التفسير الموضوعي 1 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 التوحيد (1).

الدرس: 1 التوحيد (1). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (التوحيد (1)) الوحدانية والتوحيد الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أقسام التوحيد: أ- التفريق بين الوحدانية والتوحيد من حيث اللغة: يقال في اللغة: وَحِد بكسر الحاء، ووَحُد بضم الحاء، أي: صار منفردًا، إذ أصل الوحدة الانفراد، أو كما يقول الراغب -رحمه الله: هي الشيء الذي لا جزء له ألبتة. انظر (المفردات) للراغب الأصفهاني مادة وَحَد ص 514. ويُقال: وَحَّده توحيدًا، أي: جعله واحدًا أو عَدَّه واحدًا. والواحد: مشترك لفظي يطلق على الله تعالى، مع ملاحظة الفارق بين الوَحدة في الحالين، فالوَحدة في جانب الخلق جميعًا عارضة تقبل التحول، بل قد تكون ادّعائية، كقولهم: فلان واحد دهره، أو نسيج وحده. أما الوَحدة في جانب الخالق جل شأنه فهي أصلية غير عارضة ولا مُدَّعاة، وهي حقيقة يقينية لا تقبل التحول والانتقال، وقد أحسن الراغب -رحمه الله- حين قال بعد أن بيّن استعمالات لفظ الواحد قال: "والوَحدة في كلها عارضة، وإذا وُصف الله بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزّي ولا التكثّر". انظر المرجع السابق ص 515. ولفظ أحد مشترك لفظي كذلك، لكنه إذا وقع وصفًا فلا يكون إلا لله تعالى؛ لأنه أكمل من الواحد كما قال أبو حاتم. انظر (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي: النوع الأربعون: في معرفة الأدوات التي يحتاج إليها المفسر جزء 1 ص 146.

وأَحَد: أرقى دلالة على معنى الوَحدة، أما الفرق بين الوحدانية والتوحيد فهو أن الوحدانية صفة ذاتية لله، والتوحيد إيمان المكلف واعتقاده أن الله متصف بذلك. ولذلك يقول صاحب (القاموس المحيط): "التوحيد: الإيمان بالله وحده، والله الأوحد والمتوحد: ذو الوحدانية". انظر (القاموس المحيط) باب الدال فصل الواو. الوحدانية: مصدر بمعنى الوَحدة، زيدت عليه ألف ونون للمبالغة في النسبة إلى الرب والروح والجسم؛ على وجه المبالغة. وجاء لفظ الوحدانية على هذا البناء للدلالة على اتصافه تعالى بالوحدة المطلقة، البالغة غاية الكمال، والثابتة له سبحانه قبل أن يكون الخلق جميعًا، كما قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (الحديد: 3) وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كان الله ولم يكن شيء غيره)) رواه البخاري عن عمران بن حصين في كتاب بدء الخلق من كتاب (الجامع الصحيح) جزء 4 ص 73. أما التوحيد شرعًا: فهو الإيمان الجازم بتفرد الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، ونفي الشركاء عنه سبحانه اعتقادًا وعملًا، على الوجه الذي جاء به الوحي الإلهي، على ألسنة الرسل -عليهم السلام. ويتلخص من هذا أن الوحدانية هي صفة الله، وهي حقيقة قائمة بذاته جل شأنه، سواء اعترف الناس بذلك أم لم يعترفوا، فالوحدانية قائمة بذاته جل شأنه. ب- موقف القرآن من الوحدانية والتوحيد: لقد وقف القرآن موقفًا شاملًا في هذا الباب، وعُني بأمر الوحدانية والتوحيد غاية العناية، وأبرزها في الآيات المكية والمدنية جميعًا، وموقف القرآن في هذا الجانب واسع مستفيض يحتاج إلى مجلدات تفرد له.

جـ- سرّ اهتمام القرآن البالغ بالوحدانية والتوحيد: اهتم القرآن اهتمامًا بالغًا بالوحدانية؛ لأن الوحدانية صفة جامعة من صفات الله، واهتم القرآن بالتوحيد أيضًا لأن التوحيد عقيدة ملزمة، لا يُقبل عمل العبد إلا إذا قام بها على وجهها الشرعي، ولأن التوحيد هو العقيدة التي كثر فيها انحراف البشر، عن حقائق الفطرة التي خُلقوا عليها، وعن حقائق الوحي الإلهي الذي جاء على ألسنة الرسل -عليهم السلام. د- جوامع ألفاظ الوحدانية والتوحيد: لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه القضية الكبرى، بألفاظ شتى، تدور حول تقريرها وتأكيدها بطريق الإثبات. مثل: لفظ الواحد والأحد والرب والإله، أو بطريق نفي أضدادها. مثل: الشرك والشركاء والشفعاء والأنداد، والدعاء والعبادة لغير الله، وغير ذلك كثير. وعلى سبيل المثال فقد ورد لفظ: واحد، وما تفرع منه في القرآن الكريم في ثمانية وستين موضعًا. انظر (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن) مادة وَحَد ص 745. منها ثمان وعشرون مرة وصفًا لله تعالى، وتقريرًا لوحدانيته. مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163). ومثل قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر: 45). وقد ورد لفظ أَحَد في القرآن الكريم خمسًا وثمانين مرة. انظر (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) مادة أَحَد ص 15. ومن العجيب أن لفظة أحد جاءت مرة واحدة وصفًا لله تعالى، وهو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وكأن هذا نوع من التأكيد لوحدانية الله تعالى، من حيث اللفظ والمعنى والعدد جميعًا.

وقد ورد لفظ أحد بصيغ أخرى غير الوصف، تتعلق بالله تعالى بوجهٍ ما. مثل: رد الأحدية إليه عن طريق الاستثناء. قال تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب: 39). ومثل نفي الشركاء مطلقًا قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27). وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر: 41). هـ- الوحدانية أصل الأصول جميعًا: القرآن العظيم يتحدث عن الوحدانية باعتبارها الصفة الإلهية الجامعة لكل صفات الكمال، فهو سبحانه واحد في ذاته، وهو سبحانه واحد في صفاته، فلا يشاركه أحد في علمه، ولا في قدرته أو إرادته أو حكمته، أو أي صفة من صفاته جل شأنه، وهو واحد في أفعاله سبحانه، فلا يشاركه أحد في خلقه ولا رزقه، كما قال تعالى في كلمة جامعة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). هو أيضًا واحد في أسمائه لا يشاركه فيها أحد، والواحد من هذه الأسماء الحسنى، جاء ذلك في حديث أبي هريرة، الذي رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد عُني الوحي الإلهي أبلغ العناية ببيان تقرير كل ما يتعلق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وجعل ذلك رأس الإيمان ولبَّ الاعتقاد خاصة: صفة الوحدانية؛ باعتبارها الصفة الجامعة لكل كمال يليق بالله تعالى. والله تعالى متفرد بالوحدانية المطلقة، وكل شيء في الكون كله سواه مبثوث على نمط الزوجية المكررة ذات الأشياء والنظائر. والقرآن الكريم يتحدث عن التوحيد باعتباره رأس الإيمان، والأصل الذي ينبغي أن يتقرَّر في النفس والقلب قبل كل

التوحيد أساس دعوة جميع الرسل -عليهم السلام-

شيء، ثم في العمل والسلوك؛ لأنه مقياس كل شيء بعده، فلا يقبل عمل بدونه، ولا تقبل شفاعة، ولا تعطى مغفرة لمن أخلَّ به. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48). التوحيد أساس دعوة جميع الرسل -عليهم السلام- لقد قرر القرآن الكريم أن الأساس الذي قامت عليه دعوة الرسل هو: تقرير وحدانية الله تعالى، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد والأبناء والآباء، وصرف وجوه العباد له وحده؛ في العبادة والطاعة، والذكر والدعاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والرجاء، ونحو ذلك من كل ما لا يليق إلا به سبحانه وتعالى. ولقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى وأكده بطريقين: الأول: الطريق الإجمالي: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). فهذا تعميم على سبيل الحصر، بأن كل رسول قد أوحي إليه أن الله تعالى متصف بالوحدانية، لا إله إلا الله، ومستحق للتوحيد، وذلك في قول الله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي: أفردوني بالعبادة لأني متفرد بالألوهية. وقال تعالى في هذا المعنى أيضًا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36). هذه الآية تقرر أن الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولًا، وكان أول دعوة كل رسول في كل أمة: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به الطواغيت، والطواغيت: كل ما يعبد من دون الله تعالى، وهو مشتق من الطغيان. هذا طريق من طرق القرآن في الاستدلال على التوحيد.

الثاني: الطريق التفصيلي في استدلال القرآن على توحيد الله سبحانه وتعالى: هذا الطريق يذكر فيه القرآن الرسل بأسمائهم، وكيف كان التوحيد رأس دعوتهم جميعًا؛ ومن ذلك: 1 - ما جاء في قصة نوح -عليه السلام- وهو أول رسول من أولي العزم بُعث إلى أهل الأرض. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59). 2 - قال تعالى عن هود -عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65). 3 - ونفس الألفاظ قال تعالى عن صالح -عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73). 4 - وهي الألفاظ التي جاءت على لسان شعيب -عليه السلام. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85). 5 - أما إبراهيم -عليه السلام- فقد تحدَّث القرآن بتفصيل وافر عن دعوته إلى النبوة، وتحدث القرآن عن دعوة إبراهيم بشتى الصيغ والأساليب، في المواقف المتعددة والأحوال المختلفة، ولعل السر في توسيع حديث القرآن عن إبراهيم -عليه السلام- أنه أبو الأنبياء الذين جاءوا بعده -صلى الله عليه وسلم- وعلى الرسل أجمعين. وكان اليهود والنصارى والعرب يعترفون بنبوته وأبوته لهم، بل ويعتزون بالانتساب إلى إبراهيم -عليه السلام، ومن هنا توسع القرآن في الحديث عن إسلامه ودعوته البليغة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعن محاوراته المفحمة للمشركين، وموقفه العملي الصارم من الأصنام، سخرية منها، وتحطيمًا لها، وتبكيتًا لعُبَّادها.

وبذلك تقوم الحجة على المنتسبين إليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين انحرفوا عن دين الحق، ووقفوا في دروب من الوثنية الطامسة الدامسة، وبذلك تسقط دعواهم أنهم على دين إبراهيم، كما قال تعالى ردًّا عليهم مجتمعين: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67). ويقول تعالى عنه وعن المؤمنين معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4). وكذلك يقول القرآن عن موسى -عليه السلام- وهو يدعو إلى وحدانية الله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 13، 14). وكذلك يخبر القرآن عن عيسى -عليه السلام: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72). ويخبر القرآن عن دعوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى التوحيد. لقد بُعث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة العالمية الشاملة، وبالتقرير الأوفى، وبالبيان الأعلى في شأن الدين كله عامة، والتوحيد منه خاصة. وقد أمده القرآن الكريم بأتمّ الحجج والبراهين، وسجل أقاويل الكفار وردود الوحي عليها؛ حتى تكون حجة الله بالغة باهرة إلى يوم الدين، وحتى لا تكون للناس على الله حجة بعد ختم النبوة؛ لأن القرآن صوتها الممدود ونداؤها الموصول، وفيه أكمل حديث عن التوحيد تقريرًا وإثباتًا، وردًّا على المشركين والملحدين، وإبطالًا للشرك وكل دروب الوثنية والانحراف عن التوحيد. ويكفي مثالًا لهذا ما أمره الله تعالى أن يقول للناس في كلمات جامعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: 1 - 4).

الربوبية والألوهية وصلتهما بالتوحيد

فهذه السورة الكريمة على وجازتها جامعة لكل ما يليق بالله تعالى وحده؛ من صفات الكمال: أحدية، استغناء، تنزيه له عن الشركاء والأشباه، ثم هي مصححة لضلالات المشركين وأهل الكتاب في باب الاعتقاد. إن الآية الأولى تثبت الوحدانية لله تعالى على أبلغ الوجوه؛ لأن لفظ أحد أكمل من الواحد، ولذلك لا يوصف به إلا الله تعالى. والآية الثانية بيان لأسباب أحديته؛ إذ إنه هو وحده السيد الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وهو المقصود في جميع الحوائج، وهو الغني عن كل شيء، بل كل شيء محتاج إليه. والآيتان الثالثة والرابعة تقرير لهذه الأسباب أيضًا؛ لأنه سبحانه متفرد عن الأصول والفروع، وما يلزمها من الصاحبة أُمًّا أو زوجة، وكذلك هو متفرد عن الشبيه والمماثل، وإن لم يكن أصلًا أو فرعًا. انظر تفسير سورة الإخلاص في تفسير البيضاوي والخازن وأبي السعود. الربوبية والألوهية وصلتهما بالتوحيد لقد تحدث القرآن الكريم طويلًا عن الربوبية والألوهية، وأبطل كل ادعاء لأحدهما من دون الله، وأثبت أنه لا رب ولا إله بحق إلا الله، وأوجب سبحانه على عباده أن يفردوه بهما معًا في التوحيد. والرب شرعًا يطلق على معان، أجمعها: 1 - المربي الذي تعهَّد خلقه بالتنشئة والتربية وقضاء الحاجات على معنى أنه هو المتصف بكل صفات التأثير، مِن خلق، رزق، مُلك، إحياء، إماتة، تدبير، هداية ... إلى آخره. 2 - من معاني الربوبية: السيد المطاع النافذ الحكم.

أما الإله فيطلق على معانٍ، أجمعها: 1 - المعبود الذي يستحقّ وحده أقصى غايات التذلل والخضوع، مِن صلاة، ذكر، حب، خوف، توكل، دعاء، نذر، وقسم به سبحانه وتعالى ... إلى آخره. 2 - من معاني الإله: المستعلي على عباده، الخليق بالطاعة فيما أمر ونهى. وصف الألوهية: وصف الألوهية والربوبية لله وصفان لا يفترقان، ومن هنا يتضح التلازم التام بين الربوبية والألوهية، وأنهما لا ينفصلان من حيث الحقيقة الشرعية، ومن حيث الوجود الواقعي؛ لما يأتي: أولًا: لأنهما وصفان لذات واحدة، لا يوجدان في غيرهما، ولا يجتمعان في سواها، ولا يتحققان بمعناهما الصحيح إلا لله الواحد الأحد. ثانيًا: لأنهما يجتمعان في معنًى مشترك بينهما، وهو المعنى رقم 2 من كل منهما، وإن اختص كل منهما بمعنى خاص به، كما رأينا في المعنى رقم 1. الوحدانية والتوحيد، مجموع الأمرين: مجموع الألوهية والربوبية، ومن هنا يتضح أيضًا أن الوحدانية تعني اتصاف الله تعالى بالربوبية والألوهية جميعًا، والتوحيد يعني وجوب إفراده سبحانه وتعالى بالأمرين جميعًا، فلا يقال: توحيد الربوبية هو كذا، ولا يقال: توحيد الألوهية هو كذا؛ لأن التوحيد لا يقبل التجزئة أصلًا، حتى يقوم به أحد الجزأين مقام الآخر في الإطلاق. لذلك لا يصح أن يقال: التوحيد المضاف لأحد الوصفين يقوم مقام الحقيقة الجامعة، ولا يصح أن يقال: هذا من باب المجاز؛ لأن المجاز لا يصار إليه في حقائق الاعتقاد. أما من حيث الحقيقة الشرعية فالتوحيد: هو أن يؤمن العبد بأن الله تعالى هو

وحده الرب، صاحب كل صفات التأثير والكمال، وأنه لذلك هو وحده الإله المستحقّ للعبادة والطاعة بلا شريك، فإذا أقر العبد بأحدهما فقط لم يكن موحدًا، وإنما يقال: هو مقر أو معترف بأحدهما، ولكن لا يصح أن يسمى موحدًا؛ لأن التوحيد هو مجموع الأمرين معًا. ولهذا لم يُطلق القرآن على الكفار أنهم موحدون توحيد الربوبية، حين أقروا أن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق، وإنما سماهم كفارًا مشركين. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يونس: 31). ثم يقول تعالى بعد هذه الآية: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يونس: 33، 34). لقد سماهم القرآن كفارًا مشركين؛ لأنهم لم يأتوا بحقيقة التوحيد الجامعة، وإنما أقروا بوصف منها، والتوحيد لا يقبل التجزئة أصلًا، فمن أشرك في وصف فقد أشرك في الكل؛ لأنه لم يأت بحقيقة مسمى التوحيد الشرعي الجامعة، ولذلك يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48). وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 2 التوحيد (2).

الدرس: 2 التوحيد (2).

أوجه استعمال الربوبية والألوهية في القرآن، وشمولية عقيدة التوحيد

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (التوحيد (2)) (أوجه استعمال الربوبية والألوهية في القرآن، وشمولية عقيدة التوحيد) الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: استعمالات الوصفين: الربوبية والألوهية في القرآن الكريم. أ- القرآن الكريم يورد هذين الوصفين على أربعة وجوه: الوجه الأول: استعمال اللفظ في معناه الخاص به فقط. مثال الربوبية قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) فالخلق من أخص معاني الربوبية، لذلك وقع صلة للموصول الذي وُصف به الربّ تحديدًا للمعنى المراد بالرب هنا. مثال الألوهية قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 14) فالإله هنا بمعنى المعبود، والمعنى: لا معبود بحق سواي، فخصني أيها العبد بالعبادة. الوجه الثاني: استعمال كل لفظ منهما في معناه الخاص به مع جمعهما في مكان واحد. قال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30) أي: هو ربي خالقي ومالكي ورازقي ... إلى آخره. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: هو المعبود الذي لا معبود سواه. فكل لفظ أفاد معناه الخاص به، وجمع بينهما لبيان حقيقة التوحيد الجامعة للمعنيين جميعًا، لذلك جاءت آيات أخرى تبين المعنى المقصود عقب كل لفظ منهما. مثل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (غافر: 62) فالخلق متصل بمعنى الرب، واستنكار الانصراف عن عبادته متصل بمعنى الإله الحق. وقد جاء المعنيان صراحة في قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) إذ الخلق عائد إلى معنى الرب، والأمر بالعبادة عائد إلى معنى الإله، على الترتيب الواقع في صدر الآية الكريمة.

الوجه الثالث: استعمال اللفظين في المعنى المشترك بينهما هو السيد المطاع. ومثال ذلك: 1 - قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) وهو من النوع المعروف في البديع باللف والنشر المرتب. فسياق الآيات يدل على أن المراد بالرب هنا السيد المطاع في أمره ونهيه، المفهوم من قوله تعالى قبلها: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (الأنعام: 161). مثال آخر قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (التوبة: 31) وربوبية الأحبار والرهبان هنا بمعنى طاعتهم طاعة مقدسة في أمور الحلال والحرام، ومعنى عبادة الإله الواحد في قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي: ليطيعوا سيدًا واحدًا لهم؛ لأن المقام عن الطاعة في التشريع. كما جاء في حديث عدي بن حاتم أنه دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ هذه الآية، وكان عدي قد تنصَّر في الجاهلية فقال: ((إنهم لم يعبدوهم))، أي: ظن عدي أن العبادة المذكورة في هذه الآية هي العبادة المخصوصة لهم كالصلاة لهم أو دعائهم، فبيّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- نوع العبادة المقصودة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)) رواه الترمذي والطبراني وغيرهما. الوجه الرابع: استعمال كل لفظ مكان الآخر، أي: هناك تلازم بين الربوبية والألوهية، فإذا ذُكر أحدهما دل على الآخر، باعتبارهما وصفين متفردين لذات

واحدة، ولا يليق أحدهما إلا بالله، فإذا ذُكر الرب فُهم منه أنه المستحق للعبادة والطاعة وحده، وإذا ذكر الإله فُهم منه أنه الخالق الرازق المالك؛ لأنه لا يكون إلهًا حقًّا إلا بهذه الصفات. ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 60) فالسؤال في أول الآية وقع عن أشياء تتصل بالخلق والرزق والقدرة والتدبير، وغيرها من صفات التأثير التي هي معنى لفظ الرب، فكان المقام يقتضي سؤالهم في آخر الآية عن ذلك، فيقال: أَرَبّ مع الله؟ لكن وقع السؤال بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} لأن اللفظين متلازمان، لا فرق بينهما من حيث الواقع. وإن كان استعمال كلمة إله هنا قد جاء لحكمة عظيمة، لأنه سألهم عن محل النزاع مباشرة، والمعنى أربّ يخلق ويرزق مع الله فيستحق التأليه معه. ولما كان الخلق والرزق والتدبير ليس محل نزاع كثير، وإنما النزاع في عبادة غير الله، لذلك عاجلهم باستنكار اتخاذ آلهة مع الله تعالى. والمثال الثاني: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (المائدة: 117) والمقام يقتضي أن يقول: اعبدوا الله إلهي وإلهكم، لكن استعمل كلمة الرب مكان الإله للتلازم التام بين الكلمتين. والحكمة هنا -والله أعلم- أن ذكر الرب فيه تصريح بعلة العبادة، وهو ما يتضمنه لفظ الرب من معاني الخلق والرزق ... إلى آخره، والمعنى: اعبدوا الله الذي خلقكم ورزقكم وتولاكم في سائر أموركم. ب- التوحيد عقيدة شاملة: إن التوحيد الذي أمرنا الله تعالى به إنما هو عقيدة شاملة، تستوجب يقين القلب وإسلام الوجه لله تعالى قولًا وعملًا، وإفراده -سبحانه وتعالى- وحده بالعبادة، كالصلاة

والدعاء والنذر والطواف والذكر، والطاعة في شئون الحياة، أي: في تشريعات الحلال والحرام، فالتوحيد ليس كقضية كلامية أو جدلية، وإنما هو التزام شامل بدين الله تعالى في كل نواحي الحياة الإنسانية. لذلك قص الله علينا في القرآن الكريم كيف جعل الرسل جميعًا على رأس دعوتهم: اجتناب الطواغيت، التي تُعبد من دون الله، خاصة في أمر الشرائع والأحكام. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36). ولذلك جعل الرسل جميعًا مدخلهم إلى تغيير حياة أهل الجاهليات هو التوحيد؛ لأن التوحيد يعني ردّ الحكم والتشريع إلى الله تعالى في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، فإذا فعل الناس ذلك سهل تغيير ما هم عليه من فساد وضلال. يقول تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} (هود: 84) فالآية الكريمة ترتب على التوحيد وجوب الالتزام بشريعة الله في التجارة والتصرفات المالية. ويقول صالح -عليه السلام- لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 152) فقد رتب النهي عن طاعة أوامر الزعماء الضالين على تقوى الله، وطاعة الشرع الذي جاءهم به -عليه السلام- من عند الله. ويقول تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام: 151).

أساليب القرآن الكريم في الحديث عن الوحدانية والتوحيد.

فقد جعلت الآية الكريمة التوحيد رأس الأمر فيما بعده من الأوامر والنواهي، فتقرر إذن اختصاص الله تعالى وحده بالطاعة في التشريع، كما اختص بالعبادة وحده، وهذا هو معنى التوحيد في شموله وسعة مدلوله. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- بعد كلام طويل عن سورة البقرة: "الخطوة الأولى: تقرير وحدة الخالق المعبود. الخطوة الثانية: تقرير وحدة الأمر المطاع، وهي ركن من عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن، الذي بيده الخلق والرزق، كذلك مِن أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في سائر تصرفاتك، بل لا تعتقد ألا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي، والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامًا أو حرم حلالًا فقد كفر". انظر (النبأ العظيم) ص 217. أساليب القرآن الكريم في الحديث عن الوحدانية والتوحيد جاءت أساليب القرآن في هذا الباب على غاية التفنن والإبداع، تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ومن ذلك: أولًا: أسلوب الخبر المجرد بيانًا للحق وإعلامًا للخلق، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) وكما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163). ثانيًا: أسلوب الخبر المؤكد، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها: أولًا: التأكيد بإن. ثانيًا: التأكيد باللام.

ثالثًا: التأكيد بالقسم. ومثالها جميعًا قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * التَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصافات: 1 - 5). رابعًا: التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء في قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وأسلوب القصر بإنما: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19). وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير. مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فتقديم المفعول إياك أفاد قصر العبادة على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك. وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (الشورى: 10) فتعريف الخبر ربي أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية مقصورة على الله تعالى. كذلك أيضًا أسلوب الطلب كالاستفهام التقريري أو الإنكاري. قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63). ومن هذا النوع الطلبي فعل الأمر. مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإن نظرت إلى أول الجملة كانت إنشائية طلبية لصدارة فعل الأمر قل، وإن نظرت إلى مضمون الجملة أو مقول القول كانت خبرية، وفي الحالين هي إثبات للوحدانية، وأمر بالتوحيد على أبلغ الوجوه وأوفاها. ولذلك كانت السورة المُصدَّرة بهذه الآية الكريمة تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح. كذلك أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان.

ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 - 43). فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة غير الله، صورهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن أهله شيئًا. وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحد في راحته وسلامته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مملوك يسومه سادته لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مملوك لمالك واحد لطيف لا يشق عليه بكثرة الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب. كذلك استخدم القرآن أيضًا أسلوب المحاورة، وهو الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد، من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر، فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42). فالآيات الكريمة لم تأت على طريق الخبر المجرد، وإنما جاءت على سبيل المناقشة بين طرفين، وهي تورد حوارًا بين إبراهيم -عليه السلام- وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لِم تعبد آلهة صماء عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل.

الاستدلال القرآني على توحيد الله -سبحانه وتعالى-.

كذلك أيضًا أسلوب القصة، وهو أسلوب من أوسع أساليب القرآن في التوحيد وغيره، وقد عُني القرآن بهذا الأسلوب وأكثرَ منه؛ لما في القصة من تأثير في النفوس، وسهولة في الحفظ، وانتشار وذيوع بين الناس. وأوضح مثال لذلك قصة إبراهيم -عليه السلام- مع قومه وأصنامهم وتحطيمه لها، وتقريره للتوحيد من خلال المشاهد المتتابعة، التي جرت بينه وبين قومه، كما قصَّ الله علينا ذلك في عديد من سور القرآن، كالشعراء والصافات والأنبياء، ومنها أنه بعد أن حطم الأصنام سألوه عليه السلام، فسخر منهم وأحالهم إلى الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم يتلاومون. ثم كان ما قصه القرآن الكريم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 65 - 67). وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب وأقواه، ونفي للشرك على أتم وجه وأوفاه، فضلًا عما فيه من تحقير للأصنام، وسخرية بالغة بعُبّادها الذين ألغوا عقولهم، وخروا عليها صمًّا وعميانًا. الاستدلال القرآني على توحيد الله -سبحانه وتعالى- أولًا: اهتمام القرآن بإقامة الدليل: والدليل هو ما يُتوصل به إلى معرفة صحة الشيء وصدقه، أو إثبات هذه الصحة بطريق من طرق الإثبات، ولقد جاء القرآن الكريم يقرر مبادئ وتعاليم، ويقيم عليها دلائل صدقها وصحتها، ويحثّ الناس على طلب الدليل وفهم البراهين. وقد استوعب القرآن الكريم الاستدلال على صحة عقيدة الوحدانية، وأنها الحق المبين، وأن كل شريك أو معبود مع الله هو كذب وافتراء، بل كلها أصنام وأوهام لا حق فيها، بل لا حقيقة لها في باب الألوهية.

كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 19 - 23). والمعنى أن هذه التي تسمونها آلهة ليس لها من حقيقة الألوهية أدنى نصيب، وإنما هي أسماء على غير حقائق، كالغول والعنقاء وغيرهما من الأشياء المتوهمة. ولذلك يقول القرآن الكريم متحديًا المشركين: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} (الرعد: 33). والمعنى أن الله تعالى رقيب وعليم بكل شيء، وقد جعل له المشركون شركاء لا حقيقة لهم، وإنما عبدوها بظنون من القول وأوهام من الفكر باطلة. ويقول تعالى منددًا بالمشركين، الذين يعبدون الأوهام المطلقة، تحت هذه الأسماء المخترعة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18). لذلك لم يترك القرآن الكريم دليلًا يصلح لخطاب البشر إلا أورده على أتم الوجوه، حتى لا نقول: إنه لم يسق الدليل على صحة الوحدانية أو وجوب التوحيد فقط، وإنما أوجب على الناس أن يتدبروا هذه الأدلة، وأن يفهموها ويحصلوها ولو إجمالًا، حتى يكونوا على بينة في أعظم حقائق الوجود، وحتى يكون إيمانهم على غاية الاستقرار، ولذلك نَوّع الأدلة في هذا تنويعًا عجيبًا، حتى تُناسب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم وعصورهم.

أنواع الأدلة القرآنية على توحيد الله: النوع الأول: الأدلة الحسية أو الكونية: وهذا النوع الذي يستخدم فيه القرآن الكريم الكائنات؛ للدليل على وجود الله تعالى ووحدانيته، وسعة قدرته وعظيم حكمته، والقرآن الكريم يتخذ كل شيء في الكون دليلًا لذلك، خاصة وجود الكون من العدم، وانتظامه على قوانين مطردة، ونواميس محكمة، وقيامه على غاية التدبير، والتكامل بين أجزائه، والعناية بما فيه من عجائب الأشياء والأحياء. وفي كل هذا يتجه القرآن الكريم إلى الإنسان، مخاطبًا قلبه وفكره، ومطالبًا أن يتأمل بحسه هذه الموجودات؛ لينتقل من ملاحظاتها في أوضاعها المختلفة إلى ما وراءها، وليدرك من هذه المقدمات الحسية البدهية نتائجها القاطعة، فيعلم أن لهذا الكون ربًّا موحدًا وإلهًا واحدًا، مطلق القدرة والإرادة، واسع العلم والحكمة، متفردًا باستحقاق العبادة والطاعة. وبذلك يدور الدليل بين السمع والبصر، والفكر والنظر، والمقدمات البدهية القريبة والنتائج السهلة المسلَّمة. هذا النوع على سهولته ويسره هو أقوى أنواع الأدلة، وأقربها إلى القلوب والنفوس، وأعظمها في التأثير والإقناع؛ لدلالته على المطلوب ذاته ومن أقصر سبيل، بخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين، التي تدل على المطلوب دلالة ناقصة، وتحتاج مقدماتها إلى برهنة واستدلال في الغالب، بل قد تحتاج النتائج نفسها إلى دليل آخر خارج عنها، مما يُعَقِّد الاستدلال لطول مقدماته، وكثرة وسائطه، وصعوبة طرقه على أكثر الناس. وذلك كاستدلالهم بحدوث العالم على أن له محدثًا، ويستدلون على حدوث العالم بتقسيمه إلى جواهر وأعراض، ثم يثبتون حدوث كل منها بمقدمات طويلة، وكل هذا ينتهي إلى أن للعالم محدثًا.

هذه النتيجة ناقصة؛ لأنها لم توصلنا إلى من هو المحدث، وهذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته خارجًا عن نطاق عقولهم، ودروب منطقهم، ولكن القرآن العظيم يطوي هذا الشتات، ويضع الإنسان أمام حقائق الكون مباشرة؛ ليوقن بنفسه أن الذي أبدع هذا الكون ونظمه إله واحد، هو الله رب العالمين، الذي صدَّق المرسلين فيما يبلغوه عنه جل شأنه، ولذلك يحث سبحانه وتعالى عباده على النظر في الكون جملة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الأعراف: 185). وأيضًا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (ق: 6 - 10). الآيات في هذا النوع كثيرة جدًّا، ومن أراد المزيد فليقرأ عجائب الاستدلال القرآني في سورة: الرحمن، والواقعة، والمرسلات، والنبأ، والنازعات، وعبس، والغاشية، والشمس، وغير ذلك في القرآن المجيد. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 3 التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1).

الدرس: 3 التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1).

الأدلة النفسية أو الداخلية على توحيد الله

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1)) الأدلة النفسية أو الداخلية على توحيد الله الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هذه الأدلة النفسية أو الداخلية هي التي تعتمد في انتزاع الدليل على الوحدانية من داخل الإنسان، لا من خارجه، ومن أعماق شعوره الداخلي ووجدانه الباطني، لا من مدركات حواسه المعروفة. وهذا الدليل بالغ الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات حتى يحاط به من خارجه ومن داخله جميعًا، فتمتلئ نفسه يقينًا لا يتسرب إليه ريب ولا قلق، وكم من إنسان امتلأ عقله بالمعارف والأرقام وفنون الإحصاء، وامتلأ عقله بعجائب هذا الكون، ولكنه يمضي متلبّد الإحساس، والسبب في ذلك تعطل وجدانه الداخلي، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46). ومن هنا اهتم القرآن العظيم ببيان هذا الدليل النفسي، وساق الآيات تذكيرًا للناس بهذا الجانب الفذ، الذي أهملوه وعطلوه وطمروه تحت ركام من الشبهات والشهوات، التي رانت على قلوبهم فأظلمتها وأماتتها. يخبرنا الله تعالى أن المشركين الذين يعطلون التوحيد، ويشركون مع الله آلهة أخرى في كل شئون حياتهم، ويجادلون غاية الجدل دفاعًا وحمية عن أوثانهم، يخبرنا الله تعالى أن هؤلاء يحملون في أعماق نفوسهم دليل الوحدانية، ويمضون صمًّا وعميانًا عنه في الرخاء، حتى إذا مستهم شدة جائحة انتفض الدليل في صدورهم حيًّا نابضًا، حين لا تغني الأصنام أو الأوهام عن أصحابه شيئًا، هم في أشد الحاجة إليه، وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67).

