ما يلزم العروس وبيت الزوجية. هذه المقدمات -التي هي أساس ما يكون من حسن العشرة أو سوء العشرة- لو أمكن ضبطها بميزان الشرع لتخطينا كثيرًا من العقبات التي تدمر حياة الأسر، وتترك في القلوب الأسى والضغينة، وتفرق بين الزوجين. فإذا ما تم الزواج بدأت حياة زوجية قائمة على المحبة والرضا، والتغاضي عن الهفوات، وأساسها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19). ونبراسها: ((لا يَفْرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يكره مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)).

الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية.

ومع كل هذه التوجيهات بدءًا من التربية الإيمانية للبيوت وفي البيوت، ووصولًا إلى عش الزوجية، بكل ما يُفترض فيه من الدفء والحنان والمودة والرحمة والسكن، إلا أن طبائع البشر المختلفة قد تؤدي إلى التصادم وعدم الاتفاق، وفي كل يوم بل ربما في كل ساعة يزداد التباعد بين الزوجين، ويشعل الشيطان في القلوب نيران الكبرياء. فلا يتنازل أحد الزوجين عن رأي رآه، بل يرى في تنازله وعفوه وتسامحه مساسًا بكرامته، فقد وصل الأمر بينهما إلى حال من البغض والكراهية، جعل كل منهما يسهر الليل يفكر في الانتقام من صاحبه؛ إذ لم يعد يطيق رؤيته، فلم تعد الزوجة تنفذ لزوجها أمرًا، أو تؤدي له واجبًا، أو تهتم ببيتها وأبنائها، إنها دائمة الصراخ لا تهدأ ولا يقر لها قرار، والزوج نافر منها هاجر لها، يكره أن يراها، إن دخل البيت دخله لوقت قصير، ثم خرج يبحث عن راحته وأنسه في الشوارع، وربما على المقاهي، وربما اصطادته امرأة أخرى فتزوجها فأضاف لمشكلته مشكلات. الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية فماذا في منهجنا القرآني من حلول لهذه المشكلات؟: أولًا: في بداية هذه الحلول: تأصيل الثقافة الإسلامية في موضوع العلاقة الزوجية، والتذكير بما تقتضيه هذه الثقافة في وقت الأزمات، فقد يسيطر الغضب على عقل الزوج، فينسيه ما علم من هدي ربه وهدي رسوله، حتى يقع في المحذور، وخلاصة ما يجب أن يدركه الزوج أن المرأة خلقت من ضلع أعوج. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المرأة خلقت من ضلع، لم تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها)).

وإن المسلم يستجيب في معاملته لزوجته إلى ما أوصاه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوقن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أوصاه إلا بما فيه سعادته، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((استوصوا بالنساء خيرًا)) وبيّن سر هذه الوصية فقال: ((إنما هن عندكم عَوَان)) أي: أسرى أو كالأسرى، وقال: ((إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)). فهذه المرأة التي انتقلت إليك من بيت أبيها، وأصبحت في بيتك كالأسيرة، لا تخرج من بيتك إلا بإذنك، ولا تتصرف في شيء إلا بتوجيه منك ورضا، إنها أمانة استأمنك الله عليها، وأمر آخر أعظم وأكبر هو أن الله أحل لك أن تطلع منها على ما لا يجوز لأب أو لأم، أو لأحد أن يطلع عليه، فمن الذي أعطاك هذا الحق؟ إنه الله، حين أخذت هذه الفتاة بكلمته قلت لوليها: زوجني فقال لك: زوجتك. فمن يتأمل في ذلك يراه أمرًا يدعو الرجل إلى أن يغض الطرف عن هفوات كثيرة، وإلى أن ينظر إلى الجوانب المشرقة والمضيئة عند زوجته، ويستطيع أن يستوعب التوجيه النبوي الذي ذكرناه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)). إلى غير ذلك من التوجيهات للأزواج، ويقابلها تذكير للزوجات بحسن عشرة أزواجهن، والقيام بحقهم، وأنها وقد انتقلت من بيت أبيها إلى بيت زوجها، إنما انتقلت إلى عشرة أبدية متواصلة، لا تقتصر على الدنيا، إنما تمتد إلى الآخرة في جنات النعيم، ولهذه الحياة التي تفوق سنوات أمضتها في كنف أبويها وأهلها حقوق في أدائها رضا الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي تجمع بين قلوب الزوجين على طاعة الله ومحبته، ومع هذه التوجيهات النورانية قد يغلب الشيطان الزوجين، فيزرع في قلبيهما البغض والكراهة، ويبدأ هذا البغض بكلمات وأفعال كان يمكن تجاوزها، إلا أن الشيطان يسكب عليها من وساوسه ما يشعل فيها النيران، حتى تكاد تحرق هذا البيت وما فيه ومن فيه. يروي الإمام مسلم بسنده عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نعم أنت فيلتزمه)). هذا إذًا هو الشيطان اللعين الذي يحاول أن يهدم البيوت المتحابة، وهنا تكون حكمة كل من الزوجين في مثل هذا الحال، وقد وضع القرآن خطة محكمة، لو أحسن تنفيذها كل من الرجل والمرأة لتم القضاء على بذور الشقاق والخلاف، وهذه الحال هي التي تعرف بالنشوز، نشوز الزوجة ونشوز الرجل، فكل منهما يأبى أن يعطي حق صاحبه ويتعالى عليه. فلنبدأ بخطة القرآن في علاج نشوز المرأة، وفيها يقول ربنا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 34، 35). ونشير إلى نشوز الزوج إلى أن نعود إليه، ذلكم ما جاء في

قول الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 128). فلنبدأ حديثنا عن هذا النشوز ببيان معنى قوامة الرجال على النساء؛ لأن هذه القوامة قد تكون من الأسباب التي أدت إلى نشوز الرجل، ولا بد أن نعلم أن هذه القوامة التي شرعها الله -عز وجل- ليست لضعف أو انتقاص في جنس النساء، وإنما هو التساوي العادل، والتسوية بين الحقوق والواجبات هي العدل الذي فرضته الفلسفة القرآنية للمرأة، وهو وضع المرأة في موضعها الصحيح من الطبيعة ومن المجتمع ومن الحياة الفردية، هكذا يقول العقاد في (الفلسفة القرآنية). وتلك القوامة التي جعلها الله للرجال -كما ترون- مشروطة بشرطين: التفضيل في المواهب والاستعدادات، والإنفاق على الزوجة، فالقوامة التي فرضها الإسلام للرجال على النساء هي إذًا قيادة، يجب أن تتوافر فيها ما يتوافر في كل قيادة رشيدة، فالقائد يجب أن يكون أفضل مَن في الجماعة التي يقودها، وأن يكون أهلًا للمسئولية عن قيادتها، وعلى ذلك يجب أن تتوافر في قوامة الرجل على المرأة الشروط الآتية: - أن يبلغ مبلغ الرجال سنًّا وإدراكًا. - أن تتوافر له صفة الفضل أو التفضيل، فالرجل الفاسد أو المجرم المطارد أو فاقد الحرية لا قوامة له على المرأة الصالحة. ثالثًا: أن يقوم بواجبه في الإنفاق على من يعوله من النساء،

ومع أن الله قد جعل للرجل حق قيادة الأسرة، فإنه لم يجعلها قيادة مستبدة، إنما أقامها على التشاور والتراضي. وعند التنازع لا بد من حسم الموقف بكلمة من القائد حتى لا يتهدم البناء، فالأسرة المسلمة لا تعرف الاستبداد بالرأي، ولا الظلم في المعاملة ولا الطاعة العمياء، بل هناك حقوق وواجبات؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بل الطاعة للشرع، فطاعة الزوجة لزوجها ليست لشخصه، بل للأوامر والقواعد والنظم التي بموجبها تم عقد الزواج، وطاعة الزوج ليست من قبيل المَنِّ أو العطف، بل من قبيل القيام بالواجب. فإذا ما فهمت المرأة المسلمة والزوج المسلم حدود هذه القوامة، أدى كل منهما واجبه تجاه صاحبه، والآيات الكريمة تذْكر أن الزوجة الصالحة مطيعة حافظة لمغيب زوجها في نفسها وماله، أما التي يبدو منها عوارض التمرد والعصيان؛ فإن الزوج -كما أوضحت الآية- يوجه إليها النصيحة، ويذِّكرها بحق الله عليها، ويبين لها ما في عصيانها من خطر يهدد حياتهما، وحياة أبنائهما، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة. فإن لم يُجْدِ الوعظ فالهجر في المضاجع، وهو عقوبة نفسية تتأدب بها المرأة، وليست عقوبة جسدية تحرمها من لذة الجسد بضعة أيام أو بضعة أسابيع، وإلا لكانت عقوبة للرجل أيضًا وهو درس قاسٍ يصيب المرأة في الصميم، فإذا لم يفلح الوعظ ولا الهجر فليس هناك إلا الضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويجعلها توفي له حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب المبرِّح، وهو الذي لا يكسر عظمًا ولا يُشِين جارحة، فإن المقصود منه الصلاح، فلا جَرَم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان.

يقول الإمام الشوكاني: "فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل. ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل؛ لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجة، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله، والاكتفاء بالتهديد أفضل؛ لأنه من أخلاق الكرماء، وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- منفرًا من الضرب: ((يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه)) ". فانظروا إلى هذا التوجيه النبوي الكريم، ومع هذا فإن الضرب الذي أباحه القرآن لا يتنافي مع المودة والرحمة؛ لأنه كما يقول صاحب (حقائق الإسلام): "لم ينفهما فيما هو أمس الأمور بالمودة والرحمة، وهو تربية البنين وتربية المتعلمين، وتخويل رب الأسرة حق التأديب بدلًا من أحوال كثيرة كلها غير صالح، وكلها غير معقول في شئون القوامة البيتية". فإما أن يكون لرب الأسرة هذا الحق في معظم الشئون البيتية، وإما أن يستغنى عن التأديب في الأسرة، أو يوكل التأديب فيها إلى دور الشرطة والقضاء، في كل كبيرة وصغيرة تعرض للزوجين على الرضا والغضب والجهر والنجوى، هذا أو يكون التأديب المسموح به أن ينصرم حبل الزواج، وأن ينهدم بناء البيوت على من فيها من الآباء والأمهات والبنين. فإذا اشتد النزاع واتسعت هوة الخلاف، ولم ينفع وعظ ولا هجر ولا ضرب، وفشلت كل الأساليب وقاربت الأسرة الهوة الخطرة، ووهَى وضعف حبل المودة أصبح من واجب المجتمع أن يتدخل؛ لِيَحُولَ بين سقوط هذا الحجر من بنائه الاجتماعي، ويتحمل هذا الواجب الحاكم الذي اختارته الأُمة، وعليه أن ينتدب لذلك حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهلها، في محاولة لإصلاح ما فسد،

كما قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35). يقول البيضاوي: "فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر، أو إصلاح ذات البين رجلًا وسطًا، يَصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، ولم يدع القرآن وسيلة إلا وسلكها للمحافظة على هذا الرباط، فرأى أن النشوز كما قد يكون من جانب الزوجة قد يكون -كما قلنا- من جانب الزوج أيضًا بأن يقل محادثتها ومؤانستها؛ وذلك لبعض الأسباب من طعن في سن أو دمامة، أو شيء في خَلق أو خُلق أو ملال، وطموح عين إلى أخرى، وما إلى ذلك، ولو ترك هذا ربما أدى إلى تشريد الأسرة وهدم بيت الزوجية". لذلك دعا القرآن الزوجة للتنازل عن بعض حقها في المبيت أو النفقة، فقال ما تلوناه من قبل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. نعم الصلح خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في البغضة بأنها الحالقة، يعني: حالقة الدين لا حالقة الشعر. ولعلنا نلمس دعوة القرآن للإحسان والتقوى في مثل هذا الأمر، وأولى الناس بالإحسان زوجة رضيت أن تتنازل عن حقها، وأحق الناس محافظة على مشاعرها امرأة ضعيفة، لم تجد بُدًّا من ترك ما لها على زوجها، فتقوى الله وخشيته تدفعان إلى مراعاة كل ذلك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35) وهو ختام للآية يحمل ترهيبًا شديدًا للأزواج الناشزين. ولهذا رأى المالكية أن القاضي إذا عرض عليه الأمر وعظ الزوج أولًا، فإن لم يفد أمره بهجره وإن لم يفد ضربه، وقالوا في الزوج بأنه يسجن.

هذه هي الوسائل التي وضعها رب العزة والجلال لإصلاح نشوز الرجل، ولإصلاح نشوز المرأة، لكن ما الرأي إذا استمر هذا النشوز، ولم تنتظم حياة هذين الزوجين، هل يمكن أن يستمر هؤلاء في حياة زوجية، ألا ترون أن هذا قد يؤدي إلى انحرافات خطيرة تهدد المجتمع في أساسه؟ وإذًا فليس هناك في تشريع الله إلا أن تقف هذه العلاقة مدة من الزمن؛ يراجع فيها كل منهما نفسه، وبعدها تستأنف حياة جديدة يسودها الصفاء والوئام، وهذا التوقف هو ما يعرف بالطلاق، وهو -كما ترون- علاج ناجع، شُرع لدفع الضرر عن الزوجين إذا استحال، أو صعبت المعيشة المشتركة بينهما، بحيث يصبح الفراق لازمًا وضرورة لا بد منها، وهذا العلاج لا يؤدي نتيجته المرجوة، إلا إذا تعاطاه المجتمع بالصورة التي أرشد إليها رب العزة سبحانه. وهذه الصورة هي ما شرعه فيه من تقييده بعدد معين، بعد أن كان عند العرب وغيرهم لا حد له، فلا يتجاوز تطليقتين متفرقتين، أما الثالثة فلا تحل بعدها الزوجة إلا أن تتزوج غير زوجها هذا. قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229). وقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} (البقرة: 229). والطلاق مقيد أيضًا بالزمن، فلا طلاق في الحيض، وبالوصف فلا يطلقها في طهر جامعها فيه. قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} (الطلاق: 1). ولا يعني هذا أن الطلاق لا يقع في الحيض، وأن الطلاق لا يقع في طهر جامعها فيه، إنما هو جاء على خلاف السنة، فهذا طلاق بدعي الذي وقع في الحيض والذي وقع في طهر جامعها فيه، تحسب طلقة، ولكنها مخالفة لهدي الله وهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم.

ومع هذه الحقيقة التي تجعل الرجل يقوم على حل عقدة الزواج، وهو واع لكل ما يترتب على ذلك من نتائج، قدر القرآن ما لعامل الزمن من أثر في تهدأة النفوس، وما لرؤية كل من الزوجين لصاحبه من دوافع المراجعة والاعتذار، لذلك جعل مدة قضاء العدة -وهي غالبًا ثلاثة أشهر- في منزل الزوجية لا خارجها. قال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق: 1). فإذا ما انتهت العدة ومرت هذه الأشهر، ولم يراجع الزوج زوجته، دل هذا على العداء مستحكم بينهما، ولا حيلة في الرجوع، وإلا كان الإمساك مضارة وعدوانًا، ولهذا نبه القرآن على ما في هذا الإمساك من ظلم الزوج لنفسه ولزوجته، وما فيه من اعتداء على حدود الله وشريعته، فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231). فإذا ما تم الطلاق عن اقتناع كامل بوجوب انتهاء الحياة الزوجية بقي الود والمعروف والإحسان، روابط تحيط بالمجتمع المسلم، ولزم الزوج دفع ما عليه من مؤخر الصداق، كما يدفع تعويضًا ماليًّا سماه القرآن بالمتعة، فقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 236). ولزم الزوج الإنفاق على الزوجة في أثناء الحمل، وعليه أن يدفع أجر إرضاع أبنائه إذا كان له أبناء في سن الرضاع، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق: 6).

وهذا هو التسريح بالمعروف الذي أمر به كتاب الله إذ قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (الطلاق: 2). وهو فراق تأخذ فيه الزوجة حقها كاملًا، محاطة بالعناية والرعاية دون تجريح أو إساءة؛ حتى لا يكون الطلاق معول هدم ينشر العداوة بين الأسر، ويفكك أواصر المجتمع، ومن حق الزوجة أن تجعل عصمة الزواج بيدها، وأن تشترط هذا في أثناء العقد، ولها أيضًا أن تطلب فسخ العقد إذا أبى زوجها تطليقها مضارة وتضييقًا، وهو ما يعرف بالخلع، فتفتدي نفسها بما أخذته منه من مال، كما قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229). وهذا هو الطريق الذي جعله كتاب الله منهجًا يقوم به مجتمع الإسلام، إذ جعل الطلاق حيلة مَن لا حيلة له، وعَدّه مِن أبغض الحلال إلى الله، ولعن الله كل ذواق مطلاق وكل مزواج مطلاق، وجعله بعد أن استنفد كل وسائل العلاج والإصلاح بين الزوجين كما رأينا، وحتى بعد أن وقع لم يجعله نهاية للحياة الزوجية، إنما اعتبره مؤقتًا موقوتًا بزمن، ووضع له من الشروط، وسَنّ له من طرق الترغيب في الرجوع عنه، وإزالة أسبابه، ما يجعله في أضيق الحدود. ولم يجعله للزوج وحده يتحكم في زوجته، إنما جعل لها هذا إن اشترطته وأقر لها نظام المخالعة حتى لا تنطوي القلوب على البغضاء والعداء. والطلاق بهذه الصفة علاج لأمراض المجتمعات، وميزة للشريعة الإسلامية. يقول بنتام في أصول الشرائع ساخرًا مِن حظر الطلاق: "إن القانون يتدخل بين

المتعاقدين في الزواج حال التعاقد، ويقول لهما: أنتما تقترنان لتكونا سعداء، فلتعلما أنكما تدخلان سجنًا سيحكم عليكما بابه، وتصم الآذان دونكما، وإن علا منكما الصياح واشتد بكما الألم، ولن أسمح بخروجكما ولو تقاتلتما بسلاح العداوة والبغضاء، لو وضع قانون للنهي عن فض الشركات، ورفع الوصايا، وعزل الوكيل، ومفارقة الرفيق، لصاح الناس أجمعون. إنها نهاية الظلم، والزوج رفيق ووصي ووكيل وشريك، وفوق كل هؤلاء ومع ذلك حكمت قوانين أكثر البلاد المتمدنة بأن الزواج أبدي. إنّ أقبح الأمور عدم انحلال ذلك الاتفاق؛ لأن الأمر بعدم الخروج من حالة أمر بعدم الدخول فيها". فما أعظم هذا الدين، وما أعظم ما شرع من هذا التشريع المحكم العظيم، الذي فيه سعادة بني الإنسان. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم.

الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم.

المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (أهمية القصة في القرآن الكريم) المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم، إلى يوم الدين، أما بعد: من البداية أود أن أضع أيديكم على الفرق بين كتابة بحث في قصص القرآن، وتناول هذا الموضوع من خلال التفسير الموضوعي. فالذي يكتب بحثًا في قصص القرآن يقسمه إلى فقرات متتالية، تتعلق كل فقرة بجانب من جوانب الموضوع، دون أن يلاحظ ما جاء في القرآن عن القصة، وكم ذكرت مادتها، وماذا يعني ورودها في كل موضع ذكرت فيه، وهذا هو التفسير الموضوعي، ومع أن الخيط بين المنهجين خيط دقيق، إلا أنني سأحاول أن ألتزم بمنهجية البحث في التفسير الموضوعي، ولهذا رأيت أن أقسم الموضوع من خلال آيات القرآن التي تتحدث عن القصة -وتذكر بعض قصص القرآن- إلى: الأول: المقصود بالقصة ومعنى أنها في القرآن الكريم. والحديث عن المراد بالقصة يعني: البحث في كتب اللغة لبيان ذلك، فماذا تقول كتب اللغة؟ إننا عادة نتناول ما جاء بها وفق تسلسلها الزمني، فنبدأ بمعجم (مقاييس اللغة) ثم (لسان العرب) ثم معجم (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب، وقد أذكر بعض ما جاء في (المعجم الوسيط) ونأخذ من هذه الكتب بعض ما فيها مع الاختصار بما يوضح المعنى المقصود. يقول ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): "قَص: القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القِصاص في الجراح، وذلك أنه يفعل به مثل فعله الأول فكأنه اقتص

أثره، ومن الباب القصة والقصص كل ذلك يُتتبع فيُذكر، وأما الصدر فهو القص وهو عندنا قياس الباب لأنه متساوي العظام، كأن كل عظم منها يتبع للآخر، ومن الباب أيضًا قصصت الشعر، وذلك أنك إذا قصصته فقد سويت بين كل شعرة وأختها، فصارت الواحدة كأنها تابعة للأخرى مساوية لها في طريقها". ويقول ابن منظور في (لسان العرب): "القصة: الأمر والحديث، واقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وفي حديث الرؤيا: "لا تقصها إلا على وادٍ"، أي: ودود، يقال: قصصت الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها، والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها". أما الراغب في مفرداته فيقول: "قص: القص تتبع الأثر، يقال: قصصت أثره، والقصص: الأثر. قال: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 64) {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (القصص: 11) والقصص: الأخبار المتتبعة. قال: {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آل عمران: 62) {فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} (يوسف: 111) {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} (القصص: 25) {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: 3) {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} (الأعراف: 7) {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (النمل: 76) {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} (الأعراف: 176) ". وما جاء في كتب اللغة كما ترون متقارب المعنى، وخلاصته أن القصة أحداث يتتبع من يذكرها حدثًا بعد حدث، كمن يتتبع أثر الأقدام حتى يصل إلى صاحبها، وهذا يحتاج إلى مهارة خاصة في علم الأثر. كما أن القصة يروي أحداثها من يرويها، وبحسب قدرة الراوي على تتبع الأحداث وعرضها يكون ما فيها من تشويق وإثارة، ويكون لها من الأثر في

تحقيق الأهداف التي ذكرت من أجلها القصة، وقصص القرآن ليست مجرد أحداث يرويها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرتب مقدماتها ونتائجها، إنما هي وحي العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا، لرسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهي الصدق بعينه لا مجال فيها لخيال، كما يفعل كتاب القصة ورواتها. ونحن حين نقول القصة في القرآن الكريم، لا يعني هذا العنوان تتبع ما جاء في القرآن من قصص، وعرض كل قصة بأحداثها، والوقوف أمام الدروس المستفادة منها، فقد ألفت في ذلك الكتب، ومن المؤلفين من كتب في قصص الأنبياء، ومنهم من كتب في قصص غير الأنبياء، كقصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الجنتين، ومنهم من جمع هذا أو ذاك في كتاب، ومنهم من أفرد كل قصة في كتيب وهكذا. ولكننا في مجال التفسير الموضوعي نعرض لتأصيل القصة في القرآن، ونبين أن ما ذكر في القرآن الكريم منها هو عين الحقيقة، ونوضح السبب في تكرار القصة في القرآن بين الإطناب والاختصار، ونستخلص بعض الدروس والعبر من ورود القصة في القرآن، ثم نقف أمام الآيات التي وردت فيها مادة القاف والصاد والصاد؛ لنرى كيف استعملها القرآن الكريم، ثم نعرض لبعض قصص القرآن بالدراسة، فنجمع الآيات الواردة في القصة، وندرسها مجتمعة دراسة موضوعية، فتبدو لنا مشرقة بالدروس النافعة والعظات البالغة، فماذا جاء في كتاب ربنا؟: وردت هذه المادة تسع وعشرون مرة، منها ما جاء في سورة "القصص" من قول أم موسى لابنتها: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 11) أي: تتبعي أخباره، وانظري إلى أين ذهب الصندوق الذي وضع فيه موسى، وألقي به في نهر النيل، وتتبع أثر موسى والبحث عن أخباره ليس من موضوعنا،

وقريب من هذا المعنى ما جاء في قصة موسى -عليه السلام- وفتاه وهما يبحثان عن الخضر، وقد أعطى الله موسى علامة يعرف بها مكان الخضر، وهذه العلامة تتمثل في حوت يحمله معه هو وفتاه في مِكْتل، وفي المكان الذي يفقدان فيه الحوت يكون الخضر فيه. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 60 - 64). أي: يتتبعان أثر سيرهما، حتى يصلا إلى المكان الذي كانا نائمين فيه، فلما وصلا إلى هذا المكان وجدا الخضر، وكان من أمر موسى معه ما ذكره الله في كتابه، فقوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قوله: {قَصَصًا} ليس المراد به القصة التي هي موضوع حديثنا، كما وردت كلمة القصاص في أربعة مواضع من القرآن، منها ثلاثة في البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة: 178)، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص} (البقرة: 194) وموضع في المائدة في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45). والقصاص كما هو واضح ليس هو القصة، وإن اشترك هو والذي قبله في أصل استعمال الكلمة، وهو تتبع الأثر للوصول إلى الغاية، بقيت لنا إذن أربع وعشرون آية، هي موضوع دراستنا في القصة في القرآن، فماذا في هذه الآيات من المعاني وماذا فيها من الدروس؟: هذا درس من قصة يوسف -عليه السلام- يقول الله فيه لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- في مطلع السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3).

فيقص الله على رسوله والمؤمنين معه قصة من أعظم وأحسن القصص، تتوالى أحداثها من بداية السورة، فتنتقل بك الآيات من حدث إلى حدث ومن مرحلة إلى مرحلة، في أسلوب معجز لا تشعر فيه بنَبْوة، ولا تحتاج القصة إلى أن تقسم إلى فصول ومشاهد، وإنما تنساب أحداثها كالماء العذب في جدوله رقراقًا صافيًا، إلى أن تصل إلى قبيل نهاية السورة في هذا الدعاء الخاشع من عبد الله ونبيه يوسف -عليه السلام- ذلكم حيث يقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101). وتعقيبًا على هذه القصة التي تفرغت السورة لعرضها، ولم تتحدث عن قصة أخرى، تأتي الدروس المستفادة والتي يوجزها القرآن في عشر آيات، بعد أن ذكر القصة في حوالي مائة آية، وفي بداية هذه الدروس إثبات أن هذا القرآن من عند الله، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو رسول الله حقًا. يقول تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102). وهذا هو الذي يعرف في وجوه إعجاز القرآن بالإعجاز الغيبي، أي: إخبار القرآن بأمور غيبية لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق إخبار الله لرسوله بها، ومنها أحداث قصة يوسف وما كان من أمره مع أبيه وإخوته إلى أن نجاه الله واصطفاه، وثاني هذه الدروس ما كان يحمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حب لبني الإنسان، وحرص على هدايتهم، وما كان يشعر به من حزن وألم؛ لعدم إيمانهم مع أنه جاء بالحق الذي لا يرفضه إلا معاند ومكابر. وقصة يوسف التي جاء بها الوحي معجزة، شأنها شأن آيات القرآن في ألفاظها وسردها وأحداثها، وما تحمله من دقائق الأخبار، وما تذكره من خلجات

القلوب التي لا اطلاع عليها إلا لعلام الغيوب، وهذا ما يعبر عنه قوله -عز وجل-: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103). فمع شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس، إلا أن الله كثيرًا ما يُذكِّر بأن مرد هذه الهداية له وحده فيقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) وعليه ألا يحزن لعدم إيمان من آمن، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) كما قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: 3، 4). ومعنى {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخلق، وكيف كان حريصًا كل الحرص على هدايتهم، ولكن حسبه أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأخلص النصيحة للناس. ودرس ثالث في التعقيب على قصة يوسف تلمحه في قول الله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104) فهذا يعني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس طالب دنيا، إنما يريد بدعوته أن يدل الناس على طريق ربهم، لا يطلب على ذلك أجرًا من أحد، إنما أجره عند الله، وهكذا كل الرسل، واقرءوا في ذلك في "الشعراء" ما قاله كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم السلام- فقد قال كل منهم لقومه هذه العبارة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 109). وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا أمره مولاه، فقال له: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سبأ: 47) وفي هذا كما ترون لوم وعتاب للمشركين الجاحدين؛ إذ كيف يأتيهم رسول يدعوهم إلى ربهم، لا يطلب

على هذا الجهد العظيم وهذا الأمر الجليل أجرًا مهما صغر، ومن أي لون كان هذا الأجر، ومع ذلك ترد عليه دعوته. وأمر آخر في دروس هذه الآية، وهو بشارة عظيمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، ذلكم هو إثبات أن دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليست خاصة بأهل مكة أو العرب أو الجزيرة العربية، إنما هي دعوة للعالمين كما قال سبحانه في التعقيب على القصة: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104) قال الله هذا لرسوله هنا في سورة "يوسف"، وقالها له في سورة "ص" وفي "التكوير" وفي سورة "القلم" قال له: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم: 52) وفي "الأنعام": {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90) وفي "الأنبياء": {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وفي مطلع "الفرقان": {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1). ولعلكم لاحظتم معي أن كل هذه السور التي ذكرت فيها كلمة "العالمين"، على أن "العالمين" حقل الدعوة الإسلامية، كل هذه سور مكية في وقت يطارد فيه المسلمون، إذ لا دولة لهم ولا سلطان، ومع ذلك يخبر الله رسوله أنه صاحب الرسالة العالمية، إذ كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس عامة. وبهذا تستطيعون أن تردوا على المستشرقين وأذنابهم، الذين ادعوا زورًا وبهتانًا أن محمدًا إذا قيل بأنه رسول، فإن الله قد أرسله إلى أهل مكة خاصة، ثم بدا له أن يوسع من مجال دعوته، فعرض نفسه على قبائل العرب، فلما وجد قبولًا عند الأوس والخزرج هاجر إليهم، وأخذ يحارب من حوله من قبائل العرب، فادعى أنه مرسل إلى كل العرب، ثم لما خضعت له الجزيرة العربية، وجاءته قبائلها في عام الوفود تعلن دخولها في الدين الجديد، عنّ له أن يراسل الملوك والأمراء خارج الجزيرة، وادعى أنه رسول إلى الناس جميعًا.

ولو أنصف هؤلاء وقرءوا بعض الآيات التي ذكرناها لخرست ألسنتهم، ولما تفوهوا بهذا البهتان، كيف وقد قال الله لرسوله في سورة "الأعراف"، وهي من القرآن الذي نزل بمكة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقال في سورة "سبأ" وهي أيضًا مكية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28). وتعرض الآيات إلى حال قريش وغفلتها عن آيات الله، وتهددهم بعذاب الله، وتأمر رسول الله أن يعلن لهم عن سبيله في الدعوة إلى الله، وتخوفهم بما صار إليه أمر الأمم من قبلهم، وتبين له أن العاقبة له بنصر الله وتأييده فتقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110) وتختم السورة بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111). وفي هذا الختام تطمين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيان للأهداف السامية لقصص القرآن، وحديثه عن الأمم السابقة، وما آل إليه أمرها حين كذبت المرسلين، وأن في ذلك عبرة عظيمة لمن يعتبر، والذي يعتبر هو صاحب العقل الراجح والفكر الصائب، أما من لم يعتبر فهو كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179). وأثبت الله صدق ما قصه من أحوال الأمم والأفراد، فبين أن ما ذكره من ذلك لا يمكن أن يكون حديثًا مختلقًا وملفقًا، جاء من نسج خيال قاص يحكي قصة، قد لا

قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن.

يكون لها من الواقع نصيب، وإنما هذا الذي ذكره ربنا جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة، وجاء تفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن وإذا كان هذا هو قطرة من بحر ما جاء في التعقيب على قصة يوسف، فهيا فلننتقل لنلتقط من جواهر القرآن في موضوع آخر، وفي جانب آخر في قصص القرآن الكريم، لعلكم تذكرون سورة تسمى بسورة "القصص"، أخذًا من قول الله تعالى في هذه السورة: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص: 25) عند هذا القول في السورة الكريمة هيا لنقف قليلًا لنرى موضع الآية في السورة، ولندرسها من خلال الآيات التي وردت في سياقها. وسورة القصص ثمانٍ وثمانون آية، تبدأ قصة موسى بعد الآية الثانية: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (القصص: 1، 2) ثم تبدأ في عرض قصة موسى -عليه السلام- وتستمر الآيات إلى الآية الثالثة والأربعين عند قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 43) ثم تأتي تعقيبات القرآن على هذه القصة لبيان ما فيها من دروس نافعة، إلى أن تختم السورة، وقريبًا من نهايتها بقصة قارون وما صار إليه أمره، وهو أيضًا من قوم موسى، والآيات التي تناولت موسى وقصته في هذه السورة، تعرض لما كان من ظلم فرعون لبني إسرائيل، وأن الله أراد أن يمن عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، وبدأت الآيات بكلماتها بل وبحروفها ترسم مشاهد قصة من قصص القرآن، وكأنك ترى صورة مجسمة متحركة لأشخاص وأبطال هذه القصة.

فهذه أم موسى في خوفها على رضيعها، تخشى من فرعون وجنده أن يعتدوا عليها، وأن يأخذوا وليدها، وأن يقتلوه لوهم كاذب ورؤيا خاطئة، ولكن الله ألقى في روعها أنها إذا خافت على وليدها هذا، فعليها أن تلقيه في اليم وألا تخاف وألا تحزن، وقد وعدها الله -سبحانه وتعالى- بأن يرد إليها وليدها ليكون هذا الوليد من المرسلين. وسارت أحداث القصة وجرى قدر الله بالذي كان في علمه، فهذا هو فرعون وجنده يلتقطون الصندوق الذي فيه هذا الوليد؛ ليكون هذا الوليد لهم عدوًا وحزنًا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: 8) وألقى الله محبة موسى في قلب امرأة فرعون فقالت: هذا قرة عين لي ولك، وأمرتهم ألا يقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا وهم لا يشعرون، وحين علمت أم موسى بما كان في الأمر أصبح فؤادها فارغًا، كما قال تعالى، حتى لقد كادت تبدي من شدة جزعها وخوفها على وليدها أن هذا الغلام هو ابنها، لكن الله ربط على قلبها لتكون من المؤمنين. وأوصت ابنتها أن تبحث وأن تتقصى أخبار هذا الطفل وأخبار موسى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 11) وجرى قدر الله -سبحانه وتعالى- بأن هذا الوليد، وقد جاءوا له بالمراضع من كل مكان، فلم يلتقم ثدي واحدة منهن فقالت البنية: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرد الله -سبحانه وتعالى- موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون. والقصة كما نرى تنتقل من مرحلة الطفولة، والتي تربى فيها موسى في بيته ومع أمه، ولكنه لما بلغ أشده واستوى كان في بيت فرعون، وقد آتى الله موسى حكمًا وعلمًا، وكذلك نجزي المحسنين، هو يعلم أنه من بني إسرائيل،

ويذكر القرآن أن موسى -عليه السلام- دخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته وهذا من عدوه، وأن الذي من شيعته قد استغاثه على الذي من عدوه، فوكز موسى هذا العدو فصادفت أجله فمات، فندم موسى على ما كان من الأمر وقال: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، واتجه إلى الله قائلًا: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، فأقسم بما أنعم الله عليه ألا يكون بعد ذلك ظهيرًا للمجرمين. وانتشر الخبر في المدينة ووصل إلى الفرعون، وأجمع القوم على قتل موسى، ولكن رجلًا صديقًا محبًا لموسى جاء إليه يسعى يقول له: يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج منها خفية خائفًا يترقب، يسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجيه من القوم الظالمين، وتوجه جهة مدين سائلًا الله أن يرشده إلى الطريق السديد: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص: 23 - 25). وصلنا إذًا إلى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} (القصص: 25) وكأنكم ترون معي وتنظرون بعيون قلوبكم إلى موسى -عليه السلام- وقد جاء إلى نبي الله شعيب وجلس معه مطمئنًا إليه، يذكر له ما كان من أمر فرعون مع بني إسرائيل من بداية عهدهم معه، إلى أن كان ما كان من أمر قَتْل ذكورهم واستحياء نسائهم، وما كان من أمر وصوله إلى قصر الفرعون وأنه تربى في هذا القصر، ثم كان من أمره أن قتل أحد هؤلاء الذين هم

من أعداء بني إسرائيل، وأجمع أمر مجلس فرعون على قتل موسى، فخرج خائفًا يترقب إلى أن وصل إلى هذا المكان، ورأى شعيب صدق هذا الشاب، وانبرت إحدى الفتاتين تقول لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 26) وهنا وقد انتهت أيام المحن وبدأت أيام المنن، فعاش موسى آمنًا مطمئنًا في كنف هذا الشيخ العظيم ووفى بما عاهد عليه. ولما قضى موسى الأجل وعاد بأهله إلى مصر ليرى أهله هناك، كان هذا الاختيار الإلهي العظيم للرسالة والنبوة، ونودي موسى من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وتذكر الآيات ما كان من أمر الله مع موسى، وأن الله أرسله لفرعون، وماذا كان من أمر فرعون حين جاءه موسى بالآيات البينات، وأن فرعون كما قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (القصص: 39، 40) فانظر أيها المشاهد ويا من له النظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أي: جعلنا فرعون وجنوده أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 42، 43). أردت أن ألتزم بكلمات القرآن في أغلب ما ذكرنا من هذه القصة؛ لنرى عظمة القرآن الكريم في سرده لأحداث قصصه، وأنه في أسلوبه المعجز لا يصل إلى شأوه أحد، ولا يستطيع أن يجاريه أحد، فهذا تنزيل من العليم الخبير من رب العالمين، يسوق الله هذا بيانًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين معه ليكون في هذا القصص العبرة والعظة، فماذا يمكن أن نلتقط من الدروس النافعة والعبر والعظات البليغة، فيما ذكر الله من أحداث هذه القصة في سورة "القصص".

أول ما نلتقطه هو ما ذكرناه في سورة "يوسف"، أن في هذا الإخبار دليلًا على أن محمدًا هو رسول الله حقًا، ذلكم حيث يقول الله له: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 44 - 46). فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن هناك ولم يشاهد ما حدث، فمن الذي أخبره؟ الذي أخبره هو الذي أوحى إليه بهذا القرآن، فهذا دليل على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغ عن ربه وأنه رسول الله حقًّا، وعلى طريقة القرآن بعد أن ساق هذا الدليل المقنع، والذي كان لا بد أن يسوقهم إلى الإيمان بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك يهددهم ويتوعدهم، وأنهم إن لم يستجيبوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم إنما يتبعون أهواءهم وهم ظلمة: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50). ويسلي الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن الهداية بيده -سبحانه وتعالى- فيقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) كما ذكر ذلك أيضًا في قصة يوسف -عليه السلام- وتسير الآيات تهدد وتتوعد، وتذكر جملة من الأدلة على أن الله هو الواحد الأحد، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، إلى آخر ما ذكر الله في هذه السورة الكريمة، وما فيها من دروس وما فيها من عظة. ذكر الله -عز وجل- في أواخر سورة "هود": {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (هود: 100، 101).

فهذه أنباء القرى يقصها الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكر له في سورة "هود" مجموعة من قصص القرآن العظيم، ذكر له قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب، وقصة موسى مع فرعون، ذكر له ذلك كله، وبين ما فيها من الدروس ومن العبر، ثم ختم هذا بقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}. فهذا هو ما قصه الله -سبحانه وتعالى، يبين أنه -جل وعلا- إذا أخذ القرى فإن أخذه كما يقول -جل وعلا- أليم شديد: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (هود: 103)، وتتواصل الآيات تذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يجب عليه من الصبر والثبات في موقف الإنكار والتكذيب، كما قال ربنا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود: 115) وتذكر له مرة أخرى أن الهداية بيد الله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 118، 119). ثم تقول له بأن ما يقصه عليه من أنباء الرسل إنما يسوق ذلك؛ تثبيتًا لفؤاده، وليعلم أنه منصور لا محالة، وأن ما معه هو الحق بعينه، وأن ما جاء به إنما هو ذكرى لمن عنده استعداد للإيمان: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120). وتتوعد المكذبين المعاندين وهي تقول: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود: 121 - 123) فما أعظم هذا القصص الذي جاء به كتاب الله!!.

اقرءوا مرة أخرى في مادة القصص القرآني، ما جاء في سورة "آل عمران" من قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} (آل عمران: 62، 63). والآية كما نرى تأتي تعقيبًا على ما كان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أهل الكتاب من نقاش في عيسى -عليه السلام- وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسوله أن يقول لهم ما ذكره ربنا -جل وعلا- في كثير من آيات القرآن، وأكد عليه هنا في سورة "آل عمران" ذلكم حيث يقول ربنا: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران: 58 - 60). ثم دعاهم إلى المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (آل عمران: 61) أي: فمن حاجك في عيسى -عليه السلام- وأن عيسى هو عبد الله ورسوله، {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) فدعاهم إلى المباهلة فنكصوا على أعقابهم، وعلموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادق فيما أخبر عن ربه، ولذلك قال ربنا تعقيبًا على هذه المباهلة، وما جاء من حديث القرآن عن آل عمران، وعما كان من أمر مريم، وعما كان من أمر حملها بعيسى -عليه السلام- وما آتاه الله من الآيات المبينات، وأنه جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة، يقول تعالى تعقيبًا على هذه القصة العظيمة: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آل عمران: 62). نعم؛ هذا قصص القرآن هو القصص الحق، لا مجال فيه لخيال ولا مجال فيه لكذب، ولا مجال فيه لافتراء، إنما هو وحي الله الذي أوحاه لنبيه؛ لتحقيق أغراض عظيمة وأهداف نبيلة، فيها بناء الإنسان وتثبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطمين قلبه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف.

الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف.

الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (قصة أصحاب الكهف) الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: الفرق بين تناول القصة وفق منهج التفسير الموضوعي، وتناولها وفق الفن القصصي، في عرض الشخصيات والأدوات والحبكة القصصية، وتناول الآيات التي وردت في القصة على طريقة التفسير التحليلي للآيات: فنحن في التفسير الموضوعي نجمع الآيات الواردة في القصة، وندرسها دراسة موضوعية، نستخلص الأحداث ونستنتج العبر والدروس، وقد تكون هذه الآيات متفرقة في القرآن الكريم بين الإطناب والإيجاز، كما ترى في قصص الأنبياء، من أمثال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهود وصالح وشعيب وغيرهم، وقد تكون الآيات غير متفرقة، إنما هي مذكورة في موضع واحد، من سورة من سور القرآن، كهذه القصص التي سنتناولها بإذن الله: قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وموسى والخضر، وما إلى ذلك. وهذا كما ترى يختلف عن إيراد القصة وفق الفن القصصي في تقسيمها إلى فصول ومشاهد، وشخصيات وعناصر تشويق، مما تراه فيما تقرأ من قصص كتبها أصحابها، مستقاة من قصص القرآن، أو من نسج الخيال، أو الواقع، بإضافة اللمسات الفنية، وما يتخيله الكاتب من كلام وحوار يجري على ألسنة أبطال القصة، أما التفسير التحليلي فهو هذا التفسير الذي يتناول الآيات في القرآن. ومن ذلك الآيات التي تحمل قصة يتناولها آية آية، يذكر أسباب النزول إن وجدت ومعاني الكلمات، والمعنى الإجمالي ثم يغوص في كل كلمة في الآية، يستخرج ما فيها من أحكام إن كانت الآية تتحدث عن حكم من الأحكام، كما يعرض لتعبيرات

قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر.

الآية وما فيها من جمال لغوي، وبيان لألوان الهداية والرشاد، وكل هذه الألوان قريبة من بعضها، ولكن التفسير الموضوعي يأتي في قمتها؛ لأن المفسر للقرآن تفسيرًا موضوعيًّا، قد يحتاج إلى عرض آية بما فيها من روعة التعبير، وما تحمله من دروس وعبر. وقد يعرض للقصة كما يعرض لها كتاب القصة، لكن القصص القرآني ليس فيه مجال لخيال، ولا استنطاق لشخصيات، ولا اختراع لحوارات، فكل شخصية يعرضها هي شخصية حقيقية، يعرفها الزمان والمكان، وكل كلمة تقال هي الصدق بعينه، لا مجال فيها لزيادة أو نقصان، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آل عمران: 62) وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111). قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر وعلى هذا سوف أبدأ بتوفيق الله في بيان قصة أصحاب الكهف، والتي بدأت في سورة "الكهف" في الآية التاسعة حيث يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) ولم ترد كلمة الكهف في القرآن إلا هنا في سورة "الكهف"، معرفة بأل في أربعة مواضع، ومضافة إلى ضمير من كانوا في الكهف في موضعين، أما كلمة الرقيم فلم تذكر أيضًا إلا هنا، وإن كانت قد وردت بصيغة اسم المفعول مرقوم مرتين في سورة المطففين في قول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 8، 9)، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 19، 20).

والكهف: غار في الجبل كغار حراء وغار ثور، إلا أن الكهف أكبر من الغار شيئًا، والرقيم: الكتاب، وكتاب مرقوم، أي: مكتوب فيه أسماؤهم. قال سعيد بن جبير: "الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف، والذي كتب ذلك هم من شاهدوا ما كان من أمر الفتية، أو من جاءوا بعد ذلك، فبقي هذا الأثر شاهد صدق على قدرة الله على بعث خلقه، وعلى ما كان من إخلاص هؤلاء الفتية، الذين فروا بدينهم إلى هذا الكهف". وللقرآن طريقته في عرض قصصه، فهو أحيانًا يوجزها ويلخصها لتكون بهذا الإيجاز أولًا، قبل بداية الحديث عن تفاصيلها درسًا مجملًا، يؤدي دوره في تثبيت الأهداف العالية التي ذكرت لها القصة، كما نشاهده في قصة أصحاب الكهف، وأحيانًا يذكر أولًا عاقبة القصة ومغزاها، ثم تبدأ القصة بعد ذلك من أولها وتسير بتفصيل خطواتها، وذلك كقصة موسى في سورة "القصص"، ومرة تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص، كما ترى في قصة مريم عند مولد عيسى -عليه السلام- وكذلك قصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس، فانظروا كيف بدأت القصة. هذا تلخيص موجز تقرؤه في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف: 9 - 12). في هذه الآيات الأربع يقول الله لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يتأتى له الخطاب، من يوم نزول هذه الآيات وإلى آخر الزمان، يقول -جل وعلا- متسائلًا: أم حسبت أن أصحاب الكهف

الذين لبثوا فيه ما لبثوا، فلطول بقائهم فيه سماهم الله أصحابًا للكهف، وهم كذلك أصحاب الرقيم، هذا اللوح المكتوب به أسماؤهم علامة على مكان وجودهم، وما كان من أمرهم، هل تظن وتتوهم وتحسب أن قصتهم، وما حدث من بقائهم في كهفهم مئات السنين، ثم ما كان من بعثهم، وما كان من موتهم بعد ذلك فكانوا آية عظيمة من آيات الله، تدل على قدرته على إحياء المخلوقات بعد موتها. لكن هذه الآية الباهرة هل تظن أنها أعجب الآيات وأعظمها؟ لا، هناك آيات كثيرة أعجب من ذلك، فانظر إلى ما حولك من السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما، وقل لي بربك من خلقهما وخلق ما فيهما، وسخر الشمس والقمر والنجوم والكواكب؟ وما إلى ذلك مما تراه في صفحة هذا الوجود، أليست هذه آيات عظيمة أعجب مما حدث لأصحاب الكهف؟ وقال العوفي عن ابن عباس: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) يقول: "الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم". وقال محمد بن إسحاق: "ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم". لكن البداية بهذا الاستفهام التقريري، تبين أن أمر أصحاب الكهف والرقيم آية من آيات الله، تدعو إلى الدهشة والعجب، وتثير في النفس ألوانًا من التساؤلات، حول كل موقف من مواقف هذه القصة، تساؤلات لا من باب الإنكار، وإنما من باب الإعظام والإكبار والإجلال لهؤلاء الفتية، وما أقدموا عليه وما حدث لهم، ثم يأتي الحديث عنهم في قوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف: 10) فكأنه لما ذكر أنهم آية عجيبة

من آيات الله، كان السؤال: وماذا كان من أمرهم؟ فجاءت الإجابة: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (الكهف: 10) أي: اذكر هذا الذي حدث لما فيه من العبرة والعظة، وقد سماهم ووصفهم بأنهم فتية، فدل ذلك على أنهم كانوا في مرحلة الشباب، فالتعبير بقوله: {أَوَى}، ما يرشدك إلى أن الكهف مع ظلمته وضيقه وبعده عن العمران، وخلوه من كل ألوان الترف والنعيم، كان بالنسبة لهم مأوى ضمهم فأحسوا فيه بالراحة والسكينة، وما إن استقروا فيه حتى توجهوا إلى ربهم بهذا الدعاء الضارع: ربنا آتنا من لدنك رحمة ترحمنا بها، وتحفظنا من كيد أعدائنا، وتلهمنا بها رشدنا وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، أي: اجعل عاقبتنا خير عاقبة فيها الخير كله. وقد كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تعلمون: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وتوفنا على الإسلام والإيمان وأنت راضٍ عنا)) فانظر إلى هذا الإيمان الذي استولى على قلوب هؤلاء الفتية، حتى جعلهم يتركون النعيم والمتع، ويلجئون إلى غار في الجبل، ويسألون الله أن يهب لهم رحمة من لدنه، وأن ييسر لهم أمرهم وأن يجعل عاقبتهم حميدة كريمة. ثم يقول تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (الكهف: 11) فدلت الفاء في قوله: {فَضَرَبْنَا}، على أنهم بمجرد دخولهم ناموا؛ لما بذلوه من جهد في الوصول إلى هذا المكان، الموحش البعيد عن العمران، وفي نومهم هذا ما يرشدك إلى ما وجدوه من السكينة وراحة النفس، لما كان منهم من انتصار على نفوسهم، وضعفها في مثل هذه المواقف، ولما ألهمهم الله من الهداية والتوفيق.

فلما ناموا ضرب الله على آذانهم، أي: ألقى الله عليهم النوم فناموا، ولكن نومهم طال أمده فلم يكن يومًا أو بعض يوم، إنما ناموا سنين عددًا، سيذكرها لنا بعد ذلك، وبعد مرور هذه السنين على نومهم بعثهم الله؛ ليظهر ما في علم الله من آياته، التي تتضح للمختلفين في أمرهم؛ حتى يعلموا من الذين أحصى مدة بقائهم في الكهف، وبالتالي من الذي ضرب عليهم النوم كل هذه السنوات، ثم من الذي أحياهم، ثم من الذي أماتهم، ومن فعل ذلك قادر على أن يبعثهم مرة أخرى، بل وقادر على أن يبعث عباده بعد موتهم. وبعد هذا الإيجاز في القصة تبدأ أحداثها بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) الآية، وإذا تأملت في الآية التي بدأت بها القصة، والتي لخصتُها ولخصتْها الآيات، ثم ما جاء من الآيات بعد ذلك، لوجدت أنها ترتبط بالمحور الذي تقوم عليه آيات هذه السورة، وتدور في فلك الموضوع الذي نزلت الآيات لشرحه وتوضيحه، ولعلمت أنها جاءت تحقق الهدف الذي تقصده الآيات، فليست المسألة مسألة قصة تروى أحداثها لتكون متعة للنفس، ومجالًا للتسلية، إنما هي قصة تساق لتحقيق أهداف وغايات عظيمة، جاءت آيات السورة كلها تؤكدها وتحققها. وفي مقدمة هذه الأهداف توحيد الله -عز وجل- وأن الإيمان هو القيمة العالية التي لا يعدلها شيء من حطام الدنيا، وأن الإنسان عليه ألا يتخبط في متاهات الباطل، إنما يجب عليه أن يقيم فكره وحياته على علم ويقين، لا على جهل وعمى، ولذلك بعد أن ذكر الله في الآيات الثمانية الأولى، التي تسبق قصة أصحاب الكهف، ما ذكر من ثنائه على رسوله بأنه عبده الذي أنزل عليه الكتاب، وأن هذا الرسول جاء مبشرًا ونذيرًا، وأن إنذاره لمن قالوا بأن الله اتخذ له ولدًا، ليكون

هذا الولد إلهًا يعبد معه أو من دونه، وهذا القول لا دليل عليه عندهم ولا عند آبائهم من قَبل. قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5). وهنا يواسي ربنا رسوله وهو يعاتبه على حزنه لعدم إيمانهم، حتى ليكاد يقتل نفسه حزنًا عليهم، فيذكر له أنه -جل وعلا- جعل ما على الأرض زينة لها، اختبارًا لمن على وجه الأرض؛ ليظهر من شكر ومن كفر، ثم تكون النهاية بانتهاء الحياة وبعث الناس والحساب، وهنا سوف يكون حساب الله لهؤلاء الجاحدين المنكرين، بعد هذه الآيات تأتي قصة أصحاب الكهف تقرر هذه المعاني وتؤكدها، فتذكر أن الفتية آمنوا بالله الواحد الأحد فقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: 14). وفي نهاية القصة تقرأ قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26) فهذا تقرير للوحدانية كما ترى إعلاء قدر الإيمان في أول آية في القصة: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف: 10) فقد تركوا النعيم وزينة الحياة الدنيا وأحسوا بالراحة في الكهف، واتجهوا لربهم يدعونه بهذا الدعاء، الذي يحمل الكثير من حسن الإقبال على الله. وهذا أيضًا ما تقرؤه في قول الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16)،

وفي مقابلة قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (النجم: 28) وأن العاقل لا ينطق ولا يعتقد إلا فيما قام عليه الدليل يأتي قوله في القصة: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الكهف: 15) ويأتي قوله فيمن يخوضون في عددهم: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22). وفي تفويض ما ليس للإنسان به علم إلى الله العليم الخبير، وهذا ما قاله الفتية حين استيقظوا من نومهم وتساءلوا كم لبثتم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) ففوضوا علم ذلك إلى الله، وما قاله أيضًا مَن تذاكروا أمر الفتية، واختلفوا في أسمائهم وأحوالهم، وكم لبثوا في كهفهم فقالوا: ربهم أعلم بهم، ويمكن أن يكون هذا ردًا من الله على هؤلاء المتنازعين في أمرهم، وأن البحث في ذلك لا فائدة فيه، فليفوضوا علم هذا إلى الله وحده. وفي آيات القصة النهي عن المراء والجدال فيما لا طائل تحته: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22) كما تقرأ تأكيدًا لقيمة إقامة فهم الإنسان ووقوفه على أرض الحقيقة، قبل أن يقول قولًا أو يعتقد اعتقادًا، تقرأ قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (الكهف: 26). أرأيتم كيف جاءت آيات قصة أصحاب الكهف، تؤكد جملة من الحقائق وردت بها الآيات الأولى في السورة، فكانت مدخلًا للقصة تدل على براعة الاستهلال في القرآن

الكريم، ويبين لماذا أعجز هذا القرآن الفصحاء والبلغاء من يوم نزوله، إلى وقت الناس هذا، وسوف يظل كذلك إلى آخر الزمان، والآن إلى قصة أصحاب الكهف، فماذا فيها من حسن العرض وتوفية الغرض، وماذا فيها من الدروس النافعة والعظات البالغة؟. إنها تُعرض في فصول متتابعة، لا على طريقة ما تراه في بناء القصة في غير القرآن، لكنها فصول ومراحل وفقرات تنساب في الوجدان، دون أن تلمح أثرًا لنبوة أو توقفًا أو انتقالًا من فصل إلى فصل، أو من مرحلة إلى مرحلة، إنما هي آيات تترى عذبة المعاني، حلوة الكلمات، في ألفاظها جمال اللفظ وروعته، تنتقل مع هذه الآيات في مراحلها، حتى توقفك في النهاية عند نهاية القصة، فتكشف لك اللثام عن نهاية كنت تنتظرها، وتتساءل عنها، فإذا بها تراها مشرقة في القلب والعقل، بكل ما في القصة من عبر ودروس، أراد الله أن نتعلمها وأن ننفعل بها لتكون لنا درسًا نافعًا وعظة بالغة. لقد بدأ الشوط الأول في القصة بالتشويق، كما ذكرنا في هذا السؤال الذي يربط مطلع القصة وما فيها من أحداث، بما سبق في السورة من آيات، ذلكم حيث يقول ربنا: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) فهناك ما هو أعجب من ذلك فيما تراه كما قلنا من الآيات البينات، التي أوحيناها إليك في طريقة إنزالها ومجيء المَلك بها، وما فيها من ألوان الإعجاز البلاغي والغيبي والعلمي والتاريخي، وما إلى ذلك مما يدل على أنها من لدن العليم الخبير، وأنك رسول الله الذي أرسله للناس بشيرًا ونذيرًا. وهناك ما هو أعظم في التعجب منه من أمر أصحاب الكهف والرقيم، فيما تشاهده من آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق، وبهذا التشويق تبدأ القصة،

فيلخصها القرآن في ثلاث آيات، يبين فيها أن فتية فروا إلى الله بدينهم، إلى كهف في جبل، وأنهم أخذوا في دعاء الله أن يهب لهم من عنده رحمة، وأن يهيئ لهم من أمره رشدًا، وأنهم ما إن دخلوا إلى الكهف حتى ناموا، فألقى الله النوم عليهم، وأبقاهم في نومهم سنين عددًا، سوف يكشف لنا في نهاية القصة عن عدد هذه السنين، وبعد هذه القرون التي كانوا فيها نيامًا، بعثهم الله من رقدتهم وأخبر بحقيقتهم، وبين مدة بقائهم في كهفهم، كما قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف: 12). يقول ابن عطية: "والظاهر من الآية أن الحزب الواحد الفتية، أي: ظنوا لبثهم قليلًا، والحزب الثاني أهل المدينة الذين بُعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين". وقصة أصحاب الكهف التي بدأت هذه البداية جاءت معجزة ظاهرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جملة ما أخبر به، مما لا سبيل لمعرفته إلا عن طريق الوحي، كما أن المناسبة التي ذكرت من أجلها تبين مدى ما كان عليه اليهود من مكر ودهاء وصد عن هذا الدين، مع أنهم يعلمون أنه حق، ويقرءون في التوراة والإنجيل أن هذا المبعوث هو رسول الله حقًّا، كما قال تعالى في المتقين بأنهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157). إذ ورد في سبب النزول أن قريشًا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة؛ ليسألوهم عن محمد وصفته، فإن اليهود في نظر قريش أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عند قريش، فماذا كان من أمر أحبار اليهود حين

سئلوا عن ذلك؟ قالوا: "سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي وإلا فهو مُتَقَوِّل". أي: يقول كلامًا كذبًا. فلما جاءا وأخبرا قريشًا بما قال لهما أحبار اليهود، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: ((أخبركم بذلك غدًا)) ولم يقل: إن شاء الله، فلبث الوحي خمسة عشر يومًا لا ينزل عليه بذلك، مما أثار الأقاويل كيف كان يقول: سأخبركم غدًا، وها هو ذا لم يأته خبر بذلك طوال هذه الأيام، ونزل القرآن بعد هذا الغياب يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24). وجاءه خبر ما سألوا عنه، فذكر الله في سورة "الكهف" قصة أصحاب الكهف، كما ذكر الرجل الطواف بالمشارق والمغارب وهو ذو القرنين، وذكر في الإسراء إجابة سؤالهم عن الروح فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85). فدل هذا التأخير في نزول الوحي على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يقول هذا القرآن من عنده، وإنما هو وحي الله إليه، كما دل نزول هذه الآيات بإجابة المشركين، على عناية الله برسوله، حيث رد كيد اليهود في نحورهم، وأحبط خطة قريش في محاولتها إحراج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان الواجب على من سألوا عن ذلك، وشاهدوا صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفيئوا للحق، وأن يعلنوا اعترافهم به، وأن يكونوا من حماته والمصدقين به، ولكنهم لم يسألوا ليؤمنوا، وإنما سألوا كبرًا وعنادًا، فلم تنشرح صدورهم للحق وظلوا في غيهم وكفرهم سائرين.

وتبدأ القصة بعد هذه المقدمة، بكلمات تنبئ عن الحقيقة سافرة مضيئة، كالشمس في رابعة النهار، فيقول عز من قائل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) فدل قوله: {نَحْنُ}، وقوله: {نَقُصُّ}، بنون المعظم لنفسه، على أن الذي يذكر ذلك هو الله العظيم، المتصف بكل صفات الجلال والكمال، فما يخبر به منبثق من باب العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وفي توجيه الخطاب من الله لرسوله في قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} (يوسف: 3) إيناس له وعناية به وتطمين لقلبه. وبخاصة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في مكة لا دولة له ولا سلطان، كان هو وأصحابه يلقون العنت والإيذاء من كفار قريش، وكان -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه ممنوعين من رد هذا الإيذاء ولو بكلمة، فكانوا وإمامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حاجة إلى هذا التطمين وذلك الإيناس. أما قوله: {نَبَأَهُمْ}، فهو دليل على أن هذا ليس مجرد خبر يقال، إنما هو نبأ عظيم وقصة فيها الكثير من الدروس النافعة، ومما يضيف إلى ما سيذكره ربنا من نبئهم قوله: بالحق، فالحق لُحْمَته وسُدَاه وبدايته ونهايته، كل كلمة يقولها سبحانه صادرة من جناب الحق، لا مجال فيها لتزوير أو تلفيق أو كذب، أو أخبار وأقوال مِن نسج الخيال، كما قال ربنا: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105) وكما قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام: 57). فما أعظم هذه البداية، التي تجعلك تلقي السمع لما سيقصه الحق -جل وعلا- من نبأ هؤلاء الفتية، وبدأت القصة وما زلنا في شوطها الأول وبدايتها، فتصف هؤلاء بأنهم فتية، وقد سبق في مطلع القصة هذا الوصف في قوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (الكهف: 10) وقد تبين لنا من هذا الوصف أنهم شباب في سن الفتوة والقوة، وهذا يرشدنا إلى أن الشباب أقرب إلى التغيير والتحول،

بخلاف الطاعنين في السن الذين ألفوا ما هم عليه، ويصعب تغييرهم إلى الأحسن أو إلى طريق الرشاد، مما ينبه الدعاة إلى توجيه همتهم إلى الشباب، فهم الذين يستقبلون الدعوة بالاستجابة والإيمان بها، وعلى سواعدهم تبنى الأمم وتنهض الشعوب. وقد وصف الله هؤلاء الفتية بأنهم آمنوا بربهم، وأن الله بفضله زادهم هدى، ولكم تشعرون معي بما في اختيار لفظ الربوبية، وإضافتها لضميرهم في قوله: "آمنوا بربهم"، من إحساس هؤلاء الفتية بربوبية الله لهم، والربوبية تعني كما تعلمون: العطاء بكل ألوانه، وفي مقدمة عطاء الله هدايته وتوفيقه، وقد كان لهم من ذلك النصيب الأوفر، وهذا ما يوحي به إسناد زيادة الهدى لله بأسلوب نون العظمة، وتنكير كلمة "هدى" التي يفيد التعظيم والتكثير، وأنه هدى لا يُقادَر قدره، إذ بلغ من العظمة منتهاها ومن الخيرات أعلاها. وفي إطلاق الهدى ما يرشد إلى إحاطة هداية الله لهم بكل أمورهم وحياتهم، وأمر آخر في قصة هؤلاء هو أن الله قال: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 14) والربط على القلوب تصوير لتوثق عرى الإيمان في قلوبهم، وكأن الإيمان بالله حين أودعه الله في قلوبهم ربط عليه برباط محكم، فلا سبيل لحله وإخراج الإيمان من هذه القلوب، وكان هذا الربط على قلوبهم في موقف يحتاجون فيه إليه، إنهم حين نما خبرهم في المدينة استدعاهم الملك دقيانوس، وكان ملكًا جبارًا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فسألهم: من ربكم؟ قالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الكهف: 15).

فأمهلهم مدة ليراجعوا أنفسهم، فتمكنوا من الفرار، وساروا في الجبال بعيدًا عن هذه المدينة، وما فيها من كفر وضلال، إلى أن وجدوا هذا الكهف فدخلوا فيه، وكان من أمرهم ما كان، ألا ترون هذا الموقف الشجاع لهؤلاء الفتية، لم يكتموا إيمانهم ولم يجاملوا الملك فيما هو فيه من عبادة غير الله، إنما أعلنوها صيحة مدوية أمام الملك، وحوله حاشيته وجنده وأتباعه، من الذي يطيق ذلك إلا الأفذاذ من الرجال، الذين استولى الإيمان بالله الواحد الأحد على أفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم، فلم يبالوا مَلكًا ولا مُلكًا ولا سلطانًا ولاة قوة من قوى الأرض، مهما عتت وبغت. وفي قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 14) إحساس عظيم بربوبية الله لهم وعظيم عطائه إليهم، وهيمنته وتصريفه وحده لأمورهم، وأن ربهم الذي عرفوه فعبدوه هو رب السموات والأرض، فجميع ما فيها ومن فيها، بل السموات نفسها والأرض نفسها ملك له وحده، ملكًا وتصريفًا وتدبيرًا، وما دامت هذه ربوبيته لنا وللسموات والأرض، فلن ندعوا من دونه إلهًا، فوصلوا بهذا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية، والتي هي محل النزاع بين الرسل وأممهم عبر مراحل التاريخ، فكثير من الأمم يعترفون بالله ربًّا خالقًا رازقًا، ولكنهم لا يفيئون له بالعبودية والطاعة والمحبة، فيشركون معه أو يعبدون من دونه آلهة أخرى لا تضر ولا تنفع. وهذا الذي كانت عليه أمم الأرض في الفصل بين الربوبية والألوهية، مخالف للعقل والواقع، ومن يفعله فقد اشتط في الحكم، وبنى القضية على غير أساس، ولهذا قال هؤلاء الفتية: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: 14) ثم قالوا للملك: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الكهف: 15) فبينوا للملك

وحاشيته بأن قومهم قد أشركوا بالله آلهة لا تستحق العبادة، وأن هذا الذي فعلوه لا يستطيعون أن يأتوا بدليل واحد على صحته، وبالتالي فهم قد ظلموا أنفسهم، وظلموا خالقهم حين عبدوا معه آلهة أخرى لا دليل عليها، ولهذا قالوا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الأنعام: 144) وكم في هذا التعبير القرآني في القصة من أسرار لا يتسع الوقت لبيانها. وخرجوا من ساحة الملك وأعوانه للمهلة التي أعطاهم الملك ليراجعوا أنفسهم، فقال بعضهم لبعض: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16) فتواصوا فيما بينهم أن يخرجوا من مدينتهم، بكل ما فيها من البهجة والأنس، إلى حيث لا يعرفهم أحد، بأن يأووا إلى الكهف، وكأن هذا الكهف كان معروفًا لهم من قبل، يعرفون موقعه وأنه في مكان لا يصل إليه أحد، فلن يعرف أحد مكانه، وقد أحسوا قبل أن يصلوا إليه ببرد قرارهم هذا، وسرت نسمات السعادة في جوانحهم، وقالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16). فالكهف على وحشته وضيقه، وخلوه من كل أسباب الراحة، تنتشر في جنباته رحمات الله، فيشعرون بها، وكم هناك ممن يسكن في القصور والأبراج العالية، فلا تغنيه عما هو فيه من هموم، فيظل ليله ساهرًا لا تطرف له عين، في سهاد وأرق وتعب، وكأن هذا القصر بغرفه الفسيحة وصالاته الواسعة سجن لا يطيق البقاء فيه، وكم من أناس يعيشون في الأكواخ والبيوت الفقيرة، التي خلت من كل متاع، تراهم ينامون الليل ملء جفونهم، وهم راضون عما قسم الله لهم. وفي التعبير بالفعل المضارع في "ينشر" و"يهيئ"، دليل على التجدد والحدوث، وأن الله سينشر لهم رحمته في الحال والمآل، وأنه سيهيئ لهم من

أمرهم مرفقًا، أي: أمرًا فيه الرفق بهم، والعناية بأمرهم حالًا ومآلًا، فهو رجاء منهم وثقة في فضل الله لهم وعليهم، لما كان منهم من إخلاص له وعبودية له ومفارقة لقومهم. وإلى هنا تنتقل القصة إلى مشهد آخر، بعد أن تترك مساحة للعقل ليتدبر ويتساءل: ماذا كان من أمرهم؟ فيتصور أنهم لما قالوا ذلك وعزموا عليه، ولم تكن أمامهم فرصة للبقاء في المدينة، وهم على دينهم دين التوحيد لله رب العالمين، وأن الملك قد أمهلهم فترة ليرى ماذا سيصنعون، لا بد لهم إذًا من تنفيذ قرارهم على وجه السرعة حتى لا ينالهم سوء، فخرجوا ووصلوا إلى الكهف، ويبدو أن المسافة بين المدينة والكهف كانت شاسعة، فوصلوا إليه مجهدين، وما إن مست جنوبهم الأرض في الكهف حتى ضرب الله النوم عليهم، فعند ذلك تترك القصة المجال لكل هذه المشاهد لتصورهم في كهفهم وهم رقود، يغطون في نومهم، فتقول: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} (الكهف: 17) الآية والتي بعدها. وتعجز آلات التصوير وفنانو الإخراج عن تصوير هذا المشهد، وإخراجه بهذه الطريقة الفذة التي صورها القرآن وأخرجها، فالآيتان تخاطب كل من يتأتى له الخطاب، وكأنها تضع الإنسان أي إنسان في كل زمان ومكان، أمام هذا المشهد، فتتجه بالخطاب إليه وتقول: {وَتَرَى الشَّمْسَ} (الكهف: 17) أي: إذا كنت حاضرًا عند هذا المكان، فإنك ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه، فباب الكهف كان مفتوحًا إلى جهة الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس لم يكن يصل إلى داخل الكهف، إنما يصل إليه الهواء العليل، ذلك الذي كان دليل قدرة لله -سبحانه وتعالى، فذلك آية من آيات الله؛ إذ

حفظ أجسامهم وثيابهم ومناظرهم من البلى والتعفن كل هذه القرون، فسبحان الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ويقال بأن الشمس إذا طلعت منع الله ضوءها من الوقوع عليهم، وكذلك وقت الغروب، فكان هذا آية من آيات الله، وتعليقًا على هذا الجزء من المشهد يقرر الله أن ذلك آية من آياته، كما يقرر أن الهداية بيده، فكما هدى هؤلاء الفتية إلى طريقه، يهدي من يشاء من عباده، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. ثم ينتقل المشهد لتصويرهم في كهفهم، بأنك لو رأيتهم ونظرت إليهم، يخيل إليك أنهم متيقظون، فقد قيل بأن عيونهم كانت مفتوحة ولم تنطبق؛ لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، ولكن الإله القادر على حفظ أجسادهم وملابسهم وهيئاتهم، قادر على حفظ أعينهم وإن كانت غير مفتوحة. وزيادة في حفظهم يقول: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} (الكهف: 18) لئلا تؤثر الأرض في أجسامهم، وقد أضاف للمشهد صورة لكلب كان قد تبعهم، فنام في فناء الكهف كأنه على بابه كما تنام الكلاب: {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (الكهف: 18) فقد جعل الله هذا المنظر مشهدًا لأناس نائمين أعينهم مفتوحة، وكلبهم ماد وباسط ذراعيه بمدخل الكهف؛ ليكون هذا المنظر سببًا في رد وصد كل من حاول أن يقتحم هذا المكان، ليعرف ما فيه حتى يتم الله أمره. وينتقل المشهد إلى مشهد آخر، ويترك القرآن مساحة للمشاهدين ليتساءلوا: ماذا كان من أمر هؤلاء، الذين ضرب الله النوم عليهم فناموا على هذه الهيئة المرعبة المخيفة، هل ما زالوا إلى الآن كذلك؟ هنا يخبرنا الله عما كان من أمرهم، لقد رد

الله أرواحهم إليهم شأن النائم إذا استيقظ، والله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر: 42). وتصور كلمات الآيتين في هذا المشهد حالهم بعد أن قاموا من نومهم، وأنهم أخذوا يتساءلون فيما بينهم: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (الكهف: 19) وهنا يبدو أثر الإيمان في اهتمام أصحابه بالمفيد، وترك ما لا دليل عليه لله وحده، ولذلك قالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) ولما استيقظوا وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الطعام، وكان معهم بعض المال الذي حملوه معهم إلى الكهف، فطلبوا أن يذهب واحد منهم بما معه من المال: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 19، 20). وذهب هذا الذي أرسلوه ليشتري لهم طعامًا، ولكن أمره قد انكشف وأُخذ إلى الملك، فذكر له ما كان من أمرهم، وعلم هذا الرسول أن الملك قد تغير أمره، ولم يعد هو الملك الكافر، إنما هذا ملك مسلم، فذهب الملك ومعه حاشيته إلى مكان الكهف، ورأوا هؤلاء الفتية، ولما رأى هؤلاء الفتية ورآهم من معه، ألقى الله سبحانه وتعالى مرة أخرى النوم على هؤلاء الفتية، ولكن هذا النوم هذه المرة ليس كسابقه، إنما هو موتهم وقبض أرواحهم، كما يموت كل الناس، ولذلك قال ربنا: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} (الكهف: 21) فقد اختلفوا في أمر هؤلاء الفتية، فوصل قرارهم بأن يقيموا على هؤلاء مسجدًا يكون علامة على وجودهم. وهنا تكون قد انتهت القصة، ولكن الله يتبعها ببعض الدروس والعبر، فيذكر أقاويل الناس في عدد هؤلاء الفتية، فيقول: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ

وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} (الكهف: 22) فرجح -سبحانه وتعالى- أن عدد هؤلاء كانوا سبعة، وأوصى رسوله -عليه الصلاة والسلام- وقال له: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا؛ لأن معرفة هذا العدد لا فائدة منه، كما يوجه رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يجعل كل شيء مرهونًا بمشيئة الله، فقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24). ثم بين لنا مدة مكثهم في كهفهم فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (الكهف: 25) فجمع بين التقدير بالسنين القمرية والسنين الشمسية، ومع ذلك قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26). هذه هي قصة أصحاب الكهف ملخصة موجزة. والحمد لله رب العالمين.

الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين.

الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين.

موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (قصة صاحب الجنتين) موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فمن هو صاحب الجنتين؟ وماذا كان من أمره؟ وكيف كانت بدايته ونهايته؟: قبل أن نجيب عن هذه التساؤلات، هيا لنعرف موقع هذه القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها، ففي ذلك ما يكشف سر ذكر الله لها في هذا الموضع من السورة، في الآيات السابقة يقرر الله قيمة عالية من قيم الإيمان قولًا وفعلًا وسلوكًا؛ لتكون هذه القيمة منارة يهتدي بها أهل الإسلام، بل منهجًا لا تصعد الإنسانية لغيره. هذه القيمة هي الإيمان الذي يتمثل في إنسان مؤمن، بكل ما يتطلبه الإيمان من الكمالات، وما يعنيه هذا الإيمان في الإنسان المؤمن، بالنسبة لما يمتلكه الآخرون من متاع ومال، وما يتبع ذلك من رياش وفراش، وكلمة مسموعة ومكانة مرموقة، إن الإيمان والإنسان المؤمن هو الذي تصلح به الحياة، وهل تصلح الحياة بغير المساواة والعدالة والتواضع والحياء والخلق الكريم، وهي وأمثالها روافد الإيمان ومظهره المشرق في محيا أهل الإيمان، وهل يمكن أن تنتظم حياة الناس بالعنصرية والعصبية، والتعالي والتفاخر بالأحساب والأنساب والأموال والأولاد، وبخس الآخرين حقهم، في حياة كريمة يشعرون فيها بآدميتهم. الآيات التي جاءت بعد قصة أصحاب الكهف تحمل هذه المعاني في وضوح، فبعد أن ختم الله قصة أصحاب الكهف بتقرير ما اتصف به من العلم بغيب السموات والأرض، وأنه السميع البصير {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (الكهف: 26). وأن من أشركوا به لا ناصر لهم من الله ولا معين، وأن الحكم في هذه الحياة

وغيرها له وحده، ولا يشرك في حكمه أحدًا، أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يواصل تلاوته لما أوحاه إليه من كتاب ربه، إذ لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ناصرًا ولا وليًّا إن أنت بدلت كلماته، وفي هذا إشعار بحرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ وحي الله دون تحريف أو تبديل. وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه الرسالة وأدى الأمانة، فوصل إلينا هذا القرآن محفوظًا بحفظ الله، ومن جملة الأسباب التي أدت إلى حفظه اختيار الله لأناس حببهم فيه، واصطفاهم لصحبة نبيه، فكانوا نور الحياة وبهجتها، وحملة كتاب الله وقراءه، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أغنياء الصحابة كأبي بكر وعثمان وابن عوف وغيرهم، ومنهم الفقراء كابن مسعود وبلال والكثير من الصحابة من العبيد والموالي، ومن لا مال لهم، وكلا الفريقين من الأغنياء والفقراء سواء في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجمعهم أخوة الإيمان، ويضمهم هدف واحد هو نصرة هذا الدين، والعمل على حفظ كتاب الله ونشر مبادئه. لكن المشركين لهم مقاييس مختلفة، فمقاييسهم قائمة على أساس من المال والجاه، فأصحاب المال والجاه أهل الحظوة والقرب والفضل والمكانة، قولهم مسموع وكلمتهم مطاعة، وغيرهم من الفقراء ومن لا مال لهم ولا جاه خدم لهم وعبيد لإحسانهم، ومكانهم خلف الصفوف، ولا يحق لهم أن يجلسوا في مجلس الأثرياء وأصحاب الأموال، وبهذه المقاييس الخاطئة حكموا على أقدار الناس ومنزلتهم، فكانت العنصرية البغيضة سببًا للفرقة وبابًا للأحقاد والبغض، وما بهذا كما قلنا تستقيم حياة الناس، ولا بهذا تنهض الأمم والشعوب. وانطلاقًا من هذا الفهم لأقدار الناس ومكانتهم، طلب المشركون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخصص لهم مجلسًا يجلسون فيه معه، لا يجلس فيه أحد من هؤلاء الفقراء من

الصحابة؛ إذ لا يليق بسادة القوم أن يجلس معهم هؤلاء الضعاف والفقراء، مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل الوحي يرسي حقيقة الحياة بين الناس، ويبين أن القيمة الحقيقية للرجال في إيمانهم لا في أموالهم، ولا فيما ملكت أيديهم، وأن الإسلام ليس في حاجة إلى متكبرين ومتجبرين، يظنون أن قيمة الإنسان فيما يملك من حطام الدنيا، لا فيما استقر في وجدانه من معرفة الله، والعمل بكتابه وسنة نبيه. وجاء التوجيه الإلهي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف: 28 - 31). فهذا الحق الذي جاء به الوحي أبلج، فيه الرشد والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وقد أعطى الله الإنسان حرية الاختيار فيما يمكن الاختيار فيه، ومن ذلك اختياره للكفر والإيمان والحق والباطل والهدى والضلال، فأيهما يختار، لكن فليعلم أنه محاسب على اختياره، ولما كان المقام مقام إنذار وتخويف من الكفر وعاقبته، ذكر عاقبة من كفر أولًا، وسمى من كفر ظالمًا، وبيّن ما ينتظر هذا الظالم من سوء العذاب، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}.

ثم ثنى بذكر جزاء من اختار الهدى ودين الحق، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} إلى قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}. وتأكيدًا لهذه الحقائق وتوضيحًا لها في صورة شاخصة، أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب للمشركين وغيرهم مثلًا من واقع الحياة، يبين عاقبة من غره ماله وأعماه سلطانه، ولم يستجب لنصح الناصحين، ويذكر المثل اعتزاز المؤمن بدينه، واستعلاءه على ملذات الحياة وبهجتها بإيمانه. وكانت هذه القصة -قصة صاحب الجنتين- هي المثل الذي ضربه الله لهؤلاء، فقال عز من قائل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (الكهف: 32 - 44). لو تأملتم فيما استمعتم إليه من الآيات، لوجدتم أن القصة سارت في أشواطها دون أن تشعرك بالانتقال من شوط إلى شوط، أو فصل إلى فصل، إنما تنساب أحداثها حتى تختم

بنتيجتها: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} وتأتي الدروس التابعة والنابعة منها في آيتين في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 45) الآية وما بعدها. والشوط الأول يبدأ من: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} (الكهف: 32) إلى قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: 34) فيصور لنا الجنتين هذا التصوير الرائع، والشوط الثاني من قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} (الكهف: 35) إلى قوله: {مُنْقَلَبًا} (الكهف: 36) ليرسم لنا صورة لهذا الرجل المغرور المعجب بماله وجنتيه. أما الشوط الثالث فيبدأ من قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} (الكهف: 37) إلى قوله: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} (الكهف: 41) فيذكر فيه المولى سبحانه وتعالى ما دار من حوار بين هذا الرجل المتكبر وصاحبه الفقير، وما كان من نصح هذا الفقير لذلك الغني الجاحد، وفي الشوط الرابع والذي يبدأ من: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} (الكهف: 42) إلى نهاية القصة، بيان لما انتهى إليه أمر هذا الرجل وجنتيه، وما في ذلك من الدروس النافعة والعظات البالغة. ولكم تقف مشدوهًا تستولي آيات القرآن في القصة على أحاسيسك ومشاعرك، وأنت تتأمل أحداثها وكيف ساقها القرآن، فجلى هذه الأحداث، وانتقل بك من حدث إلى حدث كما قلنا في سلاسة ويسر، وبقي القرآن في آياته تمثل كل ثلاث آيات منه معجزة، يتحدى الله بها الثقلين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). فكم هناك من معجزات، وعلى عادة القرآن في قصصه لا يذكر أسماء، ولا يهتم بمكان القصة وأين جرت أحداثها، لا يذكر مِن هذا وذاك إلا ما دعت إليه الضرورة، وكان في ذكره

قصة صاحب الجنتين.