يسألهم القرآن سؤال تقرير عن حقيقة يعلمونها وإن كابروا فيها، ثم يكررها لهم زيادة في التقرير والتأكيد، فيقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (الأنعام: 40، 41). وينتزع لهم القرآن من حياتهم صورة واقعة حية، تعتمد على هذا المعنى الذي تتجه فيه النفوس إلى مالك القوى والقدرة، اتجاه شعور وفطرة وخضوع ودعاء، وتنسى ما عداه سبحانه حين تكتنفها الأخطار الماحقة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ماذا بعد ذلك؟ لا أحد أمامهم سوى الله {دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين} (يونس: 22). النوع الثالث الذي استخدمه القرآن في الدلالة على توحيد الله: الأدلة العقلية: وهي الأدلة التي تعتمد على عمليات نظرية وفكرية، كترتيب المقدمات واستخراج نتائجها، حسب ضوابط وقوانين وراء بداهة الحسّ ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجعًا إلى العقل، والأدلة العقلية أوسع مدى من أشكال المنطق اليوناني ودروبه المنتجة، لذلك لم يتقيد القرآن العظيم بهذا النمط الفكري، وإنما جاء على نمط خاص في الاستدلال العقلي، وهو ضرب من إعجازه الذي تفرد به. وقد استخرج العلماء منه أنواعًا كثيرة؛ منها: أولًا: الدليل البدهي: وهو الذي يقوم على استخدام الحقائق المشهورة والبديهات المستقرة، في ابتناء الدليل عليها، فيذعن الخصم للدليل إذعانًا إن كان

منصفًا. ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101). فحيث تقرر الآية أن الولد لا يكون من غير أم، فقد بنى القرآن على هذه الحقيقة المسلَّمة دليل بطلان ما نسبوه إليه من الولد؛ لأنه ليس له صاحبة، فمِن أين يأتي الولد؟! والدليل كما ترى سهل واضح، يشبه الدليل الحسي في كونه يدل على المطلوب مباشرة، ولا يحتاج إلى مقدمات تنظم على وجه مخصوص، ولا بد من دليل على النظري منه، وغير ذلك من التعقيدات التي تصرف الذهن عن المطلوب الأصلي، بكثرة الوسائط، والاشتغال بالمقدمات، والاستدلال عليها، ثم على نتائجها أحيانًا. ثانيًا: دليل التمانع: وهو مأخوذ من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22). وتقرير هذا الدليل أن يُقال: لو كان للعالم صانعان لكان تدبيرهما لا يجري على نظام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما؛ وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، فحينئذٍ إما أن تنفذ إرادتهما معًا، فيتناقض النظام لاجتماع الضدين. وإما ألا تنفذ إرادتهما معًا، فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما، فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا، فبطل ما أدى إليه، وهو افتراض التعدد، وثبت نقيضه وهو الوحدانية. ثالثًا: دليل التسليم: وهو الذي يُسلَّم فيه بوقوع المستحيل جدليًّا، ثم يستدل على عدم فائدة هذا المحال على تقدير وقوعه. ومثاله قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91).

ومعنى الآية الكريمة: ليس معه تعالى من إله، ولو سُلِّم جدلًا أن معه إلهًا لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، واستعلاء بعضهم على بعض؛ فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله، والواقع المشاهد خلاف ذلك، ففرض الإلهين صاعدًا محال؛ لما يلزم عليه من المحال. رابعًا: الشرك ظنون وأوهام: في ختام هذا الاستدلال على صحة التوحيد، يبرز القرآن العظيم وجهًا آخر من وجوه الاستدلال، حين يُطالب المشركين ويتحدَّاهم أن يقيموا دليلًا واحدًا مِن أي نوع، على صحة عقيدتهم، فلا يستطيعون، بل لا يملكون إلا التعلق بالظنون والأوهام، والاحتجاج بفعل آبائهم الذين قال عنهم القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُون} (البقرة: 170). ومن هذا التحدي الشامل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (الأحقاف: 4). أي أن الآلهة التي تعبدونها لم تخلق شيئًا في الكون، وليس عليها دليل من كتب الله المنزلة، ولا بقية من أثر على صاحبها، وإن ادعيتم شيئًا من ذلك فأتوا به إن كنتم صادقين، ولما كانوا عاجزين على إتيان ذلك، بيّن القرآن الكريم حقيقة عقائدهم، وأنها مجرد ظنون فاسدة. قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران: 154). ويقول عن أصنامهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 23).

التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان

التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان - توحيد في الإثبات والمعرفة. - وتوحيد في الطلب والقصد: فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله، وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول الم تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} (الكافرون: 1). وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64). وأول سورة تنزيل الكتاب، وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام. وسور القرآن معظمها متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة من سور القرآن، فإن القرآن إما خَبَر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فَعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، وهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} توحيد {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعم عليهم {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 1 - 7) الذين فارقوا التوحيد. وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (آل عمران: 18، 19). فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أَجَلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، مِن أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به، وعبارات السلف في شَهِدَ تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يُعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه، ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. ثالثها: أن يعلم غيره بها بما يشهد به، ويخبره به، ويبينه له. رابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به. فشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، تضمنت هذه المراتب الأربع؛ علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.

فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدًا بما لا علم له به. قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} (الزُّخرُف: 86). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وعلى مثلها فاشهد" هذا الحديث ضعيف لأنه في إسناده العقيلي، والعقيلي في الضعفاء. وأما مرتبة التكلم والخبر قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} (الزُّخرُف: 19).فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدّوها عند غيرهم. وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معْلم لغيره بأمر، تارة يُعْلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولذلك كان من جعل داره مسجدًا وفتح بابها، وأفردها بطريقها وأَذن للناس بالدخول والصلاة فيها، معْلمًا أنها وقف وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وُجد متقربًا إلى غيره بأنواع المسار يكون معلمًا له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب -عز وجل- وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قال ابن كيسان: "شهد الله بتدبيره العجيب". والمقصود من قوله: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ} المقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله. ويستدل أيضًا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون} (الحشر: 23) وأضعاف ذلك في القرآن.

هذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولًا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض. فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} (العنكبوت: 51). وأكمل الناس توحيدًا الأنبياء -صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولي العزم من الرسل أكملهم توحيدًا؛ وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلى الله عليهم أجمعين. وأكملهم توحيدًا: الخليلان؛ محمد وإبراهيم -صلوات الله عليهما- لأنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما، علمًا ومعرفة وحالًا ودعوة للخلق. أ- كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله: هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال بعده: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} (البقرة: 163) فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني، هَبْ أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}. يقول شارح (العقيدة الطحاوية): "اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله. قال: يكون ذلك نفيًا لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أَولى.

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب؛ فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله: إذا لم يُضمر يكون نفيًا للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تُتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود. وإلا الله: مرفوع بدلًا مِن لا إله، لا يكون خبرًا له ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك. وليس المراد هنا ذكر الإعراض، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم في الوجود ليس تقييدًا؛ لأن العدم ليس بشيء. قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (مريم: 9). ولا يقال: ليس قوله: غيره، كقوله: إلا الله؛ لأن غيرًا تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحد، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا". انظر شرح (العقيدة الطحاوية). ب- توحيد الصفات: إن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كالجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب. وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات.

الإيمان بالقدر

ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة، ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وإنهم إنما عبدوا الله لا غيره، ومن فروعه أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة، ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا على الناس. تعالى الله عما يقولون. الإيمان بالقدر جـ- الإيمان بالقدر: عن أبي هريرة قال: ((كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بارزًا يومًا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34) ثم أدبر، فقال: ردّوه، فلم يروا شيئًا فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)). قال أبو عبد الله: "جَعل ذلك ملة من الإيمان". انظر (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني، كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، جزء 1 ص 141 طبعة دار المنار.

وفي رواية: ((وتؤمن بالقدر خيره وشره وحُلوه ومُره)) ثم زاده تأكيدًا بقوله في الرواية الأخيرة: ((من الله)). د- تعريف القدر: القدر مصدر تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها، أَقدِره بالكسر والفتح، قدَرًا وقدْرًا، إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد. فكل محدَث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة. وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس، عن أبي بريدة، عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. قال: فانطلقت أنا وحميد الحميري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل من لا يؤمن بالقدر عملًا". وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها، وإنما يعلمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: "قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعليق القديم بالمحدث. وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلم كان حجة عليه، يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن مَنع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل. تعالى الله عن ذلك". انظر (فتح الباري) الجزء الأول 146 طبعة دار المنار.

هـ- الله عَلِم أزلًا أهل الجنة وأهل النار: لقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (الأنفال: 75). وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40). فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلًا وأبدًا، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64). وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس رأسه، فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها الجنة والنار، إلا وقد كُتبت شقية أو سعيد. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 5 - 10))). وهذا الحديث في البخاري رقم 1362، ومسلم رقم 2647 وأبو داود 4694. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 4 الإيمان بالقدر (2).

الدرس: 4 الإيمان بالقدر (2).

أصل القدر، والنزاع بين الناس في القدر، وحكم التكذيب به

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الإيمان بالقدر (2)) أصل القدر، والنزاع بين الناس في القدر، وحكم التكذيب به الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد: أ- أصل القدر: أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأمات وأحيى وأضل وهدى. قال علي -رضي الله عنه: "القدر سر الله". فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطلع على ذلك ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة إلى الخذلان ومُسَلِّم للحرمان، وكذلك أيضًا هو سلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر من أنامه ونهاهم عن مراده، كما قال تعالى في كتابه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23). فمن سأل لما فعل فقد رَدَّ حكم الكتاب، ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين. انظر (شرح العقيدة الطحاوية) ص 320 مؤسسة الرسالة. ب- النزاع بين الناس في مسألة القدر: هذا النزاع مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49). وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2). وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ويحبه، فيشاؤه كونًا ولا يرضاه دينًا. وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فَروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذَّبه عليه. ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة

الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل. جـ- التكذيب بالقدر شرك: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن رجلًا قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه، وهو يومئذٍ أعمى فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدفنها؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: وكأني بنساء بني فهد يطفن بالخزرج، تصطك ألياتهنّ مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدّر الخير، كما أَخرجوا من أن يقدر الشر". شرح (أصول اعتقاد أهل السنة) جزء 4 625 وإسناده ضعيف. وهذا يوافق قوله: "القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده". وروى عمر بن الهيثم قال: "خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد. قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما". ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: "يا هؤلاء إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردّها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك. قال: ولِم؟ قال: أخاف كما أراد ألا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تردّ". وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: "أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال

ثم عذبني، أيكون منصفًا؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئًا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء". وأما الأدلة من الكتاب والسنة في أن أفعال العباد لله تعالى فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} (السجدة: 13). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} (يونس: 99). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (التكوير: 29). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الإنسان: 30). وقال تعالى: {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الأنعام: 39). وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125). ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهم الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوبًا مرضيًّا. وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية لله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه. وقد دلَّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والنظرة الصحيحة. أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} (البقرة: 205). وقال تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7). وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء: 38). وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) أخرجه البخاري حديث رقم 1477، ومسلم حديث

رقم 1593. وفي المسند: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) أخرجه أحمد، الجزء الثاني 108 من طريق قتيبة بن سعيد. وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)). فتأمَّل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره. فما أعوذ به أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى من عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضًا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك. فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك، فلا يُعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته. فإن قيل: كيف يُريد الله أمرًا ولا يرضاه ولا يحبه، وكيف يشاؤه ويُكوّنه، وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت طرقهم وأقوالهم.

أنواع المراد من الله -سبحانه وتعالى

أنواع المراد من الله -سبحانه وتعالى المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره قد لا يكون مقصودًا للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده فهو مكروه له، من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، فلا يتنافيان لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءَه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه، بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سببًا إلى هو أحب إليه من فوته. ذلك أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تبارك وتعالى، ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها؛ منها: أنها تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدلّ دليل على كمال قدرته وعزته

وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود من بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته. ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية. مثل: القهار، المنتقم، العدل، الضار، الشديد العقاب، السريع الحساب، ذي البطش الشديد، والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء -لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا بقوله: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم)) صحيح مسلم، حديث رقم 2748، والترمذي حديث رقم 3539، وذلك بلفظ: ((لولا أنكم لا تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون فيغفر لهم)). ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، ويُنزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قَدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عُطلت تلك الأسباب -لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر، الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.

إرادة الله سبحانه في الكون، ومسألة الاحتجاج بالقدر

من هذه الفوائد لخلق إبليس، لو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، مِن الموالاة لله سبحانه والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه، ويعصمه من كيده وأذاه ... إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها. فإن قيل: هل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ هذا سؤال فاسد، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. فإن قيل: إذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد على وجهين: أحدهما: مِن جهة الرب تعالى، وهل يكون محبًا لها من جهة إفضالها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها. والثاني: مِن جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضًا، فهذا سؤال له شأن. إرادة الله سبحانه في الكون، ومسألة الاحتجاج بالقدر كل ما يحدث في الكون فهو بإرادته سبحانه: وهذا ردٌّ لقول القدرية والمعتزلة؛ فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهؤلاء سُمّوا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضًا، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.

أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرًا، فهو لا يُحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبًا أو مستحبًّا، ولو قال: إن أَحب الله حنث إذا كان واجبًا أو مستحبًّا. والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، وهذا كقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125). وقوله تعالى عن نوح -عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (هود: 34). وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} (البقرة: 253). وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (النساء: 26). وقوله تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 27، 28). وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (المائدة: 6). وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33). فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى. فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أَمر به، وقد لا يريد ذلك، وإذا كان مريدًا منه فَعله. وتحقيق هذا مما يبيّن فصل النزاع في أمر الله تعالى هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله -عليهم السلام- بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يَخلق فعله، فأراد سبحانه أن يَخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلًا له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد، أو مفسدة. وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بيّن لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة، من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلًا، فأين جهة الخلق من جهة الأمر. فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه، مريدًا لنصحه ومبينًا لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل؛ إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي

إرادة ما يضادّه، فجهة أمره لغيره نصحًا غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان. والقدرية تضرب مثلًا بمن أمر غيره بأمر، فإنه لا بدّ أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبِشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك. فيقال لهم: هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يُصلح ملكه، وأمر الإنسان شركاءه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك. الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ فأما إذا قُدِّر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير، وقُدِّر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر. مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين} (القصص: 20). فهذا مصلحته في أن يأمر موسى -عليه السلام- بالخروج، لا في أن يُعينه على ذلك؛ إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير. وإذا قيل: إن الله تعالى أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدًا على ما به يصير فاعلًا، وإذا عللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها، فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر.

يعني: فلا يلزم إذا كان في نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي ألا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر ألا يعينه على ذلك، فإنكار ذلك في حق الرب أولى وأحرى. والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى لإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمَن أمره وأعانه على فعل المأمور؛ كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً خُلقًا ومحبة، فكان مرادًا بجهة الخلق ومرادًا بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره، ولم يتعلق به خُلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده، وخَلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر. فإن خلق المرض الذي يحصل به ذلّ العبد لربه ودعاؤه وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرقّ به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يُضادّ خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم مِن جنس ما يحصل بالمرض، يضادّ خَلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يَعدل. وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثَّلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه. احتجاج آدم على موسى -عليه السلام- بالقدر: قال آدم لموسى: "أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أُخلق بأربعين عامًا؟! " وشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن آدم حَجَّ موسى، أي: غلبه بالحجة. هذا الحديث عن أبي هريرة في البخاري حديث رقم 3409، ومسلم حديث رقم 2652.

ماذا يقول أهل السنة في احتجاج آدم بالقدر؟ هذا الحديث تلقاه أهل السنة بالقبول والسمع والطاعة؛ لصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتلقاه أهل السنة بالرّدّ والتكذيب كما فعلت القدرية، ولا أيضًا يتلقاه أهل السنة بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذَّنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يَحتج بالقدر، فإنه باطل. وموسى -عليه السلام- كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم -عليه السلام- على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم -عليه السلام- بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة. فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب لا عند المعايب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدِّر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربًّا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعايب ويصبر على المصائب. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (غافر: 55). وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران: 120). وأما قول إبليس: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: 40) إنما ذُمَّ على احتجاجه بالقدر، لا على اعترافه بالقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح -عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (هود: 34). ولقد أحسن القائل: فما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن وعن وهب بن منبه أنه قال: "نظرت في القدر فتحيَّرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفَّهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه". هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 5 الإيمان بالقدر (3).

الدرس: 5 الإيمان بالقدر (3).

الإضلال والهداية

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الإيمان بالقدر (3)) الإضلال والهداية الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد: فأول ما نتحدث في هذا الدرس نتحدث عن قوله تعالى: {يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} (المدثر: 31). المعتزلة يقولون: الهُدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال تسمية العبد ضالًّا، أو حكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه، وهذا مبني على أصلهم الفاسد أن أفعال العباد مخلوقة لهم!. والدليل على أن الله يهدي مَن يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل مَن يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا، الدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (القصص: 56). ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- لأنه -صلى الله عليه وسلم- بين الطريق لمن أحب وأبغض، والدليل أيضًا قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13) وقوله تعالى: {يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} (المدثر: 31). ولو كان الهدى من الله البيان، وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة، وكذا قوله تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين} (الصافات: 57) وقوله تعالى: {مَن يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الأنعام: 39) الناس جميعًا يتقلبون في مشيئة الله بين فضله وعَدْله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} (التغابن: 2) فَمَن هداه إلى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد. الله -سبحانه وتعالى- لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، فلا يرد قضاء الله راد، ولا يؤخر حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل الله الواحد القهار.

الإيمان بالقدر لا ينافي الاكتساب

الإيمان بالقدر لا ينافي الاكتساب لقد ظنَّ بعضُ الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجةَ إلى الأسباب، وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب ومنه مباح ومنه مكروه ومنه حرام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضلَ المتوكلين يلبس لَأْمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب حتى قال الكافرون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7). ولهذا نجد كثيرًا ممن يرى أن الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة وإما هدية. وأما قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن} (الرحمن: 29) قال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا. قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قومًا ويذل آخرين، ويشفي مريضًا، ويفك عانيًا، ويفرِّج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلق ما يشاء. أما حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه)) فمعناه أن المقدور كائن لا محالة. ولقد أحسن القائل: ما قضى الله كائنًا لا محالة ... والشقي الجهول من لام حاله والقائل الآخر: اقنع بما ترزق يا ذا الفتى ... فليس ينسى ربنا نمله

إن أقبل الدهر فقم قائمًا ... وإن تولى مدبرًا نم له والإنسان ينبغي أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرًا محكمًا مبرمًا ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قَدَّرَ الله مقاديرَ الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشُه على الماء)) فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة، فكان كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يُتصور إيجادها إلا من عالِم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (المُلك: 14). وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالمًا في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلون -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصِموا، وإن أنكروا كفروا. فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطع. وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادرًا على تغيير علم الله؛ لأن الله علم أنه لا يفعل، فإن قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله: قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لَكَان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إِنْ وقَعَ كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا

نعلم علمَ الله إلا بما يظهر، وعلمُ الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم. والعبد الذي لم يفعل لم يأتِ بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع، وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم، قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة مَن يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه، وهو جَمْع بين النقيضين. فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالًا لم يكن مقدورًا: قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالًا لعدم استطاعته له، ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالمًا بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالمًا بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالًا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأِشياء بهذا الاعتبار هي محال. ومما يلزم هؤلاء ألا يبقى أحد قادرًا على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم. فإذن ينبغي على الإنسان أن يؤمن بالقدر، وقد بين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جواب السائل عن الإيمان: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ... )).

وقال -صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) رواه مسلم في باب الإيمان. ولا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقًا غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة. عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القدرية مجوسُ هذه الأمة، إن مَرِضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" أخرجه أبو داود في السنة باب القدر. وروى أبو داود أيضًا عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكل أمة مجوسٌ، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قدرَ، من مات منهم فلا تَشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال" وروى أبو داود أيضًا عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجالسوا أهلَ القدر ولا تفاتحوهم" أخرجه أبو داود. وروى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية" أخرجه الترمذي في القدر، باب ما جاء في القدريين. لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوف منها، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "القدر نظام التوحيد، فَمَن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيدَه". هذا في (شرح السنة)، وكذلك أحمد في (السنة). وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم، وما أظهر من علمه بخطابه وكتابه مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة، وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك

كله مما يدخل في التكذيب بالقدر، وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه، والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع، هو ما قدره الله من مقادير العباد. وعامة ما يؤخذ من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر -رضي الله عنهما- لما قيل له: يزعمون أنه لا قدرَ، وأن الأمر أُنف -أي: مستأنف- قال: "أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برءاء". والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولًا عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم. الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدرًا، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2) فالخلق يتضمن التقدير تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدر، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة خلافًا لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات. الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخبارًا مفصلًا، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علمًا مفصلًا، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعل، محدث له بمشيئته وإرادته ليس لازمًا لذاته.

القدر خيره خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى

الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه. فالإنسان الذي ينكر القدر قلبه سقيم، فالقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، قال تعالى: {أَومَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} (الأنعام: 122) أي: كان ميتًا بالكفر فأحييناه بالإيمان، فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها، ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الذي مات، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "هلك مَن لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر". أخرجه الطبراني في (الكبير). فالقلب المريض بالشهوة فإنه أيضًا في حكم الذي قد مات؛ لأنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، ومرض القلب نوعان: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأردأهما مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته. القدر خيره خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى نأتي بعد ذلك إلى جزئية أخرى إلى أن القدرخيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى: يدل على هذا قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} (التوبة: 51) وقال تعالى: {إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (النساء: 78) وقوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79) الآية.

فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} وبين قوله: {فَمِن نَّفْسِكَ}؟ قيل: قوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} الخصب والجدب، والنصر والهزيمة كلها من عند الله، قوله: {فَمِن نَّفْسِكَ} أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك؛ عقوبةً لك، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) يدل على ذلك ما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قرأ: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} "وأنا كتبتها عليك". والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد، لكن القول الأول الذي هو المراد بالحسنة النعمة، وبالسيئة البلية، هذا القول شامل لمعنى القول الثالث والمعنى الثاني هو الحسنة ما أصابه يوم بدر والسيئة ما أصابه يوم أحد ليس مرادًا دون الأول قطعًا. لكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: {فَمِن نَّفْسِكَ} فإنهم يقولون: إن فعل العبد حسنة كان أو سيئة فهو منه لا من الله، والقرآن قد فرق بينهما، وهم لا يفرقون، ولأنه قال تعالى: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} فجعل الحسناتِ من عند الله، كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، بل في الجزاء، وقوله بعد هذا ما أصابك من حسنة ومن سيئة مثل قوله: وإن تصبهم حسنة وإن تصبهم سيئة.

وفرق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب، فجعل هذه من الله وهذه من نفس الإنسان؛ لأن الحسنة مضافة إلى الله إذ هو أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه، وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير. ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الاستفتاح: ((والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)) أخرجه مسلم. أي فإنك لا تخلق شرًّا محضًا، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق، فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردًا قط، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزُّمَر: 62) وقوله: {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ}. وإما أن يضاف إلى السبب كقوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَق} (الفَلَق: 2) وإما أن يحذف فاعله كقول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (الجن: 10) وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة ما لم يقدر قدره إلا الله، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شرًّا كليًّا عامًّا، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرًا ومصلحة للعباد، كالمطر العام وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذابًا عليه بالمعجزات التي أيد به الصادقين، فإن هذا شر عام للناس يضلهم، فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم، وليس هذا كالملك الظالم والعدو، فإن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر

من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة لإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام. وإذا قدر كثرة ظلمه فذلك خير في الدين كالمصائب تكون كفارةً لذنوبهم ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى الله ويستغفرونه ويتوبون إليه، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو، ولهذا قد يمكن الله كثيرًا من الملوك الظالمين مدةً، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم، بل لا بد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين} (الحاقة: 44 - 46). وفي قوله: {فَمِن نَّفْسِكَ} من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها، لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه، فإن ذلك من السيئات التي أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات أعماله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر، ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّين} (الفاتحة: 6 - 7) فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه قد هداه فلماذا يسأل الهدى، وأن المراد التثبيت أو مزيد الهداية؟ بل العبد محتاج إلى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك، فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريدًا للعمل بما يعلمه وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتديًا.

تقدير آجال الخلائق، وتفسير كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله"

والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرًا على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصله فأمر يفوت الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال سؤال تثبيت، وهي آخر الرتب، وبعد ذلك كله هداية أخرى، وهي الهداية إلى طريق الجنة الآخرة، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه وأن يستغفره العبد من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك توحيده والتوكل عليه، والشكر له وحده، والاستغفار من الذنوب. تقدير آجال الخلائق، وتفسير كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" نأتي بعد ذلك إلى نقطة أخرى وهي: أن الله -سبحانه وتعالى- قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: قال تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} (يونس: 49) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} (آل عمران: 145) وفي (صحيح مسلم) عن عبد الله مسعود قال: ((قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال: فقال

النبي -صلى الله عليه وسلم-: قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، ولن يؤخر شيئًا عن حله، ولو كنتِ سألت اللهَ أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيرًا وأفضلَ)) الحديث في مسلم في القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر. فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بالحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة. وعند المعتزلة المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكان له أجلان، وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلًا يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور. وعلى هذا يخرج قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلة الرحم تزيد في العمر)) أي: هي سبب طول العمر، وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه، فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا كما حدث ذلك عند الحديث في القتل وعدمه. فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا؟ الجواب: أن ذلك غير لازم لقوله -صلى الله عليه وسلم- لأم حبيبة -رضي الله عنها-: ((قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة)) الحديث. فعلم أن الأعمار مقدرة لم يشرع الدعاء بتغييرها

بخلاف النجاة من عذاب الآخرة، فإن الدعاء مشروع له، نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الأخروي، شرع كما في الدعاء الذي رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) حديث صحيح، أخرجه النسائي. ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يرد القدر إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمر إلا البِر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) أخرجه أحمد في (المسند). وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن النذر وقال: ((إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)). أخرجه البخاري. والدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو، ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء، وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يكره أن يُدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه. وأما قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلَّا فِي كِتَابٍ} (فاطر: 11) فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: {مِنْ عُمُرِهِ} إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه؛ أي: ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب * يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب} (الرعد: 38 - 39) على أن المحو والإثبات من الصحف التي

في أيدي الملائكة، وأن قوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب} اللوح المحفوظ. ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} ثم قال: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} أي: من ذلك الكتاب: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب} أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ، وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} (الرعد: 38) فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب * يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} (الرعد: 38 - 39). أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء، وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب. نأتي بعد ذلك إلى نقطة أخرى عن تفسير كلمة: "لا حول ولا قوة إلا بالله": هذا دليل على إثبات القدر، الله -سبحانه وتعالى- لا يكلف العباد إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، والله -سبحانه وتعالى- يعلم أن عباده يطيقون فوق ما كلفهم، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسرَ والتخفيفَ، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (النساء: 28) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، لكنه تفضل علينا ورحمنا وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من

حرج، والله -سبحانه وتعالى- أجرى كل شيء في كونه بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره، يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونيًّا وشرعيًّا. فالقضاء الكوني ففي قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) والقضاء الديني الشرعي، وذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ ألَّا تَعْبُدُواْ إلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) وكذلك الإرادة قد تكون كونية ودينية -وهذه قد سبق ذكرها- والأمر أيضًا يكون كونيًّا، ويكون شرعيًّا، فالأمر الكوني ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} (يس: 82) وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16) والأمر الشرعي ففي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58). هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 الإيمان بالبعث (1).

الدرس: 6 الإيمان بالبعث (1).

الإيمان بالبعث، وذم المكذبين بالمعاد

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الإيمان بالبعث (1)) الإيمان بالبعث، وذم المكذبين بالمعاد الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالإيمان بالبعث دل عليه: الكتاب والسنة والعقل، والفطرة السليمة: فأخبر -الله سبحانه وتعالى- عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن الكريم، وذلك أن الأنبياء -عليهم السلام- كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بربوبيته -سبحانه وتعالى- إلا مَن عاند كفرعونَ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون. وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، كما قال -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وكان -صلى الله عليه وسلم- هو الحاشر المقفَّى، روى هذا الحديث الترمذي في (الشمائل) من حديث حذيفة بن اليمان. لما كان منكرو البعث كثيرين بيّن -سبحانه وتعالى- تفصيلَ الآخرة بيانًا وافيًا، ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يخفِ شيئًا من أمر اليوم الآخر، وظنوا أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا هذا حجة لهم في أنه من باب التخييل. إذن رسالة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بينت تفصيل الآخرة بيانًا لا يوجد فيه شيء من كُتُب الأنبياء، والقرآن الكريم بين معادَ النفس عند الموت، ومعادَ البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. وهؤلاء الكافرون ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول مَن يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن طريق التخييل، وهذا كذب.

القيامة الكبرى معروفة عند الأنبياء مَن لدن آدمَ إلى نوح -عليه السلام- إلى إبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرهم -عليهم السلام- وقد أخبر الله بها من حين أُهبِطَ آدمُ، فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين} (الأعراف: 24) قال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} (الأعراف: 25) ولما قال إبليس اللعين: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِين * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوم} (ص: 79 - 81). وأما نوح -عليه السلام- فقال: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (نوح: 17 - 18). وقال إبراهيم -عليه السلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} (الشعراء: 82) إلى آخر القصة، وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَاب} (إبراهيم: 41) وقال تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} (البقرة: 260). وأما موسى -عليه السلام- فقال الله لما ناجاه موسى -عليه السلام- قال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طه: 15 - 16). بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد -يعني: كان يعلم البعث- وإنما آمَن بموسى، قال تعالى حكاية عنه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد} (غافر: 32 - 33) إذًا مؤمن آل فرعون كان يعلم البعث، ولذا آمن بموسى -عليه السلام- وقال أيضًا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار} (غافر: 39). وقال سبحانه: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} (غافر: 46) وقال موسى -عليه السلام-: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأعراف: 156) وقد

أخبر الله في قصة البقرة في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (البقرة: 73). وقد أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين} (الزُّمَر: 71) وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاءَ يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أَنذر به خاتمهم وهو سيدنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أنذروا قومهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة. فعامة سور القرآن الكريم التي ذكر فيها الوعد والوعيد يذكر ذلك فيها في الدنيا والآخرة، وأمر الله نبيه أن يقسم بذاته على المعاد، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} (سبأ: 3) وقال تعالى: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِين} (يونس: 53) وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} (التغابن: 7). وأخبر -سبحانه وتعالى- عن اقتراب اليوم الآخر أو عن اقتراب الساعة فقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَر} (القمر: 1) وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون} (الأنبياء: 1) وقال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع} (المعارج: 1 - 2) إلى أن قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: 6 - 7). ذم المكذبين بالمعاد -أي: بالبعث-: لقد ذم الله المكذبين بالبعث، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين} (يونس: 45) وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيد} (الشورى: 18) وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ

الرد على منكري البعث

مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُون} (النمل: 66) وقال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (النحل: 38) إلى أن قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِين} (النحل: 39). وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُون} (غافر: 59) وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلَّا كُفُورًا} (الإسراء: 97 - 99) وقال تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلا} (الإسراء: 49 - 52). الرد على منكري البعث تأملات فيما أجيب به المنكرون للبعث عن كل سؤال سألوه: تأمل ما أجيب به هؤلاء المنكرون للبعث عن كل سؤال على التفصيل! فإنهم قالوا أولًا: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم لا تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب، فهلا كنتم خلقًا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم: كنا خلقًا

على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا؟ وللحجة تقرير آخر، وهو: لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما، فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتِكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على هذا التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالًا آخر بقولهم: {مَن يُعِيدُنَا} إذا استحالت أجسادنا وفنيت، فأجابهم بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. فلما أخذتم الحجة ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون بها بعلل المنقطع، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ} متى يكون اليوم الآخر؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} ومن هذا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا، فإذا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (يس: 79 - 83). فلو أراد أو طلب أو قصد أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسنَ من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة، وصحة البرهان، لما قدر على أن يأتي بمثل ذلك، فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جوابًا، فكان في قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفى بالجواب، وأقام الحجة، وأزال الشبهة، فأكد سبحانه الحجة بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فاحتج بالبدء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى؛ إذ كل عاقل يعلم علمًا ضروريًّا أن مَن قدَرَ على هذه قدر على

الأخرى؛ يعني: من قدر على البدء قدر على الإعادة، وأنه لو كان عاجزًا عن الثانية، لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني -أي: فكذلك الإعادة- فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيى العظام وهي رميم!. ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جوابًا عن سؤال ملحد آخر، يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وطبيعتها حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معًا، فقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فإذا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون} فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد سبحانه هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على الشيء العظيم الجليل، فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار، فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} (يس: 81) فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكِبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} (غافر: 57).

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الأحقاف: 33) ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكُلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومُعين، بل يكفي في خلقه؛ أي: في خلق الله لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكوَّن: {كُن فَيَكُونُ} فإذا هو كائن كما شاء وأراد. ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله، قال تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (يس: 83) ومن هذا قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (القيامة: 36 - 40). فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملًا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشدَّ الإباء، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون} (المؤمنون: 115). فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شَقَّ سمعه وبصرَه وركَّبَ فيه: الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصابَ، والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرةً ثانيةً؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدًى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته، فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقربَ منه.

جزاء الأعمال في الآخرة، وإثبات العرض والحساب يوم القيامة

وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ}!! (الحج: 5) إلى أن قال {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور} (الحج: 7) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين} (المؤمنون: 12) إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} (المؤمنون: 16). وذكر تعالى قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة، شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها سبحانه {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (الكهف: 21). جزاء الأعمال في الآخرة، وإثبات العرض والحساب يوم القيامة جزاء الأعمال في الآخرة، وأن الناس في الآخرة يجزون بأعمالهم في الدنيا: قال تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّين} (الفاتحة: 4) وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين} (النور: 25) والدين الجزاء، يقال: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تُجازَى، وقال تعالى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} (السجدة: 17) وقوله تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا} (النبأ: 26) وقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} (الأنعام: 160) وقال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} (النمل: 89 - 90) وقال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (القصص: 84) وأمثال ذلك. وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- من حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فَمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه)) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم.

العرض والحساب يوم القيامة: العرض والحساب يوم القيامة دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فمن الآيات القرآنية قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَة * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة} (الحاقة: 15 - 18) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه * فأما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وأما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (الانشقاق: 6 - 15). وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الكهف: 48) وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49) وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} (إبراهيم: 48) إلى آخر السورة. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (غافر: 15) الآية، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} (غافر: 17) وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} (البقرة: 281). وروى البخاري -رحمه الله- في صحيحه، عن عائشةَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس أحدٌ يُحاسَب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (الانشقاق: 7 - 8) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وإنما ذلك العرضُ وليس أحد يناقَشُ الحسابَ يوم القيامة إلا عُذِّبَ)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم. . يعني: أنه لو ناقش الله -سبحانه وتعالى- الحسابَ لعبيده لعذبهم، وهو غير ظالم لهم، لكنه تعالى يعفو ويصفح. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 7 الإيمان بالبعث (2).

الدرس: 7 الإيمان بالبعث (2).

معنى الورود في القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الإيمان بالبعث (2)) معنى الورود في القرآن الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالجزئية الأولى التي سنتناولها في هذا الدرس معنى الورود في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} (مريم: 71): اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} ما المراد بالورود في الآية؟ الأظهر والأقوى أن المراد بالورود في الآية هو المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم: 72). وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذين نفسي بيده، لا يلج النارَ أحدٌ بايع تحت الشجرة -لا يلج يعني: لا يدخل- قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} فقال -صلى الله عليه وسلم-: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا})) أخرجه مسلم من طريق ابن جريج. هذا الحديث أشار إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فَمَن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا} (هود: 58) وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} (هود: 66) وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} (هود: 94) ولم يكن العذاب أصابهم، يعني: أن العذاب لم يصِب هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله -سبحانه وتعالى- ولكن أصاب غيرَهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لَأَصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الواردين النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا، فقد بين -صلى الله عليه وسلم- في حديث جابر المذكور أن الورود هو المرور على الصراط.

الإيمان بالميزان، وبيان حقيقته

الإيمان بالميزان، وبيان حقيقته الإيمان بالميزان: الميزان يكون يوم القيامة، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين} (الأنبياء: 47) وقال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون} (المؤمنون: 102 - 103). قال القرطبي في (التذكرة) قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزنُ لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها، قال: وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يحتمل أن يكون المراد الموزونات، فجُمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة والله أعلم. انتهى كلام القرطبي. حقيقة الميزان: الذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كِفتان حِسيتان مشاهدتان، روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبري، قال: سمعت عبد الله بنَ عمرو -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلًّا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمكَ كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب. فيقول الله له: ألك عذرًا، أو حسنةً؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب. فيقول الله: بلَى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلمَ عليك اليوم. فتخرج له

بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فيقول: أحضِروه. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم. قال: فتُوضَعُ السجلات في كفة، والبطاقة التي فيها الشهادة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقةُ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم)) أخرج الحديث أحمد، والترمذي، وابن ماجه وسنده صحيح. و"السجل": الكتاب الكبير، "فيبهت الرجل" يعني: ينقطع ويسكت متحيرًا مدهوشًا، و"البطاقة": رقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما يجعل فيه إن كان عينًا فوزنه أو عدده، وإن كان متاعًا فثمنه. وفي هذا السياق فائدة جميلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (الكهف: 105))) أخرجه البخاري، ومسلم. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفوه -يعني: تميله- فضحِكَ القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه. فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)) أخرجه أحمد وأخرجه الطبراني. وقد وردت الأحاديث أيضًا بوزن الأعمال نفسها، كما في (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الطهور شَطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزانَ)) أخرجه مسلم، والترمذي. وفي الصحيحين -وهو خاتمة كتاب البخاري- قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أخرجه البخاري ومسلم.

أدلة أن الجنة والنار موجودتان، وأهوال يوم القيامة

وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يُؤتَى بابن آدم يوم القيامة، فيوقف بين كِفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادَى الملك بصوت يُسمِعُ الخلائقَ: سعِد فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا. وإن خَفَّت ميزانه نادى الملك بصوت يُسمع الخلائق: شقي فلانٌ شقاوةً لا يسعد بعدها أبدًا)) أخرجه أبو نعيم في (الحلية). فعلى هذا لا يلتفت إلى ملحد ومعاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله تعالى يقلب الأعراض أجسامًا، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يؤتى بالموت كبشًا أغبر -أي: يغلب بياضُه على سوادِه- فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، فيشرئبُّون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح ويقال: خلود لا موت)) أخرجه أحمد ورواه البخاري بمعناه، فثبت بذلك وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان. أدلة أن الجنة والنار موجودتان، وأهوال يوم القيامة الجنة والنار مخلوقتان: اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن. الأدلة من الكتاب والسنة على أن الجنة والنار مخلوقتان: الأدلة من نصوص الكتاب: قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} (آل عمران: 133). وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد: 21) وقوله تعالى عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين} (آل عمران: 131) وقوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} (النبأ: 21 - 22).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (النجم: 13 - 15) وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى، ورأى عندها جنةَ المأوى، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أحدَكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدُك حتى يبعثكَ الله يوم القيامة)) أخرجه مالك في (الموطأ) ومن طريقه البخاري، ومسلم، وفي (صحيح مسلم) من حديث أنس: ((وايم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا وبكيتم كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)) أخرجه مسلم، والنسائي. معنى الاستثناء في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلَّا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ} (هود: 108). اختلف السلف في هذا الاستثناء، فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها لا لكلهم، وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلى أن أرى غيرَ ذلك. وأنت لا تراه، بل تجزم بضربِه، وقيل: "إلا" في الآية بمعنى الواو، وهذا على قول بعد النحاة، وهو ضعيف، وسيبويه يجعل "إلا" بمعنى لكن، فيكون الاستثناء منقطعًا، ورجحه ابن جرير، وقال: إن الله لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله تعالى: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ}. قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولًا إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، ولكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه

لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} (الإسراء: 86) وقوله تعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ} (يونس: 16) وقوله تعالى: {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشورى: 24). ونظائر ذلك كثيرة في القرآن الكريم، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وقيل: إن "ما" بمعنى مَن، أي: إلا مَن شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء، وقيل غير ذلك. وهذه الأقوال متقاربة، ويمكن الجمع بينها بأن يقال: أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنة في كل وقتٍ إلا وقتًا يشاء ألا يكونوا فيها، وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي موقف القيامة، وعلى الصراط، وكون بعضهم في النار مدة. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن الكريم وأخبر أنهم {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} (الدخان: 56) وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممتَه إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إلَّا مَا شَاء رَبُّكَ} (هود: 107) تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها. والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت)) أخرجه مسلم بلفظ: ((مَن يدخل الجنةَ ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)).

بعد ذلك نأتي إلى قول الله تعالى الذي يفيد أبدية النار، وأن الكفار لا يخرجون منها أبدًا، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُون * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} (البقرة: 80 - 81). أهوال يوم القيامة: آيات كثيرة في القرآن تبين هول ذلك اليوم، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيب * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيد * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ولَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيد * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيد * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد} (ق: 20 - 30). هذه الآيات تصور هول الموقف يوم القيامة حين ينفخ في الصور النفخة الثانية يوم يقوم الناس من قبورهم، وهي لحظة مخيفة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كيف أنعُمُ! وصاحب القرن قد التقم القرنَ، وحَنَا جبهته، وانتظر أن يؤذَن له! قالوا: يا رسول الله، وكيف نقول؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) رواه الترمذي. في هذا الموقف العصيب تأتي النفس ومعها الكاتبان الحافظان لها في الدنيا، واحد يسوقها، والآخر يشهدُ عليها، وفي هذا الموقف العصيب يُقال له: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} قوي لا يحجبه حجاب، وهذا هو الموعد الذي غفلتَ عنه، وهذا هو الموقف الذي لم تحسب

حسابَه، وهذه هي النهاية التي كنتَ لا تتوقعها، فالآن فانظر فبصرك اليوم حديد. هنا يتقدم قرينه، وهو الشهيد والشاهد الذي يحمل سجل حياته: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد} أي ما لدي حاضر مهيأ معد، لا يحتاج إلى تهيئة أو إعداد، هنا يأتي الأمر الإلهي للملكين الحافظين: السائق والشهيد، الأمر الإلهي، قول الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيب * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيد} وذكر هذه النعوت يزيد في حرج الموقف وشدته، فهو دلالة غضب الجبار القهار في الموقف العصيب الرهيب، وهي نعوت قبيحة مستحقة لتشديد العقوبة: كفار، عنيد، مناع للخير، معتد مريب، الذي جعل مع الله إلهًا آخر. وتنتهي بتأكيد الأمر الذي لا يحتاج إلى توكيد: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيد} بيانًا لمكانه من جهنم التي بدأ الأمر بإلقائه فيها، عندئذٍ يفزع قرينه ويرتجف، ويبادر إلى إبعاد ظل التهمة عن نفسه بما أنه كان مصاحبًا له وقرينًا: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيد} هنا يجيء القول الفصل، فينهي كلَّ قولٍ: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيد * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد} فالمقام ليس مقامَ اختصام، وقد سبق الوعيد محدِّدًا جزاءَ كل عمل، وكل شيء مسجل لا يبدل، ولا يجزَى أحد إلا بما هو مسجل، ولا يظلم أحد، فالمجازي هو الحكم العدل. ثم يأتي جانب مخيف من يوم الحساب: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد} إن المشهد كله مشهد حوار، فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار، وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب، هذا هو كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعًا وتتكدس ركامًا، ثم

تنادى جنهم: هل امتلأت واكتفيت، ولكنها تتلمظ وتتحرق وتقول في كظة الأكول: هل من مزيد، فياللهول الرهيب! إن مشهد البعث مزلزل عنيف رهيب، هو أشد رهبةً من التهويل، هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى، تتحرك ولا تعي، وبكل حامل تسقط حملها للهول مروع ينتابها، وبالناس سكارى وما هم بسكارَى، يتبدَّى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة، مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره لحظةَ التلاوة، بينما الخيال يتملاه، والهول الشاخص يذهل، فلا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية في المرضعات الذاهلات عما أرضعن، وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي، والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يبين الله ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} (الحج: 2). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 8 الإيمان بالبعث (3).

الدرس: 8 الإيمان بالبعث (3).

انقلاب الكون في اليوم الآخر، وصور من أحوال هذا اليوم

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (الإيمان بالبعث (3)) انقلاب الكون في اليوم الآخر، وصور من أحوال هذا اليوم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: انقلاب الكون في اليوم الآخر: ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع الانقلاب، الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية، والوحوش النافرة، والأنعام الأليفة، ونفوس البشر، وأوضاع الأمور حيث ينكشف كل مستور، ويعلم كل مجهول، وتقف النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب، وكل شيء من حولها عاصف، وكل شيء من حولها مقلوب، وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده -الكون المنسق الجميل الموزون الحركة، المضبوط النسبة، المتين الصنعة، المبني بأيد وإحكام- سينفرط عقد نظامه، وتتناثر أجزاءه، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها، وينتهي إلى أجله المقدر حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون، ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيًّا في هذا الكون المعهود. قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت * وإذا النُّجُومُ انكَدَرَت * وإذا الْجِبَالُ سُيِّرَت * وإذا الْعِشَارُ عُطِّلَت * وإذا الْوُحُوشُ حُشِرَت * وإذا الْبِحَارُ سُجِّرَت * وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَت * وإذا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَت * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت * وإذا الصُّحُفُ نُشِرَت * وإذا السَّمَاء كُشِطَت * وإذا الْجَحِيمُ سُعِّرَت * وإذا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت *عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَت} (التكوير: 1 - 14). وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَت * وإذا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَت * وإذا الْبِحَارُ فُجِّرَت * وإذا الْقُبُورُ بُعْثِرَت * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت} (الانفطار: 1 - 5). وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت * وإذا الأَرْضُ مُدَّت * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت} (الانشقاق: 1 - 5). إن يوم القيامة ترتجف الأرض الثابتة ارتجافًا، وتزلزل زلزالًا، وتنقض ما في جوفها نقضًا، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلًا،

أحوال أصحاب الجنة وأصحاب النار في الآخرة

وكأنها تتخفف من هذه الأثقال التي تحملها طويلًا. إنه مشهد يهز وقعَ أقدام المستمعين لهذه الصورة، كل شيء ثابت ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون، والأرض من تحتهم تهتز وتمور، مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض، وتحسبه ثابتًا باقيًا، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} (الزلزلة: 1 - 3) إلى آخر السورة. أحوال أصحاب الجنة وأصحاب النار في الآخرة صور من أحوال الجنة والنار: حال السعداء والأشقياء يوم القيامة: قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} (النمل: 89 - 90) في هاتين الآيتين يبين الله حال السعداء والأشقياء يوم القيامة في هذا اليوم الفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون} الأمن من الفزع هو وحده جزاء، وما بعده فضل من الله ومنة، ولقد خافوا الله في الدنيا، فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة، بل أمنهم يوم يفزع من في السموات ومَن في الأرض، إلا مَن شاء الله. وقال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} وهو مشهد مفزع، وهم يكبون في النار على وجوههم، ويزيد عليهم التبكيت والتوبيخ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} فقد تنكبوا الهدى وأشاحوا عنه بوجوههم، فهم

يجزون به كبًّا لهذه الوجوه في النار، وقد أعرضت من قبل عن الحق الواضح وضوح الليل والنهار. ويراد بالحسنة في الآية الأولى الإخلاص، والمراد بالسيئة في الآية الثانية الشرك. الموازنة بين نصيب المؤمنين يوم القيامة ونصيب الكافرين: إن نصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار، فالله هو الذي يدخلهم، وهو إذًا نصيب كريم علوي رفيع، وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاءً على الإيمان والصلاح، متناسقًا في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح، ونصيب الذين كفروا متاع وأكل، قال تعالى: {كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} (محمد: 12) وهو تصوير ذري يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه، ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره، والمتاع الحيواني الغليظ بلا تذوق وبلا تعفف عن جميل أو قبيح. إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة ولا من اختيار، ولا حارس عليه من تقوى، ولا رادع عنه من ضمير، وفي الآخرة لهم العذاب والنار مثوى لهم، إن هناك فارقًا أصيلًا في الحالة التي عليها الفريقان، وفي المنهج والسلوك سواء، فالذين آمنوا على بينة من ربهم رأوا الحق وعرفوه، واستيقنوا من مصدره واتصلوا بربهم فتلقوه عنه، وهم على يقين بما يتلقون غير مخدوعين ولا مضللين. والذين كفروا زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنًا وهو سيء، ولم يروا ولم يستيقنوا، واتبعوا أهواءهم بلا ضابط يرجعون إليه، ولا أصل يقيمون عليه، ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل، أهؤلاء كهؤلاء؟! إنهم يختلفون حالًا ومنهجًا واتجاهًا، فلا يمكن أن يتفقوا ميزانًا ولا جزاءً ولا مصيرًا.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم} (محمد: 12) ألوان النعيم والعذاب، وصنوف المتاع والآلام للمؤمنين والكافرين: الله الذي خلق البشر أعلم بمن خلق، وأعرف مما يؤثر في قلوبهم، وما يصلح لتربيتهم ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم، والبشر صنوف، والنفوس ألوان، والطبائع شتى تلتقي كلها في فطرة الإنسان، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان، ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب وصنوف المتاع والآلام وفقَ علمه المطلق بالعباد. هناك ناس يصلح لتربيتهم ولاستجاشة همتهم للعمل، كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه أو أنهار من عسل مصفى، أو أنهار من خمر لذة للشاربين، أو صنوف من كل الثمرات، مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات. فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم وما يليق لجزائهم، وهناك ناس يعبدون الله؛ لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها؛ أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب، أو أنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها، ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق، وهؤلاء يصلح لهم تربية، ويصلح لهم جزاء أن يقول لهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مريم: 96). وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (محمد: 15) فهنا نوعان من الجزاء، هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله، والنوع آخر: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم} (محمد: 15) وهي صورة حسية عنيفة من العذاب، تتناسب مع غلظ طبيعة القوم، وهم

يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ، والجزاء ماء حميم ساخن، وتقطيع للأمعاء التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام، ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء. بعد ذلك نأتي إلى أصحاب الجنة وأصحاب النار: قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُون * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُون * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُون * سَلاَمٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيم * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُون * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون * وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُون * وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُون} (يس: 55 - 67). إن أصحاب الجنة مشغولون بما هم فيه من النعيم، ملتذون متفكهون، وإنهم لفي ظلال مستطابة، يستروحون نسيمها، وعلى آرائك متكئين في راحة ونعيم، هم وأزواجهم لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون، وهو محقق لهم فيها كل ما يدعون، ولهم فوق اللذائذ التأهيل والتكريم سلام يتلقونه من ربهم الكريم قولًا من رب رحيم، فأما الكافرون فلا يطوي السياق موقف حسابهم، بل يعرضه، ويبرز فيه التبكيت والتنكيل، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُون * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون} إنهم يتلقون التحقير

والتذليل، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون} انعزلوا هكذا بعيدًا عن المؤمنين: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} ونداءه هنا: يا بني آدم. فيه من التبكيت ما فيه، وقد أخرج الشيطان أباهم من الجنة ثم هم يعبدونه وهو لهم عدو مبين. {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} واصلوا العبادة إلي، فهذا هو الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى رضاي، إنكم لم تحذروا عدوكم الذي أضل منكم أجيالًا كثيرة: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُون} وفي نهاية هذا الموقف العصيب المهين يعلن الجزاء الأليم في تهكم وتأنيب: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون} ثم بعد ذلك يخذل المشركون بعضُهم بعضًا، وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم، يكذب بعضهم بعضًا، وتعود كل جارحة إلى ربها مفردةً، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلمًا. قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} إنه مشهد عجيب رهيب، تذهل عن تصوره القلوب، كذلك انتهى المشهد وألسنتهم معقودة، وأيديهم تتكلم، وأرجلهم تشهد على غير ما كانوا يعهدون من أمرهم، وعلى غير ما كانوا ينتظرون، ولو شاء الله لفعل بهم غير ذلك، ولأجرى عليهم من البلاء ما يريد. ويعرض الله هنا نوعين من هذا البلاء، لو شاء الله لأخذ بهما من يشاء، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُون * وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُون} وهما مشهدان فيهما من البلاء قَدْرِ ما فيهما من السخرية والاستهزاء، السخرية بالمكذبين والاستهزاء بالمستهزئين الذين كانوا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} فهم في المشهد الأول عميان مطموسون، ثم هم مع هذا العمى

يستبقون الصراط، ويتزاحمون على العبور، ويتخبطون تخبطَ العميان حين يتسابقون ويتساقطون تساقطَ العميان حين يسارعون متنافسين، فأنى يبصرون! وهم في المشهد الثاني قد جمدوا فجأةً في مكانتهم، واستحالوا تماثيلَ لا تمضي ولا تعود بعد أن كانوا منذ لحظة عميانًا يستبقون ويضربون، وإنهم ليبدون في المشهدين كالدمية وكاللعبة في حالة تثير السخرية والتحقيرَ، وقد كانوا من قبل يستخفون بالوعيد ويستهزئون. كتاب اليمين وكتاب الشمال: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه * فأما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وأما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (الانشقاق: 6 - 15). في هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان، وأمامه الكون بسمائه وأرضه، مستسلمًا لربه هذا الاستسلام: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه} يا أيها الإنسان الذي خلقه ربه بإحسان، والذي ميزه بهذه الإنسانية التي تفرده في هذا الكون بخصائص من شأنها أن تجعله أن يكون أعرفَ بربه، وأطوعَ لأمره من الأرض والسماء، وقد نفخ فيه من روحه وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقى قبسًا من نوره، والفرح باستقبال فيوضاته، والتطهر بها، أو الارتفاع على غير حد؛ حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه} أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحًا، تحمل عبئك وتجهد جهدك، وتشق طريقك لتصل

في النهاية إلى ربك، فإليه المرجع وإليه المآب بعد الكد والكدح والجهاد، يا أيها الإنسان إنك كادح حتى في متاعك، فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد، إن لم يكن جهد بدن وكد عمل، فهو جهد تفكير وكد مشاعر الواجد والمحروم سواء، إنما يختلف نوع الكدح، ولون العناء، وحقيقةُ الكدح هي المستقرةُ في حياة الإنسان، ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء. يا أيها الإنسان إنك لا تجد الراحةَ في الأرض أبدًا، إنما الراحة هنالك لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام، التعب واحد في الأرض، والكَدْح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة مختلفة عندما تصل إلى ربك، فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كد ولا كدح. يا أيها الإنسان الذي امتاز بخصائص الإنسان، ألا فاختَرْ لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك الله به، اختر لنفسك الراحة من الكدح حينما تلقاه؛ ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء فإنه يصل بها مصير الكادحين حينما يصلنا إلى نهاية الطريق، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}. والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرَضْي السعيد الذي آمَنَ وأحسنَ، فرضي الله عنه، وكتب له النجاة، وهو يُحاسب حسابًا يسيرًا، فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب، والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفيها غَنَاء، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن نوُقِشَ الحساب عذِّب، قالت: قلت: أفليس قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟ قال: ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نُوقش الحساب يوم القيامة عذِّبَ)) أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي.

وعنها كذلك قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بعض صلاته: ((اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، فلما انصرفَ، قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسيرُ؟ قال: أن ينظرَ في كتابه، فيتجاوز له عنه، من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك)) رواه الإمام أحمد بإسناده، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، وهو صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه. فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتَى كتابه بيمينه، الذي يؤتى كتابه بيمينه ثم ينجو وينقلب إلى أهله مسرورًا من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة، وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة، كل من أحب من أهله وصحبه. ويصور القرآن رجعة الناجي من الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب، يصور رجعته متهللًا فرحًا مسرورًا بالنجاة واللقاء في الجنان، وهو وضع يقابل وضع العذاب الهالك المأخوذ بعمله السيئ الذي يؤتى كتابه وهو كاره، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} يعني ينادي على الهلاك أن يأخذه، والإنسان حينما يكون في وضع ويتمنى الهلاك لنفسه، فلا شك أن الموضع الذي هو فيه أشد من الهلاك نفسه، وهذا تصوير لشدة العذاب الذي يلاقيه. يقول سيد قطب في (ظلال القرآن): والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال، فهذه صورة جديدة صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر، وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يُعطاه كذلك من وراء ظهره، فهو هيئة الكاره والمكره الخزيان من المواجهة. يعني: لا تعارض بين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه} وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} (الحاقة: 25) يعني: لا تعارض بين الصورتين،

فهو يأخذ الكتاب بالشمال، ويضعه وراء ظهره حتى لا يطلع عليه أحد؛ لأنه يعلم أن هذا الكتاب مليء بالمعاصي، فهو لا يريد أن يطلع الناسُ على ما عمله من أشياءَ تغضب اللهَ -سبحانه وتعالى- وهو لذلك يأخذ الكتاب بشماله، ويضع شماله وراء ظهره؛ إذًا لا تنافي بين الصورتين. يقول سيد قطب: ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إتيانه باليمين أو بالشمال أو من راء الظهر، إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول الذي صورته الآية الكريمة، التي تحدثت عن ذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}، وكذلك الآية الثانية تعبر عن حقيقة الهلاك الذي بينه الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} هاتان الحقيقتان المفروض أن يستيقنهما الإنسان، ويعتبر بهما، ويعتبر أيضًا بما وراء ذلك من ألوان العذاب التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- وكذلك ألوان النعيم التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه. هذا الإنسان الذي قطع أو قضى حياته في الأرض كدحًا، وقطع طريقه إلى ربه كدحًا، لكن في المعصية والإثم والضلال، هو تعب وعمل، لكن عمله كان معصية، أما الإنسان الذي عمل في الطاعة، ومن أجل رضا ربه لا شك أنه سوف يلقَى مصيرًا غير مصير الآخر، الأول تعب، لكنه استراح، تعب في الطاعة، لكنه استراح في الآخرة. لكن الإنسان الآخر تعب في المعاصي، ووجد تعبًا أشد من التعب الذي كان يتعبه في الدنيا، هذا الإنسان العاصي الذي قضى حياته في المعصية والإثم والضلال، انظر لتصوير القرآن له بما يعانيه، هذا الإنسان يدعو الهلاك ويناديه؛ لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء، يُشوَى في

النار: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي: غافلًا عما وراء اللحظة الحاضرة: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور} إلى ربه ظن أنه لن يرجع إلى بارئه، والحقيقة أن ربه كان مطلعًا على أمره، محيطًا بحقيقته، عالمًا بحركاته وخطواته. منظر المتقين في الجنة، ومنظر الطاغين في النار، يعني: صورتان متقابلتان، صورة لأهل الجنة، وصورة لأهل النار: قال تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآب * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَاب * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَاب * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَاب * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَاب * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَاد} (ص: 49 - 54). هذه صورة المتقين في الجنة. أما صورة الطاغين في النار يقول الله سبحانه: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآب * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَاد * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاج * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّار * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَار * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّار * وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَار * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار} (ص: 55 - 64). إن المشهد يبدأ بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع وفي الأجزاء وفي السمات والهيئات، منظر المتقين لهم حسن مآب، ومنظر الطاغين لهم شر مآب، فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعة الطعام والشراب، ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب، وهن مع شبابهن

قاصرات الطرف، لا يتطلعن، ولا يمددن بأبصارهن، وكلهن شواب أتراب. أتراب يعني: في سن واحدة، سنهم واحد، سنهم شباب، وهو متاع دائم، ورزق من عند الله ما له من نفاد، وأما الآخرون فلهم مِهاد، لهم مكان يعيشون فيه، لكن لا راحةَ فيه، إنه جهنم فبئس المهادُ، ولهم فيه شراب ساخن، وطعام مقيت، إن ما يخرج ويسيل من أهل النار إنما هو طعامٌ لهم، ولهم صُنوف أخرى من جنس هذا العذاب. ثم يتم المشهد بمنظر ثالث حي شاخص بما فيه من حوار، فها هي ذي جماعة من أولئك الطاغين من أهل جهنم كانت في الدنيا متوادة متحابة، فهي اليوم متناكرة متنابذة، كان بعضهم يملي لبعض في الضلال، ينصر بعضهم بعضًا على الإثم والعدوان، وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين، ويهزأ من دعوتهم ودعواهم في النعيم، كما يصنع الملأُ من قريش: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} (ص: 9) قريش كانت تقول هذا، يعني: كانت لا تصدق أن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله رسولًا إلى الناس، فكانوا يتكبرون على الإيمان برسالته ويقولون: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا}؟! هاهم أولاء يقتحمون النار فوجًا بعد فوج، وهاهم أولاء يقول بعضهم لبعض: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} يعني: هذا فوج قادم للدخول في النار معكم، فماذا يكون الجواب، يكون الجواب في اندفاع وحنق يقولون لهم: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّار} لكن حينما يسمعون ذلك هل يسكتون؟ هل يسكت المشئومون؟ كلا، إنهم يردون عليهم: {قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَار} فلقد كنتم أنتم السببُ في هذا العذاب، وإذا دَعْوة فيها الحنق والضيق والانتقام من الذين هم موجودون في النار قبل هؤلاء، يتوجهون بدعوة إلى

ربهم: {قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّار}. ثم ماذا؟ ثم هاهم أولاء يفتقدون المؤمنين، لا يجدون المؤمنين معهم في النار، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا، ويظنون بهم شرًّا، ويسخرون من دعواهم في النعيم، يسخرون منهم حينما يقولون لهم: نحن ندخل الجنة، هذا في الدنيا فكان الكفار يسخرون من كلامهم، ها هم الآن في النار لا يجدون المؤمنين معهم، فيفتقدونهم، فيتساءلون: أين هم؟ أين ذهبوا؟ لم نرهم هنا، أو يقولون: أم نراهم هنا لكن زاغت عنهم الأبصار، بينما هؤلاء الرجال الذين يتساءلون عنهم هناك في الجِنان، الرجال الذين يتساءلون عنهم أنهم لم يجدوهم في النار هم في الجنة. ويُختم هذا المشهد بتقرير واقع أهل النار: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار} فما أبعد مصيرهم عن مصير المتقين الذين كانوا يسخرون منهم، ويستكثرون اختيارَ الله لهؤلاء المؤمنين في الجنة. هذا والله أعلم.

الدرس: 9 الإيمان بالرسل.

الدرس: 9 الإيمان بالرسل.

الإيمان بجميع الرسل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (الإيمان بالرسل) الإيمان بجميع الرسل الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. قال تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285) أي: نحن مؤمنون بالرسل جميعًا، لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن مَن آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (النساء: 150، 151) فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به، وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافرًا بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول جاء بتصديق المرسلين كلهم فكان كافرًا حقًّا، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. دلائل نبوة الأنبياء دلائل نبوة الأنبياء كثيرة متنوعة: يقول صاحب (العقيدة الطحاوية): والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كراماتِ الأولياء، وكذلك أنكروا السحر وغير ذلك. ولا ريبَ أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما يعرب عنهما وتُعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة! وما أحسنَ ما قال حسان -رضي الله عنه-: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخير وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب وغلبت الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أمورًا يبين بها صدقه، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه وما يفعله ما يبين بها كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيَا أمرًا أحدهما صادق والآخر كاذب لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدةٍ؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) أخرج الحديث من حديث ابن مسعود: مسلم، وأبو داود، والبخاري في (الأدب المفرد) ولهذا قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 221 - 226). .