فائدة؛ لأن المقصود هو الحدث نفسه وما فيه من العبرة والدروس؛ لأن هذه الدروس لن تتغير بتغير الأسماء والأماكن، مع أن أصحاب القصة قد يكونون معروفين بأسمائهم، وأين كانت أحداث قصتهم، كما هو الواقع في القصة التي نتابع أحداثها. قصة صاحب الجنتين ولنا أن نتساءل: من هو صاحب الجنتين، ومن هو صاحبه، وأين كان ذلك، وماذا حدث؟: صاحب الجنتين رجل كان في بني إسرائيل اسمه باراطوس، وكان كافرًا وله أخ مؤمن اسمه يهوذا، وقيل: إن الأخوين هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} (الصافات: 51) الآيات، ويقال بأن الأخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فأخذ كل واحد منهما النصف، فاشترى الكافر أرضًا وبنى دارًا وتزوج، وكان له خدم ونخيل وأعناب، أما المؤمن فتصدق بماله وأصابته فاقة، فجاء إلى أخيه يطلب منه أن يساعده، فطرده ووبخه ودار بينهما الحوار الذي ذكرته الآيات. وقيل: نزلت في أخوين من بني مخزوم؛ الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل، وكان كافرًا، وأبا سلمة عبد الله بن الأسود وكان مؤمنًا. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل، أنفق أحدهما ماله في سبيل الله، وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله. أما مكان ما حدث فقد ذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه (في عجائب البلاد) أن بحيرة تنيس كانت موضع هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع

أحدهما نصيبه من الآخر، وأنفقه في طاعة الله حتى عيّره الآخر، وجرت بينهما هذه المحاورة. قال: "فأغرقها الله في ليلة، وإياهما عني الله بهذه الآيات". لا يعني هذا أن القرآن يحث على أن يتصدق المسلم بكل ماله، ويبقى فقيرًا يمد يده للناس، بل ويترك ورثته فقراء يستجدون الصدقة من الآخرين، ولا يفهم من ذلك أن الإسلام ينفر من الحصول على الأموال وتنميتها، ويريد من أتباعه الخروج من الدنيا لا مال لهم ولا زوجة ولا أبناء، فإن هذا معناه خراب الدنيا وهدم حضارتها، والقضاء على رونقها وبهجتها، وما جاء به كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ضد ذلك، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص حين أراد -وهو على فراش مرضه- أن يتصدق بماله، فرفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك وما زال به حتى وافقه على الثلث، ومع ذلك قال له: ((الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)). ولو لم يكن للمؤمن مال كيف يطالَب بزكاة وصدقات، وكيف يجهز جند الله، ومن الذي يبني ويعمر، ومن الذي تكون له الأرض يخرج منها ما يقيت الناس وينفعهم، ومن الذي يبني المصانع والمتاجر والبيوت ويعمر الأرض؟! إنما يريد ربنا أن يعمرها من يعمرها باسمه ومن أجله، وأن يؤدي فيها حق الله، وألا يستطيل بما ملك على عباد الله، وألا يدعوه ماله إلى التخلق بالأخلاق الذميمة، كالكبر والبطر والبخل والشح، وما إلى ذلك من أخلاق فاسدة، فإن امتلك الدنيا فأدى فيها حق مولاه، فهو جدير بها، ونعم المال الصالح للرجل الصالح. والقصة التي معنا تعبر عن هذه الحقيقة، وتبين ما أدى إليه المال في حياة واحد من الناس، مِن الكفر بالله والتعالي على خلق الله، وقياس الأمور بمقياس غير صحيح، وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، الذين أنِفوا أن يجلسوا مع فقراء المسلمين

وضعفائهم، واشترطوا للدخول في الإسلام أن يطرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مجلسه هؤلاء الضعفاء ليجلسوا معه وليستمعوا إلى قوله، وكأن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مال إلى ذلك. وربما رأى أن يذكر لهؤلاء الفقراء أن مصلحة الدعوة في ذلك، وأنه يطلب منهم أن يتنحوا عن المجلس ليخلوا للسادة من قريش، فإن دخلوا في الإسلام كانوا قوة له وسندًا لدعوته، وحينذاك سوف يعرفون ويؤمنون بمبادئ الإسلام، ومنها أنه دين المساواة، فيعود هؤلاء الضعاف ليجلسوا مع هؤلاء السادة الأغنياء في مجلس، يضمهم فيه أخوة الإيمان والإسلام، ولكن الله ثبت رسوله وقال له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) الآية، وقال له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52) الآية. فكان حال هؤلاء الكفار من مشركي قريش شبيهًا بحال صاحب الجنتين، وحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين شبيهًا بحال الرجل المؤمن، الذي اجتهد في نصيحة هذا الرجل الكافر، وكان هذا المؤمن معتزًّا بدينه، ويرى أن ما معه من الإيمان لا يعدله شيء من متاع الحياة الدنيا. وهذه هي الكلمات تصور ما حاز الرجل الكافر من متاع، بعد أن يقول الله لرسوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} (الكهف: 32) فتشوفت النفس لمعرفة ما كان من أمر الرجلين، فبدأ بأولهما فبين ما منحه الله من خيرات فقال: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: 32 - 34) فتأملوا معي في رسم كلمات القرآن لهاتين الجنتين:

أولًا: أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} (الكهف: 32) فأسند الجعل إلى قدرته القادرة، وبين بذلك أن هذا رزق من الله سبحانه وتعالى؛ ليكون من البداية هذا سببًا في أنه يستحق أن يشكر لا أن يكفر، وذكر أنه لم يعطه -لم يعطِ هذا الرجل- جنة واحدة، إنما أعطاه جنتين، أي: حديقتين من أعناب. وسمى الحديقة جنة ليدلنا على أن هذه الحديقة، أو كل حديقة من الحديقتين، فيها من الأشجار والنخيل ما يستر من يكون بداخلها، مما يدل على أنها جنة عظيمة، وبين هذا أيضًا في قوله: {مِنْ أعْنَابٍ} فهي جنة فيها هذا الثمر العظيم وهو العنب، وذكر أن الجنتين على حوافهما نخيل: {حَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (الكهف: 32)، جعل بين الجنتين زرعًا، فبين بذلك أنها أرض متصلة لا يوجد بينها فراغ غير مزروع، وفي قوله: {جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (الكهف: 32) في تنكير قوله: {زَرْعًا} ما يدلك على تنوع هذا الزرع، وأنه كان زرعًا كثيرًا، بخلاف ما هنالك من أعناب ونخيل. ثم قال جل من قائل: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} (الكهف: 33) فبين بذلك أن كل جنة من الجنتين قد أعطت غاية ما يمكن أن يكون من ثمر في مثل هذه الحدائق الغناء، وفي قوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} (الكهف: 33) معناه أنها أعطت ثمارها كاملة غير منقوصة، ولعلنا نشاهد أن كثيرًا من الحدائق يعتريها ما يعتريها من ظروف مناخية أو ما إلى ذلك، فلا تعطي الثمرة الكاملة، لكن هاتين الجنتين كل جنة منهما آتت أكلها، ولم تظلم منه شيئًا. ومما يزيدها بهجة ورواء أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (الكهف: 33) فجر الله -سبحانه وتعالى- خلال الجنتين -أي بين الجنتين- نهرًا عذبًا، فكان هذا النهر متعة للناظرين، وسببًا أدى إلى وصول الماء الدائم والمستمر إلى هاتين الجنتين، فكان

هذا أيضًا من الأسباب التي جعلت هاتين الجنتين تؤتي أكلها كاملة، وكان لهذا الرجل أيضًا بالإضافة إلى ذلك ثمر، قال المفسرون بأن الثمر هو المال والمتاع، أي: كان له ثمر كثير ومال وفير، يضاف إلى ما هناك من هاتين الجنتين. إلى هنا رأينا عظمة هاتين الجنتين وما فيهما من رزق الله الوفير، ولعلنا مرة أخرى نشير إلى نون المعظم لنفسه في قوله: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا} (الكهف: 32) {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} (الكهف: 32) {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (الكهف: 32) {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (الكهف: 33) مما يدلك على أن هذا من الله سبحانه وتعالى، وهو مظهر لقدرته وعظمته. أما المشهد الثاني فتراه في هذا الحوار الذي أشار له القرآن في مطلع ما كان بين الرجلين: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: 34) ثم ما كان من قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} (الكهف: 35، 36) إلى آخر ما قال. لعلكم تلمحون معي من قوله: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: 34) أن صاحبه كان معه من البداية قبل أن يدخل إلى جنته، وأنه حين طلب منه المساعدة قال: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا، فافتخر واعتز بما أعطاه الله من مال، وما أعطاه من أبناء، وما أعطاه من قوة ومن أتباع. ويبدو من القصة ومن سياق الآيات أن صاحبه لم يتركه ليقول هذا القول، إنما صار معه حتى وصل إلى جنة من جنتيه، وأن هذا الرجل المتغطرس دخل جنته وهو ظالم لنفسه، نعم هذا إنسان ظالم لنفسه حين تنكر لفضل الله عليه، وتنكر لأخيه وقطع رحمه، وقال له متعجرفًا مفتخرًا: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا، ولكن هذا الرجل حين دخل بستانه أو بستانًا من بستانيه، نظر يمينًا ويسارًا قائلًا: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} (الكهف: 35).

ظن لجهله أن هذه الحديقة الأنيقة الرائعة الممتدة على مد البصر، وفيها النهر يجري والمياه العذبة والأشجار الباسقة والثمار اليانعة، قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدًا، وما علم أن الأيام دول، وأن الأمر أولًا وآخرًا بيد الله -عز وجل، ثم جاهر بكفره فقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} (الكهف: 36) فأنكر قيام الساعة، ثم قال مرة أخرى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (الكهف: 36) وكأنه ظن أن من أعطاه الله مالًا في الدنيا ومتاعًا وأولادًا وخدمًا وحشمًا ومكانة عالية، سوف يكون هكذا في الآخرة، وهو ظن خاطئ وفهم رديء، وما هكذا يكون الإنسان الواعي والإنسان المؤمن؛ فإن الإنسان إنما ينال الخير كل الخير بإيمانه بالله رب العالمين، وبما يقتضيه هذا الإيمان من عمل صالح، أما ما يمتلكه الإنسان في هذه الدنيا، فإنما هو عند العاقل وسيلة يتقرب بها إلى الله، ويؤدي فيها حق الله. استمع صاحبه إلى هذا الإنكار للساعة، وإلى هذا الفهم السيئ للأمور، فقال له وهو يحاوره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدً} (الكهف: 37، 38) إلى آخر ما ذكر هذا الرجل الصالح، وعلينا أن نتوقف عند هذا الحوار: أولًا: تلحظون معي أن الله -سبحانه وتعالى- سمى هذا الرجل صاحبًا، ومعنى ذلك أنه ملازم له يريد إصلاحه والأخذ بيده، وهذا شأن الدعاة الناصحين، ألا يتخلوا عن العصاة والمذنبين والمنحرفين، عليهم أن يكونوا معهم وبجانبهم، يأخذون بأيديهم إلى طريق الصواب، ثم في قوله: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الكهف: 34). وهذه المحاورة أشار إليها القرآن في الآية السابقة في قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الكهف: 34) فيبدو أن هذه المحاورة التي كانت بين الرجلين، كانت محاورة القصد منها الوصول إلى الحقيقة، وإن كان الرجل الكافر ما زال معتزًا بماله ونفره وحشمه وخدمه،

لكن الرجل المؤمن وهو يحاور هذا الكافر يقول له متسائلًا: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (الكهف: 37). فأشار بقوله: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} إلى ما كان من أمر آدم -عليه السلام- ونحن قد ذكرنا أن الرجلين كانا من بني إسرائيل، وهما يعلمان أن الله خلق آدم من تراب، فلم يكن آدم موجودًا فالذي أوجده هو الله، وأوجده لغاية نبيلة عظيمة، هي أن يكون خليفة في هذه الأرض، وليكون أبناؤه من بعده خلفاء، يحكمون بشرع الله وهدي الله، ويعبدون الله سبحانه وتعالى، كما قال -عز من قائل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُوُ الْقُوَةِ الْمَتِين} (الذاريات: 56، 57). فرد هذا الرجل إلى حقيقته الأولى، وأنه خلق من تراب، ثم ذكره بحقيقته هو في خلقه في بطن أمه، إذ لم يكن موجودًا قبل أن يخرج لهذه الحياة، خلقه الله عز وجل من نطفة، فتدرج في مراحل الخلق إلى أن صار رجلًا، بمعنى أن النطفة انتقلت إلى أن تكون علقة، ثم كانت مضغة، ثم ما كان بعد ذلك من مراحل، إلى أن تمت الولادة، وكان هذا الصبي إلى أن وصل إلى مرحلة الرجولة، فاختصر الرجل كل هذه المراحل وذكره بالبداية، وهي النطفة، والنطفة دليل على بداية الإنسان من شيء تافه حقير بسيط، قد يتقزز منه الإنسان، ومع ذلك نماه الله ووصل به إلى هذه المرحلة. فولد هذا الإنسان فتدرج في مراحل الخلق إلى أن وصل إلى هذه المرحلة، وهو أنه أصبح رجلًا ينكر أن الله -سبحانه وتعالى- قد خلقه، أو ينكر البعث بعد الموت، ويعتقد أنه لو رجع إلى ربه، ولو كان القول بأن الساعة حق، فهناك لا بد أن يجد هناك الخير الكثير؛ لأنه يعيش في خير كثير في الدنيا، وفهم أنه سيعيش في هذا الخير هناك في الآخرة، وما أعظمها من موعظة بليغة في هذا الموقف!.

ثم يعلن لصاحبه بعقيدته فيقول: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكهف: 38) فيعلن أنه عبد موحد لله رب العالمين، موحد لربه في ربوبيته وألوهيته، وأنه لا يشرك بربه أحدًا، ثم يتوجه بالنصيحة لصاحبه، وما زال به يحاول أن يرده إلى الطريق الصحيح، فيقول: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (الكهف: 39) فإنه لو فعل ذلك لحفظ الله عليه ماله، ولأبقى له هذا المال، ولزاده بركات من بركاته، لكنه لم يفعل، ثم بين له حقيقة المقاييس التي يجب أن يفهمها هذا الرجل، فيقول: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} (الكهف: 39، 40). نعم؛ إن كان في الدنيا لم ينل مالًا ولا ولدًا، بالقدر الذي يكون عليه هذا الإنسان الغني المتغطرس، فليفهم أن الله هو الرزاق، وأنه -جل وعلا- ربما يمن عليه بخير من جنته هذه، يعطيه هذا في الدنيا، أو يعطيه هذا في الآخرة، أما جنته فإن الله -سبحانه وتعالى- يمكن أن يرسل عليها حسبانًا من السماء، فتصبح صعيدًا زلقًا، وانظروا إلى تعبير القرآن: {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} (الكهف: 40). حسبانًا من السماء، أي: أمطارًا غزيرة مدمرة من السماء، يترتب عليها أن هذه الحديقة، وهذه الجنة المثمرة العامرة المليئة بالأشجار العالية، التي تستر الأنظار، تصبح في لحظات أرضًا خالية لا نبات فيها ولا ثمر ولا شجر، إنما هي زلق، لا تستطيع أن تسير فيها لكثرة الماء في أرضها. أو هناك أمر آخر هي أن يصبح ماء هاتين الجنتين غائرًا، فلن تستطيع له طلبًا، فهذا النهر الذي يسقي هذه الزروع وهذه الثمار، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أجراه، وهو القادر أيضًا أن يجعل ماء هذا النهر يغور وينقص بل ويجف، وحينذاك لا يستطيع هذا الرجل -مهما بذل- أن يستخرج هذا الماء مرة أخرى، وبالتالي سوف يكون مصير الجنتين إلى الذبول، ثم إلى النهاية،

ولم يمضِ وقت طويل حتى تحقق ما ذكره هذا الرجل الصالح، وإذا بثمر هذا الإنسان الكافر وجنتيه تنزل المياه الغزيرة، فتدمر هاتين الحديقتين. نظر هذا الرجل نظرة الآسف الحزين: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (الكهف: 42) لقد انتهت قصة هاتين الجنتين، وكل جنة منهما خاوية على عروشها، والرجل واقف يندم على ما كان منه، ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكهف: 42) ولعلك ترى أنه لم تكن له فئة ولا جماعة ولا أحد ينصرونه من دون الله، وما كان هذا الرجل لينتصر بنفسه؛ لأن الله هو القوي القادر. وتختم القصة بقوله: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (الكهف: 44) فالثواب الحقيقي من عند الله، والعاقبة الحميدة من عند الله، ثم يأتي قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 45، 46). يأتي هذا الختام ليبين حقيقة من حقائق هذا الدين، وأن الدنيا إلى زوال، وأنها ملك لله، وأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، ولكن يجب على الإنسان الواعي أن يعلم أن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا؛ لأن الباقيات الصالحات سبب للنجاة في الآخرة، والنجاة في الآخرة مطلب لأهل الإيمان. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 14 قصة موسى والخضر.

الدرس: 14 قصة موسى والخضر.

بين يدي قصة موسى والخضر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (قصة موسى والخضر) بين يدي قصة موسى والخضر حمدًا لله، وصلاة وسلامًا على رسول الله، أما بعد: فهذه قصة موسى والخضر: وهي -كالقصتين السابقتين- لم ترد في القرآن إلا في سورة "الكهف"، فدراستنا لها سيكون من خلال الآيات التي تناولتها في السورة الكريمة. وقبل أن نبدأ في عرض أحداث هذه القصة، أود أن أشير إلى ضبط كلمة الخِضْر. يقول ابن منظور: "يقول أهل العربية: الخَضِر، بفتح الخاء وكسر الضاد، ويجوز في العربية: الخِضْر، كما يقال: كَبِد وكِبْد. قال الجوهري: وهو أفصح". فمن نطق الخَضِر فهو صحيح، ومن نطق الخِضْر فهو صحيح، بل هذا هو الأفصح -كما قال صاحب (لسان العرب). والقصة لا تذكر اسم الخضر، ولا تخبرنا عن المكان الذي حصل فيه اللقاء، سوى أنه مجمع البحرين، كما لا نعرف متى كان ذلك في حياة موسى، هل حدث هذا حين كان في مصر، أو بعد أن عبر ببني إسرائيل إلى سيناء، كما لم تذكر السبب الذي من أجله كان بحث موسى عن هذا العبد الصالح، وبعد أن ذكر لموسى الأسباب التي جعلته يفعل ما يفعل، لم تخبرنا الآيات أين ذهب ولا ماذا كان من أمره، فالقصة كما ترون كلها مفاجآت، تنتقل بك في عالم مجهول وأسرار لا تتضح لموسى نفسه، ولم يعرف عنها شيئًا إلا بعد أن آذنه العبد الصالح بفراقه؛ لأن موسى لن يستطيع معه صبرًا. ولو تأملت في مجمل القصة وما فيها من أسرار، تستطيع أن تدرك سر ارتباطها بما قبلها من الآيات في السورة، فالسورة بدأت بعد مقدمتها بقصة أصحاب الكهف، وأمرهم عجب لم تفصح القصة عن أسمائهم، ولا عن مكانهم ولا عن ملكهم، وترد علم ذلك وغيره لله، فالفتية بعد استيقاظهم قالوا:

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) والمتنازعون في أمرهم قالوا: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} (الكهف: 21) أو أن هذا من كلام الله ردًّا على هؤلاء المتنازعين. ولما ذكر اختلاف الناس في عددهم قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} (الكهف: 22) وفي مدة بقائهم في الكهف قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} (الكهف: 26) مع أنه قال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (الكهف: 25) لكن هذا يجب ألا يشغل بال المسلم؛ لأنه لا يترتب على طول المدة أو قصرها فائدة، فهذا عالم الغيب يتضح كله في هذه القصة. وبعد جملة من التوجيهات تأتي قصة صاحب الجنتين، فلا نعرف من هو ولا من صاحبه، ولا في أي مكان ولا في أي زمان كان ذلك، وفيها ما يجب أن يكون عليه المؤمن من الثقة في الله، وتفويض الأمر له بعد شكره على ما أنعم: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (الكهف: 39). وبعد هذه القصة يأتي الحديث عن يوم القيامة وحساب الخلائق، وما كان في الملأ الأعلى من قصة الخلق الأول، وموقف إبليس من السجود لآدم، وكل ذلك غيب، بل إن خلق السموات والأرض وخلق المخلوقات سر لا يعلمه إلا الله، وما طلب رب العزة والجلال من هؤلاء المضلين مساعدة ليخلق ما خلق. ويأتي الحديث عن موقف المشركين يوم القيامة من شركائهم، وما ينتظرهم من عذاب النار، وأن الله -جل وعلا- لم يترك حجة لمحتج، وصرف في هذا القرآن من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا، وأن الناس لجهلهم لم يستجيبوا للمرسلين، وإنما جادلوا بالباطل {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} (الكهف: 56) -كما قال ربنا.

رحلة البحث عن العبد الصالح.

والله يبين سنته في المكذبين، ويفتح لهم أبواب رحمته إن استجابوا لأمر الله، ومن رحمته أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، إنما يؤخرهم لموعد لن يجدوا من دونه موئلًا، وإهلاكه لمن يهلكهم لا يكون باستعجال العذاب منهم استهزاء وسخرية، إنما لكل أمة أجل: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (الكهف: 59). لما ذكر الله ذلك كله، وبين أن الأمور تجري في هذا الكون بعلمه وقدرته ومشيئته، وأن مرد الخلائق له ليحاسبهم على ما كان منهم في هذه الدنيا، لما ذكر ذلك أراد أن يضرب لنا مثلًا بما كان بين موسى وعبد صالح، آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من علمه؛ لنتعلم كيف يكون التواضع، وكيف نرد علم الأشياء إلى الله العليم الخبير، وما يجب على المتعلم مع معلمه من الصبر على طلب العلم، إلى غير ذلك مما توحي به هذه القصة، من قصص القرآن العظيم. فكيف سارت أحداث هذه القصة؟: لو تأملتم لوجدتم أن: الشوط الأول منها: يبدأ برحلة البحث عن العبد الصالح. والثاني: رحلة الأسرار مع العبد الصالح. والثالث: علم الله المكنون وكشف الأسرار لموسى، وفي الختام تأتي الدروس المستفادة. رحلة البحث عن العبد الصالح فلنبدأ بالشوط الأول في رحلة البحث عن العبد الصالح، وفي ذلك يقول ربنا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 60 - 64).

وقد جاءت الروايات توضح سبب هذه الرحلة، يروي الإمام البخاري وغيره عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: إن نوفًا البِكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر -عليه السلام- ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله؛ سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قام موسى -عليه السلام- خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: أي رب كيف لي به؟ فقيل له: احمل حوتًا في مِكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثَمَّ فانطلق معه فتاه وهو يوشع بن نون، فحمل موسى حوتًا في مكتل، فانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة ... )) الحديث". وابن عباس لا يقصد بقوله: "كذب عدو الله" سبًّا لنوف البكالي؛ لأن نوفًا هذا تابعي صدوق، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وإنما كذب ابن عباس ما رواه نوف عن أهل الكتاب، فهذا القول من ابن عباس إنما جاء على وجه التغليظ والزجر. وفتى موسى ليس عبدًا له، كما رأى ذلك بعض المفسرين، إنما هو كما قال الإمام النووي صاحبه؛ لأن يوشع هو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف -عليه السلام، ومجمع البحرين الذي هو موضع اللقاء، هو هذا الموضع الذي أخبر الله موسى بأنه سيجد عنده العبد الصالح، لكن في أي مكان يلتقي البحران؟ عن قتادة قال: "بحر فارس والروم". وقيل: بحر الأردن والقلزم، أي: البحر الأبيض والأحمر، ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر، كما ذكر ذلك صاحب (الظلال) وابن حجر في (الفتح).

وقال محمد بن كعب القرظي: "مجمع البحرين بطنجة". وعن أبي بن كعب قال: "بإفريقية". وهذه أقوال ضعيفة ولا تعبر عن الواقع؛ إذ كيف يسير موسى وفتاه إلى أقصى بلاد المغرب أو إلى إفريقية، والرحلة إلى المغرب أو إلى إفريقية تستغرق زمنًا طويلًا، فأقرب ما قيل هو ما ذكر أولًا، وأن مجمع البحرين في منطقة البحيرات، أو عند خليج العقبة، مما يدل على أن الرحلة كانت في داخل مصر. واصطحب موسى صديقه وصاحبه يوشع بن نون، وقال له: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} (الكهف: 60) حيث الموعد الذي ذكره الله لموسى أَوْ أَمْضِيَ سائرًا حُقُبًا، أي: زمنًا طويلًا مهما طال هذا الزمن، وفي السفر والرحلات تحسن الصحبة، وبخاصة إذا ما كانت الصحبة من أمثال يوشع بن نون في إخلاصه وحبه لموسى، واستعداده أن يتحمل معه مشقات السفر، وفي قوله موسى ليوشع بأنه لن يشغل نفسه بغير هذا الأمر، وسوف يبذل فيه كل ما عنده من قوى، حتى يتحقق له ما يريد، تصميم على بلوغ الهدف، وهكذا يكون من يريد تحقيق أهداف، وكلما سمت هذه الأهداف كلما سمت مقاصدها، وكلما عظمت المقاصد عظمت الوسائل. والقصة تترك مساحة للتدبر لاستكمال الصورة، إذ قالت: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} (الكهف: 61) وتستطيع أن تقول بأن موسى بعد أن أفضى لفتاه بما علمتَ، بدأ رحلتهما وسارا في جد ونشاط حتى وصلا مجمع البحرين، وهناك نسيا حوتهما، ولم يسبق للحوت ذكر كما ترى، لكن السنة أوضحت ذلك، وبينت أن الله أمر موسى أن يحمل معه حوتًا يضعه في مكتل، وفي رواية: حوتًا مالحًا، أي: مملحًا، ومعنى هذا أن الحوت كان مشويًا؛ لأنه لو كان حيًّا

فخرج من المكتل إلى البحر، لما كان هناك ما يدعو إلى العجب، لكن العجب أن يكون الحوت مشويًا فتدب فيه الحياة، وينطلق إلى البحر في قوة. وهذا لا يتعارض مع ما ورد من أن الحوت كان ميتًا؛ لأنه تم شواؤه وهو ميت، بل إن الحوت حين انطلق إلى الماء، فعل ما لم يكن معهودًا في جريان الحيتان في الماء، فقد شق في البحر سربًا، أي: طريقًا كأنه السرداب في الجبل، إذ أمسك الله عنه كما جاء في الحديث جِرْيَة الماء في البحر، حتى كأن أثره في حجر، وإنما قفز الحوت إلى البحر وموسى نائم، أما يوشع فكان يقظان. وما إن استيقظ موسى حتى واصل رحلته، فكان على عجلة من أمره، مما جعل يوشع ينسى أن يخبره بأن الحوت خرج من المكتل إلى البحر، وما إن جاوزا المكان حتى أحسا بالجوع، فقال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (الكهف: 62) ولم يشعرا بهذا النصب وبتعب المسير إلا بعد أن تجاوزا هذا المكان، فكان هذا أيضًا آية من آيات الله. قال يوشع لموسى ما ذكره الله -عز وجل-: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) فقد ذكر يوشع لموسى ما كان من أمر الحوت، وما أظهر الله فيه من عظيم آياته، إذ أحياه وكان ميتًا مشويًا، وانطلق في الماء، وإذا بالماء يتجمد حتى كأنه الصخور، والحوت قد شق له فيه طريقًا يبسًا، فكان ذلك مثار العجب، ولا عجب من قدرة الله، فسُر موسى بذلك، وعلم أنه قد قارب على وصول مبتغاه، فقال لفتاه: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 64) أي: فرجعا يقصان أثرهما حتى وصلا إلى المكان الذي فقدا فيه حوتهما {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65).

رحلة الأسرار مع العبد الصالح.

رحلة الأسرار مع العبد الصالح وهنا يبدأ الشوط الثاني أو الفصل الثاني من القصة، وقد عنونا له بهذا العنوان: رحلة الأسرار مع العبد الصالح، فانظروا إلى ما وصف الله به هذا العبد، إن القرآن يصف هذا الرجل بأنه عبد من عباد الله، والعبودية لله أشرف صفة يتصف بها إنسان، إنها ليست عبودية التسخير، فكل الكائنات مسخرة له والكل عبيد لله، ولكنها عبودية الطاعة والقرب والإخلاص للواحد الأحد، وأول العابدين هو محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد وصف الله أنبياءه وأولياءه وأحبابه بهذا الوصف الكريم، ووصف رسوله محمدًا بذلك في أجل المقامات وأعلاها، وصفه بذلك في إسرائه، وفي إنزال الوحي عليه، وفي تبليغه لرسالة ربه، والآيات في ذلك واضحة ظاهرة. كما بين الله أنه آتى هذا العبد رحمة من عنده، أي: رحمة عظيمة كان بها صاحب هذه المكانة، وهذا الفضل من الله، وهذه الرحمة كما تعلمون وهبها الله لأصفيائه من الأنبياء والمرسلين وغيرهم، ومما تذكرونه في ذلك ما قال في زكريا: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (مريم: 2) وما قال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم: 50) وفي موسى يقول: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (مريم: 53) إلى غير ذلك من الآيات. وأمر آخر منحه الله لهذا العبد الصالح، هو هذا العلم الإلهي اللدني، إذ قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65) ولذلك ورد في الحديث ما ذكره أئمة الحديث: "أن موسى -عليه السلام- حين أتى هو وفتاه يوشع إلى الصخرة، رأى رجلًا مسجى عليه بثوب، فسلم عليه موسى فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: إنك على علم من

علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه. قال له موسى: هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا ... " إلى آخر القصة. إذًا فلنقرأ هذا الجزء لنرى ما فيه من أسرار، كما عبرت عنه كلمات وآيات هذه القصة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 65 - 78). لعلنا رأينا رحلة الأسرار فيما كان بين موسى وهذا العبد الصالح، وقد جاءت السنة توضح هذا وتذكره، فتقول حين قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (الكهف: 66 - 69) قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 70) قال: نعم. فانطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نَوْل، أي: بغير أجرة، فعمد الخضر إلى

لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئًا إمرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (الكهف: 72، 73). ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الكهف: 74، 75) وهذه أشد من الأولى {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الكهف: 76، 77). يقول: مائل، قال الخضر بيده هكذا، {فَأَقَامَهُ} قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا ولم يطعمونا، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 77، 78). قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر حتى كان يقص علينا من أخبارهما)) قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كانت الأولى من موسى نسيانًا)) قال: وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر فقال له الخضر: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر" زاد في رواية: "وعلم الخلائق". قال سعيد بن جبير: "وكان يقرأ -أي ابن عباس: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرًا". وفي رواية: "بينما موسى -عليه السلام- في قومه يذكرهم بأيام الله، وأيام الله: نعماؤه وبلاؤه، إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلًا خيرًا أو أعلم مني". قال: وذكر الحديث. وفي الحديث أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عَجّل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذَمامة -أي: غضبة- لما رأى. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا، ولو

علم الله المكنون وكشف الأسرار.

صبر لرأى العجب. قال: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه)) وهذا من تواضعه -صلى الله عليه وسلم. ثم قال: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية لئام، فطافا في المجلس فاستطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما إلى قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} (الكهف: 78) قال: وأخذ بثوبه ثم تلا إلى قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (الكهف: 79) إلى آخر الآيات، فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها فأصلحوها بخشبة، إلى آخر ما سنعرف من بيان هذه الأسرار التي أوضحها الخضر، أو الخضر لموسى -عليه وعلى نبينا السلام. إذًا فهذه هي الأسرار التي كانت في هذه المرافقة، وهذه الصحبة مع الخضر، وأنه فعل أشياء لا يمكن في الظاهر أن يسلم بها، لكن الرجل اشترط من البداية على موسى شرطًا، بأنه عليه أن يصبر، وألا يسأل عن شيء حتى يبين له السر فيه، لكن موسى وجد أشياء ما استطاع أن يصبر عليها، فنسي في أول مرة حين ركب في السفينة فخرقها الخضر، نعم هو قد وضع قطعة من الخشب تسد هذا المكان، لكننا سنعرف سر ذلك فيما سوف يكشفه هذا العبد الصالح لنبي الله موسى -عليه السلام. علم الله المكنون وكشف الأسرار ومن هنا يأتي الفصل الثالث في هذه القصة العظيمة من قصص القرآن، وهو كشف الأسرار، وفيه قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 79 - 82). إذًا

فهذا هو السر فيما فعل الخضر، كما أوضحته هذه الآيات الكريمة؛ إذ ذكر أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وقد أخذ الأئمة من قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} (الكهف: 79) أن المسكين هو الذي عنده أموال، ولكنها لا تكفي لنفقاته في الحلال، فهؤلاء لهم سفينة يمتلكونها، ومع ذلك سماهم مساكين. لكن الموضوع الذي معنا إنما يدلنا على ما كلف به هذا العبد الصالح، مِن عمل طيب وعمل مبروك، وأن هذه السفينة كانت عرضة أن يغتصبها ملك ظالم، يأخذ كل سفينة صالحة، كما جاء ذلك عن ابن عباس، ولعلها ليست قراءة، وإنما هذا من باب التفسير. إنما كان هذا الملك يأخذ كل سفينة تمر به غصبًا دون رضا أصحابها، حين يجد فيها عيبًا فسوف لا يأخذها، فكان أن انتزع الخضر منها لوحًا، مع أنه رأى أن هذا اللوح لن يؤدي إلى غرق السفينة، ولا إلى إغراق من فيها، ومع ذلك رأينا موسى يعترض على هذا الأمر، هؤلاء أناس قد حملوهما معهم، دون أن يأخذوا منهم أجرًا، فكيف يفعل الخضر بسفينتهم هذا الذي فعل، لكن السر كان أنه أراد أن يستنقذ هذه السفينة من هذا الملك الظالم، الذي يأخذ كل سفينة صالحة تمر عليه غصبًا. أما الأمر الثاني فهو أمر الغلام، وأمر الغلام أيضًا أمر يدعو إلى العجب؛ لأن السفينة وما حدث فيها، وما كان يمكن أن يترتب على انتزاع اللوح منها، كل ذلك أمر مظنون، لكن موسى رأى الخضر وقد عمد إلى غلام من بين الغلمان، فأخذه واقتلع رأسه فقتله، موسى لما رأى ذلك كما رأينا قال: بأنك قد فعلت أمرًا منكرًا، وأمرًا لا سكوت عليه، وهنا أوضح له السر أن هذا الغلام كان أبواه مؤمنين، أما هذا الغلام فهو سوف يكون كافرًا، بهذا وعلى هذا أطلعه علام الغيوب:

الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر.

{فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} هذا قول الله -سبحانه وتعالى- في قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الكهف: 80، 81) فكان هذا عملًا مبرورًا وعملًا خيرًا. ولعلنا هنا نتساءل عن سر الحكمة في ذلك، فنقول: مرد ذلك إلى علم الله سبحانه وتعالى، الذي لا يسأل عما يفعل، فقد خلق أناسًا وهو يعلم أنهم كافرون، وأنهم من أهل النار، كما خلق أناسًا وهو يعلم أنهم مؤمنون، وهم من أهل الجنة، وهؤلاء وأولئك جريًا على حكمته وسنته في خلقه، فسبحانه من إله حكيم عليم، ومن هنا اتضحت الحكمة في قتل الخضر لهذا الغلام. أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحًا، ولو أن هذا الجدار سقط لظهر هذا الكنز، ولاستولى أهل هذه البلدة البخلاء على هذه الأموال، ولم يستطع اليتيمان أن يدفعا عن مالهما هؤلاء الأشرار، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، فهذه رحمة الله سبحانه وتعالى، أن يقام هذا الجدار، وأن يبقى إلى أن يصل هذان اليتيمان إلى سن الرشد، ليستخرجا هذا الكنز، ولينتفعا به. يقول الخضر: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، وإنما هذا أمر الله سبحانه وتعالى، ثم يقول: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 82). الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر هذا ملخص وموجز لقصة موسى والخضر -عليهما السلام- وفيها من الدروس النافعة والعظات البالغة، ما يستحق أن نقف أمامه طويلًا؛ منها أن طلب العلم يحتاج إلى جهد وإلى تعب، وكل جهد في سبيل طلب العلم جهد يهون؛ لأن العلم به حياة القلوب، وفي القصة كما نرى أثر الصحبة، وحاجة الإنسان إلى أن يكون له صاحب مخلص، فهذا موسى -عليه السلام- قد أخذ معه يوشع بن نون، فكان رفيقًا له ونعم الرفيق.

وفي القصة أيضًا ما يجب على المتعلم من الصبر على من يعلمه، وألا يتعجل النتائج قبل أن يفضي له أستاذه بما يراه مناسبًا، وبخاصة إذا اشترط الأستاذ على تلميذه ألا يسأل قبل أن يوضح له الأسباب، وقد رأينا ما كان من أمر موسى -عليه السلام- وأنه إذ رأى أمرًا عجبًا لم يطق صبرًا على ما رأى، فبدأ يتساءل عن سر ذلك، بل قال للخضر: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (الكهف: 71) {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} (الكهف: 74) {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الكهف: 77)، ومن هنا وجب على طالب العلم أن يصبر. أمر مهم في هذه القصة؛ ألا وهو أن الإنسان يجب عليه أن يفوض ما لا يمكن لعقله أن يصل إلى تفسيره إلى علام الغيوب، فهذه أقدار الخلائق تجري في هذا الكون، وفيها ما نرى من هذا التفاوت في أرزاقهم، وفي أحوالهم، وفي صحتهم، وفي فقرهم، وفي أبنائهم، وفي حياتهم، وكل ذلك بقدر الله -عز وجل- وأمره، وهذا هو الخضر يفعل ما يفعل، وقد أجرى الله على يديه ما رأينا في هذه الأحوال. وكان الواجب على موسى أن يصبر حتى تتضح له الأسرار، لكننا نحن في مقام الاستفادة من هذه القصة، قد لا يتفق لنا أن نحصل على من يوضح لنا سر الله في خلقه، فعلينا أن يكون الرائد والموجه لنا في مثل هذا المقام، هو قول الله -عز من قائل-: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) وأمر آخر في هذه القصة هو ما كان من أمر الغلامين، وأن الله -سبحانه وتعالى- أكرمهما، وساق إليهما هذا العبد الصالح ليقيم لهما ذلك الجدار، حتى يبلغا أشدهما، وحتى يستخرجا كنزهما، وما ذلك إلا كما قال الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف: 82). حتى ليقال بأن هذا الأب ليس هو الأب المباشر، وإنما هو الجد السابع، فالأبناء ينتفعون بصلاح الذرية، وهذا ما يجعل الإنسان الواعي العاقل

يحافظ على دينه وعلى عقيدته، ويبذل أقصى ما في وسعه في عمل الصالحات ليبقى له هذا رصيدًا في ذريته. أيضًا في قول الله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكهف: 82) ما يدلك على أن هذا كان بأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا شاهد قوي على أن الخضر كان نبيًّا، مع ما تقدم من قول الله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65). بل إن آخرين قالوا بأنه كان رسولًا، فهذا هو الذي يجب أن يفهم في هذا؛ لأن موسى -عليه السلام- لا يأخذ وهو نبي مرسل مكلم، لا يأخذ علمه ممن هو أدنى منه، فهذا درس يجب أن نعيه وأن نفهمه في هذا المقام، حتى لا نترك الفرصة لمن يدعون بأنهم مكلمون، وأنهم ملهمون، وأنهم يفعلون أشياء لا توافق الشريعة، وأن علماء الشريعة عليهم أن يكونوا مفوِّضين لعلماء الحقيقة، والإسلام لا يعرف الفرق بين الحقيقة والشريعة، الحقيقة والشريعة كلها في نظر الإسلام سواء، يجب أن تكون محكومة بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك قال السلف: إذا رأيت أحد الناس يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تعتقدوا فيه إلا إذا قستم حاله على كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولعلنا رأينا في قصة الخضر -عليه السلام- أن الله سبحانه وتعالى قال فيه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65) فوصف الخضر بأنه عبد من عباد الله، وأن الله آتاه رحمة من عنده، وعلمه من لدنه هذا العلم العظيم، فهذا مما يرشدك إلى أنه لم يكن متجاوزًا للشريعة، ولم يكن خارجًا على حدودها، إنما هو عبد من عباد الله. كما أن الأنبياء جميعًا كانوا عبادًا من عباد الله، ولعلكم تقرءون كثيرًا في القرآن قول الله تعالى في داود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ

أَوَّابٌ} (ص: 17) وقول الله في سليمان -عليه السلام-: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 30) وفي أيوب -عليه السلام-: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} (ص: 41) كما يقول ربنا: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (ص: 45) وهذا رسول الله كما قلنا يقول الله فيه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (الإسراء: 1) ويقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (الكهف: 1) ويقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (الجن: 19) ويقول ربنا: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف: 81). فالخضر عبد من عباد الله كهؤلاء الأنبياء، وهذا لا يتنافى مع القول بأنه نبي أو بأنه رسول. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز.

الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز.