فالكُهان ونحوهم وإن كانوا أحيانًا يخبرون بشيء من الغيبيات، ويكون صادقًا، فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد: ((قد خبأتُ لك خبيئًا)) "فقال: الدح" يعني: الدخان، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اخسأ، فلن تعدو قدرك)) يعني: إنما أنت كاهن. هذا الحديث أخرجه البخاري وفي (الأدب المفرد)، ومسلم. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يأتيني صادق وكاذب)) أخرجه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر، وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: لقيه -أي: ابن صياد- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتشهد أَني رسول الله؟)) فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((آمنت بالله وملائكته وكتبه، ما ترى؟)) قال: أرى عرشًا على الماء. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ترى عرش إبليس على البحر)) وأخرجه الترمذي. وبين الله تعالى أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضرًّا له في العاقبة، فمن عرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه ووفاءه ومطابقةَ قوله لعمله، علِمَ علمًا يقينيًّا أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابةَ، أو علم النحو والطب والفقه، وغير ذلك. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم، وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق؟! ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير

ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (محمد: 30) ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (محمد: 30) واللحن يقال على معنيين: أحدهما: الكتابة بالكلام حتى لا يفهم غير مخاطبك. والثاني: صرف الكلام من الإعراب إلى الخطابة، ويقال من الأول: لحنت بفتح الحاء، ألحن فأنا لاحن، وألحنته الكلام فلحنه أي: فهمه فهو لاحن، والثاني لحن بالكسر إذا لم يعرب، والمعنى الأول هو المراد بالآية الكريمة. قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "ما سر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه". فإذا كان صدق الخبر وكذبه يعلم بما يقترن به من القرائن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله؟ كيف يخفَى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟ ولهذا لما كانت خديجة -رضي الله عنها- تعلم من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه الصادق البار قال لها لما جاءه الوحي: ((إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق)). أخرجه البخاري، ومسلم، فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثالث، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولًا عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وقد عُلم من سنة

الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة، ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه. وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوه عليه، قال: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة". أخرجه ابن هشام في (السيرة)، وأخرجه أحمد في (المسند) من حديث أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك ورقة بن نوفل لَمَّا أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بما رآه، وكان ورقة قد تنصَّرَ، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: "أي عم، اسمَعْ من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بما رأى، فقال -أي: ورقة بن نوفل-: هذا هو الناموس الذي كان يأتي من موسى". وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كتب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأل هرقل أبا سفيان، وأمر الباقين إن كذَبَ أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار، سأله: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا ليس في آبائه من ملك. قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا. وسأله: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم. وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذبًا. وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافُهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه. وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون. وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطةً له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا. وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم. وسألهم عن الحرب بينهم وبينه. فقالوا: يدال علينا مرة، وندال عليه أخرى. يعني: مرة يهزمنا ومرة نهزمه. وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا

أنه لا يغدر. وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. وهذه أكثر من عشر مسائل. ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة فقال: سألتكم هل في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلتُ: لو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب مُلكَ أبيه، وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلتُ: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، يعني: في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلًا ثم ينكشف، وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تُبتلى، وتكون العاقبة لهم، قال: وسألتكم هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تَغدر. أخرجه البخاري مطولًا ومختصرًا، وكذلك أخرجه أحمد في (المسند) من حديث ابن عباس.

وهرقل لما كان عنده من علمه بعادة الرسل، وسنة الله فيهم أنه تارةً ينصرهم وتارةً يبتليهم، وأنهم لا يغدرون علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في (الصحيح) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءٌ صبَرَ فكان خيرًا له)) أخرجه مسلم من حديث صهيب بن سنان الرومي، وأخرجه أحمد في (المسند) بلفظ: ((عجبت من أمر المؤمن، إن أمره كله خير)). والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة -أي: غلبة العدو- عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون} (العنكبوت: 2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه، وحكمته التي بهرت العقول. وفي حديث ابن عباس المتقدم قال: وسألتكم عما يأمر به؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، ويأمركم بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبيًّا يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولا وددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبتُ إليه، وإن يكن ما تقولون حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب، وهو حينئذٍ كافر من أشد الناس بغضًا وعداوةً للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال أبو سفيان بن حرب: "فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة" يعني: قد انتشر وذاع بين الناس، وظهرت علامات نصره وظهوره علينا، إن هرقل ليعظمه، وهرقل ملك بني الأصفر، يقول أبو سفيان: "وما زلت موقنًا بأن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره". إذن هذه علامات صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث شهد له من لا يؤمن بأنه رسول، ومن لا يؤمن برسالته، وهو أبو سفيان كان ما زال على الكفر، شهد له بصدقه، وهذا يدل على أنه نبي. ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وشكر، وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر، وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه إلى أن ينتهي إلى العلم حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك، وأيضًا فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالةَ على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده. ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيًّا بعد نبي في سورة الشعراء، كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده -عليهم السلام- يقول تعالى في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء: 67، 68) وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله وأن قومًا اتبعوه، وأن أقوامًا خالفوه، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم، هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها ووضحها.

صدق دعوة الأنبياء، وبيان أن إنكار الرسالة طعن في الرب سبحانه.

صدق دعوة الأنبياء، وبيان أن إنكار الرسالة طعن في الرب سبحانه دلائل صدق الأنبياء -عليهم السلام- في دعواهم، وتبليغ رسالة الله -سبحانه وتعالى- إلى الناس: من هذه الدلائل أن الرسل أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وخذلان أولئك -أي: الأعداء- وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كغرق فرعون، وغرق قوم نوح، وبقية أحوالهم عرف صدق الرسول وصدق الرسل أجمعين -عليهم السلام-. ومن هذه الدلائل أيضًا: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها تبين له أنهم أعلم بالخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهُدى والخير، ودلالة الخلق على ما ينفعهم، ومنع ما يضرهم ما يبين أن ادعاء الرسالة، وأن الإتيان بالشريعة من عند الله لا يصدر إلا عن راحم بار يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. يعني: الرسل شرائعهم تدل على صدقهم في أنهم رسل من عند الله -سبحانه وتعالى- حيث إن الشريعة مصدر الخير، مصدر السعادة، مصدر الحلول لكل المشكلات، فإذن دلائل نبوة الأنبياء متنوعة وكثيرة، وأنها لا تقتصر على المعجزات فقط، نعم المعجزات إحدى الدلائل التي تدل على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن دلائل صدقهم غير محصورة في هذا المعنى.

بيان أن إنكار رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- طعن في الرب -تبارك وتعالى-: بيان ذلك أنه إذا كان سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس بنبي صادق بل ملِك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق ما يفعل من افتراء عليه لمدة ثلاث وعشرين سنة وهو مع ذلك كله يؤيده، وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر. هذا إن كان الأمر كذلك، فهذا طعن في الرب -تبارك وتعالى- لأنه كيف يتركه الله -سبحانه وتعالى- أن يفعل ذلك كله ولا يعاقبه، وسنة الله التي قد خلت من قبل أنه لا يترك أحدًا يفتري عليه ويكذب عليه، ولذلك يقول تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} (الطور: 30، 13). هذا والله أعلم.

الدرس: 10 تابع الإيمان بالرسل - الإيمان بالملائكة والكتب السماوية.

الدرس: 10 تابع الإيمان بالرسل - الإيمان بالملائكة والكتب السماوية.

وجوب الإيمان بجميع الرسل

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تابع الإيمان بالرسل - الإيمان بالملائكة والكتب السماوية) وجوب الإيمان بجميع الرسل الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: وجوب الإيمان بمَن سمى الله في كتابه من رسله وأنبيائه: يقول صاحب (العقيدة الطحاوية): وأما الأنبياء والمرسلون فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من الرسل، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلًا سواهم، وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله الذي أرسلهم، فعلينا الإيمان بالرسل جملةً؛ لأنه لم يأتِ في عددهم نص، وقد قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164) وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميعَ ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بيانًا لا يسَعُ أحدًا ممن أرسلوا إليهم جهده، ولا يحل له خلاق. قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين} (النحل: 35)، وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فإنما عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِين} (النحل: 82) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين} (النور: 54) وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فإنما عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِين} (التغابن: 12). أولو العزم من الرسل: وأما أولو العزم من الرسل، فقد قيل فيهم أقوال، أحسنها ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة أنهم -أي: أولي العزم-: نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد -صلوات الله وسلامه عليه- قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (الأحزاب: 7). وفي قوله

تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} (الشورى: 13). الفرق بين النبي والرسول: لقد ذكر العلماء فروقًا بين النبي والرسول، وأحسنها أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي ورسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس برسول، فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل، فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها. ويرى شيخ الإسلام في كتاب (النبوات): أن النبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه} (الحج: 52) وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فذكر إرسالًا يعم النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح عليه السلام. وقد ثبت في (الصحيح) أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وكان قبله أنبياء كشيت وإدريس -عليهما السلام- وقبلهما آدم كان نبيًّا مكلمًا، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم، كما

يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول. وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحَى إلى أحدهم بوحي خاص في قصة معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن، كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود. فالأنبياء ينبئهم الله، فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره، وهم ينبئون المؤمنين به ما أنبأهم الله، إذن الأنبياء ينبئهم الله تعالى، فيخبرهم بأمره ونهيه، وهم بالتالي ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله. إرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه: إن إرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه خصوصًا سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين} (آل عمران: 164) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء: 107). خاتم الأنبياء: قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين} (الأحزاب: 40) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: ((إن مَثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنَى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنةٍ من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هَلَّا وضعتَ هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنةُ، وأنا خاتم النبيين)) أخرجه البخاري ومسلم. ولما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، عُلِمَ أن مَن ادعى بعده النبوة فهو كاذب، ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة، كيف يُقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يُتصور أن يوجد، وهو من باب فَرْض المحال؛ لأن

الإيمان بالملائكة والكتب السماوية

الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين؛ فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة، ولا تظهر أمارة كذبه في دعواه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى وبالنور والضياء. أما كونه مبعوثًا إلى عامة الجن، فقد قال تعالى حكايةً عن قول الجن: {يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (الأحقاف: 31) إلى آخر الآية، وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضًا. وأما كونه مبعوثًا إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً ا} (سبأ: 28) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً ا} (الأعراف: 158). فكون النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوثًا إلى الناس كافةً معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وأما قول بعض النصارى إنه رسول إلى العرب خاصةً، فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال: إنه رسول الله إلى الناس عامةً، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتمًا، فقد أرسل رسله وبث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس، وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام. الإيمان بالملائكة والكتب السماوية الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة على المرسلين: هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه} (البقرة: 285) وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين} (البقرة: 177) فجعل الله -سبحانه وتعالى- الإيمان هو

الإيمان بهذه الجملة، وسمَّى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين مَن كفَرَ بهذه الجملة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدً ا} (النساء: 136). وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته، حديث جبريل وسؤاله للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) رواه مسلم. الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين: قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار: 10: 12) وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:17، 18) وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} (الرعد: 111) وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون} (الزخرف: 80) وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} (الجاثية: 59). وفي (زاد المسير) لابن الجوزي يقول: وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، تَستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا ما يعملونه. قال: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل، قال الفَرَّاء: يرفع الملكان العمل كله، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو. وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحفَظَة، ويثبت عند الله -عز وجل-. انتهى كلام ابن الجوزي في (زاد المسير). وقال تعالى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُون} (يونس: 21) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-

قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) أخرجه البخاري، ومسلم. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والتعري! فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم)) أخرجه الترمذي وقال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. جاء في (التفسير): اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، ومَلَكان آخران يحفظانه ويحرسانِه، واحد من ورائه، وواحد من أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل، حافظان وكاتبان. وقال عكرمة، عن ابن عباس: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 11) قال: "ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلو عنه". أخرجه الطبري. وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسولَ الله؟ قال: وإياي، ولكن أعانني الله عليه فأسلَمَ، فلا يأمرني إلا بخير)) أخرجه مسلم، وأحمد. ومعنى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قيل: حفظهم له من أمر الله؛ أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لذلك قراءة من قرأ: "يحفظونه بأمر الله" رواه الطبري وفي (زاد المسير): هو قول الحسن ومجاهد وعكرمة، قال اللغويون: والباء تقوم من،

وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون} (الانفطار: 12). ويشهد لذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله -عز وجل-: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئةً، وإذا هَمَّ عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنةً، فإن عملها فاكتبوها عشرًا)) أخرجه مسلم، والبخاري. الإيمان بملك الموت: ملك الموت هو الملك الموكل بقبض أرواح العالمين، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} (السجدة: 11) ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: 61) وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر: 42) لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، ويتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه. أصناف الملائكة وتنوع أعمالهم التي كلفوا بها: لقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما

يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغرامها وعمل آلاتها ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم ما جاء في قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (المرسلات: 1) {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْم ُلْقِيَاتِ ذِكْرً ا} (المرسلات: 3 - 5). في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} قال: الملائكة. قال: وروي عن مسروق وأبي الضحاك ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس مثل ذلك، وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، وفي رواية عنه: هي الملائكة، وهكذا قال أبو صالح في: العاصفات والناشرات والملقيات: إنها الملائكة. قال الثوري: عن سلمة بن كهيث عن مسلم البطين عن أبي العبيدين قال: سألت ابن مسعود عن "المرسلات عرفًا" قال: الريح، وكذا قال في "العاصفات عصفًا" و"الناشرات نشرًا": إنها الريح. وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية عنهم. وتوقف ابن جرير في "المرسلات عرفًا" هل هي الملائكة أرسلت بالعرف أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضًا، أو هي الريح إذا هبت شيئًا فشيئًا، وقطع بأن العاصفات عصفًا هي الرياح كما قاله ابن مسعود ومن تابعه، وممن قال ذلك في العاصفات أيضًا علي بن أبي طالب والسدي، وتوقف في "الناشرات نشرًا" هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم. وعن أبي صالح أن "الناشرات نشرًا" هي المطر، والأظهر أن المرسلات هي

الرياح، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه} (الأعراف: 57)، وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال: عصفت الريح إذا هبت بتصويت يعني بحدوث صوت، وكذا الناشرات هي الرياح التي تنشر السحب في آفاق السماء كما يشاء الرب -عز وجل-. وقوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرً ا} (المرسلات: 5، 6) يعني: الملائكة، قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري، ولا خلاف ها هنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل والهدى والغي والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيًا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره، انتهى. والملائكة منهم "النازعات غرقًا" و"الناشطات نشطًا والسابحات سبحًا والسابقات سبقًا" ومنهم "الصافات صفًا فالزاجرات زجرًا فالتاليات ذكرًا" ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله الفرق والطوائف والجماعات التي مفردها فرقة وطائفة وجماعة. ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله- تبارك وتعالى-. نأتي إلى نقطة أخرى وهي أن الملك رسول منفذ لأمر ربه: لفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره، قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 27، 28) وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (النحل: 50) فهم عباد له مكرمون منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على

عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون. رؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، الموكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر المطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. آيات كثيرة وردت في ذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم: القرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم والتقرب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص، قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} (آل عمران: 18) إلى آخر الآية، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الأحزاب: 43) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُو ا} (غافر: 7) وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (الزمر: 75) وغير ذلك من الآيات. الإيمان بما سمى الله من الكتب المنزلة: هناك كتب سماها الله تعالى في كتابه: القرآن، التوارة، الإنجيل، الزبور، فنحن نؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، ونؤمن أيضًا بأن لله سوى ذلك كتبًا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله.

وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَ ا} إلى قوله {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} (البقرة: 136). وقال تعالى: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} (آل عمران: 1، 2) إلى قوله {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 4) وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (البقرة: 285) إلى آخر الآية، وآيات كثيرة، كل هذا يدل على أن الإيمان بالملائكة أمر واجب، ومن ذلك قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) أي على دين واحد، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 41، 42). وأمثال ذلك من الآيات كثيرة في القرآن، تدل على الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة على الرسل. هذا والله أعلم.

الدرس: 11 بيان فساد عقائد المشركين والمنافقين ومذاهبهم.

الدرس: 11 بيان فساد عقائد المشركين والمنافقين ومذاهبهم.

إظهار فساد عقائد المشركين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (بيان فساد عقائد المشركين والمنافقين ومذاهبهم) إظهار فساد عقائد المشركين الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأولًا: إظهار فساد عقائد المشركين: المشركون أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة، فنهاهم الله عن ذلك، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22). عن ابن عباس قال: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفاة سوداء، في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان". وفي الحديث: ((نعم القوم أنتم لولا أنكم تُنَدِّدون -أي: تجعلون لله أندادًا- تقولون: ما شاء الله وشاء فلان)) بإسناد حسن. عن الحارث الأشعري أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- أمر يحيى بن زكريا -عليه السلام- بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن؛ أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبدًا مِن خالص ماله بورق -يعني بفضة- أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يَسُره أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا ... )) إلى آخر الحديث. - المشركون لا يمتثلون لأوامر الله: المشركون لم يوحدوا الله -سبحانه وتعالى- في العبادة، فهذا هو ملك بابل نمروذ بن كنعان طلب من إبراهيم -عليه السلام- دليلًا على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} عندئذ قال النمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} بمعنى

أن أوتي بالرجلين استحقا القتل، فآمر بقتل أحدهما فيُقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة. والظاهر -والله أعلم- أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم، ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38). ولهذا قال له إبراهيم -عليه السلام- لما ادعى هذه المكابرة: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت أنك تحيي وتميت فأت بها من المغرب، فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بُهت، وأصبح لا يستطيع أن يتكلم وقامت عليه الحجة، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا، بل حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. بيّن الله هذا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258). المشرك إن مات على شركه لا يغفر الله له. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48).

وعن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضًا، حتى يدين -أي: يقتص- أو يجازي لبعضهم من بعض)) - الشرك بالله دليل ضعف عقول المشركين: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف: 189، 190). يخبر الله تعالى أنه خلق جميع الناس من آدم -عليه السلام- وأنه خلق منه زوجه حواء، وجعل منها زوجها ليألفها ويسكن بها، فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين، ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه. يخبر الله -سبحانه وتعالى- أن ذلك الرجل لما وطئ زوجته وجامعها حملت حملًا خفيفًا، وذلك أول الحمل، لا تشعر المرأة بثقل الحمل في بدايته، فالمرأة لا تجد له ألمًا لأن ما حملته النطفة، النطفة يعني قليلة، ثم العلقة ثم المضغة. {فَمَرَّتْ بِهِ} أي: استمرت به، أي: استمرت بالحمل. فلما صارت ذات ثقل، يعني: أصبح الحمل ثقيلًا دعوا الله ربهما لئن آتيتنا يا رب بشرًا سويًا لنكونن من الشاكرين. {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أنكر

الله سبحانه على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئًا من الأمر ولا تضر ولا تنفع ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منهم -أكمل من الأصنام التي يعبدونها- بسمعهم وبصرهم وبطشهم. ولهذا قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الأعراف: 191) أي: أتشركون به مِن المعبودات -التي هي الأصنام- ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 73، 74). معنى هذا: أن الله أخبر أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو أَخذت الذبابة شيئًا من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمَن هذه صفته وحاله كيف يُعبد ليرزق ويستنصر؛ ولهذا قال تعالى: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: 20) أي: بل هم مخلوقون مصنوعون، كما قال الخليل -عليه السلام- لقومه: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: 95). ثم قال تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي: لعابديهم. {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 192) يعني: ولا الأصنام تستطيع أن تنصر نفسها ممن أرادهم بسوء، يعني: إذا جاء واحد يكسر هذه الأصنام لا يستطيعون أن يمنعوه ولا أن يصدوه، كما كان الخليل -عليه الصلاة والسلام- يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِين ِ} (الصافات: 93). وقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون} (الأنبياء: 58).

وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فكانا يَعْدُوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبًا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك. فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدًا في قومه- له صنم يعبده ويُطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صُنع به فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفًا ويقول له: انتصر، ثم يعودان إلى مثل ذلك، ويعودان إلى صنيعه أيضًا، حتى أخذاه مرة فقَرَناه -يعني: وضعاه- مع كلب ميت، ودلَّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، ثم أسلم فحسن إسلامه وقُتل يوم أُحد شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه. قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ} (الأعراف: 193) يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء عندها أو لديها من دعاها ومن دحاها. كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42) ثم ذكر تعالى أن الأصنام عبيد مثل عابديها، أي: مخلوقات مثلهم، بل الناس أكمل منها؛ لأن الناس يسمعون، الناس يبصرون، يبطشون، يدافعون عن أنفسهم إذا تعرضوا للأذى، وتلك لا تفعل شيئًا من ذلك. وقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} (الأعراف: 195) استنصِروا بهؤلاء الشركاء عليَّ فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم. {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 196) أي: الله حسبي وكافي هو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود -عليه السلام- لما قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: 54 - 56).

بطلان عقيدة تعدد الآلهة، وإنكار المشركين للبعث.

وكقول الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء: 75 - 78). وكقول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف: 26 - 28). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} (الأعراف: 197) مؤكِّد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذلك بصيغة الغيبة. ولهذا قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 197). وقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الأعراف: 198) كقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} (فاطر: 14). وقوله: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} أي: تراهم يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد، ولهذا عامَلهم معاملة مَن يعقل؛ لأنها على صور كالإنسان، كما قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فعبر عن الأصنام بضمير من يعقل. بطلان عقيدة تعدد الآلهة، وإنكار المشركين للبعث إنكار الإسلام لتعدد الآلهة: لقد نعى القرآن الكريم كثيرًا على من عدد الإله، فاتخذ إلهين اثنين أو اتخذ التثليث أو عبد شيئًا من الخلق، كالشمس والقمر والأصنام، وحَرَّك عقول المعددين للإله إلى النظر فيما يوجب وحده المعبود وحدة تامة كاملة، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (الإسراء: 42)، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} (الأنبياء: 22)،

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 91، 92). وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه ِ} (آل عمران: 64)، وقال تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} (الأنعام: 79). إنكار المشركين للبعث: قال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} (الإسراء: 49 - 51). {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} أي: يحركونها استهزاء {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 51، 52). هكذا حال المشركين، ولقد أخبر الله عنهم في موضع آخر: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات: 10 - 12). وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78، 79).

فساد عقيدة المنافقين والكافرين، ومذاهبهم في التحليل والتحريم.

فساد عقيدة المنافقين والكافرين، ومذاهبهم في التحليل والتحريم - فساد عقيدة المنافقين: النفاق ظهر في المدينة وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر؛ حيث إن الإسلام في مكة لم تكن له دولة، ولم تكن له قوة، بل لم تكن له عصبية يخشاها على أهل مكة فينافقونها، على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدًا، وكانت الدعوة مطارَدة، وفي المدينة أصبح للإسلام قوة يَحْسِب حسابها كل أحد، ولذلك وُجد النفاق في المدينة. تحدثت الآيات عن فساد عقيدة المنافقين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 8 - 14). وقال تعالى موضحًا فساد عقيدتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النساء: 61 - 63).

- التهكم بالمشركين: قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 138)، بيان سبب هذا العذاب للمنافقين بينه الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء: 139). إن أول مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسًا يسمع فيه آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى، يُسمى ذلك تسامحًا أو نسميه دهاءً، أو نسميه سعة صدر وأفق وإيمانًا بحرية الرأي، لا شك أن هذا نفاق، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140). المنافقون يمسكون العصا من النصف، يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكافرين بوجه، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141). ويرسم القرآن صورة زَرِية ومحتقرة للمنافقين بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (النساء: 143،142). إن الله يتوعد المنافقين بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء: 145).

- بيان مذاهب المشركين والمنافقين في التحليل والتحريم: قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 143، 144). وهذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حرموا من الأنعام، وجعلوها أجزاء وأنواعًا: بحيرة، سائبة، وصيلة، حام، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبيّن أنه تعالى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، ثم بيّن أصناف الأنعام إلى غنم، وهو بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز، ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك، وأنه تعالى لم يحرم شيئًا من ذلك ولا شيئًا من أولادها، بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلًا وركوبًا وحمولة وحلبًا، وغير ذلك من وجوه المنافع. كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (الزمر: 6). وقوله تعالى: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} رد عليهم في قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} (الأنعام: 139). وقوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: أخبروني عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ}

فهذه أربعة أزواج {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} يقول: لَم أحرم شيئًا من ذلك. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} يعني: هل يشتمل الرحم إلا على ذكر وأنثى، فلِمَ تحرمون بعضًا وتحلون بعضًا، {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يقول تعالى: كله حلال. وقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: لا أحد أظلم منه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي؛ لأنه أول من غيّر دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب ووصل الواصلة وحمى الحامي. هذا، والله أعلم.

الدرس: 12 بيان عناد اليهود والنصارى وضلالهم، والرد عليهم.

الدرس: 12 بيان عناد اليهود والنصارى وضلالهم، والرد عليهم.

مظاهر انحراف وتحلل اليهود عن منهج الله سبحانه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (بيان عناد اليهود والنصارى وضلالهم، والرد عليهم) مظاهر انحراف وتحلل اليهود عن منهج الله سبحانه الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: انحراف اليهود عن منهج الله: قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (البقرة: 58، 59). تذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها، ويُخرجوا منها العمالقة التي كانوا يسكنونها، ولكنهم أَبَوا دخول هذه القرية، ومن ثم كَتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون ففتح المدينة ودخلها، ولكنهم بدلًا من أن يدخلوها سُجدًا كما أمرهم الله؛ علامة على التواضع والخشوع، ويقولوا حطة، أي: حُط عنا ذنوبنا واغفر لنا، بدلًا من أن يفعلوا ذلك دخلوها على غير الهيئة التي أُمروا بها، وقالوا قولًا آخر غير الذي أمروا به. قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} عندئذ استحقوا عذاب الله بسبب مخالفتهم وخروجهم عن منهج الله. قال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. عبادة بني إسرائيل للعجل: وهذا يدل على ضلالهم وعنادهم، لقد عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى -عليه السلام، عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} (البقرة: 51). ومع هذا فقد عفا الله

عنهم، وأتى نبيهم الكتاب وهو التوراة، فيه فرقان بين الحق والباطل، عسى أن يهتدوا إلى الحق البيِّن بعد الضلال. قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: 53). اليهود هم اليهود في عنادهم وضلالهم: لقد عفا الله عن اليهود بعد عبادتهم للعجل، ولكن اليهود هم اليهود، كثافة حس، ومادية فكر، واحتجابًا عن مسارب الغيب، فإذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة، والذي طلب هذا هم السبعون المختارون منهم، الذين اختارهم موسى لميقات ربه، يرفضون الإيمان لموسى إلا أن يروا الله عيانًا، والقرآن يواجههم هنا بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم، لينكشف تعنتهم القديم الذي يشابه تعنتهم الجديد مع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم، وطلبهم الخوارق منه، وتحريضهم بعض المؤمنين على طلب الخوارق للتثبت من صدقه، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة: 55). مظاهر التحلل من العهد عند يهود: قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة: 65). لقد فصل القرآن الكريم حكاية اعتدائهم في السبت. قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 163). لقد طلب اليهود أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدسًا لا يعملون فيه للمعاش، ثم ابتلاهم بعد ذلك بالحيتان تكثر يوم السبت وتختفي في غيره، وكان ابتلاءً لم تصمد له يهود، وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع، أتتركه وفاءً بعهد واستمساكًا بميثاق، إن هذا ليس من طبع يهود.

ومن ثم اعتدوا على طريقتهم الملتوية، راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت، ويقطعونها عن البحر بحاجز ولا يصيدونها، حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز، فقال الله تعالى لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. تعمد التحريف في كتاب الله: قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75)، تنبه الآية الكريمة المؤمنين الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان، وأن يفيضوا عليها النور، تنبه الآية المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة وبالقنوط من الطمع. والفريق المشار إليه هنا هم أعلم يهود، وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم، هؤلاء هم الأحبار والربانيون، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى -عليه السلام- في التوراة، ثم يحرفونه عن مواضعه، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته، لا عن جهل بحقيقة مواضعه ولكن عن تعمد للتحريف، وعِلْم بهذا التحريف، يدفعهم الهوى، وتقودهم المصلحة، ويحدوهم الغرض المريض، فمن باب أولى ينحرفون عن الحق، الذي جاء به سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى -عليه السلام. الرياء والنفاق والخداع والمراوغة: قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14)، لقد كان بعض اليهود إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، أي: آمنا بأن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مرسَل بحكم ما عندهم في التوراة مِن البشارة

به، وبحكم أنهم كانوا ينتظرون بعثته، ويطلبون أن ينصرهم الله به على من عاداهم. وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 89) إلى آخر الآية، ولكن إذا خلا بعضهم إلى بعض عاتبوهم على ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومِن معرفتهم بحقيقة بعثته -صلى الله عليه وسلم- مِن كتابهم. فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم، فتكون لهم الحجة عليكم، وهنا تدركهم ضيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه، فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين، أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة، وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 76)، ومن ثم يعجب السياق من تصورهم هذا. قال تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (البقرة: 77). زعم اليهود بأن المؤمنين بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس لهم في الآخرة نصيب، والرد عليهم: قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 94 - 96). هذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا نصيب لهم في الآخرة، والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسوله ووعود القرآن الكريم، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو اليهود إلى مباهلة؛ بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

ويعقب الله على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا المباهلة، ولن يطلبوا الموت؛ لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم، وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيبًا في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه. ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدي، فهم أحرص الناس على حياة، وهم والمشركون في هذا سواء، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}. (البقرة: 95، 96). حماقة من حماقات اليهود المضحكة: قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 97، 98). لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، مبلغًا يتجاوز كل حد، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل. لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- ولما كان عداؤهم لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ مرتبة الحقد والحنق، فقد لَجَّ بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة، فيزعموا أن جبريل عدوهم؛ لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان والتصديق بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من جراء صاحبه جبريل، ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا؛ فميكائيل ينزل بالرخاء والمطر والخصب. ولقد رد القرآن عليهم بأن من عادى أحدًا منهم فقد عاداهم جميعًا، وعادى الله

دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة.

سبحانه، فعاداه الله، فهو من الكافرين، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}. احتيال اليهود على سب النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 104). تذكر الروايات أن السبب في النهي عن كلمة {رَاعِنَا}؛ أن سفهاء اليهود كانوا يُمِيلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ، وهم يوجهونه للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يؤدي معنى آخر مشتقًا من الرعونة، فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي -صلى الله عليه وسلم- مواجهة، فيحتالون على سبه -صلوات الله وسلامه عليه- عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء، ومن ثم جاء النهي للمؤمنين من اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأُمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته؛ كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه. دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111، 112). يَدَّعي اليهود والنصارى أنهم هم المقصودون وحدهم، وأن الجنة وَقْفٌ عليهم لا يدخلها سواهم، هذه القولة كتلك، لا تستند إلى دليل سوى الادعاء العريض بأنهم هم الذين يدخلون الجنة؛ لأنهم يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا

أو نصارى، هذه مجرد أمنية لهم، ومن ثم يُلقن الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يجيبهم وأن يَجْبَههم بالتحدي، وأن يطالبهم بالدليل، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. فالجزاء من جنس العمل، بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 112). زعم اليهود بأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات، والرد عليهم: اليهود يحسبون أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات، يخرجون بعدها إلى النعيم. قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (البقرة: 80). علام يعتمدون في ذلك؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون، وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات. حينما قالوا ذلك لقن الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- الحجة الدامغة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} (البقرة: 80) فأين هو ذلك العهد، هل أعطى لكم الله عهدًا على أن النار لن تمسكم في الآخرة إلا أيامًا معدودة، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟!. هذا هو الواقع، هم يقولون كلامًا عن الله لا يعلمونه، ولذلك الاستفهام في قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80) هو للتقرير، تقرير الواقع، أي: هم يقولون على الله ما لا يعلمون، ولكنه في صورة الاستفهام، يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ. قال الله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80). هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه

الدعوى في قول الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81، 82). ليست العملية أُمنية كما قال اليهود، لكن الحكم يوم القيامة يكون على العمل. تكذيب اليهود والنصارى فيما يَدَّعون: قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (البقرة: 135). قالت اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، فرد الله عليهم أن يرجعوا إلى ملة إبراهيم أبينا وأبيكم، وأصل ملة الإسلام إبراهيم -عليه السلام- وما كان من المشركين، بينما أنتم مشركون. قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67). سوء أدب اليهود في حق الله، وهذا من ادعائهم الباطل وعنادهم: قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران: 181، 182). عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ... } (البقرة: 245) الآية، قال اليهود: يا محمد افتقرَ ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: 64). غلو النصارى في عيسى -عليه السلام-: قال تعالى: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (النساء: 171). الله -سبحانه وتعالى- ينهى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى -عليه السلام- حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادَّعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقًّا أو باطلًا أو ضلالًا أو رشادًا أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31). لكن الله -سبحانه وتعالى- هو المعبود، وهو لم يَتخذ صاحبة ولا ولدًا، وليس المسيح ولدًا له، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 حديث القرآن الكريم عن السحر.

الدرس: 13 حديث القرآن الكريم عن السحر.