بين يدي قصة يوسف -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (قصة يوسف مع امرأة العزيز) بين يدي قصة يوسف -عليه السلام- الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذه قصة يوسف مع امرأة العزيز، من قصص القرآن العظيم، تأتي كسابقتها من قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والخضر، لا تذكر في القرآن إلا في موضع واحد. وفي قصة يوسف مع امرأة العزيز نجد أن الآيات التي تحدثت عنها لم تذكر في غير سورة "يوسف"، وذكرت في سياق الحديث عن يوسف -عليه السلام- حين تناولت آيات السورة قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته، ثم مع امرأة العزيز، كما ذكرت حياته في السجن، وما كان من أمره، وذكرت خروجه من السجن، وتوليه وزارة المالية والاقتصاد والتموين، وأنَّ الله مكن له في الأرض، إلى آخر ما كان من أمره؛ حيث جمعه الله بأبيه وإخوته على أرض مصر {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 100، 101). القرآن حين يروي لنا أحداث هذه القصة، لا يرويها مجرَّد أحداث للتسلية والتاريخ، إنما يربطها بأهداف القصة في القرآن، ومنها: الدلالة على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغ عن ربه، وأنَّ هذا القرآن من عند الله، فإذا ثبت هذا كان لزامًا على مَنْ يسلِّم به أن يؤمن بهذا القرآن منهجًا ودليلًا، وبمن أنزله إلهًا معبودًا، وبمن نزل عليه اتباعًا وانقيادًا، ولذلك ترى في بداية القصة تحديد هذه

الأهداف؛ لتُبنَى عليها أحداث القصة، فيقول سبحانه في مطلع السورة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 1 - 3). ثم تبدأ القصة بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} (يوسف: 4) إلى آخر ما قال الله -عز وجل، وفي نهاية القصة، بعد دعاء يوسف -عليه السلام- ربه فاطر السموات والأرض، بأن يتوفاه مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين، يقول تعالى إثباتًا وتحقيقًا لأهداف القصة: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102)، ثم تعقِّب الآيات على ذلك ببيان موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المشركين، وباستلهام العِبَر والعظات من القصة، إلى أن تختم بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111)، فكيف صارت أحداث قصة يوسف مع امرأة العزيز في جملة قصة يوسف مع أطراف أخرى ممن واكبوا مسيرة يوسف منذ طفولته إلى أن صار عزيز مصر، وإلى أن جمعه الله بأهله. إن هذه القصة، لو تأمّلت فيها؛ لوجدتّ أنها تتألف من عدة حلقات أو فصول أو مشاهد، تبدأ من بداية السورة إلى أن تنتهي بإعلان براءة يوسف؛ حين جمع الملك النسوة ومعهنّ امرأة العزيز، وسألهن الملك: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} (يوسف: 51) إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) لتبدأ بعد هذه المحن أيام المنن والعطايا؛ حيث يكون يوسف من خاصّة الملك والمقرَّبين له، ويتولى خزائن الأرض، ويحتل المكانة العالية؛ فيتبوأ في الأرض منها حيث يشاء.

وتسير قصة يوسف إلى نهايتها لتكون نبراسًا يضيء الطريق للمظلومين والمستضعفين من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن النصر والتمكين لهم، وتلك سنة الله في عباده: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 109، 110). وحين نقول بأن قصة يوسف مع امرأة العزيز تتألّف من حلقات أو فصول أو مشاهد، لا نقصد هذا البناء في صياغة القصة من تقسيمها إلى فصول، ينتهي فصل فيقال: الفصل الثاني وهكذا، إنما تنساب الآيات رقراقة عذبة ممتعة، يأخذ سحرها بالألباب في روعة كلماتها، والانتقال معها من آية لآية، ليس لأحد دخل في بداية الآية أو نهايتها، إنما هذا وحي الله الذي أوحاه لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكل ثلاث آيات معجزة يتحدّى الله بها الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فلم يفعلوا ولن يفعلوا، فأين أسلوب وبناء وتأليف القصص التي يصوغها الأدباء والكتاب من أسلوب وبناء القصة القرآنية؟ وأين الثرى من الثُّريّا؟!. لكنّك لا تستطيع الحديث عما كان من أمر يوسف مع امرأة العزيز قبل أن تقف مع الأسباب التي ساقت يوسف إلى بيت عزيز مصر، لتعرف من هو يوسف، وماذا كان من أمره حتى كان عبدًا يباع في الأسواق وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم جميعًا السلام. تبدأ السورة كما ذكرنا بالحروف المقطعة {الر}؛ لتقول: إنّ آيات القرآن المبين مؤلَّفة من هذه الأحرف، فليست من لغة غير اللغة العربية، وهذه الآيات المؤلفة من الحروف ثم الكلمات، تنطق بها فإذا هي كلمات كالكلمات التي ينطق بها

العرب، لكنها حين اجتمعت مع بعضها لم يستطع أحد أن يأتي بمثلها، ففيها سر الله وإعجازه للبشر، وما مثال ذلك إلّا هذه الصور التي تراها هنا وهناك، مما يصنعه الناس من صور الإنسان والحيوان والطيور، وإن كان تصوير ذلك غير جائز، لكنك تراه كما ترى صورًا للأشجار والنباتات، فهل في إمكان من صور ذلك أن يجعل هذه الصور عاقلة مدركة نامية، إنها خلت من سر الحياة، وسر الحياة هو الروح التي هي من أمر الإله الخالق {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85). وهذه الروح هي الفارق بين كلام المخلوق وكلام الخالق، ولذلك سمَّى الله قرآنه روحًا فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى: 52، 53) ولذلك قال عز من قائل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2) فدلّ التعظيم في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} على أنّ هذا القرآن قد صدر من إله عظيم متَّصف بصفات الجلال والكمال، نزل من الروح المحفوظ في ليلة مباركة هي ليلة القدر، إحدى ليالي شهر رمضان، فأودع في السماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل به جبريل نجومًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، في مدة ثلاث وعشرين سنة، بلسان عربيٍّ واضح بَيِّن، يتحدى به الفصحاء والبلغاء؛ ليكون في نزوله باللسان العربي حجة على العرب {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4). فلمّا كان القرآن بلسانهم كان ذلك شرفًا لهم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44) وليكون في نزوله عربي اللسان، واضح البيان، ما يدعو

إلى فهمه وتدبره، ولما سأل الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقص عليهم من قصص القرآن ما يسرّي عنهم، نزلت الآيات تذكر لهم قصة يوسف، وبدأت بقول الحق -تبارك وتعالى-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3) أي: لا علم لك به من قبل، أما وقد علمته، فهذا دليل على أنه من عند الله، وأنك رسول الله. أوجه أن قصة يوسف من أحسن قصص القرآن، اشتمالها كما يقول العلامة الألوسي: "على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وخصب وجدب، وذنب وعفو، وفراق ووصال، وسقم وصحة، وحلٍّ وارتحال، وذل وعز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدره، وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكروه، فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا، وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن التدبير من العقل، وبه يصلح أمر المعاش، إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير". وبعد هذا الاستهلال للقصة، تبدأ القصة بقول الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4)، فتلفت الأنظار إلى أهمية القصة، وأنها جديرة بأن تبقى دائمًا في الذاكرة، يستلهم منها أهل الإيمان من العبرة والعظة الكثير، ذلكم أن قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} كلمة "إذ" منصوبة بإضمار اذكر، أي: اذكر وقت إذ قال يوسف لأبيه، والمقصود من ذكر الوقت -كما تعلمون- ذكر ما حدث فيه، وما حدث فيه أمر عظيم، يبدأ في تلك الرؤية التي قصّها يوسف على أبيه يعقوب، والتي ذكرتها الآية. ولم تذكر الآيات أن يعقوب فسر هذه الرؤيا لابنه، إنما نصحه أن يكتمها عن إخوته حتى لا يكيدوا له كيدًا يضره، فهو -أي: يعقوب- يرى من أبنائه

حسدهم من محبة أبيهم ليوسف وأخيه، وبقيت هذه الرؤيا تفسّرها الأحداث عبر رحلة يوسف، إلى أن جاء ختام الأحداث باجتماع يوسف مع أبويه وإخوته في أرض مصر {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسف: 100) فكان ذلك من روعة سياق القصة في القرآن، وقد ذكرت السورة رؤيا لكلٍّ من صاحبيْ يوسف في السجن، وقد فسرها لكلٍّ منهما، كما ذكرت رؤيا الملك والتي لم يستطع المؤولون من المقربين للملك أن يفسروها له، ففسرها يوسف، وكان ذلك سببًا في خروجه من السجن، ومحبة الملك له، وتوليه أمور البلاد الاقتصادية. لكن بناء القصة إنما قام على رؤيا يوسف التي قصّها على أبيه، وكان منها بداية الخيط التي ارتبطت به، ما كان من أمر يوسف في كلّ مراحل حياته، وكل مرحلة تحقِّق جانبًا من هذه الرؤيا، وقبل أن ينتقل القرآن إلى مرحلة الحديث عن إخوة يوسف، يشوقنا إلى ذلك بما يذكره من نصيحة يعقوب لابنه، ألّا يقص رؤياه على إخوته، وأن الشيطان قد يسول لهم أمرًا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسف: 5) وبما يفضي به يعقوب ليوسف من أنه يتوقّع له مستقبلًا عظيمًا؛ إذ يرى أن الله سوف يختاره نبيًّا ويعلمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك حكيم عليم. فكانت هذه بشرى ليوسف بالنبوة والعلم والحكمة وإتمام النعمة، ولكنّه يخشى عليه من إخوته، وحين ذكر ذلك يعقوب تشوّفت النفس لمعرفة ما كان من أمر هؤلاء الإخوة، ويبدأ الحديث عنهم بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (يوسف: 7) وفي هذا الابتداء -كما ترون- تشويق لمعرفة ما حدث، وأنّ ما حدث في كل مرحلة من مراحله آية وعلامة بارزة على قدرة الله، وأنه غالب على أمره، لمن يسألون عن هذه القصة، ويودون أن يعتبروا بما فيها.

أحداث القصة.

أحداث القصة وتبدأ القصة بحديث يدور بين إخوة يوسف، فقد أخذوا في البحث عن حلٍّ لمشكلة نفسية سيطرت عليهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 8) ومع أنّ أباهم لم يقصِّر في واجب لهم، ولم يحرمهم من محبته، إلّا أنهم وجدوه يخص يوسف وأخاه بنيامين بلونٍ من العطف والمحبة أكثر منهم؛ لما يرى في يوسف من شيم الصلاح والنجابة وحسن الخلق، ومن أجله أحبّ بنيامين، فأمهما واحدة، ورأوا أنهم أحق بهذه المحبة لأنهم القائمون على مصالحه، فهم عصبة -أي: جماعة- قوية بمثلهم يفخر الآباء، وتأمل قولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 8) فهذا من سوء الأدب؛ إذ كيف يقول أبناء لأبيهم هذا، فما بالكم وهذا الذي يذكرون فيه ذلك نبي من أنبياء الله، والآيات تصور هؤلاء الأبناء في هذه الصورة المزرية في كل مواقفهم من أبيهم. انظر إلى ما قالوه له بعد أن عادوا إليه من مصر بغير بنيامين، فاشتد حزنه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (يوسف: 84 - 86). وتأمّل حالهم حين جاء البشير بقميص يوسف، فلما ألقي على وجه يعقوب رجع إليه بصره، ولما قال لهم: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}، وأخذ هؤلاء الإخوة

يديرون الرأي فيما يصنعون لإبعاد يوسف عن أبيه، حتى تكون لهم الحظوة وحدهم، قال فريق منهم: اقتلوا يوسف، وقال آخرون: اطرحوه أرضًا، أي خذوه واتركوه في أرض بعيدة لا يستطيع العودة منها إلى أبيه، فإن فعلوا ذلك خلا لهم وجه أبيهم، ثم هناك يستغفرون الله من ذنبهم، وهذا من الحمق وسوء الأدب مع الله؛ إذ إن هذا يفتح الباب لكلِّ من أراد المعصية ليقول: أقتل أسرق أزني، ثم أتوب، إنما يقع من يقع في المعصية في لحظة من لحظات الضعف البشري، وكأنه ساهٍ ولاهٍ وجاهل، فإذا ما انكب على وجهه وألقاه الشيطان في بحر الخطيئة نهض من كبوته ضارعًا باكيًا على ذنوبه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: 135، 136) وعرض عليهم أحد الإخوة وهو أكبرهم اقتراحًا ثالثًا، هو أن ينزلوه إلى قاعِ بئر عميق على طريق القوافل، فلعل قافلة تمرّ بهذا البئر، وتستقي منه الماء، فترى يوسف فتأخذه، فتحقق ما نهدف إليه من إبعاد يوسف عن أبيه، ولا نرتكب جريمة القتل، فاتفقوا على ذلك. وتنتقل القصة إلى المشهد الثاني، وتترك فراغًا يملؤه الفكر، وهو يتساءل كيف استطاعوا تنفيذ مخططهم بكل ما فيه من قسوة وغلظة، تستطيع أن تقول بأنهم بعد هذا الاجتماع الشيطاني ذهبوا إلى أبيهم ليحتالوا عليه في الحصول على يوسف، فعرضوا عليه أنهم يريدونه أن يقضي معهم وقتًا يأنسون به، فارتاب في أمرهم، فماذا فعلوا؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (يوسف: 11، 12) فقال لهم:

{إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (يوسف: 13) فكأنّه حين قال لهم ذلك دلّهم على عذر يعتذرون به إليه حين يعودون وقد نفذوا ما اتفقوا عليه، وقد أكدوا لأبيهم أنهم سيكونون قائمين على حفظه، وطمأنوه بحسن رعايتهم لأخيهم {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} (يوسف: 14). وأخذوا يوسف من أبيه، وذهبوا به إلى البئر، وهناك ربطوه بحبل ودلوه فيه، فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة، فسقط في الماء فغمره، فصعد إلى صخرة كانت في وسط البئر فقام فوقها، فأيّ أناس هؤلاء! وأي جريمة تلك التي ارتكبها هؤلاء الإخوة! وأي قلوب هذه القلوب في غلظتها وقسوتها! ولكنّ الذي يتولى الصالحين ألقى في قلب يوسف برد الأمان، وأعلمه أنه سينجو من هذه المحنة، وسوف يكون له شأن، وسوف يأتون إليه فيخبرهم بما فعلوه به، ولكن هؤلاء الإخوة الغلاظ الأكباد لا يخطر ببالهم ذلك، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (يوسف: 15). وقد تحقق وعد الله له حين جاءوا إليه يطلبون إكرامه لهم، بعد أن جاءوا إليه يطلبون الميرة المرة تلو المرة، فقال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (يوسف: 89 - 91) لقد تركوا يوسف في الجب وحيدًا وانصرفوا، والجب يختلف عن البئر؛ لأن الجب تراه يضيق من أعلاه ويتسع من أسفله، أما البئر فهو على ميزان واحد

متسع من فوق، كما هو واسع من أسفله، لكنهم اختاروا هذا الجب بكل ما فيه من ظلام ووحشة، ورجعوا إلى أبيهم. فماذا قالوا لأبيهم؟ وماذا قال لهم؟ هنا ينتقل القرآن لعرض مشهد من مشاهد القصة مثير، وكأنّي بك تتصورهم وقد جاءوا جميعًا لأبيهم وقت العشاء، أو قل في جنح الظلام، دون أن يكون معهم يوسف، والمشهد يصورهم وهم يبكون، وقد اختاروا وقت الليل حتى لا تبدو آثار تمثيلهم على أبيهم على وجوههم، وذكروا له أنهم ذهبوا يتسابقون وتركوا يوسف قريبًا منهم عند ملابسهم ومتاعهم، فعدا عليه الذئب فأكله، ولإحساسهم بأنّهم يكذبون قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدق {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، وإمعانًا في إخفاء معالم جريمتهم جاءوا لأبيهم بقميص يوسف وهو ملوث بالدماء، وهذا الدم دم سخلة ذبحوها، ولطخوا بدمها القميص. كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة، أنهم أخذوا ظبيًا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص، ولما جاءوا به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر، إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضّب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميص. وهنا تتوقف الآيات لترسم مشهدًا آخر من مشاهد هذه القصة، ويبدأ هذا المشهد بيوسف في الجب، لا طعام معه، وقد تمر عليه أيام فيموت جوعًا، وبينما هو على حاله هذا؛ إذ مرت قافلة بهذا المكان، هذه القافلة متجهة إلى مصر، فأرسلوا واحدًا منهم ليأتي لهم بماء من هذا الجب، فكانت المفاجأة؛ إذ وجد من يتعلق بالدلو، فنظر وصاح: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} فأخرجه، وأراد أن يحتفظ به لنفسه، فادعى أنه اشتراه من أصحاب الماء،

يوسف مع امرأة العزيز.

وعن ابن عباس أن الذين أسروه بضاعة هم إخوة يوسف، أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم، فنادَى أصحابه: يا بشرى هذا غلام يباع، فباعه إخوته بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين، ولو أراده أصحاب القافلة بلا ثمن لأعطوهم إياه. وسار القوم إلى مصر، وأوقفوه في سوق العبيد، فباعوه في مصر، وكان الذي اشتراه عزيز مصر، أي: وزيرها، ويبدو أنه لم يرزق بولد، لذلك قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، وبهذا يبدو تدبير الله ليوسف؛ إذ بوجوده في بيت عزيز مصر سيحظى بالرعاية والأمن والاطلاع على أحوال البلاد، وقد أخبر الله بأمرين: أنّ الله بقدرته مكّن ليوسف في الأرض، أي أرض مصر، وثانيهما: أنّ الله علمه من تأويل الأحاديث، أي الرؤى، وذكر سبحانه أنه غالب على أمره، وإذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقد حقّق الله وعده، فما إن بلغ يوسف مبلغ الرجال حتى آتاه الله حكمًا وعلمًا، فاختاره نبيًّا، وكذلك نجزي المحسنين. يوسف مع امرأة العزيز وتجري أحداث قصة يوسف مع امرأة العزيز بعد هذه المشاهد والمقدمات، فتذكر ما تذكر بعيدًا عن إسفاف كتاب القصة، وما يسمونه بالأدب المكشوف، فتصل إلى تحقيق أهدافها دون أن تصرح بكلمة تثير شهوة أو تحركها، إنما تدعوها إلى العفة والطهر في ضبط يوسف لمشاعره وغرائزه بمعيار تقوى الله، وفي كبح جماح امرأة العزيز بالاستغفار والتوبة والرجوع عمّا همّت به وأرادته وحاولت، فترى كلمات القرآن نورًا يضيء الطريق.

هذا يوسف في بيت وزير مصر مع امرأته في بيت واحد، وقد أعطي يوسف شطر الحسن، فإذا أضيف إلى حسن السمت وبهاء الطلعة ونضارة الوجه جمالُ الخلق وعفة اللسان وحسن الأدب؛ فإن ذلك مما دعا امرأة العزيز إلى حب يوسف والتعلق به، ولو أن هذا الحب كان مجرّد إعجاب وإكبار وتقدير من سيدة القصر لخادمها، لكان أمرًا لا بأس به، ولكنه انقلب إلى شهوة عارمة ورغبة طاغية في الحصول على متعة الجسد، فأخذت تراوده عن نفسه وتحاول أن يقع معها فيما أرادت من الفاحشة، وهو منصرفٌ عنها لا يلتفت إلى ذلك، ولم يكن هناك بُدّ من التصريح إذ لم ينفع التلميح. واتخذت لذلك كل العدة، فغلّقت أبواب المكان عليها وعلى يوسف، وكانت قد تهيأت لذلك بكل ما للنساء من ألوان الزينة، ودعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي: هلمّ تعال فقد تهيأت لك، فماذا كان من موقف يوسف في هذه اللحظات العصيبة التي قلّ أن يثبت لها رجل، إلا من كان معصومًا محفوظًا بحفظ الله، ومنهم يوسف؛ إذ قال لها: {مَعَاذَ اللَّهِ} أي: إني أعوذ بالله وألجأ إلى حماه من أن أفعل ما يغضبه، وذكر لها ما كان من إكرام زوجها له، وفي خيانته في بيته وأهله ظلم، والظالمون إلى الخسارة صائرون {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23). ولمّا لم تنجح وسائل الإغراء، ولمّا لم تفد الدعوة الصريحة، انتقلت إلى استعمال القوة فأخذت تجذبه إليها وهو يفر منها، ومن رحمة الله به أنه حين أخذت تهُمّ به لم تقدَّ قميصه، إنما حدث ذلك وهي تجري خلفه، حتى أمسكت به فقدَّت قميصه من جهة ظهره، والآيات تصور هذا المشهد بما لا يخدش الحياء أو يستثير الغرائز، إنما جاءت الكلمات تصف عفّة يوسف وحفظ الله له فتقول:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 23، 24). وقد أكثر المفسّرون ونقلوا عن أهل الكتاب ما يتنافى مع عصمة الأنبياء، مع أنّ الله شهد في هذه الآيات لنبيه بما يُعلِي قدره ويطهّر ثوبه، ويرفعه عن الدنايا، فذكرت الآيات أنه رأى برهان ربه، وهذا البرهان هو الدليل القاطع الذي يصل إلى درجة اليقين، الذي كأنه يراه رأي العين، وهذا البرهان هو حجة الله الدالة على حرمة الزنا وفحشه وقبحه، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201). فهَمُّ يوسف بها هو الميل الفطري إلى مثل هذا الأمر، ولكن هذا الأمر لم يكن سوى خاطر عارض صرفه الله عنه، وعصمه من الوقوع فيه، بما أودعه في قلبه من علم يقيني بحرمة هذا الفعل، ومن يقع في مثل هذا الفعل لا يجهل أنه حرام، كما أن من يقع في المعاصي كالقتل والسرقة وشرب الخمر لا يخفى عليه أن هذا حرام، ولكن المهمّ أن يبقى الإحساس بحرمة هذه المحرمات شعلة في قلب المؤمن وإحساسه، كلما همَّ بالوقوع في واحد منها أضاءت له هذه الشعلة طريقه، فرأى برهان ربه وآياته الدالة على بشاعة الذنب؛ كأنها مكتوبة بين عينيه. كما يدفع ما قاله به بعض المفسرين مما يطعن في عصمة يوسف قول الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) أي: هذا ديدن الله مع هذا الشاب المبارك والنبي الكريم، أي: كما أنه رأى برهان ربه فانصرف عنها، يصرفه الله دائمًا عن السوء والفحشاء، ومع ما في قوله:

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} من دليل على سبب حفظ الله له من الوقوع في الذنوب، إلّا أنه كذلك شهادة من الله بأنّ يوسف عبد مصطفى ونبي مجتبى ورسول مخلص منتقى من بين الناس؛ ليكون موضع وحي الله وواسطة بين الله والناس، ومن كان كذلك هل يعقل أن يقال في همِّه بامرأة العزيز ما قيل. وتواصل القصة عرض مشاهدها، فترسم صورة يوسف يحاول الفرار والإفلات من امرأة العزيز الهائجة الفائرة، التي نسيت في هذه اللحظات مكانتها ومنزلتها، وهي تجري وراءه حتى أمسكت بقميصه فقدّته، وقد وصل إلى الباب، وهو يحاول أن يسبقها ليفتحه ليهرب منها، وهي تحاول أن تصل قبله حتى تمنعه من الخروج، وإذا بسيدها -أي: زوجها- لدى الباب، فلما رأته تمالكت نفسها، وألقت التهمة على يوسف وقالت لزوجها: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} وقبل أن يجيب لقنته ما يفعل فقالت: {إِلّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولم تطلب من زوجها كما ترون أن يقتله جزاء فعلته، فقد كان قلبه ما زال معلقًا به، وتخشى عليه أن يقتل، وعلى الفور قال يوسف: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وهو قول خادم في بيت السيد، والواقعة مع زوجة هذا السيد، فمن أين له الدليل ليدفع عن نفسه هذه التهمة، وليثبت أنها هي التي بذلت قصارى جهدها للوصول إلى غرضها الخبيث. هنا تبرز القصة عناية الله بالمخلصين من عباده، فينطق الله رجلًا كان مع العزيز من أهلها فيقول: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} لأن هذا يعني أنها كانت تدفعه عن نفسها فقدت قميصه من قبل، {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فهذا دليل أنه كان يحاول الفرار والهرب منها، وهي تعدو خلفه، وتمسك به حتى قدّت قميصه

من دبر، {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ} أي: العزيز {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تتكلم به، ولا تذكره لأحد، واتجه إلى امرأته يلومها قائلًا {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: 29). ويسدل الستار على هذا المشهد ليبدأ مشهد آخر، هؤلاء نسوة في بيوت كبار الدولة يجلسن يتحدثن ويقلن: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 30) وانتشر الحديث في المدينة {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف: 31 - 34). ومع ظهور براءته وعفته بدا لهم لمصلحة راجحة عندهم، هي إخفاء معالم هذه الجريمة وقطع الألسنة التي تتحدث بها، أن يودعوا يوسف في السجن لفترة من الزمان، ولكن الأيام مرّت والسنوات توالت، ورأى الملك رؤيا لم يستطع المؤولون للرؤى أن يفسروها، إلى أن تذكر واحد ممن كان في السجن مع يوسف وخرج، أنّ بالسجن يوسف، وأنه كان يفسر لهم ما يرونه في منامهم، فجاء إليه وذكر له هذه الرؤيا ففسرها، وطلبه الملك، فكانت فرصة لإظهار براءته، ورفض -عليه السلام- أن يخرج من السجن حتى يأتي الملك بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن ويسألوهنّ عما كان من أمرهن، فجاء بهم الملك ومعهنّ امرأة العزيز وسألهن {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} (يوسف: 51).

حينذاك نطقت امرأة العزيز قائلة: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ظهر ووضح {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} (يوسف: 51) وإنه لمن الصادقين فيما قال، ثم واصلت قائلة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} (يوسف: 52) أي زوجي {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف: 52) ولم أقع في الفاحشة {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف: 52) وإنما كانت المسألة مراودة، لم تصل إلى حد الوقوع في الجريمة الكبرى، وكان هذا من وساوس النفس والشيطان {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53). وبعد أن استمع الملك إلى هذه البراءة الناصعة قال: {ائْتُونِي بِهِ} (يوسف: 54) أي بيوسف أستخلصه لنفسه، فلما كلمه وجد عقلًا وعلمًا وأدبًا وحكمة {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54) {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55) و {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} سارت -أيها الأبناء- أحداث قصة يوسف بعد أن تولى يوسف وزارة مصر، ومكن الله له فيها، سارت الأحداث في طريقها إلى أن جمع الله له أبويه وإخوته، فحمد الله وأثنى عليه وقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة.

الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة.

وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (قصة أصحاب الجنة) وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد: ففي قصص القرآن عبرة لأولي الألباب، وبين أيدينا من هذا اللون قصة أخرى وردت في سورة {ن وَالْقَلَم}، هي قصة أصحاب الجنة، والتي سندرسها على طريقة منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وما دامت آيات القصة في موضع واحد -أي: في سورة واحدة- فالأمر كما تعلمون لا يحتاج إلى جمع آيات الموضوع من سور متعددة حتى تكتمل لنا صورته، فننظر فيها نظرة فاحصة متأملة؛ لنبرز الموضوع متسقًا متكاملًا. أمّا في الموضوعات التي يذكر فيها الموضوع في سورة واحدة -كما ترى في هذه القصة التي سندرسها- فإن ذلك يكون من خلال ربط القصة بهدف السورة، وبيان ارتباطها بما سبقها من الآيات، وكيف أنها تفضي إلى ما بعدها من الآيات، مع عرض أحداث القصة ومشاهدها، وكيف حققت أهدافها. والهدف أو المحور الذي تقوم عليه سورة "القلم" هو إيناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسليته، وتطمين قلبه وتثبيت فؤاده، ببيان منزلته، والرد على أعدائه، وأن العاقبة له، وأن الخسران والبوار والهلاك للمكذبين برسالته، ولكم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه بحاجة إلى هذا الإيناس وذلك التطمين والتثبيت، بعد أن كشّر الكفر عن أنيابه، وانبرى المشركون يكيدون للإسلام وأهله كيدًا يزلزل الجبال، فقد رأوا في هذا الدين خطرًا على ما هم فيه من عقائد فاسدة، وأحوال كاسدة، وعادات بالية، وأوضاع اجتماعية مزرية، مكنت للسادة منهم أن يفرضوا سيادتهم على رقاب المستضعفين، وأن يمتصوا دماءهم، وأن يقودوهم إلى حيث يريدون، ولهذا عظُم هول المعركة.

ومع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من الشرف والمكانة في قريش، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، خيار من خيار من خيار، فهو من أعلى قريش نسبًا وحسبًا، إلّا أنه لم يكن من أصحاب الأموال والتجارة، وهي مقاييس العظمة في كل بيئة تخلو من الدين الصحيح، ولهذا قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31). وأخذ المشركون كل ما لديهم من مكر ودهاء وحيل للقضاء على دعوة الحق، اتهموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسحر والجنون، وطاردوه وطاردوا دعوته والمؤمنين معه في كل مكان، ورموهم بكل نقيصة، وأنزلوا بالمستضعفين منهم كل ألوان العذاب، ولم يسلم من عنفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكبار أصحابه، وكان من أمر الله وحكمته أن منع المسلمين من رد هذه الإساءات ولو بكلمة، إنما أمرهم بالصبر على ما ينزل بهم إلى أن يأتي نصر الله، ومرت الأيام بل والسنوات، والمشركون يزدادون عنفًا، إلى أن أذن الله لرسوله والمؤمنين بالهجرة إلى المدينة المنورة. ومن أراد أن يعرف ما لاقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة من عَنَت وتَعَب ومشقة، فليقرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه في هذه الفترة العصيبة، فكانت آيات القرآن تنزل تحيي موات القلوب، وتبعث على الرضا، وتثبت الأقدام على طريق الحق، ومن هذه الآيات ما نقرأه في هذه السورة المباركة، سورة "ن والقلم"، فلنتأمل في مطلعها، والآيات التي وردت في بدايتها؛ لنرى وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بهذا المطلع وتلك الآيات. بدأت السورة بقوله: {ن} وهي حرف من الحروف المقطعة التي وردت في افتتاح بعض سور القرآن كقوله تعالى: {ص}، {ق} وكقوله: {حم} أو {حم عسق}

أو {الم} أو {المر}، وما إلى ذلك، وقد وردت في بيانها أقوال كثيرة منسوبة لبعض الصحابة ولكثير من المفسرين، وأقرب ما قيل فيها -كما سبق أن ذكرت- أنها حروف ساقها الله على سبيل التحدي؛ كأنه يقول لمن نزل القرآن بلغتهم: هذه هي الحروف التي تؤلّفون منها كلامكم، فاصنعوا منها كلمات وضموها لبعضها، وعارضوا بها هذا القرآن، وانظروا إلى كلامكم وما جاء به وحي الله؛ لتعلموا أن هذا أفق عالٍ لا سبيل إلى الوصول إليه، {فَإِنْ ل َمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24)، فثبت عجزهم وانقلبوا صاغرين، وكم في هذا من نصر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو نصر يتجدد كلما نزلت آيات من كتاب الله، وكم في ذلك من تطمين وتثبيت. ثم يقسم الله بالقلم وما يسطرون، على أنّ اتهام المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنون اتهام باطل، وأنّ الله أعدَّ له أجرًا عظيمًا على قيامه بحقِّ الله عليه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- متمكِّن من ذُرا الأخلاق العظيمة، وفي هذا القسم بالقلم وما يسطرون بالقلم، وفي بداية السورة بحرف من حروف الهجاء "ن"، ما يدل على تعظيم الإسلام للقراءة والكتابة، فهي مفتاح التقدم، وباب الحضارة، وأساس التمدن، وهذه أول الآيات نزولًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأمره بالقراءة باسم ربه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5). فمع أول شعاع الوحي ترى الدعوة إلى العلم؛ ليكون نبراسًا يهتدي به الإنسان في دنياه وأخراه، وليكون أمضى الأسلحة في المعركة مع الكفر والكافرين، وأمةٌ بلا علم أمة ينخر الجهل في عظامها، ومصيرها إلى الفناء، والعلم الذي تسطِّره الأقلام ليس قاصرًا على علوم الدين وحدها، إنما يشمل علوم الدين والدنيا،

والأقلام التي تسطِّر إنما تسطر ما وصل إليه الفكر والعقل من بحث وتجربة، وقد أثبت التاريخ أنه لا مكان لأمة جاهلة بين الأمم، ومع أدوات العلم هناك الأخلاق، والتي تسلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذراها، وأمته مكلفة بالاقتداء به، فإذا اجتمع لها العلم والأخلاق المبنية على الإيمان بالحقّ سادت وسعدت، وهذا ما تحقق -كما تعلمون- في الرعيل الأول، الذي حمل لواء الحق والعدل والخير والحب والسلام، فرفرف به في كل مكان من أرض الله. ولهذا جاء التهديد للمكذبين المعاندين {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم: 5، 6) أي بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام وانقلابهم أذلة صاغرين، وما كان للإسلام أن يظهر على الكفر والمسلمون جهلة لا علم لهم بدين أو دنيا، وما كان لهم أن يسودوا وتعلو كلمتهم، ويلتف الناس حولهم وهم أصحاب أخلاق وبيئة وصفات ذميمة، ولهذا جاء قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القلم: 7) شهادة للمؤمنين المهتدين، وتهديدًا للمعاندين الضالين، ومن منطلق القوة في العقيدة والخلق وحسن الصلة بالله، والتمكن من الحق، يأتي التوجيه القرآني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون تبع له: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 8، 9) أي: لا تطعهم فيما يدعونك إليه من التنازل عن دعوتك، وفي مهادنتهم وتركهم في عبادتهم الباطلة، وهم مستعدون لذلك {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 9). والآية حَدّ فاصل بين الكفر والإيمان، وأنه لا التقاء بينهما، وما كان لأصحاب الدعوة أن يغمضوا أعينهم عن الباطل وأهله إيثارًا للسلامة، وبعدًا عن وعورة الطريق، إنما هناك الحق الواضح الذي لا يقبل التنازل، وتأكيدًا لهذا المعنى في عدم الانقياد والرضوخ للمكذبين يأتي النهي عن الانقياد لقادة الضلال منهم،

أصحاب الأخلاق الرديئة، يقول ربنا: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم: 10 - 13) وما أسوأها من صفات يتّصف بها أهل الكفر والضلال، ثم يقول تعالى مهددًا ومتوعدًا ومعجِّبًا من حال الواحد من هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال والبنين، فكفر بأنعم الله، وردَّ وحي الله، وقال في القرآن قولًا يدل على جهله وحمقه: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (القلم:14، 15) {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16) أي: سنجعل له علامة في وجهه يعرف بها في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا يضرب بالسيف فيترك السيف علامة في أنفه يُعَرف بها، وفي الآخرة: {تَرَى الَّذِينَ كَ ذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60)، وإذا علمنا أنّ هذه الآيات من أوائل ما نزل في مكة، أدركنا ما تحمله من بشرى النصر للمؤمنين، وأنهم سيلقون المشركين، ومنهم أصحاب المال والأولاد في معركة من معارك الحق؛ ليكون للمؤمنين نصر الله، وقد حدث هذا في بدر، وهذا كقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45) ولما نزلت تعجب عمر -رضي الله عنه- فقال: أي جمع يهزم؟! أي جمع يغلب؟! قال عمر: "فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، فعرفت تأويلها يومئذ". وبيانًا لحال المشركين أصحاب الأموال والأبناء والذين لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم، فكان لهم عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة، يسوق الله قصة أصحاب الجنة فيقول: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ * إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم: 17، 18) إلى أن يقول: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم: 33) فكيف عرض القرآن هذه القصة؟

إنها قصة ليست قصة من وحي الخيال، جاء بها القرآن فاختلق شخصياتها، ورتب أحداثها، وأجرى الحوار بين المشاركين فيها إبرازًا لمعنًى من المعاني، وضربًا لمثل من الأمثال، دون أن يكون لذلك وجود واقعي في الحياة، إنما يعبِّر القرآن عن واقع حيٍّ ملموس، ويذكر تاريخًا لأناس حدث منهم ذلك، ولعلكم تلمحون معي أنه لم يذكر من حدث لهم هذا الأمر، على طريقته في عرض موضع الحكمة مما يسوق من قصة أو حدث، فلا يعنيه أن يذكر الأسماء، فذكرها لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، مع أن الروايات قد وردت ببيانهم، فذكر بعض السلف أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: "كانوا من قرية يقال لها ضروان، على ستة أميال من صنعاء" وقيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغلّ منها يرد فيها ما تحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفّر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء. والقرآن حين يعرض هذه القصة يعرضها -كما تعلمون- بأسلوبه المعجز، مكتملة البناء القصصي في التشويق والحبكة القصصية، مع أنها قصة تساق من خلال آيات بينات، تتوالى هذه الآيات في عذوبتها ورقتها وروعتها، فما أعظمها من آيات. وتبدأ القصة مرتبطة بما ورد في صدر السورة من بيانٍ لحال المشركين في عتوهم ورفضهم لدعوة الحق، مع نصاعتها وقوتها في ذاتها، ومن حملها إليهم، هذا النبي الكريم، صاحب الخلق العظيم، الملقب فيما بينهم بالصادق الأمين، فحالهم في رفضهم لدعوة الإسلام وكفرهم بالله ورسوله حال أصحاب

الجنة، الذين لم يؤدوا حق الله فيما أعطاهم، والقرآن يعبِّر عن هذا وذاك بأنه ابتلاء، فيقول: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) والابتلاء ليس مجرد امتحان واختبار، إنما هو امتحان ببلاء يحدث للإنسان، وقد يكون هذا في الخير أو الشر، وكما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35). يقول الراغب الأصفهاني: "والقيام بحقوق الصبر أيسر من حقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر: "بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر"، ولهذا قال أمير المؤمنين -يقصد عليًّا -كرم الله وجهه-: "من وسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مُكِر به، فهو مخدوع في عقله". وإذا كان هذا الابتلاء بالنعمة من الله، وكان التعبير عن ذاته -جل وعلا- بقوله: "نا"، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) علمنا أن هذا ابتلاء شديد؛ لأن الله بعظمته وما له من صفات الكمال والجلال هو الذي يفعل ذلك بعباده، فكم من نعمة أنعمها على المشركين، كان عليهم أن يشكروا الله على نعمه الكثيرة بالإيمان به والتصديق برسوله والانقياد لأمره، ولكنهم كفروا بالله وحاربوا رسوله، وصدوا عن دينه، فلم يجتازوا هذا الاختبار، ومَثَلهم كمثل أصحاب الجنة، ابتلاهم الله بأن أنعم عليهم ببستان فيه ما فيه من ألوان الفاكهة، والتعبير بالصحبة في قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) دليل على ملكيتهم لجنتهم، وكثرة ترددهم عليها، وأنها كانت موضع بهجتهم وسعادتهم، يغدون عليها ويروحون، نجح أبوهم ورسبوا، فالقصة ترغيب وترهيب، والقصة بهذه البداية تجعلك تشرئب وتتطلع لمعرفة ما كان من أمر هؤلاء، فيأتيك بيانه في قوله: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم:17، 18).

ولم يذكر الله ما كان يحدث من أبيهم من إكرام للفقراء وبرٍّ بالمساكين، وما ترتَّب على ذلك من بركة في رزقه، ووفرة في إنتاج حديقته؛ لأن المثل يُضرَب لمن كفر بأنعم الله، وهذا هو موطن العظة، والقرآن يتخطّى الأحداث التي سبقت قسمهم هذا؛ ليترك لك مساحة تُعمِلُ فيها فكرك، فتقول وتتخيل هؤلاء الأبناء في حياة أبيهم يرونه يجود بجزء من ثمار حديقته للفقراء، ويرون ما تجود به جنتهم من وفرة في هذه الثمار، وقد كبروا وصار لهم أبناء، وهم ينظرون إلى فعل أبيهم، فيظنون أن ما يفعله إسراف لا يليق، وأنه لو حَرَم المساكين ومنعهم من أخذ شيء من ثمارها لكان ذلك أولى؛ لأنهم سوف يكون لهم ما تنتجه جنتهم بالكامل. ولذلك ما إن صارت الحديقة لهم بعد وفاة أبيهم حتى عقدوا هذا الاجتماع، وتداولوا فيما بينهم، فاتفقوا على الخطة التي سيسلكونها لمنع الفقراء والمساكين من الحصول على شيء من ثمار هذه الحديقة، يتخطّى القرآن كل هذه الصور ليعرض صورة لأبناء الرجل الصالح، وقد سيطر عليهم الغضب، وتملكتهم ثورة عارمة وحنق على ما أضاع أبوهم خلال سنوات قلائل، وقالوا ما سمعتم، لقد كان أبونا أحمق، وإن فعلنا ما كان يفعل ضاق علينا الأمر ونحن أصحاب عيال. وتوثيقًا وتأكيدًا لما اتفقوا عليه أقسموا أن يقطعوا ثمارها في الصباح الباكر، قبل أن يعلم الفقراء والمساكين بخروجهم وقطعهم لثمار حديقتهم، وتعبير القصة عن منعهم الفقراء له طعمه ودلالته، فقد بدأ ذلك بالقسم، تأكيدًا لما عزموا عليه، ولم يذكر ما أقسموا به ليجعلك تتخيل كل عظيم لديهم يمكن أن يقسموا به، وإن كانت

الآيات قد دلّت على أنهم كانوا يؤمنون بالله، مما يرجِّح أنهم كانوا من أهل الكتاب، فقد ذكرت في نهاية القصة قولهم: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: 32) فيفهم من ذلك أنهم أقسموا بالله، وانظر إلى ما أقسموا عليه، إنه يجمع بين أمرين: الفعل والزمن، أما الفعل فهو في قوله: {لَيَصْرِمُنَّهَا} (القلم: 17). وأما الزمن فهو في قوله: {مُصْبِحِينَ} (القلم: 21) وصرم الشيء قطعه، وهذا ليس مجرد قطع لشيء من شيء، إنما قطع لا يبقى شيئًا. يقول الراغب: "الصارم الماضي، وناقة مصرومة كأنها قطع ثديها، فلا يخرج لبنها حتى يقوى، وتصرمت السنة وانصرم الشيء انقطع، وأصرم ساءت حاله"، أما الزمن ففي قوله: {مُصْبِحِينَ} أي داخلين في وقت الصباح الباكر، وأضاف إلى ما عزموا عليه وأقسموا عليه قوله {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم: 18)، وهذا معناه: أنهم لم يقولوا: إن شاء الله، أو أنهم لم يستثنوا أحدًا من الفقراء يجدون أنه مسكين يستحق الصدقة، إنما أصروا على منع كل فقير ومسكين، وكلا المعنيين جائز. فكم من أناس يدبرون أمرهم ويحكمون خطتهم لفعل شيء ما، ويوقنون أنهم لا بُدَّ واصلون لتحقيق غايتهم، وما علموا أن مدبِّر الأمر هو الله، فإليه يرجع الأمر كله، ومع اتخاذ الأسباب يفوّض العبد الأمر لله فيقول: إن شاء الله، وقد قال الله لرسوله -كما رأينا في قصة أصحاب الكهف-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ * وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24) وهذا بعض ما يفهم من قول الله تعالى في ختام سورة هود: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود: 123).

أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم.

أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم وتنتقل القصة لتصوّر مشهدًا آخر في مواجهة تدبير أصحاب الجنة، وما عقدوا عليه العزم، إنه تدبير الله، فتقول: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم: 19، 20) فانظر لجمال العرض في دقة المقابلة بين فعل البشر وفعل رب البشر؛ رب السموات والأرض، فالآيتان تعرضان مشهدًا من مقدّمة ونتيجة في لقطة فنية سريعة، توقظ الأحاسيس والمشاعر، فالفاء في قوله: {فَطَافَ} (القلم: 19) تدلك على أن أمر الله نزل بجنتهم بعد أن عقدوا العزم على فعلتهم على وجه السرعة، والطواف الذي طاف عليها، يعني: الإحاطة من كل جانب، ومعنى هذا أنه لم يترك منها موضعًا. والتعبير بالربوبية مضافة إلى المخاطب وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له الخطاب، فيه إظهار لهيمنة الله وقدرته على فعل ما يشاء، وفيه لفت للأنظار إلى أنّ هؤلاء لم يفهموا ولم يدركوا أنّ ما آل إليهم من ملكية هذه الجنة، إنما ذلك محض عطاء الله وفضله، وأن ما تجود به من الثمار نعمة من الله تستحق الشكر، ويأتي قوله: {وَهُمْ نَائِمُونَ} (القلم: 19) ليكمل الصورة؛ لتتخيل هؤلاء في غفلتهم، يغُطّون في نومهم، لا يدرون ما دبره الله في جنتهم، كما تدل هذه الصورة على بلادة حسهم، وأنهم لم تتحرك فيهم ذرة من رحمة وعطف على الفقراء، وأنهم لم يتألموا لمنع هؤلاء الفقراء، إنما ذهبوا لبيوتهم فناموا ملء جفونهم؛ كأنهم لم يصنعوا شيئًا. وقد توعد الله من لم يحض على طعام المسكين بسوء العذاب فقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة: 30 - 34) فما بالكم بمن منع المساكين من خيره وبره،

أما النتيجة {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم: 20) وكلمة الصريم التي رأيناها في قول أصحاب الجنة: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (القلم: 17) وسوف نقرأها في {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} (القلم: 22). هذه الكلمة لم تُذْكَر في القرآن إلّا في هذه السورة، وهي تعني كما ذكر الراغب وغيره: انفصال شيء عن شيء، وهنا معناه: أن هذا الطائف الذي طاف عليها أسقط كل ثمارها، فلم يترك منها شيئًا، وقال ابن عباس: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم: 20): "كالرماد الأسود". يقول الألوسي: "وهو بهذا المعنى لغة خزيمة"، وعن ابن عباس أيضًا: "الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئًا"، وقال منذر والفراء وجماعة: "الصريم: الليل" والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وهي معانٍ متقاربة. وتترك القصة أمر الجنة وما صارت إليه من احتراق أشجارها، والقضاء التام على ثمارها؛ لتعود بنا إلى أصحابها الذين استيقظوا في الصباح في الباكر، وما زالوا مصمّمين على تحقيق ما اتفقوا عليه، وتأمل معي تصوير القرآن لهم، وكأنك تراهم صورة ماثلة: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم: 21 - 25). فها هم أولاء قد قاموا في الصباح قبل طلوع الشمس، وأخذ كل منهم ينادي أخاه ليوقظه، مما يدل على تحمسهم وإصرارهم على تنفيذ مخططهم، وكل منهم يقول لإخوته: هبوا لنذهب معًا إلى بستاننا، إن كنتم تريدون قطع ثماره قبل مجيء المساكين، كما جرت بذلك عادتهم، وبسرعة تجمعوا وانطلقوا وهم يتخافتون، أي: يتحدثون بصوت منخفض، يتواصون فيما بينهم، ويؤكدون ذلك قائلين: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} وساروا مسرعين إلى بستانهم يملؤهم الغضب، ويعتقدون أنهم على منْعِ المساكين قادرون، فقد مات أبوهم الذي كان في نظرهم يسيء إليهم؛ حيث يعطي

المساكين ما يعطي، بل كان الرجل يخبر المساكين بموعد جنيه لثمار جنته حتى يحضروا لينالوا من خيره وبره، أمّا الآن فهذه الحديقة ملك خاصٌّ لهم، فهم لذلك يستطيعون أن ينفِّذوا فيها ما يحبون، وكلمة الحرد في قوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم: 25) لم تذكر في كتاب الله إلّا في هذه الآية، وكأن اختيار هذه الكلمات الفريدة في القرآن، لمناسبة أن هذه القصة أيضًا فريدة لم تذكر في القرآن إلّا في هذه السورة، سورة "القلم". فماذا كان من أمرهم حين وصلوا مصبحين إلى جنتهم، هنا يأتي مشهد آخر ترسمه كلمات الآيات فتقول: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: 26 - 32). وبين هذا المشهد وسابقه ترى مسافة يملؤها الفكر؛ ليقول: بأن هؤلاء الأبناء بعد أن قام كل منهم مبكِّرًا ينادي إخوته ليخرجوا جميعًا مبكرين، ثم انطلقوا بجمعهم يتكلمون بصوتٍ خفيض حتى لا يلفتوا إليهم الأنظار، ويؤكدون ما بيتوه ليلًا من حرمان المساكين، وأنهم صاروا يظنون -لجهلهم- أنهم قادرون على الاستحواذ على ثمار جنتهم، والانفراد بها وحدهم، دون أن يعطوا منها فقيرًا شيئًا، فساروا حتى وصلوا إلى حديقتهم؛ فماذا كان؟. القرآن يعبِّر عن ذلك بهذه الكلمات، التي تحمل الأسى والحزن، وتصوّر الدهشة التي اعترت هؤلاء الأبناء، فهي تذكر أنّهم بمجرّد أن وصلوا ورأوها أنكروا أنفسهم، ومن شدة المفاجأة قالوا: {إِنَّا لَضَالُّونَ} (القلم: 26) أي: إنا سلكنا طريقًا آخر أدّى بنا إلى بستان آخر محترق ليس به ثمر، وبستاننا كان وارف الظلال مثقلًا بالثمار، ثم أفاقوا من دهشتهم، وتيقنوا أن هذه جنتهم فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} (القلم: 27) أي: إنّ الله حرمنا من ثمار جنتنا، بل حرمنا من بقاء أشجارها لأنا

عقدنا النية على حرمان المساكين. وكم في كلمة الحرمان من تعبير عن الأسى والحزن والألم، وكأنها تصورهم والكآبة قد علت وجوههم، والألم يعتصر قلوبهم، وفي هذا المشهد ترى واحدًا منهم يقف يلومهم أن لم يستجيبوا لنصحه، وهو أخ لهم كما قال ربنا: أوسطهم، أي أرجحهم عقلًا وأصوبهم رأيًا، أو أوسطهم سنًّا، قال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (القلم: 28) فهو يذكرهم بنصيحته لهم حين كانوا مجتمعين للتشاور في كيفية الحصول على ما في جنتهم كاملًا، دون أن يعطوا الفقراء منها شيئًا، ولم يقولوا إن شاء الله، ظنًّا منهم أنهم بتدبيرهم سوف يحققون مطلبهم، وأنه لا مجال لمشيئة الله في ذلك، أو يذكرهم هذا الأخ بما طلبه منهم من التوبة والرجوع عن هذه الخطة الفاسدة، فلم يستجيبوا لنصحه، فاعترفوا بذنبهم قائلين: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (القلم: 29). والقرآن يذكر أنّ البلاء قد وقع بهم جميعًا؛ لأن هذا الأخ مع نصيحته لهم لم يتركهم يذهبون ولم يتخل عنهم ولم يتخلف، إنما سار معهم حيث ساروا، فوقع البلاء بهم جميعًا، مما يدعونا إلى أن نوجّه النصح لمن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أن يحذروا من موافقة أهل المعاصي والظالمين والطاغين. والقرآن يصور حالهم، حال الندم بعد فوات الأوان، وكيف أنّهم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، كل منهم يلوم الآخر، ويدّعي أنه السبب فيما كان منهم وما وقع بهم، ثم اعترفوا بطغيانهم كما اعترفوا بظلمهم: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} (القلم: 31) وكم في قولهم: {يَا وَيْلَنَا} من تحسر وندم، ودعوا الله أن يبدلهم خيرًا من جنتهم؛ لأنهم تابوا إليه ورغبوا في ثوابه وفضله، وقد قَبِلَ الله توبتهم، وأبدلهم خيرًا منها، وروي أنهم تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرًا منها لنصنعنَّ كما صنع أبونا، فدعوا الله -عز وجل- وتضرعوا إليه سبحانه، فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها.

وختامًا لهذه القصة يقول ربنا: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم: 33) وفي ذلك العبرة والعظة، فهكذا يكون عذاب الله لمن عصاه، ولمن منع حق الفقراء والمساكين، ويبقى له في الآخرة العذاب الأكبر لو كانوا يعلمون. يقول الإمام الفخر الرازي: "واعلم أنّ مقصود هذه القصة أمران: أحدهما: أنه تعالى قال: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (القلم: 14، 15) والمعنى لأجل أن أعطيناه المال والبنين كفر بالله، كلا، بل إن الله أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه، بدليل أصحاب الجنة؛ لمّا أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمّر الله على جنتهم، فكيف يكون الحال في حقِّ من عاند الرسول، وأصر على الكفر والمعصية. والثاني: أنّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل مكة؛ لمّا خرجوا إلى بدر حلفوا على أن يقتلوا محمدًا وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنّهم، فقتلوا وأسروا كأهل الجنة". إذا ما قرأنا في كتاب الله هذه القصة؛ قصة أصحاب الجنة، لا بُدّ أن نقول للآخرين: اعتبروا أيها الناس بما آل إليه حال أصحاب الجنة، ولا تحرموا الفقراء والمساكين، فلهم في أموالكم حق معلوم، كما يجب أن ننبِّه إلى قيمة العلم والعلماء في بناء الأمم، وأنّ هذا الدين قد بدأ رحلته لبناء الأمة المتعلمة، التي تزخر بالعلم والعلماء من أول لحظة نزل فيها القرآن، كما رأينا في مطلع سورة "العلق" في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1، 2) وكما رأينا في هذه السورة المباركة؛ حيث أقسم الله في مطلعها بالقلم وما يسطرون. نعود لنبني أمتنا على العلم النافع المرتبط بالإيمان الصحيح، وبالأخلاق الكريمة، التي تسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذراها، وسعد بشهادة الحق في قوله -عز من قائل-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).

وعلينا أيضًا أن ننظر في الآيات التالية لهذه القصة، فهي ترتبط بهذه القصة ارتباطًا وثيقًا، وتؤكد ما جاء فيها من المعاني، ذلكم أنها تُعلي من قدر أهل التقوى، وتبين بأنَّ المتقين لهم عند ربهم جنات النعيم، وتقارن بين المسلمين والكافرين، الذين سمّتهم الآيات بالمجرمين، فتقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35)، وتناقشهم فيما هم فيه من أباطيل، وتعيب عليهم أنهم لم يستعملوا عقولهم، ولم يلتفتوا إلى آيات الله؛ فتقول: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ * إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (القلم: 36 - 41) وتهددهم بالعاقبة الوخيمة، وأنهم حين أنعم الله عليهم بما أنعم، فكذبوا بالله ورسوله، وكذبوا بهذا القرآن، وأن هذا لا بُدّ أن يكون معلومًا لديهم بأنه استدراج من الله لهم، يقول تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ * سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم: 44، 45) كما توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يصبر على أذى هؤلاء، فإن العاقبة العظيمة له، كما قال ربنا: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم: 48) يونس -عليه السلام- {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم: 48) فاستجاب الله له، وتداركه برحمته، ونُبِذَ بالعراء وهو مذموم، {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القلم: 50). ثم تبيّن السورة في نهايتها بأنّ هذا الذي يراه من أقوال هؤلاء المكذبين المعاندين، إنما هذا من باب الحسد، فتقول: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم: 51) {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم: 52)، هذه رسالة عالمية لبني الإنسان، وعلى قدر اتساع هذه الرسالة وعظمها يكون صبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مشقاتها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين.

الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين.

المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين) المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد: فموضوع حديثنا عن الأمثال في القرآن الكريم وتأثيرها على السامعين: فما هو المثل في لغتنا العربية؟ وما أهميته؟ وما هي فوائده؟: يقول ابن فارس: "مثل، الميم والثاء واللام، أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا أي نظيره، ويقول: والمثل المضروب مأخوذ من هذا؛ لأنه يذكر مورًّى به عن مثله في المعنى". ويقول ابن منظور: "مثل، كلمة تسوية، يقال: هذا مثله ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه، بمعنًى". قال ابن بري: "الفرق بين المماثلة والمساواة، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين؛ لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار، لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين، تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه، ولونه كلونه، وطعمه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله على الإطلاق، فمعناه: أنه يسد مسده، وإذا قيل: هو مثله في كذا، فهو مساوٍ له في جهة دون جهة" ثم يقول: "والمثل الشيء الذي يضرب بشيء مثلًا، فيجعل مثله". وفي (الصحاح) ما يضرب به من الأمثال، ومثل الشيء أيضًا صفته، وقد يكون المثل بمعنى العبرة، ومنه قوله -عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} (الزخرف: 56)، ويكون بمعنى الآية كما قال تعالى في صفة عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية تدل على نبوته. وذكر الراغب في (مفردات ألفاظ القرآن) قريبًا مما ذكره ابن فارس وابن منظور، وإن كان قد توسّع في الاستشهاد بالآيات، ومما قال: "المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر، بينهما مشابهة؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره".

ويقول أبو حيان في (البحر المحيط): "المثل القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، وقيل المثل ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به على وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء؛ ليصير في الذهن مساويًا للأول في الظهور من وجه دون وجه"، ثم يواصل أبو حيان حديثه فيبين أهمية المثل وفوائده فيقول: "والمقصود من ذكر المثل أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشيء في نفسه؛ لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل". ويقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة): "اعلم أنّ ما اتفق العقلاء عليه هو أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقِلَت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، ورفع من أقدارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها"، ويشرح عبد القاهر ذلك فيقول: "فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس، وأسرع للإلف، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد، وإن كان حجاجًا، كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر، وإن كان افتخارًا، كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه أند، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، وإن كان وعظًا، كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر". وإذا أجلنا النظر فيما وَرَد في القرآن من أمثال، وفي الحكمة من إيرادها، سوف نرى أن الله يسوقها تذكرة وعبرة وعظة لمن كان له عقل يفكِّر، وقلب خافق يشعر

وينفعل، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27) ويقول: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 25) فبيّن في هذه الآية والتي بعدها، أنه سبحانه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل؛ ليكون في ذلك ذكرى لمن يتذكرون، وعبّر بالمضارع {يَتَذَكَّرُونَ} ليدلَّ على تجدد هذا التذكر؛ ليكون مواكبًا لمسيرة الإنسان في هذه الدنيا، فيبقى على صلة دائمة بربه. ويقول ربنا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) فأوضح أنه يضرب الأمثال يستمع إليها الناس جميعًا، لكن لا يستفيدوا منها ولا يعقلوها، ويدركوا مراميها، إلّا من آتاه الله العلم النافع والبصيرة المهتدية بنور الحق، ويقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) قال هذا بعد قوله في صدر الآية: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21) فضرب بذلك مثلًا لما للقرآن من تأثير في الجمادات، والأولى بهذا التأثر الإنسان العاقل، ولكنّ الأمر يحتاج إلى إجالة الفكر، وعمق النظرة للاهتداء إلى سبل الرشاد، ولو تفكر الإنسان وتدبّر؛ لعلم أن سبيل ذلك هو القرآن العظيم، وهو عصمة لمن تمسَّك به، ونجاة لمن اهتدى بهديه. ولعلنا لاحظنا التعبير بـ"لعلّ" في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة: 221)، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 176) والتعبير بذلك يدل على أنّ هذا أمر سهل الحصول؛ لأن "لعلّ" كما علمتم في لغتنا العربية حرف ترج، بخلاف ليت فهي للتمني، والترجي إنما يكون في الأمر القريب الحصول، السهل الوقوع، والتمني في الأمر الذي يصعب تحقيقه، كما في قول الشاعر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين.

فالطريق للاستفادة مما ضرب الله من الأمثال، لا يحتاج إلّا إلى العلم والتفكر والتذكر، ولو صدقت نية العبد في البحث عن سعادته في الدنيا والآخرة؛ لبذل الجهد فالتزم بما في كتاب ربه، واهتدى بهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم. وأمثال القرآن كثيرة يضربها الحق -تبارك وتعالى- لتحقق أهدافها في تثبيت الإيمان والدعوة إليه، والترغيب في الآخرة والعمل الصالح، والترهيب من حب الدنيا وما يصير إليه حال من ركن إليها وارتضى بها، إلى غير ذلك مما تراه في القرآن الكريم. أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين وهذه أمثلة لما نقول من القرآن الكريم: يقول الله تعالى في المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 17 - 20). فقد ضرب الله مثلين لصنفين من المنافقين: الصنف الأول: لقوم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا، والصنف الثاني: قوم مترددون، يظهر لهم الحق تارة فيطمئنون إليه، وتهجم عليهم الشكوك فينقلبون خاسرين، ولو أن الله ساق الحديث عن المنافقين هكذا، فبين أنهم صنفان؛ صنف آمن ثم كفر، وصنف شاك حائر لا يستقر على رأي

ولا يثبت على فكر، ولا يستريح قلبه للحق، لما كان له من الأثر ما نراه حين ضَرَب لكلٍّ منهما مثلًا، فكان المثل الأول كما ترى للصنف الأول: الذي آمن ثم كفر؛ إذ شبه حاله بحال الذي استوقد نارًا -أي: أوقدها- بعد بحث عنها وطلب لها، فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. إنه نور الإيمان الذي بدد ظلمات الشك والوهم، وعرف به المؤمن لماذا خلق ولماذا يحيا وإلى أين يصير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فاستقر قلبه وهدأ وجدانه واطمأنت نفسه، وبينما هو في سعادة الإيمان هبّت عليه عواصف الشك، وركبته الشياطين، فانطفأ في قلبه هذا النور، فذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وكم في كلمة "تركهم" من تصويرٍ لما حلّ بهم من غضب الله ونقمته، وكم في قوله من ظلمات من دلالة على ما هم فيه من عمى؛ إذ لم تحط بهم ظلمة واحدة، إنما هي ظلمات، ولهذا جاء قوله: {لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) يكمل هذه الصورة البشعة لهؤلاء المنافقين، ويبين أنّ الطرق كلها قد عميت عليهم، فلم يعودوا يرون شيئًا، فهم لذلك يتخبطون، ومما زاد هذه الصورة قتامة، هو ما ذكره الله من حالهم؛ حيث قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) صم لا يسمعون الحق، وبكم لا ينطقون بما ينجيهم من عذاب الله، وعمي لا يرون طريق الله، مع أنه واضح لا شبهة فيه، فهم لذلك لا يتوبون، ولا يتذكرون، إلى أن يموتوا، فبئس ما هم فيه وما صاروا إليه. وقد أوضح هذا المثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين، يقول ابن مسعود وناس من الصحابة: "قيل إنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فلما

أضاءت ما حوله من أذى، فأبصره، حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك؛ إذ طفئِت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر". ويرى ابن جرير وغيره أنّ هذه الظلمة التي اعترتهم بعد أن كانوا في النور، إنما هي تشبيه لهم بما يصير إليه أمرهم يوم القيامة، فيقول: "هذا مثل ضربه الله للمنافقين، أنّهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه". وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} (البقرة: 17) فهي لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا، وأُنكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون". أما المثل الثاني: فهو مثل ضربه الله لأناسٍ من المنافقين، تتقطع قلوبهم ترددًا وشكًّا، فلا يقر لهم قرار، ولا تطمئن إليهم نفس، فانظر إلى روعة هذا المثل الذي ضربه لهؤلاء التعساء البؤساء، وكيف رسم صورة كأنك تراها رأي العين لهم، فأنت ترى أناسًا يسيرون في طريق يريدون أن يصلوا إلى غايتهم، وبينما هم كذلك؛ إذ بسحب السماء قد تجمّعت، وإذا بأمطارها قد هطلت، وإذا بالرعد يدوي بصوته، وبالبرق يلمع بضوئه، وقد وقفوا يرتجفون خوفًا، يحذرون أن تأخذهم صاعقة من هذه الصواعق، فتراهم وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، والبرق من شدته يكاد يخطف أبصارهم، كلما لمع

ببريقه مشوا خطوات، وإذا أظلم عليهم وقفوا، وما علموا أن الله محيط بهم، وأنه لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم، إن الله على كل شيء قدير. هذا هو المثل الذي ضربه الله لهؤلاء المنافقين في شكِّهم وترددهم، ومطابقة المثل لما هم فيه وعليه واضحة، فهؤلاء القوم جاءوا كغيرهم إلى هذه الدنيا، فنشئوا في بيئة جاهلية تعبد الأصنام والأوثان، وبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول كريم ونبي عظيم، هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى الله الواحد الأحد، ويطلب منهم أن يؤمنوا به وبرسالته وما جاء به، ومعه -صلى الله عليه وسلم- من قوة الحجة ونصاعة الدليل ما يقنع العقل والقلب، فاستولت أدلة القرآن على عقولهم، وهذا هو البرق الذي يكاد يخطف أبصارهم، ولكنهم ينتكسون ويرجعون ويتوقفون ويعودون إلى الكفر، وهذا هو قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19). أما قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) أي: وقفوا في مكانهم حائرين، فهذا هو القرآن الذي أوحاه الله لنبيه، شبّهه الله بالمطر والغيث الذي يحيي به موات القلوب، كما تحيي الأمطار الأرض الميتة بإذن ربها، فيه وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وهذه هي ظلماته ورعده وبرقه، يسمع المنافقون آياته تبرق تحذيرًا وتخويفًا، وتهجر بيانًا وحججًا، فينصرفون عن ذلك، ومثالهم كمن {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}. وفي المثل يمتزج الممثَّل بالممثَّل به، مع الوعيد والتهديد الذي تراه في ختام الآيتين، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 19، 20).

وفي مقام إثبات توحيد الله وما يكون عليه حال من أشرك به، يضرب الله الأمثال في كتابه، فيقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} (البقرة: 26) إلى آخر الآيات، فإن الله لما ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73) وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41). قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فأنزل الله ردًّا عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (البقرة: 26) فهو -جلّ وعلا- خالق هذه المخلوقات، وكم فيها من دلائل قدرته، ولكن لها من الصفات ما يجعلها مثلًا يُضرَب في الضعف والقلة، فذكر الله حال الأصنام في عجزها وضعفها، وأن هذه الأصنام لا تستطيع أن تخلق ذبابًا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه، مع شدة ضعف الذباب، ومع ذلك لا تستطيع هذه الآلهة المدّعاة أن تسترد ما أخذه الذباب منها، وما ذلك إلّا لأنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فكيف تكون آلهة تعبد مع الله أو من دونه. يقول ربنا في بيان ما عليه هذه الأصنام من عجز وضعف: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} (الأعراف: 195)

وقريب من هذا ما في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (العنكبوت: 41) فهذا مثل لقلة جدوى عبادة الأصنام، ولعدم نفعها، ولشدة ضعفها، ولو قيل بأنّ اتخاذ هذه الأصنام لتعبد من دون الله لا تفيد من عبدوها شيئًا، لما كان له من الأثر في نفوس السامعين ما تراه في هذا التشبيه وهذا المثل، فقد شبّه ما أقامه المشركون حول أصنامهم من معتقدات جعلتهم يتقربون لها بألوان القربات، ويستشفعون بها عند الله، ويقدمون لها القرابين، بما تصنعه العنكبوت لنفسها من بناء بيت لا يثبت أمام لمسة لامس، أو هبة ريح، ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41) فزاد المشركين تجهيلًا على تجهيل، وجاء هذا المثل بهذا البيان الشافي الكافي. وفي بيان أثر الشرك في المشركين، يضرب الله هذا المثل فيقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31) فتأمّل معي روعة هذا المثل، وهذه اللوحة الرائعة التي رسمتها كلماته، وأنت تتصور رجلًا كان قد ارتفع إلى أجواز الفضاء، فخانته قواه، فسقط من هذا الارتفاع الشاهق، فتلقفته طيور السماء الجارحة، فتوزّعته إربًا، أو واجهته وهو يهوي إلى الأرض ريح عاصفة، فهوت به وألقته في مكان بعيد بعيد، ولو عُدت للمثل لترى هذه الصورة المنتزعة للمثَّل والممثَّل به لتشكل هذه اللوحة، فستجد أن السماء التي ارتفع إليها هي سماء الإيمان، في سموه ورفعته، وأن الشرك بالله هو الوهن والداء الذي أضعف قوى هذا الرجل، فخارت قواه، فلم يلبث أن سقط من سمائه، والتعبير بقوله: {خَرَّ} يدلك على سرعة وقوة سقوط هذا المشرك، والطير الذي تخطفه هي الشياطين التي توزعته ومزقته، فلم

يهدأ له بال، ولم يطمئن إليه قلب، ولم يقر له قرار، والريح التي ألقت به في مكان سحيق هواه الذي سيطر عليه فعصف به، فأبعده عن الحق وضيائه إلى الكفر وظلمته. وهذا مثال آخر لما في الشرك من ضياع وخسران، يقول تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) وهذه الآية تأتي بعد قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27، 28). فانظر بعين بصيرتك إلى هذه الصورة التي أوضحها هذا المثل للمشرك والمؤمن، والمثل منتزع من البيئة التي نزل فيها القرآن؛ حيث كان الرق شائعًا في أنحاء الأرض، إلى أن أشرق الإسلام على دنيا الناس، فاتخذ من الوسائل ما أدَّى إلى إغلاق هذا الباب، والقضاء على الرق، ليبقى الناس جميعًا أحرارًا، وكان هناك من يكون له عبد خالص لخدمته، يقوم بأمر سيده، وسيده قائم بأمره، وهناك من يشتري مع غيره عبدًا ليخدمهم جميعًا، وهذا العبد يبذل قصارى جهده في خدمة سادته، ولكنه لا يستطيع إرضاءهم جميعًا، وإذا أراد طعامًا أو شرابًا أو شيئًا، لا يدري من المسئول عنه في هؤلاء السادة. وقد ضرب الله الأوّل مثلًا للعابد للإله الواحد الأحد، فوجهته واحدة، يطلب منها ما يطلب من خيري الدنيا والآخرة، فهو لذلك مطمئن سعيد {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28) كما ضرب الثاني مثلًا للمشرك، يعبد عدة آلهة، فيجتهد في عبادتها، ولكنه لا يرضي أحدًا من هؤلاء الآلهة، كما أنه لا يدري ممن يطلب حاجته، بل إن هذه المعبودات

لا تدري عن عابديها شيئًا، إنها أحجار صماء، صنعها هؤلاء الجاهلون بأيديهم، ثم نصبوها وعبدوها. وهذا مثل آخر لِمَا عليه الكفار من عمى وجهل، يذكره الله تعالى بعدما ذكر حال المشركين في رفضهم لدعوة الحق، لا لشيء إلّا اتباع ما كان عليه آباؤهم، يقول ربنا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وكما قال في آبائهم بأنهم لا يعقلون شيئًا، أيّ شيء نافع، ولا يهتدون لطرق السداد والرشاد، قال فيهم: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171). والمثل ينقلك إلى صورة واقعية في مجتمع تقوم فيه الحياة على الرعي، فترى أن القطيع من الأنعام إبلًا أو بقرًا أو غنمًا، يسوقه راعيه بعصاه، ومن في القطيع من هذه الأنعام لا يفهم لغة، إنما يسمع صوتًا يناديه بالسير أو التوقف أو الورود لموضع المياه أو الكلأ، ولكن هذه الأنعام لا تفهم ولا تعقل، والقرآن يأخذ هذه الصورة التي يشاهدها العربي في بيئته، ويراها الناس في كل زمان ومكان، ليشبه بها هؤلاء المشركين في انقيادهم لقادة الكفر والضلال، وأنّ هؤلاء المشركين ينصرفون بتوجيهات هؤلاء القادة دون عقل أو تدبر، انصراف الأنعام السائمة في حركاتها دون فهم أو وعي. وقد روي عن ابن عباس أن قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (البقرة: 170) الآية. "نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام فقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (البقرة: 170) ثم ضرب لهم مثلًا لما هم فيه من الغي والضلال والجهل، بالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نَعَق

بها راعيها -أي دعاها إلى ما يرشدها- لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط. وفي عدم فهم ووعي اليهود نجد عدة أمثلة، منها ما يدل على قسوة قلوبهم وعدم انصياعها للحق، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74). وهذه الآية تأتي بعد ما ذكر الله من عناد بني إسرائيل ومماحكاتهم في البقرة التي طلب موسى -عليه السلام- منهم أن يذبحوها، وأن يأخذوا منها عضوًا يضربون به رجلًا قتل، ولم يعرف من قتله، وذكر الله أنه حين يُضرَب بهذا العضو سوف تعود له الحياة، ويخبر عمّن قتله، فأخذوا يسألون موسى عن هذه البقرة ومواصفاتها، وبعد جهد وعناء جاءوا ببقرة، وفعلوا ما أمرهم به نبيهم، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، يقول تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 72، 73) ثم يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74). وكان على مَنْ رأى هذه الآية العظيمة على قدرة الله على البعث، أن يزداد إيمانًا، وأن يأخذ العدة للقاء ربه، ولكنّ اليهود تولوا عن ربهم، وغيروا معالم دينهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير الحق، ولهذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، وقد ضرب الله مثلًا لقسوة قلوبهم بالحجارة، بل ذكر أنّ قلوبهم أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة جزء من هذا الكون المسبح لله، قال تعالى:

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) ومن المعلوم أنّ الحصى سُمِعَ تسبيحه في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الجذع حنَّ إليه -عليه الصلاة والسلام. وقال -عليه الصلاة والسلام- في جبل أحد: ((أحد جبل يحبنا ونحبه))، ولذلك ذكر في الآية ما عليه الحجارة من انقياد لأمر الله فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة: 74) ثم قال مهددًا ومتوعدًا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85). وهذا مثال آخر لعدم فهم اليهود، يقول فيه ربنا: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) فقد شبههم بالحمار الذي يحمل الكتب من مكان إلى مكان، فهل يدرك الحمار شيئًا مما في هذه الكتب التي على ظهره، وهذا هو حال اليهود، كلفهم الله بالعمل بما في التوراة، وكم في التوراة من هدى ومن نور، فقرءوها وعلموا ما فيها، ولما رأوا أنها تقف في وجه شهواتهم وتمنعهم من أكل الحرام، غيروا فيها وبدلوا وحرفوها وكتموا منها ما يتعارض مع مصالحهم، فلم يستفيدوا منها شيئًا، شأن الحمار الذي يحمل على ظهره الأسفار، وما أشنعه من مَثَل، ولذلك قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5). وهذا رجل من اليهود، باع دينه بدنياه، فضرب الله له مثلًا شنيعًا؛ إذ شبهه بالكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ

تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 174 - 178). وهذا الرجل كما روي عن ابن مسعود: هو بلعم أو بلعام بن باعوراء، من بني إسرائيل، وقال مالك بن دينار: "كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدّمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى -عليه السلام- إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه، أي خصص له أرضًا، وأعطاه -أي: مالًا- فتبع دينه وترك دين موسى -عليه السلام". فانظر إلى تعبير القرآن عن ترك بلعام لدينه وأنت تقرأ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي: خرج من آيات الله ودينه بالكلية، فتسلّط عليه الشيطان، فكان من الغاوين، يقول ربنا: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الأعراف: 176) أي بهذه الآيات، فلم يخضع لكيد الشيطان، ولم يستطع الشيطان أن يصل إليه؛ لأن الله قال منذ فجر الخليقة: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر: 42)، ولكن بلعام أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمال إلى الدنيا والمتاع، ولم ينظر إلى أعلى، إنما انكبَّ على شهواته وأطماعه، فهو متشبث بالأرض، لا يلتفت إلى سواها، وقد شبهه الله بالكلب اللاهث، الذي يندلع لسانه من العطش عند شدة العَدْو أو شدة الحر. يقول الإمام الفخر الرازي: "واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض، كان مشبهًا بأخسّ الحيوانات، وهو الكلب اللاهث".

أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا.

ثم يذكر الفخر في تقرير هذا التمثيل: "أنّ كل شيء يلهث، فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب اللاهث، فإنما يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب على ذلك كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين، أغناه عن التعرض لأوساخ الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا ويلقي نفسه فيها، كانت حالته كحال ذلك اللاهث؛ حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة. والأمثال التي ضربها الله للكافرين والمشركين والمنافقين في القرآن كثيرة، ويقابلها الأمثال التي ذكرها الله للمؤمنين والعابدين والطائعين، وهذه الأمثال -كما ذكرنا- أُلِّفت فيها المؤلفات، وتحتاج إلى محاضرات ومحاضرات. أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا ولذلك أكتفي بما ذكرت لأنتقل إلى لون آخر من أمثال القرآن، ولنتخير منها ما جاء من تصوير وتمثيل للدنيا ومتاعها وزينتها وبهجتها وسرعة انقضائها وزوالها، وما يجب أن يكون عليه العقلاء من الناس في عدم الركون إليها، والاغترار بزخارفها، مما سنراه في هذه الصور التي رسمها القرآن لها. يقول تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24).

ففي هذا المثل يشبِّه الله الدنيا وزينتها بالأرض التي هطَلَت عليها أمطار السماء، فأنبتت زرعها وأشجارها وورودها ورياحينها وعشبها، فاكتست الأرض خضرة وبهجة ورواء، وظنّ أصحابها أنهم يستطيعون أن يحصدوا زرعها، وأن يأخذوا ثمرتها، وما علموا أنّ الإله القويّ القادر، الذي جعلها زروعًا مبهجة، وأشجارًا مورقة، ونباتًا وارفًا، قادر على أن يرسل عليها حسبانًا من السماء، وقد فعل ذلك -جل وعلا، فأتاها أمر الله ليلًا أو نهارًا، فجعلها حصيدًا كأن لم تغنَ بالأمس، وإنما فعل ذلك بها بذنوب أهلها، وفي ذلك آيات واضحات بينات لقوم يتفكرون. فمن ظن أنه امتلك الدنيا بمتاعها وزينتها، وأنه أصبح قادرًا على توجيه دفتها، بما أتيح له من مصادر القوة، فظنه خاطئ؛ لأن مقاليد السموات والأرض بيد الإله الذي خلق السموات والأرض، وهذه آيات الله يراها الناس في كل مكانٍ، في زلازل أو براكين أو عواصف، تقضي على الأخضر واليابس، وتقتل وتشرد الآلاف، وتزيل مدنًا وبلادًا من على وجه الأرض، فهل يعقل ذلك الغافلون!. وقريب من ذلك المثل ما تراه في قول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف: 45) وما تقرؤه في سورة "الحديد" في قول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20). فالله يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب للناس مثل الحياة الدنيا، وما مثلها في سرعة زوالها وتقلبها بأهلها، إلّا كمثل الأرض التي نزلت عليها أمطار السماء، فاختلط

بهذا الماء نبات الأرض، فنبت هذا النبات وأورق وازدهر وأينع، ثم انقضت مدته، وآن موعد حصاده، فأصبح هشيمًا تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرًا. وفي مثل سورة "الحديد" يلفت الله أنظار خلقه ويقول لهم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (الحديد: 20) فالأمر يحتاج إلى علم القلوب، الذي يعني يقظتها وانتباهها، إلى أن تنظر إلى الدنيا نظرة فاحصة لتعرف حقيقتها، ولو فقه الناس والتفتوا إلى ذلك؛ لعلموا أن الدنيا ساعة وتنقضي، ولحظات وتمر، فعليهم أن ينتبهوا إلى ذلك، وأن يتسابقوا فيما بينهم إلى جنَّة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.

الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.