معنى السحر، وحقيقته، وضروبه عند المعتزلة، وحكم تعلمه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (حديث القرآن الكريم عن السحر) معنى السحر، وحقيقته، وضروبه عند المعتزلة، وحكم تعلمه الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: أولًا: معنى السحر: السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه ودق. قال الأزهري: "وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أرى للناس الباطل في صورة الحق، وخيل للناس الشيء على غير حقيقته، وقد سحر الشيء عن وجهه، أي: صرفه". وقال الجوهري: "كل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وسحره أيضًا بمعنى خدعه". وقال القرطبي: "السحر أصله التمويه بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي أو من سحرتَ الصبي إذا خدعته". وقال الألوسي: "السحر في الأصل مصدر سحّر يسحر بفتح العين فيهما، إذا أبدى ما يدق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق". - هل للسحر حقيقة وتأثير في الواقع؟ اختلف العلماء في أمر السحر: هل له حقيقة أم شعوذة وتخييل؟ ذهب جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير.

وذهب المعتزلة وبعض أهل السنة إلى أن السحر ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو خداع وتمويه وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة وأنه عندهم على ضروب. - ضروب السحر عند المعتزلة: أولًا: التخييل والخداع، وذلك كما يفعله بعض المشعوذين حيث يريك أنه ذبح عصفورًا، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار، وذلك لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر. قالوا: وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد كانت العصي مجوفة قد ملئت زئبقًا، وقد حفروا تحت المواضع أسرابًا وملئوها نارًا، فلما طرحت عليها الحبال والعصي وحمى الزئبق تحركت الحبال والعصي؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدد، فتخيل الناس أن هذه الحبال والعصي حيات تتحرك وتسير. من ضروب السحر عند المعتزلة: الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ، وذلك كما يفعله بعض العرافين والكهان، حيث يوكلون أناسًا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، ويزعمون أنها من حديث الجن والشيطان لهم، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرقى والعزائم، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات، فيصدقهم الناس، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أَعَدّوهم لذلك. قال الجصاص في كتابه (أحكام القرآن): "كانت أكثر مخاريق الحلاج بالمواطأة، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزًا ولحمًا وفاكهة في مواضع يعينها لهم، ثم

يمشي مع أصحابه في البرية في الصحراء، ثم يأمرهم بحفر هذه المواضع فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدونها من الكرامات". (روائع البيان في آيات الأحكام) للصابوني في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} (البقرة: 102) إلى آخر الآية. النوع الثالث: من ضروب السحر عند المعتزلة، ضرب آخر من السحر عن طريق النميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيفة لطيفة، وذلك أمر عام شائع في كثير من الناس. وقد حكي أن امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها: إن زوجك معرض عنك وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك ولا يريد سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعرٍ حلَقه بالموس ثلاث شعرات إذا نام، وتعطينها إياي حتى يتم سحره، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها. ثم ذهبت إلى الرجل وقالت له: إن امرأتك قد أحبت رجلًا وقد عزمت على أن تذبحك بالموس، وقد أشفقتُ عليك، ولزمني نصحك فتيقظ لها هذه الليلة، وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته، فجاءت زوجته بالموس، ليحلق بعض شعرات من حلقه، ففتح الرجل عينيه فرآها وقد أهوت بالموس إلى حلقه، فلم يشك في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة. رابعًا: من ضروب السحر عند المعتزلة: الاحتيال، وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء، كإطعامه دماغ الحمار الذي إذا أطعمه إنسان تبلد عقله وقلت فطنته،

مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب، فإذا أكله الإنسان تصرف تصرفًا غير سليم، فيقول الناس: به مس أو إنه مسحور. قال أبو بكر الجصاص -وحكمة كافية تبين لك أن هذا كله مخاريق وحيل-: "لا حقيقة لما يَدَّعون لها أن الساحر والمعزي لو قدر على ما يدعي به من النفع والضرر، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية والخبيئات والسرق، والإضرار بالناس، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا ينالهم مكروه، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس، فإن لم يكن كذلك، وكان المُدّعون لذلك أسوأ الناس أحوالًا، وأكثرهم طمعًا واحتيالًا، وتوصلًا لأخذ دراهم الناس، وأظهرهم فقرًا وإملاقًا، علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك". المعتزلة لهم أدلة على كلامهم: استدل المعتزلة على أن السحر ليس بحقيقة بعدة أدلة؛ من أهمها: أ- قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} (الأعراف: 116). وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66). فالآية الأولى تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب، والثانية أن هذا السحر كان تخييلًا لا حقيقة. وقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69). فهذا يثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه. وقالوا: لو قدر الساحر أن يمشي على الماء أو يطير في الهواء أو يقلب التراب إلى ذَهب على الحقيقة، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء، والتبس الحق بالباطل، فلم ي عد يُعرف النبي من الساحر؛ لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأنه جميعه من نوع واحد.

أدلة الجمهور: استدل الجمهور من العلماء على أن السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة؛ من أهمها: أ- قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 116). وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البقرة: 102). وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102). وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (الفلق: 4). فالآية الأولى دلت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقيًا، حيث أمكنهم بواسطته أن يفرقوا بين الرجل وزوجه، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين، فدلت على أثره وحقيقته. والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر، لكنه متعلق بمشيئة الله. والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر، حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شر السحرة الذين ينفثون في العقد. واستدلوا بما روي أن يهوديًّا سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: ((إن رجلًا من اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل -صلى الله عليه وسلم- فاستخرجها فحلها، فقام كأنما نشط من عقال)). رواه النسائي عن زيد بن أرقم، وفي الصحيحين عن عائشة: "أن الذي سحره من اليهود يسمى لبيد بن الأعصم". يقول الصابوني: "مِن استعراض الأدلة نرى أن ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلًا؛ فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس، فإن إحداث التنافر بين الزوجين، والتفريق بين المرء وأهله، الذي أثبته القرآن الكريم، ليس إلا أثرًا من آثار السحر، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شر النفاثات في

العقد، ولكن كثيرًا ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية، فالسحر له أثره وضرره، ولكن أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلا بإذن الله، فهو سبب من الأسباب الظاهرة التي تتوقف على مشيئة مسبب الأسباب رب العالمين جل وعلا. وأما استدلالهم بأنه يلتبس الأمر بين المعجزة والسحر إذا أثبتنا للسحر حقيقة، فنقول: إن الفرق بينهما واضح، فإن معجزات الأنبياء -عليهم السلام- هي على حقائقها، وظاهرها كباطنها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، وأما السحر فظاهره غير باطنه، وصورته غير حقيقته، يُعرف ذلك بالتأمل والبحث، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم، مع إثبات أن ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل. قال العلامة القرطبي: "لا ينكر أحد أن يظهر على يد الساحر خرقًا للعادات، بما ليس في مقدور البشر، من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو، إلى غير ذلك، مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر. قال: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يلج في الكوات والكوخات، والانتصاب على رأس قصبته، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السحر موجبًا لذلك ولا علة لوقوعه، ولا سببًا مولدًا ولا يكون الساحر مستقلًا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء. ثم قال: قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده، من إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق

العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل -عليهم السلام- فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله عند إرادة الساحر". وقال أبو حيان: "واختلف في حقيقة السحر على أقوال: الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات، كالطيران وقطع المسافات في ليلة. الثاني: أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها، وهو قول المعتزلة. الثالث: أنه أمر بأخذ العين على جهة الحيلة، كما كان فعل سحرة فرعون، حيث كانت حبالهم وعصيهم مملوءة زئبقًا، فجروا تحتها نارًا فحميت الحبال والعصي فتحركت وشقت. الرابع: أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي. الخامس: أنه مركب من أجسام تُجمع وتُحرق، ويُتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل في أمور السحر. السادس: أن أصله طلسمات تُبنى على تأثير خصائص الكوكب، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر. السابع: أنه مركب من كلمات ممزوجة بالكفر، وقد ضم إليها أنواع من الشعوذة والنارنجينات والعزائم، وما يجري مجرى ذلك. ثم قال: وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء، ولا يترتب علي شيء ولا يصح منه شيء ألبتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها.

اليهود والسحر.

هل يباح تعلم السحر وتعليمه؟ ذهب بعض العلماء إلى أن تعلم السحر مباح؛ بدليل تعليم الملائكة السحر للناس، كما حكاه القرآن الكريم عنهم، وذهب الجمهور إلى حرمة تعلم السحر أو تعليمه؛ لأن القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذم، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالًا. كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عده من الكبائر الموبقات، كما في الحديث الصحيح وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) الحديث من رواية البخاري ومسلم. اليهود والسحر قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 101 - 103).

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية. قاله أبو العالية. والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد، يزعم أن ابن داود كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا، فنزلت هذه الآية". قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 102) ذكره ابن إسحاق. يخبر المولى -جل ثناؤه- أن أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه، الذي أنزل على عبده ورسوله موسى -عليه السلام- وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن، مع أن الرسول جاء مصدقًا لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي والإفساد والعناد. والتعبير بالنبذ وراء الظهور فيه زيادة وتشنيع وتقبيح على اليهود؛ حيث تركوا العمل بكتاب الله، وأعرضوا عنه بالكلية، شأن المستخف بالشيء المستهزئ به، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة. يقول سيد قطب -رحمه الله- في (ظلال القرآن): "والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والمقصود طبعًا أنهم جحدوه وتركوا العمل به، ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس، ويمثل عملهم بحركة مادية يتخيله بصورة مادية متخيلة، تُصور هذا التصرف تصويرًا بشعًا زريًا ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة ويفيض بسوء الأدب والقُحة، ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور".

لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- واتبعوا طرق السحر والشعوذة، التي كانت تحدثهم بها الشياطين في عهد مُلك سليمان، وما كان سليمان -عليه السلام- ساحرًا ولا كفر بتعلمه السحر، ولكن الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس، وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعلموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس، والسحر لم يُعرف إلا عند اليهود، فتاريخه مشتهر بظهورهم، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر والشعوذة والتضليل. وهذا يدل على أن اليهود أصل كل شر ومصدر كل فتنة، وقد صور القرآن الكريم نفسية اليهود بهذا التصوير الدقيق في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: 64). ووجه المقارنة بين ذكر الشياطين والسحر في الآية الكريمة هو أن السحر فيه استعانة بأرواح خبيثة شريرة من الجن والشياطين، تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يُصَدِّقون فيما يزعمون، ويلجئون إليهم عند الكرب، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (الجن: 6)، ولهذا اشتهر السحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة. أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود، فأخذها وقذفها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام الشيطانبالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع. قالوا: نعم،

فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم، فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر". أخرجه الحاكم وصححه، وذكره الطبري عن السدي. ولقد عبر القرآن الكريم عن السحر بالكفر فقال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وسياق اللفظ يدل على أن المراد منه السحر، أي: وما سَحر سليمان، وإنما عبر عنه بالكفر تقبيحًا وتشنيعًا، كما قال تعالى فيمن ترك الحج مع القدرة عليه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97). وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله، وقد دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. وكما اتبع رؤساء اليهود السحر والشعوذة كذلك اتبعوا ما أنزل على الرجلين الصالحين، أو الملكين هاروت وماروت بمملكة بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس، وما يُعلِّمان السحر من أجل السحر، وإنما من أجل إبطاله؛ ليظهر للناس الفرق بين المعجزة والسحر، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورًا غريبة وقع بسببها الشك في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر؛ حتى يزيلا التشبيه للمعجزة ويميطا الأذى عن الطريق، ومع ذلك فقد كانا يحذران الناس من تعلم السحر، واستخدامه في الأذى والضرر. فمن تعلمه ليتوقى ضرره ويدفع أذاه عن الناس، فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلمه معتقدًا صحته ليلحق الأذى بالناس فقد ضل وكفر، فكان الناس فريقين؛ فريق تعلمه عن نية صالحة ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلمه عن نية خبيثة؛ ليفرق بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم؛ لأنهم عرفوا أن من

تجرد لهذه الأمور المؤذية ما له في الآخرة من نصيب، ولبئس ما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فَهم وإدراك. ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عذابه لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل مما شغلوا به أنفسهم من هذه الأمور الضارة، التي لا تعود عليهم إلا بالويل والخسار والدمار. وهكذا علّم الملكان الناس السحر ليفرقوا بين المعجزة والسحر، وهذا ما فهمه سحرة فرعون، وآمنوا برب العالمين، رب موسى وهارونـ، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 104 - 126).

إن آيتي موسى -عليه السلام- العصى واليد ليستا من السحر المعروف، الذي كان منتشرًا في ذلك الوقت في مصر، إنما هما آيتان تدلان على صدق موسى بأنه رسول من عند الله. يقول تعالى في سورة "طه": {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 57 - 73). ولقد أمرنا الله سبحانه بالاستعاذة من شر السواحر الساعيات بالأذى، وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق: 1 - 5). هذا والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 أنواع الأحكام في القرآن، وبيان حكم بعض علل التشريع.

الدرس: 14 أنواع الأحكام في القرآن، وبيان حكم بعض علل التشريع.

أحكام العبادات والمعاملات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (أنواع الأحكام في القرآن، وبيان حِكم بعض علل التشريع) أحكام العبادات والمعاملات الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأولًا: أنواع الأحكام في القرآن الكريم: النوع الأول: أحكام العبادات: مِن طهارة، وصلاة، وصيام، وحج، وزكاة، ونذر، ويمين ... ونحو ذلك مما يُقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه، وقد ورد في القرآن الكريم عن العبادات بأنواعها نحو مائة وأربعين آية. من ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43)، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (البقرة: 83، 84). وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 110). وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 158)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

النوع الثاني من أنواع الأحكام في القرآن الكريم: أحكام المعاملات: مِن عقود، وتصرفات، وعقوبات، وجنايات، وضمانات ... وغيرها، مما يُقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات، وهذه الأحكام تتفرع إلى ما يلي: أ- الأحكام التي تسمى حديثًا بالأحوال الشخصية، وهي أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها، من زواج، وطلاق، ونسب، ونفقة، وميراث، ويُقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض. من ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم} (البقرة: 215). وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ

فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا

لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 221 - 239) إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة: 240 - 241). ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (النساء: 11 - 13).

الأحكام المدنية.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النساء: 176). الأحكام المدنية النوع الثالث من الأحكام: الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم، مِن بيع، وإجارة، ورهن، وكفالة، وشركة، ومداينة، ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية، وحفظ حق المستحق، وقد ورد في المجموعة المدنية في القرآن نحو سبعين آية. من ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 275، 276)، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة: 283). ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ

الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282). ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (النساء: 29، 30). - الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر من المكلف من جرائم، وما يستحقه عليها من عقوبات، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وضبط الأمن، وقد ورد في المجموعة الجنائية في القرآن نحو ثلاثين آية. من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 178، 179).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. إلى أن قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 33 - 39). وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 4، 5). - أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والدعوى، وطرق الإثبات بالشهادة واليمين والقرائن وغيرها، ويُقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة العدالة بين الناس، وقد ورد في القضاء والشهادة، وما يتعلق بها في القرآن نحو عشرين آية؛ من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58). ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135).

- الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وما عليهم من واجبات. ورد في القرآن من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44). وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45). وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة: 47). ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59). - الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة، وتشمل الجهاد والمعاهدات، ويقصد بها تحديد نوع العلاقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدول؛ ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 55 - 62).

بيان حكم بعض علل التشريع في القرآن الكريم.

وأيضًا قوله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 7). وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8، 9). - الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية، والتزامهم في نظام المال، وحقوق الدولة وواجباتها المالية، وتنظيم موارد الخزينة ونفقاتها، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد، وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة؛ كالغنائم والأنفال والعشور، ومنها الجمارك والخراج، أي: ضريبة الأرض، والمعادن الجامدة والسائلة، والموارد الطبيعية المخلوقة، وأموال المجتمع؛ كالزكاة والصدقات والنذور والفرائض، وأموال الأسرة؛ كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد؛ كأرباح التجارة والإجارة والشركات، وكل مرافق الاستغلال المشروعة والإنتاج، والعقوبات المالية؛ كالكفارات والدية والفدية. بيان حِكم بعض علل التشريع في القرآن الكريم أولًا: استحقاق المرأة المطلقة المتعة: ونقصد بالمرأة المطلقة المرأة البائن بينونة صغرى، أو التي لها رجعة، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 236).

حكمة التشريع في أن المطلقة تأخذ نفقة المتعة: شرع الباري -جل وعلا- المتعة للمطلقة، وجعلها على قدر حال الرجل يسارًا وعسارًا، وهذه المتعة واجبة للمطلقات قبل الدخول التي لم يسمى لها مهر، ومستحبة لسائر المطلقات، والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانًا للمرأة، وسوء سمعة لها، وفيه إيهام للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شيء منها، في سلوكها وأخلاقها، فإذا هو متعها متاعًا حسنًا تزول هذه الشكوك، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبله لا مِن قِبلها، ولا علة فيها، فتحفظ بما كان لها من صيت وشهرة، ويتسامع الناس فيقولون: إن فلانًا أعطى فلانة كذا وكذا، فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو معترف بفضلها ومقر بجميلها، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، ويكون أيضًا كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق. وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال، ولهذا أمرنا الله في حالة الطلاق -الذي يسبب في الغالب النزاع والبغضاء- بألا ننسى الجميل والمودة والإحسان. قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة: 237). فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة، فينبغي لمن تزوج من أُسرة ثم طلق ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصِلتهم، فأين نحن المسلمين من هَدي هذا الكتاب المبين، وأين نحن من إرشاداته الحكيمة وآدابه الفاضلة؟!

- تحريم الخمر والميسر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (المائدة: 90 - 92). حكمة التشريع: شدد المولى -جل وعلا- في الآيات الكريمات النكير على أمر الخمر والميسر تشديدًا بالغًا، يصرف النفوس عنهما إلى غير عودة، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وهما من أشنع المنكرات وأقبح الفواحش في نظر الإسلام؛ ليشير إلى ما في الخمر والميسر من ضرر بالغ، وخطورة عظيمة، تهدد الأمة والمجتمع، وتُقَوِّض دعائم الحياة. أما الخمر فإنها تُذهب العقل وتُنهك الصحة وتُضيع المال، ومتى ذهب العقل جاء الإجرام، وكانت العربدة وأفعال الطيش والجنون، وحسب السكران ألا يفرق بين النافع والضار، ولا يميز بين الجواهر والأقذار؛ لفقدان العقل. وأما الميسر والقمار فإنه يُفقد الإنسان الإحساس والشعور حال انشغاله باللعب، حتى لا يبالي بالمال يَخرج من يده إلى غير رجعة؛ طمعًا في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسرًا أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقدًا وغيظًا على من سلبه المال، وربما أداه ذلك إلى قتل مَن كان سببًا في خسارته، أو عَزَم على قتل نفسه بطريق الانتحار.

وكم مِن أُسرة تهدمت، وكم مِن عائلة تشردت بسبب القمار، وأصبحت في ذلك وفاقة، بعد أن كانت في عز ورفاهية، والحوادث التي نسمعها كل يوم، أصدق شاهد على ما يجره القمار من ويلات ونكبات على الأشخاص والأسر، التي بُليت في بعض أفرادها بأناس مقامرين. أيضًا دع ما يتخذه المقامرون من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة، يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم. وصدق الله حيث يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 91). - حد السرقة وقطع الطريق: قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. إلى أن قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 33 - 38). حكمة التشريع: صان الإسلام بتشريعه الخالد كرامة الإنسان، وجعل الاعتداء على النفس أو المال أو العرض جريمة خطيرة، تستوجب أشد أنواع العقوبات. فالبغي في الأرض بالقتل والسلب، والاعتداء على الآمنين، بسرقة الأموال، كل هذه جرائم ينبغي معالجتها بشدة وصرامة، حتى لا يعيث المجرمون في الأرض فسادًا، ولا يكون هناك ما يُخل بأمن الأفراد والمجتمعات.

وقد وضع الإسلام للمحارِب الباغي أنواعًا من العقوبات: القتل، الصلب، تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، النفي من الأرض. كما وضع للسارق عقوبة قطع اليد، وهذه العقوبات تعتبر بحق رادعة زاجرة، تقتلع الشر من جذوره، وتقضي على الجريمة في مهدها، وتجعل الناس في أمن وطمأنينة واستقرار. وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل، وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يحظوا بعطف المجتمع؛ لأنهم مرضى بمرض نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر، يسعى لحياة سعيدة كريمة. إنهم يرحمون المجرم من المجتمع، ولا يرحمون المجتمع من المجرم، هذا المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم، وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهددين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح، ولقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند على عقل ولا منطق سليم، أن أصبح في كثير من البلاد عصابات للقتل وسفك الدماء، وسلب الأموال، وزادت الجرائم واختل الأمن، وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 15 الطهارة والصلاة في القرآن الكريم.

الدرس: 15 الطهارة والصلاة في القرآن الكريم.

الطهارة: أقسامها، حكمها

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الطهارة والصلاة في القرآن الكريم) الطهارة: أقسامها، حكمها الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. ودين الله: عبادته وطاعته والخضوع له، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} (الذاريات: 56). وبهذا أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59). وكذلك قال هود وصالح وشعيب -عليهم السلام- وغيرهم من الأنبياء لأقوامهم، وبما أن المخلوقين كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، فإن عبوديتهم الحقة تستلزم عبادة الله الواحد القهار، قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21).

- الطهارة: معنى الطهارة: الطهارة لغة: النظافة والخلوص من الأوساخ والأدناس الحسية، كالأنجاس من بول وغيره، والمعنوية، يعني الطهارة أيضًا تشمل الخلوص من الأدناس المعنوية، كالعيوب والمعاصي، والتطهير: التنظيف، وهو إثبات النظافة في المحل. والطهارة شرعًا: النظافة عن النجاسة حقيقة كانت وهي الخَبَث، أو حُكمية وهي الحدث، والخبث في الحقيقة: عين مستقذرة شرعًا، والحدث: وصف شرعي يحل في الأعضاء ويزيل الطهارة. وعرف النووي الشافعي الطهارة بأنها: رفع حدث أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما. أنواع الطهارة الحسية: يتبين من تعريف الطهارة أنها نوعان: طهارة حدث وتختص بالبدن، وطهارة خبث وتكون في البدن والثوب والمكان، وطهارة الحدث ثلاث؛ كبرى وهي الغسل، وصغرى وهي الوضوء، وبدل منهما عند تعذرهما وهو التيمم. وطهارة الخبث ثلاث: غُسل، ومسح، ونضح بالماء. والوضوء في اللغة بضم الواو، وهو اسم للفعل، أي: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة، وهو المراد هنا، مأخوذ من الوضاءة والحُسن والنظافة. يقال: وضؤ الرجل، أي: صار وضيئًا. وأما بفتح الواو الوضوء، فيطلق على الماء الذي يُتوضأ به.

والوضوء شرعًا: نظافة مخصوصة أو هو أفعال مخصوصة، مفتتحة بالنية، وهو غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس. وأوضح تعريف للوضوء أنه هو استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة: الوجه، اليدان، الرجلان، ومسح الرأس على صفة مخصوصة في الشرع، وهو مقصود لأداء الصلاة، لكن حكمه الفرضية، فرض؛ لأنه شرط لصحة الصلاة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6). ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، عن أبي هريرة. والحكمة من غَسل هذه الأعضاء هو كثرة تعرضها للأقذار والغبار، والوضوء كما هو شرط لأداء الصلاة، فإنه يطفئ الغضب. روى أحمد في سنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا غضب أحدكم فليتوضأ)). وكذلك الوضوء يمحو السيئات ويرفع الدرجات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)). رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجه أيضًا وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري. الغُسل: الغسل شرعًا: إفاضة الماء الطهور على جميع البدن، على وجه مخصوص. والأصل في مشروعيته قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}. وهو أمر

بتطهير جميع البدن، والقصد منه التنظيف، وتجديد الحيوية وإثارة النشاط؛ لأن عملية الجنابة تؤثر في جميع أجزاء الجسد، فتزال آثارها بالاغتسال. والحكمة في الاغتسال: حِل ما كان ممتنعًا قبله، والثواب بفعله تقربًا إلى الله تعالى. إزالة النجاسة: النجاسة ضد الطهارة، وتنقسم النجاسة إلى قسمين: حقيقية، وحكمية، فالنجاسة الحقيقية هي: مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخِّص، والنجاسة الحقيقية أنواع؛ إما مغلظة أو مخففة، وإما جامدة أو مائعة، وإما مرئية وغير مرئية. وأما حكم إزالة النجاسة غير المعفو عنها، عن الثوب والبدن والمكان للمصلي فواجب؛ لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4). والنجاسة الحكمية هي أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص، ويشمل الحدث الأصغر الذي يزول بالوضوء، والحدث الأكبر الذي يزول بالغُسل. الطهارة القلبية: قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، طهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخُلق والفعل، وكذلك طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يُلم بها أو يمسها. حكمة مشروعية الطهارة: للطهارة أهمية كبرى في الإسلام سواء أكانت حقيقية، وهي طهارة الثوب والبدن ومكان الصلاة من النجاسة، أم طهارة حكمية، وهي طهارة أعضاء الوضوء من

الحدث، وطهارة جميع الأعضاء الظاهرة من الجنابة؛ لأنها شرط دائم لصحة الصلاة التي تتكرر خمس مرات يوميًا، وبما أن الصلاة قيام بين يدي الله تعالى، فأداؤها بالطهارة تعظيم لله، والحدث والجنابة وإن لم يكونا نجاسة مرئية فهي نجاسة معنوية، توجب استقذار ما حل بها، فوجودها يُخل بالتعظيم، وينافي مبدأ النظافة التي تتحقق بالغسل المتكرر، فبالطهارة تطهر الروح والجسد معًا. واهتمام الإسلام بجعل المسلم دائمًا طاهرًا -من الناحيتين المادية والمعنوية- أكمل وأوفى دليل على الحرص الشديد على النقاء والصفاء، فلا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص لله، والنزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله في الكون، فيعبده لذاته مفتقرًا إليه لا لسبب نفعي. فاهتمام الإسلام بجعل المسلم دائمًا طاهرًا -من الناحيتين المادية والمعنوية- أكمل وأوفى دليل على الحرص الشديد على النقاء والصفاء، وعلى أن الإسلام مثل أعلى للزينة والنظافة، والحفاظ على الصحة الخاصة والعامة، وبناء البنية الجسدية في أصح قوام وأجمل مظهر، وأقوى عماد، ولصون البيئة والمجتمع من انتشار المرض والضعف والهزال؛ لأن غسل الأعضاء الظاهرة، المتعرضة للغبار والأتربة والجراثيم، وغسل الجسم في أحيان متكررة عقب كل جنابة، كفيل بحماية الإنسان من أي تلوث، وقد ثبت طبيًا أن أنجع علاج وقائي للأمراض الوبائية وغيرها هو النظافة، والوقاية خير من العلاج. وقد امتدح الله المتطهرين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222). وأثنى سبحانه على مسجد قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 108)، وعلى المسلم أن يكون بين الناس مثالًا متميزًا بارزًا في نظافته، وطهره الظاهر والباطن.

الصلاة، وخطورة التهاون فيها، وحكم تاركها

قال -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من صحبه: ((إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)) رواه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم والبيهقي عن سهل بن الحنظلية، وهو حديث صحيح. الصلاة، وخطورة التهاون فيها، وحكم تاركها - الصلاة: حقيقة الصلاة: الصلاة لغة: الدعاء، أو الدعاء بخير. قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103)، أي: ادع لهم. والصلاة شرعًا: هي أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. مشروعية الصلاة: الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5)، وقوله سبحانه: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 78)، وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103). وأما مشروعية الصلاة بالسنة فأحاديث متعددة؛ منها: حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا)) متفق عليه.

فالصلاة عبادة بدنية، فرضها الله على المسلم في اليوم والليلة خمس مرات، في أوقات محددة يقف فيها مستقبلًا بوجهه أينما كان جهة المسجد الحرام الكائن بمكة. وفرضت الصلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين على المشهور بين أهل السير؛ لحديث أنس قال: ((فُرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلوات ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جُعلت خمسًا، ثم نودي: يا محمد إنه لا يُبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمسة خمسين)) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي. وهي فرض عين على كل مكلف بالغ عاقل، ولكن تؤمر بها الأولاد لسبع سنين، وتضرب عليها لعشر، الضرب يكون باليد لا بخشبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي والدارقطني عن شعيب عن أبيه عن جده. الصلاة أقدم عبادة بدنية عُرفت في الرسالات الإلهية: الصلاة أقدم عبادة عرفت مع الإيمان، ولم تخلُ منها شريعة من الشرائع، وقد حكيت عن الأنبياء والمرسلين، فإبراهيم -عليه السلام- يُسكن ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم ويقول: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37). وتجيء الصلاة في عهد الله إلى إبراهيم وإلى ولده إسماعيل في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125). وتنادي الملائكة أم عيسى -عليه السلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمرن: 42، 43).

وعيسى -عليه السلام- يُحدِّث بنعمة الله عليه فيقول: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 31). وينوه الله بشأن إسماعيل -عليه السلام- فيقول: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 55). ولقمان يعظ ابنه بالإيمان والإحسان إلى الوالدين، وبمراقبة الله في السر والعلن، ثم يوصيه بالصلاة فيقول: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17). ويأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل، فتكون إقامة الصلاة من أهم مواده وعناصره. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83). وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (المائدة: 12). وهكذا نجد مكانة الصلاة عند الله وفي دينه عنصرًا تاليًا لعنصر الإيمان في جميع الرسالات، وعلى ألسنة جميع الرسل، وقد جاء الإسلام فنسج على منوال الرسالات المتقدمة، وجعلها ركنًا من أركان الدين، وأفاض في ذكر فوائدها ما أفاض بالمحافظة عليها، والقيام فيها لله، مع القنوت والخشوع، وكمال التوجه إليه، والتفرغ له. قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238).

أثر الصلاة في تهذيب النفوس: لقد بيّن القرآن الكريم أثر الصلاة في تهذيب النفوس، ووقايتها من الفحشاء والمنكر، وتطهيرها من غرائز الشر التي تفسد على الإنسان حياته. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45). وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19 - 23). وفي مقابلة هذا كله جعل تركها عنوانًا للانغماس في الشهوات، وسبيل الوقوع في الغي والضلال، وسببًا من أسباب الخلود في النار. قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59). وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (المدثر: 38 - 47). كما جعل الغفلة عنها، وعن معناها وروحها آية من آيات التكذيب بيوم الدين. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 1 - 7). فالسهو عن روح الصلاة يجعلها صورة جافة، لا يُؤدَى حق الله فيها من خشوع ومراقبة، واستشعار عظمة الله سبب قوي في التكذيب بيوم الدين، وإهانة اليتيم وإهمال حق المسكين، كما هو سبب في غرس شجرة الرياء في القلوب، وانصراف الإنسان عن فضيلة التعاون، وعن البر بأخيه الإنسان. وقد قرن الله الصلاة بعد هذا كله بالصبر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 153).

اشتمال الصلاة على جميع أساليب التعظيم: شرع الله الصلاة اعترافًا بنعمته وعظمته، وجمع في كيفيتها جميع ما تفرق عند الناس من أساليب التعظيم، فجعل افتتاحها بإعلان أن الله أكبر من كل ما يرون تعظيمه، مصحوبًا ذلك برفع اليدين معًا، على وجه يُمثل فيه وضعهما المعنوي الذي استقر في القلب، حينما ينطلق اللسان بكلمة التكبير. ثم جَعل مِن أركانها القيام المصحوب بتلاوة آيات من كتابه، وأوجب في كل صلاة وعلى كل مصلي قراءة "الفاتحة"، التي تعتبر أم الكتاب، وقد جَمعت كل ما تفرق في القرآن نصًّا وإشارة. ثم الانحناء المعروف باسم الركوع، مصحوبًا بالتكبير في الانخفاض والرفع، ثم يجيء السجود نهاية لما يتصوره من وجوه التعظيم، وبذلك يكون العبد قد وقف من ربه في موضع العبودية الحقة، وكأن الله بأسلوب تعظيمه على هذا الوجه يلفت نظر المؤمنين، إلى أن تعظيمه يجب بمقتضى الإيمان بربوبيته وألوهيته، أن يكون فوق كل تعظيم عرفه الناس في تعظيم بعضهم لبعض. وأن هذه الصورة من التعظيم التي رسمها الله لنفسه لا يصح أن يُعظم بها غيره، كما لا يصح أن ينتقصها المؤمن، أو أن يُغير شيئًا من أوضاعها أو أن يزيد فيها، فهو سبحانه المعبود وهو المعظم، وقد شرع لنا طريق عبادته وأسلوب تعظيمه، وليس لأحد من خلقه أن يفكر أو يستظهر شيئًا غير ما رسمه في تعظيمه بزيادة أو نقص. ولعل هذا هو الأساس الذي بني عليه حظر الابتداع في الدين، وفي سبيله كثرت الأحاديث الصحيحة في التحذير من البدع، التي ينساق إليها الناس، بناء على ما يتصورون من الزيادة في معنى العبودية.