الحكمة من خلق الإنسان.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله) الحكمة من خلق الإنسان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فنتناول نماذج من دعوة الرسل -عليهم السلام-: لو تأملنا في كتاب الله لعلمنا أن الله خلق الإنسان لغاية، هي أن يكون خليفة في الأرض يعمِّرها وفق منهج الله، فخلق لذلك آدم -عليه السلام- وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنته، وخلق له من ضلعه الأيسر رفيقة دربه وهي حواء، وبعد التجربة التي تمت لآدم وحواء في الجنة هبطا إلى الأرض، وكان هناك إبليس، الذي عصى ربه فلم يسجد لآدم، وقال في تعليل عدم سجوده: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف: 12) قال ربنا: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأعراف: 13 - 18). وبدأت قصة الحياة على وجه الأرض بآدم وحواء وإبليس، في قصة صراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وقانونها {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه:123: 127). واقرءوا قصة الخلق الأول في "البقرة" و"الأعراف" و"طه" و"ص"، واقرءوا إشارات تحذيرية من الشيطان وكيده في "النساء" و"الإسراء" و"الكهف"، وآدم أوّل نبي في هذه الأرض، جاء ومعه منهج ربه، فربَّى على هذا المنهج أبناءه

وأحفاده، وإلا فمن الذي علم ابني آدم تقديم القرابين لله، ومتى يكون القربان مقبولًا ومتى يكون غير متقبل، ومن الذي علّمهما أن القتل حرام، وأن هناك نارًا يدخلها من قتل بغير حق، إلى غير ذلك مما تراه، وأنت تقرأ الآيات في سورة "المائدة" في قوله عز من قائل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) إلى أن يقول: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة: 31). ومع مرور الزمن يخبو ضوء الرسالة التي أرسل الله بها رسوله، وتنحرف القافلة عن الطريق، وينسى الناس ربهم، ويعبدون غير خالقهم ورازقهم، فيرسل الله إليهم رسولًا آخر يردهم إلى الله ويذكرهم به، ويحمل هذا الرسول معه كتابًا فيه منهج حياة، يتناسب مع ظروفهم وأحوالهم، وهكذا تواصلت الرسالات، كلما ذهب رسول أرسل الله رسولًا، ولذلك قال تعالى في سورة "المؤمنون"، بعد أن ذكر نوحًا وهودًا قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 44) ثم ذكر موسى وعيسى -عليهما السلام. وقد ذكر الله في القرآن من هؤلاء الرسل خمسًا وعشرين رسولًا، مع أن المرسلين أكثر من ذلك، ولهذا قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا

حَكِيمًا} (النساء: 163 - 165)، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78). وكان كل رسول قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- يرسَلُ إلى قومه خاصة، ولهذا أرسل الله أكثر من رسول في زمن واحد، كما ترى ذلك في إرسال إبراهيم ولوط -عليهما السلام-، وفي إرسال يعقوب ويوسف وهو ابن يعقوب، وكلاهما نبي مرسَل، وزكريا ويحيى وعيسى -عليهم السلام، كما أن كل رسول يرسَل كان يرسل لفترة من الزمان، فتبقى رسالته من بعده إلى أن يعتريها التبديل والتحريف؛ حينذاك يرسل الله رسولًا آخر؛ لأن الله برحمته لا يترك الناس حيارى يتخبطون في متاهات الباطل، فلما وصلت الإنسانية إلى مرحلة كانت بحاجة إلى رسالة جامعة باقية، اختار الله من خلقه رجلًا رباه وصنعه صناعة إلهية، ذلكم الرجل هو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم. ولعله لا يخفى عليكم كيف ربى الله محمدًا واختاره جامعًا لصفات الكمالات البشرية التي وهبه إياها، فأرسله للناس كافة وجعله خاتمًا لرسل الله، وجعل معجزته التي تثبت نبوته قرآنًا يتلى، وتولى بنفسه حفظ هذا القرآن، فلم تستطع قوة في الأرض عبر القرون أن تغير فيه حرفًا، ونقشه حروفًا على صفحات القلوب، فلم يصل إليه أحد من الحاقدين والحاسدين والماكرين ليطمس حرفًا من حروفه أو كلمة من كلماته. وبقي القرآن نورًا يضيء للناس الطريق، وسوف يبقى كذلك ما بقيت الحياة، وآيات القرآن التي توضح ذلك كثيرة في كتاب الله، ومما يلفت النظر في هذه الآيات أنها آيات مكيّة، مما يعني أن عالمية الرسالة لم تكن كما يدّعي آيات الإسلام وليدة التطور التاريخي للدعوة، وأن محمدًا انتقل بالدعوة من السرية

إلى الجهرية، إلى دعوة أهل مكة، إلى الوافدين إلى مكة، إلى أن هاجر وحارب وانتصر، وأخذ يراسل الأمراء والملوك، فظن أنه مرسل إلى الناس كافة، وادّعى أنه آخر رسول أرسل إلى الناس، ولكن الله قال له منذ فجر الرسالة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وهذه كلها آيات مكية. وقال له في "الأحزاب": {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40). وسورة "الأحزاب" سورة مدنية، جاءت هذه الآية فيها تقرّر هذه الحقيقة، حقيقة أن محمدًا خاتم النبيين، فجمعت رسالته ما جاء به المرسلون الذين سبقوه، وزادت عليها تأصيلًا للقواعد التي تصلِح كل زمان ومكان. وجميع الأنبياء جاءوا يدعون إلى توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، كما اتفقوا في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، من الصدق والوفاء وحب الخير والعمل الصالح، وما إلى ذلك من الأخلاق الكريمة، وفي جانب التشريعات أتى كل نبي بما يتناسب مع حال قومه، وفي جانب العبادات اتفقوا في أصولها من الصلاة والصيام والزكاة، وإنِ اختلفت كيفياتها، مما يؤدي إلى أدائها في يسر حسب قدرات كل أمة، وبالإيمان الصادق بالله، وما يقوم على هذا الإيمان من بناء أخلاقي وعبادات تربط العبد بربه، ومن معاملات قائمة على هدي الله، يحيا الإنسان في طريق مرسوم مضيء بنور الوحي، يعرف المؤمن علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه، وفق منهج لا يضل ولا تخالطه الأهواء؛ لأنه منهج الإله الذي خلق الخلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم.

مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم فكيف سلك الأنبياء الطريق حتى بلّغوا رسالة ربهم، ووصلوا إلى قلوب وعقول الحائرين في متاهات الباطل، فدلوهم على طريق السعادة في الدنيا والآخرة، بيان هذا الطريق والحديث عن هذا المنهج يحتاج أن نقف على كل ما أتى به الأنبياء في دعوتهم للناس؛ لنرى كيف استطاعوا إقناع أممهم بالانتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن سوء الأخلاق إلى محاسنها، وكيف رغّبوهم في عبادة ربهم بالصلاة والصيام والزكاة وألوان الأذكار، وكيف جعلوهم يأخذون بشريعة الله في حياتهم، وهذا يعني الإشارة إلى ما جاء في كتاب الله في ذلك كله، وهذا أمر يصعب تحقيقه، لما يحتاج إليه من الوقت، ونحن نريد أن نقف على كيف نجح الرسل في تبليغ رسالة ربهم، فيكفينا في ذلك أن نشير إلى الأدلة أو إلى بعضها، ولا نفصّل في ذلك إلّا بما يقتضيه المقام. وبداية الطريق أن العقائد وما يترتّب عليها من أعمال لا تأتي بالإكراه، ولهذا قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) وأن الإقناع ينبع من قوة الحجة ونصاعة البرهان، يحمل ذلك إلى الناس رجلٌ له من المؤهلات ما يجعله مَحَلّ القبول، وقد كان الرسل -عليهم السلام- على أعظم ما يكون الإنسان خلقًا وخلقًا، فهم من أشراف قومهم، ليس بواحد منهم عيب منفر ولا خلق سيء، إنما هم أكمل الناس أدبًا وأمانة وصدقًا وإخلاصًا، ولذلك جاء كل رسول يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 107)، ذكر الله بعض من قال ذلك في سورة "الشعراء"، وفي "الأعراف"، وفي "الدخان"، ولذلك كان أهل مكة يلقِّبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة بالصادق الأمين.

فلنتأمّل كيف تمَّ غرس شجرة التوحيد في وجدان وقلب من لا يدينون بدين وهم الملحدون، ومن يعبدون الأصنام والأوثان والكواكب والمخلوقات الأخرى، في تاريخ الدنيا نبت نبات خبيث هو الإلحاد، ومعناه: إنكار وجود إله خالق لهذا الوجود، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) كما كان هناك فريق آخر اعترف بالله خالقًا رازقًا يحيي ويميت، ولكن هذا الفريق صرف عبادته وطاعته لأصنام أو أوثان أو أحجار أو ما إلى ذلك، وادّعى أن هذه المعبودات وسائط تقربه إلى الله زلفى، فمع أنه وحَّد الله في ربوبيته، إلا أنه أشرك به في ألوهيته وفي أسمائه وصفاته. فكيف اقتلع الأنبياء بذرة هذا الإلحاد وذلك الشرك؟: حين ذكر الله هؤلاء الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر قال: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) فبيّن أنهم جهلة لا يدركون حقائق الأشياء، ولا ما يقتضيه النظر الصحيح، من أنه لا بد للخلق من خالق، وللسبب من مسبِّب، وللوجود من موجِد، وأن هذا الكون بما فيه من إحكام وإتقان، بل كل ذرة فيه تحمل من عجائب الخلق ما لا تحيط به العبارات، وكل ذلك يدل على إله متّصف بصفات الكمال والجلال، والمقام لا يتسع لذكر ما قال العلماء في الرد على من قال بأنّ هذا الكون قد وُجِد بالصدفة، فنكتفي ببعض ما ذكره العلامة "نيوتن" أعظم علماء الطبيعيات، يقول: "لا تشكوا في الخالق؛ لأنه مما لا يعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود؛ لأن ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وزمان؛ لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها مع

تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن هذا كله لا يعقل أن يصدر إلّا من كائن أزلي له حكمة وإرادة". ويقول: "إن من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من فعل الجاذبية العامة؛ لأن هذه القوى تدفع الكواكب نحو الشمس، فيجب لكي تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجَد يد إلهية تدفعها على الخط المماس لمداراتها". ويقول: "يجب وجود سبب عرف هذه المواد، وقارن بين كميات المادة الموجودة في الأجرام السماوية المختلفة، وأدرك ما يجب أن يصدر منها من القوة الخارقة، وقدّر المسافات المختلفة، وأدرك ما يجب أن يصدر منها من القوة الخارقة، وقدّر المسافات المختلفة بين الكواكب والشمس، وبين توابعها، وقدّر السرعة التي يمكن أن تدور بها هذه الكواكب وتوابعها حول أجسام تصلح أن تكون مركزًا لها". ويقول: "كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة، ولأيّ المقاصد وضعت أجزاؤها المختلفة، وهل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه، والأذن بدون إلمامٍ بقوانين الصوت، كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدّد بإرادتها، ومن أين جاء هذا الإلهام الفطري في نفوس الحيوانات، فهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها، ألَا تدل على وجود إله منزَّه عن الجسمانية، حيّ حكيم، موجود في كل مكان، يرى حقيقة كل شيء في ذاته، ويدرك أكمل إدراك". هذا بعض ما قاله هؤلاء العلماء، وآيات القرآن وهي تعرض عجيب صنع الله في خلقه، إنما ترشد هؤلاء الحيارى الذين يعيشون في الأوهام، إلى أنّ من صنع ذلك لا بد أن يكون إلهًا موجودًا،

فكيف تنكره العقول، ومن هذه الآيات الكثيرة ما تقرؤه في سورة "الأنعام"، من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام: 95 - 97)، إلى أن يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: 102، 103). وإذا كان الإلحاد قد انحصر في أفراد قلائل في البيئة العربية التي نزل فيها القرآن، فإن الشرك بالله كان عقيد سائدة في العرب وفي غير العرب، على اختلاف المعبودات التي كانت تعبد في أنحاء الأرض، وقد سلك الرسل كل الطرق لنزع هذه الجرثومة من الفطرة الإنسانية، ولردِّ الناس إلى طريق الرشاد، وخلاصة هذا المنهج الذي سلكوه: الانتقال من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية وتوحيد الإله في أسمائه وصفاته، وفي بيان ما عليه معبوداتهم من الضعف والعجز، مما لا يمكن إنكاره، وقد أتى كل رسول يأمر قومه بعبادة الله وحده، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). وأنت تقرأ في "الأعراف" كلمة يذكرها نوح وهود وصالح وشعيب، هي قول كل منهم: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (المؤمنون: 23) وهي كلمة قالها كل نبي لقومه، وجاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- وذكر الله له فيما أوحاه إليه أدلة إثباتها، بعد أن ذكَّر بأن محمدًا في هذا يكمل مسيرة المرسَلين من قبله، في دعوة الإنسانية إلى عبادة الله الواحد الأحد.

وفي ذلك تقرأ الآيات التي تأخذ من المشركين اعترافهم بالله خالقًا ورازقًا، تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وبيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، لتعيب على هؤلاء المشركين انصرافهم عن عبادة هذا الإله إلى غيره من آلهة لا تضر ولا تنفع، اقرءوا في ذلك ما ذكره الله في سورة يونس، من قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 31، 32) وما بعدها من آيات. واقرءوا في سورة "المؤمنون" بعد أن بيّن ربنا وذكر بما لا خلاف عليه من أنه هو الذي أنشأ لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه هو الذي أوجدهم في هذه الأرض، وأنه هو الذي يحيي ويميت، وله اختلاف الليل والنهار، وفي كلِّ أمر من هذه الأمور يعقِّب بما يدعوهم إلى شكره والخوف منه، والتدبر في آياته، يقول لهم: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (المؤمنون: 84 - 90). ثم يثبت وحدانيته بأجلى برهان فيقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 91، 92). واقرءوا في سورة "النمل" قول الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 59 - 64). اقرءوا هذه الآيات لتروا كيف ينتقل الحق بهم في أسلوب لا يحتمل الجدال، من تسليمهم بما ذكر في كل آية ليسألهم سؤال تقرير وإنكار: أإله مع الله، أإله مع الله، ولو كانوا يريدون البحث عن الحق لما توقفوا ولقالوا: لا إله إلا الله، كما قالوا: لا رب إلا الله، إلى غير ذلك من الآيات التي تأخذ بأيديهم من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية، والتي تستتبع توحيد هذا الإله في أسمائه وصفاته. وهذا الإله الواحد الأحد المتّصف بصفات الجلال والكمال، لم يخلق الناس عبثًا، إنما خلقهم لعبادته، ويترتب على ذلك رجوعهم إليه ليحاسبهم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)، وقد استبعد الكفار من الملحدين والمشركين ذلك، وقال الملحدون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر، بل إن المشركين قالوا ذلك أيضًا، وقالوا: هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النمل:67، 68) فوقفوا بهذا الاعتقاد على عتبة الحياة الدنيا، وظنوا أن الحياة

تنتهي بالموت، وأنهم إذا ماتوا فلا شيء وراء ذلك، فكيف استطاع رسل الله أن يقتلعوا هذه العقيدة الفاسدة من قلوب وعقول هؤلاء الضالين. في القرآن ترى أنّ الله يبين أنه لم يخلق خلقه عبثًا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) وليس من الحكمة أن يخلق الله الخلق، وبمجرد أن تنتهي حياتهم في هذه الدنيا ويموتون، ينتهي كل شيء، فلا حساب ولا جزاء؛ إذ كيف يكون الموت نهاية قصة الإنسان على هذه الأرض، وهناك الظالم والمظلوم، والكافر والمؤمن، والطائع والعاصي، وهناك التفاوت في حظوظ هذه الدنيا وفي عطاءات الله لخلقه، هناك من يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، تستقبله نعم الله وأفضاله فيحيى منعّمًا، وآخر وُلِد على فراش الجوع والمسغبة، بل ربما ولد لا يعرف له أبًا ولا أمًا، وهناك من رزقه الله الصحة والعافية والأبناء الأصحاء، وآخر حُرِم من ذلك، والكل يموت، فهل في عدل الله أن يترك هؤلاء جميعًا لا يحاسبهم بعد أن يغادروا هذه الحياة الدنيا. لقد بدأ علاج هذا الاعتقاد الخاطئ بسؤال الكافرين عمّن خلقهم، وعمّن خلق السموات والأرض، وهم لا ينكرون بأن الله هو الخالق وهو الرازق، يقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 61) ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 63)، وقال في "لقمان" و"الزمر": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25)، وقال في "الزخرف": {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9)، وفيها: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87)، ويعقب على هذه الآيات بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (الزخرف: 87)، أو {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت: 63)، أو {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (لقمان: 25).

وما داموا قد سلموا بأن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض، فلا بد أن يسلموا بأنه إنما خلقهم لغاية، هي أن يؤدّوا حق استخلافهم في أرضه وفق ما أوحى لأنبيائه، وبعد انقضاء مدة بقائهم في الدنيا ينتقلون للآخرة للحساب والجزاء، وهذا هو ما يعبَّر عنه في القرآن بالرجوع إلى الله وبلقاء الله، وإذا كان العقل يسلِّم بهذه الحقيقة، ويقول بأنه لا بد من البعث والحساب، فإن القرآن أفاض في بيان ذلك حتى لم يبق حجة لأحد، ولا عذرًا لمعتذر، وهذه بعض أدلته يسوقها سهلة تختلط بالعقل والمشاعر، وتشع نورًا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. اقرءوا بعض ما ذكره الله في سورة "الروم" من قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الروم: 11)، وما بعدها من بيان حال المجرمين والكافرين والمكذبين بآيات الله ولقائه، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات، وتأمّلوا في إثبات ذلك قوله في السورة: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 19 - 21) إلى أن يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الروم: 25) إلى أن يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27)، وليس هناك كما تعلمون بالنسبة لقدرة الله هيّن وأهون، فأمره بين الكاف والنون {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82) ولذلك قال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم: 27). وتتواصل أدلة القرآن في السورة سورة "الروم"، فترى منها قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم: 40)، وإذا كان المشركون لا يمارون

في الثلاثة الأولى: الخلق والرزق والإماتة، فلا بد لهم أن يسلّموا بالأمر الرابع وهو إحياؤهم بعد الموت للحساب والجزاء، كما تلمح في قوله في السورة: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم: 50) فقد أخذ من هذه الصورة التي يرونها بين أيديهم، في أرض خالية من النبات، سماها بالأرض الميتة، وضعت فيها البذور ونزلت عليها أمطار السماء، أو سقيت بماء الأنهار أو العيون، وهو في أصله ماء السماء، فإذا بهذه الأرض ترفّ خضرة وبهجة ورواءً، ثم حان موعد حصادها فحصدت، فمن الذي أحياها بعد موتها {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة: 64)، فمن فعل ذلك هو الإله القادر على أن يحيي الموتى، ويهدّد رب العزة والجلال المنكرين لهذه الحقيقة فيقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (الروم: 55 - 57). وقريب من ذلك ما تقرءونه في سورة "ق"، بعد أن ذكر الله استبعاد المشركين للبعث، بحجة أن أجسادهم تفرقت في ذرّات التراب، فكيف تجمع وتعود إليها الحياة، فرد عليهم الإله القوي القادر بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (ق: 4) ثم أخذ يسائلهم ويتعجب من غفلتهم فيقول: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: 6 - 11).

وفي الآيات التي تتحدث عن مشاهد يوم القيامة، وما يكون فيه من فوز المؤمنين وخسارة الكافرين، وما فيه من تأنيب للكافرين لجهلهم ونسيانهم لربهم وعنادهم، وما يكون هناك من تلاوم بين المستكبرين والمستضعفين، في ذلك كله إثبات ليوم البعث والحشر والحساب والجزاء واليوم الآخر، وهو منهج إلهي ذكره الله في كتابه وتلاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أسماع الناس، واستمرّ يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وعلّمه للمسلمين فكان منهجهم في الدعوة إلى الله، كما كان منهج رسولهم، وفي تكرار الآيات بما فيها من روعة البيان الذي أعجز الفصحاء والبلغاء ما يفتح الطريق للقلوب لتستجيب لهذا النداء. وإذا نجح الرسل في إقناع الناس بأنّ الله هو الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وإذا استطاعوا أن يفتحوا الطريق للإيمان بما يتبع ذلك من الإيمان بأن الله له ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنه أرسل رسلًا وأنزل عليهم كتبًا فيها هدى ونور، وأن هناك بعد هذه الحياة حياة أخرى يجزى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، إذا نجح الرسل في ذلك انتقلوا بالمؤمنين إلى آفاق رحيبة، في خطة تشمل عدة جوانب، جانب البناء الأخلاقي، وجانب التعبد للإله الذي آمنوا به، وجانب التعامل مع الآخرين، إلى جوانب أخرى في العلاقات الاقتصادية والسياسية والإنسانية والدولية، وكل ذلك وفق منهج مرسوم واضح السمات والقسمات والأبعاد، لا يضل ولا يختلط بغيره، في بيان جليّ، من أخذ به سعد وأجر، ومن تركه متجبرًا متكبرًا، يظن أنه يستطيع أن يرسم حياته بنفسه وأن يخطط لوجوده في هذه الأرض بعيدًا عن وحي السماء، من فعل ذلك قصمه الله كما جاء ذلك في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته.

الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته.

أهم صفات الداعية.

بسم الله الرحمن الرحيم المحاضرة التاسعة عشرة (أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته) أهم صفات الداعية حمدًا لله وصلاة وسلامًا على رسول الله، أما بعد: فالدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء وأتباعهم، والمصلحين في كل زمان ومكان، وموضوعنا الذي سنتحدث فيه: أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته، فكيف تتم الإحاطة بعناصر هذا الموضوع وفق منهج التفسير الموضوعي؟: أول هذه الصفات هو شخصية الداعية، في أن يكون سليم الجسد مكتمل الأعضاء، قوي البنية، نرى هذا فيما كان من أمر طالوت، الذي بعثه الله ملكًا لبني إسرائيل، يقول لهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 247) فكانت لطالوت القيادة الناجحة، والنصر المؤزّر. وهذا موسى -عليه السلام- يذكر الله ما كان منه من قوة جعلته يضرب أحد أعدائه ضربة قضت عليه، يقول ربنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (القصص: 14 - 16). وبهذه القوة تمكن من الحصول على الماء الذي سقى به أنعام ابنتي شعيب، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ

وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا * فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 23 - 26). وهذا داود -عليه السلام- يعمل حدادًا، ونوح من قبله كان نجّارًا ماهرًا، يصنع الفلك التي ركبها هو ومن آمن معه، وحمل فيها من كل زوجين اثنين، ولما كان الطوفان كانت تجري بهم في موج كالجبال، وهناك من الأنبياء كنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مَن كان يعمل في رعي الغنم، وهي أعمال -كما ترون- تحتاج إلى بنية قوية وجسد سليم، وما حدث لأيوب -عليه السلام- من بلاء، إنما كان لفترة ثم عادت إليه صحته وماله وولده، كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83، 84). وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بهي الطلعة جميل المنظر، يقول الإمام الغزالي: "كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا وأنورهم، لم يصفه واصف إلّا شبهه بالقمر ليلة البدر، وكان يُرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته، وكان يقولون هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه؛ حيث يقول: أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام وثاني هذه الصفات في الداعية: طلاقة اللسان ورجاحة العقل وسعة الأفق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4)، ولما اختار الله موسى رسولًا وقال له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ

اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 24 - 32)، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي * فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (الشعراء: 10 - 15). وكان رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، وقد أوتي جوامع الكلم، مع أنه لم يجلس لمعلم، إنما علمه ربه، كما قال -جلّ وعلا-: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113) ومن يقرأ في كتاب الله جدال الأنبياء للمعاندين لهم والمكذبين برسالتهم، يرى كيف كان هؤلاء الأنبياء أعلى الناس قدرًا في قوة حجتهم وحسن منطقهم، وسعة مداركهم، والمقام لا يتسع لعرض ألوان من هذه المجادلات، وما فيها من دروس نافعة للدعاة، ولكلِّ نبي صولات وجولات مع قومه، حتى أفحموا الخصوم، ولم يبق لدى هؤلاء إلّا اللجاج والعناد. فأنت تقرأ على سبيل المثال ما كان من حوار وجدال بين إبراهيم -عليه السلام- والنمروذ، وما صار إليه أمر هذا المعاند المكابر، وأنه لم يستطع أن يحير جوابًا، كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258)، كما نقرأ ما ذكره الله من أدلة ساقها إبراهيم لعبدة الكواكب، إلى أن ختمت الآيات بقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83) وما إلى ذلك مما ربما نذكره حين نتحدث عن إبراهيم -عليه السلام.

وقد بلغ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في ذلك القمة العالية، يستمع إلى خصومه في أدبٍ، ويرد عليهم بما يقنعهم، ويلقي بدعوته إلى الناس نورًا يضيء لهم الطريق، في عبارات سهلة وأدلة باهرة وحجج واضحة، وابتدأ ذلك من أول دعوته إلى آخرها، في خطبه العامة، ومجالسه الخاصة، وحديثه إلى أصحابه وإلى غيرهم، فأقنع العقول وروى الأرواح والأفئدة، وهذا مثال لحكمته وسعة أفقه في دعوته، نذكره من قصة عتبة بن ربيعة. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: "حدِّثت أن عتبة بن ربيعة -وكان سيدًا- قال يومًا وهو جالس في ناد قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السبطة في العشيرة -أي من المكانة والمنزلة- والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قلْ -يا أبا الوليد- أسمعْ)) قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذه الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا -أي: جعلناك سيدًا علينا- حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رأيًّا -أي من الجن- تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب

وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع -أي: من الجن- على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟!)) قال: نعم، قال: ((فاسمع مني)) قال: أفعل. فقال: ((بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (فصلت: 1 - 5). ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)). قام عتبة -كما يقول ابن إسحاق- إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كوفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم". ولو تتبعنا مسيرة دعوته -صلى الله عليه وسلم؛ لرأينا داعية إلى الحق من طراز فريد؛ لما أوتي من محاسن الأخلاق وقوة البيان وصدق الحديث وسعة الصدر، ولذلك لم يرفض دعوته إلّا مكابر وحاقد حاسد.

يقول الإمام الغزالي -بعد أن ذكر جملة من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فأعظم بغباوة من ينظروا في أحواله، ثم في أقواله، ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في معجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره، مع ضعفه ويتمه، ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه، وما أعظم توفيق من آمن به وصدّقه، واتبعه في كل ما ورد وصدر، فنسأل الله تعالى للاقتداء به في الأخلاق والأفعال والأحوال والأقوال بمنه وسعة جوده". ومن صفات الداعية: الإيمان بما يدعو إليه، وكلما توثّقت عرى الإيمان في قلبه ومشاعره، كلما كان أقدر على تبليغ دعوته، ولذلك قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285) وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33). فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أول المسلمين وأول العابدين، والمؤمنون على طريق رسولهم، الإيمان الكامل والفاعل شعار لهم ودثار، ومنهج وسلوك {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) يعلنون في وضوح أنّ إيمانهم برسل الله إيمانٌ جامع {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، ويخبر الله عنهم شهادة لهم، وإعلاء لقدرهم فيقول: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285)، وهكذا كل الرسل، وهكذا أتباع الرسل عبر مراحل التاريخ، وما نجح الرسل في دعوتهم، وما بذل أتباعهم ما بذلوا، إلّا لأنّهم آمنوا هذا الإيمان بالحق الذي معهم، فهم أصحاب قضية يدعون إليها ويدافعون عنها.

وآفة كثير ممن يتعرّضون للدعوة، أنهم لم يشعروا بأنهم أصحاب قضية وأنهم مكلفون بالدفاع عنها، إنما هي هذه مهنة ووظيفة يتقاضون عليها راتبًا، فإذا وقف الخطيب يتحدث للناس، لا يدري ماذا يقول لهم، فاختار موضوعًا لا يعالج مشكلة ولا يثير اهتمامًا، وحين عرضه لم يحسن أداءه لا في نطقه، فكثرت أخطاؤه، ولا في استشهاده بكتاب الله وسنة رسوله، وربما لا يعرف موقع الآية مما يقول، بل ربما لا ينطقها ولا يتلوها تلاوة صحيحة، وإذا ذكر حديثًا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضبط نطقه، ولا يدري درجته من الصحة، فربما جاء بحديث ضعيف أو موضوع أو قصة من نسج الخيال، ينسبها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يدري، وما ذلك إلّا لأنه خارج الحلبة، يفقد عنصر الإيمان بما يقول. وهذا الإيمان -كما تعلمون- لا يأتي بين يوم وليلة، إنما يحتاج إلى تربية خاصة بالدعاة، تربية علمية وتربية عملية على طاعة الله والتعلق به، وحب القرآن والعلم به، والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه. ومن صفات الداعية: الإلمام الواسع بعلوم الكتاب والسنة، وما يعينه على فهم مجتمعه والمجتمعات الأخرى، وهذا معناه: أن يكون ضليعًا في علوم اللغة العربية نحوًا وصرفًا وبلاغة، وأسوأ ما تراه في بعض الدعاة أخطاؤهم التي لا تخفى على الطلاب المبتدئين، فترى الواحد منهم يجعل الفاعل مفعولًا، والمفعول فاعلًا، فلا يعرف أبسط قواعد الإعراب، وإلمامه باللغة يجعله دارسًا للأدب العربي شعره ونثره، وما يتبع ذلك من ألوان الحكم والمواعظ والأمثال والقصص. ثم عليه أن يتبحر في التفسير وعلومه، والحديث ومصطلحه ورجاله، وعلم الدعوة وفنّه وأسلوبه، والتوحيد وقضاياه، والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء ومن بعدهم، كما يعينه على ذلك أيضًا أن يدرس علم الاجتماع والجغرافيا ومبادئ العلوم الطبية والفيزيائية، إلى غير ذلك من العلوم.

وقد كانت الدراسة الأزهرية قبل التطوير قائمة على هذا المنهج، وكانت دراسة تمتد لأربع سنوات في المرحلة الإعدادية، وخمس سنوات في المرحلة الثانوية، ولا يلتحق الطالب بالمرحلة الإعدادية إلّا إذا كان حافظًا للقرآن حفظًا جيدًا، وكانت العناية خلال هذه السنوات متجهة إلى إكساب الطلاب مهارة خاصّة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، بالإضافة إلى الإلمام بالرياضيات والكيمياء والفيزياء، فنبغ من هؤلاء الطلاب، وهم ما زالوا في مراحل التعليم الإعدادي والثانوي ممن لا نجهل أسماؤهم من شيوخنا وزملائنا. وللقرآن عناية خاصة بهذا الجانب؛ حيث نجد الكثير من آياته تعلي من قدر العلم والعلماء، وهذه أول الآيات نزولًا تقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5) والقرآن يقسم بالقلم وما يسطره، وتسمى السورة بسورة "القلم" فيقول ربنا: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) وقد ذكرت كلمة أو قل: مادة العلم في القرآن مئات المرات، مما يحتاج إلى إفرادها ببحث في التفسير الموضوعي وليكن عنوانه: العلم في القرآن الكريم. ولكننا هنا نبحث عن صفات الداعية في القرآن الكريم، والعلم هو الركيزة التي يقوم عليها بناء الدعوة، وهو السلاح الذي يخوض به الدعاة معركة الأفكار والمعتقدات والملل والنحل والمذاهب، ليثبتوا عظمة ما يدعون إليه، فتصل كلماتهم إلى القلوب، فتضيء للناس الطريق، وإذا كان الله قد قال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، فإن الله يعلم أن الدين لا يأتي بالإكراه، والمكره على اعتقاد شيء قد يتظاهر بالإيمان به، لكنه من داخله غير

مقتنع به، فإن وجد فرصة للانقضاض على من أكرهه لم يضيعها، ولهذا لم يذكر التاريخ أن الإسلام حين فتح بلدًا في أرض الله أكره أبناءها على الدخول فيه، إنما وجه دعوته وانطلق المسلمون في أدب وعلم ووقار وحب ورحمة وعدل، يدعون الناس إلى دينهم، فدخلت شعوب الأرض في دين الحق طواعية واختيارًا، بل وحملت بعد إسلامها رايته، وجاهدت لإعلاء كلمته واستنارت بنوره. كما أن الداعية يلزمه أن يكون قويّ الثقة بربه، وهذه الصفة وثيقة الصلة بالإيمان، وكلما ربا الإيمان في القلب كلما ازداد الداعية ثقة بربه، فلا يرجو من أحد دنيا يصيبها، ولا يخاف نقص رزق أو نقص أجل، وإذا كان من شأن المؤمن أنه يؤمن بأن الرزق والأجل مردّهما إلى الله، فإن الداعية أحوج ما يكون إلى تفعيل ذلك في نفسه ووجدانه، فهو خير من يعلم ويؤمن بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر: 42)، وبقوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 11) وبقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء: 78). ويثق كل الثقة في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي فيه: ((أن الجنين إذا ما أتم أربعة أشهر أرسل الله له الملك، وأمره أن ينفخ فيه الروح، وأن يكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقيًّا أو سعيدًا))، والناس من خلال قدر الله تعمل، وكل ميسر لما خلق له، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفسي بيده، لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))، وإحساس الداعية بذلك يكسبه ثقة عظيمة في ربه، فيكتسب بذلك صفة أخرى وهي العزة، والله

يقول في الرد على المنافقين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء:138، 139) ويقول ربنا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8)، وقال في سورة "فاطر": {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر: 10). والمؤمنون أرادوا هذه العزة، فطلبوها من العزيز الحكيم فمنحهم إياها، فعزتهم مستمدة من عزة الله وعزة رسوله، والدعاة في قمة من أراد ذلك، فلم يذلوا أمام مال أو جاه، ولم يبيعوا دينهم بعرض من أعراض الدنيا، ولم ينافقوا صاحب سلطان، ولم يتوانوا في تبليغ رسالة ربهم، ولم يستطع متجبّر أو متكبر أن يحول بينهم وبين الناس بترغيبهم أو بترهيبهم، وليست عزتهم كبرًا وتعاليًا على الآخرين، إنما عزتهم كرامة وترفُّع عن الدنايا، وإحساس بما أنعم الله به عليهم من نعمة الإيمان والقرآن، وأنهم ورثة الأنبياء ودعاة الحق، وعزتهم شجاعة في ثبات في المواقف، وكم للدعاة والعلماء من مواقف تكتب بمداد من نور أمام الولاة والحكام والملوك والرؤساء. وهذه العزة والشجاعة يزينها صفة أخرى وهي صفة التواضع وصفة الرحمة، وبهذه الصفات يقترب الداعية من قلوب الناس، فيحظى بمحبتهم، فيوجههم إلى ما يدعو إليه من الخير، وقدوته في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 214 - 216). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس بين أصحابه، فلا يكاد يعرف من بينهم، ودخل عليه رجل فأرعد من هيبته فقال له: ((هوّن عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد))، وكان لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلّا قال:

لبيك، وكان يجلس مع الناس، إن تكلموا في معنى الآخرة تكلم معهم، وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم، وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقًا بهم وتواضعًا لهم. ومن توجيهات القرآن ما تقرؤه في نهاية قصة قارون: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83) والمتكبرون مصروفون عن تدبر آيات الله وفهمها، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 146). والدعوة إلى الله في حاجة إلى هذا الخُلق؛ ليحظى الداعية بالمحبة والرضا، فيحتل من الناس قلوبهم، فيحظى وتحظى دعوته بالقبول، والرحمة عنوان التواضع، إنها إحساس المؤمن بحاجة إخوانه، فيعاملهم بالرفق، يزور مريضهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويأخذ بيد الضعيف منهم، ويتودد إليهم ويساعد محتاجهم، ويدخل السرور عليهم، ويحوطهم برعايته وعطفه وبره، وقد قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) وقال في صفات من يختارهم لنصرة دينه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (المائدة: 54). وكم تحظى الدعوة بالنجاح إذا ما اتصف الدعاة بهذه الصفة، بل إنّ هذه الصفة كانت الباب الواسع الذي دخل منه الإسلام إلى القلوب، سنّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أعظم الناس رحمة بالناس، فتعلقت به القلوب، وسار عليه أصحابه وسلف الأمة الصالح، فانشرحت لمرآهم الصدور، وانتشر دينهم في كل مكان.

ومن صفات الداعية المواكبة لتواضعه ورحمته الحلم وحسن الخلق، والحلم صفة من صفات الله، فقد وصف الله نفسه بأنه غفور حليم، وغني حليم، وعليم حليم، وشكور حليم، ووصف الله بها إبراهيم فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (هود: 75) ووصف بها إسماعيل فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101) وقال قوم شعيب له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87) وهكذا أنبياء الله جميعًا. وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الناس حلمًا، في كثير من المواقف التي تغضب الحليم تراه لا يثور ولا يغضب، ولا يقابل السيئة بالسيئة، إنما يعفو ويصفح، وليت الوقت يسمح بذكر بعض تلك المواقف، ففيها عظات وعبر، وما أمر حاطب بن أبي بلتعة، وهو ممن شهد بدرًا عنكم ببعيد؛ إذ لمّا علِم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعد العدة سرًّا ليفاجئ أهل مكة ليفتحها دون أن يريق الدماء، أرسل حاطب إليهم يخبرهم بذلك، فأوحى الله لرسوله بهذا، فأرسل ثلاثة من أصحابه ليلحقوا بالمرأة التي حملت الرسالة، وجاءوا بها -أي: بهذه الرسالة- فلما سأله قائلًا: ((يا حاطب، ما هذا؟)) قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقًا في قومي، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهلهم، فأحببت إن فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، ولم أفعل ذلك كفرًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، ولا ارتدادًا عن ديني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه صدقكم)) فقال عمر -رضي الله عنه-: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعلّ الله -عز وجل- قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))، وبعد أن أتمَّ الله على رسوله فتح مكة وقف خطيبًا وسأل أهلها: ((ما تظنون أني فاعل بكم)) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

وهذا عفوه عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره، وهذا عفوه عن الأعرابي الذي أراد أن يقتله، وعفوه عن الأعرابي الذي قال له: يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل، إلى غير ذلك مما يدل على عظيم عفوه وحسن خلقه. والدعاة أولى الناس بالاتصاف بهذه الأخلاق العالية، وبها يستلّون سخائم القلوب، ويجمعون الناس حولهم، لا يثورون ولا يغضبون إلّا إذا انتهكت حرمات الله، وقد قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63). وهذا الخلق الكريم للدعاة يجعلهم في حاجة إلى التخلُّق بخلق مهمّ، ألا وهو الصبر، الصبر في معناه الواسع؛ صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي، وصبر في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبر في مقام الدعوة إلى الله، وصبر على ما ينزل بهم من بلاء، وصبر على مشقات الجهاد في سبيل الله، فالصبر للدعاة عُدّة وزاد وذخيرة، يعينهم على مشقات الطريق ووعورته، ولذلك أكثر الله من الأمر به لرسله والمؤمنين، والآيات في ذلك كثيرة، تقرأ منها قول الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود: 115)، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (طه: 130)، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم: 60)، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل: 10)، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} (مريم: 65)، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: 132)، وفي توجيه المؤمنين إلى الصبر نقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200)، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).

وهذا أمرٌ لبني إسرائيل الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهو نفس الأمر لأهل الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153)، وجزاء الصابرين عظيم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10)، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 23، 24)، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 156، 157)، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون: 111)، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) إلى غير ذلك من الآيات. وليس من موضوعنا أن نتحدث عن الصبر في القرآن والسنة، إنما نتحدث عنه باعتباره ركيزة أساسية للدعاة، وصفة عظيمة من صفاتهم، مَن لم يتحلّ بها سقط في أول الطريق، فكم في الطريق من عقبات وابتلاءات تحتاج إلى رباطة الجأش وقوة اليقين وتحمل الأذى، والصبر لله ومن أجله، ومن صبر ظفر وفاز في الدنيا والآخرة. ومن أبرز صفات الداعية: الصدق والأمانة، فهو مبلّغ عن الله ورسوله، ولو كذب أو خان فعُرِفَ ذلك منه، لم يثق أحد في حديثه، ولم يستطع أداء رسالته، بل ربما كان وبالًا على ما يدعو إليه، ولعله لا يغيب عنكم أنّ الصدق في الداعية، هو الأساس الذي يشاد عليه البناء، وهو المدخل لإقناع الآخرين بما يقول، ولذلك ترَوَن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أُمِر بتبليغ الدعوة وقف على الصفا ونادى بطون مكة، فلما اجتمعوا إليه لم يقل لهم من البداية إنّ الله اختاره رسولًا

للعالمين، وأن هذه الرسالة قائمة على وحي الله، وفيه كذا وكذا، إنما سألهم قائلًا: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بهذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟)) قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط، حينذاك قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فأثبت أولًا وقرر أنه صادق، فكيف يكذب الآن؟ وهذا هو الذي استدل به هرقل عظيم الروم على أن محمدًا هو رسول الله، حين جاءه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام، طلب بعض من في الشام من العرب، فكان أبو سفيان قبل إسلامه مع بعض العرب هناك في تجارة، فجيء بهم ووقفوا بين يديه، وأبو سفيان واقف أمامهم، وأخذ هرقل يسأله، فكان فيما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. وبعد أن انتهى من أسئلته قال فيما قال: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وهذا هو الذي جعل رسولٍ يدعو أمته يذكر لها أنه رسول أمين، اقرءوا ما ذكره الله في "الشعراء" على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وكلٌّ منهم يقول لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الشعراء: 106 - 110). وموسى قبل أن يختاره الله رسولًا، حين سقى لابنتي شعيب رأوا أمانته ورجولته، ولذلك قالت إحدى الابنتين لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 26) وبعد الرسالة يذكر الله ما قال لفرعون وقومه فيقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (الدخان: 17 - 19).

كيف ينجح الداعية في دعوته.