حكم تارك الصلاة: اتفق المسلمون على أن الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل، طاهر، أي: غير ذي حيض أو نفاس، ولا ذي جنون أو إغماء، وهي عبادة بدنية محضة لا تقبل النيابة أصلًا، فلا يصح أن يصلي أحد عن أحد كما لا يصح أن يصوم أحد عن أحد. وأجمع المسلمون على أن من جحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد؛ لثبوت فرضيتها بالأدلة القطعية من القرآن والسنة والإجماع، ومَن تركها تكاسلًا وتهاونًا فهو فاسق عاص، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة. وترْك الصلاة موجب للعقوبة الأخروية والدنيوية، أما الأخروية فلقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من ترك الصلاة متعمدًا فقد برأت منه ذمة الله ورسوله)) رواه أحمد بإسناده عن مكحول وهو مرسل جيد. والإنسان إذا تركها جاحدًا وجوبها فهو كافر؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)). هذا، والله أعلم.

الدرس: 16 الصوم والزكاة والحج في القرآن الكريم.

الدرس: 16 الصوم والزكاة والحج في القرآن الكريم.

الصوم في القرآن الكريم، وأثره في النفوس والأبدان

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (الصوم والزكاة والحج في القرآن الكريم) الصوم في القرآن الكريم، وأثره في النفوس والأبدان الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولا: الصوم في القرآن الكريم وأثره في النفوس والأبدان: الصوم هو العبادة الدينية الثانية، وهو الامتناع عن الأكل والشرب والملابسة الجنسية طول النهار، من الفجر إلى غروب الشمس، بقصد امتثال أمر الله، وقد فرضه الله فرضًا عامًّا على جميع القادرين في شهر رمضان من كل عام. آيات الصوم في القرآن الكريم: لقد جمع القرآن آيات الصوم في مكان واحد، وفي إطار واحد، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 183 - 185). الصوم الذي يريده الله ما هو؟ لقد جرى على ألسنة الناس أن الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والملابسة الجنسية، وبهذا يظن كثير من المسلمين أن الإنسان متى أمسك عن هذه الأمور الثلاثة طوال يومه فقد صام، وخرج عن عهدة التكليف، وأدى ما فرضه

الله عليه، والواقع أن هذا بيان للصوم بالنسبة إلى مظهره، وإلى الجانبالسلبي منه فقط، وكلا الأمرين -المظهر والجانب السلبي- لا يُكونان حقيقة الصوم، الذي كلف الله به عباده وفرضه عليهم، فإن الله سبحانه بدأ آية الصوم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وبقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وفيما بين البدء والختام أمر بالصوم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. وليس من ريب في أن النداء بوصف الإيمان أولًا، وهو أساس الخير، ومنبع الفضائل، وفي ذكر التقوى آخرًا -وهي روح الإيمان وسر الفلاح- إرشاد قوي، ودلالة واضحة على أن الصوم المطلوب ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما هو الإمساك عن كل ما ينافي الإيمان، ولا يتفق وفضيلة التقوى والمراقبة. وإذًا فالذي يتجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكر في الخطايا ويشغل نفسه بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له، والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لجمع كلمة الموحدين، والعمل على تفريقهم وإضعاف سلطانهم -لا صوم له، والذي يحابي الظالمين ويجامل السفهاء، ويعاون المفسدين لا صوم له، والذي يستغل مصالح المسلمين العامة، ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية، ورغباته وشهواته، لا صوم له، وكذلك من يمد يده أو لسانه، أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله، أو إلى انتهاك حرمات الله لا صوم له. فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يرشي، ولا يدبر في اغتيال أو سوء، ولا يخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا هو معنى

الصوم الذي يجمع صورته، وهي الإمساك عن المفطرات ومعناه، وهو تقوية روح الإيمان بالمراقبة، وبهذا جمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه، وتطهيرها من المدنسات، وتحليتها وتزكيتها بالطيبات. - أثر الصيام في النفوس والأبدان: الصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثوابًا مفتوحًا لا حدود له؛ لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنة من باب خاص، أُعد للصائمين يقال له الريان. روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن سهل بن سعد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخله منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)). والصائم بصومه هذا يبعد نفسه عن عذاب الله؛ بسبب ما قد يرتكبه من معاصي، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق، الذي شرعه الله -عز وجل- وذلك لأن الصوم يُحقق التقوى، التي هي امتثال الأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183). والصوم مدرسة خُلقية كبرى، يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزغات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحْرَم منه، وعلى الأهوال والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يُطبخ أمامه، والروائح تُهيِّج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظرًا وقت الإذن الرباني بتناوله.

والصوم يُعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده، والصوم يقوِّي الإرادة، ويشحذ العزيمة ويعلم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة، إذ تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحيانًا. قال لقمان لابنه: "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة". والصوم يعلم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد، وموعد معين. والصوم يُشعِر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعًا يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد وعبادتهم موحدة. وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون، التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع، والصوم فعلًا يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا، وطرح ما شاخ منها، ويعمل الصوم على إراحة المعدة وجهاز الهضم، وحِمْية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة والعفونات، أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا تصحوا)) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة، وهو حديث حسن. وقال طبيب العرب الحرث بن كلدة: "المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء".

والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثارها وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه الجماعة عن ابن مسعود. وقال الكمال بن الهمام: "الصوم ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد؛ أعظمها: كونه موجبًا أشياء؛ منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سَوْرتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح، مِن العين واللسان والأذى والفرج، فإن بالصيام تَضعف حركة النفس في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت النفس جاعت الأعضاء كلها. والصوم أيضًا موجب للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذَكر مَن هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه والرحمة به، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء. وأيضًا الصوم يفيد في الرحمة بالفقراء، ويفيد موافقة الغني للفقير، بتحمل ما يتحمل أحيانًا؛ لأنه يجوع في الصيام فيتحمل ما يتحمله الفقراء". وقال في (الإيضاح): "اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين، وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وأنه مركب من أعمال القلب، ومِن المنع عن الأكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس".

الزكاة وأهميتها وحكم تاركها.

الزكاة وأهميتها وحكم تاركها الزكاة عبادة مالية، عُني بها الإسلام لكي يمد الغني يده إلى الفقير بما يسد حاجته، وإلى المصالح العامة بما يحققها، وهي واجبة على الغني فيما يَفْضُل عن حاجته، وحاجة من ينفق عليهم من ماله النقدي، وقِيَم أعيانه التجارية ومواشيه وثمار زرعه، بنسب معروفة عند المسلمين، يَقُوم مجموعها بحاجة الفقير ومصالحه، ولا ترهق أربابها، وزكاة النقود والتجارة تؤدى في كل عام مرة، وزكاة الزرع تؤدى في كل زرعة. حكم الزكاة: الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فروضه، وفرضت في المدينة في شوال السنة الثانية من الهجرة، بعد فرض صيام رمضان وزكاة الفطر، ولكن لا تجب على الأنبياء إجماعًا؛ لأن الزكاة طهرة لمن عساه أن يتدنس، والأنبياء مبرءون منه، ولأن ما في أيديهم ودائع لله، ولأنهم لا ملك لهم ولا يورثون أيضًا، وقرنت الزكاة بالصلاة في القرآن الكريم في اثنين وثمانين موضعًا، مما يدل على كمال الاتصال بينهما، وهي واجبة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83). وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103). وقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} (الأنعام: 141). وآي في القرآن الكريم سوى ذلك.

وأما وجوب الزكاة بالسنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس)) منها: إيتاء الزكاة. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم جالسًا، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان)) أخرجه البخاري ومسلم. وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى اليمن فقال: ((أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) رواه الجماعة عن ابن عباس. وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوب الزكاة، واتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال مانعيها، فمن أنكر فرضيتها كَفر وارتد إن كان مسلمًا، ناشئًا ببلاد الإسلام بين أهل العلم، وتجري عليه أحكام المرتدين، ويستتاب ثلاثًا، فإن تاب، وإلا قُتل. ومن أنكر وجوبها جهلًا بها، إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ ببادية نائية بعيدة عن الأمصار عُرِّف وجوبها، ولا يُحْكَم بكفره لأنه معذور. الزكاة بين الإطلاق والتقييد: لقد ظل القرآن الكريم -في عهديه المكي والمدني- يدفع المؤمنين بأساليب قوية إلى الإنفاق في سبيل الله؛ لسد حاجة الفقير وإقامة المصالح، دون أن يحدد لهم الأنواع المالية التي منها ينفقون، والمقادير التي لها ينفقون، تاركًا ذلك إلى ما تخلقه دعوته السامية في قلوبهم مِن الشعور الإيماني الحي، والأريحية الكريمة التي تقتضيها الأخوة الدينية، وتتحقق بها المسئولية العامة المشتركة، وقد جاء في القرآن الكريم أنهم سألوا حين نزوله مرتين عن ما ينفقون، وكان الجواب في

المرتين يصرفهم عن تحديد ما ينفقون، ويَكِلهم إلى أريحيتهم وشعورهم، أو يأخذ بهم إلى بيان موضع الإنفاق والبذل. واقرأ إن شئت قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: 219). واقرأ منها مرة أخرى قول الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215). ظل القرآن الكريم هكذا يأمر بالإنفاق دون تحديد لما ينفق منه، حتى إذا ما تركز المسلمون، واتسعت نطاق حياتهم بالهجرة إلى المدينة، وصاروا جماعة متميزة لها منهجها الخاص في الحياة، ولها هدفها الذي تعمل له، وتهيأت في ظل ذلك نفوسهم لقبول التحديد -أُعلنت فريضة الزكاة، وقرنت بالصلاة وشهادة التوحيد، وكانت ثلاثتها عنوان الدخول في الإسلام، وعنوان الأخوة الدينية. قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11). الجهات التي تصرف الزكاة لها: وفيها نزلت آية كريمة حددت دائرة الزكاة، ومنعت أن يصرف شيء من الزكاة خارجها، وهي قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60). وبالنظر في الآية يتضح أن دائرة الاستحقاق في الصرف إليها من الزكاة تتألف من حلقتين؛ إحداهما: أفراد الزكاة، فينفقونها على الوجه الذي يرونه، وهذه الحلقة هي التي أضيفت الصدقات إليها في الآية الكريمة بكلمة "اللام" للفقراء

والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل، والحلقة الأخرى: مصالح عامة تنتفع بها الأمة كلها، وهذه الحلقة هي التي أضيفت إليها الصدقات بكلمة: في الرقاب وفي سبيل الله. أهمية الزكاة: التفاوت بين الناس في الأرزاق والمواهب وتحصيل المكاسب أمر واقع طارئ، يحتاج في شرع الله إلى علاج، قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: 71)، أي: أن الله تعالى فضل بعضنا على بعض في الرزق، فأوجب على الغني أن يعطي الفقير حقًا واجبًا مفروضًا، لا تطوعًا ولا منة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24، 25). وفريضة الزكاة أَولى الوسائل لعلاج ذلك التفاوت، وتحقيق التكافل أو الضمان الاجتماعي في الإسلام، فهي أولًا تصون المال، وتحصنه من تطلع الأعين وامتداد أيدي الآثمين والمجرمين. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء" رواه الطبري وأبو نعيم في (الحلية) عن ابن مسعود، ورواه أبو داود مرسلًا عن الحسن وهو ضعيف. وأهمية الزكاة أنها عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من مرض الفقر، والدولة من الإرهاق والضعف، والجماعة مسئولة بالتضامن عن الفقراء وكفايتهم. ومن أهمية الزكاة أيضًا أنها تطهر النفس من داء الشح والبخل، وتُعوِّد المؤمن البذل والسخاء؛ كي لا يقتصر على الزكاة، وإنما يساهم بواجبه الاجتماعي في

تنمية ومساعدة الدولة بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش وصد العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حد الكفاية، إذ عليه أيضًا الوفاء بالنذور وأداء الكفارات المالية، بسبب الحنث في اليمين والظهار والقتل الخطأ، وانتهاك حرمة شهر رمضان، وهناك وصايا الخير والأوقاف والأضاحي، وصدقات الفطر وصدقات التطوع، والهبات ونحوها. ومن أهمية الزكاة أنها تجب شكرًا لنعمة الله، حيث أنعم عليه بنعمة المال، إذ أنها تضاف إليه فيقال زكاة المال، والإضافة للسببية كصلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت. عقاب مانع الزكاة: لمانع الزكاة عقاب في الآخرة وعقاب في الدنيا، أما عقاب الآخرة فهو العذاب الأليم؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35). ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثل له شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يُطَوِّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران: 181))). رواه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي عن أبي هريرة. وأما العقاب الدنيوي للفرد بسبب الإهمال والتقصير فهو أخذها منه، والتعزير

الحج في القرآن الكريم.

والتغريم المالي، وأَخْذ الحاكم شطر المال قهرًا عنه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أعطاها -أي: الزكاة- مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله؛ عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء)). مِن حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده. رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال: وشطر ماله، وهو حجة في أخذها من الممتنع ووقوعها موقعها. فإن كان مانع الزكاة جاحدًا لوجوبها فقد كفر وقُتل، كما يقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله -عز وجل- ضرورة، فمن جحد وجوبها فقد كذَّب اللهَ تعالى، وكذَّب رسولَه -صلى الله عليه وسلم- فحُكِم بكفره. وتقاتَل الجماعة مانعة الزكاة جحودًا، كما فعل الصحابة في عهد الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنهم- قال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها". رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة. وفي لفظ مسلم والترمذي وأبي داود: "لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه". وبناء عليه قال العلماء بالاتفاق: إذا منع واحد أو جمعٌ الزكاة، وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم، وإن منعها جهلًا بوجوبها أو بخلًا بها لم يكفر. الحج في القرآن الكريم الحج عبادة معروفة، تنتظم من الإنسان قلبه وبدنه وماله، وليس ذلك لغيرها من العبادات، يقوم بها المستطيع من المسلمين في زمن معلوم، وأمكنة معلومة؛ امتثالًا لأمر الله، وابتغاء مرضاته، وتَبتدئ تلك العبادة بنية الحج خالصًا لله، مع التجرد من الثياب المخيطة، ومن صنوف الزينة والترف، وتنتهي بالطواف حول بيت الله الحرام.

الحج قبل الإسلام: الحج بمعنى زيارة أمكنة مخصوصة ابتغاء التقرب للإله المعبود صورة قديمة من صور العبادات، اتخذتها الشعوب والقبائل رمزًا لإجلال معبوداتهم وتقديسها، قام بها المصريون واليونانيون واليابانيون وغيرهم من الأمم القديمة إلى الهياكل المقدسة عندهم، وكانت كل أمة تتخذ في حجها ما يناسب تخيلها لعظمة معبودها، واستمرت الحال على هذا حتى هيأ الله الأمر لإبراهيم -عليه السلام- وأمره ببناء البيت الحرام، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127). وأمر الناس باتباع ملة إبراهيم. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة: 130). جاء الإسلام هكذا مجددًا لدين إبراهيم -عليه السلام، وهو الدين عند الله، فوجد القوم يحجون إلى الكعبة بما أحدثوا وغيّروا، فتركهم يحجون كما اعتادوا، وقصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة إلى إقرار التوحيد في القلوب، وإفراد الله بالعبادة والاستقامة، حتى أُخْرِج هو وصحبه من مكة موقع بيت الله الحرام، وحيل بينهم وبين القيام بفريضة الحج، وظلوا يكافحون في سبيل الله حتى تجلت منهم آثار التضحية الخالدة، وعُرف فيهم الشوق المُبَرِّح لزيارة بيت الله الحرام، الذي حُرموا النظر إليه والطواف به، فجاءتهم البشرى بأنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، محلقين رءوسهم ومقصرين. وفي حرارة هذا الشوق وضوء هذه التضحية، أعاد الله عليهم ذكرى الحج، وأنزل آيات كثيرة، شرح بها أحكامه وبيّن أوقاته وآدابه، وأصح ما أفسد القوم فيه، ورده إلى عهده الأول مهد إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- ومِن ذلك الحين قام المسلمون بتنفيذ فريضة الحج، الذي فرضه الله على الناس من عهد إبراهيم -عليه السلام. وقد تم على أيديهم تطهير البيت من هذه الأصنام، وأمر أصحاب العظمة الزائفة

أن يقفوا مع الناس في عرفات، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس؛ تقريرًا لمبدأ المساواة الذي جعله الله بين عباده. زمن الحج وحكمة اختياره: عين الإسلام لأداء فريضة الحج أشهرًا معلومة من السنة العربية: شوال، ذو القعدة، ذو الحج، وشوال هو الشهر الذي يعقب رمضان، له في الوضع الإسلامي اعتباران قويان جديران بالتقدير والرعاية، وذلك لما لهما من أثر في استدامة التقويم الخُلقي، والتصفية الروحية، التي حصل عليها المسلم بالصيام والقيام في شهر رمضان، وأول هذين الاعتبارين أن شوال أول شهر من أشهر الحج، وثانيهما: أنه بشير بالأشهر الحرم: ذي القعدة، ذي الحجة، والمحرم. وقد عُني القرآن الكريم بأشهر الحج عنايته بالحج، كما عني بالأشهر الحرم عنايته بتطهير النفس من المظالم، وكف العدوان والبغي، ولفت أنظار المؤمنين إلى ما لهذه الأشهر كلها من بواعث البر والتقوى، وبواعث الترفع بالنفس. ففي أشهر الحج يقول الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197). حكمة الحج: بيَّن القرآن الكريم حكمة الحج في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 27: 29). وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 17 الجهاد في القرآن الكريم.

الدرس: 17 الجهاد في القرآن الكريم.

تعريف الجهاد، وبيان أقسامه، وحكمه، والحكمة منه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الجهاد في القرآن الكريم) تعريف الجهاد، وبيان أقسامه، وحكمه، والحكمة منه الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد: أولًا: تعريف الجهاد: الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. أقسام الجهاد: قال ابن القيم -رحمه الله-: أقسام الجهاد أربعة: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين. وجهاد النفس هو الجهاد الأكمل، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (النازعات: 40) ويقع جهاد المرء نفسه بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة؛ لتتوفّر لها في الآخرة، ولئلَّا يعتاد الإكثار فيألفه، فيجرّه إلى الشبهات، فلا يأمَنُ أن يقع في الحرام. جهاد شيطان: لما كان الشيطان عدوًّا مبينًا للإنسان منذ خلق الله -عز وجل- هذا الإنسان، فقد أمرنا الله -عز وجل- أن نتخذه عدوًّا، يقول الله -عز وجل-: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّ ا} (فاطر: 6)، ومن ثَمَّ وجبت مجاهدته؛ لأن ذلك يمهّد السبيل أمام الإنسان لكي يجاهد نفسه، وهي عدوه الداخل، ويجاهد الكفار والمنافقين وهذه عداوة الخارج، ولا يمكن جهادهما إلّا بمجاهدة الشيطان والتصدي له، وتعني هذه المجاهدة دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات. ولجهاد الشيطان كما يقول ابن القيم مرتبتان: الأولى: على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك. المرتبة الثانية: جهاده على ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

فالمرتبة الأولى يكون بعدها اليقين، والثانية يكون بعدها الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) فأخبر الله -عز وجل- أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات. وأمَّا جهاد الكفار والمنافقين فمراتبه أربعة: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصّ باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان، وأمّا جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فعلى ثلاث مراتب: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه. حكم الجهاد: الجهاد فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور، والتحقيق أنّ جنس الجهاد فرض عين؛ إمّا بالقلب، وإمّا باللسان، وإمّا باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوعٍ من هذه الأنواع، أمّا الجهاد بالنفس ففرضُ كفايةٍ إذا لم يهجم العدو على المسلمين، فإن هجم ودخل أرضنا فهو فرض عين على كل مسلم، قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (التوبة: 41)، أمّا الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41). كما عَلَّقَ القرآن النجاةَ من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصف: 10: 12).

حكمة تشريع الجهاد: الصراع بين الحق والباطل قديمٌ قِدمَ هذه الحياة لا يهدأ ولا ينتهي ولا يزول إلى أن يرث الله الأرضَ ومَن عليها، وإليه يرجعون، ولا بُدَّ لكل أمة من أمم الأرض تريد أن تحيا حياةَ العزة والكرامة من أن تستعد الاستعداد الكامل لمجابهة عدوها بكل ما تملك من قوة، وأن تأخذ بأسباب النصر، فتهيئ شبابها للجهاد والقتال؛ لأنه لا عيش في هذه الدنيا إلا للأقوياء، ولا منطق إلا للقوة، وقديمًا قال شاعرنا العربي: ومن لا يظلم الناس يظلم ... ومن لم يزد عن حوضه بسلاحه يهدَّم والإسلام دين الله إلى الإنسانية يهتم بدعوة الناس إلى الدخول في هدايته، والانضواء تحت رايته؛ لينعموا بحياة الأمن والاستقرار، ويعيشوا العيشة الكريمة التي أرادها الله لبني الإنسان، وإن الأمة الإسلامية هي الأمة التي اختارها الله لإعلان دينه، وتبليغ وحيه، وإيصال هذا الهُدى والنور إلى أمم الأرض، فإذا وقف أحد في طريق الدعوة، وأراد أن يصدها عن المضي في طريقها، فلا بد من دحره وتطهير الأرض من شره؛ لتصل هداية الله إلى النفوس، وتعلو كلمة الحق، ويأمن الناسُ على حريتهم الدينية في الإيمان بالله الواحد القهار. ولذلك شرع الله القتال لدفع عدوان الظالمين، ولتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإيصالها للناس في حرية واطمئنان، وصدق الله حيث قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ولا يقاتل إلّا الباغي المعتدي، الذي يريد أن يفرض إرادته على الأمة بالقهر والسلطان، وأن يصد الناس عن دين الله بقوة الحديد والنار، ويفتن المؤمن بوسائل الفتنة والإغراء، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} (البقرة: 190).

تاريخ تشريع الجهاد، وأول الآيات نزولا فيه.

تاريخ تشريع الجهاد، وأول الآيات نزولًا فيه متى فرض الجهاد على المسلمين: لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظورًا على المسلمين بنصوص كثيرة في كتاب الله، منها قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (المائدة: 13) وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34) وقولهتعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِين} (النحل: 82) وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً ا} (الفرقان: 63). وأمثال هذه الآيات كثيرة، تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين عن قتال أعدائهم، وهناك نصٌّ صريح بالكفِّ عن القتال، هو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلً ا} (النساء: 77). وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس أنه قال: ((إنّ عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلةً، فقال -عليه السلام-: إني أمرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا، فلمّا حوله الله إلى المدينة أُمِرَ بالقتال، فكفّوا عن القتال، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ..... })). والحكمة في الكف عن القتال في بدء الدعوة يمكن أن نلخص أسبابها فيما يلي: أ- إنّ المسلمين كانوا في مكة قلة، وهم محصورون فيها، لا حول لهم ولا قوة

إلا بالله، ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم، فشاء الله أن يكثروا، وأن يكون لهم أنصار وأعوان، وأن يرتكزوا على قاعدة آمنة تحميها الدولة، فلما هاجروا إلى المدينة المنورة أُذِنَ لهم بالقتال، بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم، فهنا كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر؛ امتثالًا للأمر، وخضوعًا للقيادة، وانتظارًا للإذن. ب- وقد كان العرب في الجاهلية شديدو الحماسة، لا يصبرون على الضيم، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة والخفة للقتال عند أول داعٍ، فكان لا بد من تمرينهم على تحمُّل الأذى، والصبر على المكاره، والخضوع لأمر القيادة العليا؛ حتى يقع التوازن بين الاندفاع والترويّ، والحمية والطاعة، في جماعة هيأتهم إرادةُ الله لأمر عظيم. ج- البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة، وكان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم الأبطال الشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين، مما يثير النخوة، ويحرك القلوب نحو الإسلام، حصل بالفعل في المحاصرة في الشِّعب عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم؛ لكي يتخلّوا عن حماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- واشتد الاضطهاد على بني هاشم؛ لمّا حصل ذلك ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة، وانتهى ذلك الحصار المشئوم. د- كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم؛ ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى الشرك والضلال، فلو أُذِنَ للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يوم ذاك؛ لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت، فلما حدثت الهجرة، وانعزلت الجماعة، أبيح لهم القتال.

حالات مشروعية الجهاد، وبيان أن الجهاد وسيلة لدفع العدوان.

أول الآيات في تشريع القتال: اختلف السّلف في أول آية نزلت في القتال، فرُوي عن الربيع بن أنس وغيره، أنّ أول آية نزلت هي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) نزلت بالمدينة، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقاتل مَن قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه، وروي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق، وابن عباس، وسعيد بن جُبَيْر: أنّ أول آية نزلت في القتال هي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير} (الحج: 39). قال أبو بكر بن العربي: "والصحيح أن أول آية نزلت آية الحج، قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ...... } إلى آخر الآية، ثم نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فكان القتال إذنًا، ثم أصبح بعد ذلك فرضًا؛ لأن آية الإذن في القتال مكيّة، وهذه آية مدنية متأخرة. حالات مشروعية الجهاد، وبيان أن الجهاد وسيلة لدفع العدوان متى يشرُع الجهاد في الإسلام: إنّ الإسلام هو دين السلام، يرغّب في السلام ويؤثره على الحرب، فإنه لا يقدم على الحرب مع وجود وسيلة لحلّ المشكلة أو القضية، فإذا لم يكن بدٌّ من الحرب للإبقاء على العقيدة، أو على الحياة، فالحرب شرّ لا مندوحة عنه، وقد دعا الإسلام إلى السلام فلم يستجب خصومه، وأبوا إلّا الحربَ، وصبر المسلمون على أذاهم، فلم يزدادوا -المشركون- إلا عتوًّا وفسادًا في الأرض، فلم يكن بدٌّ من حربهم؛ لأن الإسلام يدعو أتباعَه إلى القُوة؛ مادية ونفسية؛ ليحموا أنفسهم ودينهم، كما يدعوهم إلى المسالمة والأناة.

ولا يجوز الحرب في الإسلام إلّا في أحد حالين: الحالة الأولى: حالة الدفاع عن النفس والعرض والمال والأرض عند الاعتداء؛ لقول الحق -تبارك وتعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} (البقرة: 190) وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 39: 40). ففي هذه الآية تعليل للإذن بالقتال بأمور ثلاثة: 1 - أنهم ظلموا بالاعتداء عليهم وإخراجهم من ديارهم بغير إلّا أن يدينوا دين الحق، ويقولون: ربنا الله. 2 - أنّه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع؛ لهدِّمت جميع المعابد التي يذكر فيها اسم الله كثيرًا بسبب ظلم الكافرين، الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. 3 - أنّ غاية النصر والتمكين في الأرض والحكم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الحق -جلّ وعَلَا-: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: 246).

وأيضًا الاستشهاد بما أخرجه أبو داود وصحّحه والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من قُتل دون دينه فهو شهيدٌ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد)). الحالة الثانية -التي يُسمح للمسلمين فيها بالقتال-: حالة الدفاع عن الدين، عن الدعوة إلى الله تعالى، فمتى وُجِدَ من يحول بين الناس والدخول في الإسلام، أو قام بتعذيب من اعتنق الإسلام، أو وقف في طريق الدعوة بأنْ مَنَع الداعية من الدعوة، وما شابه ذلك، ففي هذه الحالة شرّع الله الدفاع عن الدعوة، وذلك في قول الله -تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 190: 193) من هنا يتبين أنّ الحروب التي خاضها المسلمون مع أعداء الإسلام كانت كلها دفاعًا، ليس فيها شيء من العدوان كما يصوّر أعداء الدين الإسلامَ في غير صورته الحقيقية، بأنه شقّ طريقه بالقسوة، ولم ينتشر إلّا بالسيف، وأنه استقر في البلاد المفتوحة بالإجبار على الناس. ولا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إلّا وهو مقرون بعبارة: في سبيل الله، وذلك يدل على أنّ الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة، هي إعلاء كلمة الله، لا للسيطرة أو المغنم، أو إظهار الشجاعة أو الاستعلاء في الأرض. القتال في الإسلام وسيلة لدفع العدوان: عندما نقلّب صفحات التاريخ، فإنه يتأكد لنا أنّ جميع حروب المسلمين عبارة عن الدفاع لا غير، أو بعبارة أوضح: يمكن القول بأن المسلمين كانوا مضّطرين إلى الحرب.

وبيان ذلك كالآتي: لمّا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدين الجديد من عند الله تعالى؛ لينقذ البشرية الضالة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد الواحد الأحد، فآمن به من آمَنَ من أهل مكة، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة أعوام يدعو إلى دين الله من غير قتال، فلقد صبر -عليه السلام- هو وأصحابه على أذى مشركي مكة في هذه الأعوام، فلما رأت قريش أنّ الدين الجديد يزداد معتنقوه يومًا بعد يوم اعتدوا على من أسلم، واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على مَنْ فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش برمضاء مكة إذ اشتد الحر، على مَن استضعفوا منهم، يحاولون أن يفتنوهم عن دينهم، فمنهم مَن يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه. ولمّا أشتد أذى المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه، حتى بلغ بهم الأمر أنّهم أجمعوا أمرَهم على اغتيال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلّمه الله بما دبّروا له، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) فأذن الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة المنورة؛ ليلتحق بأصحابه هناك، فبايعه أهلُ المدينة على الطاعة والنصرةِ، ولقد صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه على كلّ اعتداءات المشركين، حتى أنّ بعض أصحابه قتل من جراء العذاب؛ منهم سمية أمّ عمار بن ياسر، التي عذّبها آل المغيرة مع زوجها على إسلامهما؛ ليرجعَا عنه فلم يرجعا، وماتت أم عمّار تحت العذاب. وصبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى أن نزلت الآيات بالإذن بالقتال، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39) وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء: 75).

فضل الجهاد وثوابه، والآثار المترتبة على تركه.

دلّت هذه الآية الكريمة على سببين من أسباب الحرب: أولهما: القتال في سبيل الله، وهو مقصودُ الدين، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، ولو كره المشركون. وثانيهما: القتال لحماية المستضعفين الذين أقاموا بمكة؛ حيث لم يقدروا على الهجرة لأسباب ما، فعذبتهم قريش، وفتنتهم حتى طلبوا من الله الخلاصَ، فهؤلاء المستضعفون في أمسِّ الحاجة إلى دَفْع أذى وعدوان المشركين عنهم؛ ليتمكنوا من ممارسة عبادتهم في حرية مطلقة. كما بيّن القرآن الكريم أنّه يجب على المسلمين أن يقاتلوا المشركين كافّةً؛ لأنهم يقاتلونهم كافّة، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة: 36) فالكاف هنا تعليلية، بمعنى: لأنهم يقاتلونكم كافة. فضل الجهاد وثوابه، والآثار المترتبة على تركه فضل الجهاد: وردت آيات كثيرة تبين ثواب المجاهدين، من هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 74). وورد عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبرك برأس الأمر كله وعمودِه وذِروة وسنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهادُ)). الترمذي الحديث رقم 2616، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ولقد بين القرآن الكريم أنّ جهاد الأعداء سبب البقاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54). وكذلك بيّن القرآن الكريم أنّ الجهاد دليل على صدق الإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من طلب الشهادة صادقًا أعطيها وإن لم تصبه)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق)) رواه مسلم. ولقد بيّن القرآن الكريم أن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون َ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 169: 171). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون َ} قال: ((أما إنّا قد سألنا عن ذلك، قال: أرواحهم في جَوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدين)) رواه مسلم.

آثار ترك الجهاد: لقد أمر الله بالجهاد للتمكين لأهل دينه ورد اعتداء المعتدين ونصرة المستضعفين قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء: 74: 76). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال: 72). في هذه الآية الكريمة نجد أن الله قسّم المؤمنين أقسامًا ثلاثة: القسم الأول: المهاجرون الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، جاءوا لنصر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه. القسم الثاني: الأنصار، وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوا في أموالهم، ونصروا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالقتال معه. القسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا، فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة، وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة، فوجب أن يكون حكمهم حكمًا

متوسطًا بين الإجلال والإذلال، وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول تكون منفيةً عن هذا القسم، إلّا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم. إن واجب المسلمين اليوم أن يهبوا لنصرة إخوانهم المستضعفين، فهذا أمر واجب لا يحل لهم تركه، فإن نصرة المستضعفين أمر واجب على إخوانهم، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة: 38، 39). هذا والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 18 الجريمة في القرآن الكريم: أنواعها، وعلاجها.

الدرس: 18 الجريمة في القرآن الكريم: أنواعها، وعلاجها.