وهكذا كل الرسل، وهكذا يجب أن يكون أتباعهم ومن على طريقهم، ولهذا اعتنى القرآن والسنة بالدعوة إلى الصدق والأمانة، ورهَّبا من الكذب والخيانة في آيات وأحاديث كثيرة لا تخفى عليكم. ومما يجب أن يتصف به الدعاة: الإخلاص، والإخلاص يعني التجرد لله، وهو قسمان: اعتقادي وعملي، الاعتقاديّ معناه: تنقية القلب مما سوى الله، فلا يتأله العبد لغير الإله الحق، ولا يعبد إلا هو، ولا يدين بالطاعة والولاء والحب إلا لرب العالمين، والإخلاص العملي: هو ألّا يقصد العبد بعمله وقوله وفعله إلّا الله، ويقابل الأول الشرك، ويقابل الثاني الرياء، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، ومن الواضح أن من يعبد غير الله لا شأن له بالدعوة إلى الله، بل هو ممن توَجّه له الدعوة لإنقاذه من براثن الشرك وضياعه، ومن يقصد بعمله الرياء والسمعة لا يصلح في مقام الدعوة، فالإخلاص هو الأساس الذي تقام عليه دعائم الدعوة إلى الله. هذه هي أهمّ الصفات التي يجب أن يتصف بها الدعاة، وكل صفة منها تحتاج إلى أن نقف أمامها طويلًا، نذكر كيف دعا القرآن إليها ورغّب فيها ونفّر من ضدها، لكن يكفينا هذا القدر فقد تغني الإشارة عن العبارة. كيف ينجح الداعية في دعوته لكن هذا الداعية ال ذي اجتمعت فيه هذه الصفات، كيف ينجح في دعوته؟ وكيف يؤدي رسالته؟ عليه أن يسلك الطريق الذي يضمن له النجاح، وهذا الطريق طرق وو سائل كثيرة متعددة، وهي تتطور بتطور الزمن، وفق ما يستجد من وسائل الاتصال وانتقاد الأفراد والجماعات، وما يتبع ذلك من تغير في العادات والتقاليد، فالله

خلق الخلق لحكمة وغاية، وجميع المخلوقات عدا الإنس والجن منقادة لله عابدة له، أما الإنس والجن فلهما حرية الاختيار بين الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، مع أنهما لم يخلقا أيضًا إلّا لعبادة الله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وعبادته سبحانه إنما تكون وفق ما شرع، بل إن العبادة في مفهومها الواسع تشمل حركات الإنسان وسكناته {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163). ولذلك لم يترك الله الإنسان سدى، إنما أرسل له الرسل وأنزل له الكتب، بدأ ذلك من آدم -عليه السلام- إلى أن ختمت سلسلة النبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ووقف كل رسول يبلغ رسالة ربه، وعلى منهج هذا الرسول سار أتباعه ومن بعدهم، يدعون الناس إلى دين الله، فتنوّعت وسائل دعوتهم، فكان منها الاتصال المباشر بالأفراد فردًا فردًا، أو بعدة أفراد، وهي وسيلة ناجحة بها دخل في الإسلام الرعيل الأول كأبي بكر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة وأبي عبيدة، وغيرهم من السابقين للإسلام، وهذه الوسيلة في الدعوة قد تحتاج إلى معرفة سابقة بمن تدعوهم، فهم أصدقاء توثّقت بينهم وبين الداعية عرى الصداقة. وقد بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته في بيته، فآمنت به زوجه خديجة، ومولاه زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب، وبدأ الدعوة سرًّا مع أصحابه وأصدقائه، ثم أمره الله أن يجهر بدعوته فقال له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94) وقال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) وبدأ يجهر بدعوته، فلم يقف خطيبًا يلقي العبارات، إنما وقف كما قلنا فأثبت أنه صادق، فلما أقروا له بذلك قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

وإذا كان الله قد وجه رسوله إلى أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125)، فإن هذا التوجيه القرآني يجمع كل أساليب الدعوة، فقد تقتضي الحكمة الاتصال بالأفراد كلّ على حدة، أو بمجموعة منهم كما كان من عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب، أو أن يقف خطيبًا يوجه الناس كما كان من مواقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر أو في موسم الحج في حجة الوداع، وقد يكون هذا من خلال موعظة يلقيها، أو درس يشرح فيه بعض أمور الدين، ولكل واحد من هذه بواعثه ودواعيه، ولا غنى لواحد منها عن الآخر. ومن وسائل الدعوة: الاقتراب من المدعوين بالسؤال عنهم وزيارتهم وعيادتهم إذا كانوا مرضى، وبمساعدتهم إذا احتاجوا، فهكذا كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا الهدي النبوي يقوم الدعاة بإنشاء المؤسسات الخيرية، بما فيها من رعاية الفقراء واليتامى، وبما فيها من إنشاء المساجد والمدارس ومساعدة طلاب العلم، ومن الوسائل الحديثة الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية في الصحافة والمجلات والكتب والكتيبات والنشرات، مما يستدعي تضافر الجهود ليمتلك الدعاة الوسائل التي تعينهم على ذلك، من المطابع عالية الجودة، والمتخصصين المهرة في الإعداد والإخراج، وللإعلام المسموع عبر الإذاعات والمواقع الإسلامية على شبكة المعلومات -الإنترنت- أثر كبير في توصيل رسالة الإسلام. أما الإعلام المرئي في التلفزيون، وفي عهد السموات المفتوحة، فيما يعرف بالفضائيات، فيجب أن يحتل فيه الدعاة مكانًا مرموقًا، بنقل الخطب والدروس والندوات حيّة على الهواء، وعليهم أن يدرسوا كيفية الإعداد الجيد لما يلقى على

الناس عبر هذه الوسائل، فليست المسألة مجرد معلومات تلقى، إنما هناك الاختيارات الجيدة، التي تتناسب مع ما عند الناس من قصور في فهم أو شطط في فكر، أو مشكلة تحتاج إلى الحل، وهناك الصوت وطريقة الإلقاء ومظهر الداعية في الإعلام المرئي، ومن خلال ذلك كله يتفنّن الداعية في تبليغ رسالته، من خلال ما يسوق من ترغيب وترهيب، وما يذكر من قصص يساق في أسلوب قشيب، وألوان من طريقة القرآن في جداله مع المخالفين له، ومن خلال عرض أساليب القرآن وطريقته في إقناع الآخرين. وقد يحتاج الداعية إلى تبليغ رسالته لغير الناطقين بالعربية، فليكن هناك مجموعات تتخصّص، كل مجموعة في إجادة لغة من لغات أهل الأرض؛ لحمل رسالة الإسلام للعالمين، وليحققوا حكمة الله من اختيار رسوله -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين. فهل لنا أن نفعل؟! هذه رسالتنا نسأل عنها أمام الله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 20 دعوة نوح -عليه السلام.

الدرس: 20 دعوة نوح -عليه السلام.

التعريف بنوح -عليه السلام- ودعوته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (دعوة نوح -عليه السلام) التعريف بنوح -عليه السلام- ودعوته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: نقف بإذن الله تعالى على نماذج من دعوة الرسل: نبدؤها بنوح -عليه السلام-: من هو نوح؟ وفي أي عصر بعثه الله لقومه؟: لعلكم تلحظون معي في سياق القرآن لقصص أنبيائه ورسله، أنه لم يذكر نَسَب أحد منهم أو تاريخ رسالته، إنما يسمي الأنبياء بأسمائهم، ولم يذكر إلّا يحيى وذكر أباه زكريا، على أن ذلك آية من آيات الله؛ إذ رزق بيحيى على الكبر بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبًا، ووصلت امرأته إلى سنِّ اليأس، ولذلك لما بشرها لله بيحيى قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (مريم: 8)، وذكر القرآن عيسى وأنه ابن مريم، وهو بذلك آية من آيات الله، ولذلك لما بشّرها الله به قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (مريم: 20، 21). وإبراهيم ذكَر القرآن أن أباه آزر، وأيضًا ذكر إسماعيل وأن أباه إبراهيم -عليهما السلام-، فذكر نسب الأنبياء ليس من أغراض القرآن، إنما المقصود هو موطن العبرة في دعوته، وماذا فيها من معالم الهداية، وماذا كان من أمر هذا الرسول وأمر قومه. فقد ذكر المؤرخون ومن يكتبون في قصص الأنبياء نسب هؤلاء الأنبياء وأين كانت دعوتهم، فذكر ابن كثير في قصص الأنبياء أنّ نوحًا هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ -وهو إدريس- بن يرد بن مهلاييل بن قنين بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام، وقد أرسله لقومه بعد أن تغيّرت معالم الحق،

وضلّ الناس طريق العبادة، وهذا شأن الله مع خلقه، لا يتركهم يتخبطون في دياجير الباطل، إنما يرسل إليهم رسل، وينزل إليهم الكتب، وكلما ذهب رسول وانحرف الناس بعده في فترة تطول أو تقصر، أرسل الله رسولًا آخر، إما على ما أنزل الله على الرسول السابق من كتاب، فيظهر حقائقه ويبين معالمه ويدعو أمته إلى العودة والالتزام بهذا الكتاب، أو ينزل الله على هذا الرسول كتابًا آخر، إلى أن ختمت الرسالات والنبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وختمت الكتب المنزلة بالقرآن الكريم. فما هي المدة التي انقضت من آدم إلى أن بعث الله نوحًا، وفيها انطمست المعالم وعبِدَت الأصنام، ذكر ابن جرير الطبري أنّ مولد نوح كان بعد وفاة آدم بمائة وستة وعشرين عامًا، وأنه بعِثَ وهو ابن ثلاثمائة وخمسين، وقيل غير ذلك، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين، وقيل: إن مدة عمره ألف سنة إلّا خمسين عامًا قبل البعثة وبعدها وبعد الغرق، يقول ابن كثير: فالله أعلم. وهذه المدة التي ذكرها ابن جرير قد يكون الأصح منها ما رواه ابن حبان وصححه، من حديث أبي أمامة: ((أن رجلًا قال: أنبي كان آدم؟ قال: نعم)) وفي رواية: ((نعم نبي مكلّم)) أي: أن الله كان يكلمه، قال: ((فكم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون)). وأقرب ما قيل في مدة وعمر نوح ما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بعث نوح وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثروا وفشوا، والمدة المحققة التي لا شك فيها، هي مدة بعثته والتي وردت في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 14، 15).

أما ما قبل ذلك وما بعده ففيه هذا الخلاف الذي تراه، وموطن العبرة هو الذي يقصده القرآن، وذلك يتحقّق بذكر مدة بعثته، وأنها هذه القرون المتطاولة، ومع ما بذل نوح في دعوته من جهود، إلّا أن عدد المؤمنين به لم يتجاوز عدّ الأصابع، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود: 40) وكم في ذلك من تسلية وتسرية وتطمين لقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي آمن به مع قلة عدد السنوات التي أمضاها في مكة، إلى أن نزلت عليه سورة "العنكبوت" التي منها هذه الآية، بل إن منها من آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنوات معدودات، يصل إلى أضعاف من آمن بنوح -عليه السلام. ودرسنا ليس في نوح واسمه وعمره وكم لبث في قومه، إنما درسنا في عرض نماذج من دعوته -عليه السلام- ودعوته قد عرضها القرآن في كثير من آياته، من خلال عرض قصته مطوّلة مفصلة، أو مختصرة، أو عن طريق الإشارة إلى اسمه وحده، مع بعض صفاته، أو في جملة من أوحى الله إليهم، وللقرآن في طريق عرض قصصه بين الطول والقصر والإطناب والإيجاز أسرار تتفق مع الأهداف العالية التي تساق لها آيات السورة، وفي ذلك سر من أسرار إعجاز القرآن. وقد ذكر اسم نوح في القرآن ثلاثًا وأربعين مرة، وبجمع الآيات التي ورد فيها الاسم نستطيع أن نعرض الكثير من نماذج دعوته، فنرى ما دعا إليه وكيف دعا قومه لذلك، فلنتابع الآيات، أو بعض هذه الآيات، كما جاءت في القرآن الكريم، بدءًا من أول ذكر لنوح إلى آخر مرة ذكر فيها، في سورة سميت باسمه وهي سورة "نوح"، وقد ورد أول ذكر لنوح في القرآن ثناءً عليه في جملة من أثنى عليهم ربنا؛ حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران: 33، 34).

وهذا الاصطفاء اختيار من الله لمن ذكرهم -جلّ وعلا- لحكم يعلمها سبحانه، ومن اصطفاهم واستخلصهم من خلقه، أحاطهم برعايته وعنايته، حتى جعلهم أهلًا لحمل رسالته، فكان من أوائلهم بعد آدم نوح -عليه السلام-، بل إنه أول رسول أرسله الله لأهل الأرض، ولذلك جاء في حديث الشفاعة أن الناس في موقف الحساب يأتون آدم فيقولون: ((يا آدم، أنت أبو البشر؛ خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: رب قد غضب غضبًا شديدًا، لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن شجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك -عز وجل؟ فيقول: رب قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي ... ))، إلى آخر الحديث الذي رواه البخاري. وفي سورة "النساء" يذكر الله نوحًا في جملة من أوحى إليهم بوحيه فيقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (النساء: 163). والمقصود من الآية: إثبات صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلّغ عن ربه، وأنه ليس بدعًا من الرسل، فتاريخ الإنسانية كما يعلم كل إنسان شاهد بأن الله أرسل رسلًا وأنزل كتبًا، كما قال في هذا الموضع تعقيبًا على ما ذكر من هؤلاء الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، فكان نوح أول رسول يذكر في سلسلة موكب الأنبياء.

وجاءت الإشارة إليه في قصة إبراهيم في سورة "الأنعام"، في قول الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} (الأنعام: 83، 84) فأشار إلى نوح، وأنّ الله هداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وعلى طريقه كان إبراهيم وبنوه وذريته، فما أعظمها من شهادة لهؤلاء، وأول حديث عن دعوة نوح نقرؤه في سورة "الأعراف"، وفي ست آيات يلخّص الله ما كان من أمر نوح، وما آل إليه حال قومه. وتأتي قصته في السورة أوّل قصة لتتوالى بعدها قصص هود وصالح ولوط وشعيب وموسى -عليهم السلام- على اعتبار أنه أوّل الرسل، وقبل هؤلاء جميعًا، ولكنك تلحظ أنّ الحديث عن القصة يأتي مفصولًا عن الآيات السابقة فصلًا بيانيًّا، فيقول ربنا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (الأعراف: 59)، أما بعد ذلك فترى واو العطف {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} (الأعراف: 65)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (الأعراف: 73)، {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (الأعراف: 80) {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (الأعراف: 85)، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} (الأعراف: 103)، وكأنه بعد أن ذكر قصة آدم في أول السورة، ونادى أبناء آدم أربع مرات، وبَيّن أحوال أهل الجنة وأهل النار، وذكر قدرته في إرسال الرياح بشرًا بين يدي رحمته، وأن الأرض وهي تستقبل ماء المطر قد تكون أرضًا طيبة يخرج نباتها طيبًا زاكيًا بإذن ربها، وقد تكون أرض سبخة لا يخرج نباتها إلّا ضعيفًا هزيلًا، وهكذا البشر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثًا أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء

ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) متفق عليه. بعد أن ذكر هذا كأن سائلًا سأل فقال: هل من أمثلة من الأمم التي أرسل الله لها الأنبياء، فاستجاب لهم من استجاب وكفر بهم من كفر، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (هود: 25) فذكر قصته وما بعدها من هذا القصص العظيم، وفي الآيات التي ذكرت ما كان من أمر نوح على وجازتها، تلمح معالم دعوته وإلى ما دعا وكيف دعا، فأنت ترى في التعبير القرآني {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (المؤمنون: 23) أنّ هذا التعبير يذكَر في عدة مواضع هنا في "الأعراف"، وفي "هود"، وفي "المؤمنون"، وفي "العنكبوت"، وفي "الحديد"، وأخيرًا في مطلع سورة "نوح"، وفي هذا التعبير ترى اللام الموطئة للقسم، وقد، وذلك لتحقيق وقوع ذلك، وفيه أيضًا إسناد الإرسال إلى ضمير المعظم لنفسه: أرسلنا، مما يدل على عظمة المرسِل وهو الله، المتصف بصفات الجلال والكمال. وهذا أول معلم في معالم الدعوة، ألا وهي الاستناد إلى قوة القوي العزيز، الذي اختار رسله وأرسلهم إلى أممهم، وهذا المعلم يجب أن يكون نورًا هاديًا للدعاة والمرسلين، حين يستعلون بالحق الذي معهم، والسند الذي يركنون إليه، فلا يهون الواحد منهم، ولا يذل، ولا يشعر بالانكسار والدونية، إنما يشعر بالعزة المستمدة من عزة الله، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر: 10) وكما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وقد ذكرت هذا كما تعلمون في صفات الداعية ومسلكه في دعوته.

والآيات هنا وفي كثير من المواضع، تذكر أن نوحًا أرسله الله إلى قومه فقال: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) والقوم مَن تستعين بهم من الأهل والعشيرة، ومن يكونون عونًا لك على الزمان وتقلبات الأيام، وفي هذا عدة دروس، منها: طريقة نوح، بل وطريقة الأنبياء في الدعوة إلى الله، بالتودد لهم، واستجاشة مشاعرهم، وتذكيرهم بحق القرابة، وما تفرضه من تناصر، وفي خذلان من يدعوهم إلى الخير ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم غصة وألم، كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد غضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند ولذلك جأر رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، يشكو له هجر قومه للقرآن فقال ما ذكره الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30). ومن هذه الدروس: أن كل نبي كان يرسل إلى قومه خاصة، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس عامة، ولهذا تلمح أن القرآن إذا ما تحدث عن الأنبياء غير محمد يقول: بأنه أرسل فلانًا الرسول إلى قومه، أما محمد فيقول فيه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} فهو مبعوث فيهم إلى الناس جميعًا كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع؛ ومنها قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وهذه أول ما وجهه إلى قومه فقال: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) فترى أنه بادر بتبليغ رسالة ربه كما تدل على ذلك الفاء في قوله: "فقال"، وناداهم مذكرًا لهم بما بينه وبينهم من أواصر القربى ووشائج المحبة التي جعلته يحرص على إنقاذهم من عذاب الله، وعلى إرشادهم لطريق الله، فأمرهم بعبادة الله، وذكر لهم على سبيل الحصر بأنهم لا إله

لهم غير الله، وعبادة الله التي أمرهم بها إفراده بالطاعة والمحبة والولاء والتعلق والخضوع، مما يقتضي التذلل في محرابه، والإقبال على طاعته، والالتزام بشريعته، والاقتداء بأنبيائه ورسله. وقد قدم نوح كغيره من الأنبياء هذه الدعوة مشفوعة بدليلها، ودليلها في قوله لهم: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}؛ لأن غيره لا يصلح أن يكون إلهًا، فالإله كلمة مأخوذة من وَلِهَ إذا تحير، والوله استيلاء الحب على قلب المحب وعقله وفؤاده، أو الإله من أله إلى فلان، أي: سكن إليه واطمأن، أو من أله إليه إذا فزع من أمر نزل به، وآلهه غيرهم إذا أجارهم، فهل تستطيع ذلك أصنامهم التي يعبدونها من دون الله، وهي أحجار نحتوها بأيديهم وناصبوها واعتقدوا أنها وسائط تقربهم إلى الله زلفى، فلو تأملوا أدنى تأمل لعلموا أن الخالق الرازق، المحيي المميت، من بيده ملكوت السموات والأرض، هو الإله المستحق للعبادة دون غيره، وهو الإله الذي يجدر أن تتعلق به القلوب، وأن تسكن إليه وتطمئن، ومن يجيب المضطر إذا دعاه. ومن العجيب أنهم يعلمون ذلك ولا ينكرون ربوبيته، فهو ربهم، ولكنهم يرفضون ألوهيته فلا يتألهون له، إنما يتجهون بعبادتهم وحياتهم إلى غير الإله الحق، وهذا الذي بدأ به نوح دعوته هو الأساس الذي يشاد عليه البناء، وهو البداية التي تؤدي إلى حياة كريمة في الدنيا والآخرة، ولذلك أتى كل نبي ورسول يرُدّ أمته إلى هذا الطريق، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) فهو اعتقاد يترتب عليه عمل، اعتقاد في الله ربًّا وإلهًا، وعمل يتمثل في العبودية لله.

يقول ابن القيم: "فاعلم أن سرَّ العبادة وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب -عز وجل- ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطلُ الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب ألوهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود. فتأمل طريقة الأنبياء في الدعوة إلى الله، وكيف يبدءون بالأهم، بل بما لا فائدة لقول أو عمل إلا به، وأن طريقتهم في دعوتهم تقوم على الدليل، الذي يحاصر العقل فلا يجد له مناصًا إلّا أن يسلّم به ويستسلم، ولا يرفض ذلك إلّا من لا عقل له، ولذلك ترى القرآن حين يعرض أدلته، ويذكر إعراض المشركين عنها يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) أو يقول: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) أو يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، ويقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22) ويقول: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 43، 44). والأمر الثاني الذي دعا إليه نوح -عليه السلام- هو الإيمان باليوم الآخر، وله في الدعوة إلى ذلك طريقة فذة، هي طريقة أنبياء الله ورسله في إيقاظ العقل والقلب والمشاعر؛ لتؤمن بالبعث بعد الموت، وما يسبق البعث من لحظات الانتقال من الدنيا، والانتقال للقبر وما يكون فيه، ثم ما يكون في البعث من حشر للمخلوقات،

وميزان وسؤال وصراط وجنة ونار، ترون طريقة نوح في ذلك في قوله لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 135) فدعاهم إلى العبودية لله وألا يتخذوا من دونه آلهة، وخوفهم من عذاب الله يوم القيامة بما أعده الله للمشركين، فأثبت بذلك الإيمان بيوم البعث والحساب، وساق ذلك في أسلوب الحريص عليهم، الذي يخاف على قومه من سوء الحساب. وإذا كان الإنسان إذا ما نزل ظلم بأحبابه من الأهل والعشيرة يحزن لذلك ويتألم، ويبذل قصارى جهده في دفع هذا الضر، مع أنه ضرر في أمر من أمور الدنيا من صحة أو مال أو ولد، وهذه قد تمر بالصبر عليها ولا يترتب عليها كبير ضرر، حتى لو كان الضرر كبيرًا فهو إلى نهاية، أما أن يعبر الإنسان قنطرة الحياة، ويرد على الكبير المتعال مشركًا به، لا يؤمن بهذا اللقاء، فإن خسارته لا عوض عنها، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الأنعام: 31)، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (يونس: 45). وقال تعالى في سورة "السجدة": {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (السجدة: 10 - 14). والآيات في ذلك كثيرة،

وفي مقام تخويفهم يذكر نوح أنّ عذاب هذا اليوم عظيم، وكلمة اليوم في هذا السياق تعني الزمن المتطاول، الذي يكون فيه إحياء الناس من قبورهم، وما يحدث بعد ذلك حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ولكنه مع طوله يوم وأيّ يوم، وقد خوفهم نوح بعِظَم هذا اليوم، ولو تأملت لرأيت أن هذا العظم إنما هو للعذاب، لا لليوم الذي فيه العذاب، فهذا من باب المبالغة، وكأنّ العذاب قد انتقلت شدته وعظم ما فيه من الأهوال إلى اليوم نفسه، فإذا أضفت إلى هذا ما تعنيه حروف العين والظاء والميم، من بلوغ الأمر إلى منتهاه، وأضفت إليه وضع هذه الحروف في صيغة المبالغة عظيم؛ لاستطعت أن تتخيل مدى قوة هذا العذاب وهوله. والمقام لا يتسع لأعرض عليكم، ولنتذاكر معًا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مما أعده الله للكافرين من ألوان العذاب النفسي والبدني، من أول لحظات مفارقتهم للدنيا وملائكة العذاب يقبضون أرواحهم يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام: 93) إلى أن يلقوا في السعير؛ حينذاك يسمعون لها تغيظًا وزفيرًا {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان: 13)، فيأتيهم الرد الذي يحمل السخرية والتأنيب، لتزداد حسراتهم فيقال لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (الفرقان: 14)، فقول نوح لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 135) أسلوب في الدعوة عظيم، فيه نظرة من يرى بنور الله، ومن يحمل رسالة الخير لقومه، ومن يعلم أن الخسارة في الآخرة هي الخسارة الحقة، وأن العذاب فيها لا يعدله عذاب.

رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته.

رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته فماذا كان من ردِّ قومه عليه؟ وكيف استقبلوا هذه الدعوة الكريمة؟: يتابع القرآن عرض ذلك فيقول: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: 60)، والملأ كما يقول الراغب في (المفردات): جماعة يجتمعون على رأي، فيملئون العيون رواء ومنظرًا، والنفوس بهاء وجلالًا، فالملأ عظماء القوم وسادتهم، وهؤلاء عقبة الإصلاح في كل زمان ومكان، ترتعد فرائسهم إذا ما استمعوا إلى دعاة الحق، وتوهموا أنهم سيسلبونهم مكانتهم ومنزلتهم وما فرضوه على الناس من عبودية وتسخير، ولهذا كانت المواجهة عنيفة عبر التاريخ بين هؤلاء المستكبرين الطغاة، ومن أرسلهم الله لخلقه يدعونهم إلى عبادة الله والإيمان باليوم الآخر. وفيما ذكر الله من قصص أنبيائه تقرأ هذه العبارات: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} (المؤمنون: 33)، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} (الأعراف: 66)، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} (الأعراف: 75)، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} (الأعراف: 109)، وهكذا، إنهم أصحاب السلطان والجاه والأموال والمناصب، ليسو على استعداد ليستمعوا مجرَّد استماع إلى هؤلاء الرسل، فضلًا عن أن يدخلوا معهم في دينهم، ليكونوا تبعًا لهؤلاء المرسلين، إنهم القادة والسادة، فكيف يكونون عبادًا لرب العالمين يقتدون بأنبياء الله ورسله؟! ولهذا قالوا له مؤكدين قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: 60).

والضلال ضياع وانصراف عن جادة الصواب، وهذا الضلال الذي ذكروه موصوف بأنه مبين، أي: واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وحرف الجر في قولهم: {فِي ضَلَالٍ} يفيد أنّ الضلال محيط به في نظرهم من كل جانب، بل هو منغمس فيه إلى أذقانه، وإذا كانوا وهم سادة القوم وأهل الرأي فيهم، يرون نبيهم في ضلال مبين كما قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ} فهذا يعني رفض دعوته بقوة، وأنه لا مجال للنقاش معهم في هذا الأمر، فانظر إلى أسلوب نوح في دعوته، وما يمتلك من القدرة على الإقناع لو كانوا يعقلون، لقد أجابهم بقوله: {قَالَ يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 61، 62) إلى آخر ما قاله. فناداهم للمرة الثانية مذكرًا لهم بأنهم قومه، وهل يفرّط عاقل في حق قومه، وهل يقصِّر في إرشادهم إلى طريق السداد والرشاد، كيف وهو جزء منهم! يسعده ما يسعدهم ويشقيه ما يشقيهم، ناداهم بهذه الصفة ليفتح طريقًا إلى قلوبهم وعقولهم، وبَيّن لهم بأنه ليس به ضلالة، وكل ما في الأمر أنه رسول من رب العالمين إليهم، فذكرهم بهذه العبارة بمن رباهم على موائد كرمه، في جملة تربيته للعالمين، وهل ينكر عاقل أنّ الله هو الخالق الرازق، الذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وأنه هو الذي يدبّر أمر خلقه، إنهم لا ينكرون ذلك، ولا يستطيع واحد منهم أن يدّعي بأن هذا الحجر الذي صوّره بيده وأقامه معبودًا له، يستطيع أن يصنع شيئًا من ذلك، ولذلك قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 73، 74).

وانظروا إلى حكمة نوح في دعوته؛ إذ لما قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: 60)، فنفى هذا الضلال بأبلغ وجه وأعظمه فقال: {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} (الأعراف: 61)، أي: أدنى ضلالة في أي جانب من الجوانب، فإن ضلالة اسم مرة كما تعلم، أراد أن يثبت رسالته فقال: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 61)؛ إذ ربما فهموا أنه حين نفى عن نفسه ما رموه به من الضلال فأجابهم بنفي ذلك فيه، أنه لن يتحدث عن رسالته، فانتهز هذه الفرصة، وأضاف لهم دعوة في أسلوب شيق رائع، ذكر فيه دليلًا من أعظم الأدلة على أنه مرسل إليهم، فذكرهم بالرب الذي رباهم كما ربّى كل الخلائق، ومن عظيم تربيته أنه حين خلقهم لم يتركهم يتخبّطون في هذه الدنيا فيهلكون، إنما أرسل لهم الرسل وأنزل لهم الكتب، فإذا ما قال لهم بأنه رسول مرسَل من هذا الرب الكريم، الحليم العظيم، فردوا رسالته، فقد ردوا على الله كرامته لهم ورعايته، ولم يصدقوه سبحانه فيما أرسل إليهم رسوله، وأضاف نوح ما يفيد حرصه عليهم مما يستوجب تصديقه والإيمان برسالته فقال: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 62) فبيّن لهم أمورًا ثلاثة، كل أمر منها يكفي لتصديقه، فما بالك وقد اجتمعت. أولها: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} (الأعراف: 68) فهو لا يخترع كلامًا يزيّنه لهم ويريد أن يحملهم عليه، إنما يبلغ رسالات ربه، والتبليغ بيان في إيضاح، يبذل فيه المبلِّغ كل جهده في توصيل رسالته، وهي هنا ليست رسالة واحدة، إنما هي رسالات، فكل أمر بلغه وكل نهي ذكره وكل نصيحة أسداها هذه رسالة من ربه، كما أنه أيضًا يحمل ما جاء به أبوه آدم، والأنبياء من بعده؛ كإدريس -عليه السلام- وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وشيث -عليه السلام- وقد أنزل عليه خمسون صحيفة،

ومع أنه قال: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 61) وكان مقتضى السياق أن يقول: "أبلغكم رسالاته"، إلّا أنه أظهر في موضع الإضمار وأضاف الربوبية له؛ ليقول لهم بأن إحساسه بربوبية الله له توجب عليه أن يجتهد في طاعته، وأن يقوم بتبليغ رسالاته إليهم. وثاني الأمور جاء في قوله: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} (الأعراف: 62) أي أبحث عن كل ما فيه مصلحتكم وسعادتكم، فأبينه لكم وأرشدكم إليه، يقول الألوسي: "أصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع"، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له، بفعل الخياط فيما يسُدّ من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعيه حقه، وقد قال: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}، دون وأنصحكم؛ ليقول لهم بأن فائدة هذا النصح عائدة عليهم لا على غيرهم، ونصيحته لهم هم الذين ينتفعون بها لا هو، فعليهم أن يقبلوها، فهل يرفض أحد نصيحة من أخلص له في نصيحته، وأخلص له في محبته، وأخذ يسُدّ خلله ونقصه، حتى يلبس ثوب الحياة قشيبًا سعيدًا، هل يرفض عاقل ذلك؟ أما الأمر الثالث: فهو ما جاء في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (يوسف: 86) فما الذي يعلمه نوح وهم لا يعلمونه، إنه يعلم عن طريق الوحي من أمر الله وسنته في خلقه، وما يتبع هذه الدنيا من أحوال الآخرة ما لا يعلمون، ويعلم أنّ الله ذو القوة المتين، وأنه يبطش بالمكذبين المعاندين، وقوم نوح لا يعلمون ذلك لأنهم أول أمة عذبها الله بكفرها، فأزالها من على وجه الأرض، ولم يبق إلّا من آمن مع نوح، وما آمن معه إلا قليل. وفي هذه النصائح الثلاثة يعبّر بالفعل المضارع: "أبلغكم"، "أنصح لكم"، "أعلم من الله"؛ ليدل على تجدد هذه الأفعال ودوامها، فهو -عليه السلام- لا

يتوانى ولا يتوقف عن تبليغهم ونصحهم وبيان ما أعطاه الله من علم به مما لا يعلمون. ويواصل نوح -عليه السلام- تبليغ رسالة ربه، فيسألهم سؤال إنكار وتعجب ليردهم إلى رحاب دين الله فيقول: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 63)، فهذه دعوة منه إلى العودة إلى الله، يعرضها في هذا الأسلوب الرائع وبهذا المنهج القويم؛ إذ بعد أن بيّن لهم أنه رسول من رب العالمين، يبلغهم رسالات ربه، وينصح لهم، ويعلم من الله ما لا يعلمون، فهو خائف عليهم لما يعلمه من شدة أخذ الله للظالمين، ومن رحمته بالمؤمنين، بعد ذلك أخذ يعاتبهم متعجبًا من حالهم، ومنكرًا عليهم رفض هذا الخير، الذي جاءهم سهلًا ميسورًا من فيض عطاء الله وفضله، وهذا ما دل عليه قوله: {جَاءَكُمْ}، والذي جاءهم ذكر من ربهم، فهي الربوبية إذن بما فيها من الرفق بالعباد، وعدم تركهم هملًا لا يعرفون لهم ربًّا وإلهًا، فتتخطفهم الشياطين، فتضلهم عن السبيل. ووصف ما أوحاه إليه بأنه ذكر؛ ليقول بأن ما أوحاه الله إليه جاء تذكيرًا وموعظة بليغة ترشدهم إلى الطريق الأقوم والحياة الأكرم، وهل جاء الرسل إلّا ليذكروا الناس بربهم، فإن الفطرة الإنسانية تعرف خالقها، كما جاء في الحديث: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه)) الحديث، وفي الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم)) أي: حوّلتهم بقوة إلى طريق الكفر بالله. وهذه الهدية الغالية -وهي وحي الله- صادرة من ربهم على رجل منهم، يعرفونه ويعرفون نسبه وشرفه فيهم، وما له من أخلاق فاضلة وصفات عالية، وهذا الرجل جاء لهم بإذن من الله ينذرهم، والإنذار قول مصحوب بالتخويف

والتهديد والوعيد، وقد اكتفى به نوح، فلم يذكر أنه جاء لينذرهم وليبشرهم؛ لأن المقام مقام زجر وتخويف. وأمر آخر يترتب على مجيء نوح إليهم، هو أنه يضعهم على طريق التقوى، والتقوى فعل المأمورات وترك المنهيات، مع الحذر من التقصير في ذلك، والخوف العظيم من عدم قبول العمل، أو هي كما ورد على لسان علي بن أبي طالب: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل"، ومن عرف باب التقوى فولجه فاز بالنعيم المقيم في جنات النعيم. أما الأمر الثالث: فهو رحمة الله التي تعمهم، فيبارك الله لهم فيما أعطاهم، وتجري عليهم أرزاقهم دارة كثيرة، ويحيون في سعادة وأمن وأمان، وينالون رحمة الله الواسعة في الآخرة كما نالوها في الدنيا، فمن الذي يرفض هذا العطاء كله، ومع كل الذي قاله ونصحهم به كذبوه، وكان تكذيبهم دون روية ونظر، كما يفهم من الفاء في قوله: "فكذبوه"، وكانت النجاة لنوح والذين معه بعد أن أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ، وأوحى الله إليه أن يصنع سفينة فصنعها، ولما جاء أمر الله فتح بقدرته السماء بماء منهمر، وفجر الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وحمل الله نوحًا ومن معه في سفينة، ذات ألواح ودسر، وأنجى الله هذا النبي ومن آمن معه، وأغرق القوي القادر الذين كذبوا بآيات الله واستحقوا هذا لأنهم كانوا كما قال ربنا: {قَوْمًا عَمِينَ} (الأعراف: 64) أعمى الله قلوبهم عن معرفته وتوحيده والإيمان بنبيه، فكانوا هالكين. وبعد فهذه لقطة واحدة، ونموذج فيه عدة نماذج لدعوة نوح ومسلكه في دعوته، وما ذكر في السور الأخرى قريب مما ذكره الله في سورة الأعراف، فالحمد لله الذي نجّا نوحًا ومن معه، وحقق رجاء هذا النبي حين دعا فقال: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (المؤمنون: 29). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى -عليهما السلام.

الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى -عليهما السلام.

دعوة إبراهيم -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (دعوة إبراهيم وموسى -عليهما السلام) دعوة إبراهيم -عليه السلام- حمدًا لله، وصلاة وسلامًا على رسول الله، أما بعد: فحديثنا عن إبراهيم وموسى - عليهم االسلام-: إبراهيم -عليه السلام-: ذكر صاحب (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) أن اسم إبراهيم ورد تسعًا وستين مرة، منها خمس عشرة مرة في "البقرة"، وإحدى عشرة في "آل عمران"، وأربع مرات في كل من "الأنعام" و"هود" و"الأنبياء"، وثلاث مرات في "التوبة" و"مريم" و"الحج" و"الصافات"، ومرتين في "يوسف" و"النمل" و"العنكبوت" و"الممتحنة"، ومرة واحدة في كل من "إبراهيم" و"الحجر" و"الشعراء" و"الأحزاب" و"ص" و"الشورى"، و"الزخرف" و"الذاريات" و"النجم" و"الحديد" و"الأعلى". وبهذا الحصر نستطيع أن نعرف متى ذكر إبراهيم في قصة تظهر منهجه في دعوته، ومتى ذكر على سبيل الإشارة والاستشهاد به في موقف، أو موضوع، يثبت الله به المؤمنين ويظهر خطأ المشركين وأهل الكتاب، والذين يدعون أن إبراهيم كان على دينهم، أو أنهم ينتسبون إليه، ويبنون على هذه النسبة أمورًا، ويريدون حقوقًا ليست لهم، إلى غير ذلك مما ورد فيه ذكر اسم إبراهيم -عليه السلام. وأول ذكر لإبراهيم في القرآن تراه في سورة "البقرة"، وقد ورد ذكره في الربع الثامن من الجزء الأول إحدى عشرة مرة، وورد اسمه في الربع الأول من الجزء الثاني أربع مرات، وفي كل موضع نموذج بل عدة نماذج من دعوته عليه السلام، ففي الموضع الأول بيان لما يجب أن يكون عليه حملة الرسالة، من الصبر والطاعة لله والاستسلام له، والحرص على امتداد رسالتهم، والله حين يذكر ذلك، إنما يذكره ليكون نبراسًا لأهل الإيمان من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهذه هي آيات هذا الربع،

يقول الله فيها: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124). فلم يكن حصوله على هذه المنزلة من إمامة الناس، وأن يكون أبا الأنبياء، إلا لأنه استحق هذا حين نجح فيما اختبره الله به، فأداه على وجه التمام والكمال، وهذه الكلمات وردت فيها أقوال كثيرة، وهي أقوال غير متعارضة، ولذلك قال ابن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع. قال: "ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له". وقد ذكر ابن كثير جملة من هذه الأقوال، منها ما رواه داود بن هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قلت له: وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، منها عشر آيات في "براءة": {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} (التوبة: 112) إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1) و {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (المعارج: 1) وعشر آيات في "الأحزاب": {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (الأحزاب: 35) إلى آخر الآية، فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 37) ". ومنها ما روي عن ابن عباس قال: "الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذًا في الله حين أوقفه على ما أوقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه هلاكه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله، على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده

في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبح، فلما مضى على ذلك من الله كله، وأخلصه للبلاء قال الله له: أسلِم قال: أسلمت لرب العالمين، على ما كان من خلاف الناس وفراقهم". وكل أمر من هذه الأمور كما ترون فيه من مشقة الصبر عليه الكثير، وبخاصة في قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وذكر ابن كثير عن ابن عباس أقوالًا أخرى، فيها أنه أمر بأمور يخالف فيها ما كان عليه قومه، وفعل ما يخالف عادات الناس ليس بالأمر الهين، فلما أسلم إبراهيم نفسه لله رب العالمين، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131) كان جديرًا باختيار الله له إمامًا وخليلًا. قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (البقرة: 124)، ومن شدة محبة إبراهيم للخير رغب في امتداد هذا الاصطفاء لذريته، ولذلك قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124) قال الله له: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124). وذرية إبراهيم: إسماعيل وإسحاق، ومن تناسل منهما إلى يوم القيامة، وإذا كان الله قد أكرم إبراهيم، وجعل كلًّا من ولديه نبيًّا، فإن من بعدهما من ذرية إبراهيم، كان منهم الصالح والطالح. قال تعالى بعد أن ذكر قصة رؤيا إبراهيم، وأنه يذبح ولده إسماعيل، إلى أن مَنّ الله عليه بفداء إسماعيل، وبشره بإسحاق نبيًّا من الصالحين قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 113). وهذا الذي سأله إبراهيم منهج في الدعوة إلى الله، أن يكون الداعية في نفسه وفي ولده مثالًا لطاعة الله، وأن يسأل الله أن يمن على أبنائه وذريته بالهداية والتوفيق، ولذلك لما استجاب إبراهيم لأمر ربه، ورحل بهاجر ووليدها إسماعيل إلى مكة،

وتركهما بأمر الله وحيدين في هذا المكان القفر، الذي لا أنيس فيه ولا جليس ولا طعام ولا ماء، وقف خلف الثنية يجأر إلى الله قائلًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 37 - 41). فالهدف من رحلته وتركه لزوجه وابنه في مكة إعلاء كلمة الله، وإقامة دين الله، ومثل هذا الدعاء ما نراه في دعاء إبراهيم وإسماعيل بعد أن أتما بناء البيت، بل أثناء عملهما في بنائه قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 127 - 129). وهذا الحرص على الدعوة إلى الله هو الذي جعل إبراهيم وابن ابنه يعقوب يوجهان النصح لأبنائهما بالحرص على الدين إلى آخر لحظة من حياتهم. قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132). وقد استجاب الله دعاء إبراهيم، ووهب له إسماعيل وإسحاق، وجعل من ذرية إسماعيل محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل من ذرية إسحاق يعقوب وهو إسرائيل، أي عبد الله ومصطفاه، ومن يعقوب كانت الأسباط، فقد أنجب يعقوب اثني عشر ولدًا منهم يوسف -عليه السلام.