تعريف الجريمة، وبيان أصلها، وأنواعها، وطرق إثباتها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الجريمة في القرآن الكريم: أنواعها، وعلاجها) تعريف الجريمة، وبيان أصلها، وأنواعها، وطرق إثباتها الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا ريبَ أن الجريمة شر مستطير، ومعصية لله ورسوله، وإثم بَيِّن، وخطيئة وانحراف عن الطريق المستقيم، وهذه عبارات ورد أكثرها في القرآن الكريم، نرى من الفائدة التمييز بينها في الاستعمال، وكيف يقتلع الإسلام الشر من نفوس الناس، وكيف يفرَّق بينه وبين الضرر، وبين الخير والنفع، وإن كانت هذه التعبيرات تتلاقى في معانيها الشرعية مع المعاني اللغوية التي استمر عليها العُرف اللغوي، فلا يكاد الناس يختلفون في أنَّ معنى الجريمة: الفعل الذي يستوجب عقابًا أو يوجب مَلامًا. ولكن يجب أن نبيّن معنى ذلك، وأصل الاشتقاق اللغوي، وارتباطه بالمعنى الشرعي في هذه الكلمات: أصل كلمة جريمة: من جرم بمعنى: كَسَب وقطَعَ، ويظهر أنّ هذه الكلمة خُصِّصَت منذ القديم للكسب المكروه غير المستحسن، ولذلك كانت كلمة جَرَم، ويراد منها الحمل على الفعل حملًا آثمًا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} (هود: 89) أي: لا يحملنَّكم حملًا آثمًا شقاقي في منازعتكم لي، على أن ينزل بكم عذاب شديد، مثل ما نزل بمَنْ سبقوكم ممن شاقوا وخالفوا أنبياءهم. ومثل قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: لا يحملنَّكم حملًا آثمًا بغضكم لقوم على ألّا تعدلوا معهم، ولذلك يصح أن نطلق كلمة الجريمة على ارتكاب كلِّ ما هو

مخالف للحق والعدل والطريق المستقيم. واشتُقَّ من ذلك المعنى: إجرام وأجرموا، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (المطففين: 29) وقال تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُون} (المرسلات: 46) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُر} (القمر: 47). ومن هذا البيان يتبيّن أنّ الجريمة في معناها اللغوي تنتهي إلى أنها فِعْل الأمر الذي لا يستحسن ويُستهجن فيه، لا يحاول تركه مَن لا يرضَى بتركه، وذلك ليتحقق معنى الوصف؛ إذ أنّ معنى الوصف يقتضي الاستمرارَ، وإذا كانت كل أوامر الشريعة في ذاتها مستحسنة بمقتضى حكم الشارع، وبمقتضى اتفاقها مع العقل السليم، فعصيان الله تعالى يعدّ جريمةً، وكذلك ارتكاب ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه يُعدّ جريمة، وذلك أنه غير مستحسن بمقتضى حكم الشارع للنهي، وبمقتضى حكم العقل؛ لأنّ العقل السليم تتفق قضاياه مع قضايا الشرع الإسلامي. وعلى ذلك نستطيع أن نقول: إنّ الجريمة فِعْل ما نهى الله عنه، وعصيان ما أمر الله به، أو بعبارة أعم: عصيان ما أمر الله به بحكم الشرع الشريف، والكسب الخبيث جريمة؛ إذ هو من معانيها، وإن تعريف الجريمة على هذا النحو يكون مرادفًا لتعريف الفقهاء لها؛ لأنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحدٍّ أو تعزير. أنواع الجرائم الخلقية: الجرائم الخلقية نوعان: 1 - جرائم يجري عليها الإثبات، وفي شأنها أن تفسد الجماعات، وهذه الجرائم وضعت لها العقوبات الزاجرة الرادعة في الدنيا، وهي التي يطبقها القضاء؛ كجريمة السرقة.

2 - جرائم أخرى خلقية لا يجري عليها الإثبات: كالغيبة والنميمة والنفاق والحسد، وغير ذلك من الجرائم الخلقية التي لا يمكن أن تثبت بين يدي القضاء، فإنّ لها عقوبتها الأخروية. ومن هذه النواحي وغيرها من النواحي، تتصل الشريعة بالضمير الإنساني المتدين، والمسلم المتدين يحس بأنه في رقابة من الله سبحانه، وأنه محاسب على ما يفعل، والله مراقبه على ما ينوي أن يفعل، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نَوَى)) رواه مسلم ورواه البخاري. طرق إثبات الجريمة: الجرائم تختلف طرق إثباتها نظرًا لحساستها، فهي مثلًا في الحدود: تشترط الشريعة لكل جريمة شروطًا معينةً، تعظَّم بعِظمها، والمهم هنا الحديث عن طريق الإثبات، وهي عديدة منها: الاعتراف: قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 11). وللاعتراف شروط: أ- أن يكون من نفس المتهم. ب- أن يكون صريحًا. جـ- أن يكون المتهم مميزًا غير مكرَه. د- أن يكون الاعتراف أمام القاضي. والآية السابقة تُشير لهذه الشروط، فالمعترضون هم المتهمون، والاعتراف صراحةً، وهم في سن التمييز؛ لأنهم أدركوا تمييزهم في الدنيا، فقالوا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10)، واعترافهم أمام جهة قضائية وهو الله.

علاج الجريمة.

الطريق الثاني للإثبات وهو: الاعتماد على القرائن: قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف: 26 - 28). وذلك أنه قضى على المرأة بقرينة شق القميص من الخلف، فذلك دليل على إعراض يوسفَ وجَذْب المرأة له، والشريعة لم ترد حقًّا، ولم تنبذ شهادةَ الفاسق، بل أمرتنا أن نتثبتَ منها، معتمدين على القرائن، ومن القرائن الاعتمادُ على الخط المكتوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: 282)، وذلك أنّ الله علّل الكتابة بأنها أعدلُ وأبعد عن الارتياب، وما ذلك إلا أنه يعتمد عليها. ومن طرق الإثبات شهادة الشهود، والقاضي بصير يمكنه أن يتبيّن صدق المدَّعي أو كذبه، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم} (محمد: 30) وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر: 75). علاج الجريمة العقوبة في القرآن: للحفاظ على مصلحة الجماعة شرَع الله العقاب، وهو إمّا دنيوي يكفي لعلاج المذنب، وإمّا أخروي يردَع مَن تحدّثه نفسُه بالإجرام، أو يوقِع على مَنْ فَلَت من عقاب الدنيا، ونصّ القرآن الكريمُ على بعض العقوبات، وعلى المسلمين تنفيذُها، وخطّط أصولًا للتعازير، وعليهم أن ينظِّموها، وليست قيمة النظام بما يحلّل ويحرّم فقط، بل بإسعاد الجماعة، والعقاب في القرآن لا لمجرّد مخالفة، أمر الشارع مجردًا عن مصلحة الجماعة، بل لهما معًا، والغرض من العقوبة في القرآن. أنها قبل الفعل زواجر بعده.

فالعقوبة لتأديب المجرم وإصلاحه وزجر غيره، وهي لحاجة الجماعة، ولا مانعَ من قبول اقتراح أيّ عقوبات، ما دامت تصلح وتؤدي الغرض، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179). والعقوبة في القرآن تقوم على مبدأين: 1 - منع الجريمة حمايةً للمجتمع. 2 - إصلاح حال المجرم رعايةً للفرد. وقد نهج القرآن مذهبًا مستقيمًا، فلم يتربّص للناس ليوقع عليهم العذاب، بل يتمشّى مع أحاسيسهم، ويفرق بين الهفوة والجريمة، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114)، وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء: 31). أساس حق العقاب: وأساس حق العقاب في القرآن: 1 - التعاقد القائم بين الفرد والجماعة، لا يظلمهم ولا يظلمون، قال تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279). 2 - الضرورة والمنفعة، فالعقاب ضرورة لا غنى للبشر عنه، وهو منفعة؛ حيث يقصد منه ردّ الحقوق وتعليل الجرائم، والقرآن الكريم فيه قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. 3 - الاعتبار الأدبي والعدالة المطلقة: فلا بُدّ أن يأخذ كلٌّ حقه في عدالة مطلقة، ولا بُدّ من عدم مجافاة العقاب الآداب العامة مهما كان، فَهَتْك العرض لا

يناسب قصاصًا بهتك العرض، وإنما يناسبه لون آخر من العقاب، ومن استقرأ العقوبات في القرآن الكريم يلاحظ أنّ كل عقوبة فيه لها غرض محدد يتناسب مع الجريمة، ولا يهمل النظر إلى المجرم إلّا في الجرائم الخطيرة؛ الحدود والقصاص، فإن بشاعة ما ارتكب لا يبقي له عذرًا. والسمات التي قررها القرآن الكريم في علاج العقوبة تتسم بالسمات التالية: 1 - إرهاب الغير: حتى لا يقدِمَ على مثل الجريمة التي يعاقَب عليها غيره، فاللصّ الذي يرى قطع يد لصٍّ آخر، لا أظن أن يبقى للإجرام مكان في ذهنه. 2 - توفير الطمأنينة للجماعة وحمايتها، فهي تحدُّ من طغيان المجرم، وتجعله أضعف مِمَّا كان قبل، قال تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} (المائدة: 33). 3 - الدفاع الذي يتنازل عنه الأفراد للجماعة، فما من سلطان للجماعة إلّا من قوة الأفراد الذين يتنازلون عن بعضها لحسابِ الجماعة، فكل فرد يُطالِب بحمايته، ويتنازل عن شيء للجماعة، فإذا وقعت عقوبة القطع مثلًا على فرد، فقد وقَعَ عليه ما يطالب به الجماعة لو كان هو المسروق منه، فهي عقوبة دفاعية لا استبدادية. المنفعة والكفاية: فالعقاب عقاب، وليس هَوْلًا أو ترويحًا، فما قيمة لونٍ من العقاب لا ينفع ولا يفيد، بل يغري ويشجع؟ 5 - العدالة كمًّا وكيفًا: فلا تضخَّم العقوبة لجريمة تافهة، ولا تقلّل العقوبة لفعل فاضح. 6 - التأديب والإصلاح: ومعاونته لاسترداد مكانته، فالجلد مثلًا: لا يعوقه عن الرجوع لحالته الطبيعية بعد قليل. 7 - استئصال المجرم: كما في عقوبة القتل.

وإذا كان المجمع القانوني الدولي يرى أنّ العقوبة الصالحة هي التي تكافح الجريمة، فيكفينا هذا شهادة للقرآن الكريمة الذي قضى على الجريمة بما شرعه من عقاب، واستبدل بالسوط أمانًا. شروط العقوبة: يجب أن تتوافر في كل عقوبة الشروط الآتية: 1 - أن تكون شرعية نصّ عليها من كتاب أو سنة أو إجماع، أو نصت عليها السلطة مراعاة للمصلحة، وعدم التعارض مع النصِّ، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 49). 2 - أن تكون العقوبة عامّة في الحدود، يستوي فيها سائر الناس، لا فرق بين شريف ووضيع، وذي حصانة وغيره، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38). وفي الحديث ((لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها)) البخاري شرح (فتح الباري). 3 - أن تكون العقوبة شخصية، لا تقع إلّا على الجاني، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء: 15). 4 - أن تكون كافية للتأديب والإصلاح والزجر، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2)، وذلك أنّ مائة جلدة كافية لتأديب الزاني الأعزب، وكافية كذلك لإصلاحه، وأن عدم

أنواع العقوبات في الشريعة.

الرأفة في توقيع ذلك العذاب عليه، وشهود طائفة من المؤمنين وهو يوقّع عليه ذلك الحدّ، لا زاجران قويان لكلِّ من تحدثه نفسه بهذه الفاحشة الممقوتة. 5 - أن تكون العقوبة مناسبة للجريمة، ولمن توقَّع عليه في جرائم التعازير، قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123)، وذلك أنّه ربط الجزاء بالعمل، فيعظّم الجزاء بعظم العمل، ويقلّ بضآلة العمل. 6 - أن تكون العقوبة عادلة، قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، فالعقوبة لا بُدّ أن تكون عادلة، فلا تشدّد لأمر تافه، ولا تقلّل في جريمة بشعة. أنواع العقوبات في الشريعة العقوبات في الشريعة الإسلامية نوعان: 1 - عقوبة مقدّرة، وهي التي أوجبت حقًّا لله وحقًّا للعباد، مثل: حد الزنا وشرب الخمر والسرقة وغير ذلك. 2 - عقوبة غير مقدّرة، وهو ما يسمّى بالتعزير، فإنه يكون في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة، أو سقط أحد الشروط الموجبة لإقامة الحدّ، أو التي لم تأتِ الشريعة فيه بنوع معين، ولا قدر محدود من العقوبات، وإنما تُرِكَ أمره إلى رأي الحاكم حسب المصلحة التي يراها. والصحيح أنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويجوز أن يقدِّر فيه الحاكم عقوبة الحبس، إذا رأى أنّ المصلحة في ذلك.

حد الزنا: قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2). هذا إذا كان الزاني بكرًا لم يتزوج، أما إذا تزوّج فحدُّه الرجم، ويثبت هذا بأربعة شهود من الرجال، أو بالإقرار بأنه زنى. حد القذف: عقوبة القذف الجلد ثمانون جلدة، ولا توقّع العقوبة إلّا حين يكون القذْف كذبًا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 4، 5). ولا شَكَّ أن القاذفَ يبغي بكذبه إيلامَ المقذوف نفسيًّا، وإسقاط الناس للمقذوف من حساباتهم، فلا حرج أنْ عوقِبَ القاذف بالألم البدني، والتحقير الأبدي بإسقاط شهادته، وبالتالي تسقط قيادته، ثم وصفه بالفسق، إلّا أن تاب وأصلح ما أفسده باقترافه. بعد ذلك الخمر: مصدر تحريمها القرآن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) وقد ثبتت العقوبة عليها بالسنّة، ففي الحديث: ((كان يجاء بشارب الخمر فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: اضربوه، فمنّا الضارب بيده، ومنّا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بنعله)) البخاري. أمّا تقدير تلك العقوبة: فقد ثبتت بالإجماع عند قوم، أو بقول الصحابي عند

قوم، ففي الأثر: "أنّ عمر استشار أصحابه في شارب الخمر، فقال علي -رضي الله عنه-: "أنه إذا شرب سكر، وإن سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الفِرية ثمانون جلدة". ويرى الشافعي أنّ أربعين حدًّا، وأربعين تعزيرًا، ويرى البعض أن العقوبة تعزيرية تخضع للمصلحة. والعلاقة بين عقوبة شرب الخمر والجريمة هي المقابلة بين اللذة والألم، فلمّا كان الباعث على الشرب إشباع لذة غير مشروعة، فقد عُوقِبَ عليها بالألم المشروع وهو الجلد. بعد ذلك السرقة: عقوبتها القطع، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38)، وعقوبة السرقة تكون لمَنْ أخذ المال في خَفَاء في حرز مثله، والمال يكون في حدود عشرة دراهم أو ربع دينار، ويكون السارق بالغًا عاقلًا، وليس هناك له شبهة في هذا المال، فعقوبة السارق القطع، وذلك أنّ السارق يبتغي الزيادةَ من كسب غيره الذي جدَّ للحصول عليه، فعوقب بالقطع الذي ينقص كسبه ويضيّق رزقه، وإنه لعقاب بنقيض ما كان يبتغيه، فلما طلب الزيادة بغير حقٍّ عوقب بالنقصان بحقٍّ، وكان علي -رضي الله عنه- يقطع نصف الرجل اليسرى، وغيره يقطعه كله، أمّا في المرة الأولى فتقطع يده اليمنى. بعد ذلك الحرابة، وعقوبتها: أ- القتل. ب- الصلب. ج- قطع اليد والرجل. د- النفي من الأرض.

الروابط بين العقوبة والجريمة، وتعليل ذلك: قاطع الطريق عندما يعتدي على غيره بالقتل فقط، إنما يفعل ذلك مدفوعًا بتنازع البقاء وتغلُّب الأنانية، فهو يحرص على عدم مزاحمة القتيل له في الأرض الواسعة، وكأنه يريد أن ينفرد بالكون وحده، هذا الذي يدفع بتنازع البقاء يعاقب بقطع بقائه من الوجود، أو بنقيض ما كان يبتغيه، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 33، 34). عقوبة الصلب: عقوبة لمن سرق وقتل، وقد سرق طغيانًا على غيره، وقتل اعتداءً على غيره، فيعاقب بالصلب بعد الموت كما قال الشافعي وأحمد؛ لينزجر غيره، أو يصلب قبل الموت كما قال أبو حنيفة ومالك؛ ليزداد ألمه جزاءً على ذلك الاعتداء الصارخ، وهو ميت لا محالة بعد الصلب جزاءً وفاقًا. قطع اليد والرجل: لأنّ نجاة قاطع الطريق ربما تشجعه وتشجّع غيرَه، وجريمته مزدوجة، فهو مخيف للمارة، وهو كذلك سارق، فكان العقاب عليه مضاعفًا، تقطع يدُه التي تقَوّى بها على السرقة، ورجله التي خطى بها لقطع السبيل. عقوبة النفي: وهي تكون لمن وقف يقطع السبيل ولم يسرق ولم يقتل، فكان عمله هذا دليلًا على ابتغائه الشهرة الباطلة الزائفة، فإذا نُفِيَ من الأرض بالحبس -كما قال أبو

حنيفة- فقد تحطّم ما كان يبتغيه من شهرة، وهي عقوبة غير محددة المدة، حتى يظهر صلاح حاله. حد الردة: الردة تقع بالقول أو بالفعل أو الاعتقاد، فَمَن سبّ الله أو أحدَ رسله -عليهم الصلاة والسلام- أو سجَدَ لغير الله، أو وضع القرآنَ في القاذورات، أو شكك في نص القرآن، أو فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو اعتقد حِلّ ما حرّم اللهُ، فهو مرتَد حلال الدم، وكذلك من يقوم بترويج أقوال الكفار والمشركين والملاحدة، التي هي ضدّ الدين وتعاليمه، ومعتقدًا صحتها، بأن حكاها للاستشهاد. والمرأة المرتدة حكمها في ذلك كالرجل عند جمهور الفقهاء؛ لما روي عن معاذ بن جبل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أرسله إلى اليمن قال له: ((أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلّا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلّا فاضرب عنقها)) وعن جابر -رضي الله عنه-: ((أن امرأة يقال لها: أم مروان، ارتدت، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت وإلّا قتلت، فأبت أن تسلم فقُتِلَت)) أخرجه الدارقطني والبيهقي. وروي أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- استتاب امرأة يُقَال لها: أم قرفة، كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها، وذلك خلافًا لما ذهب إليه أبو حنيفة -رضي الله عنه- أنّ المرأة إذا ارتدت لا تُقْتل، ولكن تحبس، وتخرج كل يوم فتستتاب، ويُعرَض عليها الإسلام، وتظل هكذا حتى تعود إلى الإسلام أو تموت. وهذه العقوبة بالنسبة للمرتد تعتبر إجراءً وقائيًّا؛ لكي لا يتخذ الدين مهزلة، يدخل فيه الإنسان متى شاء، ثم يخرج منه متى أراد، أو استخفافًا بالله وبرسوله وبالمجتمع المسلم، والمرتد عن الإسلام طائعًا مختارًا تُعرَض عليه التوبة، ويمهَل

ثلاثة أيام ليراجع فيها نفسه، وتزال شبهته، وتقام له خلالها الأدلة والبراهين التي من شأنها أن تعِد الإيمان إلى قلبه، وتذهب عنه وساوس الشيطان، فإن اقتنع وعاد إلى الإسلام وتاب، وإلى الله أناب، قبلت توبته، وسقط عنه الحد، وإن أصرّ على الردة، وصمّم على التمسك بما انتقل إليه، أقيم عليه حد الردة، وهذا القتل ضربًا بالسيف؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من بدل دينه، فاقتلوه)) البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى لابن عباس: ((مَن خالف دينه دين الإسلام، فاضربوا عنقه)) الطبراني. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من بدل دينه، فاقتلوه)) البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى لابن عباس ((من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه)) الطبراني، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس)). والمرتد لا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفَن في مقابر المسلمين، ويمنع من التصرف في مآله حال رِدته، وتقضى عليه ديونُه، وينفق منه عليه وعلى عياله، فإن أسلم رجع إليه مالُه، وإن مات مرتدًّا فصار ماله فيئًا فور موته. جناية البغي: أولًا: البغي عقوبته القتال؛ لأنه يقوّض نظامَ الحكم، على أنه لا يُبدأ به إلّا بعد إظهار عناده، وأيضًا النصح، قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).

القصاص: لقد قرر القرآن الكريم أنّ القصاص هو الحياة الآمنةُ، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45)، ولقد برهن الواقع الذي لا يستطيع أحدٌ إنكارَه، أنّ للقصاص حكمًا عديدةً، وفوائدَ جمّةً، فكم سُفِكَت دماء باسم الثأر، وكم اشتد العداء إلى حدِّ الحرب، لكن بالقصاص قد شفي صدور الحانقين، وأغناهم عن مؤنة لا يعرفون مداها، ثم هو بعد ذلك تقدير لقيمة الفرد المفقود، فقد كان عضوًا في مجتمعه، فمن قتله يقتل. ومن الحِكم التي يتضمنها القصاص: ارتكاب الجرائم واقتلاعها من أذهانهم، وكلٌّ يعلم أن عصبي المزاج يكون هادئًا حين يعلم أن خَصمه أقوى منه، فالقصاص مقابلة بالمثل ممن يملك القوة، والقصاص حقّ الفرد، فللمجني عليه أو أوليائه العفوُ عنه ببدل أو بغير بدل، ومن دقائق القرآن أن عمم القصاص، فهو في النفس وفيما عَدَا النفس، قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} (المائدة: 45). هذا وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 19 النظام المالي في القرآن الكريم.

الدرس: 19 النظام المالي في القرآن الكريم.

مكانة المال، وقواعد الميراث فى الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (النظام المالي في القرآن الكريم) مكانة المال، وقواعد الميراث فى الإسلام الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعدُ: أولًا: مكانة المال: إنّ المالَ هو قِوام الحياة من غير شكّ، فيه يتبادل الأحياء المرافق والمنافع، ويتعاونون على قضاء المطالب والحاجات، وهو يعَدّ زينةَ الحياة الدنيا كما قرّر القرآنُ، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46) وقد تناولت الشريعة الإسلامية شئونَ الأموال والتنظيم والتوجيه في أبواب مختلفة، تناولتها في باب العبادات حين فرضت الزكاة، وهي اسم لجزءٍ من المال يخرجه الغنيّ من ماله إلى إخوانه الفقراء، وإلى إقامة المصالح العامة التي تتوقف عليها حياة الجماعة في أصلها وانتظامها. وبالزكاة يطهر المجتمع بقدر الإمكان من عدوّ الإنسان القاهر وهو الفقر، وتتوثّق عُرَى الألفة والمحبة بين الأغنياء والفقراء، وتسري بينهم روحُ التراحم والتعاونِ، ويتبادلون الإحساس والشعورَ، وتناولت الشريعة الإسلامية شئون الأموال في باب ما يسمّى "بالأحوال الشخصية"؛ حين قرّرت الميراث، ذلك المبدأ الإسلامي الذي يعمل على تفتيت الثروات، والربط بين الأقارب بعضهم ببعض، وبين الأجيال سابقها ولاحقها، فلا يُحرم الأبناء من جهود الآباء. وقد بنت الشريعة هذا الميراث على قواعد في غاية العدل والحكمة، وتولّى الله في كتابه تنظيم أنصبته وتوزيعها بنفسه.

قواعد الميراث في الإسلام: بني الاستحقاق في نظر الشريعة الإسلامية على الأمور التالية: أولًا: بُنِيَ على علاقتيْ القرابة الزوجية، والقرابة تشمل قرابة الولادة -يعني: الآباء والأبناء- وتشمل قرابة الإخوة بجهاتها الثلاث: للأب والأم معًا، وللأب فقط، وللأم فقط، والزوجية تشمل الزوج والزوجةَ، وهذه أسباب الميراث. ثانيًا: وبُنِيَ الميراث أيضًا على الاستحقاق في الميراث، يعني: على إلغاء صفات الذكورة والأنوثة، والصغر والكبر، في أصل الاستحقاق، فكان الميراث للصغير والكبير، والذكر والأنثى، جعل لهم حقًّا في الميراث. ثالثًا: وبُنِيَ الميراث على أنّ الآباء والأبناء، أعني: الأصول والفروع، لا يسقطون في أصل الاستحقاق بحالٍ ما، وإن كان يؤثّر عليهم وجود غيرهم في كمية النصيب. رابعًا: وبني الميراث على أنه لا إرثَ للإخوة والأخوات مع وجود الأبوين، وإن كانوا ينزلون بنصيب الأم من الثلث إلى السدس. خامسًا: وبُني استحقاق الميراث على أنه متى اجتمع في الوارثين ذكورًا وإناثًا، أخذ الذَّكَرُ ضعف الأنثى، وكذلك جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الوصيةَ بأن تكون في حدود الثلث. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: ((قلتُ: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس في أيديهم)) أي: بأيديهم، أو سألوا بأكفّهم، أخرجه البخاري.

أيضًا التركة: يرى الإسلام أن التركة التي يقسمها الوارثون على هذه المبادئ هي الباقي من ممتلكات مورِّثهم بعد قضاء ديونه، وتنفيذ وصاياه، ويرى الإسلام أيضًا أن الوصية بشيء لا تجوز لمن ليس في حاجةٍ إليها، وكذلك لا تجوز إذا كان فيها إضرار بالورثة. عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإضرارُ في الوصية من الكبائر" حديث موقوف، أخرجه الدارقطني والعقيلي والطبري وفي الدين والوصية الضارّة يقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} (النساء: 12). مصادر التوريث في القرآن الكريم: هذا وقد بين القرآن الكريم في سورة النساء أنصباء الأبناء والوالدين والزوجين والإخوة، في آيات ثلاث: - قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 11). - وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (النساء: 12).

- وقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النساء: 176). الحكمة في التوريث وفي ابتنائه على هذه الأسس: في الإسلام كثير من المبادئ والتشريعات التي تهدم على الرأسماليين الطغيان المالي، كما تهدم على المقابلين لهم الفوضى، فهو وسط لا طغيانَ ولا فوضَى، وقد كان في ابتناء التوريث في الإسلام على هذه الأسس حكمة يجب تقديرها في حياة الرجل والمرأة، وفي حياة الأسرة، وفي حياة الجماعة. ففي حياة الرجل والمرأة نظر الإسلام إلى أنّ أعباء المرأة في حياتها، ونفقة أولادها، وتكاليف زواجها، محمولةٌ عن كاهلها، وموضوعةٌ على الرجل، فكان من العدل بينهما أن يكون الرجل في كمية الاستحقاق على ضِعفها؛ ليتمكّن الرجل من القيام بأعباء حياتها وحياته وحياة الأولاد، وكان إعطاؤها النصف مجرد احتياط للوقاية مما تصير إليه، وتقع فيه من مصدر الإنفاق عليها. أمّا الحكمة في حياة الأسرة: فقد نظر الإسلام إلى توزيع التركة على أرباب القرابة والزوجية يضاعف إخلاصَ القلوب، ويربط بعضها ببعض، ويجعل كلًّا منهما شديد الحرص على خير الأخير، الذي يعود نفعه بالميراث عليهم جميعًا، وإذا ما خصّ فريق معين بالميراث دون غيره تنافرت القلوب وتفككت الأسرة. وأما الحكمة في حياة الجماعة في توزيع الميراث: فقد اتقى الإسلام بالتوريث ونظامه خطرين اجتماعيين عظيمين:

أحدهما: تكدس الأموال في يدٍ واحدةٍ، وهو من عناصر الطُّغيان المالي الذي يثير في الجماعة حربَ الطبقات. ثانيهما: حِرمان جميع أفراد الأسرة من جهود الآباء والأبناء والأزواج والأقارب الذين يرتبط بعضهم ببعض صلات الدم والقرابة والتعاون، وبذلك تُصرف التركة إلى هؤلاء المترابطين المتعاونين، فلا تصرف إلى شخص معين، فيكون الطغيان المالي، ولا تصرف إلى الدولة فيكون حرمان الجميع من جهود الآباء والأبناء والأزواج والأقارب، وهو معنًى لا يقل أثره السيئ في الجماعة إن لم يزد عن أثر الطغيان المالي، فكلاهما شرّ في الجماعة، وكلاهما طغيان وحرمان، والحياة لا تصلح مع واحد منهما. أيضًا نظَّم الإسلام شئون المال، وبيّن أنّ المال المباح يأتي عن طريق التجارة والزراعة والصناعة، أمر الإسلام بتحصيل المال عن طريق التجارة، وبالرحلة اليمنية والشامية اللتين يسّرهما الله لقريش في تجارتها، يمنُّ عليهم ويذكرهم بفضله ونعمته، قال تعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 1 - 4) وأمر الإسلام أيضًا بتحصيل المال عن طريق الزراعة التي بها حياة الأرض واستثمارها، وفي لفت الأنظار إلى نعمة الله بإعداد الأرض للزراعة، يقول الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (عبس: 24 - 32). وأمر الإسلام بتحصيل المال عن طريق الصناعة، والصناعة أقوى العُمد التي تقوم عليها الحضارات، وفي القرآن الكريم إشارة إلى جملةٍ من الصناعات التي

لا بُدّ منها في الحياة، ففي القرآن الكريم إشارة إلى صناعة الحديد، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25). وأشار القرآن الكريم إلى صناعة الملابس، قال تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف: 26)، وأشار القرآن الكريمُ إلى صناعة القصور والمباني، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} (النمل: 44). وهكذا يجد المتتبع لإيحاءاتِ القرآن الكريم كثيرًا من التنويه بشأن الصناعات على اختلاف أنواعها، أمَرَ القرآن الكريم بتحصيل الأموال عن هذه الطرق الثلاث -الزراعية والتجارية والصناعية- وسمّى طلبها ابتغاءَ فضل الله، وقد بلغت عناية القرآن بالأموال بعد أن طلب السعي في تحصيلها بمجرّد الفراغ من أداء العبادة الأسبوعية المفروضة وهي صلاة الجمعة، وأنه لم يأمر بالانصراف عن تحصيلها إلّا لخصوص هذه العبادة، فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (الجمعة: 9) ثم يقول تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) ويقول تعالى في تحصيل المال بوجه عام: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15). ولقد أمر القرآن الكريم بالانتفاع بالأموال، فنهى عن الإسراف فيها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67) وجعل الإصراف فيها والبخل بها عن الحقوق والواجبات مما يوقع في الحسرة والمَلامة، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء: 29).

الاستغلال الاقتصادي لجماعة المسلمين

والقرآن -كما طلب السعي في تحصيل الأموال، وطلب الاعتدال في صرفها- نَهَى عن تحصيلها بالطرق التي لا خيرَ للناس فيها، وفيها الشر والفساد، ونهى عن تحصيلها بطريق الربا الذي يؤخَذ استغلالًَا لحاجة الضعيف المحتاج، ونهى عن تحصيلها أيضًا بطريق السرقة، والانتهاب، والتسول، الذي يزعزع الأمن والاستقرار، وأمر بتحصيلها بطريق التجارة الحلال، ونهى عن تحصيلها بطريق التجارة فيما يفسد العقل والصحة؛ كالخمر والخنزير، ونهى عن تحصيلها بطريق الميسر، والرقص، وبيع الأعراض، من كل ما يفسد الأخلاق ويعبث بالإنسانية، ونهى عن تحصيلها بطريق الرِّشوة؛ التي تذهب بالحقوق والكفايات، وفي هذا وأمثاله يقول القرآن الكريم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 188). وعناية الله بالأموال شِرْعة قديمة، لم يخص بها جيلًا دون جيلٍ، ولا رسالةً دون رسالةٍ، وقد قصّ علينا القرآن الكريم أنّ الله عاقب بعضَ خلقه، الذين عتوا عن أمره في الأرض، وأكلوا أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 160، 161). الاستغلال الاقتصادي لجماعة المسلمين والإسلام حينما طلب تحصيل الأموال بالزراعة والصناعة والتجارة نظر إلى أنّ حاجة المجتمع المادية تتوقف عليها كلها، فإنه كما يحتاج إلى الزراعة في الحصول على المواد الغذائية التي تنبتها الأرض، يحتاج إلى الصناعات المختلفة في شئونها المتعددة؛ في ملابسه، وفي آلات الزراعة، وتنظيم الطرق، في حفر الأنهار، ومد السكك الحديدية، في حفظ كِيان الدولة، وما إلى ذلك مما لا سبيلَ إليه إلّا

بالصناعات، ويحتاج أيضًا إلى تبادل الأعيان، والمواد الغذائية، والمصنوعات مع الأقاليم التي ليست فيها زراعة ولا صناعةٌ، ولا تَسعد أمة لا تسدُّ حاجتها بنفسها. وإذن لا بُدّ من الاحتفاظ بالزراعة والتجارة والصناعة. ولا ريب أنّ هذه الطرق الثلاثة -الزراعة، والتجارة، والصناعة- وهي الطرق الطبيعية لتحصيل الأموال، عُمُد الاقتصاد القومي لكلّ أمة تريد أن تحيا حياة استقلالية، رشيدة عزيزة. من الضروري العمل على تركيزها في البلاد، ثم العمل على تنسيقها تنسيقًا يحقق للأمة هدفها الذي يوجبها الإسلام عليها، والذي يجب أن تحصل عليه وتحتفظ به وتنميه؛ صونًا لكيانها واستقلالها في سلطانها وإدارتها، وإذا كان من قضايا العقل والدين أنّ ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب، وكانت الحياة متوقفة على هذه العُمُد الثلاثة، كانت هذه العمد الثلاثة واجبة، وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خيرها واجبًا. تحصيل المال عن طريق الإنفاق في سبيل الله: لقد حارب الإسلام في النفوس خِصال الشح والإسراف والترف، وعمِلَ على تطهير الجماعة منها، وأعدّ النفوس للبذل والعطاء في القيام بحق الله وحق الناس، وكان له في ذلك من أساليب الترغيب في البذل والترهيب من البخل، ما يملأ قلب المؤمن بمبدأ التضحية، وأنها سبيل الله في الحياة الطيبة التي تكفل للفرد والجماعة سعادة الدنيا والآخرة. وإنّ أول ما يطالبنا من تلك الأساليب في القرآن الكريم هو أننا لا نكاد نجد فيه ذكرًا للإيمان بالله إلّا مقرونًا بالإنفاق في سبيله، وإطعام البائس الفقير، فسورة البقرة تبدأ ببيان أوصاف المتقين الذين ينتفعون بالقرآن وهديه، ويكون منها:

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة: 2)، ثم تعرض السورة لأصول البرّ الذي يطلبه الله من العباد، ويكون منها بعد الإيمان، قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} (البقرة: 177) ويجعل ذلك من دلائل الصدق في الإيمان والتقوى. وسورة الأنفال تذكر مقومات الإيمان، ويكون منها بعد وجَل القلوب من ذكر الله، وزيادة الإيمان بآياته، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الأنفال: 3) وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 4) وترى سورة النساء وسورة الحجرات تذكرانِ الإيمانَ ولا تذكران معه سوى الإنفاقِ في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} (النساء: 39)، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15). هذا أسلوب يضع الإنفاق في سبيل الله في مستوى الإيمان، وإذا قلّبنا صفحات القرآن الكريم لم نجده أطلق عنوان العقبة التي تحول بين الإنسان وسعادته على شيء سوى إطعام الفقير والمسكين، كما أنه لم يجعل عدمَ التحريض على شيء من تكاليفه علامة على التكذيب بيوم البعث والجزاء، وعلامة على الصدق في الصلاة وإقامتها، سوى إطعام المسكين، قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (البلد: 11 - 18).