وكل من أتى من الأنبياء والمرسلين بعد إبراهيم فهو من ذريته، ولذلك بعد أن ذكر الله ما كان من أمر إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام، وما كان من إلقائهم له في النار ونجاة الله له، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: 27). وبعد أن ذكر الله محاجة إبراهيم لعبدة الكواكب قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 83 - 87). ومن منهج إبراهيم في الدعوة إلى الله: بناء البيت الحرام بأمر الله، ومن أجل بناء هذا البيت تحمل إبراهيم ألم فراق إسماعيل، الذي رزق به وقد تجاوز الثمانين من عمره، وليته حين فارقه تركه في مكان آمن فيه مقومات الحياة، أو تركه شابًّا يعمل فيكسب قوته وقوت أمه، إنما تركه طفلًا رضيعًا في مكان ليس به أي مظهر من مظاهر الحياة، فمن يطيق ذلك غير إبراهيم الخليل، ولما كبر هذا الطفل وأصبح صبيًّا، يرى إبراهيم في منامه أنه يذبح إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق، فيأتي من أرض فلسطين إلى مكة؛ ليقص على ابنه رؤياه فيقول الابن: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 12) ويكون الفداء جزاء هذا الصبر والاستسلام لأمر الله. ثم يؤمر إبراهيم بأن يرفع القواعد من البيت، فيساعده إسماعيل في ذلك ويتما البناء، ويدعو الناس لحج هذا البيت، فيبقى ذكر إبراهيم وذكر جهاده نورًا يهدي

إلى طرق السداد والرشاد، لتكون الدعوة إلى الله من خلال بناء بيوت الله، وتشييدها والمحافظة عليها، وإقامة شعائر الله فيها، رافدًا مهمًّا لتبليغ كلمة الله، وكم للمساجد من دور فعال في جمع كلمة المسلمين ووحدتهم، وتعليمهم وتثبيت أقدامهم، وهذا يحتاج إلى إعداد داعية يمتلك من وسائل التأثير والإقناع، ما يستطيع به أن يستفيد من وجود المسلمين في مساجدهم؛ ليجعل منهم قوة تحمي الحق وتذود عن دين الله. وفي مدرسة إبراهيم في الدعوة إلى الله، ما نراه في دعوته لعباد الأصنام وعباد الكواكب، وعباد الأصنام كانوا في العراق في بابل، ومِن عظم البلية أن يكون آزر -والد إبراهيم- هو الذي يصنع الأصنام لقومه، فالمسألة ليست في أبيه الذي يعبد الأصنام، إنما في أبيه الذي يصنع الأصنام، فكيف فعل إبراهيم، وهو الوحيد في هذه الأرض الذي يؤمن بالله إلهًا واحدًا، ولم يؤمن معه سوى زوجه سارة وابن أخيه لوط. إنه بدأ الدعوة لقومه بأبيه، فوجه إليه الدعوة في أدب ولطف، وبيان القرآن لهذا ليس بعده بيان. يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم: 41 - 50).

ومن هذا الدرس يتعلم الدعاة أدب الدعوة إلى الله، وأنها تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن الدعوة تبدأ بالأهل والأقارب، وقد بدأت دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- أولًا لعشيرته الأقربين، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 214، 215). دعا إبراهيم عبدة الأصنام، لقد أقام عليهم الحجة بطريق عملي لا سبيل لرده؛ إذ بعد أن دعاهم إلى توحيد الله في ربوبيته وألوهيته، فلم يستجيبوا له، أقسم أن يكيد لأصنامهم كيدًا، يظهر عدم استحقاقها للعبادة، فما إن خرج القوم إلى عيد لهم خارج البلدة، وكان هذا من عادتهم في كل عام، حتى دخل إلى معبدهم فكسر أصنامهم، وجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم، علق الفأس بيد هذا الصنم الأكبر، فلما جاءوا ورأوا ما حل بأصنامهم، ثاروا وغضبوا، وأتوا بإبراهيم على أعين الناس لعلهم يشهدون، وكان هذا مقصد إبراهيم ليقيم عليهم الحجة على الملأ. ولما سألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 62، 63) فكانت حجة واضحة أفحمتهم {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} (الأنبياء: 64) ولكن الهوى أعماهم فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 65) وهذا اعتراف منهم بالحقيقة، ولذلك قال لهم إبراهيم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 66، 67). فثارت ثائرتهم وأطفئ عندهم سراج العقل، ولم يبق إلا الكبر والإصرار على الباطل، ولم يجدوا لهم سبيلًا إلا أن يتخلصوا من إبراهيم، لقد فكروا ولم يطل

بهم التفكير، في الكيفية التي يقضون بها على هذا الذي سفه أحلامهم وأبطل حجتهم، فوجدوا أن يجمعوا لذلك حطبًا كثيرًا فيضرموا فيه النيران، ثم يلقون إبراهيم في هذه النيران، فلما وضعوه مقيدًا في كفة المنجنيق قال -عليه السلام-: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وقذفوه في النار دون رحمة، والكل يشاهد هذا المنظر العجيب، وهذا الإجرام الذي فاق الحدود، ولكن الله القوي القادر القاهر أمر النار أن تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم، فكانت كذلك، ولم تحرق إلا وثاقه ونظر إليه الناس فرأوه في روضة خضراء، ولكن النار من حول روضته لا يستطيع أحد الوصول إليه. وقد روى ابن عساكر عن عكرمة: "أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها -عليه السلام- فنادته: يا بني إني أريد أن أجيء إليك، فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك، فقال: نعم، فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار، فلما وصلته اعتنقته وقبلته ثم عادت". {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 70) ويقول الله في سورة "الصافات": {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} (الصافات: 98) فانظر إلى طريقة إبراهيم في دعوته، وكيف وجه أسئلته إلى قومه في أسلوب مقنع مهذب، إلى أن قال: {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (الأنبياء: 58). وتأمل في شجاعة إبراهيم في الحق، وهو يقسم أن يكيد لأصنامهم بعد أن يولوا مدبرين، ونفذ ما أقسم عليه بطريقة، أراد منها أن يجمع الناس ليقيم عليهم الحجة، وتم له ما أراد، وقدم ما أراد على طريقته في الإقناع، الذي حاصر كل دليل وأبطل كل ما اعتقدوه في أصنامهم، فقابلوا هذا بالقوة والغشم والتعدي على هذا الذي أراد لهم السعادة، فأوقدوا نارًا هائلة وألقوه فيها، وفي تسليم إبراهيم لأمر الله وفي ثقته في فضل الله درس عظيم للدعاة؛ ليعلموا أنهم إن

أخلصوا لله في الدعوة إليه، فإن الله حافظهم وناصرهم، والدروس في قصة إبراهيم كثيرة. ولما نجاه الله من النار، ووجد أن أرض بابل لم تعد صالحة لغرس الإيمان، خرج مهاجرًا إلى أرض الشام، ومعه زوجه سارة وابن أخيه لوط، ولم تكن هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، إنما كانت لله ومن أجله، ولذلك قال الله على لسانه: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (العنكبوت: 26) وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 99) ورغب في الولد ليحمل الرسالة معه ومن بعده، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 100، 101) ذلكم هو إسماعيل -عليه السلام- وكان من أمر إسماعيل ما ذكرته آيات الصافات، إلى أن فدى الله إسماعيل بذبح عظيم، ولصبره وحسن بلائه بشره الله بإسحاق نبيًّا من الصالحين. فماذا كان من أمر إبراهيم في بلاد الشام؟ لقد وجد في مدينة حران، وهي من مدن بلاد الشام، قومًا يعبدون الكواكب فكيف أقام عليهم الحجة، وأظهر لهم أن هذه الكواكب مربوبة لله رب العالمين؟ إنه لم يرمهم بالجهل والكفر، ولم يقل لهم من البداية: إن هذه الكواكب لا تضر ولا تنفع، وإنها مربوبة لمن خلقها، إنما دخل معهم إلى معابدهم، وبزغ في كبد السماء كوكب الزهرة، فقال إبراهيم: {هَذَا رَبِّي} (الأنعام: 76) وما هي إلا ساعات حتى أفل هذا النجم، فلم يزد على أن قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: 76). ثم بدا القمر مضيئًا في صفحة السماء، قال كما قالوا: {هَذَا رَبِّي} (الأنعام: 77) وما هي إلا ساعات حتى غاب القمر، فقال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} (الأنعام: 77) فعرض بضلالهم دون أن يفصح عن ذلك، وأشرق الصبح وبدأت الشمس ترسل أشعتها فقال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} (الأنعام: 78)

دعوة موسى -عليه السلام-.

ومرت ساعات النهار وغابت الشمس، فلما أفلت كان قد تم له ما أراد، فإن الإله لا يغيب، وهناك إذًا الإله الذي يدبر هذه الكواكب، والذي أوجدها وأمدها بالضياء، لذلك قال: {يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 78) وأعلن لهم وجهته ومن يعبد فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 79). ولم يقتنع قومه بهذا الدليل الساطع والبرهان القاطع، فأخذوا يجادلونه ويحاجونه قال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 80 - 82) وقد عقب الله على ذلك فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83). وفي طريقة إبراهيم في إقامة الحجة على المشركين، الكثير من الدروس النافعة التي لا يتسع الوقت لذكرها. دعوة موسى -عليه السلام- وقد ذكر موسى في القرآن ستًّا وثلاثين ومائة مرة، كالتالي: إحدى وعشرون في "الأعراف"، ثماني عشرة في "القصص"، سبعة عشرة في "طه"، ثلاث عشرة في "البقرة"، ثماني مرات في كل من "يونس" و"الشعراء"، خمس مرات في "غافر"، ثلاث مرات في كل من "النساء" و"المائدة" و"الأنعام" و"هود" و"إبراهيم" و"الإسراء" و"النمل"، ومرتين في كل من "الكهف" و"المؤمنون"

و"الأحزاب" و"الصافات" و"الأحقاف"، ومرة واحدة في "آل عمران" و"مريم" و"الأنبياء" و"الحج" و"الفرقان" و"العنكبوت" و"السجدة" و"فصلت" و"الشورى" و"الزخرف" و"الذاريات" و"النجم" و"الصف" و"النازعات" و"الأعلى". وبهذا الجمع لاسم موسى في القرآن، يتضح أنه ورد في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، التي تبلغ أربع عشرة ومائة سورة، وأنه ذكر في السورة المكية أكثر من السور المدنية، وما ذلك إلا لما في قصته من ألوان التطمين لفؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- والتسلية له، عما كان يجده من قومه، ولِما في تكرار الحديث عن موسى من بيان لما كان عليه قومه من سوء الطبع وانطماس الفطرة، وانحرافهم عن منهج الله، ولموقفهم الحاقد الحاسد من دعوة الإسلام، حين رأوا دفة الرسالة تتحول عنهم إلى العرب من أبناء إسماعيل، ويتولاها عَلَم فذ ليس له مثيل في الأنبياء. فكل نبي قبله كان يبعث إلى قومه خاصة، وبعث هذا الرسول إلى الناس كافة، وكل رسول قبله كان يرسل لفترة محدودة من الزمان، تبقى رسالته لعدد من السنوات، فتتغير المعالم وتنطمس الحقائق، وتهجم الأهواء على ما أنزل الله على هذا الرسول من وحي، فلا يبقى من وحي الله إلا بصيص من نور، لا يكاد يتضح به الطريق، فيرسل الله رسولًا آخر، وهكذا إلى أن ختمت الرسالات والنبوات بالنبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنزل عليه وحيًا لا يمحوه الزمان، تكفل القوي القادر بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). فلم تستطع قوة في الأرض أن تغير فيه حرفًا، مع ما اعترى أهل الإسلام من ضعف وعجز، واحتلال لديارهم وضياع لهيبتهم، ومع شراسة عدوهم، ومحاولة أعداء الله أن

يطمسوا معالم هذا القرآن، وأنى لهم ذلك؟! وعين الله حارسة لكتابه حافظة لدينه، فماذا كان من أمر موسى ودعوته، وماذا فيها من معالم الهداية الإلهية؟ إن الله إذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب. لقد ذكر الله في سورة "يوسف" ما كان من أمر يوسف -عليه السلام- وقدر الله الذي جاء به إلى مصر، حتى تسنَّم فيها ذُرى المجد، وآتاه الله النبوة والملك، وأنه قال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يوسف: 93). فجاء أبوه يعقوب -عليه السلام- وهو إسرائيل وأبناؤه، وقد كانوا عشرًا، وكان في مصر بنيامين ويوسف، جاءوا ومعهم زوجاتهم وأبناؤهم وأحفادهم، فاستقروا في أرض مصر وكثروا، وتولى ملك مصر أحد الفراعنة، وخشي على ملكه منهم، فسامهم سوء العذاب، وسخرهم في الأعمال الشاقة، وأخبره الكهنة بأن بني إسرائيل سيولد فيهم مولود، يكون على يديه زوال ملكه، فأطلق الفرعون جنوده تقتل كل مولود ذكر، وولد موسى في هذه المحنة، فأوحى الله لأمه أن تضعه في تابوت -أي: في صندوق من الخشب- وأن تلقيه في النيل، وألقى في روعها أن الله سيرده إليها، ويجعله من المرسلين، ودفعته المياه إلى قصر فرعون {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: 8). وألقى الله محبته في قلب من رآه، حتى قالت امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 9) وأخذت أخت موسى تتبعه من لحظة إلقائه في اليم، إلى أن تم التقاطه منه، ولما جاءوا بالمراضع لترضعه لم يتناول ثدي واحدة منهن، فتقدمت أخته فعرضت عليهم أهل بيت يرضعونه لهم، ويحافظون عليه، فرد الله موسى لأمه {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص: 13).

وشب موسى في قصر فرعون، فاطلع على كثير من الأحوال وألوان الظلم والجبروت، وبينما هو يسير في المدينة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (القصص: 15) فكان هذا سببًا لخروجه خوفًا على نفسه من القتل، وسار إلى مدين، وهناك التقى بشعيب بعد أن سقى لابنتيه ماشيتهما، وتزوج بواحدة من الابنتين، على أن يرعى الماشية لشعيب ثمانية حجج، فإن أتم عشرًا فهذا فضل منه. وأتم موسى السنوات العشر واصطحب أهله لزيارة أهله وعشيرته وقومه في مصر، وبينما هو في سيناء والبرد قارص وقد ضل به الطريق {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (القصص: 29 - 32) ومن هنا نصل إلى بداية رسالة موسى ودعوته، لنختار منها بعض النماذج التي تفصح عن طريقته في دعوته. والمرحلة الأولى التي سبقت تكليفه بالرسالة فيها من الدروس والعبر، وتبين أن الله غالب على أمره، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكنا في هذا اللقاء نلتقط من واحة القرآن بعض ما في دعوة كل من إبراهيم وموسى من مناهج الهداية والرشاد. وقد أرسل الله موسى لبني إسرائيل، ولكن بني إسرائيل مقهورون تحت إمرة فرعون في مصر، وليبلغ موسى رسالته لبني إسرائيل، لا بد من استخلاصهم من

قبضة فرعون، فلتتجه الدعوة أولًا لفرعون، وليطلب منه موسى أن يترك له بني إسرائيل، يبلغهم رسالة ربه، ولذلك نقرأ في "الأعراف": {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 104، 105). ونقرأ {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} (الأعراف: 134) أي: العذاب الوارد في الآية السابقة من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 134) وفي سورة "طه" يقول الله تعالى لموسى وهارون: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طه: 47). وفي سورة "الشعراء" نقرأ هذا المعنى يقول تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 16، 17) وإنما ذكرت ذلك لأبين صدق ما قال رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- من أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. ولذلك بدأ موسى بإثبات رسالته لفرعون، ليؤدي رسالته لقومه، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (الإسراء: 11 - 14). فموسى إنما جاء لبني إسرائيل، ومثل ذلك ما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 5)

فانظر كيف دعا موسى فرعون لإطلاق سراح بني إسرائيل؛ للعودة بهم إلى الأرض المقدسة، وفي إثبات أنه رسول الله دليل وحجة تقوم على فرعون وقومه، وعليهم أن يؤمنوا بما دعا إليه هذا الرسول، مِن إفراد الله بالعبودية، والانضواء تحت راية الإيمان، فإن لم يؤمنوا عاقبهم الله؛ لأن الله كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) ولذلك قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 13، 14). وآمن به مِن آل فرعون بعض مَن يكتم إيمانه، كما آمنت به آسيا امرأة فرعون، التي ضربها الله مثلًا للذين امنوا، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم: 11). والرسول وإن بعث إلى قومه خاصة، لكن الإيمان يلزم مَن تُعرض عليه الدعوة، ومن يكون في طريق هذا الرسول في لقاء أو ما شابه ذلك، فكان هذا من رحمة الله برسله، إذ لم يكلفهم بحمل عبء الدعوة العامة لكل البشر، لكن رحمة الله للعالمين كانت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أهّله ربه لهذه المهمة، وقال له: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 51، 52). وهذا موسى ومعه أخاه هارون، يصلان إلى فرعون لتبليغ رسالة ربهما، فانظروا إلى المنهج الذي سلكاه في دعوة فرعون، إلى إطلاق سراح بني إسرائيل، ليذهبا مع موسى وهارون، وإلى إثبات ألوهية الله واستحقاقه أن يعبد وحده، والآيات تعبر عن خوف موسى وهارون من بطش فرعون، وكيف أذهب الله عنهما هذا الخوف، فتقول: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ

طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 42 - 46) وقد ذكر الله مثل ذلك في سورة "الشعراء" وسورة "القصص"، فلم يتمكن فرعون ولا أحد من جنده من الاعتداء عليهما. والآيات ترسم مشهدًا رائعًا، وتصور حروفها وكلماتها ثبات موسى وقدرته على الحوار، وترسم صورة لفرعون حائرًا لا يجد جوابًا، وموسى ينتقل به من دليل إلى دليل، حتى جاء بالآية الكبرى التي أذهلت فرعون وملأه، حين ألقى موسى عصاه، والتي هي ككل العصي في يد موسى عودًا من خشب، يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، إلى غير ذلك مما تستعمل فيه العصا، فألقاها فإذا هي حية عظيمة مخيفة، تجري على الأرض هنا وهناك فاغرة فاها، مما أثار ذعر فرعون ومن معه، ومد موسى يده فأمسك بها فعادت عصًا كما كانت من قبل. وأتبع موسى هذه المعجزة بمعجزة أخرى، إذ أخرج يده والتي هي يد ككل الأيدي، يحركها صاحبها حيث شاء، فما إن نزعها من جيبه حتى أضاءت المكان كله. يقول مجاهد: "كان موسى إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر". وقال الحسن البصري: "أخرجها والله كأنها مصباح". وقد روى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه: "قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وإن معك تأييدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بَطِر نعمتي وأمِن مكري وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني". إلى آخر ما ورد في ذلك. لكن فرعون استكبر عن الحق وادعى أن ما رآه سحر، واستشار الملأ من قومه، فما كانوا له ناصحين، إنما أعانوه على بغيه وطغيانه، وأشاروا عليه أن يجمع السحرة

ليبطلوا ما رأوه من موسى، وظنوا أنه سحر، أو هكذا قالوا، مع أن الله أخبر أنهم أيقنوا أن هذا ليس سحرًا، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وطلبوا من موسى موعدًا فقال: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: 59). وإنما أراد موسى ذلك ليكون خزي فرعون على ملأ من الناس، وليعلم الناس أن ما جاء به موسى ليس سحرًا، إنما هو آية من آيات الله، فلما جاء الموعد واحتشد القوم، وجاء السحرة ووعدهم فرعون بالجوائز والمناصب والدنيا، وسألوا موسى من سيلقي أولًا؟ فقال لهم: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء: 43، 44) فأجابهم موسى قائلًا: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (يونس: 81، 82) {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشعراء: 45 - 48). وتوعدهم فرعون بالعذاب الشديد، فأوحى الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل، فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا، فأغرقه الله ونجا موسى ومن معه أجمعين. قال تعالى فيما حل بفرعون وجنوده: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 136) ثم قال فيما مَنّ الله به على بني إسرائيل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137). والله من وراء القصد.

الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد -عليهما السلام-.

الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد -عليهما السلام-.

دعوة عيسى -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني والعشرون (دعوة عيسى ومحمد -عليهما السلام-) دعوة عيسى -عليه السلام- حمدًا لله، وصلاة وسلامًا على رسول الله، أما بعد: فبالحديث عن عيسى ومحمد أكون قد استكملت الحديث عن أولي العزم من الرسل: ولنبدأ بحكم الترتيب الزمني بعيسى -عليه السلام- فكم مرة ذكر في القرآن الكريم وفي أي سور القرآن ذكر؟ جمع كلمة عيسى في القرآن تجعلنا نجمع كلمة مريم، فهي أم عيسى، ونجمع كلمة المسيح فهي صفة له، وقد ورد اسم عيسى في القرآن خمسًا وعشرين مرة، ثلاث مرات في كل من "البقرة" و"النساء"، وخمس مرات في "آل عمران"، وست مرات في "المائدة"، ومرتين في "الصف"، ومرة واحدة في كل من "الأنعام" و"مريم" و"الأحزاب" و"الشورى" و"الزخرف" و"الحج". أما اسم مريم فقد ذكر في القرآن أربعًا وثلاثين مرة، كما ذكر المسيح إحدى عشرة مرة، وذكر عيسى بأنه ابن مريم ست عشرة مرة، كما ذكر بأنه المسيح عيسى ابن مريم أربع مرات، وأنه المسيح ابن مريم أربع مرات، وأنه المسيح مرتين، وذكر الله قول النصارى في عيسى بأنه المسيح ابن الله مرة واحدة. بهذا الجمع لكلمة عيسى ومريم والمسيح، نستطيع أن نصل إلى حقيقة عيسى، وكيف خلقه الله، وما كان من ضلال في الاعتقاد بأنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، وقد أثبت القرآن بطلان ذلك، وبين أن عيسى عبده ورسوله، وأن الله حين خلقه بدون أب، فإنما كان ذلك ليبين أنه خالق الأسباب، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، وأن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. وليس من موضوعنا مناقشة النصارى في عقائدهم، فهذا موضوع أشبعه العلماء بحثًا، وألفوا فيه الكتب والرسائل، لكن موضوعنا عرض بعض النماذج من

دعوة عيسى، لنرى كيف دعا هذا النبي لدين الله، فيتعلم الدعاة فن الدعوة إلى الله، وقد ذكر الله عيسى في "البقرة" كما قلنا ثلاث مرات، وفيها أن الله آتاه البينات وأيده بروح القدس، كما ذكر أنه في جملة الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم، وبما أوحاه الله إليهم، وأن على المؤمنين من أصحاب محمد أن يقولوا ذلك لأهل الكتاب. وفي "آل عمران" يأتي الحديث عن مريم واصطفاء الله لها، وما كان من بشارة الله لها بعيسى، وما حملته هذه البشارة من صفات عالية لوليدها، وأنه سيكون وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلًا ومن الصالحين، وأن الله سيعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وسيكون رسولًا إلى بني إسرائيل، فما أعظمها من بشارات!. ولما ذكر الله أن عيسى سيكون رسولًا لبني إسرائيل، قدم لنا نموذجًا من دعوته، وانتقل الحديث من بيان صفات عيسى إلى ما سيقوله عيسى لبني إسرائيل، فقد بدأ دعوته بإعلان أنه رسول الله إليهم، كما ذكر الله ذلك في سورة "الصف" فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6). وقد يحتاج الرسول لمعجزة تثبت لقومه أنه رسول من الله إليهم، وإنما أقول: قد يحتاج الرسول لذلك؛ لأن كثيرًا من الرسل الذين ذكرهم الله، لم يذكر أنهم أتوا بمعجزات، فقد ذكر الله آدم ونوحًا وهودًا وشعيبًا وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب ويوسف، وزكريا ويحيى وإلياس واليسع ويونس ولوطًا، ولم يذكر أن واحدًا منهم كانت له معجزة. والطوفان الذي أهلك الله به من أهلك لا يقال بأنه معجزة، كما أن ما كان من عطاء الله لداود وابنه سليمان لا يدخل في المعجزات، لكن ما كان من أمر

بني إسرائيل حين أرسل الله إليهم عيسى، كان في حاجة إلى أن يتسلح عيسى بمعجزات، تثبت صدقه فيما يبلغ عن ربه، مما كان في بني إسرائيل من غلظة وشدة وحب للدنيا أعماهم عن كل فضيلة، وجعلهم يتنكرون لأنبيائهم بل ويقتلونهم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة: 61). وكما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87). وكما قال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 155 - 158). ولهذا أجرى الله على يد عيسى الكثير من المعجزات، ومنها ما ذكره الله في "آل عمران" و"المائدة"، قال تعالى في "آل عمران": {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (آل عمران: 49، 50). وقال في "المائدة": {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (المائدة: 110). ومع هذه الآيات البينات عاندوه وكذبوه وطاردوه، ودبروا لقتله ونفذوا ما دبروه، ولكن الله حفظ رسوله ونجاه منهم، وألقى شبهه على من دل القوم عليه فقتلوه، واعتقدوا أنهم قتلوا عيسى -عليه السلام- وما علموا أن الله رفعه إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. دعوة عيسى -عليه السلام-: أول ما يدعو إليه كل رسول العبودية لله، والعبودية لله قائمة على الاعتقاد في أنه إله واحد لا شريك له، متصف بصفات الكمال والجمال. يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). وهكذا قال عيسى لقومه، وبدأ دعوته فأثبت لهم أنه رسول من ربه، وقدم بين يدي دعواه العديد من المعجزات كما ذكرنا، وذكر لهم أنه جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ولكنه جاء بالتيسير عليهم، فقال: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50). إنه يستثير حبهم للتيسير بعد أن كلفهم الله بالتكاليف التي تحتاج إلى العزيمة القوية؛ لما جبلوا عليه من التفلت وعدم التزام أحكام الله، فحين يأتيهم رسول معه كل هذه الدلائل والبراهين، أنه صادق فيما أخبرهم به عن ربه، وذكر لهم أنه جاء يخفف عنهم بعض الذي حرمه الله عليهم، وأنه جاء بالدليل الناصع

والبرهان القاطع على صدق قوله، كان عليهم أن يستجيبوا لما ينصحهم به ويدعوهم إليه {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (آل عمران: 50). فتأمل دقة دعوة هذا النبي الكريم، وهو يذكِّر قومه بما جاءهم به من البينات، ويخبرهم بأن ما جاء به من المعجزات آية، وأي آية! والتنكير في قوله "آية" يفيد التعظيم وقد قالها مرتين، هنا وفي الآية السابقة، ولكنه هنا أضاف دليلًا آخر لا ينكرونه، وهو أن هذه الآية العظيمة منشؤها ومصدرها الله -سبحانه وتعالى، وهل يماري أحد منهم في ربوبية الله. هل ينكر أحد منهم أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؟ وهم لا يستطيعون أن ينسبوا شيئًا من ذلك لبشر أو لحجر؛ لأنهم يرون أن البشر أو الحجر أعجز من أن يفعل ذلك، ولهذا انتقل إلى ما يترتب على ما يسلمون به من ربوبية الله، إلى وجوب التوجه له وحده بالعبادة، وأن يطيعوا الرسول فيما دعاهم إليهم فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (آل عمران: 50). ثم أخذ بأيديهم في رفق وسلك بهم طريق النجاة، وهو يعرفهم بأن الله الذي يدعوهم إلى توحيده في ألوهيته، هو ربه وربهم، وعليهم أن يعبدوه وحده، وتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، هو الطريق السوي السهل المعتدل، الذي يؤدي إلى النجاة والسعادة من أقرب طريق، ولهذا قال لهم: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (آل عمران: 51). فأشار باسم الإشارة "هذا"، وهو اسم إشارة يشار به إلى القريب، والقرب هنا قرب منزلة ومكانة، وهذا يعني أن الصراط المستقيم قريب من العقل والوجدان؛ لأنه متساوق مع الفطرة، وقد قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) ولهذا بكت الله المجرمين يوم القيامة

فقال لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس: 60 - 62). وقد أشار عيسى -عليه السلام- إلى الصراط، فأتى به نكرة، والتنكير يفيد التعظيم، ووصف الصراط بالاستقامة، فدل على أنه مُوصِّل للهدف من أقرب طريق، ومع وضوح هذه الدعوة أحس منهم الكفر، فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (الصف: 14) وهي طريقة في الدعوة لا بد منها، يرسمها الأنبياء لنصرة دين الله. قال أصحابه الخُلَّص وأهل مودته وإن قل عددهم، وقد سماهم عيسى وذكرهم القرآن بأنهم الحواريون. قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 52، 53). إذا كان هذا نموذجًا من دعوة عيسى، فهناك الكثير من النماذج في القرآن الكريم، ولنكتف منها بنموذج آخر، هو ما نراه في سورة "الصف" في قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6). فهو يبدأ دعوته بتذكيرهم، وهو يناديهم بأنهم بنو إسرائيل، وإسرائيل نبي الله يعقوب -عبد الله ومصطفاه- ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وبهذا النداء يستجيش فيهم عناصر النخوة والكرامة؛ ليحافظوا على ميراث النبوة، الذي جعله الله فيهم منذ عهد إبراهيم -عليه السلام- يناديهم ليخبرهم أنه رسول الله، فهو حين يبلغ إنما يبلغ عن الله، وطاعته إذًا طاعة لله، ومعصيته معصية لله، وأمر آخر هو أن الله إذ أرسله؛ أرسله لما فيه خيرهم، ولهذا قال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 6). وهل هناك خير أعظم من معرفة الله ربًّا معبودًا

وإلهًا مقصودًا، وما يأتي به الرسول من شريعة غراء، تنكشف بها الظلمات ويحيا الناس في ظلها آمنين مطمئنين، وترغيبًا لهم في اتباعه ذكر لهم أنه لم يأتِ مكذبًا للتوراة، هادمًا لما جاءت به، لكنه جاء مصدقًا لها فيما دعت إليه من توحيد، وما جاءت به من أحكام ثابتة، وإن كان قد أضاف إليها أو عدل في بعض أحكامها بوحي من الله، بعض ما يتناسب مع عصره، ولذلك لما ذكر في "المائدة" أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، قال في عيسى والإنجيل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (المائدة: 46). ثم قال في القرآن: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (المائدة: 48) ثم بشرهم بنبي آخر الزمان الذي سيختم الله به الرسالات فقال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6). فساق لهم بشارة عظيمة، وأخبرهم أن هذا الرسول المبشر به رسول عظيم، وأن اسمه أحمد، ولرسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- عدة أسماء منها أنه أحمد، أي: أحمد الحامدين، وذلك لتتناقل الأجيال من بعد عيسى هذه البشارة، حتى إذا ما أذن الله ببعثته، كان عليهم أن يؤمنوا به، وفي الإيمان به عزة ونجاة. وقد ذكر الله في كتابه أن كل رسول أرسله الله أوصى أمته أن تؤمن بالنبي الخاتم وأن تنصره؛ إعلاءً للحق وتأييدًا لدين الله، قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ

دعوة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 81، 82). ولهذا يجد اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ما أوحاه الله لموسى وعيسى، مِن بيان لصفات هذا النبي، ومن دعوتهم للإيمان به ونصرته. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 158) ومع هذه الدلائل الواضحة والدعوة الهادفة، ردوا دعوته، وظنوا أن ما أتى به من المعجزات إنما هو من باب السحر. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6). دعوة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هذا النموذج وما قبله من دعوة عيسى -عليه السلام- وكم في دعوة عيسى من النماذج، وكل نموذج منها فيه الكثير من الدروس النافعة والعظات البالغة، فإننا فيما تبقى لنا من الوقت نريد أن ننتقل للنبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- لنلتقط من دعوته بعض الجواهر الغالية، والنماذج المضيئة، ودعوته -صلى الله عليه وسلم- مليئة بهذه النماذج؛ لما امتازت به من الخصائص، فهي دعوة عالمية، فقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، وأرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، وهي كلمة الله الأخيرة للعالمين، فلا نبي بعد محمد ولا كتاب بعد القرآن العظيم. ولعلنا لو تأملنا في كتاب الله لنأخذ بعض النماذج، التي توضح طريقة رسول الله في دعوته؛ لوجدنا القرآن نفسه في طريقة إنزاله، وما له من الخصائص، خير نموذج

لذلك، فالمعجزات التي أجراها الله على يد الأنبياء السابقين كانت لإثبات رسالتهم، ورسالة كل نبي غير معجزته، أما معجزة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فكانت عين رسالته. كان القرآن الكريم هو المعجزة التي تحدى الله بها العرب الفصحاء؛ إذ طلب منهم متحديًا أن يأتوا بمثله فعجزوا، فطالبهم بعشر سور من مثله فعجزوا، فطالبهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة فيه فلم يفعلوا، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24) فانظر إلى هذا المنهج في الدعوة وأنت تتأمل هذا التحدي بمراحله، إلى أن أفحمهم فلم يجدوا إلا اللجاج والعناد. كما أن طريقة إنزال هذا القرآن، كانت أيضًا منهجًا عظيمًا في الدعوة، إذ لم ينزل هذا القرآن كالكتب السابقة دفعة واحدة، إنما نزل منجمًا في ثلاث وعشرين سنة، يتعهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به بألوان من التربية والتوجيه والتثبيت والتطمين، وقد ذكر الأئمة وجوهًا كثيرة في حكمة نزول القرآن منجمًا، ومن هذا ما ذكره صاحب (مناهل العرفان في علوم القرآن) الذي أجاد وأفاد، ومن هذا يتعلم الدعاة كيف يأخذون الناس في رفق إلى الالتزام بهذا الدين، ولا يعني هذا أن ينتقل الداعية على طريقة نزول القرآن منجمًا، فيبدأ بالقول بأن الخمر حلال ثم يحرمها وقت الصلاة، ثم يحرمها تحريمًا عامًّا شاملًا كما فعل القرآن. إنما يسوق ألوانًا من الترهيب والتخويف من شربها، والمتاجرة فيها وحملها وصناعتها، ويذكر جملة مما أعد الله للمتقين من ألوان الشراب في جنته، ويرغب في العمل الصالح، ويدعو إلى التمسك والاعتصام بحبل الله، ففي ذلك النجاة.

وهكذا فإذا ما تأملنا في القرآن نفسه، لنرى ما فيه من مناهج الدعوة، فسوف نراه سلك مسلكًا نورانيًّا ربانيًّا إلهيًّا في كل جانب دعا إليه، والقرآن كله يترجم دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به لم يؤمن لأنه عجز عن معارضته في مقام التحدي، وإنما آمن به لما فيه من دعوة تقنع العقل والوجدان، وتأخذ بيد الإنسان إلى اطمئنان القلب وسعادة الروح، وحسن الصلة بالله والتراحم بين الناس. فيرى أن هذا الذي جاء القرآن يدعو إليه واحة وارفة الظلال، تهدأ فيها الإنسانية بعد أن لفحها هجير الحياة، فتجد في ظلالها أمنها واستقرارها وسعادتها وخيرها، وتفصيل ذلك لا تحيط به العبارات ولا يتسع له الوقت، ولكن حسبنا أن نعرض بعضًا من ذلك، ونرى كيف دفع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القلوب فانشرحت لها واستقبلتها في شوق وحنين، ولم يبق معرضًا عنها إلا من أعمى الله قلوبهم عن الحق، فهم كما قال الله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171). ولنأخذ مثلًا من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الألوهية، والقرآن -وبخاصة في الفترة المكية- بدأ بتقرير ثلاث قضايا، ليقيم عليها ما أراد من بناء، هذه القضايا هي: التوحيد، والرسالة، والبعث، ولإثبات ذلك قدم كثيرًا من الأدلة، التي حاصرت العقول، ولم تُبقِ حجة يحتج بها مكابر ومعاند. ففي مقام إثبات الوحدانية تراه يلقي جملة من الأسئلة، التي يسلِّم بها المشركون، ليأخذ منها دليلًا بل أدلة قوية على أنه الجدير بأن يفرد بالألوهية، وأن تدين له الإنسانية بالطاعة والعبودية، لا تعبد إلهًا معه أو سواه. والمشركون لا ينكرون أن الله هو الرب، الذي ربى الخلائق على موائد كرمه، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي خلقهم وخلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وله من في السموات والأرض وهو رب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، والآيات الدالة على ذلك لا تخفى عليكم.

وفي منهج الدعوة تراه يستفيد من هذا الاعتراف ليقول لهم: ألا يستحق هذا الرب أن يعبد وحده؟! ويلفت أنظارهم إلى استحالة أن يكون مع هذا الإله المتصف بصفات الكمال إله آخر، ويتعجب من حالهم، وهو يذكر لهم ما لا يستطيعون أن ينكروه، حين يذكر لهم ما عليه معبوداتهم من عجز وضعف، وأنها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. يقول جل جلاله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ * َمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 59 - 64). هذا الأسلوب الفذ في إثبات الألوهية لله، يسوق مظاهر الطبيعة، وما يعتريهم من حالات الاضطرار والوقوع في مشكلات الأيام والزمان، وما يكون من دعائهم لربهم مخلصين له الدين، وكلما عرض شيء من ذلك أخذ يتساءل {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ويعقب على ذلك بقوله كما رأيتم في الآيات: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وأخيرًا يتحداهم أن يأتوا ببرهان واحد على صحة ما يعتقدون فيقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فما أعظم هذا البيان.

وهذا نموذج آخر لإثبات وحدانية الله، وأنه كما أنه متفرد بربوبيته وأسمائه وصفاته، هو كذلك متفرد في ألوهيته، مما يستوجب أن يكون هو وحده الإله المعبود والرب المقصود، هذا النموذج نقرؤه في آيات من سورة يونس. يقول المولى -عز وجل-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس: 31 - 36). وهذه الآيات تحتاج إلى الكثير من الوقفات، فهي منهج متكامل في طريقة الدعوة إلى الله، في ست آيات ترى قول الله لرسوله ست مرات {قُلْ} وهذا الأمر يعني أنه مأمور من قبل مولاه، وأن هذا القرآن ليس من عنده، إنما هو كلام من أرسله، وما هو إلا مبلغ عن ربه، كما يعني هذا الأمر قوة الدعوة التي يدعو إليها هذا الرسول، وثقته المطلقة في عدالة قضيته، وارتكازها على الأسس التي لا تميل، فهي دعوة ربانية، مصدرها قيوم السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة. وبعد الأمر الأول تتوالى الأسئلة التي تقررهم، فتسألهم عن من يرزقهم من السماء بالأمطار، ومن الأرض بألوان الثمار، وتسألهم عن من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فتكون

الإجابة الاعتراف بأنه كذلك، فيأمر الله رسوله أن يؤنبهم على هذا الخلل في تفكيرهم وسلوكهم، قائلًا لهم: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ثم يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة وهو يقول: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}. وكم في هذه الكلمات من دعوة للرجوع للحق، لعلك تلمح معي يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأخذ بأيديهم في رفق لتضعها على الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها، ليقول لهم: فذلكم الرب الذي اعترفتم بأنه الرازق المهيمن، القوي القادر، الذي يدبر أمر الخلائق، هو الله الذي رباكم على موائد كرمه، وهو ربكم الحق. ثم يسألهم مخوفًا من عاقبة إنكارهم، وأنه ليس هناك بعد الحق إلا الضلال ويقول لهم: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} إن الطرق كلها مسدودة إلا هذا الطريق، طريق الحق، فأين يذهب هؤلاء! ويختم هذه الجولة بتهديدهم من الحرمان من شرف الإيمان، إن استمروا على عنادهم فيقول: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. ثم يعود ليسير بهم ومعهم جولة أخرى، حين يأمر الله رسوله أن يسألهم سؤال تقرير وتوبيخ قائلًا: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وهم يقرون أن شركاءهم ضعاف لا يقدرون على ذلك، ويوالي القرآن أسئلته موبخًا لهم وهو يقول: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}. فانظر إلى قوله: {فَمَا لَكُمْ} وهذا السؤال:

{كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وما في ذلك من تجهيل لهم، وبيان لحكمهم المخالف للفكر السليم والرأي الرشيد، وهكذا يحكم الله على عقائدهم بأنها لا تقوم على دليل، وما هي إلا ظنون وأوهام، والظنون والأوهام لا تصلح في مجال المقارنة بالحق، وعليهم أن يدركوا أن الله عليم بما يفعلون، وسوف يحاسبهم على ذلك حسابًا عسيرًا، فهل يدرك ذلك الكافرون. وآيات القرآن في مثل ذلك كثيرة، ومنهج القرآن الذي رأيناه في إثبات العقيدة، هو ما نراه في إثبات البعث وإثبات الرسالة، بل هذا هو منهجه في دعوته لمكارم الأخلاق، والالتزام بما شرع الله، وكل جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى لقاءات وكتابات ومحاضرات. وهذه آيات في إثبات البعث، تقرؤها من سورة "ق"؛ حيث يقول ربنا: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق: 1 - 6) إلى أن يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: 10، 11). فترى أنه -سبحانه وتعالى- يسوق كلام المشركين وتعجبهم في موقف الإنكار، حين يقولون: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} فظنوا أن هذا من الأمور التي لا يصدقها عقل، ولكن الله القوي القادر القاهر قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} فكل ذرة من ذرات هذا الجسد، ذهبت في ذرات التراب، الله -سبحانه وتعالى- يعلمها، وسوف يجمعها ليعيد بناء الإنسان من جديد ليحشر وليحاسب.

ولفت أنظارهم إلى قدرة الله في هذا الوجود، هؤلاء الذين لم يتأملوا فيما فوقهم من السماء، وكيف بناها الله وكيف زينها بقدرته وما لها من فروج، ولم يتأملوا في الأرض التي يسيرون عليها، وما فيها من جبال راسيات، وما فيها من نبات، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وهذه الأمطار تنزل من السماء ماء مباركًا، فماذا يكون من آثارها، ألا ترون أن الله كما قال: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (ق: 9 - 11). والذي قدر على ذلك قادر على بعث خلقه، فهل يعقل ذلك هؤلاء الكافرون الجاحدون؟! إنها مناهج في الدعوة، يتعلمها الدعاة ليصلوا إلى إقناع العقول والقلوب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1