وفي سورة الماعون، يقول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 1 - 7). وهذا أسلوب يضع الإنفاق في سبيل الله، وإطعام الفقير المحتاج، موضع العقبة والحاجز الذي لا بد من اقتحامه؛ ليصِلَ الإنسانُ إلى سعادته، إنْ لم يكن بنفسه فبحضّ القادرين عليه، وإرشادهم إليه، وقد قصّ الله علينا بعد ذلك أنّ المجرمين سيسجِّلون على أنفسهم في الجواب حين يسألون يوم الدين، قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر: 24) سيسجلون مع التكذيب بيوم الدين والخَوْض في الباطل إهمالَ حق الفقير والمسكين، قال تعالى حكايةً عنهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (المدثر: 43 - 46). هذه بعض أساليب القرآن في مكانة الإنفاق في سبيل الله، وفي الترهيب من البخل بحق الفقير والمسكين. وأما أساليب الترغيب في الإنفاق، فحسبنا أن نقرأ فيها الآيات الواردة في سورة البقرة، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (البقرة: 245) وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 261، 262) وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 265).

فهذه مكانة الإنفاق في سبيل الله، وهذه عدة الله الصادقة لمن يجود بماله في سبيله، وهي -كما ترى- مكانةٌ وعزة لم يحظَ بها شيء من التكاليف الإلهية سوى الإنفاق، فالصلاة على مكانتها في الدين، وعلى أنها الركن الذي يلي الإيمان، لا تقع عند الله موقعها، إلّا إذا دفعت بصاحبها إلى القيام بحق الفقير والمسكين، وكذلك الصوم والحج، لا تجد لهما في ترغيب القرآن وترهيبه مثل ما وجدناه للإنفاق في سبيل الله. وتحقيقًا لانتفاع الجميع بالمال، وتطهيرًا للنفوس من بواعث الأثرة فيها، حارب الإسلام في المالكين لها والقائمين عليها خلق الشح، الذي يمنع من البذل والإنفاق، كما حارب السَّفَه الذي يودي بالمال في غير وجوه النفع وإقامة المصالح، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) والبخل وليد الشح، يقول الله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل عمران: 180) ويقول تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 37) ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35). ثم أرشد القرآن إلى أنّ البخل بالمال عن أداء الواجبات وإقامة المصالح إلقاءٌ بالنفس في التهلكة، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195). هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 20 المعاملات في القرآن الكريم.

الدرس: 20 المعاملات في القرآن الكريم.

البيوع

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (المعاملات في القرآن الكريم) البيوع الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: لقد عرضت شريعة الإسلام إلى الجوانب التي تتعلّق بشئون الأموال ومعاملاتها، ذلك هو جانب النظم التي تبنى عليها المبادلات المالية، وفيها أحكام البيع والإجارة، وبيان ما يجوز بيعه وإجارته، وما لا يجوز بيعه ولا إجارته، وتشمل طرق استثمار الأموال والمضاربة والشركة، وأحكام الأمانات، وطرق الاستيثاق في الديون، وغير ذلك مما يجري بين الناس، ويحتاجون إلى ضبطه في انتظام حياتهم وحفظ حقوقهم ومصالحهم. والمعاملات المالية عمدتها في الإسلام وأساسها الارتباطُ بالالتزام، والوفاء بالحقوق، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 29). وفي طرق الاستيثاق يقول الله -جلّ شأنُه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282).

من أول هذه المعاملات في درسنا البيوع: البيع مبادلة المال بالمال، تملكًا وتمليكًا، واشتقاقه من الباع؛ لأنّ كل واحدٍ من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كلّ واحد منهما كان يبايع صاحبه، أي: يصافحه عند البيع، ولذلك سمّي البيع صفقة. والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع: - أمّا الكتاب: فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (البقرة: 275)، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (البقرة: 282)، وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: 29)، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة: 198). وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كانت عكاظ ومَجِنّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلمّا كان الإسلام تأثّموا فيه -أي: تحرجوا فيه- فنزل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ". (البقرة: 198) يعني: في مواسم الحج. - وأمّا الدليل من السنة: فهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقَا)) متفق عليه. ويروي رفاعة أنّه: ((خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا مَنْ بَرّ وصدَقَ)) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى أبو سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأخرجه الدارمي. وأحاديث كثيرة سوى هذه.

- وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلّق بما في يدي صاحبه، وصاحبه لا يبذله، أي: لا يبذله المال بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه شَرَع طريقًا إلى وصول كلّ واحد منهما إلى غرضه، ودفع حاجته. أركان عقد البيع: 1 - العاقدان: وهما البائع والمشتري. 2 - المعقود عليه: وهو الثمن والمثمّن. 3 - صيغة العقد: وينعقد البيع بكلّ قولٍ أو فعل يرَدّ أو يدل على إرادة البيع والشراء، وللبيع صيغتان: أ- الصيغة القولية: وتسمّى الإيجاب. ب- والقبول الصيغة الفعلية، وتسمّى المعاطاة. شروط البيع: لا يكون البيع صحيحًا حتى تتوفّرَ فيه سبعة شروط، متى فُقِدَ منها شرطٌ صار البيع باطلًا، وهذه الشروط هي كالتالي: 1 - التراضي بين المتبايعين. 2 - أن يكون العاقد جائزَ التصرف. 3 - أن تكون العين مباحةَ النفع من غير حاجة. 4 - أن يكون البيع من مالك، أو مَن يقوم مقامه. 5 - أن يكون المبيعُ مقدورًا على تسليمه.

6 - أن يكون المبيعُ معلومًا برؤية أو وصفٍ منضبطٍ. 7 - أن يكون الثمنُ معلومًا. هذه هي شروط البيع. آدابُ البيع والشراء: من آداب البيع والشراء جملة أمور؛ منها: 1 - ألّا يعرضَ ثمنًا على البائع ليفسخَ البيع في فترة الاختيار، وهذا بخلاف المزايدات قبل استقرار الثمن؛ ليتمّ الاختبار الحر، ويتفرعوا الوقت له. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يسم المسلم على سوم أخيه)) الحديث رواه مسلم. ومعنى هذا: أنّ البائع والمشتري يتراضيان بثمن معين، ويقع الركون فيه، فيجيء آخر فيدفع للمالك أكثر أو مثله. 2 - ألّا يبيع على بيع أخيه؛ كأن يعرض على المشتري في فترة الاختيار فسخَ البيع مقابل بيع ما هو أجود أو أرخص؛ ليتم الاختيار الحرّ. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) رواه مسلم. معنى هذا: أنْ يتراضَى البائع والمشتري على ثمن سلعة، فيقول آخر: أنا أبيعك مثلها بأقلّ من هذا الثمن. 3 - ألّا يروّج للسلعة بالكذب وبما ليس فيها، وبالقسم بالله باطلًا، وبالتضليل والغَش والغدر؛ كأن يدّعي كذبًا أنه اشتراها بثمنٍ معين، أو دفع له ثمنًا معينًا. عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- أنّ رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف بالله: لقد أُعطِيَ فيها ما لم يعطَ؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزل قول تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن حلَفَ على يمين وهو فيها فاجرٌ؛ ليقطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبانُ)) الحديث رواه البخاري. 4 - أن تكون مواصفات السلعة وثمنها معلومةً لدعاوي المتابعين. 5 - على البائع أن يبيّن عيوبَ السلعة وثمنها، ولا يحاول إخفاءها؛ حتى تنتفي كل جهالة أو غموض أو غش في السلع وفي النقود، ويقدم المشتري على الشراء عن ثقة، ويتجنّب التخاصم. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقَا، فإن صدقَا البيعان، بُورك لهما في بيعهما، وإن كذباَ وكتماَ في نفسه أن يربحا ربحًا، ويمحقا بركة بيعهما)) رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن باع بيعًا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه)) (سنن ابن ماجه). 6 - على المشتري وعلى البائع التحلي بالسماحة والرفق في المعاملة، وأن يكون المشتري جادًّا في الشراء، فلا يتعب البائعَ بهدف التسليةِ وقضاء الوقتِ. أيضًا ألّا يبيع البائع ما لا يملك، ولا يبيع البائع السلعة قبل حيازتها. على المشتري أن يحذر النجش، وهو أن يزيد ثمن السلعة، ولا يريد شراءها بهدف تربيح التاجر على حساب العمل، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تناجشوا)) رواه البخاري ومسلم. 7 - على البائع ألّا يبيع مسروقًا أو مغتصبًا؛ لأن البائع يكون بذلك مشتركًا في الإثم مع السارق. أيضًا من ضمن هذه الشروط: على البائع قالة نادم، بمعنى: أن يقبل البائع إرجاعَ السلعة بعد بيعها لحاجة المشتري إلى المال، أو اكتشاف أنه غير محتاج لها وندمه على الشراء، فَمِن حسن

الإجارة والرهن

المعاملة الشرعية أن يقبل التاجر السلعة من المشتري النادم، وله من الله تعالى في هذا الفعل الأجر والمثوبة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أقال مسلمًا ببيعته أقال الله عثرتَه يوم القيامة)) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان. الإجارة والرهن ثانيًا: الإجارة: اشتقاق الإجارة من الأجر وهو العوض، قال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الكهف: 77)، ومنه سمي الثواب أجرًا؛ لأن الله تعالى يعوّض العبد به على طاعته، أو يعطيه الصبر على مصيبته. مشروعية الإجارة: الأصل في جواز الإجارة الكتاب والسنة والإجماع: - أمّا الكتاب: فهو قول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6)، وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (القصص: 26، 27). وروى ابن ماجه في سننه عن عتبة بن الندر قال: كنّا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ: {طَس} (النمل: 1) حتى إذا بلغ قصة موسى قال: ((إنّ موسى -عليه السلام- آجرَ نفسَه ثماني حجج أو عشرًا على عِفّة فرجه، وطعام بطنه)) قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الكهف: 77)

هذا يدل على جواز أخذ الأجر على إقامته. وأمّا السنة: فثبت ((أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر استأجرَا رجلًا من بني الدَّيْل هاديًا خريتًا)) والخريت: الماهر بالهداية، هذا الحديث أخرجه البخاري. وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خَصمهم يوم القيامة: رجل أعطَى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يوفّه أجره)). والأخبار في هذا كثيرة. وأجمع أهل العلم في كلّ عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلّا ما يُحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنّه قال: لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر، يعني: أنه يعقد على منافع لم تخلق، وهذا غَلَط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار، وصار في الأمصار، والعبرة أيضًا دالة عليها، فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلمّا جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك، فإنه ليس لكل أحد دار يملكها، ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها، ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعًا. وكذلك أصحاب الصنايع يعملون بأجر، ولا يمكن عمل ذلك كل أحد، ولا يجد متطوعًا به، فلا بد من الإجارة لذلك، بل ذلك مما جعله الله طريقًا للرزق، حتى إنّ أكثر المكاسب بالصنائع، وما ذكره من الغرر لا يلتفت إليه، مع ما ذكرنا من الحاجة، فإن العقد على المنافع لا يمكن بعد وجودها؛ لأنها تتلف بمضي الساعات، فلا بد من العقد عليها قبل وجودها؛ كالسلم في الأعيان.

الإجارة نوع من البيع: والإجارة نوع من البيع؛ لأنها تمليكٌ من كل واحد منهما لصاحبه، فهي بيع المنافع، والمنافع بمنزلة الأعيان؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة وبعد الموت، وتضمن باليد والائتلاف، ويكون عوضها عَيْنًا ودَيْنًا، وإنما اختصت باسم كما اختص بعض البيوع باسم؛ كالصرف والسّلَم، إذا ثبت هذا فإنها تنعقد بلفظ الإجارة والقِراء؛ لأنهما موضوعان لها. وهل الإجارة تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: تنعقد به؛ لأنها بيع، فانعقدت بلفظه كالصرف. والثاني: لا تنعقد به؛ لأن فيها معنًى خاصًّا، فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى؛ ولأن الإجارة تضاف إلى العين التي يضاف إليها البيع إضافة واحدة، فاحتيج إلى لفظٍ يعرف ويفرّق بينهما؛ كالعقود المتباينة؛ ولأنه عقد يخالف البيعَ في الحكم والاسم، فأشبه النكاح، ولا تصح الإجارة إلّا من جائز التصرف؛ لأنه عقد تمليك في الحياة، فأشبه البيع، وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة بأجرة معلومة، فقد ملك المستأجر المنافع، وملكت عليه الأجر كاملةً في وقت العقد، إلّا أن يشترط أجلًا. الرهن: الرهن في اللغة: الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن، أي: راكد، ونعمة راهنة: أي: ثابتة دائمة، وقيل: هو من الحبس، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38)، والرهن في الشرع: المال الذي يجعل وثيقة بالدَّيْن؛ ليستوفى من ثمنه إن تعذّر استيفاؤه ممن هو عليه.

مشروعية الرهن: الرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع: - أمّا الكتاب: فقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283)، والرهان جمع رهن، والرهن جمع الجمع. قاله الفراء في (معاني القرآن). وقال الزجاج: يحتمل أن يكون جمع رهن. - وأمّا مشروعية الرهن بالسنة: فروت عائشة -رضي الله عنها-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى طعامًا من يهودي ورهنه درعه)) متفق عليه. أخرجه البخاري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد في (المسند). وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) رواه البخاري. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يغلق الرهن)) أخرجه ابن ماجه والإمام مالك والبيهقي. وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة. الرهن في الحضر: يجوز الرهن في الحضر كما يجوز في السفر، قال ابن المنذر: لا نعلم أن أحدًا يخالف في ذلك إلّا مجاهدًا، قال: ليس الرهن إلّا في السفر؛ لأن الله تعالى شَرط السفر في الرهن، بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283).

يقول ابن قدامة: ولنا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعه وكان بالمدينة؛ ولأنها وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر؛ كالضمان، فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب؛ لكون الكاتب يعدَم في السفر غالبًا، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب، وهو مذكور معه أيضًا. حكم الرهن: والرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه وثيقة بالدَّين، فلم يجب كالضمان والكفاية، وقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283) إرشاد لنا لا إيجاب علينا؛ بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (البقرة: 283)؛ ولأنه أُمِرَ به عند إعواذ الكتابة، يعني: الحاجة إلى الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذلك بدلها يكون غير واجب. ولا يخلو الرهن من أحوال: أحدها: أن يقع بعد الحق، فيصح بالإجماع؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به. الحال الثاني: أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدّين. ما الحكم إذا تعدّى المرتهن في الرهن: إذا تعدى المرتهن في الرهن أو فرّط في الحفظ في الرهن الذي عنده حتى يتلف، فإنه يضمن، وأما إن تلف من غير تعدٍّ منه ولا تفريط فلا ضمانَ عليه، وهو من مال الراهن. عن سعيد بن المسيب أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمُه، وعليه غرمه)). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 21 الربا: أنواعه، وضرره على المجتمع.

الدرس: 21 الربا: أنواعه، وضرره على المجتمع.

تعريف الربا، وبيان الأدوار التي مر بها تحريمه، ومشروعية التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (الربا: أنواعه، وضرره على المجتمع) تعريف الربا، وبيان الأدوار التي مر بها تحريمه، ومشروعية التحريم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولًا: تعريف الربا لغةً وشرعًا: الربا في اللغة الزيادة مطلقًا، يقال: ربا الشيء يربو، إذا زاد، ومنه قوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج: 5) أي: زادت، وفي الشرع: زيادة يأخذها المقرِض من المستقرِض مقابل الأجل. حكمة مشروعية تحريم الربا: إذا كان من غير المعقول في الإسلام وموقفه هكذا من مبدأ التعاون، أن يباح للغني أن يقبض يده عن معونة أخيه الفقير، أو عن المساهمة في إقامة المصالح العامة، فمن غير المعقول بوجه أبعد وأشد أن يُباح له شد الخناق على رقبة أخيه الفقير، أو دولته الفقيرة المحتاجة، فيفرض عليه أو عليها في مقابلة المعونة الواجبة دراهم معدودة، يردها إليه أخوه الفقير المحتاج، أو دولته الفقيرة المحتاجة، زيادة على رأس ماله الذي أقرضه إياهم؛ سدًّا للحاجة، أو إقامة للمصلحة. ومن هنا حرّم الإسلام -إبقاءً على هذه المبادئ الإنسانية، تحريمًا قاطعًا- أن يتخذ الغني حاجة أخيه الفقير، أو دولته المحتاجة، فرصة لاكتساب المال عن هذا الطريق، الذي لا خير فيه للمجتمع ولا للأفراد، والذي يجعل الغني في تربص دائم لحاجة المحتاجين، يستغلها في زيادة ماله دون عمل يحقق به نسبته إلى المجتمع، وجزأيته في بنائه، والذي ينزع من قلبه الشعور بالوحدة ومعاني الرحمة والعطف، التي هي من خصائص الإنسان الفاضل، قال تعالى:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278، 279) وهذا هو الأصلُ في تحريم الإسلام على أهله المعاملة المعروفة باسم الربا. ولقد جاء الإسلام وقلوب الناس فارغة من معاني الرحمة والتعاون، يأكل قويّهم ضعيفهم، ويستغل غنيهم فقيرَهم، ولا فضلَ للغني سوى أنه ذو مال، ولا ذنبَ للفقير سوى أن ظروف حياته لم تهيئ له مواد الغنى وسبلَ الكسب. وفي هذا الجو المظلم تفتق بشع الأغنياء عن هذه المعاملة، وتغاضوا ممن يباينونهم بقرض أو ثمن في مقابلة تأجيل القضاء زيادة عن رءوس أموالهم، واتخذوا ذلك سبيلًا لجمع الأموال وتكديسها من دماء المحتاجين، وبذلك نشأت الرأسمالية الطاغية، فمزّقت الإنسانية، وجعلت أفرادها أشبه بحيوان الغاب، الغني يطمع فيفترس الفقير، والفقير يحقد فيفترس الغني، ولكلٍّ سلاحه الذي يقتل به أخاه. جاء الإسلام والناس على هذا الوضع السيئ، فأفرغ جهده في القضاء على منابع الشر، وأخذ بمبادئه الحكيمة يزيل الحواجز التي قطعت ما بين الناس من صلات التراحم والتعاون والبر والإحسان، وأخذ يبني المجتمع بناءً واحدًا، متماسك اللبنات، متضامّ الوحدات، وكان أول ما اتخذه من ذلك من الناحية الإيجابية الحثُّ على التعاون والتراحم، وأخذ القادر بيد الضعيف، ووصل ما قطعوا من صلات، ثم كان تحذيره الشديد فيما يختص بالناحية السلبية؛ فحرّم الربا بعد أن حرّم الشح والبخلَ بحق الفقير والمسكين، ولإظهار ما بين الناحيتين من تفاوت قابل القرآن الكريم في كثير من آياته بينهما، ووضع أمام الأبصار صورةً مضيئةً،

هي صورة التراحم المطلوبة، وبجانبها صورة مظلمة، هي صورة الاستغلال الممقوتة؛ كي يمعن الناظرون للآثار الطيبة لصورة التراحم والآثار السيئة لصورة الاستغلال، فيكون لهم من هذا الوضع ما يردهم عن احترام صورة الاستغلال إلى احترام صورة التراحم، وبذلك تتحقق إنسانيتهم الفاضلة، ويسيرون في الحياة بخطوات متزنة في البناء والتشييد، فينعمون بالحياة، وتنعم بهم الحياة. ومن هنا لا نكاد نجد آية من آيات التحذير عن مبادئ الاستغلال إلّا وبجانبها آية أو آيات تُعلي من شأن البذل والمعونة والتراحم، وإن شئتَ فاقرأ قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261) إلى الآية: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280). واقرأ من: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 130) إلى الآية: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134). واقرأ من قول الله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم: 38، 39). اقرأ هذا كله بعين البصيرة، وتدبره بروح الإيمان الصادق، تعرف الهدف الذي لأجله حرّم القرآن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وسد أبوابه، وأحكم السد على أهله وأتباعه، وتعرف أنه هدف يتصل اتصالًا وثيقًا ببناءِ المجتمع بناءً متينًا، تتفاعل وَحداته بإحساس واحد واتجاه واحد وغاية واحدة، وليس غير هذا المجتمع يريد الله -سبحانه وتعالى-.

الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا: من المستحسن أن نذكر هنا الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا؛ حتى ندركَ سِر التشريع الإسلامي في معالجته للأمراض الاجتماعية. فمن المعلوم أن التشريع الإسلامي صار بسنة التدرج في تقرير الأحكام. ولقد مر تحريم الربا بأربعة أدوار، كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشيًا مع قاعدة التدرج: الدور الأول: نزل قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم: 39) وهذه الآية الكريمة نزلت في مكةَ، وهي -كما يظهر- ليس فيها ما يُشير إلى تحريم الربا، وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا، وأن الربا ليس له ثواب عند الله. الدور الثاني: نزل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 160، 161) وهذه الآية مدنية، وهي درس قصّه الله -سبحانه وتعالى- علينا من سيرة اليهود، الذين حرّم الله عليهم الربا فأكلوه، واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم بالتلويح لا بالتصريح؛ لأنه حكاية عن جرائم اليهود، وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين، وهذا نظير الدور الثاني في تحريم الخمر من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: 219) حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح. الدور الثالث: نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) هذه الآية مدنية، وفيها تحريم للربا صريح، لكنه

تحريم جزئي لا كلي؛ لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يستحق الربا الفاحش، وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذروة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى؛ حيث كان الدَّيْن فيه يتزايد حتى يصبح أضعافًا مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته، وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة؛ حيث كان التحريم جزئيًّا لا كليًّا في أوقات الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43). الدور الرابع: وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمةُ على أنه قد كُتِمَ فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 278 - 280). وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا، تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه؛ حيث حرّمت الخمر تحريمًا قاطعًا جازمًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90). وبهذا البيانِ يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية، بالسير بهم في طريق التدرج.

الربا المحرم في الشريعة الإسلامية

الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان: ربا النسيئة وربا الفضل. ربا النسيئة: هو الزيادة في الدَّيْن في مقابل الأجل؛ كأن يقول المدين للدائن: أخرني في السداد وأزدك كذا وكذا في الشهر أو في العام، أو يقول الدائن إذا حان الأجل: إمّا أن تدفع وإمّا أن تزيد، وأكثر ما كان يقع في الجاهلية من صور الربا الدَّيْن لأجل مشروط بالزيادة. قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: "إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول الذي عليه الدين: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفةً، فنهاهم الله -عز وجل- في إسلامهم عنه". وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية؛ حيث يأخذون نسبة معينة في المائة؛ كخمسة أو عشرة في المائة، ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد. أمَّا النوع الثاني من الربا: ربا الفضل: وهو مبادلة الجنس بجنسه مع الزيادة، متقابضين في المجلس، أو غير متقابضين، يعني: سواء كان البيع معجلًا أو مؤجلًا، ما دام فيه زيادة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فَمَن زاد أو استزاد فقد أَرْبَى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) رواه مسلم. والقاعدة الفقهية في هذا التعامل هي أنه إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة، والنَّساء إذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء.

وتوضيحًا لهذه القاعدة الفقهية نقول: إذا أردنا مبادلة عين بعين؛ كزيت بزيت، أو قمح بقمح، أو عنب بعنب، أو تمر بتمر، حرُمَت الزيادة مطلقًا، ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس؛ كقمح بشعير، أو زيت بتمر مثلًا، جاءت الزيادة فيه بشرط القبض، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض -أي: لا تزيدوا بعضها على بعض، بأن يعطي الرجل الجرام بجرامين مثلًا- ولا تبيعوا الورِق بالورِق -يعني: الفضة بالفضة- إلّا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) رواه البخاري ومسلم. والناجز معناه المعجَّل، فلا يصحّ أن يبيع الرجل سبيكةً من الذهب بسبيكة أخرى أكثر منها أو أقل وزنًا، معجلًا ولا مؤجلًا. والحديث يدل على اعتبار أمرين عند اتحاد الجنس في الأموال الربوية: أحدهما: تحريم التفاضل. الثاني: تحريم النساء. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: ((جاء بلال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتمر برميّ -نوع من التمر أصفر مدوّر، وهو أجود أنواعه- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبِعت منه صاعين بصاع؛ ليطعم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: أوه -وهي كلمة تقال عند التوجع- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردتَ أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتريه)) رواه البخاري ومسلم. والحكمة في تحريم هذا النوع من التعامل منع الغبن والشعور بالظلم، فيقول صاحب التمر الجيد مثلًا في نفسه: ظلمني المشتري؛ إذ أخذ مني الصاع

بصاعين، مع أن صاعي من التمر يساوي أكثر من صاعين، وربما يقول المشتري: إن صاع البائع أقلّ من الصاعين اللذين دفعتهما له ثمنًا لتمره، فلا يقع التراضي الذي هو ركن من أركان البيع، ويحلّ محله الخصام والمشاحنة، والإسلام -كما عرفنا- حريص كل الحرص على المحافظة التامة على الإخاء والصفاء بين أفراد الأمة الإسلامية. هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آل عمران: 130)؟ ذهب بعض ضعفاءِ الإيمانِ من مسلمي هذا العصر، إلى أنّ الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أمّا الربا القليل الذي لا تتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرّم، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأن الله -تبارك وتعالى- إنما حرّم الربا إذا كان فاحشًا؛ حيث قال -تبارك وتعالى-: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) فالنهي إنما جاء مشروطًا ومقيدًا بهذا القيد، وهو كونه مضاعفًا أضعافًا كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة، فلا وجهَ لتحريمه. وللجواب على ذلك يقول الصابوني في كتابه (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام): أولًا: إن قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ليس قيدًا ولا شرطًا، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية كما يتضح من سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلمًا صارخًا، وعدوانًا مبينًا؛ حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفًا أضعافًا كثيرةً، فلقد ورد في سبب نزول هذه الآية: كان

العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)) رواه الواحدي عن السدي. ثانيًا: إنّ المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره، فهذا القول يعتبر خروجًا عن الإجماع، كما لا يخلو عن جَهْل بأصول الشريعة الغرّاء، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرمه كليًّا؛ أخذًا بقاعدة سَدِّ الذرائع؛ لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة، فهل يقول مسلم عاقل: إن القليل من الخمر حلال؟! ثالثًا: نقول لهؤلاء الجهلة من أنصاف المتعلمين: أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرءون قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (البقرة: 278) وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276). هل في هذه الآيات ما يفيد الربا بالقليل أو الكثير، أم اللفظ مطلق؟ وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه)) صحيح أخرجه مسلم. فالربا محرم بجميع أنواعه من نصوص قطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء، وصدق الله حيث يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276).

الربا جريمة اجتماعية خطيرة

الربا جريمة اجتماعية خطيرة قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (البقرة: 275 - 281). يقول ابن كثير: لمّا ذكر تعالى الأبرار المؤدّين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل، وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلّا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا. وقال ابن عباس: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخلق" رواه ابن أبي حاتم.

روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: ((فأتينا على نَهر حسبتُ أنه كان يقول أحمرَ مثل الدم، وإذا في النهر رجل سايح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جُمِعَ عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السايح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده، فيفغر له فاه، فيلقمه حجرًا)) صحيح أخرج البخاري وغيره. وهؤلاء أكلة الربا، جوزوا بذلك؛ لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، ذلك بأنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعيته، بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: نظيره، فلما حرِّم هذا وأبيح هذا، وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحِلّ هذا وحرّم هذا، وقد رد الله على اعتراضهم هذا بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. ومن بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه، فله ما سلف؛ لقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (المائدة: 95) وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: ((وكلّ ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربًا أضع رب االعباس)) هذا الحديث له شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم. ومن عاد إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحُجة، ولهذا قال تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ثم يخبر الله تعالى أنّه يذهب الربا بالكلية من يدي صاحبه، أو يُحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.

أمّا الصدقات فإنّ الله يزيدها ويبارك فيها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن تصدق بعدل تمرةٍ مِن كَسْب طيب، ولا يقبل الله إلّا الطيبَ، فإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فَلوَّه، حتى يكون مثل الجبل)) صحيح أخرجه البخاري وأخرجه مسلم وأحمد. والله سبحانه لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، وهو المرابي؛ لأنه لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم، يأكل أموال الناس بالباطل. ثم قال تعالى مادحًا للمؤمنين بربهم، مخبرًا أنهم آمنون يوم القيامة من التبعات، وأنهم آمنون، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. ثم يأمر الله عباده أن يخافوه، وأن يتركوا ما لهم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار، فإن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، فإن تبتم أيها المرابون فلكم ما أعطيتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، ثم يأمر الله تعالى عباده بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، وبيّن لهم الخير لهم في أن يتركوا رأس المال بالكلية، ويضعوه عن المدين. ثم أمرهم أن يخافوا يومًا يرجعون فيه إلى الله قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. هذه الآيات الكريمة ترشد إلى أن الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة. ثانيًا: الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار، القليل من الربا والكثير

في الحرمة سواء، على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه، السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنّما هو تقوى الله -سبحانه وتعالى-. أضرار الربا: أولًا: ضرر الربا من الناحية النفسية: فإنه يولّد في الإنسان حب الأثرة والأنانية، فلا يعرف إلّا نفسه، ولا يهمه إلّا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روحُ التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حب الخير للأفراد والجماعات، وتحل محلها حب الذات، والأثرة، والأنانية، وتتلافى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان، فيغدو الإنسان المرابي وحشًا مفترسًا لا يهمه من الحياة إلّا جمع المال وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئبًا ضاريًا في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس، ويحل محلها الجشع والطمع. ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: أمّا ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: فإنّه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبّة والإخاء، ومن المقطوع به أنّ الشخص الذي لا تَسكن قلبه الشفقة والرحمةُ، ولا يعرف معنًى للأخوة الإنسانية، سوف يعدم كلَّ احترام أو عطف من أبناء مجتمعه، وتكون النظرة إليه نظرةَ ازدراء واحتقارٍ، وكفى المرابي مقتًا وهوانًا أنه عدوّ لمجتمعه ولأبناء وطنه،

بل إنه عدو للإنسانية؛ لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم. ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: أمّا ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: فهو ظاهر كل الظهور؛ لأنه يقسّم الناس إلى طبقتين: - طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين. - وطبقة معدَمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان. وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن الربا أعظم عامل من عوامل تضخّم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات؛ حيث كثرت المِحَن والفتن، وازدادت الثورات الداخلية، ولا ننسى ما نعيشه في هذه الأيام من أزمة مالية أحاطت بالعالم كله، سببها التعامل بالربا، ولقد سبق في الناس قول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}. وبهذا نكون قد شرحنا دروس التفسير الموضوعي في هذه المادة، وأدعو الله -سبحانه وتعالى- أن ينتفع الطلاب بها، وأن يسيروا على ضوئها في قضايا التفسير الموضوعي. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1